الدكتور جمال الدين الخضّور
عودة التاريخ
- الانتربولوجية المعرفية العربية
/ دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية- اللغوية ووحدتها/
الجزء الأول
حتى الألف الثاني قبل الميلاد
الدكتور جمال الدين الخضور
عودة التاريخ
- الانتربولوجية المعرفية العربية
/ دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية- اللغوية ووحدتها/
0
الجزء الأول
حتى الألف الثاني قبل الميلاد
دراسة
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1997
الفصل الأول
مقدمة في الأنتربولوجية
المعرفية العربية التاريخية:
ليست الحضارة العربية قفزات في فراغ متقطع وليس علم الأناسة العربي، لصاقات لتطورٍ عشوائي يرتطم بجدران حضارات محيطية أحياناً، وبنفسه وتركيبته أحياناً أخرى، لينطوي على أحاديةٍ في الرؤية أو النمو... إنَّ الأناسة العربية " الأنتربولوجية" المعرفية، والحضارة العربية، كلُّ متكامل متواشج متصاعد، حلزوني متواصل، يستند على عمق الأرض والجغرافية، ويصعد بهامته إلى السماء. لقد كان إنساننا في هذه المنطقة ثمرة التعاضد بين جهوده التطورية وتفجير الطبيعة عن قدرة خلاّقة وقاسية، فصبَّ الاثنان ماءهما في فسحة المكان التي فتحت صدرها لقلق الانسان وهو يلتقط السنين تجترّ بعضها فَنَحَتَها على المكان الخالد، في قلب الكهوف وعلى ضفاف الأنهار. وعندما انتقل تحدي الزمن إلى عتبات الحضارات الجليلة، بدأ الإنسان ينقل قلقة ذاك، إلى جدران الزقوّرات، والأهرام وأعمدة المعابد في بعلبك وتدمر والكرنك.. كل ذلك في وحدة أناسية متكاملة مترابطة، لاتعروها سمة لفصام أو لانفصال أو لتصدع.
ولم يكن ذلك القلق معزولاً عن السمو الروحي، بل شكَّلا وجهين متداخلين لسيرورة الانسان الراقي، عندما حطَّ في مقدمة الإنسانية النمو التالي للديانة الأتونية التوحيدية في ارتقاءٍ صعب لأخناتون، كان من نتيجته تلك الرؤية الشفافة لما في الكون كله..(1/1)
من ثم تصاعدت تلك الرؤية في المسيحية التي لم تكن في قوامها الأولى، وقبل التغريب بها إلاّ ارتقاء للأناسة المعرفية العربية كما قال ستاندال في " الحوليّات الإيطالية ": إن دين المسيح هو دين الفلاسفة العرب معاصريه" (1).
وبالضرورة الأكيدة، كان لابد للمشرق العربي أن يدافع عن ذلك البناء السباق والعظيم، ولامتلاكه للمعرفة الأولى والقدرة الخارقة أن يسمو بتلك الحضارات عبر مظاهر أكثر شفافية ومتانة فكان الاسلام المظهر الأناسي المعرفي التالي للعروبة، والذي، شكلَّ مع اللغة العربية تكويناً بنائياً أناسياً احتوى في صلب ارتقائه الأطر العامة لما سبقه من تكوينات ميثولوجية وثيولوجية ومظاهر توحيدية بحيثيّاتٍ أرقى.
لذلك لم تكن الرؤى الاستشراقية التي نظر إليها كتكوين مقدّس إلاَّ منظومة أيدلوجية هدفت بالضرورة إلى مسخ الشخصية العربية في وجهٍ صحراويٍّ جاف، خرج للتاريخ منذ ألف ونيفٍ من السنين فقط، وتشوَّهت سلسلة تاريخية ودفعته بعبثية مرعبة هادفة إلى خلخلة وحدة البنية الثقافية المعرفية العربية وتشويه جذروها التاريخية العميقة في تقسيم للشعب العربي لايستند إلى تأسيس علمي، وغير قابل للخضوع للبحث العلمي أصلاً.
ولقد بدأ ذلك بالتعبير عن منظومته الأيديولوجية في فكر شلوتسر عندما صاغ صفة " السامي" في مؤلفه المعروف والموسوم بـ" فهرس الأدب الشرقي والتوراتي" عام 1781. فقسم العرب إلى ساميين وحاميين، ووضع خطوطاً خاصة لدخول اليافثيين " الآريين" بطريقة أو أخرى إلى نسيج المنطقة ليخلخل بنيتها الاناسية الواحدة بهدف التأسيس اللاحق والسافر لعقد الانتماءات الثقافية " بل والعرقية" لشعوب " المنطقة العربية، وصولاً للتبرير الايدلوجي التالي في المشاريع السايكس بيكويه وزرع الكيان الصهيوني لاحقاً.(1/2)
وهكذا استقبلنا وتقبلنا تاريخنا كما كتبه الآخرون، بدون أدنى شك بما قدمه لنا المستشرقون، حتى بعد المكتشفات الأركيولوجية التي تكثَّفت في القرن التاسع عشر وبشكل خاص في نهاية القرن العشرين، والتي لم تخضع حتى الآن لدراسة أكاديمية مقارنة تعيد إظهار الحقيقة كما هي، وتزيل ماتراكم عليها من غبار الاستشراق والزمن، وتعتيم الايديولوجية المركزية الأوربية، والتي قدمت لنا تاريخينا كما تشتهي هي، وليس كما هو في واقع الحال.
فقدَّم لنا أرنست رينان بأن الأشوريين كانوا بالتأكيد ساميين، أما الكلدانيون فمن المستحيل معرفة من هم ومن أين أتوا!!!! أما المصريون فيقدمهم أحباشاً أو أنصاف ساميين أو مهجّنين عن الحاميين أو الأفارقة البيض، ويذهب بعضهم إلى اعتبار أن القبائل السامية/ بعد الاعتراف البدهي من وجهة نظرهم بصحة التسمية/ قد هاجرت إلى آسيا الغربية" ويقصدون الشرق العربي وكأن هذه المنطقة كانت خالية من الشعب العربي!!!!!(1/3)
" وإنَّها لميزة يمتاز بها جميع هؤلاء الخبراء الذين لايتفقون فيما بينهم، على شيء، إلا على أمر واحد- وياللغرابة- إنه هو التعبير " سامي" الذي يتفقوا أبداً على محتواه. إننا باختصار في جهل مطبق، جهل علمي، متفق عليه. وأن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمَّنا بدلاً عن الساميين، الأبطال المختلقين من أصلٍ خيالي،... لو أننا تكلّمنا عن العرب، ذلكم الشعب الحقيقي والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً، وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين.. إن لغة واحدة مكتوبة ومتخاطب بها قد انتهت إلى فرض نفسها وتغطية هذا المجموع الكبير: إنها اللغة الآرامية " والاغريقية تابعتها" والملحقة بها.. ثم تطورت الآرامية منذئذٍ طبيعياً، ودون معارضة، إلى اللغة العربية التي وجدت نفسها منذ ذلك الحين وارثة الماضي المصري والكنعاني... والبابلي. هاهوذا المعيار الدقيق للثقافة العربية أمُّ الثقافة الهيلينستية والموحية بها والتي شكَّلت عقلها وقوانينها(2).
فما هي المعطيات الأناسية التي من الواجب مقاربتها بمنطقية وحيادية، تأسيساً علمياً دقيقاً لكشف التزييف الأيديولوجي الذي يركب صهوته الاستشراق، الذي كان من أهم مهماته زرع البنية التركيبية لثقافتنا كبديهة تقتضي بالضرورة تناول الأيديولوجيا اليهودية- الصهيونية بنصوصها التلفيقية كإحدى العلامات الملازمة لتاريخنا العربي؟(1/4)
لذلك سنبدأ بحثنا في التاريخ الأناسي " الانتروبولوجي" للوطن العربي منذ عصر الباليوليث الأدنى وحتى فجر التاريخ مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. ثم سننطلق لبحث الوحدة اللغوية للبناء الأناسي العربي عبر قراءة مقارنة تأسيسية للهجات اللغة العربية التي كانت سائدة على كامل مساحة الوطن العربي. نعرِّجُ بعد ذلك على المفاصل المفقودة" أيديولوجياً" في التأصل التاريخي والأناسي للمظاهر الحضارية للوحدة المعرفية التاريخية العربية.
وبالضرورة لابد أن تدرس البنية الميثولوجية الواحدة في تطورها التاريخي منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الرسالة الإسلامية في تسلسل تاريخي ثيولوجي- ثقافي علمي.قاصدين بذلك كشف التأسيس الأناسي لوحدتنا التاريخية عبر وحدة الخيال والذاكرة الجمعيين العربية، ووحدة التاريخ الجغرافي، والجغرافية التاريخية، وبالتالي وحدة اللغة، والسيكولوجيا الجمعية، وصولاً للتأسيس التلقائي التالي للهوية القومية العربية الناجزة تاريخياً، بما يقدمه ذلك من ارتكاز متين لانجاز المشروع النهضوي العربي عبر طموحه للوصول إلى الدولة الوطنية العربية الواحدة على كامل التراب العربي.
لذلك قمنا بتقسيم التاريخ العربي إلى مجموعة مترابطة متواشجة من المراحل، يظهر فيها التاريخ اشتراطياً لأن عملية الفصل بين مرحلة وأخرى مستحيلة خصوصاً عندما نستند في قراءتنا على التأسيس المعرفي بمعناه الشمولي بما يملك من علاقة وطيدة بمفهوم التأسيس الأناسي الثقافي.(1/5)
فاللغة لايمكن أن تخلق للتو، في لحظة معينة، إنها منظومة سيرورية اجتماعية تاريخية ... كما أن البنى الحضارية متداخلة، لدرجة لايمكن أن نفصل أو نميز في البناء الميتولوجي أو الحضاري أو غيره للبابليين عن الآشوريين أو عن الكنعانيين أو عن الليبيين أو عن اليمانيين أو الحبشيين أو المصريين... الخ كما أننا لانستطيع إيجاد تحديد معين لمفهوم المخيال الجمعي في مراحل السلالات الأولى ونفصله عما سبقه أو تلاه.مثله مثل الحالة الفينيقية/ الكنعانية/ التي لايمكن دراسة منظومة الذاكرة الجمعية والميثولوجية فيها بمعزل عن البنية الأناسية العامة المعرفية والثقافية " لشقيقاتها العروبيات في زمن معين وواقع تاريخي وجغرافي معزول، فكيف بنا باللغة وبعلاقتها بالبنية الأناسية المعرفية العامة!!؟(1/6)
وقبل أن يستعجل القارئ بحكمه على العمل، لابدَّ من المتابعة، لابهذا الجزء فقط، بل بما سيتلوه من دراسات متتابعة ومكمِّلة تشكل قراءة معرفية مقارنة حيادية لتاريخنا العربي. فالمتابع لهذا التاريخ يدرك عناصر التواصل والتداخل والتواشج المكونة لبنية واحدة غير منقطعة لابالمفهوم" أو بالقياس" الشاقولي، ولا بالقياس الأفقي. وأعني بالشاقولي البنية الهرمية الحلزونية الشاملة للأناسة العربية معرفياً وحضارياً وثقافياً، قياساً تناسبياً مع الحلزون الزمني بمفهوميه الفيزيائي، والاجتماعي. وأما الأفقي فلقد قصدت به الرافعة الجغرافية- التاريخية لامتداد، وسعة رقعة الانتشار العروبي- العربي. وهذا التكامل بين الأبعاد يجعل من المستحيل بمكان لأي باحث أو قارئٍ، ولما سيكتشفه من وحدة مترابطة العناصر، أن يجزئ هذه البنية إلاَّ عبر المنهج الاشتراطي. أي الذي يستطيع أن يحدّد من خلاله الفواصل المحددة بين نشوء المظهر الأكدي والبابلي والآشوري، وبين كلٍ منهم والأوغاريتي أو العبلاوي " الايبلاوي" أو المصري أو الليبي أو اليماني أو القرطاجوي أو غيرها، إلاّ عبر الاشتراط المحدد لتأريخية معينة. وهنا لانلجأ عادة لقراءة التاريخ الذي يرسم بخطوط هندسية " أو حسابية" معينة بحدث ما، بل نستخدم القراءة التاريخية المعرفية التي تعني المقاربة الداخلية للبنائية المجتمعية" بارتكازاتها الأناسية " الانتربولوجية" المعرفية، والتي يتعذّر من خلالها تقسيم الحلزون التطوري الصاعد للبناء العروبي- العربي إلى مراحل متمفصلة بتأريخية اشتراطية. لكن، ونظراً لعوامل هامة سنذكرها لاحقاً، حافظت وبصيغة اشتراطية على بعض التسميات الكلاسكية، ريثما يقتنع معنا القارئ بأهمية منهجها وحياديته في المقاربة.
ومن المهم التذكير بأهم العوامل التي تدفع تلك القراءة للوصول إلى الحقائق التاريخية، بحيث تبدو عناصر الفصل في جوانب منها، محَّددة بمعنى الافتراض لاأكثر:(1/7)
1- التاريخية المقارنة، والتي تعني ضرورة اتباع منهج المقارنة بين بنى تاريخية متوازية أو متماثلة أو متشابهة أو متطابقة، للدلالة على الأوليِّ، والتالي، وعلى المصدر الخلاق للمعرفة كنتاج أولي، وعلى التبني التمثلي، أو المنمذج كنتاج الأولي، وهذا لايمكن أن يتم إن لم نربطه بالبناء المعرفي، بسبب ضرورة وضعه في سياقه التاريخي الطبيعي، بما يعنيه ذلك من رسم الخارطة المعرفية لاحداثيات تطور الفكر أو اللغة أو المظهر الحضاري.. ولا أقصد بالتاريخية المقارنة، المعنى الحرفي، بل، المعنى الدلالي، لعلاقته المباشرة بعلم الأناسة المعرفي " الأنتربولوجيا المعرفية" كحالة من المنظومة، التي نتناول فيها وعبر علم الاناسة الثقافي العروبي- العربي دراسة التطور التاريخي المعرفي للغة العربية البدئية " الأولية" ومن ثم لآلية تطور لهجاتها وعلاقة ذلك بالبنية الثقافية العامة، وهذا ما يحمل في جوانبه مجالين آخرين، هما الاثنولوجيا التاريخية المعرفية للشعب العربي، والتي نعني بها الدراسة التحليلية المقارنة للكم والنوع الاثنوغرافي بهدف الوصول إلى التصورات النظرية والتطبيقية والتعميمات المختلفة بما يخص النظم الاجتماعية العروبية من حيث وصولها وتطورها النوعي، والمجال الآخر هو الاثنوغرافيا المعرفية والتي تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والبنى الميتولوجية " بمظاهر انتشارها" والعادات والقيم والتقاليد والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية وعلاقتها بالتكوين الثقافي المعرفي العروبي- العربي.(1/8)
وانطلاقاً من تعريف مارغريت ميد M.Mead 1890-1979" للانتروبولوجيا" نحن نصف الخصائص الانسانية، البيولوجية، والثقافية للنوع البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن ونحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية، كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة. كما نهتم بوصف وتحليل النظم الاجتماعية والتكنولوجيا، ونعنى أيضاً ببحث الادراك العقلي للانسان، وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته. وبصفة عامة، نحن نسعى لربط وتفسير نتائج الدراسات في إطار نظريات التطور أو مفهوم الوحدة النفسية.." (3) يمكننا أن نؤسس على ذلك تصوّرنا المعرفي للخصائص التاريخية" القومية" / العروبية- كمرحلة أولى- والعربية، كمرحلة ثانية/ والمرتبطة بالإحداثيات المعرفية " الذاكرة الجمعية والمخيال الاجتماعي، والسيكيولوجيا الجمعية، والادراك، والاختزان، والاستقبال والمعالجة والتشفير.).الخاصة واللغة، وتطور تلك الخصائص عبر المراحل التاريخية ببعديها التأريخي والاجتماعي، وفي الانتشار الجغرافي البيئي" من ثم تحليل تلك السمات بعلاقاتها المؤسسة، كما قلنا، بأنساق لها احداثيات الوقائع المعرفية الاجتماعية. وهذا يرتبط بدوره بمفهوم المنظومة الاجتماعية العروبية- العربية، وكيفية الانطلاق لتحديد التالي من انتقال الفكر من حالة التراكم الموضوعي- الوصفي- إلى التجريد فالفلسفة، وهذا أعطى منظومة معتقدية ميثولوجية متطورة ذات سمات خاصة ومميزة ترتبط بالبناء المعرفي الأناسي الذي نحلله ونفككه من خلال الهرمية البنائية الخاصة به، وعلاقتها باللغة..(1/9)
وهذا لايعني أن علم الاناسة " الانتروبولوجيا" وكما عرفه الدكتور شاكر سليم في قاموس الانتروبولوجيا " إن الانتروبولوجيا هي علم دراسة الانسان طبيعياً، واجتماعياً وحضارياً" (4) يفسر الاستناد الذي اتبعناه في دراستنا، لأن هذه القراءة تعميمية، ونحن نحدد قراءتنا بالتخصصية، بمفهوم تطور الأناسة المعرفية العربية، لنبتعد، عن مفهوم التطور العرقي، البعيد تماماً عن الابعاد الانسانية لقراءة تطور الجماعات البشرية بما حملت أثناء سيرورتها، من تأثر وتأثير وتداخل وتماذج وتفاعل ومعالجة مع جماعات قريبة وبعيدة خصوصاً ما يعنيه ذلك من بنية تشريحية ومورفولوجية لاتمتُّ للبحث الدقيق الموضوعي بصلة أساسية إلا بما يخدم البناء المعرفي العام في إحداثياته الزمانية.
لذلك، نؤكد أن القراءة التاريخية المعرفية في محور الأناسة المعرفية يعني دراسة الظاهرة الثقافية بآلية تطورها الانساني بخصائصها القومية. وهذا يتعارض مع الاتجاه البنائي الوظيفي الذي يغفل الجانب الديناميكي التطوري. في حين ندرس معرفياً منظومة ادراك الجماعة البشرية وأسلوبه، للأشياء والمبادئ وما يكمن وراء هذا التفكير من منظومات معرفية متداخلة تخلق هوية الجماعة التي تعرف من خلالها وتتعامل مع العالم المحيط بواسطة منهجها الخاص. لذلك كانت رؤيتنا للمفهوم التطوري من زمن لآخر" اجتماعياً " وما يفرضه ذلك من قراءة معرفية خاصة لعلاقة اللغة بالثقافة. وما تعنيه الأولى من منظومة مفتوحة، لأنها تعتمد على آليات استقبال الواقع في المنظومة الفكرية، وعلاقة هذه المنظومة باللغة ذاتها.(1/10)
لقد أجرى ليفي ستروس دراسات على أساس الافتراض القائل بأن لدى العقل الانساني طريقة تسمح له بتصنيف الأشياء في ألفاظ أو معانٍ متقابلة، الأمر الذي جعل الانسان يميز بين نفسه وغيره، أو بين الحيوان والذات الانسانية، وبين الطبيعة والثقافة. هذه القدرة على التمييز تمثل في نظر ليفي ستروس جوهر الاختلاف بين الانسان والحيوان، كما أنها سهلت قيام الإنسان بالتفاهم والتخاطب عن طريق استخدام مجموعة من التجريدات والرموز، التي ساهمت في بلورة تشكيل نمط الثقافة السائدة وتمييزها عن غيرها من الثقافات الانسانية. وأياً كان طابع أو طبيعة الثقافة، فإن اللغة تمثل العمود الفقري فيها. فالمجتمع- وبالتالي الثقافة- على حد تعبير رومان ياكوبسون مؤلف كتاب علم اللغة- ما هو إلاَّ " شبكة محكمة جداً من التفاهم الجزئي أو الكلي بين أعضاء الجماعات" واللغة بطبيعة الحال تمثل الأداة الأساسية بيد الانسان لتحقيق أشكال الاتصال والاعلام والتفاهم كافة. ولقد حدد ليفي ستروس ثلاثة أنواع من أنظمة الاتصال بين الأفراد والجماعات وهي: تواصل الوسائل " اللغة" وتواصل المنافع " الاقتصاد" والتواصل الجنسي" الزواج" (5) لكن تلك الدراسات وما بني عليها من مدارس أخرى للقراءات الأنترولوجية، لم تعنِ الجوانب الأخرى المتعددة التي تحملها المنظومة الثقافية في سيرورتها. وإن كان قد أشار إلى ثلاثة عناصر هامة" اللغة، الاقتصاد، القرابة" رغم ارتباطها أيضاً فيما بينها، فاللغة وإن كانت ذات علاقة هامة، بالميتولوجيا، والمعتقدات، والبناء الديني مثلاً، وتحمل في داخل تكوينها الكثيرَ المعبِّرَ عن ذلك، إلاَّ أن لهذه العناصر الأخيرة بنى تبدو علاقة اللغة فيها محدودة بشكل أو بآخر.(1/11)
وللمخيال الاجتماعي أيضاً كمنظومة حجمية جماعية لتصورات الجماعات البشرية عن سيرورية الاحداث وتخيلها وتحميلها الجمالي، خصائص معرفية رغم ارتباطها الوثيق بآلية التواصل اللغوي، إلا أنها تحمل جوانب تخيلية خاصة، تتحدَّد فيها علاقة اللغة ومثل ذلك أيضاً الذاكرة الجمعية في آلية الاختزان والمعالجة والتشفير والاستحضار والاكتساب والتأصيل والتحديث. وأيضاً تبدو علاقة السيكيولوجيا الجمعية بآليات الحراك الجماعي، تجاه الظواهر الاجتماعية والبيئية والطبيعية والقلق والخوف والولادة والموت والحرب.. ذات ملامح خاصة أبعد من قدرة اللغة على تحميلها. لذلك لاتحمل مقاربتنا في هذا البحث جوانب طاغية معرفياً وأخرى مقهورة بمقدار ما تحمل من تداخل هذه المكونات التي تحدثنا عنها أعلاه جوانب الترابط والتداخل في المنظومة الأناسية المعرفية العربية على مدى تطورها التاريخي. وإن كنا قد خصصنا فصلاً موسعاً وهاماً في هذا الكتاب لدراسة البنية اللغوية الأناسية المعرفية العربية وذلك لما تحمله هذه البنية من تقاطعات هامة ورئيسية بين كل العناصر المكونة للمنظومة الانتروبولوجية التطورية( التاريخ الأناسي، الذاكرة الجمعية، المخيال الاجتماعي، السيكيولوجيا الجمعية، الميتولوجيا والمعتقدات، البنية الاقتصادية والنمطية، وتطور وسائل الانتاج الجماعي والفردي..) حملت آلية التعبير الخاصة بها عبر أنساق لغوية ذات دلالات هامة.
وانطلاقاً من تلك المقاربة حددنا المراحل التاريخية المعرفية " اشتراطياً" لتطور اللغة العربية:
1- اللغة العروبية البدئية، وهي شفاهية، تركت بعض رموزها وعناصرها في المراحل الأخيرة من أزمنة ما قبل التاريخ. وهي الأمُّ للهجات الكتابية العروبية التي ظهرت لاحقاً.(1/12)
2- اللهجات العروبية، وهي كتابية، ويمكن تحديدها تأريخياً في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد مع ظهور المسمارية والهيروغليفية، وهي لهجات فرعية بقيت متمحورة حول لغةٍ أمٍّ- أساس وتمتد حتى النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.
3- اللغة العربية ويبدأ تاريخها مع ظهور الأبجدية العربية الفينيقية" أبجد، هوز، حطي، كلمن سعفص، قرشت" والسنياوية " نسبة إلى سيناء" والمسند.
4- العربية المعاصرة: والتي تمتد بتاريخها منذ الرسالة المحمدية العظيمة وحتى الآن.
أما ما يخض العروبيّ، والعربيَّ، فلنا في ذلك وجهة نظر محددة، نتمنى من القارئ أن يعيرنا شيئاً من صبره لمواصلة الحوار:
فالعروبة: اسم يُرادُ به خصائص الجنس العربي ومزاياه " المعجم الوسيط" وهذا يعني منظومة البناء المعرفي الأناسي التي تحمل في مكوناتها جملة المواصفات المتمحورة حول أساس لغوي واحد وبنية ميتولوجية ومعتقدية واحدة، وجغرافية تاريخية واحدة، وتاريخ جغرافي واحد، وسيكيولوجيا جمعية واحدة، وتأسيس حضاري واحد، وتمحور تقني واحد، ومرتكزات منظومة بدورها عقلية واحدة.. تتعدد مظاهر حركيتها وتتنوع، لكنها تبقى متمحورة حول بنية مركزية واحدة متطورة بدورها تماماً كما تتعدد مظاهر الخيال الاجتماعي الواحد أو أشكال الذاكرة الجمعية الواحدة " وسنأتي على كل واحدة من تلك، بالتفصيل في حينه".ومنها" العروبي"
أما" العربي" : فهو من يحمل سمات المبادئ والمعاهد وجملة الأنساق الناظمة للخصائص المميزة للجنس العربي. أي يختلف عن " العروبي" بتوفر العناصر الناظمة للخصائص، التي تكون متوفرة في التاريخ القبلي ولكنها لم تصل إلى درجة التعقيد للمنظومة التي تصوغ السيرورة التالية لتطوّر عناصرها.(1/13)
فمثلاً كان هناك في المرحلة اللغوية الثانية مجموعة لهجات" عروبية" تتمتع بنفس الخصائص والمواصفات وتتقاطع فيما بينها بمعظم مفرداتها، لكنها لم تكن قد انتقلت بعد إلى مرحلة التعقيد في أبجديات متطورة. فاللهجات تلك كانت تتمحور حول خصائص واسمة للغة العروبية، أينما كان ذلك التوضع الجغرافي لتلك اللهجات. فالخصائص التي تتمتع بها اللهجة الليبية " الجبالية" والحبشية، والمسندية والأكدية هي واحدة لكنها لم تحمل اشتراط التعقيد في أبجدية ناظمة لحركيتها. وهذا مافرضه التطور التاريخي التالي. لكن ذلك بقي في كل مراحل تطوره( كما سيمر معنا بالتفصيل وبالأمثلة التطبيقية في الفصول الموافقة) يحمل الصفات التي أصبحت واسمة للغة العربية فيما بعد. من هنا كان التعريف المعرفي، بأنه فعل سيروري. أي لايمكن أن نسمي شيئاً قبل وجوده باحداثيات ومواصفات معينة. فهل كان من الواجب على العرب أن يطلقوا على أنفسهم هذه التسمية منذ عشرات السنين ثم يصوغون تطورهم بما يتناسب مع هذه التسمية. والتاريخ المعرفي لايعنى بالواقع البعدي إلاَّ عبر قراءته السيرورية.(1/14)
أيضاً يمكن مناقشة البنية التطورية الشاقولية في الحلزون الاجتماعي، بنفس المنهج. فالمسمارية والهيروغليفية سُبقت بنظام كلامي تطوَّر عبر آلاف السنين، ولم تخترع الجماعة البشرية العروبية تلك الكتابات قبل أن تعرف اللغة الشفاهية. فأتت لتحدد مواصفات معينة تواصلية للغةٍ ماسابقةٍ عليها. لكن اختراع الأبجدية الذي أتى أيضاً على نفس الأرضية الناظمة، حدَّد المسار التالي وبشكل مبادئ ومعاهد وقواعد ونظم، وأعطى تلك الميزات تسمياتها. وعندما تحدثنا عن الأبجدية باعتبارها الفاصل بين العروبية، فلأن دراستنا المقارنة للأبجديات الثلاث خرجت بنتيجة مفادها ( أن اللغة المحورية لتلك اللهجات هي واحدة/ كما سيلاحظ القارئ في الفصل المخصص لذلك/). وهو مارُسِّخ أكثر مع ظهور أبجدية اللغة العربية المعاصرة التي حملها القرآن الكريم إلى أقاليم الانتشار العروبي السابق والعربي اللاحق. وهذا يفسِّره عدم انتشار اللغة العربية المعاصرة ( التي كانت لغة الدولة الاسلامية في كيانها السياسي من الصين شرقاً وحتى جبال الألب غرباً) خارج الانتشار الجغرافي التاريخي للجماعات البشرية العروبية في رقعة الوطن العربي بامتداده المعاصر.(1/15)
" أو بالحري أن اللغة العربية قد أعطت، دون انقطاع منذ أصولها النيوليتيكية والرافدية حتى يومنا هذا وفي جميع أشكالها وصورها، دون استثناء.. أعطت تديناً صاغ منه مجتمعنا، جميع التأملات والفلسفات، والجماليات، والعلوم الخفية( الخاصة) أو العامة. فلقد كان كاهن بعل يتكلم العربية، وبها كذلك يتعبّد التقيُّ المؤمن بـ" إيزيس" أو موسى المصري، وبالعربية يتكلم من ثم عيسى المسيح عندما يتحادث مع قيافا أو مع شعب فلسطين،ولعلها بديهة أن نسجل هنا أن محمداً قد بشَّر بالعربية، وبها نشر رسالته. وأن الخط المستقيم لثقافتنا لم يكن منحرفاً يوماً ما أدنى انحراف. وإنها في الحقيقة، لعبة أطفال بالنسبة لعالم لغة، أن يجد في أصول اللهجات المصرية والكنعانية والأناضولية أو الآشورية البابلية العناصر الأساسية للغة العربية، فلقد نقلت الكلمة أحياناً بكليتها خلال العصور بحيث تلخصها في كلمة مقصورة مدهشة. فإذا ما أردتم أمثلة قدمنا بعضها فيما يلي/ سنعار في النصوص السومرية والآرامية والرافدية نسميها في العربية المعاصرة شنعار. والإله" شمش" يطابق في العربية الحديثة شمس. و" بعل" يعني بالعربية " المعلم والسيد"، ورب " وهي كلمة من مابين النهرين" تعني " أب " ورب البيت" هو سيد المنزل"، ويُسمى إله الصاعقة البابلي" براك" وعربية القرن العشرين تسميه " برقا" الإله تموز أعطى اسمه لشهر تموز العربي. الإله السوري الفلسطيني للجحيم يسمى" موت" والتعبير نفسه في العربية يعني الموت. العيد الطقسي في لغة ما بين النهرين" هاج" وهي" الحج" بالعربية، الفريضة المعروفة. أما سبت، فمرادف مباشر لكلمة " سباتو " البابلية، وهي تحدد عيد القمر عندما يصير بدراً (6). وهناك آلاف الأمثلة " سترد في حينها".(1/16)
والرأي السابق ليس لباحث عربي، إنه لصاحب مدينة إيزيس- التاريخ الحقيقي للعرب- /بييروسي، والذي يتابع قائلاً:" وإذا كنِّا عازمين على ألا نستعير شيئاً من أحلامنا، فيجب علينا عندئذٍ أن نعرّف العروبة كثقافة الشرق الوحيدة" (7) والتي امتدت عبر مساحة جغرافية ذات تاريخية خاصة ميزتها عبر آلاف السنين" وكانت شعوبها، المصرية والكنعانية والأناضولية والسورية والبابلية تنتمي للأسرة العربية نفسها"(8) فهذه الأرض الشرقية قد عاشت من خلال إيقاعٍ وحيد النغمة لخمس امبراطوريات: مصرية وبابلية وبيزنطية وفارسية واسلامية... بحيث أنه منذ حكم أول فرعون في الألف الخامس قبل الميلاد وحتى سقوط آخر خلافة، مروراً بالاسكندر.. كان الأمر استمراراً لاانقطاع فيه قد تركّز في الشرق، استمراراً للقوى، استمراراً للفكر، استمراراً للاقتصاد(9)" واننا عندما نؤكد من خلال نظرة شاملة، أن الشرق يتعين من خلال ثقافة عربية في مساحة عربية فإننا لانخترع شيئاً، إننا لانفعل شيئاً جديداً سوى جمع وإحكام العناصر الجغرافية والثقافية الموطِّدة الواحد للأخر"(10).(1/17)
ومن خلال الكلمات القليلة السابقة نكتشف مباشرةً العلاقة الحية بين الميثولوجيا والمعتقدات، والدين والمثيولوجيا، فاللغة ليست أدوات تواصل، وتفكير فقط، إنها الشكل المتحرك من الفكر في " الفضاء" الاجتماعي. إنها النموذج الأرقى" الحركي" لمنظومة الفكر. وهذا ما نجد نموذجه في كل أركان" الدولة العروبية في الشرق. تلك الدولة التي ما عرفت صيغة الدولة بالمفهوم السياسي قبل الرسالة الاسلامية، ولكنها كانت قائمة على الأرض، في الواقع وإن عرفت بعض التكوينات السياسية الضخمة التي شملت مناطق واسعة من الوطن العربي وخصوصاً بين وادي النيل وبلاد الرافدين شاملة البلاد السورية ما بينهما،" لأننا نلاحظ دون أن ندخل في التفاصيل أو نضيع في ضباب سمير أميس الأسطوري أو فينوس، إلى أي حدٍّ كان تاريخا مصر وما بين النهرين متطابقين، وإلى أي درجة تكون طيبة وبابل قطبي عالم ملتحم(11)" واحد مُؤسَّس في عمق التاريخ ويشكِّل وحدة متوازنة واحدة. فلقد أعادت الرسالة الاسلامية الشرق العربي إلى نفسه، إلى ذاته أعادت الشرق بامتداده الجغرافي من بحر الظلمات " المحيط الأطلسي" إلى الخليج العربي" البحر الأسفل" ومن شمال هضبة الأناضول إلى بحر العرب وعمق الصحراء العربية في لغة عربية واحدة، حملت حداثتها مع الاسلام لأن القرآن حمل الكمال الجمالي والصوتي والدلالي والقواعدي والديني للغة شعب مصري- رافدي قديمة محكية(12). فإذا ما كانت سياسة الاسلام قد مركزت الدولة بمفهومها السياسي فإنها لم توحد (القوميات) لأن القومية الوحيدة التي كانت منتشرة في رقعة الوطن العربي في حينه، هي العروبة، انتشاراً جغرافياً وتاريخياً مثله وحدة البناء المعرفي الفرعوني والبابلي والكنعاني واليماني والفينيقي.. الخ.(1/18)
إن الاسلام وقد خرج من الصحراء لم يعد إلى الصحراء، بل توجَّه إلى الجماهير الكبيرة في لغتها وعقليتها، وفي مدنها البحرية والنهرية، لأن الدين الموحى إلى النبي كان متلائماً مع فهم تلك الجماهير، ذلك أنّه ليس بدعة ولا ثورة، إنّه يكمّل بصورة عالية بسيطة التراثات العروبية السابقة،وإن عقليات الشرق العربي المركبة المتنوعة ظاهرياً، قد كانت واحدة في جوهرها(13)، الذي يلخصها في إيمان واحد حول وحدانية الله. فالقرآن يجمع ولايفرّق، ويقرر ذلك ولايناقشه، لأنه موجود على ساحة الواقع الموضوعي" إنه يقرر الخضوع لله الخالد الأزلي- الحاضر في الماضي كما هو في المستقبل، الواحد الثابت الدائم غير المخلوق، الموجود في كل مكان من الكون. وليس هذا بالتأكيد مفهوماً مولوداً في صدىً، في زاوية صحراء، ولكن من زبدة تأمل المخلوقات الكنعاني، والبعث المصري أو المسيحي، والأمل في رؤية مستقبلية، فالإسلام لم يفاجئ أحداً أبداً من شعوب الشرق، بل أنار من حولها، ما هو متغاير ومتمايز. ولم يكن هناك حاجة لسيف ولا لاضطهاد من أجل أن تعتنق هذه الشعوب دين الاسلام. لقد اقتادهم إلى الاسلام الميل إلى الإيمان المتوارث عن الأجداد. إن الاسلام لم يكن بحاجة إلى احتلال الشرق والمتوسط عسكرياً، حيث كانوا في وطنهم منذ أماد بعيدة" (14) فلتأتهم الأوامر من ممفيس أو صور أو بابل أو آشور أو دمشق أو بغداد أو القيروان أو مكة، لقد كانوا يعبّرون عمّا في نفوسهم باللغة نفسها، ويعبدون الآلهة نفسها، ويحكمهم موظفون من المقاطعات نفسها" (15).(1/19)
وقد يقودنا الحوار حول هذه النقطة إلى اعتبار ظهور الديانة الأتونية" ديانة أخناتون" التوحيدية حلقة نوعية هامة في التطور المعتقدي العربي، مما يعني إيجاد التطابق الهام بين ظهور الأبجديات العروبية" الأوغاريتية والمسندية والسيناوية" وظهور الأتونية كديانة توحيدية، وهذا ما يعني الإعلان عن الانتقال من العروبي ليس فقط على المستوى اللغوي كما تحدثنا أعلاه، بل على المستوى المعتقدي/ المعرفي / وهنا، لابد من الاشارة إلى أهمية التماثل بين البنية المعتقدية والانتشار الجغرافي التاريخي. هذا من جانب. أما الجانب الآخر، فإن ظهور المسيحية لاحقاً ضمن المسار التطوري للبنية المعرفية العربية كان أهم من سابقتها، لكن التغريب الذي حصل لاحقاً بالمسيحية بعيداً عن انتشارها وجذورها العربية غطي في جانبٍ هام بما فعلته السلطات السياسية اللاحقة حتى ظهور الاسلام، ومعظمها كان رومانياً أو بيزنطياً. لم يوجد حلقات الترابط المعروفة بين البنية المعتقدية المعرفية والتكوين التاريخي الجغرافي بشكل عام، بما ينعكس كما لاحظنا لاحقاً على بنية التكوين الشمولي العروبي بعد ظهور الإسلام،" فعندما صرخ يسوع المسيح على الصليب صرخته الكبرى": الهي، إلهي، لماذا شبقتني" فإنما بالعربية كان يصرخ، وكل عربيّ يفهم معنى هذه الصرخة"(16)، كما أن رؤيا القديس يوحنا الانجيلي، والتي هي رسالة وحي في نهاية القرن الأول، وجهت إلى سبع كنائس عربية في آسيا، وهي نفسها بالذات التي كانت تظل عقائد إيزيس وبعل(17).(1/20)
لكننا، وإن كنا قد خصصنا جزءاً هاماً لدراسة وحدة الميثولوجيا والبنية المعتقدية بمرحلتيها العروبية والعربية، إلا أننا ولايضاح وجهة نظرنا عبرنا على بعض المفاصل ذات العلاقة بالتأسيس التاريخي المعرفي لقراءتنا" فإن نفتش على طريق جدلي يقود إلى تفسير المسيحية باستناداتها على الديانة المصرية التوحيدية، فذاك أمر مشروع، فالأناجيل تقدم لنا فرصة مثالية مع رحلة العائلة المقدسة إلى مصر. ثم أليس هناك دليل الصليب ذي العروة، إشارة الحياة التي يتكرر فيها الموضوع على امتداد قبور وادي الملوك؟ أليس هنا الصليب الكلداني الذي استعادته مصر أيضاً، والذي يمثل صليباً محاطاً بدائرة رمزاً لنصر الآفاق الأربعة وكمالها والتي تمسك خطاً مقوساً سماوياً؟ (18) والمسيحية والاسلام لم يأخذا طريق عاصمة بركليس، لكنهما أخذا طريق دمشق والمدينة وبيت المقدس(19).
لذلك كان لابد من العبور في هذه المقدمة على نقاط هامة توضح مفهوم المخيال الاجتماعي والذاكرة الجمعية وعلاقتهما بالتاريخ الجغرافي/ والمعرفي/ العروبي وعناصر ارتسامهما وتطورهما الأولي واللاحق- فحين قراءة هذه المعاني لابدَّ أن نتذكر علاقة الثالوث المسيحي بالثالوث الفرعوني، ولابدَّ أن نتذكر أن مفهوم" البعث" هو منظومة عربية مشرقية، وبأن عقلية التصوف العربية المعاصرة تعود إلى جلجاش وبأن الأعمال الاثني عشر التي أتمها البطل الطيبي والتي تطابق الاثني عشر قسماً لفلك البروج البابلي هذا من مكونات المنظومة المعرفية العربية...
لذلك، سيكون لدينا الكثير مما نتذكره، وتطلب منّا متابعته.. لذلك قمنا ببحثنا اللاحق بتقسيم الميثولوجيا العربية إلى المراحل التالية:
1- الميثولوجيا العروبية البدئية، وتشكل المراحل المتأخرة من عصر الباليوليت والميزوليت وتتضمن المرحلة النباتية والطوطمية وتتقابل مع منظومة الفكر الأولية في خلق التصورات الموضوعية الواقعية واندغام الحلم بالواقع...(1/21)
2- الميثولوجيا العربية الفلسفية الأولى- وفيها بدأ الانسان العروبى يجيب عن أسئلة الحياة الأولى، وآلية علاقته بالطبيعة وبالجماعة البشرية وآلية الانتاج الاجتماعي، وحلَّ إشكاليات رؤيته للزمان والمكان والخلق والموت والحياة والبعث والفرح والحزن. وانطلق بمنظومته ليجيب عن أسئلة السماء والأرض، وارتفع بمكانه عبر الزقورات والأهرام وغيرها، لأنه لايستطيع التأثير بفعل السماء فبدأ محاولاً الارتقاء بجسده نحو السماء، فعندما اكتشف عجزه، بدأ بالتفكير التجريدي الأولي وطوره لاحقاً عبر منظومة ميثولوجية تطورت بانتظام.
3- الديانات التوحيدية العروبية الأولى وتمثلها الديانة الأتونية والمسيحية والصابئة والأحناف
4- لاسلام، وقد أعطيناه مجموعته المستقلة لأنه كان الشكل الأرقى بمفاهيم الإجابة عن التطور التاريخي لعلاقة الفكر العربي بأسئلة الحياة والمجتمع والموت والحياة.. الخ.
وهكذا نلاحظ أن التاريخ العربي يشكل ببنائه الشاقولي تراكماً كميا متواصلاً صاعداً مع ارتقاءات نوعية هامة.
فعلى الجانب اللغوي قدّمنا تصنيفنا الخاص بذلك، وعلى الجانب المعتقدي أيضاً، ويمكننا من الناحية الحقوقية اعتبار شريعة حمورابي صعوداً نوعياً خاصاً، عندما نحاول دراسة الفكر العروبي من جانب تطوره القانوني باعتباره قفزة نوعية استندت على تراكمات كمية هامة تاريخياً وذلك ضمن السياق التالي:
أ- المنظومة الحقوقية العروبية البدئية حددَّت علاقة الانسان بذاته وبمن حوله في سيرورة التطور المجتمعي، كما حدَّدت علاقته بالهرمية الميثولوجية الملازمة لآليات الملكية والتوزيع وغيرها/( المشاعية العروبية البدئية).(1/22)
ب- المنظومة الحقوقية العروبية الاجتماعية، وظهرت مع شريعة حمورابي بتنظيم علاقات مجتمعية معقدة." فلقد شكلت قوانين حمورابي ملك بابل الذي حكم ما بين 1792- 1750 ق.م أول مجموعة شاملة من النصوص القانونية التي وصلتنا من الشرق العربي، لكنها ليست أقدم قوانين باقية. إذ من المعروف أنه حتى في الفترة التي سبقت أيام حمورابي، استن ملوك عديدون من الملوك الرافديين الذين حكموا المدينة " الدولة " قوانين مماثلة. وكمثال على ذلك ما تبقى من قوانين عهد أوركاجينا في لغش " لغش تللو" عام 2360 ق.م والامبراطور سرغون الأكدي 2300 ق.م وأورنامو في مدينة أور/ 2100/ق.م بالإضافة إلى قوانين لبث عشتار ملك إي سين عام 1930ق.م والتي كانت نوعاً ما أكثر شمولية والتي وصلنا منها ثمان وثلاثون قانوناً، ومجموعة مدينة إشنونا التي تحتوي ستين قانوناً (20)، ومجموعة قوانين إيبلا " تل مرديخ" وغيرها/ (المشاعية العروبية المقوننة).
إنّ شريعة حمورابي " تشكل بالإضافة إلى كونها منظومة حقوقية قانونية شاملة، مظهراً آخر من مظاهر الحكمة العروبية بمظهرها البابلي لأنها تنطلق بقيمها المعنوية من عقيدة عامة في سلطة المعرفة الانسانية " (21) والتي تجلت حقوقياً بتلك الشرائع والقوانين.
"128" ... لو اتخذ رجل امرأة ولم يعقد عليها، هي ليست زوجه.
"138" ... لو رغب إنسان في طلاق زوجته الأولى التي لم تحمل منه، يعطيها مالاً بقيمة هدية زواجها ويردلها المهر الذي أحضرته معها من بيت أبيها ويطلقها.
"186" ... لو تبنّى رجل طفلاً ثم أصر الولد بعد ذلك أن يبحث عن والديه ... الحقيقيين، يعود الطفل إلى والده.
"14" ... لو اختطف رجل ابناً رضيعاً لرجلٍ حريقتل.
"21" ... لو نقب رجلٌ " بقصد السرقة" يُقتل، يشنق أمام النقب الذي نقبه.
"265" ... لو غيَّر راعٍ- أؤتمن لرعي قطيعٍ من الأبقار والأغنام، علامة القطيع ... خبثاً ثم باعه يُدان، وعليه تعويض المالك عشرة أضعاف ما سرق غنماً ... كان أم بقراً.(1/23)
" 33" لو أن ضابط تجنيد أو مساعداً في الجيش ساق رجالاً معفيين من الخدمة الالزامية، أو قبل وساق بديلاً مستأجراً في مهمة لصالح الملك، يُقتل الضابط أو المساعد.
"1" ... إذا اتّهم رجلٌ آخر بجريمة قتل ثم لم يثبت ذلك" ضده" يُحكم على المتهم بالموت.
"45" ... لو أجَّر سيد حقله لمستأجر واستلم أجرة الحقل ثم أغرق آداد حقله أو دمره طوفان تكون الخسارة خسارة المستأجر فقط.
"48/M" لو أن رجلاً اقترض قرضاً ولم يكن مايردّه فضة بل كان عنده حب، يأخذ التاجر المقرض حباً فائدة" بنسبة تتفق ومراسيم الملك". لكن لو رفع التاجر فائدته إلى أكثر من" 100" سيل من الحبوب على كل جور" أو" إلى مايزيد عن1/6 الوحدة النقدية وست قمحات وطالب بها ويغرّم بكل ما استرده "فوق القرض".
"48/ 4" لو أعطى رجلٌ آخر فضة شراكة في تجارة، عليهما أن يقسما الأرباح أو الخسائر بينهما بشكل متناسب وأمام إله.
55- ... لو تقاعس " تكاسل" رجلٌ أثناء شق ترعة للري " في حقله" بحيث ترك المياه تتلف محصول حقل مجاور لحقله، يزن لجاره حباً بمقدار ماكان في أرض جاره من حب.
129- لو ضُبطت زوجة رجل تضاجع رجلاً آخر، يُربط الاثنان ويُلقيان في النهر، أمّا إن رغب زوج المرأة مسامحة زوجته والعفو عنها، فللملك الحق في العفو عن مواطنه الآخر.
136- إن دخلت زوجة رجل، هرب من مدينته وغادرها، بيت رجل آخر" بعد هروب الزوج" لاتعود إلى زوجها الهارب إن عاد ورغب في استرداد زوجته، لأنهّ حقر مدينته وهجرها.
153- لو تسببت امرأة في مقتل زوجها بسبب رجل آخر توضع على الخارق.
168- لو قرر رجل أن يحرم ابنه من الارث فقال للقضاة" أرغب في حرمان ابني" يبحث القضاة عن ماضي الابن، فإن وجدوا أنه لم يجترح ذنباً جسيماً يبيح حرمانه لايحق للأب أن يحرمه.
197- لو كسر رجل عظم رجل آخر يكسرون عظماً له.
200- لو حطّم رجلٌ سنَّ رجل آخر من طبقته- يحطمون سنّه" _22).(1/24)
إن القراءة للمختارات العشوائية السابقة تقودنا إلى وضع تصور أوليّ لواقع البنية" المدنية " المعيشة مع أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، ليس فقط في بلاد الرافدين، بل وفي البلاد الشامية بداخلها وبسواحلها، وفي بلاد النيل والشمال العربي الافريقي " الليبي" وتوضح أن السيرورة المجتمعية ببنيتها المعرفية هي كل متكامل، مترابط في البنية المعتقدية " الميثولوجية" وتتداخل مع الواقع الاجتماعي واللغة والآداب وغيرها، لكن هذا الاكتمال لم يبلغ ذروة نموّه إلاَّ مع القرن السادس للميلاد وظهور الرسالة المحمدية.
لذلك كانت مقاربتنا وتصنيفنا للمراحل التاريخية قد أخذت بالاعتبار تداخل كل المكونات البنائية في السيرورة المجتمعية. والمتابع لنا في الفصول القادمة سيجد نفسه بصورة أو بأخرى مقتنعاً معنا بأن التاريخ العربي ببعديه الشاقولي والأفقي يشكل ببيانه الحلزوني الصاعد بناءً متماسكاً لايمكن عزل أو فصل عناصره عن بعضها إلاّ اشتراطياً، وبهدف الدراسة التحليلية.
فإذا كانت اللغة الشكل المتحرك للفكر، والزمان النموذج المتحرك للأزلية، فهل يمكن أن تقف اللغة أو الزمان " التاريخ" عند حدٍّ معين للتطور، تتحول الأشياء بعدها إلى مومياوات؟.
هنا لابد من إعادة القراءة بالنموذج " أو عبر المنهج" المعرفي الذي يأخذ بالأهمية والاعتبار/ المقدمات القبلية والنتائج البعدية التالية لها، ضمن الفعل السيروري الاجتماعي. وهو مايصل بنا هنا إلى قراءة مفهوم الهوية قراءة معرفية أكثر عمقاً من القراءات السياسية والايديولوجية وغيرها.(1/25)
فعندما نقول بأن التاريخ العربي مرَّ بداية بمرحلة العروبة البدئية الأولى، فلأن ذلك قائم فعلاً في الزمان والمكان. فالتوضعات المادية الموضوعية والحيثيات الأركيولوجية المكتشفة بنموها المتوازي والمتشابه إن لم نقل المتطابق تؤكد، بما لايدع مجالاً للشك، نمواً حضارياً واحداً يشمل كل الجغرافية العربية المعروفة اليوم، وذلك في الآلاف السابقة لفجر التاريخ " كما سيرد ذلك معنا في الفصل التالي" وقسمناه بدورنا إلى مرحلتين أولاهما مرحلة الحراك الجولاني الما قبل خليجي وذلك عندما كان شط العرب" ملتقى نهري دجلة والفرات" ليصب في بحر العرب عند مضيق هرمز، وكانت المنطقة الممتدة من هرمز حالياً وحتى الخليج العربي عند البصرة الحالية مأهولة بهؤلاء الذين عاشوا في " الجنة" سميت لاحقاً الدلمون= الديلم= البحرين حالياً.
ولهذه المرحلة خصائص معينة في الجزيرة العربية والبلاد الشامية والشرق الافريقي والدلتا " والصحراء" العربية الكبرى، والتي لم تكن في حينها صحراء.
أما ثانيهما وهو مايمتد حتى المرحلة الدفئية حيث امتدت مياه الخليج العربي مغطيةً ليس فقط ما تغطيه مياه الخليج العربي الآن بل وكانت إلى الشمال مما هو عليه مستوى المياه الآن لمسافة تبلغ 149-160 كم، روفقت أيضاً بخصائص بيئية وتغيرات طبيعية وحراك جغرافي تاريخي على مستوى كل المساحة الجغرافية العربية.
أما المرحلة الثانية :
فتمتد حتى بداية التدوين الكتابي التصويري- الرمزي- التركيبي. مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وقد سميناه/ المرحلة العروبية الماقبل تاريخية الخاصة/ وقد صار بحوزتنا الآن الكثير من الحيثيات والمكتشفات والدراسات اللغوية والنمطية والميثولوجية عن تلك المرحلة.
أما المرحلة الثالثة(1/26)
فنسميها الصعود الحضاري العروبي الأول والذي يمتد حتى سقوط بابل على يد كيرش قائد الغزو الفارسي لبلاد العرب عام 539ق.م. وقد تميز بمرحلتين، أولاهما النهوض العروبي الأول والذي توّج حقوقياً بالشرائع الحمورابية كما ورد معنا، وميثولوجياً ومعتقدياً بالديانة الأتونية، ولغوياً بظهور الأبجدية العروبية، وجميعها تتمركز حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. يتلوه النهوض العربي والذي تميز بالامتداد والانتشار خارج المساحة الجغرافية العربية من ناحية المنظومة المعرفية الاناسية بعناصرها البنائية كلها.
أما المرحلة الرابعة
والتي تمتد من سقوط بابل في نهاية الألف السادس قبل الميلاد وحتى الرسالة المحمدية فإنها تميزت بثلاث صفات هامة:
1- استمرار الانتشار العربي معرفياً وأناسياً وثقافياً وحضارياً خارج الرقعة الجغرافية العربية وخصوصاً باتجاه السواحل الأوروبية المتوسطية..
2- تطور البنية المعتقدية التوحيدية وتطورها إلى ظهور المسيحية والتي لم يكن فكرها إلاّ فكر الفلاسفة العرب معاصري المسيح، كما قال ستاندال في الحوليات الايطالية.
3- قيام الحضارات العربية البديلة البعيدة عن جغرافية الاحتكاك مع الغزاة (الانباط، تدمر، ممالك جنوب الجزيرة العربية، مدائن الشمال الافريقي العربي...)(1/27)
ويمكن أن نطلق على هذه المرحلة" الركود العربي الأول" والذي تلته المرحلة الخامسة والأهم وهي مرحلة النهوض العربي الشامل والذي امتد مع الرسالة المحمدية ليشمل كل جوانب المنظومة المعرفية جغرافياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً، واستمرت مراحل صعوده حتى سقوط الدولة العربية الكبرى لتبدأ بعدها مرحلة الهبوط في الخط البياني العربي والذي بلغ أشدّه بسقوط غرناطة مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد عام 1492 ميلادي ومعركة مرج دابق عام 1516. عندما بدأ الانهيار التآكلي ينخر جسد الجغرافية العربية من الشرق والغرب، لتبدأ المرحلة التي ما زلنا نعيش نشوة هزائمها حتى الآن.(1/28)
أما ما نقصده بالاحداثيات الأفقية، فهي مساحة الانتشار العربي والعروبي عبر الجغرافية التاريخية والتي قسمتها كما سيلاحظ القارئ لاحقاً إلى المنطقة الشرقية العروبية وتشمل مناطق حضرموت وعمان " الحالية " والساحل العربي من الخليج العربي بما في ذلك عربستان " لأنه جزء من الجغرافية التاريخية العروبية" وبلاد ما بين النهرين والجزيرة السورية بما في ذلك كيليكيا " سيلاحظ القارئ في جزئنا المخصص للميثولوجيا العروبية المقارنة الدور الهام الذي لعبته حرّان/ مركز عبادة القمر/ أريحا في فلسطين تعني أيضاً مدينة القمر/ الإله سين" القمر" في جنوب الجزيرة العربية والميثولوجيا السومرية والبابلية، والذي ولد في جزيرة الديلم / البحرين / ومن أسمائه الكثيرة في العربية يشع، يثع، يشوع، يسوع" 23"و" حرام"= نانار= النور الذي رمز في البناء المعتقدي الرافديني والنيلي معاً إلى تحليق الأم الكبرى العادلة في السماء مبددة بنورها غربة الليل ومعطية القوة الاخصابية للنساء جميعاً"24" وهذا الرمز سنجده بدون استثناء على مجمل الرقم واللوحات والاختام والأنصاب والتماثيل على شكل شجرة/ شجرة الحياة/ مبسطة تجريدية، حيث يبدو القمر كأنه جزءٌ عضوي من أجزائها قدمتها السلطات من خلال انزياح للايقونوغرافيا السلطوية باتجاه الأمومية التي كانت عشتارية/ ثم أضحت / تموزية/، أي قبل التشاركية بين الرجل والمرأة كشكل من أشكال العدالة الذكورية_25)
أما المنطقة الوسطى العروبية فتضم سيناء والساحل الكنعاني على البحر الأحمر وتهامة ومنطقة اليمن في جنوب غرب الجزيرة العربية وبلاد الشام ومنطقة القرن الافريقي والهضبة الحبشية وارتيريا والنوبة ووادي النيل والدلتا.
والثالثة هي المغاربية العربية وتضم الصحراء العربية الكبرى وليبيا وبلاد المغرب العربي الحالية.
وأعتقد أن القارئ سيقتنع بهذا التقسيم للجغرافيا التاريخية العربية بعد أن يتابع تأسيسي " في الفصول اللاحقة".(1/29)
إذن للهوية كسيرورة تاريخية خصائص قائمة في الزمان والمكان مستقلة عن ارداتنا، وهذا ماهو قائم في الجغرافية التاريخية والتاريخ الجغرافي العربيين. فالمقدمات الميثولوجية والمعتقدية مثلاً في التثليث كانت قائمة قبل المسيحية " بشكل غير مرتبط بإرادة الجماعة البشرية العربية" وهذا مقدِّمة قبلية.. فلقد كان الثالوث المسيحي المقدّس/ الأب والابن والروح القدس/ ترداداً حقيقياً لثالوث ايزيس وأوزوريس وحور يس النيلية، أنو انليل أنكي سن شمش حدد الرافدينية، ومناة واللات والعزى في الجزيرة العربية.
ومع قدوم الهكسوس وبعده" نشأت حالة توحيدية في قمة السلطة الفرعونية، حيث عبر التأزّم الاجتماعي عن نفسه في قمة السلطة مما أدى إلى ظهور الاخناتونية، والتي كانت اصلاحاً في الجوهر فعبرت عن نفسها دينياً، بتبنيها إلهاً واحداً هو الاله الشمسي / آتون/ من دون جميع الالهة الفرعية العديدة التي كانت معبودة في العهد السابق عليه(26).
"والهكسوس على ما أرجح لفظ مركب من هيق وسوس. ومعنى" هيق" ذكر النعام، ومن الرجال المفرط الطول. وجاء في لسان العرب في حديث أحد/ انخذل عبد الله بن أُبيّ في كتيبة كأنه هيق يقدمهم. ومعنى سوس: الخيل. وقد بقي في العربية المعاصرة الإشارة اليها في كلمة" ساس " فإنه عند الاطلاق ينصرف إلى من يسوس الخيل، وعليه فيجب أن يفهم من التركيب إما ملوك الخيل، أو أصحاب نعام الخيل، والأرجح أنهم كانواً فرساناً وادخلوا الخيول إلى وادي النيل"(27).(1/30)
وتطورت تلك الرؤى التوحيدية لاحقاً لتترافق مع تراكمٍ كمي هائل من الصياغات الجمالية العربية التي ترواحت ما بين التجريد البسيط في عصر الأم الكبرى، والمحاكاة في عصر الطبقات، والتجريد العميق التنزيهي في عصر انتصار المستضعفين، بحيث أضحى قيمة جمالية تاريخية، تلح للتواصل معها لأنها حاضرةٌ في كل ماهيتنا البصرية والبصيرية للانطلاق من كنه التكوين الداخلي لهذه القيمة، لتكوين خطاب جمالي معرفي مستقبلي يؤكد لمن أراد في عصر ابتلاع الهُويات والماهيات، هويتنا وما هيتنا العربيتين. لكن العودة إليه ينبغي ألا تفهم كعودة سلفوية تلفيقوية لاستعارة أشكال وأساليب ورموز ابداعية وفنية رغم أهميتها، بل العودة لفهم العلاقة التي تربطه كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي بالنمط الانتاجي المعيش والبنية المعرفية العامة للتكوين الثقافي، فالدائرة" نبع النور والطاقة"- المثلث " نبع الخصب والعطاء" الشجرة " نبع لدوام الحياة" الانسان" نبع الخلق والعقل"(28).
هوامش الفصل الأول
(1) بييرروسي -مدينة ايزيس- التاريخ الحقيقي للعرب ترجمة فريد جحا وزارة التعليم العالي-ج. ع.س دمشق 1980 ص9
(2)المصدر السابق ص 18-19..
(3) حسين فهيم/ قصة الأنتروبولوجيا/ فصول في تاريخ علم الإنسان/ سلسلة عالم المعرفة- الكويت- 98- شباط 1986 ص13
(4) المصدر السابق ص 18
(5) المصدر السابق ص 230
(6) بييرروسي - مدينة ايزيس- التاريخ الحقيقي للعرب
(7) المصدر السابق ص34
(8) المصدر السابق ص 38
(9) المصدر السابق ص37
(10) المصدر السابق ص31
(11) المصدر السابق ص50
(12) المصدر السابق ص 263
(13) المصدر السابق ص 35
(14) المصدر السابق ص 35-36
(15) المصدر السابق ص 54
(16) المصدر السابق ص20
(17) المصدر السابق ص 29 .
(18) المصدر السابق ص72
(19) المصدر السابق ص 29
(20) مجموعة من المؤلفين - شريعة حمواربي وأصل التشريع في الشرق القديم ترجمة أسامة سراس - دار علاء الدين ص9
((1/31)
21) يوسف الحوارني - جماليات الحكمة في التراث البابلي - دار النهار ط1 1993 ص13.
(22) المصدر السابق.
(23) يفصل ذلك الدكتور سيد القمني في كتابه التراث والأسطورة في فصل خاص عن الاله القمر والثالوث المقدس - وفي كتابه أيضاً " النبي ابراهيم والتاريخ المجهول" وبدراساته العلمية الدقيقة الموثقة المنشورة والتي تمتاز برصانتها وعلميتها.
(24) تتطابق الدورة الاخصابية عند أكثر النساء مع الدورة القمرية/ الشهرية/" شهر" أحد أسماء القمر بالعربية/ وقد ربط العروبيون ذلك بالنساء فقط قبل اكتشاف دور الرجل في الإلقاح والاخصاب.." سنفصل ذلك في جزئنا التالي حول الميثولوجيا العروبية المقارنة".
(25) موريس سنكري - حول الوحدة الثقافية للأمة العربية - مجلة الفكر العربي العدد 78- خريف 1994.
(26) المصدر السابق.
(27) علي الشوك-مداخلة في المفردات المتشابهة-الكرمل العدد (15)ص 209
(28) موريس سنكري، المصدر السابق.
(((
الفصل الثاني
الأناسة المعرفية العروبية
الماقبل تاريخية:
لايمكن فصل فعاليات الانسان وتطوره، وعلاقته بالبنية الانتاجية ونموها من الشكل الفردي إلى النتاج الجماعي، عن الصفات البيئية، والطبيعية الجغرافية للموقع المعيش. فهو يشكل في وحدته مع الشرط الجغرافي والبيئي المقدّمة التأسيسية اللازمة للجغرافية التاريخية. بما يعنيه هذا من تحديد الشروط الأولية للنتاج الاجتماعي.(1/32)
ولم تكن منطقة الشرق العربي الممتدة من الصحراء العربية الكبرى وحتى الخليج العربي معزولة عن التغيرات البيئية والمناخية التي تطرأ على الكون، بل يمكن القول بأن جملة التغيرات التي طرأت عليها خلقت الظروف المناسبة لحياة الانسان ( الجماعات الأناسية) المتطور من أشباه الانسان. وقد بدأ هذا الانسان يرسم الخطى الأولى لعلاقته بالطبيعة بدخولٍ لايمكن تحديده بدقة خارج التأطير العام للباليوليث الأدنى والذي يشكل 99% من تاريخ الانسان والذي يمتد حتى (100,000) عام قبل يومنا هذا، حيث شقَّ هذا التطور نهاية لمرحلة طويلة من التطور البيولوجي استمر حوالي 14 مليون سنة من تطور الهوميثيد " أشباه الانسان" منها 2-3 مليون سنة الآخيرة عكست الآثار الأولية لأكثر الثقافات قدماً حيث تعلم الإنسان أن يحضر أدواته، وبدأ تدريجياً يبني سكنه الأولي، ليتبعه لاحقاً بالفن الصخري. ويتوضع كل هذا الزمن في الطور الجيولوجي الرابع. بحيث تؤكد القراءات الأولية لما تركه هذا الانسان من أدوات وآثار على جدران الكهوف أن التطور الفيزيائي- الفيزلوجي والثقافي مرتبطان بشكل وثيق. علماً بأن قسماً ضئيلاً جداً قد بقي فقط من الأدوات التي استخدمها انسان مجتمع الصيد ولاقط الثمار. فلم تصمد حتى أيامنا تلك الأعمال والأشغال والأدوات التي صنعت من الخشب والجلد ومن لحاء الشجر والألياف النباتية- وحتى الكثير من الأشغال العظيمة التي تحطمت في وسط غير ملائم _ كالطين والصلصال.
لقد عاش على سطح الأرض، وعلى مدى 150-200 ألف سنة نوع بشري واحد وحيد ( هومو- سابينس)= الانسان العاقل. وقد انتمت لهذا النوع، وبدون استثناء سلالات الباليوليث المتوسط والآخير. مثلها مثل كل السلالات التالية حتى المعاصرة وكل منها قدمت قسطها في مسألة تطور الانسانية(1).(1/33)
فبعد كل النظريات والافتراضات التي كانت سائدة حول الموقع المفترض لنشوء وتطور الانسان العاقل الأولي خرج علينا العالم كوبنز بنظريته" قصة الجانب الشرقي- أصل الجنس البشري" والتي يؤكد فيها بأنه تطور على امتداد وادي الخسيف عند منابع ومجرى النيل في إفريقيا الشرقية(2)، قبل ثمانية ملايين من السنين وهذا ما يضعه في لب التأسيس التطوري للانتروبولوجيا العربية اللاحقة، خصوصاً لو أخذنا الرابط المناخي والمعيشي الوثيق بين جغرافية ذلك الوادي وامتداده نحو القرن الافريقي، وبين المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية- خصوصاً إذا عدنا بذاكرتنا إلى الخلف أكثر عندما كانت تلك المنطقة تشكل وحدة تضاريسية واحدة، واكتفت لاحقاً بالوحدة المناخية والبيئية، وتزداد أهمية هذه المعطيات الموثوقة والموثقة إذا أدركنا بأن أنهار الجليد كانت تغطي أغلب مناطق أميركا الشمالية وشمال أوروبا حتى 15,000 سنة من يومنا هذا فقط وهذا يعني أنها لم تكن قابلة للحياة الانتاجية قبل هذا التاريخ بالتأكيد.(1/34)
ومع انتقالنا إلى فترة الباليوليث الأوسط حوالي 100,000 إلى 40,000 عام قبل يومنا، تميزت المرحلة الأناسية الثقافية بظهور وتطور إنسان النيارندرتال الذي كان سائداً سابقاً أنه تواجد في أوروبا! بشكل سابق لغيرها من المناطق(4) إلى أن جاءت دراسة فاندرميرس وباريوسف الموسومة ب" الانسان الحديث في بلاد المشرق(5) حيث يؤكدان أن جماعة الانسان العاقل الحديث " استوطنت المشرق العربي قبل النياندرتاليين واتبعت نمط عيش متماثل لنحو 60,000 سنة، بحيث نسفت المكتشفات الحديثة الترابط المتبع سابقاً بين علم البيولوجيا والباليو أنثروبولوجيا " علم تطور الانسان القديم" فيقولان:" إن هذا الترابط بين البيولوجيا لحضارة يصعب تطبيقه في بلاد المشرق. فقد وجد علماء المستحاثات الذين ينقبون في مواقع هذه المنطقة مجموعات من المستحاثات تشتمل على عينات يبدو أنها أقدم من مثيلاتها التي في أوروبا. (6) ويتابعان " فقد استنتج بعض هؤلاء الباحثين، بعد مقارنتهم لعدد كبير من عينات مأخوذة من جماعات بشرية أقليمية تقطن في بقاع مختلفة من العالم، أن أفراد الانسان الحديث قد نشأت في مناطق شبه صحراوية في افريقيا منذ أكثر من 100,000 عام (7). وتناسى هؤلاء الباحثون التغيرات المناخية والبيئية التي طرأت على الكون، بحيث تحولت الكثير من المناطق التي كانت تشكل غابات تلك المراحل إلى مناطق صحرواية أو شبه صحرواية، كما هو الحال بالنسبة للصحراء العربية الكبرى- الليبية نموذجاً- والتي اكتشفت فيها نقوش كهفية جدارية تثبت أنها كانت غنية ومسكونة بالحيوانات المدارية كما هو مبين0 في اللوحات المكتشفة في الصحراء العربية- الليبية وهذا يرتبط مع التوضع المناخي الملائم التالي لوادي الخسيف، بحيث كان كل من وادي النيل والدلتا، ومنطقة الرافدين مناطق مغمورة بعد انتهاء الطور الجليدي الآخير.(1/35)
ويؤكد الباحثان المذكوران في دراستهما المنوه عنها أعلاه أن بعض مكتشفات الدفن في مغارة قفزة في فلسطين على سبيل المثال يدل على شعور ديني قبل ما ينوف على 100,000 سنة فقد وجدا في أحد المدافن هيكلاً عظمياً لطفل عند قدمي الهيكل العظمي لامرأة شابة، ربما تكون أمه.؟ يظهر هذان الهيكلان بمظهر الانسان الحديث ولكن حضارتهما تشابه حضارة الانسان النياندرتالي الشرقي عربي الأكثر قوة. أما في أوروبا - وحسب قول الباحثين(8) فقد أقام الأفراد ذوو المظهر الحديث وكذلك النياندرثاليوم حضارات مختلفة، وذلك بعد مرور 60,000 سنة مما كانت عليه في الشرق العربي. وهذا ما يتناقض قطعياً مع رأي الدكتور فراس السواح الذي يقول في مؤلفه" دين الانسان:" وفي الواقع، فإنه من غير المجدي التفتتيش عن دلائل وآثار الحياة الدينية لبشر ذلك الزمان/ ويقصد الباليوليث الأدنى/ بسبب غموض الوثائق وتبعثرها، وصعوبة الربط بينها، فإذا أردنا البقاء في حدود ما تسمح به الوثيقة المادية من تفسير، يتوجب علينا القول بأن انسان الباليوليث الأدنى لم يتمتع بحياة دينية من أي نوع، وأن وسطه الفكري لم يتطور عن أسلافه من الرئيسات العليا، رغم صناعته للأدوات واستخدامها للتحكم بوسطه المادي" (9).(1/36)
أما ما يتابعه الباحثان حول ضرورة الاستناد إلى وثائق من المكتشفات من أن عملية الدفن تلك وغيرها مما اكتشفوه في مغارة سخول بأن وضعيات الهياكل تدل على دفن مقصود، وهو أقدم عملية دفن عثر عليها حتى الآن، ويضيفان اكتشاف مجموعتين من الهياكل في مغارة شانيدار في سفوح جبال زاكروس في العراق، وكانت كلها من النياندرتاليين وتبدي ما يدل على سلوك بشري راقٍ، مع مجموعة في مغارة عمود قرب بحيرة طبرية، وهذا يعني الانتقال بالضرورة إلى عنصر الباليوليث الوسيط حيث تتقاطع في هذه المرحلة وجهة نظر الأستاذ فراس السواح مع الباحثين المذكورين حيث مارس الانسان في منطقة الشرق العربي عملية الدفن الطقسي،" فتظهر قبور النياندرتاليين في المشرق العربي تقاليد دفن تميزت بطي الجثة ضمن حفرة صغيرة وتوجيه الجسم وفق محور غرب- شرق. وتظهر الهياكل العظمية لانسان النياندرتاليين المشرقي " العربي" بوادر ابتعاد مورفولوجي (المورفولوجيا هو علم شكل الأحياء) عن الهيئة الكلاسيكية للنياندرتال النموذجي في أوروبا واقتراباً من هيئة الانسان العاقل.
وهنا تجدر الاشارة إلى أن الحديث يدور في الشرق العربي عن إنسان متطور طقسياً ومورفولوجياً عن إنسان النياندرتاليين الذي سكن أوروبا في هذا الزمن- في المرحلة الفاصلة بين الباليوليث الأدنى والمتوسط، وفي المراحل الأخيرة من الباليوليث الأدنى" فالوجود الواضح لأفراد الانسان بأشكال حديثة في بلاد المشرق منذ 100,000 سنة يقدم حقائق جديدة لتفسير وجود مستحاثات أخرى غربي آسيا. فقد يكون لأفراد الإنسان سلسلة نسب "سلالة" محلية واسعة الامتداد إلى حدٍ ما فبقايا الجمجمة التي وجدها ثورنطيل- بيتر في مغارة زوتّيّة بالقرب من مغارة عمود مثلاً- تثبت أن تأريخها يراوح بين 200,000- 250.000 سنة مضت. وقد يكون صاحب هذه الجمجمة أحد أفراد الجماعة التي انحدرت منها جماعة الانسان النحيل " الحديث" في كل من سخول وقفزة" (10).(1/37)
وليست البنية المورفولوجية للجمجمة، أو الأدوات المحيطة فقط هي التى وفقت هؤلاء العلماء إلى الجزم بوجود ذلك الفارق الزمني في التطور بل عثورهم أيضاً على العظم اللامي (Hyoid) وهو عظم منفصل يتحكم في حركة الانسان) وتم الاستدلال من خلال دراسته الدقيقة على أن جهاز التصويت لدى انسان الباليوليث الأدنى- المتوسط في منطقة الشرق العربي يشبه مالدى الانسان الحديث وإلى أنه كان قادراً على إصدار الأصوات الضرورية لكلام مقطع.
ومن جانب آخريتجه الباحثان إلى تفسير المرحلة اللاحقة التي بدأت منذ نحو 40,000 سنة إلى افتراض" أن جماعات الانسان الحديث في بلاد المشرق العربي انتقلت وانتشرت في أوروبا وذلك بعد أن حلَّوا محل النياتدرتاليين المحليين أو نتيجة لعمليات التكاثر فيما بينهم (11).
نستنتج مما سبق أن:
- انسان الباليوليت الأدنى ترك آثاراً قابلة للدراسة في بلاد المشرق العربي في حين كان فقيراً بها جداً في أوروبا.
- ظهور الانسان الحديث كان سباقاً في بلاد المشرق على ما هو عليه في أوروبا بعشرات الآلاف من السنين.
- ممارسة الدفن الطقسي ثبتت منذ المرحلة النهائية من الباليوليث الأدنى في منطقة الشرق العربي، وبما يسبق مثيلاتها في أوروبا بـ 60,000 عام.
- وجود العظم اللامي وببنيته المعاصرة يؤكد على وجود عناصر التواصل الصوتي في مراحل سابقة لمثيلاتها في مناطق أخرى من العالم، ولالاف السنين، مما يثبت الانخراط في عملية النتاج الاجتماعي في مراحل باكرة.(1/38)
كان ذلك، كان له الدور الهام" إن لم نقل الأهم" في وسائط تعبير الإنسان عن علاقته مع الأشياء المحيطة وفي ترتيب نمطية ما من التعامل مع الجماعة المحيطة. وهذا يعني بالضرورة أن تطور الانسان الثقافي برموزه المعرفية والدينية والفنية لايرتبط بما يعنيه مستوى التطور التقني بالسوية التقانية لتطور الجماعة البشرية. أي أن التوازي في التطور التقني والثقافي هو رؤية ميكانيكية بعيدة عن الخطوط البيانية التاريخية لسيرورة الانسان. لايمكننا أن ننفي أن السوية الراقية " بمعانيها المعرفية" من التطور الثقافي تشكل الأرضية المتينة الهامة باتجاه التطور التقني، وهي ما تدفع باتجاه تجاوز مفاهيم الزمن الاجتماعي وترتيبه الميقاتي، بخلق معادل جديد يتناسب مع التراكم الكمي والكيفي في سيرورة الأمة، وهذا ما نحاول اثباته بما يخص الأمة العربية، التي تمتلك خزاناً ثقافياً مميزاً، تستطيع الاستناد عليه لتحقيق قفزتها الحضارية التقنية في زمن اجتماعي خاص، تستطيع من خلاله تجاوز الفاصل الكبير من الزمن الميقاتي الذي يفصلها في الزمن الراهن عن المجتمعات المتقدمة تقنياً، إن ذلك يعني، بدايةً، أن التطور الثقافي لايمكن أن يعاني من عملية قطع تاريخية، فهو عملية متواصلة سيرورية في تأصيلها وسبقها وصيرورتها اللاحقة وهو ما نقصده بعملية التأصيل في بدايات تكون المنظومات المعرفية فالحضارات الجليلة التي بناها العرب بما في ذلك البابلية والفينيقية والتدمرية والمصرية.. وحتى الاسلامية لم تكن مقاطع معزولة في تاريخ أناسي متقطع، إنها تواصل أناسي معرفي، مؤسَّس ثقافياً على ثوابت تأصيل عظيمة لاتمتد جذورها المعرفية لمراحل التاريخ الكتابي فقط، بل تمتد كما أكدنا أعلاه إلى مراحل الباليوليث الأدنى حيث تواجد في منطقتنا الانسان الحديث سباقاً بذلك تواجده في المناطق الأخرى من العالم بعشرات الآلاف من السنين.(1/39)
معطياً لحياته قيمةً ما، متسائلاً عن طبيعة علاقة الأرض بالسماء، والجسد بالروح، والانسان الكائن الحلم بالواقع..
إن بداية الاشكالية في التساؤل تبدأ من طرح هذه الأسئلة. وما دمنا استطعنا التقاط بعض الأجوبة من خلال تلك المراحل المغرقة في القدم، فمعنى ذلك أننا استطعنا الوصول إلى البدايات السبّاقة التي حدَّدت الملامح العامة اللاحقة لتطور الانسانية، الذي تعيش تقنيته حالياً، ملايين الناس خارج دائرة تواجد هذا التكوين الأناسي الرفيع_ العرب.
فالتكوّن الثقافي- المعرفي- الفني/ يبدأ بعلاقة الاقتراب بين مفاهيم الجسد والروح والأرض القريبة، والسماء الجسد= الأرض بمكوناتهما المحسوسة التي يتعامل معها الانسان في صيغة الأداة التي يبتكرها، أو يحتاج إليها فيطورها، وأعضاء يتعامل معها بتوافق خاص تختلط فيه الأحاسيس الممكنة مع المجهولة. والأرض بمكوناتها التي تحمل النبات ويسير عليها ذلك الحيوان الذي دفع الانسان اللاكتابي- الباليوليتي إلى نقشه في أماكن إقامته عبر ابداعات انطباعية ورمزية وتجريدية كانت تتفاعل بحركية ترقى من مرحلة إلى أخرى قابلة للتعامل مع ما يحس به أو يركن إلى اللقمة التي يمنحه إياها بعد أراقة الدم من أحد الطرفين. فيقيم لنفسه هيكلية خاصة ترتبط برمزية ما، تدخل بين الحلم والواقع وتدخلهما. فينطلق لاحقاً معبِّراً عن فن في الارتقاء نحو الأعلى- نحو السماء وقد دفعته للاقتراب إليها عبر صورٍ رائعة. دون أن ينسى حركة القمر والشمس والكواكب فيها.
فلم يترك جثة الميت ملقيةً عبثاً، لابد أن يتجه نحو الشرق حيث يشكل نافذة ولادة الشمس والقمر. وفي حالات لاحقة كانت واسمة لمنطقة الشرق العربي بدأ، بفصل الرأس عن جسد المتوفى معتقداً أن الروح فيه،ويضعه في كوخه الصخري أو في كهفه. مازجاً بذلك اختلاط معتقدات أولية صافية تزاوج بين الطوطمية وعبادة الأسلاف.(1/40)
وهكذا كانت البدايات الميثولوجية للنمو اللاحق للحلزون الثقافي، الذي سنأتي على تفصيلاته الدقيقة فيما يلي من فصول. لكن التأسيس الأوّلي والهام كان ارتكازاً متيناً على تكوين سباق ومتين. فالتزيين الجنائزي بالقرون ارتبط بعلاقة ذلك الانسان بالحركة الدورية للهلال.
ولم يكن اللون الأحمر إلاَّ الرمز البسيط عن القرابين التي تقدم للمتوفى بعد أن تنثر على جثته الورود والزهور وقد سجي شرقاً بانتظار الشمس التي تحمل معها الحياة والخصب.
" إن مفهوم القربان في ذلك الزمن، مرتبط بمفهوم الآلهة المشخصة، أو الكائنات الروحية المقدسة التي صارت إلى ما يشبه الآلهة، مثل أرواح الأسلاف لدى بعض الثقافات" (12)..
انطلاقاً من ذلك كان الانبثاق الأولي في منطقة الشرق العربي باتجاه الثقافة المتواكبة التي سبق فيها أسلافنا العرب كل الشعوب والجماعات الأخرى حتى المحيطة والتي بدأت تأخذ انعكاسها في التقدم التقني المادي التقني.. وقد بدأوا يميزون عالماً خاصاً محدداً مشخصاً في التكوين الوصفي المحيط بهم مع مايربطه بعالم آخر قابل للتخييل، يصل بينهما الحلم أو الموت.. ومن هنا أخذت الفلسفة في بدايتها الأولى تترنح في أولى خطاها على دروب الشرق العربي، الذي تميز في مراحل الانتقال من الباليوليث المتوسط إلى الأعلى بالتدجين النباتي والحيواني وهو ما دفع أيضاً هذا الشرق إلى السبق باتجاه الميزوليثية" فكان أول وأكثر الحضارات والثقافات الميزوليثية تطوراً توضّعت في الشرق العربي، حيث كانوا أول من اكتشف واستخدم الطواحين الحجرية وكان ذلك حوالي 10,500 سنة قبل الميلاد" (13). وتلا ذلك الانتقال السباق إلى النيوليث كمرحلة أخيرة من العصر الحجري تميزت بانتقال البشر إلى الشكل المستقر للحياة" فمنذ الألف 8-7 قبل الميلاد أقيمت في الشرق العربي" مدن" محاطة بجدران حصينة (14)(1/41)
وإذا كانت التغيرات المناخية والبيئية متوازية في منطقة الشرق العربي، والتي شملت دراساتها بشكل مفصل وادي النيل وما بين الرافدين إلاّ أن منطقة بلاد الشام من الشرق العربي بقيت في التحول الاساسي من العصر الحجري الوسيط " الميزوليتي الباكر" وحتى العصر الحجري الحديث " النيوليثي المبكر" موضوعة خلف مجموعة من إشارات الاستفهام التي لم تقدّم الأجوبة عليها تفسيراً تفصيلياً لقيام المواقع الحضارية العظيمة بعيداً عن الحزام الأخضر الممتد إلى الساحل البحري باتجاه الشمال والشرق الرافدي وجنوباً نحو العقبة وسيناء باتجاه الدلتا .
فيتضح التبدل المناخي في المشرق العربي بين الألف التاسع ق.م والألف السادس من انحسار نطاق النبات الطبيعي. فقد تسبب الهطول المطري الوفير في الفترة المتأخرة من العصر الحجري الوسيط في توسع مناطق غابات البحر المتوسط باتجاه الشرق. وقد حظيت هذه المناطق بأكثر من 300 ملم معدل هطول سنوي، وحظيت المناطق الوسيطة من الغابات المفتوحة والسهوب خلفها بحدود 150-300 ملم معدل هطول سنوي. وفي حين كانت غالبية المواقع السبعين المعروفة في مواقع الفترة المتأخرة من العصر الحجري الحديث في منطقة الهطول الأغزر أو في المنطقة الوسيطة فإن بعضها كان في جيوب سهوبية ملائمة لها على نحو خاص. فمثلاً كان موقع " أبو هريرة" وموقع" دبسي فرج- شرق" على الفرات، في حين كان موقع " أزرق" في واحة. وبعد ذلك بثلاثة آلاف عام انحسرت كل من الغابات العادية والمفتوحة والسهوب وتقدمت الصحارى. وحتى المواقع السهوبية بمواطنها الملائمة هُجرت آنذاك. ومن بين المواقع الثمانين المعروفة التي تعود للألف السادس من العصر الحجري الحديث، كانت تقع منطقة البحر المتوسط ضمن المنطقة الأكثر ملاءمة للزراعة المختلطة(15).(1/42)
وبربط هذه المعطيات مع نتائج يان ايلينيك حول وجود الطواحين " الرحى" الحجرية منذ الألف العاشر قبل الميلاد في المشرق العربي نستنتج بأن تدجين النبات القمح ( الحنطة ) والجاودار والشعير في المشرق العربي كانت سابقة بالضرورة لاختراع الرحى. وإلاَّ لماذا الرحى اساساً ؟! خصوصاً إذا أخذت آلية البحث الطريق الطبيعي للتغيرات المناخية والبيئية التالية التي تدفع للاستقصاء في أوساط غير متوقعة في الظروف والشروط الحالية المناخية. وهذا أدى بدوره إلى كشف الكثير من الأسرار التي اتضحت لاحقاً في التكوين الانتاجي الجماعي التالي للتدجين النباتي والحيواني في منطقة الشرق العربي، والذي كان سباقاً بالضرورة ومن خلال الوثائق السابقة في آلية التطور الثقافي بآلاف السنين عن غيره من المواقع الأخرى التي رسمت خرائط متأخرة لانتقال النياندرتال إلى العصور التالية.(1/43)
والمتتبع الدقيق لدراسة مجموعة من المواقع المتباعدة في المشرق العربي يدرك التزامن الدقيق في التطور الحضاري، الذي يشي بوحدة أناسية فريدة في نوعها. ويؤكد ذلك الباحث جاك كوفان بقوله" والوصول إلى" القرية الزراعية" حقق الوحدة بين أفراد الجماعة وأعطى لحياتهم مغزى وأهمية في إطار التطور البشري، لاسيما وأن القرية هي القاعدة الأساسية لحضارتنا المدنية. لكن سلم ذلك الارتقاء وعناصره ظهر أولاً في بلاد الشام والمشرق" (16) ومن الضروري التأكيد على أن الوضع لم يكن قفزة في فراغ، بل، نتيجة لتراكم تاريخي كمي وكيفي بطئ تالٍ للخروج من الكهف والانتقال إلى الكهف الصخري فالبيت الدائري فالمضلع وما يعنيه ذلك الانتاج الزراعي من درجة استقرار معينة في عملية النتاج الاجتماعي منظومة تقنية خاصة تحدد السلوك الانساني خصوصاً إذا توحّدت جغرافية واسعة على امتداد المشرق العربي في سويتها التطورية السباقة من الشمال في المريبط وأبو هريرة على الفرات باتجاه يبرود وسعيدة وجعيتا وعين الملاحة والطيبة في أواسط بلاد الشام باتجاه وادي الفلاح والواد وكيبارة على الساحل الفلسطيني، وجنوباً نحو شقبة وأريحا وأبو سيف والخيام وأم الزيتونة ورأس البيض ثم باتجاه رأس حريس في سيناء لتمتد لاحقاً باتجاه وادي النيل." وبذلك بدأ التاريخ يسجل بعض الأدلة على قيام تطور متشابه جداً للحضارة النطوفية في كل من فلسطين ومنطقة الفرات في أعقاب المرور المشترك بمرحلة الكيباربان. كذلك تأكدت الآن النظرية التي طرحها كل من أور وكوبلاند وأورانش والقائلة بأن بوتقة حضارية وحيدة امتدت خلال هذه الحقبة من النيل إلى الفرات " (17) ويؤكد باحث آخر وحدة مكتشفات نفس المرحلة الزمنية بين وادي النيل و" الصحراء" العربية الكبرى " الليبية " والشمال الافريقي " العربي" ف" وسط المكتشفات الليبية- المصرية تصادف النقوش أكثر من اللوحات وبفارق كبير.(1/44)
بين الأقصر وشلالات النيل الثانية تم اكتشاف كميات من النقوش. وتصادف هذه النقوش، عدا سهل النيل، وبكميات كبيرة في صحراء النوبة والصحراء الليبية. ولاتختلف النقوش المصرية بتقنية التنفيذ عن الآثار المشابهة الأخرى في الشمال الافريقي.. مما لاشك فيه أن علاقات وثيقة ومتينة تربط النقوش والرسوم الليبية المصرية من جهة أولى بالآثار كما تظهر لفن الشمال الافريقي من جهة ثانية. وتظهر هذه العلائق في طراز وتقنية التنفيذ تماماً كما تظهر في انتشار المواضيع المتفرقة الوصفية لكل شمال افريقيا. في ذلك العصر، وعندما تشكل هذا الفن، كانت افريقيا الشمالية بما فيها الصحراء مسكونة بشكل كثيف، وبين مناطقها المختلفة طبعاً، نشأت علاقات متينة ومتعددة (18). فالحضارة النطوفية إذن " نسبة إلى وادي النطوف قرب أريحا" امتدت من الفرات إلى النيل وهناك نجد الامتداد التالي للشمال الافريقي وهذا يعني وجود الخلفية المشتركة في المجالات المعمارية والاقتصادية والتقنية، وبالتالي وجود لغة حضارية مشتركة(19).
إن أي صفة من ملامح ذلك التقدم كانت مرتبطة بقيمة اجتماعية أخلاقية تتحدد بالابعاد العديدة للقيمة أو للعنصر الثقافي وما يعنيه ذلك من رقي عبر سلم التطور الأناسي معرفياً، ليس فقط من الجوانب الفكرية والتقنية بل من الجوانب الميثولوجية والمعتقدية أيضاً.
فمفهوم " المدن" القلاعية المكتشفة في الشرق العربي في الألف الثامن قبل الميلاد والذي يُعتبر " البرج والسور المكتشفان في أريحا- مهما كانت وظيفتهما- ينمان عن وجود نظام اجتماعي مختلف، فهو أكثر تنظيماً وجماعية في تنفيذ الأعمال المعمارية من مجتمعات القرى الأخرى"(20).(1/45)
فإذا كان الكوخ هو الصرخة المتحجرة للخيمة- بتعبير جاك وفان- فهو يعني " فلسفة" خاصة ضد الترحال ونزوع للتأسيس في أرض قابلة وقادرة على حماية هذا الكائن- الانسان ذي الروح الجماعية في العمل والأكثر مودةَ ونزوعاً إنسانياً للتعاون مع الجماعة باتجاه الخلق والابداع، مما هو عليه إنسان التقنيات المتطورة غير المستندة إلى إرث ثقافي معرفي عريق. لذلك انطلق لاحقاً باحثاً عن توضع أفضل من المسكن المستدير العاجز عن استيعاب البنية الأولية للكتلة الاجتماعية- العائلة، فاكتشف المسكن المستطيل الذي عنى هدفاً اجتماعياً وميثولوجياً " فالمسكن المستدير مقيد بمساحة سكنية محددة وغير قابلة للتوسع في حين أن المسكن المستطيل قابل لكل أنواع التوسع من خلال إضافة المزيد من الحجيرات الجديدة إليه. وبناءً على ذلك أصبح هذا النوع الجديد من السكن يستوعب العائلة التي يتكاثر أفرادها باضطراد- أي أنه يفسح المجال لأنماط جديدة من السكن الجماعي أو المشترك.
لقد مر العالم بأجمعه بهذه المرحلة الانتقالية ولكن الأزمنة تختلف من مكان لآخر. ويبدو أن هذه المرحلة نضجت على الفرات قبل غيره من الأماكن(21) يضاف إلى ذلك الضرورة الميثولوجية التي تركزت حول معرفة العائلة الجديدة بضرورة الاعتماد على أرواح أجدادها- أسلافها، فبدأت بممارسة إحضار جماجمهم إلى بيوتها الخاصة، ثم انتقلت لاحقاً إلى احداث مقابر خاصة لهم تحت مساطب تلك البيوت. بحيث شكلت ميثولوجيا عبادة جماجم الأسلاف نمطاً معتقدياً خاصاً ومميزاً. وبهذا تكمن إحدى المنعطفات الهامة جداً في تطور الجماعات البشرية، فهي لفتة حضارية هامة أسَّست للبنى الاجتماعية الأرقى لاحقاً.(1/46)
إن الترابط الميثولوجي بين نمط الحياة المعيشة لدى أسلافنا في المنطقة العربية، ورموز التعامل معها يحدد البنية الفكرية وآلية التوضع اللاحق للمنظومة السيكولوجية في التعامل مع الوسط المحيط ابتداءً من الحيوان= القربان= العدو= المدجَّن= الغذاء= الإله وانتهاء بالتجريد البعيد نحو المواقع الأولى للفكر " الفلسفي " في الرمزية والتخييل بما يتجاوز البعد الدلالي المباشر إلى ما هو رمزي أو مرجعي ليس بمنظومة الفرد، بل بمنظومة الجماعة وهذا ما يشي بقدرة ذلك الانسان على التعامل مع عناصر القوة المحيطة به، والتي يعتبرها مبثوثة أو مزروعة في عناصر أخرى أبعد ما تكون عن العامل الاقتصادي الذي يربط به غذاء الانسان الذي اعتمد على النباتات المدجّنة بشكل كثيف وعلى ما يصطاده من حيوانات. فتتبادل في ذلك نوازع الخوف مع الطموح لامتلاك القوة والانطلاق عبر أبعاد نفسية وروحية متداخلة إلى السيطرة على الرمز، بحيث تتحدد العلاقة بدايةً بواقع فكري روحي أكثر من ارتباطها بالعامل الاقتصادي- الذي سيطر في الأنماط اللاحقة- تمثلت لاحقاً في بنية معتقدية اختلطت فيها حاجات الابداع والتمثل الفني مع الممارسة الطقوسية " الدينية " والاضاحي مع الحاجة الاقتصادية.وهنا تتجسد حالة الخلق والابداع في إنساننا- أسلافنا- الذين عاشوا قلقهم المبدع مقدماتٍ هامةً لمثيولوجيا سبّاقة لاحقة.(1/47)
فمنذ بدايات العصر الثيولويتي في تل المريبط على الفرات الأوسط في سورية، وفي المواقع الأخرى الممثلة للمرحلة النطوفية " لدينا الدلائل الواضحة على تقديس الثور البري، وذلك في وسط قروي مستقر يتيهأ للاعتماد على الزراعة في اقتصاده. ففي بعض البيوت التي تتميز ببنية معمارية خاصة " تشير إلى إفرادها كمقامات مقدسة" أقيمت مصاطب طينية عرض في وسطها وبشكل مقصود عدد من جماجم الثيران البرية بهيئتها الطبيعية ودون إضافات تزيينية فنية، وتشكل هذه الجماجم مع ألواح كتف معزوزة بشكل أفقي، تكويناً متماسكاً معروضاً للناظرين دفعة واحدة. وفي إحدى الحالات كان رأس الثور مفككاً إلى قطع معروضة في صفوف، إضافة إلى القرنين الكبيرين، اللذين تم عرضهما على التوازي. إن هذه الترتيبات المقصودة التي لاتنبى عن قيمة استعمالية معينة والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل العظمي الحيواني، تعكس ولاشك مدلولات أيديولوجية معينة (22) متعددة الدوافع خصوصاً إذا عرفت بأن ذلك لم يكن حصراً على الثور في منطقة تواجد فيها، بل في مناطق أخرى كانت الفصيلة البقرية نادرة فيها، وفي مناطق تدخل فيها الابل والغزال، لم يكن مصدراً غذائياً لندرته. لكننا وإن وقفنا مع جاك كوفان في تقديمه للعامل النفسي في تحديد الأرضية الميثولوجية لذلك الموقف الأيدلوجي الديني باتجاه خلق نوع من التحدي في علاقة التجاذب والجدل بين القوة والخوف، إلاَّ أننا لانستطيع رد المكونات الأولية لذلك المعتقد إلى ما هو خارج الأوضاع المادية والعلاقات الاقتصادية والطبقية المحيطة. وإلاَّ لكان من أهم المكتشفات وجود رموز لتمثلات غرائبية خارج القدرة التكوينية للتحليل والتركيب في الواقع القائم المحيط.
فلقد مثله الانسان بوضعية خاصة من القوة دفعته إلى تمثله من قبل إله الرعد والحرب في العصور التاريخية لما يملك من قدرة تدميرية جبارة تشع منه(23).(1/48)
فإذا كان الفن هو الحامل الابداعي للمنظومة المعرفية بما فيها من محتوىً مثيولوجي، وإذا أخذ في بعض نماذجه محاولاً للمقاربة بين السماء والأرض، بدفع هذه الأخيرة إلى الأعلى، بما يخص المراحل التالية من التاريخ الكتابي واللاكتابي، فهذا يعني أنه في تلك المرحلة المدروسة كان شكلاً من المقاربة بين الجسد الإنساني وذلك المجهول الذي يحمل من القوة الجبارة ما يجعله مستعصياً على الإلفة. تلك القوة التي تفقد كل رموزها بعد موت ذلك الحيوان، ليتحول إلى مادة للغذاء، وعظام جماجم، وقرون تشكل نموذج القهر والخوف في لبِّ مثيولوجية أبعد من التحديد المبسط للطوطمية. من هنا كانت العبقرية في أسبقيتها المشرقية خلاَّقة أيضاً، أبعد من حدود التبسيط التي يحاول البعض ربطها بالتاريخ الكتابي المنسوب" وبالوثائق" أيضاً إلى أسلافنا العظام. وبهذا فقط نستطيع تفسير السبق الحضاري للتقديس المزدوج للثور والمرأة باعتبارها الربة الكبرى القادرة على الإخصاب والخلق بنمطية مجهولة لكنها في مقاربة المحسوس من اليد والعين.
إن التكوين السلالي المدرك في حالة تشكيل بنية النواة الانتاجية الأولية ومعنى الحياة المشتركة وما عناه ذلك من تجسيد مباشر بجماجم الأسلاف كمواد للعبادة مرتبط بشكل مباشر بترميز الربة الكبرى. وبناءً على ذلك استخدم الناس في بلاد الشام من آواخر الألف الثامن وحتى أواخر الألف السابع قبل الميلاد جزءاً من الهيكل العظمي، وهو الجمجمة ليجعلوا منها تشخيصاً حقيقياً للأموات في مساكن الأحياء.(1/49)
فالجماجم كانت حضوراً قدسياً" رمزياً" يعني القدرة على التواصل والتأصل والأصالة، فرسّخت مفهوم واقع النتاج الزراعي " وانتقال الملكية من شخص لآخر بالوراثة" (24) وطرحت مفهوم الاستمرارية الروحية للسلف عبر تجسيده بأحد رموزه " الجمجمة" ومامحاولات محاكاة الواقعية فيها من خلال استخدام القواقع والصدف لتحديد معالم العيون أو استخدام الخطوط البنية اللون للتعبير عن الشعر، إلاَّ إحياءً لمعالم وجه الميت طموحاً تشخيصياً لآلهة قائمة في روح ذلك السلف حيث اعتبرت متمركزة في رأسه وما يحتاجه الأحياء بذل ما يستطيعون من محاولات لابقاء تلك الروح بأحد رموزها موجودة في الآن القائم. فهو غير قادر على التعبير عن اكتشافه بأنه الخلف لذلك السلف إلاَّ عبر طقس ميثولوجي خاص ترسمه أيديولوجيا الانساب في تناسق ابداعي رفيع أبعد وإلى الأبد مرحلة الطوطمية من مسرح ميثولوجيا الشرق العربي " فالقطيع كان ملكاً لمجتمع القرية ومن الممكن انتقال ملكيته في الفترة التي عمت فيها الزراعة بكل نتائجها والتي تجلت في امتلاك الأرض وفي خلق قيمة لمساحات الأراضي من خلال استغلالها زراعياً وفي انتقال الملكية من شخص لآخر بالوراثة، نجد في الحضارة غير المادية لتلك الفترة آثاراً ملموسة لأيديولوجية الانسان. فكل شيء مرَّ وكأن البشرية وصلت إلى موقف أكثر فاعلية إزاء الطبيعة بحيث أعطت قيمة لنوعها. وذلك بأن جعلت عبادة أمواتها جزءاً من الحياة اليومية. يُضاف إلى ذلك ما سبق أن أثبتناه على صعيد محسوس وهو رسم معالم لحظات خيالية أو ترسيخ الوعي الساطع للصنف الشخصي الذي رأيناه يتسلق فكر وحضارة المزارعين الأوائل في التاريخ .. إنه شغل الرجل"(25).(1/50)
إن تقديس الأمومة وعبادة الثور من البوادر الفكرية الأولى الهامة للمجتمع الزراعي، ولذلك فقد قُدِّر لهذه العبادة أن تلازم بلدان الشرق القديمة آلاف السنين. ولاتقل أهمية الثور المقدس عن أهمية تلك التماثيل الأنثوية الصغيرة والمصنوعة من الطين المشوي" (26) ولكن عبادة الأسلاف ودخول ايديولوجية السلالة الميثولوجية أزاح الشقَّ الأول عن مسرح البنية الثقافية، فمن الجدير بالذكر أن هذا الطقس كان معروفاً أيضاً في وادي النيل وفي نفس المرحلة الزمنية الموازية في مريمدي " مصر" حيث ثبت ذلك وفسرت عملية دفن الموتى في البيوت على أن السكان القدماء كانوا يعتقدون أن أرواح موتاهم كانت تشاركهم موائد الطعام(27). وكما أسلفنا سابقاً، لم يكن ذلك معزولاً عن جملة التغيرات المناخية والبيئية التي شملت المنطقة العربية عموماً- في بلاد الشام كما شرحناه أعلاه، وفي بلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية ووادي ودلتا النيل، والصحراء العربية الكبرى" الليبية". فبعد أن أخذت الأمطار تقل تدريجياً، وأخذ الجفاف بالازدياد وشهدت هذه الفترة مولد نهر النيل بشكله الحالي... منذ الألف العاشر قبل الميلاد توازن البنى الحضارية الثقافية الجولانية للجماعات البشرية في المشرق العربي إلاَّ أنها كانت متوافقة في ارتقائها للسلم الحضاري.(1/51)
فالدكتور عبد العزيز عثمان يقترح انتقال الحضارة النطوفية التي نتحدث عنها من وادي النيل باتجاه بلاد الشام،" فاستمرت صناعة الأحجار الصغيرة الدقيقة ذات الأشكال الهندسية المختلفة التي كانت منتشرة في الفترة الآخيرة من الحضارة السبيلية وانتقلت من حلوان إلى فلسطين وتمثلت في الحضارة النطوفية" (28) لكنه يعود ويقول:" لقد كانت سورية في العصر الحجري النحاسي كما كانت في العصر الحجري الحديث المركز الحضاري الرئيس في الشرق الأدنى بأسره، ويرجح بعض العلماء أن معرفة النحاس قد انتشرت من سورية إلى جميع جهات الشرق الأدنى كمصر وبلاد الرافدين، كما أنهم يرجحون أن استعمال الخزف وتدجين القمح والشعير وبعض الأشجار كالتين والزيتون والكرمة وتدجين بعض الحيوانات الأهلية التي عثر على دمى لها مصنوعة من الطين كالثور والغنم والماعز والخنزير وبعض الطيور كالحمام، انتشرت من سورية إلى المناطق المجاورة.
وكانت مراكز حضارة هذا العصر تقع غالباً في أودية الأنهار وبعض السهول اللحقية، وتعتمد زراعتها على الري، وتشمل إلى جانب الحبوب والأشجار المذكورة سابقاً بعض أنواع الخضار كالبصل والثوم والخس والحمص والفول وغيرها" (29) ويعود باحثٌ آخر للإجابة على السؤال بمنحى آخر فيعتبر أن المصدر المبدع للخزف الملون كان في بلاد ما بين النهرين ومنه انتشر إلى المواقع الأخرى من الشرق العربي فيكتب فانديفر ب.ب:" ومنذ عام 5500 قبل الميلاد اكتشف الخزافون في شمال ما بين النهرين أنَّه يمكن التحكم بلون الصلصال المحروق، وذلك بضبط حرارة الفرن.." (30).(1/52)
لكن ما يتّفق عليه الجميع هو الوحدة الحضارية المتكاملة للمنطقة العربية، بغض النظر عن الحركية الجولانية والتي تدخل هنا في عدد كبير من الاحتمالات، والتي لاتهم دراستنا بشيء، لكن مايهمنا هو ذلك التأسيس الواحد لبنية ثقافية واحدة على مساحة الوطن العربي، اكتفت في أحد جوانبها بالصقل الميثولوجي المتصاعد المتواصل، والذي لم يُعانِ من أيِّ انقطاع، انتقل من النماذج الأولى التي تحدثنا عنها، حيث كان الفرد جزءاً من جماعة يتفاعل مع عناصرها بإبداع الطفولة البشرية بمعناها الخلاّق وليس الساذج، بمعناها الترابطي التعاوني وليس الأناني العدواني، ذلك حين بدأ يميز الفروق المحسوسة بين الحلم والواقع، حيث بدأ يميز بين الحدث الواقعي والحدث الحلمي وما يعنيه ذلك من صفات خاصة تُداخلُ بين التخييل التركيبي والتحليل التخيلي. فاندفع يبحث عن قيمة الانسان كحالة مركزية ترسخت لاحقاً في البنى الفلسفية البسيطة بقيمها، وليس الساذجة. فاتكأ على علاقة الخصوبة بين المرأة القادرة على الانجاب والطبيعة القادرة على الخلق والتوالد، فقد عُثر في تل مريبط على رأس بشري منحوت من الحجر، ودمية امرأة من الطين هي الأولى من نوعها في العالم، حيث يظهر تقديس المرأة في هذا الوقت المبكر من التاريخ الانساني، كما تشير إلى نمط تفكير انسان ذلك العصر الذي ربط بين المرأة والطبيعة من حيث الخصوبة واستمرارية الوجود، فكان أول من عرف فن الرمز والتجريد. كما أثبتت حملة التنقيب والانقاذ الدولية لآثار بحيرة الأسد التي شملت مواقع حضارية على ضفتي الفرات في الجزيرة الشامية، وذلك في موقعي تل حبوبة وجبل عرودة أنَّ الإنسان في هذه المنطقة عرف الكتابة أيضاً بشكلها البدائي المبسط والذي تطور فيما بعد ليصبح الخط المسماري(31).(1/53)
وقد استدل روبرتسن سميث من لفظة" البطن"و" الفخذ" وأمثالهما على مرور العرب في دور الأمومة، وعلى أن القبائل كانت قد أخذت أنسابها القديمة وأسماءها من الأمومة ومن الطوطمية. ورأى أن كلمة البطن في الأصل كانت تعني معنىً آخر غير الذي يذهب إليه علماء الإنسان، ودليله على ذلك استعمال " رحم" (32) وكان يقصد بالجغرافية التاريخية للجزيرة العربية، أي الامتداد الجغرافي الطبيعي للهلال الخصيب. وهو ما يؤكد التوازي ليس في البنية التطورية التاريخية فقط بل وفي رموزها المثيولوجية بما يتوافق مع المرحلة التاريخية" الزمنية المدروسة".
فالقراءة النقدية الشريفة تدرك وبشكل حيادي طبيعة التداخل في البنية الديموغرافية، منذ المراحل المغرقة في القدم من التاريخ " الباليوليتي" فتبين من فحص الأدوات الحجرية المنسوبة إلى المراحل الباكرة من الباليوليث، في الجزيرة العربية أنها استوردت من فلسطين أو بلاد الشام لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عُثر عليها هناك(33). وتؤكد هذه الآثار أن الجزيرة العربية كانت مأهولة بالناس منذ المراحل الباليوليثية الباكرة. حتى الأدوات الصوانية التي اكتشفت في الربع الخالي وحضرموت.. هي من النوع الذي عُثر عليه في جنوب فلسطين(34).
ونلاحظ نفس المواصفات والعلامات المؤكدة للوحدة التاريخية والجغرافية، إذا اتجهنا شرقاً وشمالاً نحو البحرين " الديلم" فقد عثر في البحرين أيضاً على عدد من رؤوس حراب وسكاكين صنعت من الصخور الصوانية، قّدّر بعض الباحثين عمرها بما يترواح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة، وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ماعُثرَ عليه من هذه الأدوات أحجار سنَّت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض(35) ومن المثير للانتباه أن هذه الأدوات هي تالية للتدجين النباتي، ولايمكن أن تكون سابقة له.(1/54)
ويمكننا أن نضيف لما أثبتناه في بداية هذا الفصل التداخل الجغرافي(الترابط) والذي يفرض بالضرورة تواصلاً بشرياً موازاياً، بين الساحل الشرقي الافريقي المقابل لليمن ولحضرموت. وذلك بتأكيدنا حول قصة الجانب الشرقي- أصل الجنس البشري على دور وادي الخسيف في ظهور الإنسان العاقل الأول " بدراسة كوبنز"، وما يعنيه ذلك الترابط الجغرافي السابق قبل تشكل الممر المائي عبر مضيق باب المندب وما يعنيه ذلك التواصل اللاحق في الألوف الأولى من الباليوليث الأدنى، وهل يمكننا أن ننفي أن هناك أصلاً استمراراً جغرافياً للساحل المذكور مع الجانب الآسيوي." فمن الأدلة التي تثبت أن اتصال حضر موت بالسواحل الافريقية المقابلة كان قوياً ووثيقاً في العصور الباليوليثية، هو عثور المنقبين على فؤوس وعلى أدوات أخرى هي من صناعات افريقية، دليل على شدة العلاقات ومنبع توثقها بين افريقيا والسواحل العربية الجنوبية " (36) وهو ما يشير إلى التأسيس الانتروبولوجي اللاحق لوادي النيل، وما يعنيه ذلك التأسيس من رموز ميثولوجية وطقسية واحدة،" فعثر على كهوف من العصور الباليوليثية، وقد صورت على جدرانها صور حيوانات وصور الشمس والهلال، وذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي" يبعث " ووادي " عرقه" وهي تشبه في أهميتها من ناحية الدراسة الأثرية الصور المتقدمة التي عُثر عليها في " كلوة" في الأردن.
وجميعنا يدرك دور الشمس في المظاهرات التالية لمثيلوجية المنطقة العربية من جزيرة الديلم شرقاً وحتى السواحل العربية الافريقية الشمالية وبنفس الدور والأهمية ينخرط الآله القمر. وقد شكلا بنيةً مثيولوجية متتالية متصاعدة سنعرج على بعض جوانبها بالتفصيل لاحقاً.(1/55)
ومن هذا نستنتج أن منطقة الشرق العربي تميزت بسبقٍ مهم على كل مستويات التسلسل الزمني الباليوليثي بسويّاته الثلاث وصولاً إلى العصر النيوليتي والذي كتبت عنه مجلة" العلم والحياة" العدد الرابع 1991 (37)، بأن الشرق العربي، هو مهد الثورة النيوليتية، وبدراسة تجمع آراء العديد من الباحثين الآثاريين لمراحل ما قبل التاريخ كتبت تقول بأن العصر النيوليتي في الشرق العربي مذهل حقاً، بل يستحق صفة" الثورة " عن جدارة واستحقاق. ولكن هل كانت ثورة بيئوية، أم مادية، أم ثقافية؟ وقبل أن ننتقل للإجابة التي أوردها المصدر المذكور، لابد أن نشير إلى أن السياق العام المتعدد المستويات الذي تحدثنا عنه، بما يخص التطور الانتربولوجي المعرفي في توصفاته الميثولوجية الأولى، يؤكد أن الثورة الثقافية والتي كانت المظهر الأناسي المعرفي للتطور البيئي- المادي، ما كانت لتحدث كقفزة في الفراغ بدون التطور المادي البيئي" والبنى التحتية ذات الصيرورة المادية- البيئية. ويؤكد البحث المذكور أعلاه بأن الشرق العربي، هو مهد" الثورة " النيوليتية، وكلمة المهد المستخدمة بالدراسة، توحي بالوحدة الجغرافية للسيرورة، في حين شهدت مناطق أخرى عديدة من العالم تحولاً من النمط نفسه وبالمقابل، الشرق العربي هو أبكر مناطق العالم نضوجاً: لقد انطلقت سيرورة تحوّل الصيادين - القطافين إلى مزارعين- مربي حيوانات، واكتملت هنا في وقت مبكر لم تجاره في بكوريته أية منطقة أخرى(38).(1/56)
لقد استمرت الحركة النيوليتية الطويلة أكثر من أربعة آلاف عام، وخلال هذه المدة غيرت الجماعات البشرية وعدلت، بالتدريج، في سلوكياتها، فاستبدلت الحركية الضرورية لاقتفاء أثر الطرائد والنباتات البرية، لدى الجماعة، بالاستقرار المتدرج في الوقت نفسه والمواقع ذاتها. وانتصبت مكان التخييمات" الفصلية والمآوي الخفيفة والعابرة، أولى القرى التي ضمت أكواخاً ذات هياكل أقوى، تُسكن على مدار العام، وقد تمثلت هذه المرحلة بـ Les NOTOUFINES الذين استقروا في بلاد المشرق العربي منذ الألف العاشر قبل الميلاد، وشكلوا بذلك، الجماعات الحضرية الأولى في التاريخ والتي انبثقت فيها المعالجات التي قادت مع بداية الألف الثامن قبل الميلاد إلى أولى التجارب الزراعية النوعية بعد أن " استغلت" لفترات طويلة في عملية تدجين تمهيدية وظهرت بشكل نوعي الزروع الأولى " القمح والشعير والشيلم" وأولى القطانيات " الجلبان والفول" بشكلها الداجن النوعي. وهذا عنى من الناحية الذهنية التعامل بطرائق عقلية خاصة، قادرة على التحليل والتركيب والتجريب والتجريد بحدوده وعلاماته البيّنة، رغم نمذجتها الأولية والتي أفضت بالتالي إلى التجديد الجوهري بهيمنته التدريجية على الطبيعة المحيطة.(1/57)
فالتحكم بموقع الحقل، وبجودة المحصول وكميته أدى إلى رؤية خاصة لقوة العمل ومدته، وارتباط ذلك ببنية الانسان القادر على التعامل مع محيط أكثر تعقيداً أدى بالضرورة إلى تطور أناسي معرفي انتقل بمقدرات الانسان في المشرق العربي إلى حالة تجريد الظاهرة لضرورة معالجتها. فالاستقرار الموقعي المرتبط بما سبق أدى إلى التآلف التدريجي مع بعض الأنواع القطيعية التي كانت محط صيد متميز " الماعز، والخراف والبقريات" بحيث تم الحفاظ عليها قريبة من مواقع العيش قبل الانتقال إلى تدجينها والتحكم بتكاثرها. وهكذا حددت الآلاف الثلاثة (10,000-7000ق.م) المميزة للثورة النيوليتية في منطقة الشرق العربي، معالم هامة لظاهرة ضخمة وحيوية ونوعية. فعلى المستوى التقني طورت صناعة حجرية أساسية قوامها أدوات صغيرة ودقيقة الأبعاد جداً، واستبدلت هذه الآخيرة بأدوات جديدة، يوحي شكلها مباشرة بمجال وظيفتها، كرؤوس السهام، وأنصال المناجل، مع أسنان وبدونها، وظهرت تقنية صقل الحجارة التي أتاحت لقاء عمل مسبق وأطول مدة مرة أخرى استغلال مواد أكثر صلابة، وبالتالي أكثر استمرارية وخدمة من الصوان المشذب التقليدي:
الفؤوس، والبليطات المعقوفة المقاطع، والمجارف المصقولة تكاثرت نحو 7500 ق.م. وكانت هذه التقنية نقطة انطلاق لأشياء جديدة كالأوعية أو الأطباق الحجرية وأدوات الزينة والأساور. وظهرت في نفس الفترة مواد مبتكرة نتيجة التكليس كالجير والجص، من ثم إعادة تمييه الحجر الكلسي أو الجبس، وبعد ظهورها في بداية الألف الثامن راج استعمالها في البناء " لياسة الجدران، وفصل الأراضي." وفي صناعة الآنية (39). ومع بداية الألف السادس قبل الميلاد استبدلت هذه المواد بابتكار آخر أي السيراميك " الفخار"/ تربة مقولبة قبل الشيّ. وروفق ذلك بابتكار فن العمارة ابتداءً من الكوخ الصخري، فالبيت ذي الجدار الدائري، فالبيت ذي الجدار المضلع القابل للتوسع كما تحدثنا أعلاه.(1/58)
" فإذا تمسكنا بالأدلة الناتجة عن تحليل العمارة فإن فرضيات جديدة ستنضم إلى الضرورات التي تفرضها البيئة، وفي الحقيقة سنميل إلى تثبيت الاعتقاد المسبق بوجود درجة من درجات التنظيم الاجتماعي، أتاحت للجماعات البشرية، كما في الألف الثامن، أن تتكاثر وينمو عددها محلياً فالانتظام المتراص للمساكن على طول " الشوارع"/ في أبو هريرة وفي الرماد / دليل على وجود نمط جديد من ترابط النسيج القروي. كذلك فإن الدليل الضعيف حتى الآن على وجود مجاري وقنوات للمياه في بقرص يمكن أن يطرح أمامنا مسألة التوزيع البلدي للمياه، وهو وجه من أوجه التنظيم البلدي الذي أراد الأستاذ تشايلد أن يرى فيه نقطة الانطلاق نحو التمدن"(40).(1/59)
كانت تلك الأرضية الاقتصادية، نموذجاً خاصاً للرؤية التجريدية، في فصل المنظومة العقلية المتعافية في تعاملها مع حالات أكثر تعقيداً، بحيث ينتقل التدجين من كونه فعلاً تلقائياً تقوم به الجماعة بإدارة ما تنبته الطبيعة إلى فعلٍ قادر على ممارسة الفعل نفسه في منطقة لاتنبت تلك النباتات البرية، بحيث تنقل الحبوب من منطقة لتزرع في أخرى لم تكن مهيأة مسبقاً للنمو التلقائي" فموقع راس شمرة " أوغاريت " يقدم لنا الشواهد الأولى على الاستقرار الزراعي في منطقة لاتنبت الحبوب البرية فيها " (41) منذ الألف الثامن، وهذا يعني وجود التصوّر/ النموذج لاستنبات المحاصيل ورعايتها خارج مواقع تواجدها التلقائي، مما حدا بالجماعات البشرية في المشرق العربي إلى الطموح لاختيار مواقع معيشة أكثر تلاؤماً مع الظروف البيئية ليس الطبيعية فقط بل والانسانية في معانيها الأرقى" فقد رأينا أن هجرة الموطن كما في حوض الفرات، في المريبط، لم تكن تعني هجر المنطقة نفسها، ففي الوقت الذي هجرت فيه المريبط نشأت في نهاية الألف السابع ثلاث قرى جديدة إلى الجنوب من الخط المطري الحالي البالغ 200 مم، وهي ابو هريرة وبقرص على الفرات والكوم في حوض تدمر" (42)، وذلك لم يميز فقط منطقة المشرق العربي، بل امتد ليصل إلى المغرب العربي، وذلك بالتوازي والتوافق الحاصل في البنية التقنية والسوية الحضارية لكلٍ من الحضارة النطوفية " والتي تحدثنا عن علاقتها بما يوازيها في وادي النيل" والحضارة القفصية، وبما عناه ذلك من بنية مثيولوجية كانت تشكل جوهر التوصفات اللاحقة في تطور البنى والمظاهر الطقوسية برموزها المتعددة. فالطيب تيزيني يؤكد على ذلك في كتابه الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى حيث يقول :" فلقد اكتشف العلماء الآثاريون معبداً لعله الأقدم من نوعه، وذلك في حضارة أريحا في فلسطين. أما تاريخه فيعود إلى ماقبل الألف السابع قبل الميلاد.(1/60)
في هذا المعبد وجدت أنصاب وتماثيل لعدد من الحيوانات الأهلية " أغنام وماعز وأبقار وخنازير" إضافة إلى شكل لعضو الرجل الجنسي. وقد جعل هذا الاكتشاف وليم أولبرايت يصل إلى الاعتقاد بأن أقوام العصر النطوفي الذين عاشوا في تلك الفترة التاريخية البعيدة، في كنعان كانوا من عبدة العضو الجنسي. والأمر هذا نفسه نتبين تعبيرات أخرى له في الحضارة القفصية في تونس"(43).(1/61)
وبالعودة إلى بلاد الرافدين فلقد " وجدوا بقايا حضارة مختلفة تماماً عن حضارة أور على عمق ستة عشر قدماً من مستوى سطح أور التي عاشت حوالي 2700 ق.م لقد وجدوا مدينة ذات منازل من الآجر حسنة البناء عمرها ستة ألاف سنة. وعرف وولي أنه اكتشف أقدم حضارة على الأرض" (44). وبحديثه عن البنية المثيولوجية لتلك الجماعة البشرية يقول ليونارد وولي: " وكانوا يلقون الميت في قبره على أحد جانبيه ويجمعون ركبتيه إلى صدره، بدعوى أن الانسان يأتي إلى الدنيا بهذا الشكل وعليه أن يغادرها على هذا النحو أيضاً: وكانوا يعتقدون أن الموت عبارة عن انتقال إلى عالم آخر، ولذلك تراهم يضعون إلى جانب الميت أواني الأطعمة ووسائل الزينة وغيرها من الأدوات البسيطة التي يحتاج إليها الفرد في حياته الاعتيادية، وذلك مما يدلنا على اعتقادهم بعودة الروح إلى الجسم، وحينئذ يحتاج الميت إلى ماوضع بجانبه"(45) لكن هل كان ذلك نتيجةً لعدم قدرة الانسان على الفصل بين الحلم والواقع، بحيث كانت تتردد في أحلامه وجوه أسلافه وأترابه المتوفين بشكلها الحي بحيث لايستطيع تمييز ذلك عن واقعة الموت؟ أم كان نتيجة لبنية مثيولوجية كاملة تتوضع بالإيمان اللاهوتي ببعث الميت حياً في زمنٍ لاحق؟ أم كان متوضعاً في بداية ادراك الانسان لمعنى الموت وما يتركه في النفوس من خوف يستدعي الايمان بالانبعاث كمخرج حتمي من هذا المصير؟ سنأتي على ذلك لاحقاً مع الاستمرار بالقراءة الانتروبولوجية المعرفية لتطور الميثولوجيا العربية في صعودها اللاحق.
(
هوامش الفصل الثاني
(1) يان ايلينيك -الفن عند الانسان البدائي- ترجمة د. جمال الدين الخضور دار الحصاد دمشق ص 279
(2) كوبنز. ي مجلة العلوم المجلد11 - العدد 2 شباط 1995 ص12.
(3) هيوتن د. أ، وودوك ج. م- تغير مناخ الكرة الأرضية - مجلة العلوم المجلد 6 العدد 22 تشرين الثاني 1989 ص 11
((1/62)
4) فراس السواح - دين الإنسان ص 124، دار علاء الدين دمشق ط 1 -1994
(5) فاندرميرش وبار- يوسف. الإنسان الحديث في الشرق - مجلة العلوم المجلد 11- العدد -1- " يناير" كانون الثاني - 1995 ص30
(6) المصدر نفسه ص31
(7) المصدر نفسه ص 32
(8) المصدر نفسه ص 31
(9) فراس السواح - دين الإنسان ص 124
(10) فاندرميرش وبار -يوسف -الإنسان الحديث في بلاد الشرق -مجلد 11-1 كانون الثاني 1995
(11) المصدر نفسه
(12) فراس السواح - دين الانسان ص 129
(13) يان ايلينيك - نفس المعطيات السابقة ص 306.
( 14) المصدر نفسه.ص 307
(15) مور أ.م.ت - قرية زراعية سورية مع نهر الفرات سبقت العصر الحجري الحديث- مجلة العلوم المجلد 6- العدد-10 تشرين الأول- 1989.-نشرت الدراسة في Scintific American August (1979)
(16) جاك كوفان - الوحدة الحضارية في بلاد الشام بين الألفين التاسع والسابع قبل المبلاد، ت، قاسم طوير ط 1984 ص8
(17) المصدر نفسه ص21
(18) يان ايلينيك ص 241 وص 246- 247
(19) جاك كوفان ص115
(20) المصدر نفسه ص08
(21) المصدر نفسه
(22) المصدر نفسه 141- 149 -وفراس السواح دين الانسان ص 163- 164.
(23) جاك كوفان هامش ص 149
(24) جاك كوفان ص 170
(25) جاك كوفان ص 170
(26) أنطون موتكارت، تاريخ الشرق القديم، بدون دار النشر، ج1، تعريب توفيق سليمان وعلي أبو عساف وقاسم طوير - ص 23-24
(27) أنطون موتكارت ص19
(28) د. عبد العزيز عثمان تاريخ الشرق القديم ص 395، ج1
( 30) فاند يفرب.ب- طليات الخزف القديمة -مجلة العلوم، المجلد 9- العددان "29" يناير- فبراير- 1993.
(31) محمد وحيد خياطة -مجلة الفكر العربي ص 41 العدد 52
(32) جواد علي. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، ط2 1978، ج1 ص 523
(33) جواد علي المصدر السابق، ج1 -ص530 عنGeorge Journal Vol
(34) المصدر السابق ص 537.
(35) د. جواد علي المصدر السابق، ج1 ص534
((1/63)
36) د. جواد علي، المصدر السابق ص531
(37) ترجمة محمد دنيا- - عندما انطلق العالم من الشرق " الأوسط"، مجلة المعرفة دمشق - العدد 368 أيار- مايو 1994 نقلاً عن مجلة " العلم والحياة" العدد الرابع لعام 1991
(38) المصدر السابق ص 202
(39) المصدر السابق ص 204
(40) جاك كوفان ص 108
(41) جاك كوفان ص 107
(42) جاك كوفان ص107
(43) الطيب تيزيني، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، دار دمشق، ط1 1982 ص409
(44) المصدر السابق ص 91
(45) السر ليونارد وولي وادي الرافدين مهد الحضارة - تعريب أحمد عبد الباقي مكتبة المثنى ببغداد ط1 1948 ص18.
(((
الفصل الثالث:
الحراك الجغرافي الأناسي العروبي-
مع فجر التاريخ
نستنتنج مما سبق أن إنسان المشرق العربي بدأ مع نهاية الألف السادس قبل الميلاد بالانتقال من:
1- وحدة الواقع والحلم.
2- وحدة الأرض والسماء.
3- وحدة القائم حالياً مع الخلف والسلف.
إلى:
1- التمييز بين الواقع والحلم.
2- فصل الأرض عن السماء.
3- التمييز بين ما هو قائم في " الموضوع" عن الخلف والسلف.(1/64)
لكن وبعد أن أثبتنا التوازي والتطابق في التطور، وحتى تلك الفترة، على كامل مساحة الوطن العربي والتي ضبطناها جغرافياً وحددناها ضمن دائرة البحث بالشرق العربي " الأدنى" / بلاد الشام وبلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية/ وبشمال افريقيا مضافاً إليه السودان كامتداد جغرافي وطبيعي وديمغرافي لوادي النيل والساحل الشرقي للبحر الأحمر وامتداده التالي في الساحل الصومالي مروراًبالقرن الافريقي، لابدَّ من المرور على الحركية الديمغرافية باحتمالاتها المفترضة وبالسياق التاريخي المفسر. برغم وجود احتمالات نظرية أخرى لطبيعة واتجاهات حركات جولات الكتل البشرية في المنطقة العربية المحددة أعلاه. فلقد " أكد عدد من مشاهير علماء الآثار أن الهجرات من جزيرة العرب لم تقتصر على سورية وفلسطين ولبنان / بلاد الشام/ والعراق، بل تعدتها إلى مصر أيضاً حيث يعتقد بأن جماعات نزحت من جزيرة العرب إلى وادي النيل واستقرت فيه في حدود الألف الرابع قبل الميلاد، فجاءت هذه الجماعات إلى مصر من بزرخ السويس أو من طريق جنوب الجزيرة عبر مضيق باب المندب"(1).(1/65)
وهنا لابد من التذكير بحقيقةٍ ثانية/ بالاضافة إلى الحقيقة الأولى التي أوردناها في الفصل السابق/ مفادها أن الامتداد العربي في القارة الافريقية هو أوسع في جغرافيته الطبيعية والديموغرافية مما هو عليه في آسيا ." فيذهب البعض إلى أن الهيكل المنضدي المصدوع الذي يمثل سواحل اليمن والحجاز- يظهر بشكل متشابه في سواحل أفريقيا فيما وراء البحر الأحمر، مما حدا بالجغرافيين إلى اعتبار شبه الجزيرة العربية جزءاً من القارة الافريقية يفصله عنها شبه انحراف "(2) كما يذهب البعض الآخر، إلى أن البحر الأحمر في عهود جيولوجية غابرة كان عبارة عن بحيرة مغلقة تتوضع بين القارتين الافريقية والآسيوية. أما الدراسات الحديثة لدى بعض المفكرين الافريقيين في غرب أفريقيا فترى أن القبائل العربية عبرت مضيق باب المندب من اليمن إلى شرق أفريقيا وعبرت القارة على طول خطوط العرض حتى استقرت في بلاد اليوربا، غربي نيجيريا، وفي السودان الغربي، وأوغلت جنوباً عن طريق بحر العرب والمحيط الهندي إلى زنجبار وشواطئ كينيا وتانجانيقا ومن هناك توغلت على خطوط العرض حتى عرفت جبال القمر وهضبة البحيرات وأكثر من هذا وصلت إلى تقسيم المياه بين نهري النيل والكونغو(3).(1/66)
إن الأخذ بهذه المقولة يبدو سليماً من الناحية العلمية خصوصاً إذا أدركنا طبيعة الحركية الديمغرافية مع الظروف والشروط البيئية والطبيعية. وقيام الحضارات الأولى في المناطق الزراعية المستقرة نسبياً مع بقاء حركة الجولان في مناطق الرعي والصحراء مفتوحة على احتمالات عديدة ومتشعبة. بحيث لم تكن الجزيرة العربية أشبه بكأس ماء على حد وصف المستشرق غوستاف لوبن كلما زدنا امتلاء الكأس فاض الماء عن الكأس وسال عن أطرافه إلى مالانهاية. ففي العصور الماقبل تاريخية تذهب الدراسات إلى أن " هجرات "- لأسباب مختلفة - تمت بين مناطق الوطن العربي وحتى فجر التاريخ، ولم تكن الحضارات التي نشأت إلاَّ نتيجة امتزاج جديد بين العناصر العروبية ذات النشأة الواحدة بعد أن تفرقت وعادت لتلتئم.فحضارة وادي النيل العظيمة نمت وتطورت بتدفق الهجرات من جانبي الوادي، من الصحراء الليبية غرباً، ومن صحراء الجزيرة اللتين كانتا غزيرتي المياه مناسبتين للحياة من جهة، وتجفيف المساحات الشاسعة من مجرى النيل الذي كان مجرد مستنقعات، بحيث صار من الممكن العيش فيه من جهة أخرى. وتكونت " مملكتان " في الشمال والجنوب من الوادي حتى تم توحيدهما أواخر الألف الرابع ق.م. وتكوين التاريخ المكتوب لحضارة مصر القديمة (4). واستمرت الهجرات من الصحراء الليبية حتى بعد ذلك. في نفس الوقت الذي دفعت فيه الجزيرة هي الأخرى بموجات اتجهت هنا وهناك. فإلى مصر عن طريق عبور البحر الأحمر وصلت مجموعات كونت دولة الصعيد. "وما يؤكد ذلك أن البلاد المعروفة اليوم باسم " اثيوبيا" لم تُعرف عند العرب- قبل الاسلام وبعده- بغير اسم الحبشة ومن التمسية العربية أخذ الأوربيون تسميتهم للبلادAbyssinia والتسمية " الحبشة" نسبة إلى قبيلة " حبشت" التي قدمت من اليمن / مهرة بحضرموت/ أو تهامة اليمن. ويمكن القول إجمالاً إن الجنس الغالب في الحبشة شبيه عرقياً بسكان جنوب الجزيرة العربية.(1/67)
بل إن تاريخ الحبشة يبدأ في الجزيرة العربية. وكانت الحبشة- عبر تاريخها الطويل- جسراً بين قارتي آسيا وافريقيا. وكثير من سكانها قدموا من الجزيرة العربية منذ زمن بعيد عبر مضيق باب المندب الذي لايتجاوز عرضه- حالياً- عشرين ميلاً" (5) والمتفحّص لتسمية الأماكن والأنهار والتضاريس منذ فجر التاريخ وحتى الآن، يدركُ أن الحبشة كانت العتبة التي وطأتها أقدام العرب في انتقالهم اللامتقطع باتجاه القسم العربي من افريقيا، فيكتشف أن أسماء تلك الأماكن في الجانب الافريقي من أصل يمني مثل: سبأ، سَحرت، هَوزن، سراة، مأرب(6)... وهي بالتأكيد أسماء نقلها المهاجرون من وطنهم الأصلي إلى حيث استقروا.(بالنسبة للتطابق في الأثر اللغوي والميثولوجي والديني فسيرد في فصوله الموافقة) "ففي عام 1681 أعرب هيبوب لودولف عن وجهة نظره بأن حضارات الحبشة يمكن ارجاعها إلى مهاجرين قدموا من اليمن، استناداً إلى التشابه بين لغة البلدين ووجود عناصر مشتركة في دياناتهما وعاداتهما القديمة، والتشابه في الملامح والهيئة.. وأشار لودولف على وجه الخصوص إلى أقوال الجغرافيين القدامى. فقد أورد أحدهم - ستيفانوس البيزنطي- فقرة من" العربيةArabic من تأليف أورانيوس عرَّف فيها الأحباش بأنهم من أصل عربي قدموا من اقليم يقع وراء سبأ وحضرموت. وأعرب لودولف عن اعتقاده بأن اسمهم لابد وأن يُخفي اسم الأجداد العرب للأحباش. إلاَّ أنه لم يتمكن من تحديد الموضع الذي قدموا منه من اليمن، ويبدو أنه حسبهم قدموا من تهامة على ساحل اليمن. كما أنه لم يتوصل إلى تحديد هجرتهم من اليمن واكتفى بالقول إنها هجرة قديمة منذ ماقبل ميلاد المسيح. والأصول العربية للثقافة الحبشية أخذت طابع الحقيقة المسلّم بها بعد أن قام النمساوي د. هـ.(1/68)
ملر سنة 1893 بنشر قطع من سبعة نقوش كتبت بحروف جنوب الجزيرة العربية " المسند" عُثر عليها في بلدة يحا Yaha على بعد خمسين كيلو متراً شرقي أكسوم على الطريق المؤدية إلى ميناء أووليس " عدولي" القديم (7). وعندما درس جليسر القضية سنة 1895 رأى أن التسمية " حبشة- حبشت" منذ زمن عريق في القدم كانت تسمية عامة لكافة مزارعي وجامعي اللبّان، لافي جنوب الجزيرة العربية فحسب بل أيضاً في الصومال والحبشة واعتبرهم استمراراً ثقافياً واحداً، وبرر رأيه بورود الكلمة" ألف مضة" حبستي في النصوص الهيروغليفية القديمة وبالرجوع إلى المعنى الأصلى للفعل العربي " حبش" وهو" جمع(8) ولا أعتقد من ناحيتي بأن من الضرورة بمكان تذكير القارئ بأن جنوب الجزيرة العربية كان المصدر والمنتج الوحيد للبخور واللبان في كل نواحي العالم المعروف منذ ما قبل التاريخ وحتى المراحل التالية من الحضارات الجليلة.
وفي عام 1962 نشر الباحث الفرنسي دروز Drewes دراسة تحليلة للنصوص الحبشية في كتاب صدر في ليدن بعنوان" نقوش من الحبشة القديمة" ومن أهم النقاط التي أثارها تلك المتعلقة بهوية الشعب الذي أدخل ثقافة جنوب الجزيرة العربية إلى الحبشة، وبالتالي أصبح مقبولاً بأن حبشت كانت في الأصل قبيلة من جنوب الجزيرة العربية عبرت في وقت مبكر- قبل القرن الخامس قبل الميلاد بزمن طويل- البحر الأحمر واستقرت بادئ الأمر على ساحل أرتيريا " سهل سمهر" وتسربت تدريجياً إلى أقاليم المرتفعات في الداخل الحبشي حول يحا وأكسوم(9).(1/69)
"أما المستشرق الايطالي كونتي روسيني فيرى أن شعب الحبشة قدم إلى افريقيا من ساحل اليمن أو عسير/ مما يسهل لقربه عملية العبور إلى ساحل ارتيريا. وهو يرى أن أحد المواطن الرئيسية لحبشت كان بمقاطعة سحرمّان القديمة"وفي هذا المنطقة يوجد جبلان يحمل أحدهما اسم" حبش " ويحمل الجبل الآخر اسم" جيش" وعلى وجه التحديد على مقربة من لحيّة حوالي سبعين كيلومتراً شمال غربي الحديدة، مابين وادي بيش ووادي سردود. كما يرى روسيني أن مقاطعتي سحرت وهوزين في اقليم تيجري شمال الحبشة تقابلان سحرتان وهوزن في اليمن .
ويفترض روسيني أن بعض هؤلاء الحبشت كان قد هاجر قبل القرن السادس قبل الميلاد إلى الحبشة حيث قامت على يديه أولاً حضارة مركزها يحا، ثم حضارة أكسوم، ولكن بعضهم بقي في موطنه الأصلي وظل يحتفظ بعلاقات تجارية وسياسية مع النازحين(10).
[ وهكذا أدخل المهاجرون عبر موجاتهم المتتالية منذ ما قبل التاريخ وحتى بداية الألف الأول قبل الميلاد إلى الساحل الافريقي من البحر الأحمر، لغتهم، وفن البناء بالحجر، والقراءة والكتابة وكانوا أول من أدخل الزراعة، ومن هناك توغلوا إلى عمق القارة الافريقية وجهاتها المتعددة.
أما المهاجرون من اليمن فلم يكونوا بدواً رحلاً، بل كانوا قوماً مزارعين مستقرين وأدخلوا إلى البلاد استعمال المعادن وأسلحة لم يسمع بمثلها قبل قدومهم وحيواناتٍ مدجّنة كالجمل والحصان والأغنام ومحاصيل وأساليب زراعية جديدة ونظماً راقية في الري والفلاحة وحلَّت من الناحية الأناسية المعرفية نظم المجتمع الأبوي والتنظيم الاقليمي والملكية الجماعية بدلاً من منظومة المجتمع الأمومي. يضاف إلى ذلك نظام الزراعة بالمصاطب على سفوح الجبال والسدود.(1/70)
ومما لاشك فيه أن العرب باصطحابهم المحراث- الذي لم يكن معروفاً في افريقيا السوداء كان هبة قيمة من هؤلاء الوافدين العرب كما اكتشفت البعثة الألمانية سنة 1905 في حفرياتها قرب أكسوم مجموعة كبيرة من الآثار هي عبارة عن عدد من الأعمدة والمسلاّت ليس منها سوى واحدة قائمة والباقي على الأرض ويبلغ طول المسلة القائمة 27م. ويبدو أن هذه المسلات كانت لأغراض دينية حينما كان السكان يعبدون الشمس وكان القرص في أعلى المسلّة- يمثل قرصها- وهو يرسل أشعة إلى جميع الجهات. كما عثر عام 1953-1954 في أزبي ديرا في أقصى شرق هضبة تتجري على تمثال حجري لملك يرتدي رداءً ثميناً مزيناً، وهو جالس على كرسي، وعند قدم التمثال كتابة بالسبئية. كما اكتشف في مدينة أفا "Ava"/تحا/ حالياً" معبد للاله شمس. ويبدو أن تحاكانت المدينة الرئيسية في المملكة التي سبقت مملكة اكسوم. واكتشفت فيها في السنوات الأخيرة أوانٍ فخارية جيدة الصنع وقناديل ومصنوعات من البرونز وحراب وفؤوس ومناجل وبعض الأختام، وأقدم المباني التي عثر على بقايا مهمة منها في هضبة الحبشة شديد الشبه ليس فقط مع أطلال المباني في جنوب الجزيرة العربية بل مع مباني العصر في تلك المنطقة ولاغرابة في ذلك إذ أنها معابد أقامها القاطنون العرب من جنوب الجزيرة العربية للالهة التي كانوا يعبدونها. وأقدم هذه المعابد معروف في يحا جنوب شرق عدوة. وهو مبني من كتل صخرية كبيرة يشبه مباني مأرب أما المعبد الآخر المهم وهو أقدم من سابقه بكثير فيعرف باسم ميلازو ويتبين طابعه الديني من هدايا النذور ومعظمها تماثيل صغيرة لماشية. بينما تدل اللوحات الحجرية المنقوشة على أن المعبد كان مكرساً للاله القمر] (12) ومن المعروف دور موقع الإله قمر " سين" كأقدم إله في المنظومة الثيولوجية العربية ليس فقط في جنوب الجزيرة العربية،كما سنرى لاحقاً، بل في عموم أصقاع الوطن العربي.(1/71)
ومنطقة ميلازو المذكورة غنية بالتماثيل التي تعود إلى فترة جنوب الجزيرة العربية. فثمة تمثال صغير لرجلٍ يرتدي عباءة فضفاضة وعلى الجانب الأيمن من القاعدة يرد اسم علم مذكور مكتوب بالسبئية. وهناك تمثال صغير لامرأة جالسة وعلى القاعدة نقش اسم من جنوب الجزيرة العربية " كنعان" ولهذا الاسم أهمية خاصة تاريخية وأنتروبولوجية معرفية من حيث الحركة الديموجغرافية لهذا الاسم باتجاه الخليج العربي، من ثم لاحقاً باتجاه بلاد الشام، ومن هناك باتجاه الساحل الشمالي لافريقيا.
" كما عثر على كثير من مذابح حرق البخور، ومعظمها ينتمي إلى الأنماط المعروفة في جنوب الجزيرة العربية. وتشير العلامات على هذه المذابح إلى آلهة جنوب الجزيرة: هلال فوقه قرص" (13).
وهكذا نستنتج وبما لايدع مجالاً للشك بعد كل تلك الذخيرة من الوثائق أن الوحدة الأناسية بشكليها التاريخي والجغرافي " وسنأتي لاحقاً على شكلها اللغوي والثيولوجي والديني" بين شبه الجزيرة العربية والساحل الافريقي من البحر الأحمر تشكل البرهان الأكيد على أن أحد المنافذ الاساسية للهجرات التالية باتجاه وادي النيل كان من ناحية باب المندب، وهو مايتمم ما أتينا عليه سابقاً من الدور المؤسس لوادي الخسيف وامتداده في جنوب الجزيرة العربية قبل تشكل الممر المائي في باب المندب وبعده، في التطور الأناسي التالي للإثنية المعرفية " وليس العرقية العربية كمطلقٍ أكيد في انبعاث الحداثات التالية عبر مراحل الباليوليث والنيوليت وحتى الحضارات الجليلة.(1/72)
وبالانطلاق شمالاً نحو السودان/ الجزء الجنوبي من وادي النيل/ نلاحظ وبنفس المعطيات السابقة التي تحدثنا من خلالها حول الوحدة الاناسية الجغرافية- التاريخية للساحل الافريقي المقابل للساحل الاسيوي من ضفتي البحر الأحمر، نلاحظ بأن سكان السودان يمثلون خليطاً أيضاً يغلب عليه أؤلئك الذين وفدوا من جنوب الجزيرة العربية، من جانب، ومن الجانب الآخر أولئك الذين وفدوا عليه من الصحراء العربية الكبرى، بعد جملة التغيرات البيئية والجغرافية، حيث جفت الصحراوات العربية والليبية، وتجف كذلك تلك المستنقعات الشاسعة من مياه النيل ويتمدد- بشكل أفضل - مجراه ويصبح من الممكن زراعة أرضه واستغلال مياه النهر في الاستنبات، ويتدفق على الوادي سكان الصحراوين المهاجرين طلباً لمكان أنسب للحياة والاستقرار. فالتشكيل السكاني" الديموغرافي" الأول لما عرف بعد ذلك باسم " المصريين" في اساسه مرتكز على مهاجرين من شرق الوادي وغربه. وكان من الطبيعي أن يحمل القادمون إلى الوادي ثقافتهم ودياناتهم وأن تكون هذه الثقافة، بما فيها الدين، الأساس الذي بنيت عليه الحضارة المصرية(14).
ولقد كان من المستحيل ذلك، قبل انتهاء المراحل المتأخرة من العصر الجليدي الأخير، حيث لم يكن مجرى النهر قد أصبح قابلاً للحياة المستقرة، كما أن الصحراوين العربية والليبية كانتا قابلتين للحياة.
إذن تداخلت معنا ثلاثة شروط مترابطة فيما بينها:
1- الجفاف العظيم الذي حلَّ بالصحراء في شبه الجزيرة العربية، والصحراء العربية الليبية الكبرى وهذا ما كان قائماً في السنين القريبة من العصر الميزوليتي كما بينا ذلك في الفصل الأول من هذا الكتاب، حيث تؤكد كل المكتشفات " كما أسلفنا" على أنها كانت مناطق قريبة من البيئة المدارية.
2- جفاف المستنقعات التي كانت تغطي كل وادي النيل، والتي كان يستحيل بوجودها، التوضع الاستنباتي المستقر.(1/73)
3- حركية الهجرات التالية للعامل الأول مما دفع تلك الكتل من الشعب للانطلاق بحثاً عن مواقع للحياة أفضل قابلة للاستقرار ولاستنبات تلك المكتسبات الثقافية والتقنية في مواقع أفضل.
وإذا كان ما أكدناه وأثبتاه في بداية هذا الفصل يشكل الخزان البشري في جناحه الشرقي لوادي النيل فهذا لايمنع أيضاً من انبثاق الخزان الغربي باتجاه الشرق والشمال نحو الساحل المتوسطي.الأول وشكله تراكم الهجرات المغرقة في القدم، أو التواجد المتوازي المتطابق التاريخي الأناسي بين جنوب الجزيرة العربية والمنطقة الممتدة من القرن الافريقي وحتى أبعد نقطة من الساحل الأريتيري على البحر الأحمر مع تمركز هام في هضبة الحبشة ودفعته تلك التغيرات المناخية التالية إلى الاتجاه نحو وادي النيل." وهذه الوضعية تكتسب صيغة أكثر وضوحاً وتدعيماً، حينما نتبين التكوين اللغوي الرئيسي الذي هيمن في السودان القديم( والوسيط والحديث بمزيد من الوضوح) فهذا التكوين كان أصلاً وفرعاً من جذور ( من شبه الجزيرة العربية) لغوية، تبلورت هناك أكثر فأكثر باتجاه اللهجة أو اللغة " العربية". ويمكننا أن نورد مثالاً على ذلك بعض المفردات التي نواجهها في السودان/ المشابهة لما لمسناه في الساحل الاريتيري والهضبة الحبشية/ تلك هي:/ ابريم.. أم بقول درمان- أبو هرار- أم شنقة- أبو خراز- أبو دليق- بلل -بربر -باري- تنزه- الثيب- جبل تعلى- جنس- جبل شنقول- جبل الداير- حلفا- حنك- صلة تركبان- خندق- دبور- ور- ونقلة- وبة -ديكة- دارة - سواكن- سبوع- سمنة- سكوت - سبت- شكا- صلب- صنم- عمده- فرص- كلكل- كلابشة- كوبان- كاكا- كتم- واو"(1/74)
تلك المعطيات، وأخرى عديدة تاريخية واقتصادية وثقافية، تسمح لنا بأن نوسع دائرة بحثنا، بحيث تبرز السودان- أي معظم الشطر الجنوبي من وادي النيل- بصفتها أحد مظاهر المجتمعات الشرقية العربية القديمة. بل إن وادي النيل هنا، يمثل في شطريه، مستوى اقتصادياً ولغوياً وثقافياً متكاملاً بصورة أساسية، وذلك ضمن الوحدة التاريخية الاثنوغرافية والاثنولوجية للشعوب العربية(15).
" وإذا كان من المسلم به أن أسماء الأماكن واسماء الأشخاص إذا وجدت متفقة بين اقليمين في القديم فإنه برهان على وحدة هذين الاقليمين، فإن دراسة أسماء الأماكن والمواقع واسماء الأشخاص بين أقطار الوطن العربي تبين بشكل لايقبل النقض هذه الوحدة. بل إن دراسة عن أسماء القبائل الليبية القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد أثبتت بالقطع صلتها بقبائل عربية موازية لها، كما بنيت عن التسمية العربية لهذه القبائل بلغةٍ نفهمها اليوم.. ونظرة واحدة إلى خارطة الشمال الافريقي مثلاً ترينا كيف أن قبيلة ما- كالمشوش- نجدها في عصر في ما يسمى تونس اليوم، ثم نلقاها في الصحراء الشرقية من ليبيا بعد مدة من الزمان. وهذا ما هو حادث حتى يومنا الذي نحياه، إذ نجد قبيلة - كالفرجان مثلاً - في وسط الجماهيرية وهي ذاتها في موريتانية ونعثر على العبيدات في شرق الجماهيرية وهي كذلك في الأردن، والعنزة موجودة في ليبيا والكويت أو شمال الجزيرة (16) وحتى في كل بلاد الشام.(1/75)
وإذا كان باحث ما يتحدث عن طريق واحد للوصول إلى وادي النيل، كما يفعل كمال حسين مثلاً" بأن المصريين والسودانيين من أصل واحد، وأنهم جاءوا إلى وادي النيل من بلاد العرب ( الجزيرة العربية) عن طريق الصومال على ما تدل عليه البحوث والاستقراءات (17) أو كما يضيف باحث آخر بوجود الهجرة الليبية العظيمة (18) إلى وادي النيل من الناحية الغربية بالاضافة إلى الطريق الأولى، فإن فريقاً رابعاً، وهو محق أيضاً في أبحاثه واستناداته على وجود طريق رابع للحركية الجولانية الديموغرافية عبر سيناء، إلاَّ أن هناك باحثين آخرين يؤكدون وجود حركة جولانية انطلقت في أزمنة ما قبل التاريخ ومطلع الألف الرابع من وادي النيل باتجاه الشرق، كما يفعل الباحث القدير الدكتور سيد القمني في معظم أبحاثه. إلاَّ أن الجميع متفق على وجود حركية دائمة لم تتوقف بين الجماعات البشرية للشعب العربي وعبر مواقع تواجده كلها.(1/76)
وإذا كان من المسلم به أن الجزيرة العربية كانت" خزاناً بشرياً" كما هو الاستعمال الشائع يدفع بموجات الهجرة إلى مختلف الجهات في حقب متطاولة من التاريخ، فإن هذه الجزيرة ذاتها كانت " تستقبل" المهاجرين إليها من الشمال ومن الجنوب، بل ومن الغرب أيضاً. فالهجرات بين مناطق ما نعرفه اليوم بالوطن العربي كانت متبادلة باستمرار ولم تكن تنبع من منبع واحد، وذلك بحسب الظروف والعوامل البيئية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية المختلفة. وهذا يعني من الناحية الأناسية التاريخية أن قاطني هذا الموقع الجغرافي هم مجموعة بشرية واحدة نشأت حتماً في مكانٍ ما، جماعة صغيرة ثم نمت وتفرعت وكثرت. أو أنها مجموعات متناثرة كونتها نفس الشروط والظروف وتطابق المعطيات البيئية والاشراطات الأناسية بحيث تطورت بشكل متطابق ومتوازٍ من أقصى الوطن العربي شرقاً إلى أقصاه غرباً وعلى مسار عشرات الألوف من السنين بحيث أنتج وحدة أناسية وثقافية ولغوية ومعرفية واحدة/ كما أثبتنا ذلك في الفصل الأول/..." ومهما كان الأمر في المكان الذي نشأت فيه هذه الجماعة، ما بين الجزيرة العربية، وأرض الرافدين، والشمال الافريقي، وشرق أفريقيا أو وادي النيل" (19) أو أنها تطورت بشكل متطابق ومتوازٍ لتجد نفسها وفي المراحل المتأخرة من زمن ما قبل التاريخ تشكل وحدة أناسية واحدة" إلاَّ أنه من الثابت- بشكل قاطع- أن ثمة تشابهاً في المخلفات الأثرية الأولى ما بين أماكن ومواطن تبدو متباعدة مما يدل على امتزاج حضاري بدرجات متفاوتة تؤيده الكشوفات الأثرية يوماًبعد يوم، فحضارة وادي النيل في تكويناتها الأولى تؤكد ارتباطاً وثيقاً بينها وبين حضارة الصحراء الليبية من جهة وحضارة الجزيرة من جهة أخرى. والآثار الفخارية للانسان الحجري القديم في فلسطين " بلاد الشام" تبرز تشابهاً واضحاً مع نفس ذلك العصر في الجبل الأخضر، وهذا يدل على نوع وثيق من التواصل الحضاري(20).(1/77)
أما ما يخص المغرب العربي فلنا في ذلك وقفة كشبيهتها التي وقفناها مع الساحل الافريقي من البحر الأحمر وحتى القرن الافريقي / بداية هذا الفصل/ إذ لابد من التمييز بين ثلاث معطيات هامة تشكل التسلسل التاريخي للهجرات العربية إلى الشمال الافريقي من المغرب العربي، وهي: الهجرات الأولى في مراحل ما قبل التاريخ وبداية الألف الثالث والتي شكلت الهجرات الأمازيغية محورها الهام. وهجرات الفينيقيين في نهاية الألف الثاني ومطلع الألف الأول قبل الميلاد، من ثم المراحل الهامة من انتشار الرسالة الاسلامية.
فلقد أكدنا في الفصل الأول التطور المتطابق والموازي في البنية الاناسية المعرفية لحضارة المغرب العربي الماقبل تاريخية مع مثيلاتها في وادي النيل وبلاد الشام والجزيرة.ونكون بذلك وضمن المنهج الذي نتبعه قد حددنا واحداً من الجذور الأناسية التاريخية البعيدة لمنطقة عربية هامة راهنة. وإذا كنا سنخصص لاحقاً حقلاً خاصاً بالتاريخية الأناسية اللغوية للوطن العربي إلاَّ أننا لابد أن نعرّج في مقدمة طرحنا للموضوع باعتبار " البربر" كانوا يتكلمون لهجات ليبية يمتد أصلها البعيد إلى أصل اللهجات " اللغة" العربية في الشرق ." وهذا يشير إلى أننا غدونا في موضع تقصي الأصول البعيدة " للبربر" وإذا كان الأمر كذلك، فلابد من أن نأتي على الواقعة التاريخية التالية والتي أجمع المؤرخون على صحتها. تلك هي أن كلمة " بربري" لاتنطوي على أي مدلول عنصري أو لغوي أو ثقافي. إذ لم يطلق البربر على أنفسهم هذا الاسم، بل أخذوه من دون أن يروموا استعماله عن الرومان الذين كانوا يعتبرونهم أجانب عن حضارتهم وينعتونهم بالهمج Barbri ومنه استعمل العرب كلمة برابر وبرابرة-" مفرده بربري"/"(21).(1/78)
ويذكر عبد الرحمن بن محمد الجيلاني في تاريخ الجزائر العام- الجزء الأول بيروت 1965 ص 48 ما يلي حول لفظ بربري: إنما هو وضعي يراد به عند اليونان " صوت الالثغ" وهو كل إنسان أجنبي عنهم لايتكلم بلغتهم، ومن ثمة أطلقه اليونان أنفسهم على سكان هذا الوطن وعلى غيرهم ممن هو ليس يونانياً كأمة الطاليان فإنها كانت تسمى عندهم " برباريا" ويتابع بأن اللغة البربرية هي كغيرها من سائر لغات البشر ذات لهجات وصيغ مختلفة كما هو مشاهد من أهلها إلى الآن بين سكان القطر الجزائري والمراكشي، فهناك لهجة خاصة بزواة- بلاد القبائل- تختلف في بعض مصادرها عن لغة الشاوية وبني مصار " مزاب" وبني صالح بجبل البليدة والشلوح والتوارك..... الخ ولايزال اسم ( تماشغت )أو ( تمازغت) يطلق على جميعها بمعنى اللغة المازيقية. وكلها ترجع إلى جذر واحد يمت بصلة إلى اللغت العربية" الجزيرية" وعثر الباحثون من علماء الآثار على نقوش مكتوبة بالخط الحميري على صخور من دوباعه وثمود ومشهد ووادي ثقب هي قريبة الشبه جداً من نقوش الخط البربري الموجود بناحية الهغار من القطر الجزائري. وفي موقع آخر يكتب المؤلف تسمية نهر النيل مايلي:" كما تشهد لنا بذلك أيضاً كلمة " نيل" نفسها فهي تسمية بربرية اسوبية لامحالة سمي بها مجرى نهر مصر المشهور." ويذكر المؤلف في موقع آخر بحادثة شهيرة بأنهم " الأمازيغ" كما جاء في تصريحهم أمام الخليفة عمر بن الخطاب حينما ذهب إليه الوفد بعد فتح مصر فانتسبوا إلى مازيغ، وأنهم أصحاب البلاد الواقعة بين خليج " البحر الأحمر" والبحر المحيط ولم يقولوا له أنهم بربر"(22).(1/79)
"ولعل اللغة الليبية تعتبر من أهم مجالات المقارنة. فهي أم اللغة" البربرية" الأمازيغية ( تسمى الجبالية) والحكم في هذه الحالة لايمكن أن يكون إلاَّ لما يسمى" النقوش اللليبية " أو اللوبية Lybigue القديمة. ودراسة هذه النقوش مفيدة جداً، فهي لم تتعرَّب حسب منطقة بعض القوم !! وبالتالي فهي صافية خالصة. نظرة واحدة إلى أيٍّ منها توضح عروبية لغتها تماماً.
وحجر" مسنسن" الذي يتكون من ضربين من الكتابة واللغة " البونيتية" والليبية" ليس إلاَّ حجراً يحوي في لغتيه مفردات عربية " أو عروبية" لايرقى إليها الشك. وهكذا بقية النقوش التي كشفت في مايعرف اليوم باسم : ليبيا، تونس، الجزائر، والمغرب وما سوف يكتشف من نقوش يجب الاهتمام به اهتماماً جدياً وعرضها على محك الدراسة والمقارنة لاثبات عروبتها، وبالتالي دحض أي فكرة تشكيكية في عروبة الشمال الافريقي كله منذ عصور التاريخ الأولى وما قبلها، بما يعني ذلك وحدته الاثنية والثقافية واللغوية مع بقية أهل الوطن العربي القديم، وأنه لم يتعرب" فقط بعد الاسلام كما هي المقولة الخاطئة الشائعة. فتحليل الاسماء الليبية القديمة لقادة وردت أسماؤهم في النقوش المصرية من عصر " نارلر" وحتى عصر " مرنبتاح" و" رمسيس الثالث" يؤكد حيث تترجم هذه الاسماء بأن معانيها عربية خالصة العروبة. وهذا ما دفع استاذاً جليلاً مثل العالم الألماني " برغش" منذ أكثر من مائة عام إلى القول بأن أصول الاسرة الثانية والعشرين اللليبية " أسرة شيشنق" التي حكمت مصر أوائل الألف قبل الميلاد إلى ما يقرب من مائتي عام- هذه الاصول كانت" آشورية " لأن أسماء فراعينها تدل على ذلك. هذا أمر قد يبدو مدهشاً لكن التفسير المنطقي الوحيد المقبول ليس بالضرورة القول بأن فراعين الاسرة الثانية والعشرين جاؤوا مباشرةً من الرافدين، وإنما القول بوحدة أصل الليبيين والاشوريين وتمتعهم بنفس العناصر البنائية للتكوين الأناسي المعرفي(23).(1/80)
أما كيف بلغ العروبيون شمال أفريقيا، فهذا تم، على سبيل الترجيح، عن طريق أحد أمرين، أو عن طريقهما معاً: الهجرات البشرية العربية باتجاه الهلال الخصيب ووادي النيل وشمال افريقيا، والتأثر والتأثير الأناسي المعرفي بعوامله المتعددة " اللغوية والتقنية والثقافية والدينية وغيرها" بشكل مباشر وغير مباشر. فبالنسبة إلى هذا الأمر الآخير، لايستبعد أن تكون اللغة الجبالية " البربرية"( أخت لغة قدماء المصريين والليبيين وخصوصاً إذا ما اعتمدنا مقالة من يقول إن قدماء المصريين هم من سلالة سكان الجزائر ومراكش )(24).
ويبدو من الضرورة إعادة التذكير بوجهة نظر من قالوا بأن افريقيا هي موطن العروبيين الاصلي ضمن القراءة الانتربولوجية لتطور الانسان. وقد قال بذلك المستشرق نولوكد ومن بعده بارتون. وقد قال نولوكد برأيه ذلك انطلاقاً من التشابه الكبير بين لهجتي اللغة الواحدة غرب وشرق البحر الأحمر من التراب العربي." وبالتالي فإن الحديث عن شمال افريقي عربي لايبدأ مع دخول الفينيقيين مع نهاية الألف الثاني وبداية الألف الأول قبل الميلاد وإنما يعود إلى أزمنة أقدم بكثير، ولايختلف في عراقة قدمه الزمنية من الناحية الأناسية عن بقية أهله في المواقع الأخرى من أرض العرب،" وهذا يجعلنا ننظر إلى ذلك الجزء من الشعب العروبي الذي أطلق عليه لفظ " بربري" على أنه ينتمي إلى عائلة الشعب العربي.(1/81)
أما المرحلة التالية فهي التي تخص الهجرات الفينيقية والتي تمتد حركيتهم من الناحية الزمنية إلى مراحل ما قبل التاريخ، حيث كان موطنهم الاصلي في جنوب الجزيرة العربية وفي منطقة اليمن تحديداً، ولنفس الأسباب التي دفعت بالهجرات العروبية إلى مواقع أخرى، هاجر الفينيقيون إلى منطقة الخليج العربي واستوطنوا في / وقرب جزيرة الديلم" البحرين حالياً " ويعتقد العالم راكوزين أن الفينيقيين.الذين سكنوا الساحل الشامي كانوا قد قدموا من البحرين وقد تفرقوا إلى قبائل وتوزعوا في أقسام عديدة من سوريا وأطلق على أحد فروعهم اسم بنط أو بونا PUNE PUNT ودعاهم الإغريق بالفينيقيين والبونيون" الفينيقييون" كانوا شعباً تجارياً وقد هاجروا إلى الاماكن التي تزدهر فيها التجارة. كما سكنوا شمال افريقيا ومنهم القرطاجيون. على أن أهم فرع لهم سكن في بلاد اليمن وحول مضيق باب المندب ثم انتقل إلى السواحل الافريقية الشرقية واستوطن بلاد الصومال وسيطر على البحر الهندي والبحر الاحمر، ويعتقد المؤرخون بأن البونيين قبيلة من الكنعانيين استوطنت بلاد سوريا منذ أقدم الأزمان وما زالوا. فتذكر أن الملك سهورع من السلالة الخامسة كان يرسل السفن في البحر الأحمر إلى بلاد البنط وهي بلاد اليمن وسواحل الصومال وكانت هذه البلاد تُعرف ببلاد البخور والطيب. ولم تقتصر أهمية بلاد النبط على تصدير البخور بل كانت في تصدير الأشجار كذلك تغرسها أمام المعابد، كمعبد دير البحري. وقد صورت على جدرانه طريقة نقل هذه الأشجار من بلاد الصومال عبر البحر الأحمر، وظهر أمير بلاد الصومال وأميرته وهما يحييان بعثة الملكة حنشيسوت البحرية التي أرسلتها لاستقدام الاشجار والبخور، وقد صور الأمير والأميرة بهيأتهما الحقيقية حيث يظهر عليهما تأثير الجنس الأسود بوضوح، وهناك صلة وثيقة بين سكان النبط وبين سكان بلاد وادي النيل القدماء (25).(1/82)
ويرى المؤرخ هيرودوت أن موطن الفينيقيين الأصلي هو االبحر الاريتيري(26). أما مايؤكد هجرتهم باتجاه الخليج العربي فهو وجود نفس أسماء المواقع التي أطلقها الفينيقيون حيثما حلّوا فاسترابون يشير إلى أن سكان الخليج العربي أكدوا أنهم يسمون عندهم، باسم صيدا، صور، وأرواد، وأراد، وأن المعابد عندهم تشبه معابد الفينيقيين (27) والمؤرخ جوستان يصف الشعب الفينيقي بأنه مكوّن من الفينيقيين الذين نزحوا من بلادهم الاصلية حين أفزعتهم الزلازل.
وقد نزلوا أولاً على ضفاف الخليج العربي ثم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. وهنا بنوا مدينة سموها صيدا بسبب وفرة الصيد من السمك، والفينيقيون يسمون السمك صيدا (28).
وقد أشارت رسائل تل العمارنة إلى سكان الساحل الفينيقي باسم كناهي أو كناهوَن " كنعان"(Kinahn) وكلمة كنعان تعني في اللغة العربية القديمة" انخفض " وهي مشتقة من فعل " كنع" ويقصد بها الأرض المنخفضة هنا حيث انخفاض الساحل الفينيقي بالنسبة لجبال الساحل الشامي التي هي امتداد طبيعي لجبال طوروس. وبالتالي فالتسمية هنا هي عبارة عن مصطلح جغرافي.(1/83)
لذلك فإن التسمية كنعان أطلقت على الفينيقيين العرب في مرحلة من مراحل توضعهم الجغرافي تاريخياً على الساحل الشامي. ويقول بونفانت:" لقد اشتق اسم فينيقي من اليونانية Phoinix، أي أحمر أرجواني، ليشير إلى صناعة الأرجوان التي اشتهر بها الفينيقيون وبعد أن أطلق اليونان هذا الاسم على الكنعانيين الذين تاجروا معهم فإن كلمة فينيقي أصبحت حوالي 1200 ق.م مرادفة لكنعاني (29)، كما أشار بعض المؤرخين والنسّابين والأخباريين العرب إلى أن بعض العرب العماليق وصلوا إلى بلاد الشام، وكان منهم الجبابرة الذين دعوا بالكنعانيين(30). ومن الملفت للانتباه أن فينيكس تعني أيضاً طائر العنقاء، الطائر الأسطوري الذي يخرج من قلب الرماد، ونظراً لأهمية البخور واللبان في المراحل الزمنية المغرقة في القدم قبل التاريخ وحتى مراحل الحضارات العربية الجليلة، كان لابد من تكوين بنية مخيالية اسطورية قادرة علىحماية هذا المصدر الحياتي، فيورد بعض المؤرخين القدماء/ هيرودوت مثلاً في ج3/ أن طائر الفينيق كان يظهر عندما تمتد أي يد آثمة بهدف العبث أوسرقة البخور أو اللبان من موقع زراعته أو جمعه في جنوب الجزيرة العربية.(1/84)
وبفضل النتائج التي قدمتها بحوث سفينة الابحاث الميثيور الالمانية فإنَّ " أرضاً يابسة في قاع الخليج العربي تشكل امتدادا طبيعياً للبر العراقي تماماً مثلما يشكل الاخير الامتداد الارضي للحوضة الأولى السورية.ومن المرجح جداً أن ضفاف مجرى النهر الاصلي في قاع الخليج كانت موطناً لجماعات من صيادي الباليوليثي، وأن تكون الأراضي الرسوبية الخصبة المجاورة لها قد سكنت من قبل مزارعين- صيادين يشابهون في عيشهم وفي تطورهم نمط تطور جيرانهم النطوفيين " نسبة إلى وادي النطوف قرب أريحا/ مدينة القمر/ وتحدثنا باسهاب عن هذه الحضارات في الفصل السابق" سكان قرى المريبط وأبي هريرة وبقراص في حوض الفرات الأعلى. وقد يكتشف علم الاثار الغارقة تحت المياه فصلاً جديداً وهاماً من تاريخ منطقة متممة لما بين النهرين. إذ من المحتمل أن تكون مراكز الاستيطان الباكرة في الأراضي المنخفضة التي لانعرف حالياً اسمها والتي اقترح لتسميتها اصطلاح منطقة ما قبل الخليج كانت جزءاً من ثقافة كبيرة معاصرة انتشرت مراكزها في الجنوب الرافدي وجواره قبل الخليج Pre-Gulf Rejion قد شكلت المرحلة التحضيرية التي ستمهد لنشوء حضارات مدن الجنوب الرافدي المزدهرة اعتباراً من الألف الرابع قبل الميلاد.(1/85)
وهنالك احتمال آخر لايقل رجحاناً في أن منطقة ما قبل الخليج كانت جزءاً من ثقافة كبيرة معاصرة انتشرت مراكزها في الجنوب الرافدي وجواره قبل أن تجبر مياه البحر الصاعدة أهلها على الرحيل تدريجياً إلى مواطن جديدة هذا الاحتمال يؤكده عثور الآثاريين على فخاريات العبيد في /32/ موقعاً أثرياً على شواطئ شبه الجزيرة العربية الشرقية مقابل جزيرة البحرين، كما وعلى مبعدة /65كم/ إلى الداخل (31) " بحيث نستطيع أن نتخيل الآن ما كان عليه واقع بيئة منطقة ما قبل الخليج العربي قبل بداية العصر الدفيء الحديث، باعتبارها كانت تشكل منطقة متكاملة متجانسة مع بنية الجزيرة العربية الجغرافية وحتى اليمن والساحل الشرقي للبحر الأحمر. بحيث شكلت حركة الجولان لأجداد العرب القدماء في بقاع المنطقة نمطاً واحداً للحياة، مما يستدعي بالضرورة ربط التطور الموازي لتواجد الفينيقيين "البونتيين" ومنذ المراحل الماقبل تاريخية في تلك المنطقة. بحيث تبدو عملية الانتقال والتجوال في هذه الحالة مقنعة تماماً، نظراً للمساحة الواسعة التي تمتد على أكبر رقعة من مساحة الوطن العربي الحالي، تواجدت آثارهم فيها. فمع من نقف نحن على سبيل المثال؟ مع مدرسة فرانكفورت التي أكدّت تواجدهم في منطقة الماقبل خليج، أم غيرها من الباحثين الذين يطلقون على مناطق ارتيريا والصومال بلاد الفينيقيين " البونت"؟ أم هيرودوت الذي يربطهم بجنوب الجزيرة في اليمن؟ أم بعض الباحثين المعاصرين الذي يؤسسهم تماماً في بلاد الشام ووادي النيل منذ مراحل ما قبل التاريخ؟(1/86)
يبدو أن الجميع متفقٌ على أن هذه الجماعات البشرية قطنت وتوالدت وانتشرت واستنبتت واخترعت وابتكرت وتطورت بشكل متوازٍ ومتطابق من عصر لاقط الثمار ورجل الصيد إلى مرحلة التدجين الحيواني والنباتي في مرحلة كان فيها شط العرب كنهر يمتد حتى مضيق هرمز حيث كان مصب نهري دجلة والفرات( كل الدراسات تشير إلى ملامح التدجين الموازية والمطابقة للمرحلة النطوفية والصفاقصية والسبيلية والعُمانية وهذا ماتؤكده المكتشفات والمستحاثات المأخوذة من قاع الخليج وعلى ضفتي النهر الذي كان)." وفي الوقت الذي كانت منطقة الخليج العربي تحت المياه تتألف من مناطق خصبة ويجري في قرارها دجلة والفرات، ووادي الرمّة، بعد أن يتحد بوادي الدواسر، ومجموعة غيرها من الأنهار والجداول الأخرى، كانت منطقة شبه جزيرة العرب منطقة أمطار موزعة على جميع فصول السنة وبالتالي فقد كانت الوديان أنهاراً غزيرة دائمة الجريان. ومن المعروف أن منطقة كنعان، وجميع المنطقة الممتدة من عدن في أقصى جنوب اليمن إلى حدود بلاد الشام على سواحل البحر الأحمر الشمالية إنما كانت من أخصب بقاع الأرض"(32).(1/87)
ومع تقدم مرحلة العصر الدفيء، وذوبان كتل الجليد الاسطورية الضخمة التي تجثم على المنطقة الممتدة من أواسط أوروبا إلى القطب المتجمد الشمالي، أخذت مياه البحر في التقدم والارتفاع تدريجياً، كما بدأت كميات الامطار التي تتساقط على المنطقة بالتراجع، وأخذ الجفاف يتقدم تدريجياً ليقلل من تجمعات المياه الحلوة ومن غزارة الأنهار ذات الينابيع المحلية، كما زادت في الوقت نفسه، غزارة كل من دجلة والفرات اللذين تنحدر مياههما من هضبة أرمينا في أقصى الشمال. ومع اقتراب عصر الجليد من نهايته كان وادي الرمة يشكل شريان الاتصال المباشر ما بين منطقة الخليج التي أخذت عملية انفجارها بمياه البحر لتصير إلى ما هي عليه اليوم وبين المنطقة الزراعية الخصيبة في غربي شبه الجزيرة العربية على سواحل البحر الأحمر الشرقية(33) مما أدى إلى الهجرات العروبية المعروفة منذ بداية الألف الرابع قبل الميلاد بحيث تبدو كل الهجرات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحركية الفينيقيين " الكنعانيين"/ البونيتيه/ إن لم تتطابق معها. ومن المعروف أن نفس الاشتراطات تتطابق على وادي النيل الذي تحدثنا عن التغيرات التي حصلت عليه سابقاً. ويمكننا بسهولة أن نربطها مع الهجرات التي حصلت إلى الشمال الافريقي في الألف الرابع قبل الميلاد. فالنجاح العظيم الذي حققه الفينيقيون في تلك المناطق خلال نشاطهم في الشمال الافريقي يشير إلى وجود طبقة أقدم من المستوطنين العروبيين في شمال افريقيا..وهناك ذكريات غامضة لمرويات تجعل العروبيين القدماء موجودين في مناطق غرب البحر المتوسط، واحتفظت بها الكتابات الكلاسيكية والعربية. إن هذا القول ينسجم مع قواعد العلم والمنطق، لأنه يدحض فكرة إمكان قيام شعب أو ظاهرة على فراغ.(1/88)
فلولا وجود الاساس العربي منذ أقدم الأزمنة في تلك الاصقاع- وهذا ما أكدته الكتابات العربية القديمة جميعاً- لما تمكن الفينيقيون من أن يوطدوا أقدامهم ويرسخوا وجودهم فيها، كما أنه كان من المستحيل أن تثبت عروبة تلك المنطقة إلاَّ كما ثبتت " عروبة" اسبانيا إبان الدولة العربية الاموية ثم العباسية فيما بعد (34). وهكذا فإن الفينيقيين ليسوا إلاَّ جزءاً من العرب الذين سكنوا الساحل الشامي وإن وجودهم في الشمال الافريقي تحديداً يعود إلى زمن موغل في القدم منذ حوالي الألف الخامس قبل الميلاد ويلي مباشرة الوجود العربي في حوض النيل أو تزامن معه كما دلت كل المكتشفات الأثرية(35).
نستخلص من ذلك أن بعض الباحثين يطلق على الساحل الشرقي للبحر الأحمر بلاد كنعان، كما يطلق بعضهم على الساحل الشامي. مهما كان الأمر فمن الواضح تماماً أن التسمية باعتبارها ذات بعد جغرافي (تضاريسي) كاحتمال أول فهذا يعني أن الفينيقيين هم من أهل هذه البلاد، حتى ولو كان الاحتمال الثاني هو الأرجح بحيث ارتبطت التسمية بأسماء أخرى.
أما النتيجة الثانية والتي يجمع عليها كل الباحثين هو تواجدهم في المنطقة التي أسميناها الماقبل الخليج العربي بدايةً، ثم الساحل الشرقي لشبه جزيرة العرب بعد تشكل الخليج بوضعه الحالي وفي جزيرة البحرين التي شُكِّلت لاحقاً، وهذا لايعني بالضرورة أنهم رحلوا إلى هذه المناطق من جنوب الجزيرة العربية، بل يعني أنهم تواجدوا كاحتمالٍ ثانٍ في المنطقتين معاً، وهذا ماتفسره لنا الأناسة التاريخية التي تعنى بالتطور المتوازن والمتوافق والذي يعني أن شبه الجزيرة العربية كان يشكل واحةً واحدةً مترابطة حتى بدايات الألف الرابع قبل الميلاد.(1/89)
تُربط كل تلك الأبحاث مع إمكانية الانتقال أو التواجد إلى/ وفي الشمال الافريقي مع بداية الألف الرابع، وهذا ما يفسره من خلال التسميات العديدة التي اتسمت فيها تلك المناطق قبل التواجد الفينيقي المتأخر مع نهاية الألف الثاني وبداية الألف الأول قبل الميلاد/ ليبيا مثلاً وموقعها في الميثولوجيا الفينيقية.
وجود نفس المواقع بتسمياتها على الشاطئ الشرقي لجزيرة العرب وعلى الشاطئ الشامي وعلى الساحل الشمال افريقي يؤكد بأنهم يدركون بأن الانسان هو الذي يصنع المكان، ولاتواجد للمكان بدون الانسان، وأن هذا الانسان يتحرك في مكان هو أهله، بحيث لم يتم الجولان إلاَّ من خلال علاقات سلمية ومودة، في حين كانوا مقاتلين أشداء كما حدث مع الغزوات الغربية. ووجه القرطاجيون كل عنايتهم إلى الأسطول الحربي منذ بداية القرن الخامس ق.م(480) عندما أدركوا بالتأمر الاغريقي الغربي عليهم، فاصطدموا لأول مرة في معركة هيمرا في صقلية بذلك التحالف الذي كان يقوده الطاغية جيلون حاكم مدينة سيراكوزا(36).في حين لم يحدث أي شيء من ذلك القبيل لافي بلاد النيل ولا مع سكان المناطق الداخلية أو الساحلية في الشمال الافريقي فكان اعتمادهم على علاقاتهم الودية/ الطيبة/ مع سكان الداخل جعلهم يحصلون على منتوجات المناطق الداخلية بدون عناء عن طريق هؤلاء السكان (37) بحيث كانت العلاقات كما هي في الدولة الواحدة بين سكان الساحل وسكان الداخل." بينما على العكس من ذلك تماماً كانت سياسة الرومان تعتمد على السيطرة وتهدف إلى تحويل المغرب العربي إلى مستعمرة تخدم الاقتصاد الروماني وحده وتشبع رغبة العسكرية الرومانية. ولذلك نجد أن الرومان كانوا قد نفذوا إلى المناطق الداخلية وبنوا مدناً وقلاعاً عسكرية" (38).(1/90)
إذن، حتى ولو افترضنا أن الفينيقيين هاجروا بشكل موجة بشرية إلى السواحل العربية الافريقية فهم لم يجدوا صعوبة تذكر لافي التعامل ولا في مراحل بناء المدن والموانئ، ولابعلاقاتهم مع أبناء الداخل، لامن الناحية اللغوية ولا من النواحي الثقافية والعلائقية الأخرى. فحتى لو افترضنا أن السكان السابقين في بلاد المغرب العربي لحضور الفينيقيين لم يكونوا بنفس البناء الأناسي الأثنولوجي، أي لم يكونوا ينتمون لنفس الشعب، فلابد أن نصل إلى نتيجة مفادها أنهم كانوا يحملون نفس المواصفات التواصلية والأناسية، بحيث لم يحدث ما يشير حتى ولا إلى أي خلاف بين الطرفين. وبالتالي لايمكن النظر إلى توضع الفينيقيين في الشمال العربي الافريقي مع " الهجرات" العربية الأولى، والتي أكدنا أنها ذات نفس الأصل الأثنولوجي المعرفي والبناء الأناسي إلاَّ تماماً كما ننظر لعلاقات الأكاديين والبابليين والاشوريين باعتبارهم يشكلون بناء أناسياً معرفياً لشعب واحد بتمظهرات فرعية جزئية يفرضها السياق التاريخي العام للتطور.بحيث يبدو عنصر الاتصال الجغرافي التاريخي قائماً في عمق الزمن المعرفي. وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكننا أن نأخذ صور كمدينة بُنيت ( ولا خلاف على أن الفينيقيين هم بناتها) في بداية الألف الثالث قبل الميلاد على الساحل الشرقي لبحر أمور أو" البحر المتوسط" في حين بنوا قرطاجة " القرية الحديثة= أوغاريت الجديدة نسبة إلى أوغاريت الساحل الشرقي" في بداية الألف الأول قبل الميلاد " تم انجاز بنائها عام 840ق.م".
" فالمؤرخ هيرودوت يروي بأنه أثناء زيارته لمدينة صور سنة 450 ق.م أكد له كهنتها بناءها حوالي 2300 سنة قبل زيارته لها. وعلى ذلك يكون بناء مدينة صور قد تم في حوالي 2750 ق.م (39).(1/91)
ولم تكن علاقات المظاهر الحضارية بأسمائها المختلفة ذات البناء الأناسي المعرفي الواحد مع الساحل الشامي علاقات عدائية إلاَّ بالمفهوم التطوري المعهود في داخل أية دولة واحدة، وما علاقة مدينة صور مع المظاهر السياسية للحضارة العربية الجليلة " البابليين، والمصريين، والاشوريين وغيرهم.." إلاَّنموذجٌ بيّنٌ لعلاقات المدينة القوية في الدولة الواسعة.
أما المرحلة الثالثة والهامة والتي لاتحتاج للوقوف عندها فهي انتشار الرسالة الاسلامية كمظهر معرفيٍّ عظيم من مظاهر العروبة.
وبذلك يبدو التواجد العروبي في المغرب العربي هو الواسم الوحيد والاوحد للهوية الوطنية ليس فقط بعد انتشار الرسالة الاسلامية، أو من خلال ما سبقها بحوالي ألفي عام من خلال الجولان العروبي الفينيقي والصرح العظيم الحضاري الذي انتشر على كل سواحل البحر المتوسط من الشرق إلى المحيط الأطلسي، بل ومن خلال الهجرات العروبية الأولى التي امتدت على مساحة الزمن الواسمة منذ انتهاء العصر الباليوليثي/ انتهاء العصر الجليدي الأخير/ وابتداء الميزوليت، وصولاً إلى الهجرات الثانية. والمتعمق في هذا التاريخ يدرك، أن المغرب العربي لم يكن ولا في يوم من الأيام، بعيداً عن هويته الديمغرافية العروبية، وأعتقد من ناحيتي أن لاحاجة للتذكير بالكثير من المعلومات التي يعرفها الجميع ولايستطيع أن يتغاضى عنها حتى المستشرقون الذين يؤسسون نظراتهم على اشتراطات ايديولوجية تزييفية.(1/92)
فالفينيقيون بتواجدهم المتواصل، وتواصل حضاراتهم، كانوا يبنون، ويدخلون النشاط أينما تواجدوا ليس فقط على الشواطئ العربية بل وعلى الشوطئ الشمالية للبحر المتوسط، فهم الذين بنوا الموانئ التجارية والمراكز السكنية التي تميزت بحيويتها، واتصلت فيما بينها بشبكة اتصالات بحرية ملاحية راقية امتدت من سواحل الشام الشرقية وكيليكيا والدلتا المصرية والشمال الافريقي باتجاه اليونان وصقلية وقبرص وسردينيا- وأسسوا قادش في اسبانيا" نسبة إلى قادش بلاد الشام" أما قرطاجة ( كرت حديث= القرية الحديثة) فكانت نموذجاً لصور وأوغاريت وتؤكد الأساطير الاغريقية أن " ليبيا" وهذا الاسم الذي أطلق على كل الشمال الأفريقي العربي هي تسمية فينيقية، وهي زوجة برزيدون وأم جينوز.
نستنتج من ذلك، أن التاريخ الأناسي للفينيقيين العرب يمتد بعيداً إلى ما قبل التاريخ على رقعة الوطن العربي كلها من الساحل الشرقي للبحر الأحمر " كنعان1" إلى منطقة اليمن وجنوب الجزيرة إلى الساحل " كنعان 2" إلى دلتا النيل والشمال الافريقي كاملاً حتى بحر الظلمات. وهذا يعني أن الأناسة التاريخية والجغرافية الأناسية للعرب الفينيقيين تشكل وحدة متواصلة متكاملة أما ما قدّمه هؤلاء العرب للبشرية حتى تاريخه ابتداءً من فن الملاحة وتنظيم المدن والموانئ، والتعدين، وغيرها وصولاً إلى أول أبجدية قدموها للبشرية، وهي مازالت حت الآن الاكتشاف الأهم في التاريخ الأناسي كله.(1/93)
أما في منطقة الشرق العربي فلقد اشترك الأكديون والسومريون في بناء حضارة بلاد النهرين، من ثمَّ انصهرت البُنى الأناسية الحضارية مع نهاية الألف الثالث قبل الميلاد وبداية الألف الثاني ليظهر على مسرح الأحداث التكوين الناتج التالي لما يمكن أن نسميه البناء الكنعاني- الأموري فظهرت معالمهم المكملّة للبنية السابقة لهم: بابل في أواسط العراق، وآشور في شماله، وماري أواسط الفرات، وكركيش على حوض الفرات الأعلى ويمحاض في منطقة حلب، وقطنة/ المشرفة/ قرب حمص وجبلا على الساحل، ودان على منابع نهر الأردن، وحاصور في سهل الحولة، ومجدو في شمال فلسطين.. وكلمة آمور الأكادية- السومرية تعني الغرب ( لذلك سمي البحر المتوسط بحر أمورو)، وقد وصف السومريون والأكاديون تلك الحركة الديموغرافية القادمة من البادية الشامية إلى بابل وسومر بالأموريين أو أهل الغرب.(1/94)
" هذا فيما يتعلق بآمورو، أما فيما يتعلق بكنعان فإنّه أول ماذكر كاسم جغرافي في النص ت.م / 75/ 2367 المكتشف في تل مرديخ/ عبلة / ايبلا، ويعود تاريخه إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد ويبدو أن منطقة كنعان التي ذكرت في هذا النص كانت مجاورة لمملكة إيبلا.. ومن المرجح أنها كانت تشمل المنطقة الجنوبية الغربية من بلاد الشام طبقاً لما ورد في رسائل العمارنة، حيث وصفت السواحل الشامية الواقعة إلى الجنوب من حوض نهر الكبير الجنوبي ببلاد كنعان، ومملكة حاصور في سهل الحولة على أنها من بلاد كنعان وإلى هذه المناطق انتسب الفينيقيون أيضاً.ومهما يكن الأمر فإنه من الواضح أن معظم مناطق بلاد الشام كانت موضعاً للكنعانيين فسميت بأسمهم. هذا من جهة- ومن جهة أخرى فإن الوثائق التي وصلتنا من ماري وبابل وأوغاريت والعمارنة قد كتبت بلغة واحدة هي الكنعانية. لكل هذا اعتقد كثير من العلماء أن القبائل التي انتشرت في بلاد الشام خلال القرنين الأخيرين من الألف الثالث قبل الميلاد وانتقلت شرقاً إلى بلاد النهرين- كانت كنعانية" (40).
"وقبيل نهاية الألف الثالث وعند مطلع الثاني ق.م كان قد جلس على عروش بابل ملوك كنعانيون / آموريون كما هو الحال في إسين، لورسا، بابل وأشنونة، ففي لارسا نابى نوم 2025-2005 ق.م، الذي أسس ملكاً دام حتى عصر الملك ريم شين 1822-1763 أما في إسين فقد أسس الماري إشبي إ" را 2017-1985 ق.م ملكاً دام حتى عصر سين مجير 1827-1817، وفي اشنونة حكمت سلالة ضعيفة. وجلس على عرش بابل سومو آبوم 1894-1881 الذي جاء بعده ملوك أقوياء كان أشهرهم حمورابي 1791-1750 الذي وحد البلاد وبعث أمجاد المملكة الاكادية" (41) فسلك نفس طريق سرغون الاكادي ( مؤسس أو ل امبراطورية في التاريخ بالمعنى السياسي) فوحّد بلاد الشام وبلاد الرافدين في امبرطورية منبعثة جديدة مركزها بابل.(1/95)
أما ممالكهم الأخرى آشور، كركميش، يمحاض، ماري، ايبلا، قطنة.. فجميعها ذات أهمية خاصة، لكن ما يستحق الوقوف عنده، ولو لبعض الوقت فهي آشور وماري وايبلا. لما لذلك من أهمية خاصة تؤكد الوحدة الاناسية التاريخية ليس في شرق التراب العربي، بل وفي غربه أيضاً. فبعد أن تحدثنا عن دور ذلك الشعب في القسم الغربي من وطن العرب، لابد من العودة إلى بعض ملامح التاريخ الاناسي في المشرق العربي، لما لذلك من أهمية خاصة تغلق نوافذ الانعزالية في الهويات الوهمية. تماماً كما فعلت مع بلاد المغرب واريتيريا والسودان والصومال ووادي النيل، سنرى ماذا يقول التاريخ الأناسي عن آشور وماري وايبلا، لنعود لاحقاً بعكس الزمن الفيزيائي إلى دراسة التكوين الأناسي التاريخي للسومريين بزواياه التي تدحص فكر الاستشراق المزيف.(1/96)
بدأت آشور مملكة ضعيفة عند بداية الألف الثاني ق.م ولما تولى السلطة الملك القوي شمشي حدد ( شمشي هدد) 1815-1782 معاصر حمورابي البابلي، وحّد المناطق الواقعة شرقي دجلة وغربه مع ماري، حتى وفاته، حيث ضمَّ حمورابي آشور لدولته بعد ذلك. أما المركز مدينة آشور ( قلعة شركت_ حالياً)، فقد سميت بهذا الأسم على شرف الاله آشور. وقد كان سكانها من العروبيين القادمين من شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام، وراحوا هنا يعبدون الاله آشور وباسمه سموا بالآشوريين ( أتوراية) (42). بعد ذلك انتقل المركز إلى كلخو في عصر ناصر بعل ثم نينوى، حتى امتد تأثيرهم السياسي عام 671 ق.م إلى بلاد وادي النيل. أما بالنظر لمنهجنا في قراءة التاريخ، وأقصد بذلك التكوين الأناسي التاريخي، فلا يمكننا أن نجد حدوداً للفصل بين كل تكوينات التاريخ العربي القديم، المعرفية منها والمثيولوجية واللغوية والحضارية، ليس فقط بما يخصُّ تلك الممالك أو المناطق أو التكوينات السياسية المتلاصقة أو المتقاربة، بل أيضاً تلك المتباعدة منها، من قادش غرباً على بحر الظلمات وحتى قادش أواسط الشام، ومن قرطاج جنة العظيمة إلى بابل الجليلة. وبالتالي، لايمكننا أن نضع حدوداً للفصل بين مكونات البنائية الأناسية المعرفية للأشوريين والبابليين، بل أن كلاً منهما يشكل وجهاً مطابقاً أناسياً للوجه الآخر، مع التنوع في خصوصية الزمن التاريخي الذي يتحدث عن مظهر هام من أهم مظاهر العروبة بتكوينها الثقافي- الحضاري معبراً عن نفسه بحضارة جليلة تعيش نتاجها كل البشرية حتى اليوم، ولنتذكر ما كتب ن. نيولسكي" لقد دخلت عناصر الثقافة الاشورية - البابلية في لحمنا ودمنا وتغيرت وتفاعلت لدرجة غير معقولة بحيث لم يراودنا الشك في منشئها زمناً طويلاً. إلاَّ أنها عديدة وتذكرنا بنفسها يومياً.(1/97)
فنحن اعتدنا مثلاً على الأيام السبعة للأسبوع لدرجة أنه لانتصور أن نسأل أنفسنا 60 دقيقة في الساعة، 60 ثانية في الدقيقة.
إن هذه التقسيمات الاساسية الداخلة في لحمنا ودمنا ليست بمجملها منجزات أصلية لحضارتنا بل إنها تأخذ منابعها من قديم الازل من بلاد بابل العريقة. إن الانسان الفرنسي والانكليزي والالماني.. يلفظ تسمياته لأيام الأسبوع بشكل آلي دون أن نظن أبداً أن هذه التسميات هي ترجمة مبسطة لتسميات بابلية قديمة. يتعلم مئات الآلاف من الطلاب والطالبات في المدارس تقسيم الدائرة إلى 360 درجة ويقيسون الأقواس والزوايا بالدرجات ولايرد ببال أحد منهم السؤال لماذا لم تقسم الدائرة إلى مئة أو ألف درجة وفق النظام العشري، كما لايفكر أحد من علماء الرياضيات بضرورة إجراء مثل هذه الاصلاحات. إذ أن مجمل علم الهندسة المبني على هذا التقسيم قد دخل في لحم ودم علماء الرياضيات والتخلي عنه صعب مثلما هو صعب التخلي عن تقسيم اليوم إلى 24 ساعة والساعة إلى 60 دقيقة. إنه يحمل مثل هذه العراقة المشرفة ويرجع في أصوله إلى هاتيك البلاد في بابل.
إن الموطن التاريخي لعلم الفلك هي بابل أيضاً وإن الفلكيين البابليين هم الذين وضعوا القواعد الاساسية لعلم الفلك." (43) وهناك اكتشاف آخر في تاريخ الموسيقى حيث تكلم عنه أساتذة جامعة كاليفورينا سنة 1975م، إذ أنهم بعثوا الحياة في رومانس آشوري مكتوب على لوح الرومانس. وكان يعتبر سابقاً أن الموسيقيين القدامى استنبطوا نوطة واحدة فقط في المرة الواحدة، أما الآن فقد تم البرهان على أن الموسيقيين الاشوريين- البابليين استنبطوا نوطتين في كل مرة، واستخدموا المدرج الموسيقي السباعي وليس الخماسي فقط، إذ أن علماء الموسيقى كانوا يعتقدون قبل هذا الاكتشاف أن المدرج السباعي وضعه الاغريق سنة 400 ق.م.(1/98)
والاختراع الآخر لدى البابليين- الاشوريين والذي مازال يستعمل على نطاق واسع حتى يومنا الحاضر هو الساعات الشمسية والمائية والتي شاهدها حتى هيرودوت. وقد أثبت العالم الاثاري البلجيكي ف. كيومون أن الاغريق اقتبسوا الساعة الشمسية من الشرق العربي أثناء إقامة العلاقات التجارية بين الشرق العربي والمدن اليونانية(44). واستعمل البابليون الاشوريون أيضاً الساعات الشمسية النصف دائرية لأغراض الرصد الفلكي. كما استخدموا في تلك الأزمنة الغابرة الساعات المائية.
إن الأسبوع السباعي الأيام هو من إرث العرب الاشوريين- البابليين ويرجع إلى آلهة الفلك السبعة، الذين يمثلون تراتبية خاصة في كل مظهر من مظاهر المثيولوجيا العربية: شمس ( الشمس)، سين ( القمر)، مردوخ (المشتري)، نيرغال ( المريخ) - عشتار ( الزهرة)، تابر ( عطارد)، فينورتا (زحل) وقد حفظت هذه الأسماء في تسميات الأيام باللغات الالمانية والفرنسية والانكليزية ولغات أخرى.
يضاف إلى ذلك الكثير من المكتشفات التي أنتجتها العبقرية البابلية- الاشورية بالتنظيم، وفن التطريز والبنى القانونية...
وعندما نبدأ بدراسة الهندسة لابد لنا أن نتعلم نظرية فيثاغورث وقد اقتبسها أثناء زيارته لبابل.
أما الرياضيون البابليون- الاشوريون فقد عرفوها قبل ذلك الوقت بألف عام، كما عرفوا استخراج الجذر التربيعي والتكعيبي ووضعوا مبادئ الجبر. ويكتب الأكاديمي ستروف:" إن مصدر النجوم الذي يمكن رسمه دون استخدام التلسكوب وضع في بابل وعبر الحثيين وصل إلى غربي البحر المتوسط. لقد وصل الفلك في بابل إلى درجة عالية جداً بحيث كان له تأثير واضح على المعارف الفلكية في بلاد الاغريق فيما بعد" (45).
وفي بلاد ما بين النهرين تم وضع أول تقويم قمري ما زال يستخدم حتى الآن، لقد تمكن علماء هذه البلاد من إيجاد العلاقة بين الشمس وإشارات الأبراج الفلكية في يوم الاعتدال الربيعي- كان بإمكانهم التنبوء بالكسوف والخسوف.(1/99)
لقد جمع علماء الشرق العربي النباتات واصطفوها وصنفوها ووضعوا قوائم بالحيوانات المحلية والمستوردة، وكذلك بالمعادن كما أجروا تجارب في الزراعة والري. لقد حول سكان بلاد الرافدين وطنهم إلى مركز ضخم في الزراعة وقد اشتهروا بزراعة العنب وصناعة الخمور منه. كما أسست في بابل أول حديقة للحيوانات كما كان للنحت تطوره الرفيع الخاص.
وإذا عرجنا على مملكة ماري، فإننا سنلاحظ أن تاريخها في القرنين التاسع والثامن عشر ق.م هو تاريخ بلاد الشام الشمالية" ولولا وثائق ماري لما استطعنا كتابة تاريخ كركميش وإيحار ويمحاض وقطنه خلال هذين القرنين، ناهيك عن تاريخ الدولة الاشورية في عهد شمشي حدد الأول. ولاغرابة في هذا، فمن ماري انطلقت القبائل الكنعانية الامورية إلى بلاد بابل وسومر وآشور. ومثل ماري كانت عبلة" ايبلا" أيضاً فقد مرت بنفس الظروف التاريخية. فسكان المملكتين من أصل واحد وظروفهم الاجتماعية واحدة. ففي النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد استقر شيوخ القبيلتين " ماري" و" عبلة" في المدينتين اللتين سميتا بنفس الاسم وأسسوا دولتين قويتين ساهمتا في صنع حضارة بلاد الشام.(46) ولم تكن العلاقة وثيقة فقط بين ماري وعبلة" ايبلا" فقط، بل بينهما ومع أوغاريت وحلب(47)، وبينهم جميعاً وبلاد وادي النيل." فقد اكتشفت في أوغاريت آثار مصرية من عصر الامبراطورية الوسطى 2052-1610ق.م أهمها منحوتات لزوجة الفرعون زيزستروس الثاني ( 1897-1879ق.م) وللملك أمنحت الثالث ( 1840- 1792ق.م) وإن دلت هذه المكتشفات على شئ فإنها تدل على قيام علاقات صداقة ودية بين حكام أوغاريت وحكام مصر وحاشيتهم.
وقد أرسل المصريون هذه المنحوتات إلى أوغاريت للتقرب منها والحصول على بركة أربابها.(1/100)
أما في المراحل اللاحقة فقد ظهرت مجموعة من الممالك كقادش ( تل النبي مندو على الطرف الجنوبي لبحيرة قطينة إلى الغرب من حمص) فقد كانت من أعمال الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث ( 1490 - 1436 ) من ثم عادت ووقعت تحت السيطرة المصرية في عهد رعمسيس الثاني فبقيت هي وبلاد الشام الجنوبية تحت النفوذ" المصري يضاف إليها حاصور غرب طبرية ويانوعما في حوض الاردن وبيلا وأكشف إلى الجنوب من عكا وشكما قرب نابلس ومجدو والتي تعتبر من أهم وأقدم مدن كنعان، وقد عين رعمسيس الثاني حاكماً مصرياً عليها بعد القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ومملكة غزة وعاصمتها غزة من المدن القديمة في بلاد الشام. جعلها تحوتمس الثالث من أملاك الفرعون الخاصة مثل يافا. كانت مقر مملكة زاهرة، ثم أصبحت مقر الممثلية الفرعونية ببلاد كنعان في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ولقد كان لوادي ودلتا النيل تأثير هام بالمفهوم الثقافي الذي يفضي إلى تكوينات أناسية معرفية ضمن علاقة التأثر والتأثير، كما نلاحظ من خلال السياق، وذلك على الامتداد العربي الكنعاني - الفينيقي الآموري الغربي " وكانت تلك العلائق ذات صفة خاصة مع القسم الجنوبي من فينيقيا وخاصة جبيل التي سّمّى حكامها أنفسهم ملوكاً مصريين وكتبوا آثارهم ووثائقهم باللغة المصرية." (48)(1/101)
يضاف إلى ذلك أن استخدام اللغة الاكادية ورموزها في الحياة اليومية كان واحداً من أهم عناصر الثقافة الأوغاريتية: باللغة الاكادية وضع مختلف أنواع الوثائق والمراسلات الدولية والرسمية والخاصة. فيرى د. لاريا أن اللغتين الاكدية والاوغاريتية استخدمتا على قدم المساواة في كتابة الرسائل والوثائق الاقتصادية. أما في حقلي العبادة والمثيولوجيا فقد استخدمت الاوغاريتية وحدها، وفي مجال العلاقات الدولية والمجال القانوني والثقافي استخدمت الاكادية فقط. ومع ذلك فثمة وثائق في العلاقات الدولية والتجارية كتبت بالأوغاريتيه. لكن بالرغم من ذلك لاريب في أن اللغة الاكادية كانت اللغة الرئيسة للكتابة(49).
ألا يعني كلَّ ما قلناه سابقاً أن هناك وحدة أناسية معرفية مميزة لكل الاشكال السياسية ومظاهر الممالك التي عُرفت في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. وبين هاتين المنطقتين وشبه الجزيرة العربية، ومع وادي ودلتا النيل، والساحل الافريقي من البحر الاحمر، امتداداً حتى الشمال الافريقي، مروراً بليبيا.
أما النقطة الأخيرة التي تحتاج الوقوف عندها قبل الانتقال إلى النواحي الأخرى من البنية التطورية الأناسية المعرفية العربية كاللغة والبناء الميثولوجي، فتتمثل في الوقوف عند نقاط الاستفهام في الحضارة السومرية- الاكادية والتي كانت موازية لإبلا بحيث حققت وثائق ايبلا ثورة في معارفنا التاريخية عن الشرق الأدنى في الألف الثالث قبل الميلاد، هذه الفترة التي شهدت بناء الاهرامات في مصر أو ما يسمى بعصر الملوك، وشهدت الحضارة السومرية- الأكادية العظيمة في الرافدين. فإلى جانب أكبر مصدرين للمعلومات التاريخية وهما مصر وبلاد الرافدين، أصبحت سورية بفضل اكتشافاتنا هذا المصدر الرئيسي الثالث للتاريخ الحضاري والسياسي في الشرق الأدنى" (50).(1/102)
ومن المهم جداً إعادة التذكير بالتطور المناخي- الجغرافي الذي تعرّضت له منطقة الخليج العربي منذ نهاية العصر الجليدي الأخير وبداية المرحلة الدفيئة وحتى بداية الألف الرابع قبل الميلاد.
فكما قلنا سابقاً، كان مجرى نهري دجلة والفرات يمتد حتى مضيق هرمز، حيث كان مصب النهرين يطل مباشرة على بحر العرب، وتشكلت على ضفاف هذين النهرين مناطق ملائمة لجولان الانسان الباليوليتي ( وهذا ما تثبته بحوث السفينة الالمانية البحثية الميتيور)، بحيث تشكلت حضارة ما قبل الخليج والتي تؤكد كافة البحوث والدراسات والمكتشفات أنها موازية ومطابقة للمرحلة النطوفية في بلاد الشام والسبيلية في وادي النيل والحضارة الصفاقصية في المغرب العربي. ومع نهاية العصر الجليدي وبداية العصر الدفيء تقدمت مياه البحر لتغطي المساحة الممتدة بين مضيق هرمز وشط العرب مشكلة الخليج العربي، والذي كان يمتد مع نهاية الألف السابع قبل الميلاد إلى ما يقارب 145 كم شمالاً عما هو عليه الآن، بحيث كان الخليج يمتد حتى جنوب أور. وكان دجلة والفرات يصبان فيه كل على حدة. لأن مياه الخليج كانت تغطي ما يسمى الآن شط العرب. ومع مرور آلاف السنين تراكم الطمي والمواد اللحقية من انسحاب نسبي لمياه الخليج، بحيث شكل سهل شط العرب الذي شكله النهر ان بالتقائهما. وقد سادت في المرحلة الممتدة بين 4500 -3500 ق.م ما نسميه حضارة تل العبيد وتوافق النصف الأول من العصر الحجري النحاسي، وما يوافق ذلك من حضارة تل حلف. وقد سميت بذلك الاسم نسبة إلى تل العبيد الصغير، في جنوبي العراق، وإلى الغرب من مدينة أور الشهيرة حوالي 6كم.(1/103)
وقد امتد تأثير حضارة تل العبيد من سواحل شبه جزيرة العرب المطلة على الخليج إلى بلاد النهرين، ليشمل النصف الشمالي من بلاد الشام، وخاصة سهل العمق، وأقام سكان تل الشيخ صناعة فخارية محلية، لاتقل جودة واتقاناً عن فخار الحلف والعبيد"(51) بالاضافة إلى التطابق شبه الكامل في تلك العناصر التقنية والمثيولوجية، بامتداد يشمل الساحل الشرقي لجزيرة العرب على الخليج ومنطقة الرافدين وبلاد الشام،" ومع تطور المعتقدات الدينية، ظهرت المعابد، بيوت الأرباب، فيها يقيم الناس صلواتهم، ويعبدون ربهم، ويتقربون إليه. ودليلنا على ذلك ما اكتشف من معابد في مدينة أريدو، التي تقع في أقصى الجنوب من بلاد الرافدين. في هذا الموقع نقبت بعثة وطنية عراقية تحت الزقورة، وكشفت عن ثماني عشرة طبقة، في كل طبقة معبد صغير بني للرب أنكي، إله الماء. في البدء كان المعبد عبارة عن مصلى مستطيل الشكل في وسطه منضدة لوضع النذور والقرابين عليها. وبعد وقت ليس بالقصير، أضيف إليه محراب، قبالة المدخل. ثم رفع فوق الأرض المجاورة، بواسطة مصطبة، بُني فوقها المعبد. ومع مرور الزمن كان لابد من توسيع المصلى، الذي أصبحت الحاجة إليه ماسة لسبب أو لآخر. فبنى مصلى أكبر من السابق، شكله بقي مستطيلاً.ووضع أمام الضلع العرضاني محراب يقابله أما الضلع الآخر المنضدة وأحيط المصلى بمحراب، وأصبح الدخول إليه من باب في أحد جانبيه.(1/104)
ومع مقارنة هذا الشكل مع أشكال المعابد في العصر اللاحق، يمكننا القول إن المخطط العام للمعابد السومرية- الأكادية قد رسم في هذا العصر، وأن وظيفة المعبد الاساسية قد حدِّدت أيضاً" (52) ونفس المعبد بنفس المواصفات تم اكتشافه في أقصى شمال بلاد الرافدين في تبه جوار ومعابد تل أسود أيضاً (53) كما أن المكتشفات في النسول على الساحل الشامي الفلسطيني أثبتت التطابق والتوازي في التطور الاناسي الحضاري على كافة المستويات، بحيث تميزت هذه المرحلة 5500-3500 ق.م باكتشاف النحاس، وحصر العبادة في أماكن مخصصة هي المعابد.
فهل يمكن ضمن هذا الواقع المشخص بمعطيات اقتصادية واجتماعية ومثيولوجية محدّدة أن نتساءل عن معنى وجود كيان سياسي بالمعنى المعاصر للكلمة، يضم كل بقاع الجغرافية التاريخية العربية التي تحدثنا عنها وما معنى هذا الكيان بصيغته التطبيقية في ذلك الزمن.(1/105)
إن تلك الحضارة بتوضعاتها الجغرافية المتعددة هي الناتج الاناسي المعرفي لتطور أمّةٍ واحدة." وإن هذه المناطق الحضارية لم تكن تخصُّ أمماً، بل أمة / متشعّبة/" (54) تركزت أسسها الحضارية في كل مواقع هذا الوطن الجليل، ومن أهمها، والتي تستوجب الوقفة المعرفية، حضارة جنوب بلاد الرافدين. لقد تميَّزت المرحلة السابقة للتاريخ بالتراكم الاقتصادي- الزراعي- البضاعي مما أدى إلى التخصص في العمل والوظائف. وتطوير المقدرات التقنية وجوانبها الانتاجية، مما أدى إلى تشكل طبقة إدارية خاصة من رجال الدين بحيث تتحول البنية المثيولوجية من ثيولوجيا الجماعة الكتلة إلى مؤسسة دينية قادرة على الربط والتمييز بين المعبود والمكان.وهذا لم يكن مجرد طفرة في الزمان أو تأسيساً من خارج المكان البشري، بل كان نتاجاً موضوعياً وطبيعياً لحركية الكتلة الاجتماعية، بحيث أصبح النتاج الحضاري بإحداثياته الأناسية واسماً للجماعة التي تقطن تاريخية هذا المكان. وهذا ما يعطي التحديد بُعْدَيْهِ الأفقي والعمودي. فلا تبدو مسألة الوحدة السياسية الكيانية في ذلك الزمن بتعبيرها المعاصر إلاّ شكلاً من الفانتازيا، كسؤالنا تماماً، عن طبيعة البث التليفزيوني وبرامجه في مراحل ما قبل التاريخ فهذا النتاج الموضوعي والعضوي ببعديه الأفقي والعمودي كان موسوماً بوحدة عناصره التكوينية البنائية مما يعطي كل المكوِّنات اللازمة للوحدة الأناسية المعرفية ببعديها الجغرافي والتاريخي الواسمين لاحداثيات ذلك الزمن الاجتماعي.
وهنا يبدو مفهوم الكتلة فعلاً بنائياً قائماً في لب الحركية الأناسية، مرتبطاً عضوياً بما قبلها وبما بعدها، فلايمكننا عزل مرحلة كتلية " بمفهوم الزمن الاجتماعي" عن سابقتها ولاحقتها، كما لايمكن أن نُدخل قسراً حركية كتلة من خارج السياق العام الموضوعي للتطور الأناسي، إلاَّ إذا كانت موسومة بنفس الملامح والعلامات الثقافية.(1/106)
وانطلاقاً مما سبق علينا مقاربة المرحلة التالية من الاناسة العروبية التاريخية والمسماة المرحلة السومرية- الأكادية. وسومر هي المنطقة الممتدة من بابل ( جنوبي بغداد) إلى الخليج العربي.
وقد تشكلت سهولها بعد انسحاب مياه الخليج نتيجة تراكم الطمي الذي حمله نهرا دجلة والفرات عبر آلاف السنين التالية لذلك. بحيث تبدو الحركية الحضارية الباليوليتية والميزوليتيت والنيوليتية بحضارات تل العبيد والورقاء باتجاه الشمال نحو ماري وايبلا( عبلة) - تل مرديخ متواصلة متداخلة ببداياتها ونموها التالي بالتطور السومري- الاكادي، ومن ثم البابلي الاشوري بحيث يصعب من الناحية الاناسية التاريخية مفصلة عناصرها إلى مكونات معزولة ..
سومر" شومرو" كلمة أكادية كتبت بالخط المسماري " كي- إن- جي " وتعني البلاد السيّدة وأنَّ هذه المنطقة كانت عامرة بحضارة عريقة قبل فجر التاريخ " مما يعني بالضرورة أن الحضارت السومرية هي استمرار معرفي كامل متطور لما قبلها، ونتاج عضوي وموضوعي للحضارة العروبية. والقارئ لأهم نص سومري:
" في عابر الأزمان لم يكن ثمة حية ولاعقرب
لم يكن ثمة ضبع ولا أسد
لم يكن ثمة كلب متوحش ولا كان ذئب
لم يكن هناك خوف ولا ارهاب
ولم يكن للانسان منافس
في غابر الزمان كانت بلاد" شويور"و" همازي"
وبلاد سومر المتعددة الالسن
البلاد العظيمة ذات النواميس الالهية الخاصة بالإمارة
وبلاد أوري التي حوت على كل ما هو لائق
وبلاد مارتو كانت آمنة مطمئنة
وجميع البشر والكون في وحدة وإلفة
يمجدون الله بلسان واحد
-------
في: دلمون" لاينعق الغراب الاسود
وطير" العتيدو" لايصيح ولايصرخ
الاسد لايفترس
والذئب لايخطف الحمل
لم يعرف الكلب المتوحش الذي يلتهم الجدي
ولم يعرفوا الكوارث التي تدمر الغلة
لم توجد الارملة
والطير من الاعالي لايسقط
والحمامة لاتحني رأسها
ما من أرمد يقول " عيني مربقة"
ولا مصدوع يقول " في رأسي صداع"(1/107)
عجوز " دلموت " لاتقول " أنا عجوز"
العذراء ليست بحاجة إلى أن تغتسل
ولايهدر الماء الرائق في المدينة
من يعبر نهر " الموت" لايتفوه بالموت
والكهنة النائحون لايدورون حوله
المنشد لايعول بالرثاء
وفي طرق المدينة لاينوح ويندب"
يدرك بأن هناك تمثلاً لزمنٍ ماضٍ، يصف مرحلة سابقة قبل حدوث التراكم المادي الاقتصادي الذي أدى إلى تشكل طبقة إدارية وطبقة ملاّك " أو حيازة- كما يحقُّ للطيب تيزيني أن يسميها " بالأضافة إلى تحول البنية الثيولوجية المثيولوجية ( الدين) إلى واقع مؤسساتي، تُفرز له شريحة خاصة من الكهنة والسدنة وارباب المعابد.
والنص السابق، يصف بما لايدع مجالاً للشك منطقة الخليج العربي في المراحل المتأخرة من النيوليث والميزوليث. فالاشارات المكانية واضحة، مركزها دلمون " البحرين حالياً " أما جزيرة الديلم وهي الجنة الموصوفة في غابر الازمان، وهذا يعني أن الكتلة الاجتماعية التي يخاطبها النص تعرف عبر الذاكرة الجمعية والمخيال ما معنى الدلمون، وأين هي، وبالتالي فهي تعيش الناتج الحضاري الأناسي للتغيرات التي طرأت على الواقع الجغرافي والديمغرافي بشكل عام في منطقة تعيش في لب التكوين الثقافي والتاريخي للكتلة الاجتماعية التي يخاطبها النص. وهذا يعني أن السومريين هم أبناء هؤلاء الأجداد الذين بنوا الحضارات السابقة على امتداد جغرافية المشرق العربي.
الاشارات الأخرى لأوري ومارتو تعني معرفة دقيقة في الامتداد الجغرافي الشمالي لبلاد الرافدين وبالامتداد الحضاري الجغرافي لها في سوريا. يضاف إلى ذلك أن السومريين لو كانوا غرباء عن المنطقة كما يحلو لبعض المستشرقين المتصهينين الادعاء بذلك، فلماذا تركوا كل السياق الجغرافي وامتداده للرافدين شمالاً وقطنوا في المنطقة الجغرافية الواقعة شمال غرب الخليج العربي وبما يرمز له النص بامتداد تاريخي نحو البحرين حالياً.(1/108)
الاعتراف بالتراكم المادي وبفائض الانتاج الذي أدى إلى فرز طبقة الكهنة واضح في النص :
" والكهنة النائحون لايدورون حوله" يعني وجود طبقة من الكهنة وهي سمة ملازمة للدين المؤسساتي، بما يعنيه ذلك من توضع مادي عريق، كان متوفراً في تلك الحضارة، ولو كان متوفراً للسومريين قبل قدومهم لو كانوا غرباء لما احتاجوا إلى الهجرة والتنقل والبحث عن موقع للحياة.
النص يتحدث بصريح العبارة عن وحدة الحضارة أناسياً في منطقة الشرق العربي:" وجميع الكون والبشر في وحدة وإلفة يمجدون الله نليل" بلسان واحد.ومن المعروف ولادة الإله " سين"/ الاله القمر / من خلال لقاء انليل وننليل في جزيرة الديلم/ الدلمون/ والبحرين في الثيولوجيا السومرية، وهذا بالتعبير الأناسي الثقافي الدقيق لايمكن أن يكون إلاَّ كناتج أناسي تطوري للكتلة الاجتماعية العروبية في مظهرها السومري، بحيث شكلت الحركية الجولانية نمطاً ناقلاً في المخيال والذاكرة الجمعيين المكونات البنائية الحضارية. فلولا تمتع السومريين بتلك المكونات العروبية لما استطاعوا إحداث تلك النقلة في منطقة من الطمي والرسوبيات." وعلى كل حال يبدو من نتائج الدراسات الحالية وكأن جنوب بلاد ما بين النهرين الذي عُرف فيما بعد ببلاد سومر، قد دخل مرحلة التطور متأخراً قليلاً عن الأقاليم الشمالية لنهري دجلة والفرات. وقد تجلى ذلك بالدرجة الأولى مقابل ماعرف بعد ذلك ببلاد آشور في ضواحي مدينة الموصل الحالية وفي منطقة الخابور. وقد يكون هذا طبيعياً إذا اعتبرنا أن منطقة الفيضان المستنقعية عند مصب دجلة والفرات قد امتدت إليهما يد الانسان شيئاً فشيئاً وقطنها بعد أن نفذ فيها طريقة ري بدائية وشق إلى جانب ذلك شبكة من الطرق اللازمة.(1/109)
إن الذي يدل على الاستيطان المتأخر نسبياً- للجنوب، هو أنه لم تظهر هناك أية مكتشفات واضحة من العصر الحجري أو حتى من فجر العصر الحجري- النحاسي. وفي المقابل أصبح الأمر في هذا المجال عادياً لدينا في شمال ما بين النهرين وفي شمال بلاد الشام" (55). ومن البسيط جداً تفسير ذلك بالعلاقة مع حركة مياه الخليج العربي عبر التأكيد على حضارة ما قبل الخليج التي تحدثنا عنه يضاف إلى ذلك أن شكل الجمجمة المورفولوجي المكتشف في بعض المواقع لايعتبر دليلاً، لأن الانسان عبر تطوره التاريخي مرَّ بمجموعة من المراحل المورفولوجية. كما أن منطقة جنوب الرافدين، والخليج العربي كانت مستقراً لمجموعة من الحركيات الجولانية التاريخية.
بالاضافة لذلك لابد من التأكيد على أن الوضعية المكتشفة لتماثيل مناطق سومر هي مورفولوجيا محسوبة على سكان الشرق العربي. أما الجماجم المستطيلة والطويلة فهذا تابع لما قلناه أعلاه.
يضاف إلى ذلك ما يذكره البعض من ارتداء سكان سومر للثياب الخشنة. بحيث يمكن أن نتساءل هل ارتداء الثياب الخشنة تابع لفولوكلور شعبي أم استجابة بيئية لمناخ معين؟؟ فحتى لو افترضنا أن السومريين قدموا من خارج المنطقة، فهل كان ذلك من خلال هبوطهم بالمظلاّت بحيث لم يكن لديهم الوقت اللازم لاستبدال ثيابهم بأخف منها بما يستجيب لمنطقة الجنوب الرافدي الدفيئة؟!! أليست الثياب واللغة حالات اجتماعية قابلة للتطور قياساً بالمفهوم الزمني الاجتماعي؟ أم أننا نطالب أجدادنا منذ ستة آلاف عام أن يكتبوا الشعر بطريقة بدر شاكر السياب، وإلاَّ فهم غرباء عن المنطقة فالعودة إلى البنية الميثولوجية بما راكمت من عناصر بنائية تمكننا من التأكيد أن السومريين لم يكونوا إلاَّ عروبيين أقحاحاً لم يتصفوا بعنصر تكويني واحد خارج البناء الأناسي العروبي (56).(1/110)
ولاتكفي في هذه الحالة الردود المحدودة المنشورة هنا وهناك إن كان على صموئيل كريمر أوديورانت أو غيرهما ممن حاولوا أن يردّوا فجر التاريخ إلى خارج المنظومة العروبية فعندما عجزوا عن تزوير أناسة المكان، لأنه قائم في الأثر المكتشف وفي احداثيات الموقع المدروس، ارتدوا لتزوير أناسة الزمان " التاريخ"، فيتساءل كثير من المستشرقين" وحتى أنطون موتكارت نفسه" بأن تلك الحضارة هل كانت ثمرة النضوج الفكري لشعب المنطقة أم أنها كانت بتأثير شعب جديد قدم إلى هناك؟ (57)
بالإضافة لما قلناه سابقاً لابد لنا من العودة لما أسميناه" الاحداثيات الأناسية المعرفية" ببعديها العمودي المرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، وبالأفقي المرتبط بالبنى المعرفية الأناسية التي سارت موازيةً أو سبَّاقة على تلك المقدّمات التي أعطتها الحضارة السومرية.(1/111)
ومن المهم التذكير به أولاً، أن السومريين لو كانوا قد قدموا إلى المنطقة العربية من خارجها، فمن أين جاؤوا؟ ومن أي منطقة أتوا.. وهم يحملون معهم ما حملوا من تقدم حضاري، لماذا لم يتركوا في المنطقة المزعومة التي تركوها، ما يدل على آثارهم العظيمة؟ إن كانوا من بلاد ماوراء القوقاز أو من الهضاب الموزعة هنا وهناك خارج المنطقة العربية. وأعتقد جازماً بأن أي شعب من الشعوب المجاورة أو البعيدة عن الوطن العربي لن تبخل علينا لإظهار أي قطعة حصى أو حجر تؤكد انتماء السومريين لها. ولا أعتقد كما قلت أعلاه، بأنهم نزلوا بالمظلات من سماء مجهولة، لذلك نحن بانتظار تنقيبات الفضاء عن تلك الحضارة. ولايهمني في هذا الإطار الإشارة فقط إلى أدوات الاستشراق الأيديولوجي الزائف، بل يهمني أيضاً الاشارة إلى أولئك الباحثين العرب" الذين يمكنني أن أتهمهم بأنهم، إن كانوا عن غير قصد قد تبنوا تلك النظريات الاستشراقية فهم جهلة بالقراءة التاريخية المشخّصة. فكل ذلك اللفيف " بعربه وعجمه" متفقٌ على السؤال، ترى من أين جاء السومريون؟ وكأن السياق العام الذي تقدمه إحداثيات التحليل الأناسي يبتعد بالسؤال إلى خارج المنطقة العربية.
إن ذلك السياق يقدم كل المعطيات اللازمة للتأكيد على أن السومريين هم النتاج الطبيعي والعضوي والحتمي للتطور الأناسي السابق لهم في المنطقة العربية. فحتى لو افترضنا أنهم غرباء هل يمكن عزل ما قدموه عن المنظومة الثقافية والحضارية / الأناسية المعرفية/ العربية؟!
إنّ المتفحص البرئ والحيادي لتطور المنطقة العربية كما أوردناه/ منذ عصور الباليوليت وحتى العصر الحجري- النحاسي ثم النحاسي يدرك بما لايدع مجالاً للشك بأن النقلة النوعية الحضارية التي تحققت مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد هي الناتج الأناسي الطبيعي لما سبقها .(1/112)
حتى ولو كان السومريون من خارج المنطقة العربية فهم لم يقدموا ما هو غريب عن سياقها التاريخي لامن ناحية البنية التقنية ولا من النواحي الثقافية والميثولوجية.
وهذا التداخل العمودي الذي نتحدث عنه يدفعنا للتأكيد على انعدام القدرة على إيجاد حدود الفصل بين المرحلة الماقبل سومرية والمراحل التالية لذلك لانرى عيباً في تسمية المرحلة التالية كما يفعل كثيرٌ من دارسي التاريخ بالسومرية- الاكادية.
إن التراكم المادي الذي تحدثنا عنه والذي أدى إلى وجود فائض سلعي دفع باتجاه تمايز شريحة الكهنة. وهذا ترافق بالضرورة مع تطور اللغة كسيرورة اجتماعية تاريخية مميزة للجهاز الاشاري الثاني لدى الانسان وما يعنيه هذا من أنها مرت بمراحل زمنية طويلة من التطور الاشاري الصوتي قبل انتقالها إلى مرحلة الكتابة. بحيث مرت هذه الاخيرة أيضاً بمراحل تطور تميزت بالتراكمات الكمية وبالنقلات النوعية التي نحن بصدد الحديث عنها باختصار." ونحن نعرف أنه حيثما توجد كائنات بشرية تكون لها لغتها، وفي كل الأحوال تكون هذه اللغة أساساً لغة محكية مسموعة في عالم الصوت.
وعلى الرغم مما تحمله الاشارة الجسدية من ثراء، فإن لغات الاشارة المتطورة ليست إلاّ بديلاً للكلام، تعتمد على نظمه الشفاهية، حتى عند استخدامها على يد الأصم خلقياً. أما معظم اللغات فلم تعرف طريقها إلى الكتابة على الاطلاق. وليس هناك من بين الـ 3 آلاف لغة المتكلم بها اليوم سوى ما يقارب 78 لغة فقط لها أدب مكتوب. وليس ثمة طريقة إلى الآن لإحصاء عدد اللغات التي اختفت أو تحولت إلى لغات أخرى قبل أن تعرف الكتابة. كذلك فإن مئات اللغات المستخدمة اليوم لم تكتب أبداً، إذ لم ينجح أحد في التوصل إلى طريقة فعالة لكتابتها. إن الأصل الشفاهي لأي لغةٍ هو أن للغة سمة لاصقة بها(58).(1/113)
ولابد من مرورها بمرحلة بينية قبل تحوّلها إلى لغة كتابية. وتتميز هذه المرحلة البينية بتجميعية اللغة، باصطفاف الكلمات والتصاقها سوية لتكوين لغة مركبة، ذات معنى مركب. وتعتمد على المقاطع اللفظية وليس على الحروف. ومن الطبيعي أن تتميز طبقة الكهنة بامتلاك هذا الانتقال النوعي نظراً لرفعة المؤسسة الدينية ( الميثولوجية) ودورها في التمايز التالي في الكتلة الاجتماعية.
وإذا كانت اللغة السومرية عبارة عن صور أو رموز مجردة تعكس تعبيراً معيناً كمرحلة بينية للانتقال إلى اللغة المكتوبة الأبجدية اللاحقة إلاَّ أن بها كلمات عربية ترجع إلى الأقوام الأولى قبل ظهور السومريين" (59)" كما كانت هذه الكتابة واسطة عملية لإدارة اقتصاد المعبد المادي أكثر من أن تكون تعبيراً لمفاهيم روحية سامية، إذ أنها كانت عبارة عن واسطة عملية لتنظيم اقتصاد المعبد فقط(60).(1/114)
وهذا يؤكد نخبويتها وتخصصها في الشريحة العليا من المجتمع ذات التخصص الكهنوتي أو ما يرتبط به من إدارة. وهذا يؤكد أنها نتاج عروبي، وإلاَّ لماذا، وكيف دخلت بها كلمات عربية ترجع إلى الأقوام الأولى قبل ظهور السومريين، فيما لو كان السومريون قد جاؤوا من خارج المنطقة حتى ولو من جنوبها ؟! حيث يتحدث بعضهم وكأن جنوب منطقة سومر خارج المنطقة العربية أليس هو منطقة الخليج العربي، والساحل الشرقي للجزيرة العربية؟ أليس هو منطقة البحرين/ الديلم؟ وهل منطقة الجزيرة العربية خالية من الجبال ليقول بعضهم، إن وجود" الجبل" في المثيولوجيا السومرية دليل على اغترابهم عن المنطقة؟".. وكذلك لأهمية " الجبل" في اعتقاداتهم الدينية. إلاَّ أن غالبية الباحثين تميل الى الاعتقاد بأن السومريين وصلوا عن طريق الخليج في الجنوب لأن تجمعهم كان في الجنوب" (61) يضاف إلى ذلك أهمية ذلك التداخل العمودي في التكوين الأناسي المتوّاشج عضوياً وموضوعياً" هو أن غالبية النصوص التي تفسر طريقة النطق" باللغة" السومرية ترجع إلى الاكاديين الذين خلفوهم. واستخدمت الكتابة المسمارية لتدوين" اللغات" الاكادية والبابلية والآشورية والأوغاريتية حتى عُممت الأبجدية الفينيقية " ( 62) وبنفس التزامن ظهر معها "اللغة المصرية القديمة " كلهجة من لهجات اللغة العروبية" ممايدل على أن سكان مصر أقوام جاءت من الجزيرة العربية وشمال وشرق أفريقيا " فهي تشترك مع تلك اللهجات العروبية في خاصتها الاساسية التي تجعل كلماتها تُشتقُّ من مصدر واحد، غالباً ما يتكون من ثلاثة أحرف كما تشتمل على الكثير من الكلمات والمفردات المشتركة/ وسنعود بمزيد من التفصيل إلى هذا الحقل في الفصل القادم.(1/115)
أما ما يخص التداخل الأناسي المعرفي الأفقي فهو التطابق في البنية المثيولوجية، ووجود مواقع أخرى موازية زمنياً تتفوق على المستوى الذي ميّز النقلة السومرية فذلك التفوق كان حقيقة واقعة منذ قرون عديدة كما حدث في ماري وكيش،" خاصة وأننا نملك منحوتات من مدينة ماري تحمل كتابة عروبية أقدم من عصر سلالة أور الأولى" (63) ويدعم ذلك بأن كريمات الحكام الاكاديين كنَّ قد دخلن معبد إله القمر في أور كعرائس للآلهة(64) حتى أن سرجون الأول كانت أمّه عروساً من عرائس الآلهة، ومن تلك الكاهنات اللواتي قطعن عهداً على أنفسهن بعدم انجاب الأولاد منذ اللحظة التي بوركن فيها. ولكن عندما أنجبت رغم ذلك طفلاً في مدينة آزوبيرانو وضعته سرّاً في صندوق من القصب وألقت به في نهر الفرات(65). كما أن المرء لايشك الآن في قيام علاقة ومبادلات تجارية مع النوبة ( في وادي النيل) = ملوحة آنذاك، بعد أن ثبت وجود علاقة قوية بين سومر في عصر فجر التاريخ ومصر في عصر تيكاد الثاني .(66) وبنفس الوقت يتعذر على المرء أن يفرق بين الديانة الأكادية والاعتقاد السومري بالآلهة بعد ذلك الانصهار القوي بين عناصر الديانة السومرية والعروبية الشرقية (67). بحيث يتأكد بالبراهين الدقيقة أن السومريين هم النتاج الطبيعي الموضوعي للتطور الأناسي العروبي .وشكلوا حلقة من حلزون التطور العروبي التالي، فاسما آخر ملكين في سلالة أور الثالثة شو- زن وأبي - زن كانا عروبيين حتى أن من أبرز ما قام به الملك العروبي " شو- ايلي - شو" أو " جميل - ايلي-شو" الذي حكم مدة عشر سنوات حربه مع العيلاميين وانتصاره الساحق عليهم مما أدى إلى استرجاع تمثال إله القمر (نناز) الذي حمله العيلاميون معهم إلى بلادهم قبل انتصارهم على ملك أور " أبي -سن".(1/116)
" لقد كانت سورية في العصر الحجري النحاسي كما كانت في العصر الحديث المركز الحضاري الرئيسي في الشرق الأدنى بأسره، ويرجح بعض العلماء أن معرفة النحاس قد انتشرت من سورية إلى جميع جهات الشرق الأدنى كمصر وبلاد الرافدين، كما أنهم يرجحون أن استعمال الخزف وتدجين القمح والشعير وبعض الأشجار كالتين والزيتون والكرمة وتدجين بعض الحيوانات الأهلية التي عُثِرَ على دمى لها مصنوعة من الطين كالثور والغنم والماعز والخنزير وبعض الطيور كالحمام انتشرت من سورية إلى المناطق المجاورة" (68)" وقد يصعب أحياناً بالنسبة لعلماء الآثار تحديد مسار حضارةٍ ما وفقاً لتعاقبها الزمني مع حضارة أخرى، إلاَّ أن الرأي السائد هو أن نقطة الانطلاق كانت في الشمال الرافدي، ثم تحولت نحو الجنوب خلال أدوار العصر الحجري النحاسي، أي أن التحول انتقل من الشمال إلى الجنوب إلى المنطقة التي شهدت ميلاد الحضارة السومرية فيما بعد.وليس من السهل تحديد الأدوار المتعاقبة للعصر الحجري النحاسي ب، 2500 سنة أي في الفترة الواقعة ما بين 6000 و3000 سنة قبل الميلاد وتقع ضمن هذه الفترة مرحلة الانتقال إلى عصر فجر التاريخ(69).فكيف ينحو أنطون موتكارت بعد قوله السابق للتساؤل عن الموقع الاساسي للسومريين، بحيث يتساءل عنه وكأنه قد حسم موقفه بأنهم غرباء عن المنطقة العربية. علماً أن كل النصوص التي قمنا بإيرادها، لاتدع مجالاً للشك بأن السومريين هم من أبناء القبائل العربية تحديداً، وهم حلقة من حلقات التطور الأناسي في حركيته المعرفية والحضارية.ففي عصر فجر السلالات عرف أقدم حاكم من حكام ( لاجاش) يدعى" لوجال- شاج- " وقد ورد اسمه في نصٍ قديم مسجل علىرأس دبوس قدّمه للاله " نينجرسو" إله مدينة لاجاش ملك عربي كان يحكم مدينة " كيش" اسمه مسيليم وقد كتب النص المذكور كما يأتي:(1/117)
" مسيليم ملك كيش، الذي بنى معبد نينجرسو، أودع رأس الدبوس هذا من أجل نينجرسو، حين كان لوجال - شاج - أنجور حاكماً" ايشاج" على لاجاش"(70).
ويشير نص آخر إلى أن ملك كيش قد قام بالتحكيم بين مدينتي " لاجاش" و" أوما" عندما اشتد الخلاف على الحدود بينهما. ويشير النص المذكور إلى وضع اتفاقية حددت بموجبها الحدود بين المدينتين، كما يذكر أن تلك الاتفاقية وضعت بناءً على رغبة الإله " انليل" وأن كلاً من إله " لاجاش" وإله" أوما" قد وافقا عليها. ووضعت لوحة مسيليم على خط الحدود الفاصل بين اراضي المدينتين حسب الاتفاقية المذكورة.
ولذلك نرى في بعض المراجع، إن لم يكن في معظمها، أن مجموعة كبيرة من المؤرخين تقسم تلك المرحلة إلى ماقبل مسيليم، ومسيليم وما بعد مسيليم.
فكيف إذن يمكن أن نقول مع هؤلاء المستشرقين ذوي الأيديولوجية التزييفية بأن السومريين قدموا من خارج المنطقة العربية؟ أليس حرياً بنا نحن العرب أن نعود لقراءة تاريخنا قراءة أناسيةمعرفية تضع الاحداثيات التاريخية في سياقها الزمني الصحيح وتضع الأحداثيات الجغرافية في مواقعها المترابطة تاريخياً، بحيث نعيد لتاريخنا مساره الصحيح.
وحتى إذا عرّجنا قليلاً على إطلاق التسميات وبحثنا في بعضٍ من تأسيسها المعرفي لاحظنا بأن الكتلة الاجتماعية العروبية في تاريخها السحيق تشكل كتلة أناسية معرفية " تاريخية وجغرافية" واحدة، ذات سيرورة بنائية متصاعدة متكاملة. فيذكر د.منير يوسف طه: بأن سكان شبه جزيرة عمان لايمكن فصلهم عن سكان الساحل الغربي للخليج العربي مادام هذا الساحل يشكل وحدة جغرافية تتصل بسواحل البحر الأبيض عبر الفرات، ويقترح بأن الأموريين " العموريين" هم كانوا سكان المنطقة الممتدة من عُمان إلى البحرين، اعتماداً على بعض اللقى الأثرية، وبعض الكتابات التي ذكرت أسماء أمورية " عمورية" لأفراد من منطقة ديلمون " البحرين".(1/118)
وفي فترة متأخرة، تعود إلى حوالي سنة 640 ق.م أيام الملك الاشوري أشور بانيبال يوجد هناك نص من معبد عشتار في نينوى يذكر أن الملك بادي (PADE) ملك أرض كادي " قادي" (Qade) والمقيم في مدينة اسكي، قدم إلى نينوى ليقدم الجزية إلى الملك الأشوري.(72).
كما نلاحظ أن النص ذكر بلداً باسم كادي، وهو اسم لعُمان، استخدم منذ عهد الدولة الاشورية الثالثة مروراً بزمن الدولة الكلدانية. والاسم أكدي الأصل" كا- دي-ي -De-E- Qa) أو ( كاددو-وQa-Du-U) وكاد - دو - بالأكادية. وهي كلها تدل على اسم مكان واحد هو عُمان. أما اسم أسكي الوارد في النقش، فهو ربماإزكي، وهو اسم لمدينة مشهورة تقع في المنطقة الداخلية من عُمان، وتعتبر من أقدم المدن العمانية(73).
أما بعلاقة العمالقة التاريخية وسكناهم في تلك المنطقة، فعلى ذلك يتفق كل الاخباريين والمؤرخين والذين أطلق عليهم لاحقاً اسم الكنعانيّين " الفينيقيين" والذين شرحنا باسهاب حركية تاريخهم الأناسي في التاريخ والجغرافية العربيين بالإضافة لما أوردناه في هذا الفصل من حيثيات تأريخية وجغرافية دقيقة ونظراً لضرورة إكمال هذا البحث باتجاه القراءة المتأنية والحيادية لأصل السومريين بالقراءة النسبية يمكن إضافة العناصر التالية:
- إن الدراسات الأنتروبولوجية Antrpolojy التي أجريت على عظام وهياكل قبور هيلي في رأس العين في الامارات، وشمل، وغليله في شمال رأس الخيمة، والتي تعود فتراتها إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، تثبت أن السكان كانوا يتمتعون بصحة جيدة، وأنهم كانوا يتصفون بالرشاقة والطول والضخامة، إضافة إلى أن حياتهم كانت قصيرة حيث دلت الدراسات على أن أعمارهم تقدر بين 35-40 سنة بالاضافة إلى أنه توجد على هياكل قبور هيلي بعض الملامح الافريقية مما يوحي بأن السكان ربما اختلطوا بجنس افريقي (74)(1/119)
وهنا لايمكن مناقشة الاختلاط بشكل طفرة أو الاختلاط العابر. فهذه السمات التي تدلُّ على العماليق= الكنعانيين= الفينيقيين، تؤكد بأن علم الاناسة الاثنولوجية يوضح لنا أن جولات القبائل العروبية بين الألفين السادس والثالث قبل الميلاد لم تختزل في القسم الاسيوي من الوطن العربي فقط، بل شملت كل القسم الافريقي، وخصوصاً الساحل الشرقي الافريقي المطل على البحر الارتيري" الأحمر" مروراً بمضيق باب المندب وحتى الرأس الافريقي والساحل الصومالي. فبالإضافة لما ذكرناه سابقاً حول شهادة هيرودوت بناء مدينة صور من قبل الفينيقيين على ساحل البحر الكبير= أمورو " عمورو"= البحر الأبيض= الساحل الفينيقي الشرقي، عام 2750 ق.م يشير الجغرافي اليوناني سترابو "64ق.م - 21م" إلى أنه توجد في منطقة الخليج العربي معابد ومدن شبيهة بتلك التي على الساحل الفينيقي، كما أيَّده بذلك بليني (23-79م). أما المؤرخ الروماني جوستين " القرن الثاني الميلادي" فيذكر أن الفينيقيين قد هاجروا من بلدهم الأصلي بسبب زلزال أصاب بلدهم واستقروا أولاً بالقرب من بحيرة سورية " البحر الميت" ومن هناك انتشروا على سواحل البحر الأبيض. كما استفاد الاسكندر المقدوني (336-323) ق.م من خبرة الفينيقيين في الملاحة وصلتهم القديمة بمنطقة الخليج العربي ( 75) بارسالهم إلى مياه الخليج عبر نهر الفرات.(1/120)
كما أن التشابه في بعض أسماء المدن والمواقع في الخليج والساحل الفينيقي مثل: صور في عمان وصور في شمال فينيقيا على الساحل الشامي، وجبيل على الساحل الفينيقي وجبيل على ساحل الخليج في شمال شرق الجزيرة العربية،.. وما أوردناه أعلاه يؤكد أن الكنعانيين= الفينيقيين هم نفسهم العمالقة الذين استوطنوا شبه جزيرة عمان، وأجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية وساحل الخليج العربي وأنهم هاجروا إلى بلاد الشام واستقروا على ساحل البحر الأبيض قبل وأثناء الألف الرابع قبل الميلاد كأحد المحاور من محاور جولانهم في شعاب الوطن العربي وسواحله خصوصاً كما قلنا أعلاه. بحيث يبدو من القراءة الدقيقة أن السومريين جاؤوا فعلاً من دلمون / البحرين/ وفيها تعلموا الكتابة كما يقول علي أكبر حبيب بوشهري - 76).
ومما تجدر الاشارة إليه في المحطة الأخيرة من تقييمنا للتاريخ الأناسي المعرفي الاصلي للكتلة الاجتماعية العروبية في مراحل الحضارات الجليلة نماذج من العلائق المتينة التي تؤكد على وحدة التاريخ والجغرافية الأناسيين العربيين. بحيث لابدَّ من الوقوف عند إحدى الحلقات الهامة التي تؤكد على الطبيعة الواحدة في التركيب البنيوي الثقافي وبالتالي السياسي، وذلك من خلال العلاقات التي كانت تربط بلاد الشام كإحدى أهم حلقات الوصل بالامتداد العربي مع وادي ودلتا النيل.(1/121)
ففي نفس الوقت الذي تحدثنا فيه عن التماثيل في مراحل التاريخ الحضاري للنطوفية والسبيلية انتقلنا إلى رسم التكوين الأولي المعرفي أناسياً الذي أدى بالضرورة إلى تكوين واقع فكري مميز لخصناه في السطور الأولى من هذا الفصل، وفصّلناه باسهاب مع تطور اللغة الشفاهية إلى كتابية في مشرق الوطن العربي بما عناه ذلك من ضرورة تمايز طبقة الكهنة كمؤسسة دينية ارتبطت بوجود التراكم المادي والفائض الاقتصادي الذي وشى ببنية جوهر حركيته ما يمكن أن نسميه تفرّغ هؤلاء الكهنة، وهذا، طرح ضرورة الارتقاء بعلاقات الكهنة بالمعبود من خلال اللغة وبمكان العبادة من خلال تجسيد أفكار الاعتقاد والعبادة " ميثولوجياً" عبر لغة تنتقل إلى صيغة التجسيد القائم المعزول عن وجود الانسان بحيث دفعت تلك الحاجة إلى نقل اللغة الشفوية، التي يزول تأثيرها، بانتفاء وجود الانسان المتحدث بها، إلى اللغة الكتابية أو المكتوبة والتي يبقى تأثيرها قائماً رغم انعدام وجود ناطقها. وهذا ما شكل أحد العلامات المميزة الرابطة بين نقل التجسيد من واقع الصوت إلى واقع النقل الحركي له مكتوباً. كل ذلك شكل أحد الملامح الأساسية للانتقال في "فلسفة" القراءة المعرفية الأناسية لمعنى وجود الانسان وعلاقاته بمكوِّنات وجود البنائية. فاعتبر قراءته للذات مرتبطة بالنطق، باللفظ، بالكلمة الملفوظة، ومع انتهاء آخر حركية صوتية كان يعتقد بأنَّ ذاته انتهت مع انتهاء تلك الحركة بما يعني بها من وشائج ربط مع كل إحداثيات وجوده المرتبط بالمعبود، فحدا به ذلك إلى الانتقال إلى حالة استمرارية في قدرة تأثيره، وهذا بالضبط ما تحققه الكلمة المكتوبة.(1/122)
ومن المؤكد أن الكتابة نشأت وتكاملت بصورة تدريجية أيضاً في بلاد النيل كما هي الحال في بلاد الرافدين وديلمون ،" فقد عثر على صور ورسوم متنوعة من عصر ما قبل الاسرات، دخلت فيما بعد في طريقة الكتابة الهيروغليفية التي كانت تتألف من مجموعة من الصور المبسّطة..فالخط المتعرج يمثل الماء، العصا المقوّسة عند طرفها والتي يحملها الملك تدل على السلطة والسلطان، رسم الشجرة يدل على النبات، والقدم على الرجل أو فعل المشي أو الذهاب..وقد بدأت الكتابة بتصوير الاشياء للدلالة عليها، ثم تطورت فأصبحت الصور تدل على الأفعال المتعلقة بتلك الاشياء، ثم أصبحت الصور تدل على الأفكار المرتبطة بها (77). ومن الملفت للانتباه أن هذا التطور في الارتقاء حدث بالتوازي والتطابق مع مثيله في بلاد الرافدين مع نهاية الألف الخامس وبدايات الألف الرابع قبل الميلاد. ففي عصر ما قبل الأسرات بين نهاية الألف 4500 - 3200 ق.م تقدم سكان الدلتا تقدماً فكرياً كبيراً في هذا العصر، فاخترعوا الكتابة ورتبوا العمليات الزراعية حسب تقويم أوجدوه من ملاحظاتهم المتكررة لظاهرة الفيضان السنوي التي تقع بانتظام، فقد كان الفيضان يصل في يوم معين من كل سنة إلى منف وهليوبوليس، وقد تأكد السكان من ذلك بملاحظة بعض الظواهر الفلكية، كما دفعتهم ضرورات الحياة الزراعية إلى الانتباه لمثل هذه الملاحظات، فتمكنوا بذلك من معرفة عدد أيام السنة وقسموّها إلى اثني عشر شهراً، وقسموا الشهر إلى ثلاثين يوماً، وخصّصوا للأعياد الأيام الخمسة الباقية وفيها ينصرفون إلى اللهو والطرب" (78) ولم يكن ذلك إلاَّ نتاجاً لتطورات نوعية وتراكمات كمية عبرت آلاف السنين في علاقات مناطق الوطن العربي مع بعضها، فبعد أن أخذت الأمطار تقل تدريجياً، وأخذ الجفاف بالازدياد مع نهاية الألف العاشر قبل الميلاد، بحيث شهدت هذه الفترة مولد نهر النيل بشكله الحالي..(1/123)
واستمرت صناعة الأحجار الصغيرة والدقيقة ذات الاشكال الهندسية المختلفة التي كانت منتشرة في الفترة الاخيرة من الحضارة السبيلية وانتقلت من حلوان إلى فلسطين(79) ومنها إلى باقي بلاد الشام فيما يسمى الحضارة النطوفية التي كانت سائدة في بلا الشام بين الألفين التاسع والثامن قبل الميلاد.
إن تطور الرؤية الفلسفية بمعانيها الأولية للوجود بما عنته من علاقة الأرض بالسماء، بحيث تعبر النفس الانسانية عن علاقة التأثير فيما بينها، بحيث لاتستطيع إلاَّ أن تدفع بالأرض تجاه الأعلى في علاقةٍ ما زال حتى إنساننا المعاصر يبحث عن جوهر تلك المحاولات في الصعود عبر الارتفاع بالأرض والتعبير بما تستطيع يداه فعله من خلال بناء المعابد الصاعدة أو المقابر التي ترتفع" بالمتوفى" ولم يكن حل هذه المعادلة بالغريب عن فكرنا العربي بمقدماته الأولية والتالية، بل كان عنصراً من عناصر تطوير البنية الأناسية الحضارية
" فهرم سقارة المدرج الفريد من نوعه، والذي يبلغ ارتفاعه ستين متراً، وهو أول هرم عُرف في التاريخ يشبه بصورة عامة بناء الزقورة أي الأبراج التي كانت تبنى في بلاد الرافدين " (80).
أما بالقراءة السياسية المباشرة" بما تعنيه في تلك العصور" فيمكن أن نختتم قراءتنا في هذا الفصل ببعض ملامح الوحدة بين بلاد الشام وبلاد النيل، بعد أن بينا بمعطيات التاريخ الأناسي هذه الوحدة:(1/124)
فلقد وصلت حملة تحوتمس الأول(1525-1495 ق.م) إلى منطقة النهارينا ( تقع بين نهر العاصي ونهر الفر ات وفروعه إذ تمتد حتى الخابور) وخلد تحوتمس الأول هذه الفتوحات بلوحة تذكارية أقامها على شاطئ الفرات وذكر فيها أعماله وفتوحاته موحداً بذلك / وبالشكل السياسي / مصر وسوريا (81) كما أن الحملة الثامنة لتحوتمس الثالث وصلت إلى نهر الفرات (82)، كما أن أمنحوتب الثالث (1397-1365 ق.م) تزوج بإمرأة مشهورة تسمى " تي" وهي ابنة شيخ وأمير سوري، كما كانت تتواجد في قصره أميرات سوريات وبابليات وآشوريات عديدات.
كما أن زوجة أمنحوتب الرابع" ابن الملكة السورية " تي" " أخناتون، تاو وخيبا هي سورية وقد عرفت باسم نفرتيتي(83). وأخناتون هذا أول من نادى بعبادة الاله الواحد- الديانة التوحيدية وهذا الاله هو أتون الشمس المحرقة،، وأدى به الحماس إلىالاله الجديد إلى أن حرم على الناس إقامة التماثيل للاله أتون، لأن هذا الاله حسب زعمه موجود في كل مكان، ومن المعروف وحدة انتشار هذه الفكرة ورفعة تأثيرها باتجاه شبه الجزيرة العربية بالصابئة والاحناف، كما أن تلك الأدعية التي تمجد إله الشمس أتون تذكر بتمجيد السوريين له إلى جانب شعب مصر والنوبة(84) وفي عصر رمسيس الثاني تمَّ ضم الساحل الفينيقي (1284 ق.م) وفي العام الذي يليه تقدم رمسيس الثاني إلى الداخل الشامي فانضم إليه ملك قّطْنا العموري وبعد ذلك بفترة ليست طويلة حكم الامير السوري " ارسو" مصر كاملة (85).(1/125)
أمَّا عن وحدة التطور الحضاري الأناسي مع بلاد الرافدين، فبالاضافة إلى كل ما ذكرناه أعلاه، يشير طه باقر إلى أن وحدة العلاقات تعود" إلى أواخر الطور الحجري- المعدني أي عهد ما قبل السلالات، كذلك في بداية عهد السلالات أي في المراحل الأولى من نشوء الحضارة الراقية في كلا القطرين" (86) ومن أهم الدلائل على ذلك ظهور ووجود واكتشاف بعض الادوات والنماذج الخاصة بحضارة بلاد ما بين النهرين في مصر (87) ويشار في هذا السياق إلى " أواني الحجر المزينة بالنحت البارز وبعض الطرز القديمة الخاصة بالأبنية السومرية التي وجد ما يطابقها في المقابر الملكية المصرية في المصاطب القديمة، وفي تخطيط اللحود الملكية الأولى ولاسيما لحود ملوك السلالة الأولى، وكذلك استعمال الأختام الاسطوانية" (88).(1/126)
حتى أن الدولة الاشورية الحديثة أخضعت مصر الفراعنة نفسها لسلطانها (89). لذلك أرى من الضروري إعادة التذكير بما قدّمه الباحث إحسان جعفر في بحثه" بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية "، حيث يؤكد على الاصل الأناسي الأثنولوجي الواحد لعرب الجزيرة العربية ووادي النيل وشمال افريقيا والذي يعود تأريخياً إلى الألف العاشر قبل الميلاد (90)، ويشير إلى أن أكثر من دراسة تاريخية أو آثارية أو لغوية قام بها عدد من المؤرخين والعلماء وتبين أن الرأي الذي ذهب إلى أن الفراعنة عرب قدماء ما هو إلاَّ حقيقة واقعة، وقد تبّنى هذا الرأي كثير من علماء اللغة والآثاريين الألمان، وشاركهم في رأيهم هذا الاثاري العربي المصري الأول أحمد كمال، وشيخ العروبة أحمد زكي والدكتور أحمد عيسى وغير هم، وهم يرون أن المصريين القدماء جاؤوا من جزيرة العرب، وبهذا الصدد يقول المؤرخ اللغوي أحمد كمال في كتابه " الحضارة القديمة":" اختلفت الآراء حول الجهة التي وفد منها قدماء المصريين فقال لبسيوس : إنهم دخلوا عن طريق برزخ السويس، لكن قوله هذا نُبذ الآن- وقال غيره: إنهم اجتازوا البحر الأحمر من الجهة التي تُعرف الآن بميناء القصير، فساروا منها إلى وادي الحمامات، ثم إلى مدينة قنا الواقعة في مصر الوسطى على مقربة من طيبة. ورجح نافيل انتقالهم من جنوب الجزيرة العربية عبر البحر من جهة مصوع بما في ذلك من توافق مع الرواية المنقولة عن ديودور الصقلي، وقال نافيل : هذه الرواية المؤيدة لمجئ المصريين عبر مصوع كافية بمفردها لاثبات ماسبق بيانه من أن أصل المصريين القدماء من بلاد العرب الجنوبية لأن في الرواية إشارة إلى أن أولئك الفاتحين بعد أن انتقلوا من مواطنهم نزلوا على شواطئ البحر الأحمر في الحبشة/ كما أوردنا وبتفصيل أناسي معرفي وتاريخي في بداية هذا الفصل واقاموا فيها زمناً قبل زحفهم على وادي النيل (91).(1/127)
ويضيف أحمد كمال في موضع آخر من كتابه المشار إليه إنه :" لما جاء الحوريّون- وهو يقصد بهم قدماء المصريين القادمين من بلاد العرب- تغيرت مظاهر الحياة، وتبدلت معالم البلاد بما انتشر فيها من الحضارة الجديدة، فكانت أعمال ملوكهم باكورة التقدم والنجاح، وفاتحة كثيرٍ من الاصلاح.
ويفسِّر لنا أحمد كمال اسم هؤلاء الحوريين الوافدين من جزيرة العرب فيقول:" إن الملوك القدماء حوريون، أي يُنسبون لحوريس، وبطريقة أوضح لأنهم أتباع " الحر "(92) إي البازي لأن هذا الطائر الذي امتاز بسرعة الطيران والقنص كان لهم بمثابة لواء تستظل به قبيلتهم الاصلية، وكان يرمز به لمعبودهم حوريس سواءاً كان على صورة طائر أو صورة إنسان برأس طائر، والبازي باللغة البوربائية (93) إشارة هيروغليفية يلفظ بها" حُر" وهو لفظ عربي بحت معناه البازي أو الباشق، ولاشك أن هذا المعنى يؤيّد، من حيث الاصل قوله: إن الفاتحين أي أتباع حوريس كانوا من بلاد الجزيرة العربية.
(
هوامش الفصل الثالث
(1) محمد عزت دروزة: تاريخ الجنس العربي الجزء الثاني + ج1 صيدا وبيروت 1376 ص26 ويستشهد أيضاً بهذا النص أحمد سوسة في كتابه " العرب واليهود في التاريخ" ج1 دمشق 1975ص127
... ... والطيب تيزيني في مشروعه المعروف الجزء الثاني الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى - دار دمشق- ط1 1982 ص 48.
(2) Duberete, Et Weulersee, Manuale De Georaphie: Fa Penisule Arobique,Beyrouth 1940
... استشهد به الباحث محمود المحمود- الجذور التاريخية للعلاقات العربية الافريقية مجلة الوحدة العدد 97 تـ 1992.
(3) عودة د. عبد الملك، سنوات الحسم في افريقيا ( 1960-1969)، 1969 مكتبة الإنجلو المصرية القاهرة ص 29-30.
(4) د. علي فهمي خشيم نحو دراسة علمية للتاريخ العربي القديم مجلة الوحدة العدد 42-1988 ص 78.
((1/128)
5) د: أمين توفيق الطيي- جريدة الحياة عدد" 19770 -" 14 أيار 1995.- العلاقات بين الجزيرة العربية والحبشة قبل الاسلام " 1 من 3".
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق.
(8) المصدر السابق
(9) المصدر.السابق
(10) المصدر.السابق
(11) المصدر.السابق
(12) المصدر.السابق
(13) نذكر المصادر التي اعتمد عليها الباحث أمين توفيق الطيي في بحثه المذكور أعلاه كما أوردها في نصه:
1- Seligman, C.G Races Of Africa Oxford 1957 P,87.
2- Ullendorff,E, The Ethiopians, Oxford 1961 P,12q
3- Seligman P,87
4-Shohid, I,Pre-Islomic Arabice “In The Combridge History Of Islam Vol. IA (1977),P7.
5- Irvine ,A. K. “ On The Identity Of Habashat In The South Aralion Inscriptions “,In Journal Of Semitic Studies , Manchester 1965, Vol 10P-P 182-4
6-Ullendorf-P , 134
7- Shahid P,9
8-Trimingham , J.S , Islam In Ethiopia London 1976 P.33
9-Trimingham P 34
10- Hurni G. Arab Seaforing Beirut 1963 P.33
11- ابن خلدون. عبد الرحمن، كتاب العِبَر بيروت 1979 ج2 ص8
12- الهمذاني الحسن بن أحمد، صفة الجزيرة العربية بيروت 1983 ص194
13- ياقوت الحموي معجم البلدان، بيروت 1979 ج4 ص 250.
14- المقريزي أحمد. الالمام بأخبار من بأرض الحبش من ملوك الاسلام.- القاهرة 1895 ص2
15- شهاب الدين أحمد بن عبد القادر، كتاب فتوح الحبشة باريس 1897 ص319
16-Jones A .H. M And Monroe E.A History Of Ethiopic Oxford 1978 P33
17-Perhom ,M. The Government Of Ethiopic london 1948 P20
14- د. علي فهمي خشيم نحو دراسة علمية للتاريخ العربي القديم -مجلة الوحدة العدد 42 آذار 1988 ص 79.
(15) الطيب تيزيني الفكر العربي في بواكيره وأفاقه الأولى ج2 ص 53.
(16) علي فهمي خشيم نحو دراسة علمية للتاريخ..
(17) الطيب تيزيني نفس الاستشهاد المذكور سابقاً ص51.
((1/129)
18) علي فهمي خشيم المصدر السابق.
(19) المصدر السابق.
(20) المصدر السابق.
(21) الطيب تيزيني المصدر السابق ص66.
(22) استشهاد قاده الطيب تيزيني في مرجعه السابق ص66.
(23) علي فهمي خشيم المصدر السابق
(24) عبد الرحمن الجيلاني -تاريخ الجزائر العام- مأخوذ من كتاب د. طيب تبزيني المنوّه به المصدر السابق ص67.
(25) فرانكفورت هـ وفرانكفورت هـ 1 وغيرهم.ما قبل الفلسفة الانسان في مغامرته الفكرية الأولى ترجمة جبرا ابراهيم جبرا - المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثالثة 11982 ص57.
(26) محمد الصغير غانم " التوسع الفينيقي في غرب البحر المتوسط" -المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- السلسلة التاريخية ط2 ص18
(27) المصدر السابق ص18.
(28) المصدر السابق ص19.
(29) R.B Smith Cathage And The Cathaginious -عن تاريخ سوريا القديم - د. أحمد داوود ط1 1986 ص 778.
(30)د. أحمد داوود - تاريخ سوريا القديم ط1 1986 ص778.
(31)د. أحمد داوود - تاريخ سوريا القديم ط 1 1986 ص294. المصدر السابق -د. هشام الصفدي" تاريخ الشرق القديم" ج1 ص 80-91.- كما وترد نفس المعطيات السابقة في كتاب جواد علي - المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام في مواقع عديدة.
(32)د. أحمد داوود - المصدر السابق ص295-296 -تشايلد" الشرق القديم" ط1 1964 ص15-16.
(33) المصدر السابق ص299.
(30) د. أحمد داوود - المصدر السابق ص 792.
(35) The Cambridge Anuet History Volume 3,P 7 138 - د. أحمد داوود - المصدر السابق ص 800.
(36) محمد الصغير غانم - التوسع الفينيقي في غربي البحر المتوسط - المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - ط2 1982 ص129.
(37) المصدر السابق، نفس المعطيات ط 103
(38) المصدر السابق، نفس المعطيات ص103
(39) المصدر السابق، نفس المعطيات ص28
(40) د. علي أبو عساف آثار الممالك القديمة في سورية منشورات وزارة الثقافة في ج. ع. س. 1988 ص 320-321.
((1/130)
41) د. علي أبو عساف - المصدر السابق ص322.
(42) ط. ما تغييف وأ. سازونوف: حضارة ما بين النهرين العريقة - ترجمة د. حنّا آدم دار المجد ط1 1991 ص173.
(43) المصدر السابق . ص 205- 206
(44) المصدر السابق ص 207
(45) المصدر السابق 210 - المصدر السابق نفس المعطيات ص 210
(46) د. علي أبو عساف - آثار الممالك القديمة في سورية - وزارة الثقافة في ج. ع. س دمشق 1988 ص 324
(47) د. علي أبو عساف - نصوص من أجاريت - نصوص من أجاريت - وزارة الثقافة في ج. ع. س دمشق 1988 ص10
... ... ويسرد الدكتور أبو عساف مجموعة كبيرة من النصوص والوثائق التي تؤكد طبيعة العلاقة ( الودية الأهلية) بين تلك المراكز في حضارة بلاد الشام".
(48) ثقافة أو غاريت - أ.ش. شيغمان - دار الأبجدية ط1 1988 ص119.
(49) المصدر السابق 114
(50) د. عفيف بهنسي " وثائق ايبلا " ص 28.
(51) د. علي أبو عساف - آثار الممالك القديمة في سورية وزارة الثقافة في ج. ع. س 1988 ص11.
(52) المصدر السابق ص117
(53) المصدر السابق ص121.
(54) المصدر السابق ص128
(55) أنطون موتكارت - تاريخ الشرق الأدنى القديم - تعريب توفيق سليمان وعلي أبو عساف وقاسم طوير ص17
(56) لدراسة التفصيل في هذا والرد على كريمر وديورانت - يمكن العودة إلى كتاب أحمد يوسف داوود تاريخ سوريا القديم من الصفحة 199 حتى 228.
(57) أنطون موتكارت - المصدر السابق ص31.
(58) والترج. أونج/ اللغة الكتابية والشفوية/.- ترجمة د. حسن البنا عز الدين - مراجعة د. محمد عصفور عالم المعرفة - 182- شباط 1994 ص54
(59) أحمد عثمان - هجرة قبائل العرب قبل اختراع الكتابة - الحياة 2 حزيران 1995 العدد 11789
(60) أنطون موتكارت - المصدر السابق نفس المعطيات.ص 32
(61) أحمد عثمان المصدر السابق نفس المعطيات
(62) أحمدعثمان - المصدر السابق.
(63) أنطون موتكارت - المصدر السابق، نفس المعطيات ص 83-84
(64) المصدر السابق، ص86
(65) المصدر السابق، ص87
((1/131)
66) المصدر السابق، ص92
(67) المصدر السابق، ص94
(68) عبد العزيز عثمان ج1 - تاريخ الشرق القديم ص395
(69) أنطون موتكارت - فنون سومر وأكاد - ترجمة محمد وحيد خياطه - مكتب الفيحاء دمشق ط1 1988 ص8
(70) عبد العزيز عثمان ج1 - تاريخ الشرق القديم ص252
(71) المصدر السابق ص252
(72) د. حمد محمد صراي - السكان القدماء لشبه جزيرة عُمان - مجلة شؤون اجتماعية العدد 43 خريف 1994 ص54
(73) المصدر السابق ص54
(74) المصدر السابق ص57-58
(75) المصدر السابق ص57
(76) د. حمد محمد صراي - المصدر السابق والهامش 37 من الدراسة ص65
(77) عبد العزيز عثمان - تاريخ الشرق القديم ج1 ص69
(78) المصدر السابق ص68
(79) المصدر السابق ص59
(80) المصدر السابق ج1ص 83 - ص83
(81) المرجع السابق ج1 ص123
(82) ج1 ص127 المرجع السابق
( 83) (ج1)المصدر السابق ص134-135
(84) عبد العزيز عثمان ج1 ص138
(85) ج1 المصدر السابق ص155
(86) طه باقر: مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة ط1 1955 ص54
(87) د. عبد الباسط سيدا من الوعي الاسطوري إلى بدايات التفكير الفلسفي النظري ط1 1995 دار الحصاد دمشق ص89
(88) المرجع السابق الذكر نفسه/ د. عبد الباسط سيدا وطه باقر علاقات العراق القديم وبلدان الشرق الأدنى- مجلة سومر العراقية ج1، كانون الثاني 1948 المجلد الرابع ص92-93.
(89) عبد العزيز عثمان نفس المرجع والمعطيات ص82
(90) إحسان جعفر" بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية" - مجلة الوحدة- العدد (20) أيار 1986 ص138.
(91) أحمد كمال، كتاب الحضارة القديمة- طبع مجلة الجامعة المصرية- القاهرة و. ت 1/ 35 مأخوذة عن احسان جعفر - المصدر السابق
(92) الحر هو الصقر البازي. قال ابن سيده: الحر طائر صغير أعمر أصقح، قصير الذنب، عظيم المنكبين والرأس، وقيل : إنه يضرب إلى الخضرة وهو يصيد.
(93) اللغة البربائية نسبةً إلى برابي مصر، وهي اللغة المصرية القديمة
(((
الفصل الرابع(1/132)
الأناسة العربية اللغوية المقارنة
والميتولوجيّة
اللغة منظمومة سيرورية تاريخية اجتماعية إشارية تصف النشاط التفاعلي بإحداثياته المتعددة البنائية (الذاكرة الجمعية، المخيال-السيكيولوجيا الجمعية.) للجماعة وللفرد هادفة للإرتقاء بالتواصل إلى السويّة الأرقى المأمولة. إن اللغة هي الجماعة البشرية (الكتلة الاجتماعية) المعينة في المكان المعين وعبر سيرورة زمنية (بمفهوم الزمن الاجتماعي) معينة.
سيرورية، لأنها ترتبط بالنشاط السيروري للجماعة، وبالتفاعل المتصاعد لعناصرها البنائية الداخلية. فهي بعلاقتها مع الواقع كفعل سيروري تعبر عن تصاعديته وتطوره وسماته في الآن المناقش ومن خلال علاقتها بالتأثّر والتأثير مع الفكر، ترتبط بتصاعده وأدواته وساحة فعله.
وهنا لا بد من التأكيد على سيروري لأن هذه الصفة هي التي تدفعنا إلى قراءة تاريخ اللغة العربية بمقارنة نشيطة وفعالة عبر أناسيتها التطورية في المراحل المغرقة في القدم، وانتقالها من الشفوية إلى الكتابية الصورية، فالرمزية، فالأبجدية، وكيف صبّت اللهجات العروبية المشرقية والمغاربية في تطوير النماذج الكتابية الأولى، وكيف صبّت لاحقاً في اللغة العربية التي نتحدث بها ونكتب بحثنا هذا، بحيث تشكل نموذجاً سيرورياً متواصلاً.
وتاريخية، لأنها نواتج نمط الاتصال وتفاعل الكتلة الاجتماعية الإنساني مع الوسط البيئي والطبيعي والاجتماعي عبر تاريخ تطور الجماعة أو الكتلة واسمةً لأسلوب التفكير، "وأسلوب مشترك بين أفراد الجماعة اللغوية، لجهة ترتيب المفاهيم والوقائع والأحداث والتعامل معها. تبعاً لقانون الفعل ورد الفعل أو التحدي والاستجابة والذي يتفاوت البشر أفراداً وجماعات في تمثله بحسب الموقع المكاني وشدّة المؤثرات والقدم التاريخي والثقافي للجماعة المعنية(1).(1/133)
وإجتماعية، لأنها تصف المكونات البنائية للأناسة المعرفية الاجتماعية، وتحدّد طبيعة تلقي وتفاعل ومعالجة عناصرها للمكونات المعرفية الثقافية بأشكالها المتعددة. بحيث تصبح محدّدة لما يخلق الشعور بالإنتماء إلى جماعة أو أمّة ما. "نظراً لما تكون اللغة قد أنشأته في ضمير أعماق الفرد من إحساس بوحدة الرابطة العقلية والنفسية والوجدانية والتي تشد أفراد الجماعة إلى بعضهم بعض. عبر الاتصال الدائم الفردي والجمعي في وسط ونظام معين من العمل والأفكار، والعلاقات الاجتماعية والانتاجية، وعبر النظام اللغوي والدلالات المعبرة عن هذا الاتصال"(2) ومن خلال علاقة اللغة بالفكر وعلاقة هذا الآخير بالواقع، تصبح اللغة أحد عناصر التأسيس اللازمة والأهم في تحديد الهوية "ليصبح القول إنّ الأمة في تكوينها النفسي والوجداني والعقلاني هي نتاج اللغة والثقافة المشتركة التي تيسرها اللغة والتي هي عدا عن كونها وعاء العلم والأدب والفن هي نظام عقلاني منطقي يعمل على التدخل الدائم في البنية النفسية للفرد لحين دفعه للتواؤم مع الجماعة، وبالتالي على تعميق ارتباطه وتفاعله مع جماعته البيئية واللغوية"(3)(1/134)
وإشارية لأنها تميز الإنسان بجهازها الإشاري الثاني، وتميز الكتلة الاجتماعية كبنية كلية وكأفراد، بربط تلك الجملة بالفكر، بحيث لا يتم صقل أدواته ومناهجه وساحة عمله إلاّ من خلال اللغة،" فاللغة ليست إلاّ واحدة من التجليات المتعددة للوظيفة الرمزية والتي تمّ إنتشارها من خلال تفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية، والاجتماعية، وبالتالي، فإن هذه الوظيفة ما هي إلاّ حصيلة للقدرة المعرفية المرتفعة التي تمكن الفكر من أن يصبح فكراً"(4) بما يعنيه ذلك من ضرورة الاعتراف بوجود مميزات خاصة للفكر العربي، تجعله مميزاً عن مناهج التفكير غير العربية فتتعدى المفهوم المحدد للغة بتعبير اللسانيات وما تطرحه من وظائف للغة (الاتصالية، النزوعية، الإحالية، الشعرية، الفوقية...)(5) لتصبح اللغة تكويناً بنائياً مركباً ومعقداً، ويمثل المنظومة الثقافية الشاملة للجماعة وما تعنيه من معاني معرفية وأناسية وتاريخية جغرافية، وعادات وغيرها فتصف الكلّ الحضاريّ الذي يتجاوز مفهوم البنية الثقافية الخاص- كإنتاج فكري وإبداع أدبي وفني- "لتشمل القيم والعادات وقواعد السلوك والأحاسيس التي تصوغ الوجدان المشترك وتفضي بالتالي إلى الرغبة في العيش الدائم مع الجماعة المحددة.
هذا التكوين للغة يمنعها من الدخول في البناء الفوقي للمجتمع الذي يشمل الفلسفة والدين والأخلاق ولكنه لا يدخلها في البناء التحتي للمجتمع بقواعده المادية والاقتصادية"(6).(1/135)
فهي بتحديدها لمناهج وخصائص وأدوات الفكر، وعلاقة هذا الأخير بالواقع لا تنزاح باتجاه تحديد علاقة مع البنى الفوقية أو تنزاح للاندماج في التشكيلة النمطية الاقتصادية. رغم أنها تشكل نتاج تطور تاريخي لمئات وألاف السنين، بل تشكل منظومة حوامل لبنى وأجهزة عديدة منها ما ينتمي للبنى الفوقية، ومنها ما ينتمي للتحتية، خصوصاً ما يتعلق منها بالتراكم، أي أن البنية الحضارية الآن قد لا تترك تفاعلاتها على مستوى اللغة في الآني منها، بل في القادم وهذا ما يعنينا في القول إن اللغة سيرورة تاريخية.(1/136)
وهذا هو المفتاح الهام لشكف المراحل التطورية التي مرت بها اللغة العربية حتى وصولها لما هي عليه الآن / وأقصد حتى وصولها إلى اللغة التي نزل بها القرآن الكريم/ وبالتالي لم تكن، اللهجات العروبية (الأكادية، الكنعانية، الآرامية، المصرية، الأمازيغية..) مجرد لهجات تكلمت بها الجماعات البشرية، فقط، بل هي مراحل تطورية أيضاً مرت بها اللغة العربية الأم، عبر سيرورتها التاريخية، بحيث تبدو تلك اللهجات التطورية تنويعات سيرورية لمحورٍ واحد، هو اللغة العربية، وما زالت تحتفظ حتى الآن بكلمات ومفردات حيّة اكتشفت مسجلة على ألواح طينية ونقوش قبل أكثر من خمسة آلاف عام. وتبلغ هذه الكلمات الحية حتى الآن المئات في الأكدية والكنعانية والمصرية والآرامية "إضافة إلى أن المعاجم العربية القديمة أصبحت الآن أداة مثلى لفك رموز اللهجات العروبية القديمة، وهي وظيفة جليلة لم تخطر ببال مؤلفي وجامعي المعاجم العربية. المفارقة هي أن عدم معرفة اللغويين العرب القدماء بالعلاقات بين العربية ولهجاتها المعبرة عن مراحل تطورية (مثال الآرامية والكنعانية والأكدية) ماتزال شائعة حتى اليوم. وما زال هناك من يأخذ حرفياً بقراءات علماء الآثار الغربيين للخطوط والنقوش العربية القديمة بالمسمارية والكنعانية والهيروغليفية والخط المسند، من دون أن يكلف نفسه عناء العودة إلى الأصل وتصحيح القراءات المغلوطة حتى لو هجرها أصحابها. فمثلاً يقول لغوي عربي قديم إن "القانون رومي معرب معناه الأصل والقاعدة. وأصل معناه المسطرة، ثم سُمي به آلة من آلات الطرب على التشبيه كأنه مسطرات تحرير النغم.(1/137)
"ويعكس هذا القول عدم معرفة اللغويين العرب القدماء بحقيقة العلاقات اللغوية بين لهجات متعددة للغة واحدة/ هي العربية/ صحيح أن لفظة (قانون) مشتقة في اليونانية من لفظة (Kanna) أي قنا" ومعناها الحرفي قصبة للقياس ومنها جاء اشتقاق (Kanon) بمعنى المقياس أو القاعدة، إلاّ أن الأصل (Kanna) مأخوذة عن الأكدية العربية كما جاء في معجم عالم الآشوريات فون سودن.(7) والأكدية لهجة عربية قديمة كتبت بالخط المسماري وأشهر نصوصها "أخذة كش" المكتوبة قبل خمسة آلاف عام، ولا يزال العربي المعاصر قادراً على فهم العديد من كلماتها وتراكيبها بمساعدة المعاجم التراثية بعد نقل الحرف المسماري إلى الحرف العربي.
"وهذه قضية ذات جوانب متعددة، منها ما يتعلق بهوية الأقوام العربية التي طُمست ووضعت لها أسماء قبلية أو جغرافية أو مما حفظته اللغات الغربية والترجمات الردئية" (8) والاستشراق الايديولوجي الزائف، ومنها مايتعلق بالتطور الحضاري في الوطن العربي الذي لم يجد حتى الآن من يجمعه في نسقه الطبيعي الواحد. وهو ما دفعنا باتجاه تكثيف جهودنا لوضع هذا البحث على طاولة الجدية باستخدام أدوات الأناسة المعرفية في قراءة التاريخ الجغرافي، والجغرافيا التاريخية، والتطور الأناسي العروبي المعرفي، وصولاً إلى تاريخنا الحقيقي في مساره الواحد وذي النسق الطبيعي الحقيقي الواحد.(1/138)
"ومن الأسباب الأخرى ما يتعلق بمسار تاريخ المنطقة الذي تعرض للتشظية وللتقطع على يد دراسات قاصرة. ولكن ثمة جانبٌ أثارته في ذهننا ملحوظة اللغوي العربي المشار إليه آنفاً، ألا وهو جانب العلاقة بين اليونانية والعربية. وهي علاقة لا تبدأ في التاريخ المدرسي عادةً إلاّ مع العصر العباسي، مع أنها أبعد من ذلك العصر بعشرات القرون. فمن المعروف وفق الكلاسيكيات اليونانية أن أشهر كتاب اليونان في المسرح والتاريخ والفلسفة ذكروا بشكل متواتر وملفت للنظر أن الكنعانيين والمصريين القدماء وفدوا إلى اليونان وعلموا أهلها الحروف الأبجدية وفنون المعمار والتجارة، ووضعوا التشريعات، وأن اليونانيين في المراحل المتأخرة كانوا يرحلون إلى بلاد كنعان ومصر ليتعلموا الهندسة والطب والرياضيات والدين.(1/139)
وظلت هذه الذكريات قائمة كمسلمات حتى القرن التاسع عشر أي حتى ظهور الغرب الاستعماري، وبروز نظريات العروق المتفوقة، وبحث الغربيين عن أسباب تبرر تدني الأعراق الأخرى وتفوق الهندو- أوروبي. وفي هذا السياق ولدت نظرية الحضارة اليونانية الهندو- أوروبية التي لا صلة لها بالشرق المتخلف. وبدأ طمس كل ما تدين به اليونان للعرب (كنعانيين كانوا أم مصريين أم ليبيين أم غيرهم) والتقليل من شأن شهادة اليونان الكلاسيكية نفسها. ولكن هذا النموذج الذي تطلق عليه تسمية (الآري) نسبة إلى القائلين بأن العنصر "الآري" هو صانع الحضارة اليونانية وكل حضارة على وجه الأرض!!!، بدأ يفقد مكانته أمام حقائق علم الآثار واللغات والفروع المعرفية الأخرى. فتهاوت النظرية العنصرية وتراجعت حركة الاستعمار، ولم يعد أحد يأخذ مأخذاً جاداً خرافات القرن التاسع عشر ونزعاته. وبقي علينا كعرب أن نخرج على خرافات هذا الغرب الذي أنكر علينا حتى هوية حضارتنا القديمة، وأطلق عليها تسمية "الحضارات السامية" التي لا تحمل مغزى من جغرافية أو تاريخ أو لغة، وأنكر على لغتنا العربية عراقتها المذهلة، ولم يعترف بعروبة النصوص الكنعانية ولا الأكادية والآشورية ولا الآرامية... ولا حتى اليمانية(9)".(1/140)
لذلك كان من المفروض بذل الجهود اللازمة لإعادة التاريخ إلى نسقه وحقيقته وإذا كان لزاماً علينا نحن العرب إعادة قراءة تاريخنا ولغتنا... بمقاربة معرفية تعيد له إحداثياته الطبيعية وموقعه اللازم في بنائنا الأناسي، خصوصاً أن هناك أصواتاً في الغرب نفسه بدأت بمعاينة هذا التاريخ بشكل حيادي ولن يكون بييرروسي الوحيد في هذا حيث يقول: "لقد حان الوقت لكي ندرك، أنه إذا كان غربنا محبوباً، غنياً جميلاً ومنظماً كذلك، فإنما يعود فضل ذلك كله إلى تلكم الإمبراطوريات العربية الكبرى التي خلقت وأوجدت مثل هذه السعادة. وما أشبهنا بزهرة خشخاش عمر الخيام التي كانت تمتح أرجوانها من دم امبراطورٍ دفين"(10).
فالأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمنا بدلاً عن الساميين، الأبطال المختلقين من أصل خيالي.. لو أننا تكلمنا عن العرب، ذلكم الشعب الحقيقي والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً، وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياةً وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين"(11).
"وفي علاقة اليونانية بالعربية نجد لدينا أحدث دراسة صدرت بالانكليزية في السنوات الأخيرة للباحث مارتن برنال، وهي من ثلاثة أجزاء تحمل عنوان "أثينا السوداء"(12) وأهم ما توصلت إليه هذه الدراسة:(1/141)
*-أولاً: إن ما يقارب من 70 في المئة من ألفاظ اليونانية عربية الأصل، مقسمة بنسبة 50في المئة عربية كنعانية و20في المئة عربية مصرية وأما ما تبقى منها (30في المئة) فهو هندو- أوروبي" وأهم ما في هذا أن الألفاظ العربية في اليونانية هي مفرادات الحضارة، أي المفردات السياسية والتجارية والزراعية والدينية، إضافة إلى مفردات المفاهيم المجردة الضرورية لنشأة الفلسفة والعلوم الرياضية. أما المفردات ذات الجذور الهندو- أوربية فتتعلق بمجالات أخرى مثل الضمائر وحروف الوصف، ومعظم الأسماء والأفعال المتعلقة بالحياة العائلية. وهذا في رأي برنال أمرٌ مألوف حين تعطي لغة المسيطرين مفردات ثقافتها الأعلى إلى الأهالي الذين يحتفظون بالقواعد اللغوية والمعجمية للغتهم. واللافت للنظر أن مفردات مثل العربة والسيف والقوس والموكب والدرع والمعركة في اليونانية ليست هندو -أوروبية، بل عربية الأصول. ويتتبع برنال جذور العديد من الألفاظ في المجالات الدينية والجغرافية والسياسية والفلسفية والحربية إلى أصولها العربية.
ثانياً: "إن المكتشفات الأثرية الحديثة في الأرض اليونانية وفي كريت، وفي الدلتا المصرية ومناطق سورية الطبيعية تشير إلى إقامة العرب في اليونان منذ عصور موغلة في القدم. كما أن الدراسات المقارنة للأساطير والمعتقدات تؤكد أن شخصيات الأساطير والعقائد الدينية اليونانية مجلوبة من أرض كنعان ومصر بما في ذلك أثينا الشهيرة.(13)
فلو لم يتأدب الإغريق في ظل الثقافة العربية، لما وجدوا أرسطو بالتأكيد(14)
لأننا وعندما نؤكد من خلال نظرة شاملة أن الشرق يتعين من خلال ثقافة عربية في مساحة عربية، فإننا لا نخترع شيئاً، إننا لا نفعل شيئاً جديداً سوى جمع وإحكام العناصر الجغرافية والثقافية الموطدة الواحد إلى الآخر(15)(1/142)
"وبالحري ان اللغة العربية قد أعطت دون انقطاع منذ أصولها النيوليثيكية والرافدية، حتى يومنا هذا، وفي جميع أشكالها وصورها، دون استثناء أعطت تديناً صاغ منه مجتمعنا جميع التأملات والفلسفات والجماليات والعلوم الخفية أو العامة، فلقد كان كاهن بعل يتكلم العربية، وبها يتعبد التقي المؤمن بإيزيس أو موسى المصري، وبالعربية يتكلم من ثم عيسى المسيح عندما يتحادث مع قيافا أو مع شعب فلسطين -ولعلها بديهةً أن نسجل هنا أن محمداً قد بشرّ بالعربية وبها نشر رسالته (16)، "فاللغة" الآرامية تطورت إلى اللغة العربية التي وجدت نفسها الوارث الطبيعي للماضي العروبي المصري والكنعاني والبابلي، وهذا هو المعيار الدقيق للثقافة العربية(17).
فإذا كنا عازمين على ألا نستعير شيئاً من أحلامنا، فيجب علينا عندئذ أن نعرّف العروبة كثقافة الشرق الوحيدة(18) لأن "شعوب" منطقة الشرق العربي المصرية والكنعانية والسورية والبابلية والأناضولية تنتمي للأسرة العربية نفسها(19).(1/143)
لذلك كان من الضروري اعتماد أدوات القراءة المعرفية المقارنة بمظاهرها الأناسية على كافة المكونات البنائية للتاريخ الأناسي وللبناء الميثولوجي والمنظومة اللغوية خصوصاً ما يعتمد فيها على القراءة الحيادية المقارنة" فإذا كانت عشتار وبدءاً من الألف الثالثة قبل الميلاد محترمة ومقدسة في طيبة وبابل وكركميش وأوسوس من قبل أن يعرفها الإغريق تحت اسم أفروديت وقبل أن يعطيها الرومان صفات فينوس(20)" نلاحظ دون أن ندخل في التفاصيل إلى أي حد كان تاريخا مصر ومابين النهرين متطابقين، وإلى أي درجة تكون طيبة وبابل قطبي عالم ملتحم (21) واحد. والتاريخ الأناسي والمثيولوجيا المقارنة يؤكدان حقيقتين: أولاهما وحدة الثقافة العربية الممتدة على المساحة الجغرافية التاريخية التي تحدثنا عنها في الفصل السابق وثانيتهما أسبقيتها وتأثيرها على كل التطورات الحضارية العالمية التالية. وربما كان ذكر بعض المفردات اليونانية ذات الجذور العربية الواضحة مفيداً لتقدير المنهج اللغوي المقارن- الذي اتبعه مارتن برنال في كتابه المذكور أعلاه. من ذلك كلمة "قدس" "Qds"العربية ومعناها المقدس ولها ما يقابلها في اليونانية لفظاً ومعنى "Kudos” وتستخدم مع جملة كلمات أخرى بالدلالة نفسها وهل نذكر بالمفردة السابقة "قنا" أما كلمة "قسّم" العربية فهي جذر اليونانية “Kosm” وبالمعنى نفسه وجذر ما اشتق منها في اللغات الأوروبية المعاصرة مثل "كوزمورس" و"كوزمتك" ونجد في اليونانية اللفظتين العربيتين : سمة وسيماء وبدلالاتهما العربية نفسها ( SEM) و ( SEMA) وأيضاً ذاك ودال العربيتان فهما في اليونانية (Deil) بمعنى خضع وللفظة "سامي" العربية وجود واضح في اليونانية بأشكال متعددة ولها بالمعنى نفسه أي المرتفع والمنيف والعالي، فهناك "من موس"و "ساموثراس"... إلخ.(1/144)
وإذا إلتفتنا إلى الأبجدية اليونانية القديمة بخاصة، فسنلاحظ أنها كانت تكتب من اليمين إلى اليسار أولاً، وأن عدداً كبيراً من حروفها يكاد يكون منقولاً نقلاً حرفياً عن الأبجدية الكنعانية والخط المسند اليماني وبالقيم الصوتية نفسها إلاّ ما اقتضاه تحول (العين) إلى (واو) في اليونانية أو(الهاء) إلى (خاء) مثلاً(22).(1/145)
نستنتج من ذلك أن اللغة كفعل سيرورة، منظومة تطورية وأن ما نقرأه من لغات بُنيّات للغة العربية كالمصرية والكنعانية والأكدية والآرامية والمسندية وغيرها ليست إلاّ لهجات تطورية، أي مراحل تطورية زمنية مرت بها اللغة العربية قبل وصولها إلى ما هي عليه الآن، والأمثلة المطروحة عن تأثير اللغة العربية باليونانية (وسنأتي على أمثلة لاحقة، وعلى التأثير العروبي الميثولوجي والديني واللغوي في حينه) ليس إلاّ برهاناً على أن اللغة العربية لم تكن مجرد النص اللغوي القريشي الذي عُمم مع الرسالة المحمدية العظيمة، بل كان ذا استنادٍ تاريخي عميق وعريق يمتد إلى ما قبل الحضارات الجليلة، وما أسميته الصعود العربي الثاني. وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى البحث والتنقيب قبل وجود المكتشفات الأثرية الحالية، ليس فقط عن الجذور العروبية للهجة المصرية أو الأمازيغية وغيرها- بل لبعض اللغات الإفريقية أيضاً.(1/146)
فأحمد كمال مثلاً يرى أن اللغة المصرية ليست الوحيدة ذات الأصل العربي، بل والإفريقية أيضاً ذات أصل عربي(23) وهو يرى أن اللهجة المصرية ما هي إلاّ لغة قبائل الأعناء التي سكنت مصر وما جاورها من الأقاليم، وهي أصل اللغة العربية بلا مراء" وفي مقالة له بعنوان "بحث لغوي" نشرها في مجلة المقتطف يقول: "ظهر من نقوش قديمة محفورة على جدران معبد الدير البحري في طيبة الغربية وإزاء الأقصر من الغرب أن المصريين القدماء أرادوا تخليد ذكر أهلهم، فأثبتوه بالحفر على آثارهم قائلين إن أجدادهم يُدعون (الأعناء) جمع عنو أي أنهم من قبائل شتى اجتمعوا في وادي النيل وأقاموا مدناً كثيرة" (24) و أرجع أحمد كمال كل كلمات "اللغة" المصرية القديمة إلى اللغة العربية، وقال "المصري" والعربي يرجعان إلى أصل واحد ولغة واحدة (25) وقد أشار إلى ذلك جبرضومط في كتابه "اللغة العربية" فقال: "لقد أظهر لنا أحمد كمال الاتحاد بين اللغة العربية /الحديثة/ واللغة المصرية القديمة، وألف قاموساً كبيراً أورد فيه ألوفاً من الكلمات الهيروغليفية الموافقة للغة العربية المعاصرة، إما موافقة تامة أو موافقة بضرب من التحريف أو القلب والإبدال المعهود مثله في اللغتين، وقال: إن أحمد كمال يرى أن العربية أصل اللغة المصرية القديمة المدوّنة بالقلم الهيروغليفي ومن لوازم هذا أن أصحاب المدينة كانوا من العرب(26)
والمعروف أن أحمد كمال (27) (1849-1923) أول عربي تعشق تاريخ مصر الفرعونية وجعل حياته وقفاً عليه، ومضى يبحث فيه بهمةٍ منقطعة النظير خصوصاً أنه كان يجيد معرفة اللغات: العربية والفرنسية والهيروغليفية والانكليزية والالمانية والتركية... وقد صنف معجماً فريداً يقع في (22) مجلداً قضى في تأليفه قرابة ربع قرن وما زال محظوظاً لدى نجله محرم كمال (28) وجملة رأيه فيه:(1/147)
"إن أغلب اللغة التي استخدمها قدماء المصريين عربية الأصل لفظاً ومعنىً، فضلاً عن أنها شبيهة بالعربية المعهودة الآن التي نتكلمها اليوم، وإن لغة المصريين القدماء هي ولغة جزيرة العرب تتشاكلان وتتداخلان، ولا تختلف إحداهما عن الأخرى إلاّ بالإمارات وبعض المترادفات، فهما لهجتان في لغةٍ واحدةٍ(29).
اللغة العربية هي إذن القاسم الأناسي المعرفي المشترك الذي يتشعب بخيوطه وخطوطه وحوامله التي تستند عليها الذاكرة الجمعية العروبية باعتبارها التكوين المعرفي للتاريخ الجماعي الكتلي المعيش، من حيث قدرة اللغة على الاحتفاظ بالبنية المعرفية للكائن (جماعة أو فرداً) ونقلها إلى السوية التالية. ويستند على تلك الحوامل أيضاً المخيال الاجتماعي، من حيث قدرتها على حمل البنية الثقافية بمكوّناتها المتعددة وتداخلها في أرومة المنظومة الثقافية بشبكاتها العديدة.
أما من حيث ارتباطها بالفكر والواقع فهي تلعب دوراً مهماً في صياغة البنية السيكيولوجية الجمعية، ليس من حيث علاقتها المذكورة أعلاه بالمخيال والذاكرة الجمعيين فقط، بل، من خلال دورها الاجتماعي والتوحيدي تربوياً بما يحقق عملية التفاعل النشيط والاتصال العقلاني بين أفراد الجماعة باتجاه تأطير السلوكية الجمعية وتعميق الاتصال والشعور الوجداني والفكري، بما يعنيه ذلك من تداخل عناصر التأصيل التراثية مع الآن المعرفي المعيش والطموح البعدي بما يحقق أفضل الأدوات للتعامل مع الواقع المحيط (بيئياً واجتماعياً) بما يعنيه ذلك من قدرة خاصة للغة على التطور واستنباط المفردات بما يحقق المقاربة والمعالجة العقلانية للعالم المحيط.(1/148)
لذلك، لم يكن التقاطع المحوري في اللهجات التطورية العروبية والتي صبت في اللغة العربية المعاصرة، مسألة قوننة واشتراطٍ اجتماعي محدد ببنى فوقية، بل كان الناتج الطبيعي لاستناد تلك اللهجات على عمود فقري واحد، لا بالمعنى اللساني فقط، بل بكل المعاني الأناسية المعرفية التي نحاول مناقشتها في مشروعنا هذا.وبالتالي فإن القرابة بين اللهجات العروبية في تطورها، هي أحد المعاني الأساسية للوحدة الأناسية المعرفية (وبالتالي الثقافية) للأمة العربية فكلها تشترك بالإضافة إلى معجم المفردات والمعاني المشترك بنسبة كبيرة بما يلي:
أولاً: إن أصول كلماتها ثلاثية.
ثانياً: طريقة اشتقاق صيغ جديدة للكلمة الواحدة تتم فيها بواسطة تغيير الصوت الصائت في أصل الكلمات الدالة على الفعل، حيث يتألف أصل الكلمات الدالة على الفعل فيها من أصوات صامتة.
ثالثاً: تشابه الضمائر المتصلة.
رابعاً: الفعل المتعدي يكون بتشديد عين الفعل.
خامساً: وجود الحروف الحلقية كالهمزة والعين وغيرها، وذلك حسب مرحلة تطور اللهجة في سياق التطور العام للغة العربية.
سادساً: التشابه في تسميات أعضاء البدن (الجسم)
سابعاً: التطابق في تسميات الدولة الحضارية والثقافية الميثولوجية وغيرها، حسب سياقها التاريخي. ولقد أضاف الدكتور عبد العزيز صالح جديداً في تأكيد قرابة اللغة المصرية القديمة واللغة العربية، فكشف الغطاء عن عدد كبير من الألفاظ المصرية لا تزال حية في صميم اللغة العربية الفصحى، وكذلك العلاقة الوثيقة من حيث تركيب اللغة كوجود العين بين حروفها والمصدر الثلاثي بين أفعالها والفعل المعتل الآخر ووجود الفعل قبل الفاعل وارتباط الصفة بالموصوف واستعمال تاء التأنيث وياء النسبة واستخدام كاف المخاطب وميم المكان ونون الجمع(30).(1/149)
وكان العالم اللغوي والمؤرخ العروبي أحمد زكي الملقب "شيخ العروبة" (1866-1934) قد نشر في المقطم-13 اكتوبر 1929 بحثاً تحت عنوان "الفراعنة عرب عرباء" قال فيه بأن الفراعنة عرب وفدوا من شمال الحجاز ونجد وبادية الشام، ومن اليمن... وأيده في ذلك نقولا حداد معتمداً على المؤرخ الانكليزي "روبنسون" الذي يرى أن العرب دخلوا مصر ثلاث مرات:
الأولى: -قديماً- قبل الألف الثالث قبل الميلاد.
الثانية: هجرات العمالقة.
الثالثة: بعد الفتح العربي الاسلامي(31)(1/150)
لذلك تتأكد السمة الاجتماعية الوحدوية للغة، فالعناصر الأربعة عشر المشتركة بين اللهجات العروبية تكشف عن أن منظومة الارتباط بين اللغة والمجتمع كانت مشتركة. بمعنى آخر، كان المجتمع ذا بنية أناسية معرفية واحدة بتركيبها الداخلي والخارجي وبالتالي كانت اللهجات في سيرورتها التطورية ذات قياسات احداثياتيه مشتركة، مما عنى في جوانب عديدة قدرة اللهجات العروبية على التطور والتعامل المبدع الفعال مع كل عناصر العالمين الداخلي والخارجي للغة. فنمط الانتاج، وآلياته، ومظاهر البنى المجتمعية متطورة متصاعدة، وبالتالي تتطور سوية الخبرات والمعارف ومظاهر العلاقات الاجتماعية والآداب ونماذج الإبداع الإنساني- القومي، تماماً كما تتطور المفرادات الدالة على تلك الحيثيات الواقعية التي تشير في منظوماتها الدلالية إلى جملة من المعطيات الحضارية والاجتماعية والثقافية والنفسية، وكامل البناء الأناسي المعرفي ببنيته التطورية، والتي تؤدي بمجملها إلى تطور لغوي، فتموت ألفاظ وتحيا أو تُبعث أخرى، وتظهر كمفردات لغوية جديدة... دلالة واشتقاقاً. فالأسباب الحضارية وبسبب الاتصال الثقافي والعلمي بالآخرين، أو بسبب التطور الذاتي للمجتمع مادياً وعلمياً وفكرياً، تفضي إلى استحداث مفردات جديدة تتناول المتغيرات الحاصلة في أساليب العمل وأدوات الانتاج والعلاقات الانتاجية، مثلما تتناول المفاهيم الفكرية والعلمية والتقنية" (32) أما الأسباب النفسية فترتبط بطبيعة التغيرات الحاصلة في أنساق البنى الفوقية من أخلاقية وجمالية وحقوقية وغيرها.
أما الأسباب الداخلية فهي المتعلقة بقوانين التطور الدلالي اللغوي، والتي يمكن إجمالها في تقسيم منطقي يتحدد في التخصيص، والتعميم، وانتقال الدلالة.
فالتخصيص يقصر المعنى العام على بعض الاستعمالات كالحج وهو القصد، وخصص لمعنى الفريضة الدينية والكفر، ومعناه الستر وخصصّ بانكار الدين.(1/151)
أما التعميم فيكون بتوسع المعنى ونقله من الخاص إلى العام كالوِرد وأصله اتيان الماء فجرى استعماله لاتيان كل شيء.
وكذلك المجاورة والمشابهة التي تسبب انتقالاً من دلالة إلى أخرى وبطرق أبرزها الاستعارة والمجاز المرسل، والذي يكون عبر مجالين، أولاً من الحسي إلى الذهني المجرد، وثانياً عبر المحسوسات المختلفة عن طريق التعميم أو التخصيص والانتقال من مجال إلى آخر.
وفي هذا المجال نلاحظ أن التطور الدلالي من الحسي إلى الذهني، لا يلغي الأصل الحسي بل قد تتعايش المعاني الحسية والذهنية ويبقى للإستعمال فضل إشاعة أحدهما على حساب الآخر في زمن معين(33).
مؤدى هذا أن اللغة وعاء اجتماعي وحضاري، يستوعب الحراك الاجتماعي بكافة مستوياته ودلالاته وتضميناته القومية والطبقية، والفكرية والعلمية، المتقدمة والمتخلفة وأهدافه السوية والمرضية وفق قانون معياري يمكن رصده. وإن كان يعمل بآلية عفوية، مرةً كنتيجة لوجود المطاليب المادية المباشرة، ومرةً كنتيجة لطلب التوافق بين الفرد وبيئته الطبيعية والاجتماعية ولكن في إطار الثقافة السائدة، وخاصة في المعاني المجردة المعبرة عن العالم الذهني للإنسان ومستوى تطورها الدلالي عن الحالات الشعورية، النفسية والوجدانية(34)
واللغة العربية قد أثبتت التصاقها مفردات ومعاني بالبيئة الاجتماعية والحضارية العربية ذات السمات الإنسانية والقيمة الوجدانية، المعبرة عن الانسجامية بين الذات والحياة في عالم مادي طبيعي مفتوح على الصحراء والسماء(35)، عبر أنواع الدلالات اللغوية الثلاث -الحقيقية والمجازية والثقافية- وهي التي تظهر جلية في لغة العلم، ولغة الأدب سواء في الشعر أم في النثر. وهو الأمر الذي كانت به اللغة العربية وفي كل مراحلها تحمل وجهاً فكرياً ووجهاً عاطفياً للإنسان العربي متمثلاً بالفصاحة والبلاغة والغنائية والتي لا تعني التعبير فحسب بل تعني التعبير المحكم الدقيق والشاعري أيضاً.(36).(1/152)
وذلك لم يعن اللغة العربية (بصيغتها المعاصرة) فقط بل يعني لهجاتها ومراحل تطورها بما تعنيه من استمرارية للسيرورة التاريخية للغة العربية عبر مراحل نموها من الشفوية إلى الكتابية (المسمارية والهيروغليفية ثم الالفبائية)/ وبنمطيها الكتابة المقطعية والكلماتية.
ورغم أن الجسد الشاقولي والأفقي للغة العربية هو واحد متكامل متماسك، إلاّ أننا درجنا على استعمال التقسيمات الحضارية الجغرافية لعاملين:
الأول: تناولنا للفكر الاستشراقي المؤدلج كحقيقة مطلقة بالوقت الذي كان يسعى فيه هذا الفكر لتقسيم انتماءاتنا الجغرافية واللغوية والتاريخية والحضارية إلى جذور ومناحٍٍ مختلفة بل ومتناقضة أحياناً.
الثاني: أن المكتشفات الأثرية والدراسات الأناسية المعرفية بفروعها المتعددة لهذه المكتشفات تمت بمراحل زمنية متباعدة نسبياً.
والعاملان مترابطان مع جملة ظروف ذاتية وموضوعية ليست في مقام بحثنا الآن.
وأقصد بالجسد الشاقولي للغة، تطورها في السياق التاريخي، أما بالجسد الأفقي فأقصد به الرقعة الجغرافية التي انتشرت فيها اللغة المقصودة وبنت عمارتها الشاقولية، أي السياق الجغرافي (الديموجغرافي) ونظراً لواقع اللغة العربية وتاريخيتها الجغرافية، وجغرافيتها التاريخية المميزتين فإنّ التسمية هنا تتداخل، بحيث نرمز للبعد الشاقولي أحياناً بتسمية ذات جذور جغرافية مكانية أو ديموغرافية خالصة خصوصاً أن اللهجات المصنفة حسب جذرها الجغرافي أو الديموغرافي متداخلة ومتقاطعة لدرجة لا يمكن تمييز لهجة عروبية عن أخرى. كما أن الكثير من المظاهر الحضارية التي أطلقت عليها تسميات جغرافية أو ديموغرافية تبنت لهجات عروبية لحضارات عروبية أخرى، بحيث يستحيل التمييز بين بنية أناسية معرفية (ضمناً لغوية) لواحدة عن أخرى: أما ما يخص التراتبية الأفقية فيمكن تمييز المجموعات التالية للهجات العروبية:
1-المجموعة الجزيرية: وفروعها، العربية الجنوبية والحميرية.(1/153)
2-المجموعة السورية: وفروعها الايبلاوية والكنعانية والفينيقية والبونية (القرطاجوية)
3-المجموعة الثالثة: وفروعها الفرعونية القديمة والقبطية.
4-المجموعة الرابعة: وفروعها العروبية الماقبل سومرية، السومرية، الأكادية بفرعيها البابلي والأشوري.
5-المجموعة الآرامية: وفروعها السريانية والآرامية الغربية (السورية الرافدية).
6-المجموعة الليبية: وفروعها الليبية والقديمة والبربرية.
7-المجموعة الشمال إفريقية: وفروعها الأمازيغية والليبية القديمة والكنعانية والبربرية.
8-المجموعة الحبشية: وفروعها الأمهرية والجمزية.
9-المجموعة الكوشية: وفروعها الجالا والصومالية والبجا.
وإذ درسنا حركة الكنعانيين بشكل مفصل في الفصل الأول وأثبتنا حراك جولاتهم من المنطقة الجنوبية اليمانية لشبه الجزيرة العربية باتجاه الساحل الشامي فالساحل العربي الإفريقي، كنموذج بين لما يمكن أن يكون عليه هذا التقسيم، نكشف كم هو اشتراطي هذا التقسيم فهو لا يعني إطلاقاً أي امتداد جغرافي محدد، فقط يكون ذا جذور ديموغرافية لكنعانيين مثلاً. أو ذا تسمية مكانية جغرافية كالايبلاوية والأشورية أو البابلية.
لذلك، يمكن وضع التصنيف العمودي (الشاقولي) عبر التسلسل التاريخ الممكن بما يعنيه ذلك أيضاً، من اشتراط محدد. فعندما نقول المجموعة الكنعانية (الفينيقية مثلاً) فمن المعروف أن الكنعانيين تواجدوا قبل الألف الرابع قبل الميلاد في الجنوب اليماني من شبه الجزيرة العربية وقبل الألف الثالث في منطقة الخليج العربية وفي الألف الثاني والثالث في بلاد الشام والساحل السوري، ومع نهاية الألف الثاني وبداية الألف الأول امتدوا على الساحل الافريقي العربي (بل والأوروبي كاملاً) مما يعني أن القراءة التأريخية لن تعطي نتائج أفضل. من هنا كانت مقاربتنا للمنظومة الأناسية المعرفية من جهة التاريخية الأناسية اللغوية المعرفية تعني بنية الزمن الأناسي المعرفي.(1/154)
وعن الحركية التاريخية الجغرافية تحدثنا باسهاب عن بدايات الإنسان العاقل الحديث في المشرق العربي وقبل ظهوره في مناطق أخرى بما يزيد عن 60.000 عام أعقبه وجود إنساني أكثر تحضراً مع نهاية الألف العاشر حيث انتشرت الحضارة النطوفية والسبيلية والصفاقصية على امتداد الوطن العربي وصولاً إلى العصر الحجري الحديث مع نهاية الألف الخامس قبل الميلاد حيث تم اكتشاف تل حلف في سورية وتل العبيد في جنوب العراق. وفي تل جمدة نصر تم الكشف عن ظهور أول كتابة وذلك عام 1928 وتعود إلى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد بـ3200 سنة وهي أقدم بداية للتاريخ. وتداخلت في جنوب الرافدين الحضارة السومرية ومركزها أور مع حضارة عروبية قديمة أيضاً وحلت محلها، ثم تداخلت السومرية مع حضارة عروبية أخرى هي الأكادية وظهرت إلى شمالها حضارة آشورية أولى مركزها نينوى ثم ظهرت في بلاد الشام حضارة عمورية مركزها ماري هي امتداد للأكادية باتجاه البحر، ثم انكفأت هذه الحضارة لتظهر في بابل الأولى، ثم ظهرت حضارات بداية الألف الثالث قبل الميلاد وحتى الثلث الأول من الألف الثاني ظهرت حضارة الوصل الهامة بين تشعبات تلك الحضارات ألا وهي حضارة إيبلا (عبلة) وفي بلاد النيل ظهرت حضارة موازية لحضارة الرافدين بدأت معها بنفس الزمن التأريخي وتطورت ضمن حدود أسرات فرعونية تعاقبت بعد أن وحدت وجهي وادي النيل، يوازيهما امتداد متوازن ومتزامن على سواحل شبه الجزيرة العربية وسواحل الصومال والحبشة، وامتداد السواحل الإفريقية على الشاطئ العربي من البحر الأبيض المتوسط وكان أهم ما قدمته سومر للبشرية هو اختراع الكتابة المسمارية، وأقدم نصوص سومرية مكتوبة تم العثور عليها يعود إلى حوالي 3000ق.م وإن ساد الاعتقاد ببدايتها- في شكلها المبدئي- قبل ذلك بخمسة قرون (37) وتحتوي اللهجة السومرية على (15) صوتاً، وهي تجميعية، حيث تلصق الكلمات سوياً لتكوين كلمة مركبة ذات معنى مركب.(1/155)
وهي تتكون من مقاطع صوتية وليس من حروف، فيقوم الكاتب بالتعبير عن أفكاره عن طريق اختيار شكل العلاقات التي يستخدمها، من حيث دلالاتها الصوتية والتركيبية اللغوية التي تصاغ بها. وبها كلمات عربية ترجع إلى الأقوام الأولى قبل ظهور الحضارة السومرية (38). وهذا يعني أنها تشكل المرحلة الانتقالية الأولى من الشفوية إلى الكتابية. لأن "أسس الحضارة المادية قد وضعت في عصر ما قبل التاريخ وحتى يستطيع الإنسان الإنتفاع من هذه الإبتكارات كان عليه إيجاد الوسيلة المحققة لذلك. فكانت الكتابة التي بواسطتها تنتقل الأفكار بين الناس ومن جيل إلى جيل، وكما عبر الإنسان عن أفكاره بالصورة، عبّر بداية عن الكلمة التي ينطقها بالصورة، ثم حول الصورة إلى رمز لكلمة. وما لبث أن أخضع الرموز لنظام محدد فجردها عن الكلمة وأعطاها صوتاً أو لفظاً محدداً، من إضافته إلى بعضه يتركب الكلم أو الكلام الذي بواسطته يلبي حاجاته إلى التدوين والتسجيل"(39) فمع أن السومريين ومن سبقهم من أقوام عروبية هم الذين اخترعوا هذه اللغة"(40) إلاّ أن غالبية النصوص التي تفسرّ طريقة النطق بها ترجع إلى الأكاديين الذين خلفوهم. واستخدمت الكتابة المسمارية بعد ذلك لتدوين اللهجات الأكادية والبابلية والأشورية حتى ابتكار الأبجدية الفينيقية.(1/156)
وبالتوازي مع المسمارية ظهرت الهيروغليفية في وادي النيل وقد عثرت البعثة الألمانية عام 1993 على نماذج منها في إحدى المقابر بمنطقة أبيدوس بصعيد مصر تعد أقدم من لوحة نارمر بمئة عام على الأقل- وأعلن الدكتور جنتر الذي أشرف على أعمال الحفر أن حدود التاريخ العربي في وادي النيل تقدمت لتصبح 3200 قبل الميلاد، وتقع هذه المقبرة على حافة وادي النيل غربي مدينة البلينا في محافظة سوهاج في صعيد مصر، وعثر فيها على بعض الكتابات الهيروغليفية مكتوبة بالحبر الأسود على الأواني الفخارية. ومعنى هذا أن أقدم النصوص الهيروغليفية التي تم العثور عليها يسبق أقدم النصوص المسمارية المكتشفة حتى الآن بمئتي عام (41) وقد أطلق المصريون اسم "تُدونتر" أو"مداد نطر" أي الكلام المقدس، مداد: كلام، حبر، و"نطر": مقدس.(1/157)
وما ذنبنا نحن العرب، أو ذنب لغتنا إذا كانت لغات المستشرقين لا تحتوي على حروف: ح، ض، ط، ظ، ذ، ح، ع، الهمزة... ليعود إلينا "نطر" بعد أن يتحول في عقولهم "نتر" و"حينما في الأعلى" والتي كتبت هكذا أصلاً" أينما ايلي ش "فلأن لغات المستشرقين لا تحتوي حرف "ح" يترجمون "حينما" إلى Inama وتعود إلينا إينما، ويترجمون نطر إلى "نتر" Ntr فتموت الـ "ط" لتقف بدلاً منها الـ"ت" وبسبب عدم وجود حرف "ع" في لغاتهم يترجمون أعلى إلى Iliوتعود إلينا إيلي، وبسبب عدم وجود "ض" يترجمون أرض إلى Ard وتعود إلينا مشوّهة "أرد" ولأن لغاتهم لا تحتوي على "ح" و"ص" يترجمون حمص إلى "إيميس" Emis فتعود إلينا إيميس، وحماة تصبح Emat إيمات و"دمشق" ديماشكي Dimashki ونتلقفها غريبة عن لغتنا، لأننا نتناول ما يعطوننا إياه كمقدس غير قابل للنقاش أولا، ولأننا لم نهيء الكوادر العلمية التي تعرف لغتنا العربية حق المعرفة عبر تطورها التاريخي والأمثلة على ذلك كثيرة جداً وسنأتي على نماذج مماثلة لاحقة، لكني فوجئت ومنذ سنوات عندما قرأت: "إينوما إيلي شي" وترجمتها للعربية تعني "حينما في الأعلى" وقلت في ذهني، ولماذا يكتبون "وترجمتها إلى العربية"، أليست العبارة بحد ذاتها عربية فصحى خالصة يفهمها أي عربي أينما كان شريطة إعادة الحروف المشوهة على أيدٍ جاهلة بلغتنا أو قاصدة تشويهها إلى وضعها السليم/!!!!(1/158)
وبالعودة إلى المصرية القديمة وعلاقتها باللغة الأثنوغرافية والتأسيس الأناسي نلاحظ انعكاس الأمتداد التاريخي الجغرافي على البنية اللغوية، فالتأسيس الاثنوأناسي المعرفي، بما يعنيه من وجود امتداد قَبْليّ يعطي سماته الخاصة للامتداد التاريخي كما نلاحظ ذلك في إحدى أساطير الخلق المصرية؛ بحيث تقول هذه الأسطورة: إن إله الشمس (رع) بكى، فخلق الجنس البشري من دموعه المتساقطة، وكان البشر ينقسمون إلى أربعة أقسام: المصريين (رمث) والليبيين (ت م ح و) و(الامو) والزنوج (ن ح س و) وسمى المصريون أنفسهم "ر م ث" (البشر الحقيقيون) وهي تسمية تعتمد على التشابه اللفظي بين (ر م ث) بمعنى "بشر"و "ر م ي ت" بمعنى دموع(42).
وبسبب أهمية التحليل اللغوي المقارن الذي انتهجه الدكتور علي فهمي خشيم رئيس قسم الفلسفة في جامعة الفاتح في طرابلس، لهذه الأسطورة، وقراءة الأبعاد التاريخية- الجغرافية للتكوين الأناسي الاثنوغرافي للشعب العربي، كان لا بد من إيراده ملخصاً وقد نشر في مجلة الوحدة -السنة الثالثة- العدد33-34 حزيران- تموز 1987 وضمن ملف "اللغة العربية والوحدة" يقول الدكتور خشيم:
[ تمضي دون الدخول في التفصيلات الزمنية والأسطورية، إلى تحاليل الكلمات التي تحتوي قصة الخلق هذه:
(1)"رمث" Rmt بشر. (2) "رم ي ت" Rmyt: دمع.
(3) " ت م ح وTmhw: ليبيون. (4)"أمو Amw: ما شرق مصر.
(5)"ن ح س و"Nhsw :زنوج.
وقراءة الرمز الهيروغليفي: على أنه يعني "ر م ث" خطأ شائع درج عليه بعض العلماء والذي يجب أن يقرأ "ر ث" Rt(43).
وقد قرأ "فولكنر" الرمز (مع وجود المحدّد: صورة إنسان) على شكل(1/159)
"ر م ث" Rmt رابطاً بينه وبين الرمز الذي يقرأ (ر م ث) Rmt (ناس، بشر) وكذلك الرموز التي وردت في (نصوص الأهرام) المتأخرة نسبياً. وهنا لا بد من تدارك الخطأ الذي وقع. ففي النصوص المصرية المتقدمة على نصوص (الأهرام) توجد الكلمة في صورة (ر ث) بدون وجود حرف الميم. فالأمر الموثوق للغاية به أن البشر يدعون "رث" Rt وليس "ر م ث". تلاحظ أولاً أن"رث"Rt تأتي بمعنى إنسان (مفرد) واحد كما تأتي بمعنى "أناسي، بشر" (جمع) وفي حالة المفرد ترسم صورة رجل محّدداً الأفراد. أما إذا قصد الجمع فترسم صورة رجل وإمرأة دلالة الجمع. والمثير للانتباه أن"رث" لا تلحقها واو الجماعة، إذ لا توجد" رث و"Rtw قط في قاموس اللهجة المصرية. واو الجماعة في المصرية، كالعربية المعاصرة تماماً، وترد كثيراً جداً في حالة الجمع، فلماذا انتفت في حالة "رث"Rt؟
انتفت -كما يقول الدكتور الباحث علي فهمي خشيم، لأن المقصود معنى آخر غير الذي ترجمه العلماء بكلمات "بشر، ناس، الجنس البشري، ونحوها" فالمعنى هنا شيء من قبيل: الأصل، الاساس، الأوّل- في حالة إفراد، وقد يكون العرق.
والمكافئ لكلمة "رث" في اللهجة المصرية كلمة "رسّ" في العربية الفصحى المعاصرة "وقد تعاقبت الثاء المثلثة والسين، كما تتعاقب الآن في لهجة عرب مصر المحدثين بالضبط، أو عرب بلاد الشام فيبدلون الثاء سيناً فيقولون: أساس=أثاث، سلاسة=ثلاثة، سُمّ=ثُمّ، مسلاً=مثلاً وغيرها فما معنى الرسّ في العربية؟
فيقول ابن منظور: "في حديث ابن الأكوع: إن المشركين راسّونا للصلح وابتدأونا به.. معناه: فاتحونا، من قولهم: بلغني رسّ من خبر، أي أوّله. والرّسّ: ابتداء الشئ. والرسيس: الشيء الثابت. و"رسّ وأرسّ: دخل وثبت".
فالرسّ إذن يفيد البداية والمفتتح والأولية والثبات أي "الأصلية"- الأولية والتجذّر=البداية والثبات) وهو ما قصده المصريون الأول من إطلاق "رث" على أنفسهم.(1/160)
وفي القرآن الكريم" وعاداً وثموداً وأصحاب الرسِّ وقروناً بين ذلك كثيراً " الفرقان /38)
"كذّبت قبلَهم قومُ نوحٍ وأصحاب الرّسِّ وثمودٌ"(ق/12)
وقد اختلف علماء التفسير في هذا الرس "ما بين كونها بئراً لطائفة من ثمود دفنوا فيها نبيهم وكونها دياراً لثمود، أو قرية باليمامة" ويروى أنهم كذبوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيها حتى مات(!).
وهذا تفسير تخريجي لفظي محض لا يثبت. والأصوب القول بأن "أصحاب الرّسّ" قوم عاصروا عاداً وثموداً وليسوا من عاد وثمود بدليل ذكرهم معهم منفصلين وإن اقتربوا بهم، وبدليل قوله تعالى (وقروناً بين ذلك كثيراً) أي أزمنة وأجيالاً وأمماً.
في اللهجة المصرية يسمى شعب جنوب مصر "رس ي و" Rsyw=جنوبيون والمفرد (ر س ي) Rsy=جنوبي و"الجنوب" (ر س) Rs وقد ترجمت رس ومشتقاتها بأنها تعني الجنوب - أو:الصعيد.. بحسب ما فهمه الغربيون. فلم لا تكون هي "رسّ" العربية بالمعاني التي تفيدها ومنها أصحاب الرسّ أي الرسيون (المصرية) "ر س ي و"Rsyw؟
إننا نعرف أن قوم الصعيد (الجنوب) عاصروا قوم عاد وثمود منذ زمان وذكرهم منفصلين عن عاد وثمود يعني انفصالاً مكانياً، بدليل اقترانهم جميعاً في الايتين (وقروناً بين ذلك كثيراً -أي في أزمنة طويلة سحيقة).(1/161)
هذا هو التفسير الذي عرضه الدكتور الخشيم، ولا يمتنع من أن تكون "ر س"هي "رث" بتعاقب السين والثاء إذ من الواضح أن "رث" =المصريين= الخلق الأول /الأصلي/ كانت تطلق على أهل الجنوب في مقابل "ت م ح و ى) Tmhw سكان الشمال. الجنوب إذن "رث" وهو "رسُّ"... والمعنى واحد. وفي الانكليزية كلمة Race التي يعرفها معجم أوكسفورد الاشتقاقي بأنها مجموعة أشخاص أو حيوانات ترتبط بأصل مشترك، إلى جانب تعريفات قريبة من أهمها الدلالة على الأمة المشتركة الأرومة /العرق/. كما أن كلمة Race تعني أيضاً: جذر، أصل. ودخلت الانكليزية من الفرنسية وهذه أخذتها عن الكلمة الإيطالية Razza وجميعها دخلتها من العربية "رس" خاصة أنها لم توجد في السنسكريتية أو غيرها مما يسمى اللغات الآرية.
وبالتأكيد أتت الكلمة من اللاتينية التي تطورت في شبه الجزيرة الإيطالية لكن اللاتينية كانت مسبوقة بلغة أخرى هي الاتروسكية. ومنذ مائة عام كتب العالم الاميريكي برنتون مقالة خطيرة خلص فيها إلى أن الاتروسكيين ليبيون هاجروا من شمال إفريقيا واستقروا في إيطاليا ونمت حضارة لهم هناك وقد عقد فصلاً ممتعاً عن أسماء الآلهة الأتروسكية والليبية القديمة وفصيلاً آخر عن الصلات اللغوية. وفي عام 1980 كتب الباحث الاستاذ "مايكل غرانت" كتاباً عن الأتروسكيين وكانوا عنده ينحدرون من أصل كنعاني(45).
وبعد أن يؤكد الباحث أن الاتروسكيين ولغتهم، ليس لهم أية علاقة مع عائلات اللغات الهندو -أوروبية يخلص إلى القول: "لقد أعانت هذه العزلة اللغوية الأتروسكيين على الشعور بأنهم متميزين يكونون وحدة أو أمة منفصلة وهي مادعوها (رسنا) Rosna أو "روسينا Rosnea وقد تفجرها اليونانيون: "رسنّا Rasenna.(1/162)
لقد قال برنتون بأنهم ليبيون وقال غرانت بأنهم كنعانيون وذلك على أساس اللغة المقارنة. فات الأستاذين الكبيرين أن اللهجة الليبية والكنعانية مشتركتان في كونهما لهجتين للغة واحدة هي اللغة العروبية نشأتا من مصدر واحد، وهذا هو السبب في أن الأتروسكية كانت قاسماً مشتركاً بينهما، فهي لغة عروبية أيضاً، سواء جاء أهلها إلى إيطاليا من ليبيا (برنتون) أو جاؤوها من بلاد الشام (غرانت) (46).
لذلك كانت القائمة التي أوردها برنتون للكلمات الأتروسكية مقارنة بالليبية تنطبق تماماً على العربية بالضبط، كذلك ما جاء به غرانت من مفردات أتروسكية مقارنة بالكنعانية يتطابق مع العربية أيضاً.
(ويجدر بنا هنا أن نذكر القارئ الكريم بالحراك الجولاني للشعب العربي، الذي فصّلناه في الفصل السابق)، خصوصاً أن علماء المصريات يجيرون على معنى كلمة "رث ن و"Rtnw بأنها عنت في النصوص المصرية القديمة "جزءاً من بلاد الشام" حسب قول"فولكنر" (ص150) ومعجم "بدج" (ص436)
ويضيف "بدج" أن في المصرية: "ر ث ن و ح ر ت" Rtnw Hrt (بلاد الشام العليا) و(رت ن و.ق ر ت) Rtnw Qrt (بلاد الشام السفلى) عربيتها: "ر ث ن و" والحرة/الحرية= العليا.(1/163)
وما دام المصريون فرقوا بين الشام العليا= ح ر ث" والشام السفلى -ق ر ت" وقبل كل منها كلمة "ر ث ن و" فلا بد إذن أن تكون هذه تعني بلاد الشام كلها، أو على الأقل ساحل الشام. وهي بصيغة الجمع "ر ث ن و" بإضافة واو الجماعة في آخرها. مفردها "ر ث ن". وهذا يعود بنا إلى ما قرره غرانت من أن أصل الأتروسكيين هو بلاد الشام، وهم كنعانيون في نشأتهم الأولى، ثمّ استقروا في أرض ايطاليا وأنشاوا حضارة خاصة بهم، كنعانية الأرومة. ولن نذهب في جدل طويل مع ما ذهب إليه "برنتون" من أنهم ليبيون أصلاً، إذ لا يمتنع أن يكونوا جاؤوا من بلاد الشام واستقروا في الشمال الإفريقي، ثم هاجروا إلى ايطاليا، وطبيعي أن تبقى البنية الاناسية بتعابيرها المختلفة، واللغوية خاصة، متفاعلة ومتطورة بين ثابت أصيل ومتطور ديناميكي مبدع. وهذا يدفعنا إلى قراءة الربط بين "رث" (بشر) و"رم ي ت" (دمع) فكان أن كتبت الأولى أحياناً (رم ث) وقرئت كذلك، ليحدث الجناس اللفظي بين الكلمتين وهو ما أغرم به المصريون الأقدمون نتيجة الفكرة الاسطورية في الخلق من دموع (رع) حين بكى حزناً على مصير العالم. وقد تكون "رث" أيضاً تعني بكى هي الأخرى في الأصل وهنا نرجع إلى الجذر في العروبية "رثا":
"رثى فلانٌ فلاناً يرثيه رثياً إذا بكاه بعد موته.. ورثوت الميت أيضاً إذا بكيته وعددت محاسنه وكذلك إذا نظمت به شعراً [لسان العرب].
ومنها الرثان: المطر غير المتتابع، المتقطع (كالدمع).
وأرض مرثّنة ومرثّمة ومرثونة أصابها رثان ورثام (لاحظ العلاقة بين (رثم) و(رمث) وفي بعض النصوص المصرية وردت "رث" Rt بدلاً من "رث"Rt والمعاني ذاتها وقد قام "بدج" بمقارنة الكلمتين السابقتين مع القبطية "رمى" Rome (ص4-423) الجذر "رم" Rm ومنه: "رم" و"Rmw ناس، بشر، الجنس البشري و"رم"Rm يبكي، ينتحب و"ر م ي" "Rmy: يبكي و"رم ث" و"ر م ي ث": دموع.(1/164)
فماذا نجد في العربية المعاصرة للجذر "ر م" Rm (الذي يفيد "الدمع" والبكاء الذي تنحدر فيه الدموع.
في مادة "رمي" يقول ابن منظور: "الرميُّ: قطع صغار من السحاب. سحابة عظيمة القطر شديدة الواقع.. الرميُّ: الشقيّ وهي السحابة العظيمة القطر.. وقال مليح الهذلي في الرميُّ السحاب:
حنين اليماني هاجه بعد سلوةٍ ... وميض رميٍّ آخر الليل معوقُ
وقال أبو جندب الهذلي:
هنالك لو دعوت أتاك منهم ... رجال مثل أرمية الحميم
"أرمية" جمع: "رمي" والحميم مطر الصيف ويكون عظيم القطر شديد الوقع.
في مجال أسطورة الخلق المصرية يمكن استخلاص أن "الرميّ" (السحاب العظيم القطر الشديد الوقع) هو ذاته "ر م ي" Rmy [دمع الاله (رع)] باعتبار المطر الغزير الواقع من السماء دموع الرب الباكي تهطل مدراراً فتتحول القطرات إلى بشر (ر م ث) يدبون على الأرض دبيباً.
وهذا استنتاج أول- برأي الباحث الدكتور علي فهمي خشيم- أما الاستنتاج الآخر فيكمن في تتبع الجذر الثنائي "ر م" الذي يحدث بإضافات حروف أخرى؟ سنقرأ في حينها كل المفردات التي لها علاقة مباشرة بالعين أو بسقوط الدمع: الرمق، الدمع، الرمص، الرمز، الرمد، الرمح، الرمج. وهذا ما يتوافق مع ارتباط الرمز الهيروغليفي المحدد للجذر"ر م" Rm بمشتقاته الدالة على البكاء وذرف الدموع (معجم بدج- ص424) كما نحصل على دلالة سقوط المطر من "رمي"
وأخيراً يذكرنا الباحث الدكتور الخشيم بالجناس أو الطباق الموجود بين "رث" (خلق /بشر "و "رث" (بكى/ دمع) مع مقارنة ذلك بالعربية:رثا=بكى. رس=رث/ أصل) و"ر م ي ت" (دمع، العربية: رمي) كذلك في العربية يبدو أن هناك تطابقاً في المعنى والدلالة بين "رثا" و"رمى"(1/165)
أما الشق الآخر من أسطورة الخلق المذكورة فهي كلمة "ت م ح و" T M H W وهي كلمة تطلق على الليبيين سكان الدلتا في القديم، قبل توحيد الدلتا والصعيد على يد (مينا) حوالي سنة 3200ق.م وهي تسمية تتردد في كتب التاريخ كثيراً. وهذا الاسم مكوّن من مقطعين:
"ت ء"Ta: ... أرض، بلاد (بالعربية، طيّة، طاة، طاءة)، و "م ح" Mh: شمال، جهة الشمال. ويضاف إلى ذلك" و"W: واو الجمع.
... وفي المصرية نلاحظ الجذر "م ح" يتكرر في الكلمات التالية:
"م ح ت" M Ht : ربة الشمال
"م ح ي ت" M H Y Yt بلاد الشمال، الدلتا، شمالي.
"م ح ت ي و" M H Y T : القبائل الشمالية
"م ح و ت" M H W T: ريح الشمال.
كما أن "م ح" يدل على الماء الغزير والفيضان والمطر الدافق.
"م ح ي" M H Y : فيضان، غمر.
"م ح ي ت" M H Y T : عاصفة لمطرة، فيضان، ماء كثير، غمر.
"م ح ي ت" M H Y T : ربة الفيضان.
"م ح و ي و" M H W Y W : الفيضان الذي أهلك الجنس البشري.
وفي العربية المعاصرة نقرأ:
"المحوة: المطرة، تمحو الجدب، عن ابن الإعرابي. وأصبحت الأرض محوةً واحدةً إذا تغطى وجهها بالماء حتى كأنها محيت. وتركتُ الأرض محوةً واحدة إذا طبقها المطر. وقيل المحوة: هي الشمال.
قال الأصمعي وغيره: المحوة من أسماء الشمال، وكلمة محوة غير معروفة.
قال ابن السميت:
قد بكرتْ محوةُ بالعجاج ... فدمرّت بقية الرّجاج
والمدهش فعلاً أن تكون "محوة" معرفة غير مصروفة ولا تدخلها ألف ولام.. كأنها اسم علم والشيء نفسه في المصرية والأبعث على الدهشة أن تكون "محوة" اسم موضع بغير ألف ولام، وأن تكون "المحو" اسم بلد.
وقد أشارت مصادر أخرى إلى محوة =الجنوب فقال ابن بري: أنكر عليُّ بن حمزة اختصاص المحوة بالشمال لكونها تقشع السحاب وتذهب به. قال: وهذا موجود في الجنوب.(1/166)
قال "تمحو" إذن ليس فقط أهل الشمال: بل هم أهل الجنوب أيضاً أي ليبيو الجنوب. ويقدم لنا الدكتور الباحث الخشيم في بحثه المذكور أعلاه الحركية الجولانية التاريخية الجغرافية فيقول متابعاً" ويبدو أن هذه القبائل الليبية كانت في الجنوب" غربي الصعيد" ثم انتقلت إلى الدلتا حيث عاشت في الشمال في التاريخ القديم فصارت الدلتا مع انتقالهم تسمى "ت كـ م ح و" T A- M H W
أما القسم الثاني من بشر تلك الاسطورة فهم "ع كـ م و" =ع م و لأن الهمزة بين العين والميم مزيدة، وهناك عدد لا يحصى من الكلمات العربية الفصحى المعاصرة وقد حذفت من مطابقاتها في اللهجة المصرية (القديمة) الألف أو الواو أو الياء.
المصرية القديمة العربية الفصحى المعاصرة
و ء ح ت واحة
ب ء س ت = بسة (هرة)
ب ء ق= فاق
ب ء ق س = فقس
ح ء ت = حيط
ق ء ب ء س = قبس
خ ء ب = خار (الثور)
س ء ب= صبَّ
ك ء ب= كبو (حرق البخور).. إلخ
نستنتج من الأمثلة السابقة أن (ع كـ م) =(ع م) = العمو= (ع م و) ومنها "العمالقة" من عاد، والعناقيم، و"عامو" و "ع م" =الشعب بالكنعانية وهي نفسها "أناس" بالأكدية - "أم م" وبالعربية المعاصرة:
الأمّة والإمّة = الدين( ومعنى القوة)
الإمّة = النعمة
الإمة = المُلك
أمُّ القوم= رئيسهم ومنها الإمام =القائد.
الأُمّة= الجماعة الواحدة.
وفي المصرية أيضاً "أ م و" A M W أحد آلهة الفجر (معجم "بدج" ص 6).
والفجر يأتي حتماً من المشرق أي من بلاد "الأمو" أو "العمو"
أما القسم الأخير من أسطورة خلق البشر المذكورة فهم "ن ح س و" أهل السودان= جنوب مصر. وهذه الكلمة تعني: نحس" =السواد= النُّحاس /بضم النون/ الدخان الذي لا هب فيه: "وفي التنزيل "يُرسَلُ عليكما شواظٌ من نارٍ ونُحاسٍ فلا تنتصران)..
قال الجعدي:
يضئ كضوء السراج السليـ ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا.(1/167)
والنحَّاس :بفتح النون/ ضربٌّ من الصُّفَر والآنية شديدة الحمرة. ابن بزرج: يقولون: النَّحاس بالضم، الصفُّر نفسه، والنّحاس، بالكسر وخانه، وغيره يقول للدخان نحاس (اللسان، مادة نحس) وهذا يعني تحديداً عرب السودان الذين يميل لونهم للحمرة أكثر منه إلى السواد.]
هذا نموذج بين لما تعنيه المقارنة الأناسية المعرفية لدراسة ظاهرة وحدة البنية التاريخية العروبية، ليس فقط من ناحية خارطتها الثقافية الواحدة وآلية حملها اللغوية، بل من ناحية الدراسة المقارنة الأناسية للهجات العروبية على مسارها التاريخي العميق العريق وهو ما يفضي بالنتيجة الموضوعية الحتمية إلى حراك الخارطة الاثنوغرافية العروبية على كامل مساحة الوطن العربي وبما يعنيه ذلك من تداخل عضوي جدليّ بين البناء الشاقولي للغة والبناء الأفقي لحراكها التاريخي فيتداخل الماقبل خليجي مع الماقبل سومري مع الأكادي والمسندي والمصري والأمازيغي (البربري) والليبي والكنعاني والعبلاوي عبر سلّم تطور تاريخيّ واضح وصريح وصولاً إلى اللغة العربية المعاصرة.
وعندما نتكلم على اللهجات العروبية الأولية وتطورها اللاحق، فنحن لا نتحدث من وجهة نظر لغوية فقط، بل نتحدّث عن الواقع التاريخي الذي ارتبطت به، وعن الملامح والخارطة الاثنوغرافية التي شكلت مساحة عمل وحراك الكلتة الاجتماعية.
فالسطور والكلمات القليلة السابقة والتي قدمها الباحث الجليل الدكتور علي فهمي الخشيم، تؤكد مجموعة من الحقائق التاريخية التي من الممكن تثبيتها في منظومتنا الثقافية المعرفية كبنى راسخة ومن أهمها:
-إن القراءة الأناسية المعرفية لا تعني الحركية الاثنوغرافية إلاّ بمقدار ما توضح هذه الأخيرة وحدة الجنس بمعناه المعرفي والسيروري التاريخي، وليس بمعناه العرقي،(1/168)
-وإنَّ علاقة المكان (الجغرافية) بالكتلة الاجتماعية، ليست علاقة أحادية الجانب. فالعروبيون لم يُطلقوا أسماءهم على الأمكنة التي توضعوا فيها فقط، بالمفهوم المطلق، بل أثّروا وتأثّروا، وأثْروا مخزونهم الحضاري بما كانوا يبدعون على كافة المستويات.
-إن اللهجات العروبية في مراحل تطورها الأفقية والشاقولية، بقيت متمحورة حول عمود رئيسٍ واحد فما لاحظناه مما سبق، يؤكد أن الكنعانية والمصرية والليبية وحتى الأتروسكية لم تفقد محورها الرئيس رغم حركيتها الجغرافية المتتابعة والواسعة. فالكنعانية التي امتدت من الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية، ومن ثم امتدت إلى الجنوب اليماني، فساحل الخليج العربي، ثم بلاد الشام، ومن هناك إلى الشمال العروبي الافريقي وحتى سواحل البحر المتوسط الشمالية بقيت متمحورة مع الليبية التي امتدت في جنوب وادي النيل ثم إلى شماله في الدلتا، ثم إلى الصحراء العربية الكبرى وعادت بدورتها بعد الهجرة الليبية الكبرى إلى وادي النيل، وانتشرت إلى الضفة المقابلة من البحر المتوسط، مما دفع العلماء الغربيين إلى الانقسام بين من ردَّ اللغة الأتروسكية إلى الكنعانية وإلى قسم آخر ردَّها إلى الليبية، وذلك بسبب جهلهم بأن الكنعانية والليبية هما لهجتان للغة العروبية الواحدة. والاثنتان تتقاطعان مع المصرية التي لم تترك واقعها النسبي في جذور حراكها، لا في المراحل السابقة ما قبل تاريخية، ولا في حراكها في وادي النيل. مما أعطاها انطباعاً خاصاً بتقاطع كل صفاتها وخصائصها ومفرداتها ليس فقط مع اللهجات العروبية التي كانت متوضعة أفقياً وشاقولياً حينها وقبلها وبعدها، بل ومع اللغة العربية الفصحى المعاصرة (وهذا ما سنعود إليه في جداول لاحقة).(1/169)
-إن القراءة اللغوية المقارنة وحسب المنهج الأناسي المعرفي- لا تعني شيئاً على الإطلاق، إن لم ترتبط بالجوانب التاريخية من ناحية، والتاريخية الجغرافية من ناحية أخرى- وبالبنية الثقافية الحضارية ببنائها الشمولي وإذا كان هذا يشير إلى شيء واحد فقط هو أن التكوينات البنائية للمنظومة المعرفية العروبية واحدة مهما كانت تنويعاتها التأريخية والتاريخية والجغرافية، "فقد ظل اللسان الأكادي مثلاً أهم أداة لنقل الثقافة والمعارف والفنون في منطقة المشرق العربي 2500سنة. كما ظلت الإنجازات الثقافية للأكاديين الأوائل تتردد أصداؤها حوالي ألفي سنة بعد زوالهم. وقد تحدرت إلينا وثيقة أصلية من ذلك المجتمع، إنه نص أدبي حميم كتب في عهد سرجون مؤسس الإمبراطورية الأكادية وأعظم شخصية في تاريخ المشرق العربي القديم. وهذا النص هو "أخذة كش": وهو أشبه شيءٍ بآلةٍ لاختراق الزمن تطلعنا على اللسان الأكادي المحكي في القرن 23 ق. م نقرأ في هذا النص مثلاً.
أخُذْ فاكِ ش رُفَّتِ ... و"كِرِعي يطورُ الضأن"
أي:
أخذتُ فاكِ ذا الرقة:
آخُذْ =أخذتُ
فاكِ -فاك
شَ=ذا
رُفَّتِ= الرِقّة
أما الجملة الثانية=
كِرعي= كالراعي
يطورُ= يطور
ضَأَنَ= الضأن
فتصبح جملة كِرعي يطورُ ضأن=كالراعي يطورُ الضأن(47)
وهنا أعود لأذكَّر بأسطورة اينوما ايليش= حينما عيليش، والتي "ترجمت" إلى العربية" حينما في الأعلى "فنرى:
حينما= حينما
عيلي= عالي =أعلى =أعالي
شَ= ذا
فتصبح "حينما الأعلى (الأعالي) هذا". في الأمثلة السابقة نلاحظ أن أوجه الشبه، بل التطابق بين الأصل وتأديته بالعربية الفصحى المعاصرة لا تخفى والسمة العربية لا تنكر.
وفي ملحمة "جلجامش" إذا اقتطفنا بعض الجمل نلاحظ:
والآلهة يبكون معها= ايلاني بكو ابيتيشا
الآلهة=ايل=الله=إله
يبكون =بكو
وفي اليوم السابع = سيبوواومو
اليوم =أومو(1/170)
السابع= سيبرو=سيبعو (لأن اللغة التي ترجم منها النص إلى العربية لا تحتوي حرف "ع". وفي ايبلا (عبلة) من آلاف الألواح المكتشفة، هناك لوحات قوائم معجمية لمفردات لغوية شبيهة بالمعاجم الموسوعية المعروفة في عصرنا الحديث، وتتألف تلك القوائم من مفردات سومرية مع ما يقابل معانيها من المفردات التي يتداولها أهالي (إيبلا) في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد. فضلاً عن اللفظ الصوتي للمفردات السومرية في بعض الأحيان.
إلى جانب هذه الوثائق المعجمية ذات الأهمية البالغة، هناك العديد من اللوحات التي تضم نصوصاً أدبية لأساطير وملاحم الأبطال السومريين أو لقراءات ذات طابع سحري أو ديني (48) وكأن العلاقة في ذلك بين البنية العامة للمجتمع الإيبلاوي وملامح الثقافة السومرية علاقة عناصر واحدة لبنية واحدة، وبشكل مميز بين اللغة الايبلاوية وما تحمله من منظومة أدبية وثقافية تتداخل وشائجها أفقياً وشاقولياً مع الأكادية أيضاً. فاللغة الإيبلاوية أقدم لغة وصلتنا من منطقة غرب الفرات، مكتوبّة حتى الآن، ولم يكن أحد يتوقع العثور على شواهد مسطَّرة منها، وتتماثل هذه اللغة مع اللغة التي جرت العادة على تسميتها بالكنعانية وبالأخص مع الأوغاريتية التي نملك شواهد منها، ترقى إلى 1400-1200 ق.م ومع اللغة الفينيقية التي ترقى شواهدها إلى ما بعد 1200ق.م فضلاً عن هذا تماثلها مع اللغة العربية (49) المعاصرة، فمثلاً نجد بين مفردات لغة أهل إيبلا في الألف الثالث قبل الميلاد كلمات ماتزال حية في العربية الحديثة مثل (كتب) و(ملك) و(يد).
وبهذا تكون الإيبلاوية أقدم لهجة عروبية مكتوبة حتى الآن. وذلك لأنَّ وثائق (إيبلا) تشمل جيلين سبقا عصر الملك الأكادي سرغون الأول.(1/171)
و"يكشف لنا هذا التفوق الحضاري المنسوب لإيبلا حقيقة جديدة، وهي أن الأكاديين بعد فترة متأخرة قد اقتصروا على نسخ نظام الكتابة المسمارية" (50) هذا من جانب التواجد الجغرافي المحض بقراءته التأريخية أما من جانب التكوين اللغوي والقوام الثقافي فإن اللغة الإيبلاوية قريبة من الأكادية وتتماثل معها، بالإضافة لتماثلها مع اللهجات العروبية الأخرى التي تحدثنا عنها أعلاه وهي بالإضافة إلى كل ذلك تتماثل مع أقدم بنية في اللهجات العربية الجنوبية"(51)
وبقراءتنا لرأي بيغز Biggs (52) نتأكد من الوحدة اللسانية واللغوية الثقافية والمعرفية والأبعاد الحضارية الأفقية والعمودية من الانتشار الأناسي المعرفي مع فجر التاريخ حيث يقول: "إن الكتابة الايبلاوية كغيرها من الكتابات المسمارية تتألف من رموز لكلمات ومن انتشارات لأصوات ليست بالضرورة كلمات مقطعية، وفي الأكادية فإن رموز الكلمات تتضمن نظاماً مقطعياً ولكن غير أبجدي، والأمر كذلك في الإيبلاوية التي استعملت الكتابة المسمارية أيضاً، وهذه الكتابة مأخوذة عن السومرية ولذلك فإن قراءة النصوص الايبلاوية لا بد أن تعتمد على القراءة السومرية بمقارنتها بمترادفاتها في اللغات الأخرى الشقيقة للإيبلاوية. وألواح إيبلا تغطي مرحلة تأريخية زمنية طويلة تعود بمرحلتها الأولى إلى ما قبل 2600ق.م وألواحها تشابه ألواح (فارا في العراق) في حين تعود المرحلة الثانية إلى مرحلة أبعد تتماثل مع ألواح (أبو صلاييخ في العراق).(1/172)
والباحث الأثاري بيتيناتو نفسه (53) يعتبر أن اللهجة الإيبلاوية وسيطة ومشتركة بين الأكادية والكنعانية، بل هي الكنعانية القديمة نفسها، وبأن العلاقة بين اللهجة القديمة (الأكادية- الإيبلاوية- الكنعانية)/ استخدم بيتنياتو نفسه كلمة لهجة في بداية قوله/ وبين اللغة العربية ظاهرة وواضحة ومؤكدة. وتتميز العربية -حسب قوله- بأنها لغة صرفة والألفاظ الدخيلة فيها معروفة بوضوح وأورد عدداً من المفردات والجمل ومعانيها باللغة الانكليزية بعد أن كتب نطقها بالايبلاوية.
الايبلاوية ... الانكليزية ... العربية
Mi-Ka- Yà ... Who Is Like Ya? ... من- ك- يا (ك للتشبيه)
Mi-Ka-IL ... Is Like Il? ... من- ك إل(إل=إله)
En-Na-Niil ... Has Mercy On Me ... إنني إل
En-Nq-Niya ... Has Mercy On Me ... إنني يا
Is-Mà-Il ... Has Heard ... اسمع إل
A-Na Ma Lik ... Am Malik ... أنا أملك
Rà-I-Na-Aded ... Is Our Shepherd ... راعينا حدد
A-Dam-Ma-Lik ... Of Malik ... آدم الملك
Du-Bu-Hu -Ma -Lik ... Of Malik ... دبيحة الملك
Eb-Du Dra-Sa -Ap ... Of Rasap ... عبد رشب
Is-A-Bu ... Is The Father ... هو أبو
I-Ad-Do-Mu ... Hand Of Damu ... يد دامو
Ib-Na-Ma-Lik ... Has Created ... ابن ملك
وبعد أن نعلم أن هذه اللهجة هي الكنعانية القديمة، وتشبه لهجة أوغاريت فماذا نجد، فقط لو كان قارئ هذه الألواح عربياً أو يعرف العربية ويتعامل مع قراءة الألواح بحيادية العالم. فنلاحظ التطابق في المفردات والجمل Mi=مي= "مين"=من Ka=كَ= للتشبيه باللهجة الايبلاوية واللغة العربية المعاصرة إنني= Ni=Na=En سمع=Mq=Is، أنا=A-Nq.
ملك= Like =Ma راعينا= Na= I =Rà (يلاحظ التطابق بالإسم والضمائر المتصلة أيضاً) آدم =A-Dam) دبيحة = Hu = Na = Bظ = Du.. إلخ.
وفي موقع آخر من نفس البحث الذي نشره بيتناتو (54) -الباحث المتصهين- مقارنة بين مجموعة من المفردات الايبلاوية حدد معناها بالسومرية فكانت متطابقة تماماً حتى مع العربية المعاصرة ولنقرأ:
البكر=الابن البكر.
فروم= القوي البطل(1/173)
تدبيرو= تدبير
يدو=يد
أكلم= أكل
نقسم= حياة
أم=أم
كلماتو=كلمات =مزاح(55)
إن هذه الأمثلة لتؤكد الأواصر القوية بين اللغة العربية الحديثة واللهجة الايبلاوية، والتي أكّد الدكتور عفيف بهنسي من خلال متابعته لكل ما تعلق بها "بأن مكتشفات ايبلا هامة لسورية ولكل العرب، لأنها تكشف عن عمق جذور الأمة العربية وحضارتها، وهذه المملكة التي يبلغ عمرها 4500سنة هي مملكة عربية تمتد بين منطقتين هامتين، هما منطقة الرافدين (أكاد) ومنطقة الساحل الكنعاني، وكل تلك الحضارات تنبع من حضارة واحدة هي الحضارة العربية القديمة (56) لأن سكان هذه المملكة هم قوم يتكلم بدوات اللغة العربية الحديثة. وقد يكون هؤلاء هم العموريون وقد يكونون أجداد الكنعانيين، وذلك أن لهجتهم وسط بين لهجة أكاد ولهجة كنعان، وهذا ما يؤكد الوحدة اللغوية بين هذه الممالك التي تفسر وحدتها القومية" (57)، وهذا يعني من جانب آخر ضرورة تناول الرُّقُم المكتشفة في الوطن العربي باللغة العربية، ذلك لأن عدم تناولها على هذا النحو يحجب الروابط التي تربط العربية المعاصرة باللهجات العروبية السابقة، وهو ما يكشف ليس فقط "الترجمة" الحية الحراكية المباشرة ونقلها عبر حلزونها التطوري الصاعد، بل ويكشف أيضاً ملامح وقدرات تلك اللهجات في سماتها التوالدية والشعرية والوظيفية بالإضافة إلى توضيح الوحدة الأكيدة في البناء الأناسي الذي أنتج وتفاعل مع هذه اللهجات في سيرورتها العروبية.(1/174)
والحق أن نفراً من المؤلفين العرب قد شعروا بأهمية معالجة التراث القديم بالعربية كالشيخ نسيب وهبة الخازن وأنيس فريحة وسامي سعيد الأحمد وكميل البستاني إلاّ أنهم اقتصروا في منهجهم على استبدال الحرف العربي بالحرف أو الرمز القديم العروبي وهو ما يمكن تسميته بالنقل الحرفي واتباعه النص (58)، ولذلك لا بدّ من أن تكون القراءة حية، متسلحة بمقدرات اللغة العربية المعاصرة وبخصائص اللغة العروبية بلهجاتها المتعددة السابقة، وإظهار الروابط التي تصل بين العناصر المكوّنة للبناء اللغوي بتطوريته وحراكه التاريخي، وهذا ما يكشف بالإضافة لذلك الجوانب الأخرى غير اللغوية المباشرة المرتبطة بالبناء الميثولجي والأدبي والثقافي والفني والحضاري والتقني. "فأسلوب تأدية الأعلام القديمة باللغة العربية- مثلاً- في الوقت الحاضر يفتقر إلى الدقة العلمية، ويشكو من عيبين أساسيين. الأول إن تأدية هذه الأعلام لا تصدر عن الأصل القديم بل تُستمد، عن طريق التعريب، من التأدية الأوروبية، والثاني، أنها تتجاهل دور الكتابة العربية (والعروبية) التي تميز بطبيعتها الصوائت الطويلة عن الصوائت القصيرة وهو أمر لا يتيحه الحرف اللاتيني (59)، يضاف إلى ذلك وجود أحرف كثيرة في العربية ولهجاتها كالـ (ق) و(غ)و (ع) و(ض)و (ظ) و(ذ) و(ح) والهمزة غير موجودة في اللاتينية وبنات الهندو -أوروبية- ولقد عرض فرانز ورولي إلى هذه المشكلة عند السؤال عن اللفظ الحقيقي لمدينة إيمار، فهل هي عمار، أم غمار، أم خمار؟ وكذلك عندما تحدث عن اللفظ الحقيقي لايبلا فقال إنه عبله (60) فمن الأسماء التي وردت في وثائق ايبلا مثلاً حمص نُقلت إيميس، لافتقار الابجديات الأوروبية إلى حرف (ح)/ و"حماه" و"إيماة" وغيرها أمثلة كثيرة.(1/175)
أما بالنسبة لبعض الأسماء العمورية (الأمرية) والتي تحدرت إلينا منذ القرن الخامس والعشرين ق.م فيتضح من قراءتها العربية بأنها عربية صحيحة مطلقاً "فمن الأسماء التي وردت من القرن الثامن عشر ق.م أي عصر السلالة البابلية الأولى إلى أشهر ملوك هذه السلالة والذي لقب :أبي عمور"= (عمورابي) =(حمورابي) (أبي العموريين) إنه "عمُّ رافئ"/ ومعناه (الإله) عمُّ رافئ صاحب الشريعة الشهيرة. وتتيح لنا رُقُمُ ماري المعاصرة قائمة بأسماء أعلام عمورية منها "أبو سليم" "عبدُ نّوار" و"عبد مَلِك" يريم حداد" "يسمع حدّاد" "حداد باني" إلخ(61).
ومملكة (أمُرُّ) التي لم تدم طويلاً في أواسط سورية عرفت ملكين "عَبْدُ عشتار" و"ابن عَزيزُ". ومملكة (أوجاريت) التي كان ملوكها يفاخرون بتحدرهم من "أهل مضارب وَزَن" (وهي واحة في شمال الجزيرة العربية تعرف اليوم بالعُلا) والتي تشبه لغتها لغة العرب حرفاً ولفظاً. مملكة "كومد" (كامد اللوز الحالية في البقاع اللبناني، حيث اكتشفت فيها أقدم كتابة أبجدية غير مسمارية: شظيتان من رقيم ينسبهما مكتشفوها إلى القرن 14ق.م بكثير من التأكيد، ومما يلفت الانتباه في هذا الشاهد قربه من الابجدية العربية القديمة التي عرفها الثموديون بشمال جزيرة العرب في الألف الأول قبل الميلاد(62) ومن سبعة نصوص أوردها الشيخ نسيب وهيب الخازن(63) يمكننا قراءة وفهم النص الثمودي مباشرة، وبالتالي النص الكمدي، باللغة العربية المعاصرة، ومنها اقتطفتُ عشوائياً عدة جمل:
الثمودي ... العربية المعاصرة
وذكرت احشيمه وتمله ... وذكرت اللات احشمه وتيم الله
ها رضو سمع لملوك هولت ... يارضى اسمع لملوك الرئيس
همسكت بن يشعن بت ... هنا ساكن بن يشعن بات (ليلة)
حممت جمأت ... جمأت أصيب بالحمى
سعدن الم سور شمس ... سعدان رسم هذه العلامات للشمس
لُبّك سرر وهب وصدقي ... قلبك (لُبُّك) سرور وهبة وصدق
بك هسرهشمس متعلي ... بك السرور يا شمس المتعالي
سقم دد ... داد مريض (سقيم)(1/176)
وأسماء علم: تاحز، غر، سالم، عفيف، حنّا، طايح، مُرّة، كميلة/ رفيق، فوح، حنّان، نيران، علي، حمدي، كوكب، سلمان، ذيبان، عصمان قادم، تميم، معن عمرو، النمري، عمان، عكار، صالح، عباس، أوس.
وهذا يعني تواجد كتابات لمراحل تأريخية متعاقبة وغير متوازية في نفس الموقع الجغرافي فالثمودية تنتمي للمسند المنتشر في الجزيرة العربية في حين تحدثنا عن اللهجة الأوغاريتية (الكنعانية) وانتشارها لكن المتتبع للمسند المنتشر في الجزيرة العربية في حين تحدثنا عن اللهجة الأوغاريتية (الكنعانية) وانتشارها. لكن المتتبع للمسند كما سنرى لاحقاً سيكتشف كيف شكلت اللهجات العروبية بنى تداخلية شاقولية، متداخلة فيما بينها، بحيث تشكل الواحدة تكويناً من الأخرى بانتشارها الجغرافي والديموغرافي الأفقي وبعلائقها التداخلية مع ما قبلها ومع ما بعدها. فالأحرف المتطابقة بين المسند، والفينيقية هي التالية:
حروف المسند الأحرف الفينيقية
اللفظ ... الشكل ... اللفظ ... الشكل
ت ... × ... ت ... ×
ش ... ش(شين) ... سنّ
ر ... ر ... رأي
قاف ... قاف
ج ... جمال ... ج
(عين)ع ... O ... (عين) ع ... O
ف ... ف ... فاء فم فو
(ميم) م ... م ... ميم ماء
ن ... ن
ل ... ل ... لمّاد
ز ... ز ... I ... زين
ك ... ك ... كاف (كفّ)
ص ... ص ... صادي
د ... د ... دولات
هـ ... هـ ... هات
أما المتتبع لتسلسل الأبجدية الفينيقية فيلاحظ بأنها تحمل التالي:
(أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت) وهذا ما يحفظه أي عربي معاصر، أي أنها مكونة من 22حرفاً:
ا ب ج د هـ و ز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت
الحرف بالعربية ... الحرف الفينيقي ... لفظه ... معناه
أ ... K ... الف ... ثور
ب ... بيت ... بيت
ج ... جمال ... زاوية عصا
د ... رولات ... باب
هـ ... هات ... أواه
و ... Y ... واو ... وتد
ز ... I ... زين ... مطرقة
ح ... حيط ... حائط
ط ... طيط ... تاء مفخمة (أي طاء)
ي ... يود ... يد
ك ... كاف ... كف
ل ... لماء ... كلاّب، حساس
م ... ميم ... ماء
ن ... نهاس ... ثعبان
س ... سمك ... سمك
ع ... عين ... عين
ف ... فاء ... فم، فو
ص ... صادي ... جندب
ق ... Q ... قاف ... قرد
ر ... ريش ... رأس
ش ... W ... شين ... سنّ
ت ... تاو ... وسم(1/177)
والمتتبع الدقيق للفظ الحرف الفينيقي مع معناه يدرك التطابق الدقيق في المقصود الحركي والدلالي لكل حرف من هذه الأحرف، وهو ما يعني أن المعنى المعطى والذي يشكل بؤرة الحراك المعرفي بعلاقة اللغة بالواقع، هو واحد في بنيته وسيرورته عبر آلاف السنين من سيرورة الأناسة المعرفية بمرحلتيها العروبية والعربية: بيت =بيت / حرف الباء/ حيط= حائط/ الطاء/.
يود=يد /الياء/ كاف= كف/الكاف/ إلخ.
وبالعودة إلى المسند نلاحظ التراتيبية التالية:
أ
ب
ت
ث
ج
ح
خ
د
ذ
ر
ز
س
ش
ص
ض
ط
ظ
ع
غ
ف
ق
ك
ل
م
ن
هـ
و
ي
- ... غير موجود في العربية المعاصرة وهو بين السين والزاي
الأبجدية المسندية تسع وعشرون حرفاً.
ولقد انتشر استعمال المسند، ليس فقط في الجنوب اليماني من الجزيرة العربية، بل في منطقة (قنا) والجيزة (في بلاد النيل) وفي العراق (منطقة الوركاء) وفي بلاد الشام، وفي باقي منطقة الجزيرة العربية (66) ومن المسند اشتق القلم الحبشي القديم وقد عثر على كتابات به في منطقة (يحا) (يها) Jeha، وهي تمثل أقدم نماذح الكتابات الحبشية، وقلمهت هو القلم السبئي القديم (67) كما أن للمسند تأثيراً مباشراً أو بالواسطة في عدد من الأقلام، منها كتابات عثر عليها في افريقيا /بالاضافة إلى الحبشة/ في اللهجة الكوشية والنوبية (68) بالإضافة إلى الخط البربري القديم(69).
"فمن بين المساهمات الكثيرة التي قدمها لافريقيا المهاجرون الوافدون من اليمن لغة سبأ التي عُرفت في الحبشة باسم جعيز GEEZ نسبة إلى القبيلة اليمنية التي كانت تتخاطب بها. والجعيز أم اللغات الرئيسية الثلاث التي يتخاطب بها اليوم في الحبشة وارتيريا، وهي التجرينية، والتجرية والأمحرية أما التجرينية فهي لغة التخاطب في مقاطعة تجراي -مملكة أكسوم القديمة- وكذلك يمكن اعتبارها الوارث المباشر للجعيز. ويسمى الناطقون بالتجرينية لغتهم "حبشة"(70) Habesha أي اللغة الحبشية دون سواها.(1/178)
وأما التجرية Tigre وتعرف في مقاطعة كسلا بالسودان باسم "الخاصية" فهي لغة التخاطب بين سكان المنخفضات في شرق ارتيريا، وفي سهولها الشمالية والغربية، وكذلك بين قبائل بني عامر.
واللغة الامحرية -نسبة إلى مقاطعة أمحرة- هي لغة معظم سكان الهضبة الوسطى وعُرفت منذ زمان بعيد بلسان النجاشي إذ كانت لغة البلاط(71).
والحروف الحبشية مستمدة من الحروف الهجائية بجنوب الجزيرة العربية (المسند) وعددها 33 حرفاً وفي مدينة هَرر بشرق الحبشة لغة تعرف عند الناطقين بها باسم "حضري وهي تكتب بالحروف العربية وهي نتاج تداخل مع الصومالية والقالة GALLA (72).
إذن، نعود إلى قولنا في الفصل السابق بأن تاريخ الحبشة (73) وكامل الساحل الشرقي الافريقي يبدأ في الجزيرة العربية وهذا ما يبرر انتشار المسند في تلك المنطقة "وحروف" المسند ومفرداته وتكوينه اللغوي قريب ومتقاطع مع الأكدية والحبشية، ويقول فيليب حتي "أن الأكدية والحميرية والحبشية تمثل أقدم شكل للسان العروبي"
ويدعم هذا بانتشار البنية الميثولوجية نفسها التي سادت في الجزيرة العربية (سنفصل ذلك في حينه) فقد سادت في الموطن "الجديد" في الحبشة مع فجر التاريخ، عبادة آلهة جنوب الجزيرة العربية نفسها (عتتر =عشتار= عشتاروت) القمر=المقه/ في سبأ "وود" في معين، عم في قتبان، و"سين" في حضرموت والشمس. ففي النقوش المكتشفة في منطقة الشرق الافريقي يظهر دائماً تقريباً الاسم المقه" إله القمر ويرمز إليه بالهلال والقرص، وتتمثل عبادة الشمس في زوج من الالهة: ذات هميام وذات بعدان (شمس الصيف، وشمس الشتاء).(1/179)
والبحث في أصل المسند مازال موضع جدل بين الباحثين في العربيات الجنوبية، فمنهم من يرجع أصله إلى الخط الفينيقي (لاحظ المقارنة التي أوردناها أعلاه) ومنهم من يرجعه إلى كتابات سيناء حيث عُثر فيها على كتابات قديمة جداً يعدّها الباحثون أقدم عهداً من العربية الجنوبية (74) فقد وجد شبه كبير بين حروف هذه الكتابات وحروف المسند مما دفع هؤلاء الباحثين إلى اعتبار المسند مشتقاً من خطوط سيناء ومنهم من يعتبر المسند مشتقاً من الخط الكنعاني بسبب التشابه بين حروف الخطين.
فماذا تبين لنا رحلة المسند؟
حول جذوره تتعدد الآراء من أنها كنعانية أو فينيقية جنوبية،أو سيناوية وهذا يعني أن الكنعانية /الأوجاريتية/ والفينيقية الجنوبية، والأكدية، والسيناوية... تتقاطع أيضاً فيما بينها إن لم نقل تتماثل.
أما الاشتقاقات التي تطورت منه فهي لهجات الشرق الافريقي، والبربرية القديمة، ولهجات الجزيرة العربية والنوبية وغيرها، وهذا بالنسبة للشاقول الزمني يضعنا أمام تأكيدٍ آخر للخارطة التاريخية الأناسية العروبية التي أكدناها من خلال لهجات أخرى.(1/180)
أما من ناحية الحراك الجغرافي فإن المتتبع لمسار المسند بأصوله المحتملة واشتقاقاته التالية، يلاحظ بأننا شملنا الجزيرة العربية بكاملها وبلاد الرافدين / وبلاد الشام، ووادي النيل (من النوبة إلى الجيرز) والساحل الاريتري على البحر الأحمر والهضبة الحبشية والقرن الافريقي واتجهنا إلى الشمال الافريقي العربي مع اللهجة البربرية القديمة فنكون قد شملنا كامل المساحة الجغرافية العربية من خلال متابعتنا لحراك المسند، وهو ما يتطابق أيضاً مع الامتداد الجغرافي لحراك الكنعانيين /الفينيقيين/ ومع الحراك العروبي الأول السابق للتاريخ... ومع كافة احداثيات الحراك الأخرى، الجولانية، مهما كانت اتجاهاتها الجغرافية (التضاريسية) لأن هذه الأخيرة لا تغير ولا تبدل من طبيعة القوام الأناسي المعرفي الذي يشكل وعاء الاحتضان والحركيات الحضارية والثقافية وغيرها.
واللغة منظومة جمعية- كما قلنا أي أنها وليدة الحياة الاجتماعية فالإنسان الذي عاش في الجماعة كان يحتاج للتواصل مع أفرادها نتيجة انخراطهم في الحياة الانتاجية (بتعدد معاني النتاج)، مما دفع هؤلاء الأفراد إلى استخدام الأصوات، والتي انتقلت لاحقاً لتصبح كلمات انتظمت في أنساق خاصة وشكلت اللغة ولم تكن هذه الأخيرة بنموها معزولة عن التفكير بل تترابط وتتداخل وتتفاعل معه، نتيجة لتطور الرؤية الأناسية بمعاني التجريد والتشخيص، ليس بما يخص الواقع المادي الموضوع الموجود فقط، بل بما يتعلق أيضاً بالحوادث والتصورات والاستحضار. وهذا ما عنى في أحد أعمدته الأساسية، التأكيد على الفعل- الأثر، أي إطلاق المعنى خارج العالم الذاتي الخاص الشخصي للفرد، ودفعه للتأثير في البنية المحيطة في غياب الفرد- الأنا أو مع تطور الجماعة إلى أجيالها التالية أو في بناء علائق خاصة مع جماعات أخرى وهو ما أدى إلى الانتقال من اللغة الشفوية إلى الكتابية، والتي مرت بعدة مراحل من التطور.(1/181)
والجماعات التي تعيش واقعاً تاريخياً - موضوعياً- متطابقاً أو متماثلاً تنتج طرائق للاتصال وللتواصل متطابقة أو متماثلة. وبالتالي لا يمكن أن يكون التطابق في ذلك، وليد الصدفة. خصوصاً أن المراحل التأريخية والتاريخية التي مرت بها اللغة، هي السياق التراكمي والنوعي (البطيء جداً بالمفهوم الزمني) والذي يعني أن التطابق في التصورات واللغة هو تطابق في الخارطة البنائية الاثنوغرافية والأناسية المعرفية بتعدد جوانبها وتطور احداثياتها.
فعندما ناقشنا مثلاً إطلاق تسمية الفينيقيين على الكنعانيين وشرحنا كيف أن هيرودت أشار إلى وجود الطائر -إله (الفينيق) في جنوب الجزيرة العربية والذي كانت مهمته محصورة في حماية شجر البخور واللبان من الأيدي الآثمة التي تمتد لقطع هذه النباتات المقدسة في مرحلة من مراحل التاريخ كانت هذه المواد أهم سلع تجارية في العالم. لأن البخور هو غذاء الآلهة في العالم القديم" وما كان لغذاء الرب هذا أن ينمو سوى في ما عرف عن المصريين في بلاد "طءنتر= وطأة=أرض=بلاد، نتر=نطر-رب أي في بلاد" الرب" لقد كان البخور العمود الأساسي للطقوس الدينية في المعابد والبيوت على كامل امتداد المشرق العربي بما في ذلك بلاد النيل. ورغم أن شجرة البخور كانت تنمو على الساحل الصومالي أيضاً إلاّ أن رديفها اليمني كان، وما زال، ذا نوعية أفضل، مما جعله مؤهلاً لأن يقدم لآلهة تلك الشعوب. وقد عُرف أن البخور أو اللبان لعب دوراً أساسياً في حياة العرب الدينية القديمة أيضاً (75).
لقد كان ساحل "البخور" في ظفار، أما درب البخور والذهب / وهو ما يشير إلى الحراك الترابطي الأناسي/ فقد كان يبدأ من شبوة عاصمة حضرموت منطقياً باتجاه تمنه، ثم إلى مأرب مروراً بقرنو لينتهي في مرحلته الأولى في نجران، ومن تلك النقطة تحديداً كان الطريق يتفرع في عدة اتجاهات:(1/182)
أولها يمر بوادي الدواسر والافلاج واليمامة لينتهي في الخليج العربي العراقي ومن الجدير بالذكر أن ابن المجاور سجل في "تاريخ المستبصر" وجود طريق يمتد من نجران وحتى شط العرب يسمى "درب الرضراض"(76)
أما التفرع الثاني لدرب البخور والذهب فكان ينطلق من حضرموت تجاه نجران ثم إلى يثرب والعلا شمالي الحجاز ثم إلى البتراء في بلاد الشراة حيث كان يتفرع من هناك بثلاثة اتجاهات: الأول كان يقود إلى دمشق وساحل البحر الأبيض المتوسط والثاني يقود إلى بلاد الرافدين، والثالث كان يقود إلى مدينة غزة ومنها إلى بلاد النيل والتي كان يصلها البخور أيضاً من الساحل الإفريقي الشرقي إما البخور المزروع في الصومال أو عبر مضيق باب المندب.
وبالتالي عُرِف الإقليم الجنوبي لجزيرة العرب بأهم منتج ديني- زراعي- تجاري... ولحماية هذا المنتج سجل هيرودوت في مؤلفه (3/107-112) معلوماته عن الطائر- الإله "الفينيقيا" والأفاعي المجنحة التي تحمي شجرة البخور في بلادهم(77).
وتسمى النخلة باليونانية فنيقس "فينيق" وتقال للعنقاء أيضاً، وسميت فينيقس لأنها كما تقول الاسطورة تتوالد على شجر النخيل. وفي مصر القديمة كان النسر رمزاً لإله الشمس، وكانت النخلة مقدسة عند أم الإلاهه الكبرى. وكان المصريون يعتقدون أن العنقاء تأتيهم محلّقة من جزيرة العرب لأن الشمس تشرق عندهم من سينا. وكان العرب- الصوفيون يكنّون بالعنقاء عن الهيوي(78) ويذكر فون سودن في قاموسه الأكدي الألماني لكلمة النخلة بالأكدية هي: ماراتو، (يلاميتو، ارخانوا، خولاميتو، و"نخلة" العربية المعاصرة مأخوذة من خولاميتو(79).
وما يزال العراقيون يطلقون على الحبل الذي يحاك من ليف النخيل ويستعمل في ارتقاء النخلة (تَبِلْيَة) وهي في الآرامية نفسها Tabhleya وبالأكدية توبالو. ولقد عثر على نقش في إحدى منحوتات تل حلف على صورة للتبلية.(1/183)
ومن نخلة Palm=العمود= المستقيم اشتق اسم مدينة تدمر باللاتينية Palmyra و"تدمر" مشتقة من تمر، ومنه لفظة "ثمر" بالعربية الفصحى، والكلمة العروبية المشتركة للنخلة هي مادة (تمر) =تامار بالكنعانية وهي مأخوذة من مارّاتو الأكدية الدالة على النخلة والاسم السومري للنخلة هو غيش- يم- مار=GISHIMMAR وهو يحتوي على المقطع MAR الذي يعني قُبّعاً على صورة رقم 8 ويرد في كلمات ترمز إلى فأس مزدوجة لرأس مزودوجة، أو للمعول وهي نفسها لفظة (المر) بالعربية المعاصرة والأكدية، ومن ثم فإن المقاطع السومرية GISH -IM-MAR تعني:
"الشجرة السماوية المقدسة"(80) وفي الجزيرة العربية كان العرب يعبدون نخلة نجران ويكسونها الملابس ويزينونها بالزينة النسائية وقد عبدت قبيلة حنيفة التمر. وصنعت منه تمثالاً أكلته حين ألمّ بها الجوع. ومن المهم جداً الإشارة إلى أن النخلة أحياناً تقترن باسم بعل "بعل تامار" أي بعل النخلة. ومعروفة أيضاً نخلة مثوى العزى، والعبلاء مثوى "ذي الخلصة" فتقديس العرب للنخلة ليس بالأمر الغريب، فقد كانت شجرتهم المقدسة في مصر وبابل وفينيقيا والجزيرة. ولا غرابة فقد كانت الشجرة بالنسبة إليهم صنواً للحياة سواءً نظرنا إلى الشجرة من حيث هي كائن واقعي أو من حيث هي رمزٌ حيّ. فمن النخلة التمر طعام سائغ وذخرٌ أو عدة للسفر والنبيذ نشوة وانفتاحٌ على عالم لا يكدر صفوه الموت، فلا غرو إن كانت شجرة عشتروت، عشتار المقدسة(81) وهي الضرورية جداً لتجديد حياة العنقاء (طائر الفينيق)- الذي نسبه الإغريق إلى بلاد العرب(82).(1/184)
وهناك إجماع على أن صورة العنقاء مستوحاة من النسر، والعنقاء من العنق ومنها العناق وبغض النظر عن البعد الميثولوجي الذي يتحرك بنفس المناحي التي تنتقل فيها اللغة إلاّ أن الدلالة الهامة التي تشير إليها تلك البنية السابقة، تحمل في بنائها وحدة انتقال التأثير بين اللغة والفكر على مساحة جغرافية هامة وعلى مراحل تاريخية متعاقبة من التاريخ الجغرافي العربي.
وإن كنا سنخصص للبناء الميثولوجي بمرحلتيه العروبية والعربية جزءاً من بحثنا إلاّ أننا نجد من الضرورة أحياناً التعريج على جوانب هامة لها علاقة بالبناء اللغوي واستناداته الأناسية وكما لاحظنا كان هذا التعريج وسيكون مختصرا ً، ومتعلقاً بالجانب التوضيحي اللغوي.(1/185)
فمنذ بدأ الإنسان يفكر في معنى الحياة والوجود وعلاقته بالطبيعة والكون، وبالزمان وبالمكان، اتخذت عنده رموز الخصب والانتاج في الطبيعة هالة من القدسية؛ فعبد كل ما يوفر له الغذاء ويحافظ على ديمومة الحياة وقد ارتبطت المرأة منذ العصور الحجرية القديمة بعبادة الأرض، لأنهما كلتيهما، ترمزان للخصوبة واستمرار الحياة. وطوال مرحلة الانتقال من جني القوت إلى مرحلة انتاجه، كانت عبادة الانثى طاغية على عبادة الذكر، لأنها هي التي تلد وتحافظ على استمرار الجنس البشري ولأن دورها في العملية الاقتصادية لم يكن دون دور الرجل (83) ومع تطور البنية الجماعية في الانتاج وتطور العملية الانتاجية الزراعية وضرورة تدخل الرجل (كقوة عضلية) في تلك العملية، انتقلت الانثى إلى الموقع الثاني، وحلّ الرجل مكان الصدارة في السلالم الميثولوجية والثيولوجية. لكن المرأة بقيت تحتفظ بخاصيتها الأساسية التي قدمتها سابقاً (الإنجاب والخصب والولادة والعطف والرحمة). وكما قلنا في فصلنا الأول، بأن الجماعات العروبية ما قبل التاريخية كانت سباقة بالتطور التاريخي وعلى مسار أنساق التاريخ كلها فقد تميزت لهجاتنا العروبية بخصائص هذا الانتقال والسبق التاريخي في تحميل بنائها الأبعاد المعرفية الأناسية، التي ما زالت لغتنا العربية تحملها في كل دلالاتها اللفظية والتركيبية والمرجعية والرمزية... ففي الأدب الأوغاريتي (الكنعاني) ترد لفظة (رحمايا) كإسم لإلاهه، ولا شك أن الأصل هو "الرحم" والرحم هو مستودع الجنين عند المرأة، وهو رمز الخصب واستمرار الحياة. كما تعني (ر ح م) الكنعانية: فتاة، كأن يقال -رحم- بالكنعانية، مثل بقية اللهجات العروبية، معنى الرحمة أيضاً. وتعني كلمة الرحم بالعربية- القرابة أيضاً كأن يقول "ذو رحم" أي "ذو قرابة".(1/186)
ولعل هذا التعبير يحمل جذور المجتمع الأمومي، وهذا ما يذكرنا بكلمة (بطن) العربية بمعنى عشيرة ومن البطن يتفرع الفخذ، وكلاهما مصطلحان لهما صلة بتشريح جسم المرأة.
ويقال للمرأة رحوم، ورَحمة، ورحماء ومن هذا الجذر جاء مفهوم الرحمة بمعنى رقة القلب والتعطف(85) والرّحِمُ، والرّحْمُ في المعجم الوسيط: موضع تكوين الجنين ووعاؤه في البطن، والقرابة وأسبابها ذوو الأرحام: الأقارب.
الرحمن: الكثير الرحمة، وهو وصف مقصور على الله عز وجل ولا يجوز أن يقال لغيره.
ويرى جون الليغرو أن اسم الالآهه عشتار مشتق من الكلمة السومريةUSH- TAAR التي تفيد معنى "الرحم" وتقابلها "شاترو" بالأكدية. ومنها أيضاً عشتارتو الأكدية. وهناك رأي يقول بأن عشتار ذات أصل عروبي قبل سومري منها عشتر العربية وهي المقابل لها "تذكرنا بالفعل" عثر الذي يفيد معنى السقي والأرواء(86).
"ولدى الاحتكام إلى اللغة نرى أنها تقدم لنا أدلّة تؤكد على العلاقة بين الأنثى والرموز الأخرى الدالة على الاخصاب فكلمة مار MAR السومرية تعني "الرحم" و"معول" على حد سواء (87) ولنتذكر ما أوردناه أعلاه عن (المر) كمعول للحفر يستخدم بشكل واسع في بلاد الشام والرافدين. (والمعول فأس ذات مسنين أيضاً. ويرى جون الليغرو أن اسم الاله البابلي مردوك قد يكون مشتقاً من المقطعين السومريين Mar-Dug ومعنى Dug اتصال جنسي أو مني، أو عضو الذكورة أما Mar فرحم كما أسلفنا " وإنا نتساءل إن كانت هناك صلة بين كلمة (مارّاتو) الأكدية، وتعني " نخلة" كما ورد معنا أعلاه وكلمة Mar السومرية، فالنخلة كانت تعتبر إلهة الولادة في بابل، ومصر والجزيرة العربية وفينيقيا" (88) وهل من الصعب أن تكتشف العلاقة بين Mar (رحم) السومرية، وكلمتي (مرأة) و(مرء) العربيتين المعاصرتين؟ وهل هناك حاجة لنذكر القارئ بميلاد النبي اليسوع وبقصة أمه مريم والنخلة؟(1/187)
و"مريم" نفسها اسم مشتق من اللهجات العروبية (مر)= الماء شديد الملوحة= البحر= يم.
"والأم بالسومرية AMA وكذلك UMU وتختصر إلى MA=أم، وبالأكدية =أمو =Mo-Ri=الأم المنتجة والولود =Rim تحمل طفلاً و"كانت ماري اسم إلاهة أطلقه المصريون في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد على منطقة في الشمال (قيل أنها قيص!) (89).
و(أي ماري) والتي حكمت مدينة ماري على الفرات حتى ضمها حمورابي سنة 1800ق.م. ولما كانت الأعضاء التناسلية تقترن بالاخصاب والانتاج والانجاب فقد كانت عند الأقدمين رمزاً لعملية الخلق أيضاً. من هنا اقترانها بالأسماء الدالة على المعبود في المعتقدات القديمة، مثل لفظة "بعل". فبعل كان أشهر آلهة الخصب عند الكنعانيين. بعل / هدد: يعني الاسم في كل اللهجات العروبية المالك والسيد والزوج، ويرتبط اسمه بأسماء مدن وبلاد ومواقع مثل بعل حازور، بعل فعور، بعل لبنان، بعل حرام، بعل بك.. وغيرها كثير. وكانت رسائل تل العمارنة تصفه بإله الصاعقة ويقرأ اسمه (أدّو= حدو=هدو/ كما في بلاد الرافدين) ويلقب الفرعون نفسه (بعليا أديا) أي (يابعلي ويا أودي) مما يشير إلى أن الاسمين (بعل وأدو) لمسمّىً واحد. وكان الاسم المحبب لدى الأوغاريتيين، ويقصد به إله الخصب والطقس، وعرف بهذا الاسم في بلاد النيل أيضاً. ويعتقد أن بعل هو من أصل عموري كنعاني حيث يظهر لأول مرة في عصر السلالة البابلية الأولى. أما هدد (هدّ) فيعتقد محمد وحيد خياطة أنه من فعل كسر ودمرّ، والهاد في المنجد هو صوت من البحر فيه دويّ، والهادّة مؤنث وتعني الرعد، يقال ما سمعنا العام هادّة، أي رعداً والهدد هو الصوت الغليظ، وهذا ينطبق تماماً على صفات الاله بعل(90).(1/188)
أما علي الشوك فيقول "بأن بعل "اسم مشتق من الفعل السومري Al (يثقب) الذي إذا اقترن بالمقطع Ba، سيعني "مثقب، قضيب" وبدمجهما يؤلفان كلمة Bal (يحفر) بالسومرية ويذكرنا المقطع السومري Al (يثقب) بكلمة Alla الأكدية (معول) وهو أداة للحفر، وفي الأوغاريتية -الكنعانية هناك الإله عليّان- بعل ومثله عليان- قردم، وقردم تعني "مقبض الفأس، قضيب" وبعل بالحبشية: يملك الكثير، يغتني، وبعولي: غني. وبعل=رب= سيد، ومثلها في السريانية"(91).
هناك نحت سومري يرقى إلى الألف الثالث ق.م يرمز لإله المطر غبّ الجفاف. وكان الإله هدو= حدد= أدو يصوّر واقفاً على ظهر ثور ممسكاً بصاعقة في كل يد، بصفته إله البرق والعاصفة فهو الذي يطلق العنان للعواصف، وبمشيئه يرعد الرعد وتنحني الأشجار تحت سقوط الرياح الهوج، وهو الذي يتجلبب بالسحب الداكنة ويهدر بصوته الراعب. وعندما أصدر بعل أوامره بأن تغمر الأرض بالطوفان، قام هدّو بتنفيذ هذا الأمر. كما جاء في إحدى الملاحم الأوغاريتية (الكنعانية) "لك أيها الأمير البعل، ألم أكرر (على سمعك) يا راكب السحب... وكذلك البعل يعطي صوته رَعْدَهُ ويرسل ضياءه إلى الأرض بروقاً"(92).
والريح في العربية هي حركة الهواء، كما هو معروف، وهناك الروح وهي حياة الأنفس، وكلمة "روح" صوتية على أغلب الظن أي أن اللفظة اجترحت من صوت الريح(93) لكنّ جون الليغرو يرى أن كلمتي "روح" و"ريح" جاءتا من _ري- خا) السومرية، وتعني العاصفة (94). و"ري- خا" هي بالتأكيد "ري- حا" قبل نقلها إلى اللغات اللاتينية وإعادة الحاء خاء إلينا، تماماً كما لاحظ القارئ في السطور السابقة مع الإله هدّو=حدّو= الذي عاد إلينا في بعض المراجع أدّو. ما يهمنّا في هذه القراءة إثبات التواصل الأناسي المعرفي بشقيه العروبي والعربي وعلى مستوييه الشاقولي والافقي، بدون انقطاع إطلاقاً.(1/189)
ومادمنا نبحث في مستوى الخصب والماء والعاصفة والبحر والريح والروح ومر-يم، وقلنا بأن مر=الماء شديد الملوحة فإن يمّ بكل اللهجات العروبية تدل على البحر، ومعها اليمامة، ويم، واليمامة منطقة وسط الجزيرة العربية الشهيرة، والتي ترمز إلى اليمامة المقدّسة، والتي منها الحمامة التي تقترن بالإله الحب، فهي طائر الزهرة أيضاً. ومن الجدير بالذكر أن تماثيل الحمام اكتشفت مع تماثيل النساء التي ترمز للخصب في تل حلف وتعود إلى 5300ق.م (95) ومعروفة أيضاً أسطورة الحمامة ونوح في التراث العربي، وعندما أرسل نوح الغراب أولاً لاستطلاع اليابسة فوقع على جيفة ولم يعد، فأرسل الحمامة رمز الطهارة والوفاء فاستجعلت على نوح الطوق الذي في عنقها فجعل لها ذلك جعلاً(96)
وفي ذلك يقول أميّة بن الصلت (عن المصدر نفسه):
وأُرسلت الحمامة بعد سبع ... تدل على المهالك لانهابُ
تلمّس هل ترى في الأرض عيناً ... وعاينه من الماء العبابُ
فجاءت بعد ما ركضت بقطفٍ ... عليه الثأط والطين الكبابُ
فلما فرّسوا الآيات صاغوا ... وإن تقتل فليس لها استلاب
ومن اليمّ، يمَّ (قصد) وتيمّم أي مسح يده، ووجهه بالتراب. واليمام: القصد. واليمامة: القصد. ولا بد أن يكون القصد هنا اليم. أي الماء، لأن الغرض من التيمم هو الاستعاضة عن الماء إذ يُفتقد. ويقال"امضِ يمامتي "أما أمامي. كما أن "أمَّ" قصد وليبيا باليونانية تعني المطر المتساقط، لأن المطر الشتوي الغزير يأتي من جهة ليبيا. وهي بالطبع تسمية تالية للتسمية العربية الحقيقية "ذات الأصل الفينيقي- والمشتقة من (اللوب) أي العطش وبالتالي فالليبيون هم سكنة البلاد العطشى أو الجرداء، وبالعربية، لاب، يلوب الرجل أو البعير: عطش. وقيل أيضاً حام حول الماء وهو لا يصل إليه (97).(1/190)
"وماء" بالسومرية أو"خبير بالزيت" =AI-ZU-ZU وباللهجات العروبية (أسا، يأسو) =آس بمعنى يعالج ومنها جاءت الآسي، أي الطبيب (98) ونرى في هذه الحالة تطابقاً كاملاً بالأصل وبالحركية تماماً كما هي في كلمة "عنب" بالعربية المعاصرة =:إينبو بالأكادية =عينبو (أخذاً بالاعتبار ابتلاع اللغات ذات الأصل اللاتيني لحرف العربية "ع") و"كرمة"= كرامة=Keramu بالأكادية أيضاً.
وكلمة "أيل=الوعل الذكر/ في قاموس تاج العروس للزبيدي.
و(إيحال) =بالأوغاريتية الكنعانية.
(أي الو) بالأكادية.
هـ يال بالحبشية
ايل بالقبطية وأحياناً Jul =أيلا بالسريانية(99).
ومنها أيضاً:
كلمة "شور بالعربية =تورTor (بالآرامية) = (شور) Shor بالأكدية = (ثر) بالأوغاريتية /الكنعانية/ =سومر "بالحبشية واللهجات العروبية الجنوبية. وكلمة "أرض" مشتركة في كل اللهجات العروبية، وهي بالحبشية (مدر)= الطين الذي لا يخالطه رمل (في العربية المعاصرة)(100).
وكلمة "سماء" ="ساماي" بالحبشية (والـ"سمة" هي القبة/ وترتبط بالماء والمطر، فكلمة "شامو" Shammu الأكدية تعني سماء ومطر على حد سواء، والسماء بالعربية المعاصرة كما جاء في كتاب (العين) للفراهيدي، هي المطر الجائر، ويقال أصابتهم سماء، أي مطر. والسماوة هي ماء البادية(101).
وأما لفظة (نون) المصرية، أو (نو) وهي ترمز إلى المحيط الأول، فتذكّرنا بنون العروبية التي تفيد معنى السمكة ويمكن ذكر مدينة (نينوى) أيضاً، والنبي (يونس) الذي وعظ أهل نينوى و(أونس) الكائن الأسطوري السومري الذي يرتبط اسمه بالطوفان وبالسمكة، فهو كما تقول الاسطورة كائن نصفه بشر ونصفه الآخر سمكة.(102).(1/191)
وهكذا يمكن أن نأتي بمعاجم كاملة عن وحدة التكوين اللغوية المتطور حلزونياً من اللهجات العروبية التاريخية إلى اللغة العربية التالية بصفاتها الحالية المتطورة، وهذا لا يشمل وحدة البناء المعجمي -"المفرداتي" فقط بل، وأيضاً، طبيعة التوظيف اللغوي وما يعنيه ذلك من علاقة الفرد والجماعة مع عناصر التكوين التاريخي، والزمان، والمكان، مع عناصر التكوين الأناسي المعرفي ليس فقط من خلال العنصرين السابقين، بل ومن خلال تكوين ذاكرة جمعية ومخيال اجتماعي وسيكولوجيا جمعية وبنية ميثولوجية ومعتقدية واحدة متطورة صيغت بطرائق مبدعة وخلاقّة أنتجت بنية أناسية معرفية قدّمت في زمنٍ باكرٍ جداً رؤى اكتشافية للمكان وللزمان، وما زالت كغيرها من تكويننا العربي الثقافي تُعاش في كل لحظة اجتماعية أو انتاجية تعيشها الأمم الأخرى.
فمن يتابع رؤية العروبي للمكان (الفضاء) يكتشف بسهولة كيف استطاع ومنذ آلاف السنين تحديد طبيعة الفضاء الذي يتعامل معه في سوياته العديدة. فاستطاع أن يميز الفضاء المكاني المحسوس، عن الفضاء المجرد (التخييلي) عن الفضاء المعرفي. وأعطى لكل بعد من أبعاد تلك الفضاءات حيوية انسانية خاصة، وبُعداً قومياً مميزاً.(1/192)
فالـ (فوق) والـ(تحت) ليست مجرد أبعاد مكانية، بل تعني علاقة الخير والشر، النور والظلمة، الخصب والعدم. وللنهر والبحر، للماء المالح والعذب علاقات محددة مع منظومات الخلق والتطور، تلك العلاقات وإن أخذت في كثير من جوانبها علاقات الجماعة والفرد بالمقدس وغير المقدس ومن خلال بناء مثيولوجي عروبيّ، إلا أنها صبغت تلك الجوانب بألوان منظومتنا الأناسية المعرفية، وخصوصاً أن في الحراك العروبي الجغرافي والتاريخي، علاقات قاسية مع الفضاء (المكان) ابتداءً من اسطورة الخلق والطوفان، مروراً بالفيضان والتصحرّ، وتقاطع دروب تجارة البخور واللبان، والغزوات الصعبة القاسية التي بدأت تفرض نفسها على الفضاء المعيش ابتداءً من سقوط بابل على يد كيرش عام 539ق.م... وانتهاءً بالحراك المعرفي الأهم في التاريخ العروبي مع ظهور مبادئ الاسلام برسالته المحمدية العظيمة.
فالشرق لا يعني للعربي شيئاً إن لم يرتبط بالشروق والنور، والغرب لا يعني شيئاً إن لم يكن الفضاء الذي يخلع فيه النور ثيابه البيضاء.(1/193)
حاول أن يعامل المكان بما تطرحه منظومته الفكرية، فحاول الارتقاء إلى الأعلى بالمكان والأرض لأن السماء لا يمكن أن تأتي إليه، فبنى الزقّورات والأهرام، من ثم المساجد... والكنائس ليس فقط كأماكن للعبادة، بل كرمز ارتقاء بنفسه نحو الأعلى. حتى حدود اليمين والشمال نسبة لتوجهّه إلى الشرق، فأصبح اليمين ذو الصلة الوثيقة باليمن والبركة والخير، وما يقع على يمين الشمس، ومنها اليمن السعيد، ومنها أقسم اليمين، ومنها تيامن أي ذهب في اتجاه اليمين، وتشامل أي ذهب في اتجاه الشمال، ومنها الأعسر الذي يستعمل يده اليسرى، ومن ذلك أيضاً الطائر الميمون، ومنها أيضاً كيف يؤتى الإنسان يوم القيامة كتابه إما بيمينه فينقلب إلى أهله مسروراً أو بشماله وهو الذي يصلى سعيراً. حتى أن الطائف في الحج قبل الاسلام كان ينطلق من الحجر الأسود أي من المشرق ثم "يبدأ بآساف فيستلمه ثم يستلم الركن الأسود ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه فإذا ختم طوافه سبعاً استلم الركن، ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه"(103)
وسنتطرق باسهاب إلى علاقة العربي بالمكان (الفضاء) في فصول لاحقة، أما ما يخص الزمان فسندرسه مع البنية الميثولوجية، لكن الزمن بوصفه من الأمور المجردة، لم يترك بقياسه الفيزيائي، بل كما تعامل العربي مع المكان بحيث تفاعل معه وصبغه بألوانه وبنيته وبمعرفته، أيضاً تعامل مع الزمن الكوني باعتباره جزءاً مكوناً لحياة الانتاج الاجتماعي. وبالتالي لم يعد الزمن بمفهومه السابق يجري في ذاته ولذاته دون أية علاقة مع أي موضوع خارجي في نسق تتتابع فيه الخطوات تتابعاً رتيباً في مجرىً خطيّ، بل ارتبط الزمن العروبي تاريخياً ومنذ مراحل ما قبل التاريخ بنسقين اجتماعيين. أولهما بالطقوس الدينية والميثولوجية بحيث ينقسم إلى فترات حساسة هامة تُفقد عقد التشابه بين خطواته. وثانيهما ارتباطه بالآلية الاجتماعية الانتاجية.(1/194)
وبالتالي، لم يعد التقويم الزمني وظيفة دينية متجانسة، بل يصبح من الضروري التمييز بين الزمن النوعي الاجتماعي والزمن الكمي. وهذا ما حددته المنظومة الأناسية المعرفية العربية في تطورها الذي تحدثنا عنه. فلم تعد الميثولوجيا العربية في تلك المنظومة تقدم الزمن على أنه شيء دائم ومتجانس أو لحظات متعاقبة "فحتى تعاقب الليل والنهار يصبح صراعاً مستمراً فيُهزم فيه الظلام فجر كل يوم وينتصر فيه بعد ذلك المساء. والزمن يتدخل في شؤون البشر على نحو إداري، مثل الظاهرة الطبيعية (الصواعق، المطر، الزلازل، الفيضان) ومن هنا جاءت فكرة الاندماج بالزمن، على غرار الاندماج المكاني، وهو ما كان يمارسه /العروبيون/ المصريون والبابليون في طقوسهم الدينية عند بداية السنة الجديدة. في مصر ينعكس مفهوم الاندماج بالزمن في اللعنة التي تصب على أعداء فرعون في هذه المناسبة "سيكون مصيرهم الأفعى أوفيس في صبيحة رأس السنة الجديدة" ذلك أن الأفعى أو فيس تمثل الظلام أو الخصم الذي تهزمه الشمس كل ليلة في رحلتها إلى العالم السفلي من موضع الغروب إلى موضع الشروق.
وفي بابل كانوا يحتفلون برأس السنة الجديدة كل عام لعدة أيام (11أو12يوماً) في أثناء هذه الاحتفالات تتلى قصة الخليقة وتمثل معركة بين الآلهة ينتصر فيها انليل على تعامت التي تمثل قوى العماء وفي بداية السّنة الجديدة يبدأ الملك حكمه لأن رأس السنة هو بمثابة بداية الحياة والولادة: بداية الزمن (104).
أما الزمن في اللهجة العروبية الأكدية فيقال له "أدنّو" ولا بد أنه"عدنّو" وبالسريانية عدن، وفي العربية المعاصرة عّدّان وعِدان وتعنيان "زمن"أيضاً والعدان زمان الشيء أو أفضل الزمان أو أوّله ويقال "كل ذلك في عدان الشباب"(105) وحتى الآن تستخدم المفردة بشكل واسع في ريف بلاد الشام: ما حلّ عدانه بعد! أي لم يأت زمنه (أو موعده) بعد.(1/195)
وربما كان لاستخدام علاقة الزمن بموعد مياه الري في كلمة "عدان" أهمية أناسية معرفية خاصة بارتباط الماء بالخصب والخضرة، بحيث تحوّل السقاية (الماء) الأرض إلى جنة عدن (عدن، عدان، عدنّو).
أما "وقت" العربية المعاصرة فهي "أقيتو" البابلية Akitu التي تقال لعيد رأس السنة وللمعبد الذي تمارس فيه طقوس ذلك العيد وبالسومرية A-Ki-Ti وتعني بالأصل استنزال المطر.
وأحياناً يُقصد بالليلة اليوم بأكمله، كما هو الحال في العربية في قولنا أمضينا أربع ليال، وكلمة يوم مستعارة من الحرارة حيث فعلها في العربية (ومَهَ): اشتد حرارة، ويقال للنهار. وبالأكدية يومو UMU وبالأوغاريتية (الكنعانية) "ي م").
واليوم في بابل يبدأ غروب الشمس: وقوامه الليل (لاحظ الارتباط بقولنا في العربية المعاصرة أمضينا أربع ليال) والنهار. والليل في الأكديةMusu=مساء. والنهار Umuurru (مع القلب بين النون والميم تصبح" ا ن هـ و ر و" وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن النهار يولد من الليل وأن الشمس ولدت من القمر(106) وفي القرآن الكريم: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون" (سورة يس:37).
وهذا ما يؤكد أن الرؤية المعرفية (عبر الزمن بفضائه المعرفي) هي التي دفعت الإنسان الاجتماعي العروبي إلى مزج الزمن بتصوراته الأناسية لينتقل في بعض مفاصله إلى الزمن النوعي. ويبدو ذلك واضحاً في تقسيمهم فصول السنة والأشهر وتسمياتها.
فقد كان قوام السنة المصرية ثلاثة فصول:
وقت الفيضان، وقت البذار، جني المحاصيل.
وكل منها يتألف من أربعة أشهر، وكل شهر من ثلاثين يوماً، مع خمسة أيام إضافية في نهاية السنة ليصبح المجموع 365يوماً.
وفي التقارير الكنعانية والعروبية القديمة عموماً تعامل الفصول الأربعة اثني عشر ثوراً منتظمة في أربعة أقسام، وفي كل قسم ثلاثة ثيران، وكانت أسماء الفصول عند البابليين: "حصاد، قيظ، حِر، برد(107).(1/196)
و"خريف" المعاصرة من الجذر خرَف=قطف= "خارفي" بالأكدية= ناضج.
لكن كلمة "خ فارة" الأوغاريتية (الكنعانية) تعني شاة وتقابلها خروف بالعربية المعاصرة وتعني خرافو بالأكدية وبالمسندية والعربية الجنوبية عموماً، خرف وتعني سنة. وهذه كلها تذكرنا بكلمة الخريف. بمعنى أن هذه الحيوانات إنما كانت تسمى باسم السنة التي تمر على ولادتها، وذلك على غرار الحولي: العجل الذي مضى على ولادته سنة. على أن حساب الزمن بدأ مع القمر قبل أن يعرف الإنسان التقويم الشمسي بزمن طويل، لأن القمر يغيرّ وجهه باستمرار، ويكرر دورته في عدد من الأيام أقل بكثير من دورة الشمس وسميت الفترة بين ظهور هلالين قمراً (بمعنى شهر) وهي "ارخو" بالأكادية تقال للقمر وللهلال وللشهر. وكلمة شهر بالعربية =سهرا بالسريانية التي تقال للقمر (108)، ومنها نقول (سَهَر، سهرة، ساهر، ساهرون، .. إلخ) وهي من الجذر (سهر) بمعنى (تدوّر) أما كلمة "القمر" العربية فهي مشتقة من الفعل (قمر) بمعنى ابيضّ "والقمر في العربية الجنوبية =ورخ. ومنها جاءت كلمة تاريخ. وهنا لا بدّ أن يكون قد لفت انتباه القارئ التطابق بين اللهجة الجنوبية والأكدية وعلاقة التسمية بالتاريخ.
وللقمر والشمس تسميات خاصة ودقيقة ترسم التصور الدقيق لحركاتهما بالإضافة إلى موقعهما المركزي في معظم مظاهر الميثولوجيات العروبية. أما من الناحية الحضارية فمن المعروف للجميع أن تقسيم الزمن الميقاتي مع اختراع الساعات المائية وغيرها، كان من الانجازات التي لا تعد ولا تحصى والتي قدمها العرب على مسار تاريخهم للبشرية.(1/197)
في البدايات كان لكل مدينة في سومر نظامها الشهري، وأسماء الشهور تمت معتمدة على أصول زراعية ودينية مثل: شهر نزلاء المعبد، وهو الشهر الأول، وشهر (الناعورة) الآله التي تمتح الماء بواسطة الثيران وهو نفسه في البابلية، والشهر يوضع فيه الآجر مع الملاط، وشهر البذار، وشهر عشتار، وشهر فتح قنوات الري وشهر الحراثة... إلخ (109).
وفي زمن حمورابي، أي في أيام الأموريين، كانت قائمة الشهور على الوجه الآتي:
1- نيسانو-يحرك، يقفز، يطير، وبالليبية"الطير.
2- أيارو=وهو من آرو وتقابل (آر=النور) =ينبت الزرع ويطلع أوراقاً وهو والحالة هذه شهر الأزهار، وبالليبية"الماء".
3- سيفانو بالليبية "الصيف".
4- دزو (تموز)= بالسومرية (الابن الأمين لمياه المحيط الجوفي) وبالليبية= ناصر.
5- آبو(معاوٍ/ بسبب حره الشديد/ والليبية "هانيبعال"
6- ألولو وهي مشتقة من الولولة والتهليلة على تموز وبالليبية "الفاتح"
7- تشريتو: ويعني (الأصل، البداية)
8- أرخا- سمعنا (الشهر الثامن) وبالليبية =الحرث.
9- كسليغو
10- ذابيتو (العابس، المظلم)
11- شباطو-المديّر.
12- أدّارو (المكتظ بالسحب)
وفي مصر كان التقويم قمرياً في المراحل المبكرة من تأريخها (إلى ما قبل بناء الهرم) حتى الألف الثالث قبل الميلاد حيث أصبح التقويم شمسياً وكانت السنة المصرية المؤلفة بادئ الأمر من 360يوماً والشهر من 30يوماً ولهذا كان اسبوعهم مؤلفاً من عشرة أيام. ولكنهم كانوا يضيفون خمسة أيام لتستكمل السنة عدتها. ومع أن المصريين كانوا على علم بربع اليوم الذي يتم الدورة السنوية التي عدتها 365 يوماً وربع اليوم إلاّ أنهم لم يدخلوه في حسابهم إلاّ بفترات لاحقة حيث يضاف يوم في السنة الكبيسة (كل 4سنوات).(1/198)
وكبس السنين، كما يقول جاك لندسي، يعكس لنا المستوى الذي بلغوه، فهو ينطوي على فهم للعلاقة بين السنين الشمسية والقمرية في دورة 19سنة أي أنه 235شهراً قمرياً =19سنة شمسية (110). وهذا ما كان يقابله الشهر النسيء في الجزيرة العربية، بحيث يضاف هذا الشهر كل فترة زمنية محددة لتعديل الفارق بين التقويمين.
ومن المهم ذكره أخيراً في هذا السياق، بالإضافة لما قدمته الحضارات العروبية في وادي الرافدين ومصر من علوم الفلك والرياضيات والهندسة والفن المعماريّ والري وتقنيات الزراعة المتطورة وغيرها الكثير "أن الفلكي الكلداني (البابلي) بنوريمانو حدد أيام السنة بـ 365 يوماً و6 ساعات و15دقيقة و41ثانية وهذا الرقم يزيد فقط على طورها الحقيقي بستٍ وعشرين دقيقة وخمس وخمسين ثانية"(111).
وكان الأسبوع البابلي سبعة أيام، وقد أطلقوا (كما أسلفنا في فصل سابق) على كل يوم اسم كوكب من الكواكب الخمسة المعروفة يومذاك، بالإضافة إلى الشمس والقمر فكان يوم الأحد البابلي هو يوم الشمس (شمسا) ويوم الاثنين هو يوم القمر (سين)/ سين أيضاً اسم للقمر في اسطورة ديلمون السومرية وفي كامل الهرم الميثولوجي لجنوب الجزيرة العربية (112)والثلاثاء يوم الاله نزغال الذي كان إله الحرب في مرحلة مبكرة، ثم أصبح إله الموتى في العالم السفلي- وهو يقابل المريخ. والأربعاء هو يوم نابو إله الحكمة والذكاء وملهم الكتابة، والوسيط بين البشر والآلهة (ومنه جاءت كلمة نبي) وهو المقابل لعطارد والخميس يوم الاله مردوخ = المشتري والجمعة يوم عشتار= الزهرة والسبت= ننيب.
والاشارة إلى الدورة الزمنية التي قوامها سبعة أيام في قصة الطوفان البابلية تعني أن الاسبوع السباعي عند البابليين كان معروفاً منذ تلك الفترة على الأقل(113).(1/199)
وتجدر الإشارة إلى أن العالم الفلكي البابلي العظيم /قام بعد العالم البابلي المذكور أعلاه /كِدنّو/ قاس الدورة السنوية بدقة متناهية لا تختلف عن مدتها الحقيقية سوى بأربع دقائق و32.65ثا، وكان الفرق في حسابه أقل في واقع الحال من الفرق في حساب الفلكي المعاصر Appolzer أبلوزر عام 1887(114).
فالمفردة، ليست تسمية اشتراطية،إنها في الأساس دلالة معرفية، خصوصاً في لغتنا العربية وفي لهجاتها العروبية السابقة. فهي لا تحدد اشتراطاً معيناً يتناقض مع دلالتها، بل بالعكس من ذلك، لاحظنا أن معظم المفردات المناقشة يدل على ارتكاز معرفي متطور، حسب التاريخ للمفردة، وحسب التشريح الأناسي في انتشاره .
والآن إذا حاولنا مناقشة النتائج المستخلصة من خلال ما سبق مادياً نجد:
أولاً: إن التطابق أو التماثل أو التشابه في البنية اللغوية لمعظم المفردات اللغوية في اللهجات العروبية ابتداءً من لهجة ما قبل سومر، وسومر الأكدية، والإيبلاوية، والكنعانية (الفينيقية) مروراً باللهجة العربية الجنوبية (المسند) والحبشية والأمازيغية والمصرية، والبربرية الثانية، وصولاً إلى العربية الفصحى المعاصرة لهو دليل أكيد على أحد احتمالين:(1/200)
1-أن يكون هناك أصل جغرافي أثنوغرافي أو(أثنولوجي) مغرق في القدم لكل تلك القبائل العروبية في انتشارها الواسع من الخليج العربي شرقاً وحتى المحيط الأطلسي غرباً، تتحدّد فترة تواجده الأناسي في المرحلة الزمنية التاريخية السابقة لمراحل الحراك الدفئ الذي أعقب توضع نهر النيل بوضعه الحالي، وعودة مياه الخليج العربي إلى ماهي عليه الآن واستقرار منطقة شط العرب، ودلتا النيل مع الانحسار المعروف في الطبيعة وفي البنى المعرفية "الفلسفية" والمثيولوجية للالتقاء التداخلي بين الماء المالح والعذب. فأين كانت تلك التجمعات الأم؟ هل تواجدت في مناطق معينة من الجزيرة العربية أم في الهلال الخصيب كله أم على الساحل الشامي؟ أم على الخليج العربي تحديداً؟ أم في الصحراء العربية الكبرى (الليبية)؟ أم في وادي النيل والدلتا؟ أم في وادي الخسيف؟ بامتداديه الافريقي واليماني..."؟...إلخ(1/201)
2-أن تكون جملة الظروف البيئية والمعيشية والطبيعية، وتطور الظروف بالحياة الاجتماعية كانت متطابقة لدرجة كبيرة مما عنى بالضرورة، تطوراً موازياً، بالبناء الأناسي الأثنولوجي والمعرفي، والثقافي والحضاري. بحيث دفعت تلك الظروف المتطابقة إلى المواقع الأولى، طبيعة محددة بمعالم بنائية، كان من السهل التعامل معها بنفس الاشتراطات لجماعات بشرية متفرقة عن بعضها، ومتباعدة في الأصول الأثنولوجية!!؟؟ أن تنتج أدوات تواصل واحدة. كانت اللغة المعبر الأرقى والحاضنة الأهم لما يعنيه ذلك التواصل من تداخل كافة جوانب رؤية الحياة. لكن إذا قلنا بذلك - فكيف يكون التقاطع في المفردات ذات التسميات الحرفية لأدوات محددة. تقنية زراعية أو رعوية في بنى "مجتمعة" يطغى فيها أحد النمطين؟ وكيف يمكن أن نفهم استقبال "تقبل" سكان الشمال الافريقي للهجة القرطاجية "الفينيقية" وكأنها لهجتهم الأساسية، بحيث ظهرت اللهجة القرطاجية، كشكل أرقى من اللهجتين السابقتين الفينيقية المشرقية والأمازيغية؟
ثانياً: ليس التطابق في البناء اللغوي يتعلق باللسانية الأدواتية التالية لمحاكاة الطبيعة فقط، بل أن ذلك شمل البنية الميثولوجية والأدبية أيضاً.(1/202)
ثالثاً: يلاحظ المتابع لما أتيناه من تطابق في المفردات أن اللغة المشتركة التي كانت تجتمع كل لهجاتها على البنية التقنية والطبيعية والبيئية والحضارية منذ عصور ما قبل التاريخ انتقلت مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد لتصبح مشتركة أيضاً بلغة التخاطب الأدبي، بحيث أصبحت لغة مشتركة كقيمةٍ أدبية بلغت ذروتها مع القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وما الأمثلة والنماذج العديدة التي أتينا بها من الحضارة الايبلاوية والتي تتقاطع بمحاور الخطاب الأدبي مع الأكدية والكنعانية (الأوغاريتية) والسومرية إلاّ نموذجاً صارخاً وصريحاً لهذه اللغة الأدبية المشتركة وإن كنا متفقين على أن اللغة الميثولوجية هي واحدة في الأساس.أما المثال الثاني الذي يبدو ناصعاً فهو اللهجة السيناوية (نسبة إلى سيناء) فمنذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد ظهرت لهجة عروبية مشتركة بين الجماعات البشرية التي تقطن الهلال الخصيب بامتدادها نحو الجزيرة العربية، وسكان دلتا ووادي النيل وامتدادهم باتجاه الغرب.
وقد استخدمت في الكتابة الأدبية، وظهر هذا بوضوح من رسائل تل العمارنة التي تبادلها الملوك فيما بينهم "ولقد جاءت العربية الفصحى نتيجة لتطور هذه اللغة المكتوبة (115) وشكلت كلغة أدبية خليطاً متداخلاً من اللهجات العروبية المذكورة وأصبحت لاحقاً هي اللغة الأدبية للجزيرة العربية كلها (116).
ففي العصر البرونزي الأول (في الألف الثالث قبل الميلاد) كان هناك أربع لهجات عروبية في القسم الشمالي من شبه الجزيرة (منطقة الهلال الخصيب).
-الأكدية القديمة في الشرق حتى نهر دجلة.
-الآمورية القديمة في الجزيرة السورية.
-لهجة ايبلا قرب حلب في سورية.
-لهجة الساحل الشامي (الكنعانية/ الأوغاريتية/ الفينيقية).(1/203)
لاحقاً، حلت البابلية والآشورية بتطور طبيعي محل الأكدية القديمة كما أن حكام ما بين النهرين في القرن التاسع عشر قبل الميلاد كانت أسماؤهم آمورية" (117) وتعرضت لهجة الساحل الشامي إلى تغييرات طبيعية، امتدت بنمطها الجديد إلى صحراء سيناء، حيث عثر على الصنف نفسه من الفخار الموجود في جنوب فلسطين. وقد تبنى هؤلاء الساحليون نظام جبيل القديم في الكتابة المقطعية، مع اختصار عدد من الرموز لكي تتطابق مع عدد الحروف الساكنة" (118) وكانت الحصيلة مجموعة كاملة من الابجدية.
وتشير نصوص ايبلا كما لاحظنا سابقاً إلى وجود نصوص مقطعية من مدينة جبيل سبقتها ووازتها أيضاً عناصر مشتركة من اللهجة المصرية. إلا أن ظهور الحروف الابجدية وتطور اللغة إلى ما أصبحت قبل التاريخ- وإن خضعت إدارياً لسلطة وادي ودلتا النيل إلاّ أنها كانت اثنياً تنتمي إلى شمال الجزيرة العربية. وكان سكان سيناء وشمال الجزيرة يعرفون في المصادر باسم "مدين" وكانوا ينتقلون بحرية بين شمال الجزيرة وصحراء النقب وسيناء وشمال وادي النيل.ويبدو أنهم -وإن تعلموا لغة الكتابة الهيروغليفية المصرية- استخدموا اللغة الكنعانية في الحديث، وجاءت بداية الأبجدية عندما حاولوا كتابة لغة كلامهم عن طريق الكتابة المصرية.(1/204)
فقد عثر الآثاري البريطاني فليندزر بيتري عام 1905 على بعض النصوص- أصبحت تعرف باسم (بروتوسينياتيك) عند سرابيط الخادم بالقرب من معبد "حات صور" "هاتور" ومناجم الفيروز والنحاس، وتبين أنها أقدم كتابة عثر عليها حتى الآن، تستخدم الحروف الأبجدية ولا تستخدم الصور والرموز القديمة. وجد بيتري هذه النصوص منقوشة على بقايا أثرية تم بناؤها في عصر تحوتمس الثالث- الذي قام بتوسيع بناء معبد جات صور خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر قبل الميلاد- مما جعل الأثري البريطاني يرجع تاريخ هذه الكتابات إلى الفترة التاريخية نفسها، أي أنها تسبق رسائل تل العمارنة المسمارية بنصف قرن من الزمان. وأثار هذا الاكتشاف اهتمام الباحثين الذين حاولوا جهدهم التعرف على أصل هذه الكتابة ودلائلها، وكان آلان نمارونر (عالم اللغويات البريطاني) أول من تمكن من تحديد الدلالات الصوتية لبعض هذه العلاقات، بعد عشر سنوات من العثور عليها. ووجدها تتفق في تركيبها مع الأبجدية الأوغاريتية/ الكنعانية التي ظهرت بعد ذلك.
ولأن هذه الكتابة (استخدمت علامات الهيروغليفية كأحرف أبجدية لها دلالة صوتية محددة، فقد ساعدت المقارنة بين الطريقة التي كتب بها سكان وادي النيل الأسماء والكلمات الكنعانية على فك رموزها. تقدم نظم الابجدية على أساس أن يقوم حرف مكتوب بالدلالة على صوت ساكن، أو على حركة وكانت الأبجدية الأوغاريتية منذ ظهورها لا تحتوي إلاّ على الحروف الساكنة، وإن استخدمت الألف والواو والياء للدلالة كذلك على حركة محدودة (119)!!؟؟ (والأبجدية الأوغاريتية (أ) بجد هـ[و] ز حط(ي) كلمن، سعفص، قرشت)(1/205)
وتمّ بعد ذلك العثور على المزيد من هذه الكتابات في سيناء حتى أصبح عدد النصوص خمسة وعشرين نصاً تبين من قراءتها أنها تتعلق بأعمال استخراج حجر الفيروز من مناجم سرابيط الخادم بجنوب سيناء، وتقديم القرابين- التي تسمى هنا "طاعة" إلى مبالات حات صور وتباح سيدة المنطقة وزوجها "بتاح سيرفف".
ومن نماذج هذه النصوص:
[أتت طفن دك م لأبب] ومعناها:
أتت (يا) طافان (اسم علم معناه أرنب) تجمع إلى (شهر) أبيب وكان شهر أبيب هو نهاية موسم العمل في المنجم بمناسبة حلول فصل الصيف الذي تشتد فيه الحرراة.
وهناك نص آخر يقول:
[سمعا مراب رب عبد م] ومعناه:
[اسماعيل _سمعا و:إيل -سامع الإله) مرء (امرؤ) رب العاملين]
/عبدم =العاملين =عبد =عامل، أم للجمع/
وكذلك:
صنت بطن حط نقب/ يرجى ملاحظة وجود حرف الضاد، ومعناه:
[سيدة الثعبان سيد المنجم] والعلاقة اللغوية واضحة بين "منجم" و"نقب" ولقب مبالات هنا هو "صنت بطن" والذي معناه سيدة الثعبان" أما زوجها تباح فلقبه" حط نقب"= سيد المنجم"
ومن الكلمات التي وجدت متكررة في هذه النصوص:
"نقب"=حفرة= منجم.
"مبلة" =مبالات.
"دبح"=ضحّى.
"أنت"=أتت.
"لأخن"=لأخينا.
"رب" =رئيس.
"أرخت"= بقرة.
"بتم" =بيوت= بيت = بتِ والميم للجمع.
ويتم الجمع عن طريق إضافة حرف الميم إلى نهاية الكلمة (بتم= بيوت) وكانت أسماء العلم كثيراً ما تنتهي بألف مثل "سبئ" و"ربئ" و"حلئ" و"عبدأ".(1/206)
وهكذا استخدمت هذه النصوص الهيروغليفية المصرية الكتابة الأوغاريتية (الكنعانية) التي كانت سائدة خلال القرن الخامس عشر ق.م أما الكتبة الذين قاموا بنقش هذه النصوص وتدوينها، فبينما هم عبرّوا عن لغة كنعانية بكتاباتهم إلا أنهم مثّلوا " أبو الهول" وبعض التماثيل الأخرى التي دوّنوا كتاباتهم عليها، وقدّسوا معبودات نيلية مثل حات صور وتباح الذي وردت صورته مع هذه النصوص وظُن أن اللغة التي تدل عليها نصوص سيناء هي اللغة ذاتها التي كتبت بالأكدية المسمارية في رسائل تل العمارنة.
وكانت هذه الأبجدية هي التي ظهرت بصورة متطورة أكثر في الساحل الفينيقي كله والتي كانت تعبر عن لغة الكلام التي كانت سائدة في ذلك الزمان في جنوب سورية وفينيقيا وفلسطين وسيناء والجزيرة العربية وسرعان ما تطورت عن طريق تداخل واستيعاب مفردات اللهجات العروبية الأخرى لتشمل وادي النيل وبلاد الرافدين والشمال الافريقي وجنوب الجزيرة العربية كذلك(120).
وقبل أن ننتقل للإجابة على الاسئلة التي طرحناها منذ عدة صفحات، لا بد من التأكيد على أن تأريخ اللغة هو وسيلة مباشرة للتثبت من منشأ وتاريخ الشعوب، فإذا كان التقسيم الذي ناقشناه في مقدمة هذا الكتاب إلى ساميين وحاميين ودحضناه بالأدلة والبراهين، فأجد من الضروري إعادة التذكير بأهم عناصر الحوار خصوصاً ما يتعلق منها باللغة وذلك بعد أن طرحنا المقولة المختلقة من قبل شلوتسر والذي أطلق تسمية "السامية" ثم سمى الأقوام الذين ينطقون بها "ساميين" وتسمية الحامية والأقوام الذين ينطقون بها "الحاميين"... إلخ واستبدلت تلك التسميات المؤدلجة الصهيونية باللهجات العروبية والتي يمكن أن نفرّع منها بالمستوى الشاقولي في المراحل التالية:
-العروبية البدئية والتي كانت سائدة حتى فجر التاريخ.(1/207)
-العروبية التاريخية والتي تمتد حتى منصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد حتى اكتشاف الابجدية الأوغاريتية وأبجدية سيناء. وتميزت بوجود الكتابات الهيروغليقية والمسمارية ونماذجهما الأخرى.
والفاصل التأريخي الهام بين العروبية البدئية والتاريخية ليس فقط ما يسمى بدء التاريخ، بل أيضاً الانتقال الهام إلى اللغة الكتابية التعبيرية من الشفاهية.
ويمكن أن نقسمها إلى مرحلتين جزئيتين:
آ-المسمارية الرمزية.
ب_المسمارية التعبيرية.
-العروبية الابجدية: وتمتد منذ منتصف الألف الخامس عشر قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي.
-العربية المعاصرة: وتمتد حتى اللحظة الراهنة وتقسم إلى مرحلتين:
إن التراكيب الصوتية الفنية في العربية والتي هناك ما يضاهيها الآن وما يوازيها في الأوغاريتية والعربية الجنوبية وغيرها من اللهجات العروبية الأخرى ليصب تماماً في صحة تسميتنا، على عكس ما حاول أن يقوله أحد الباحثين العرب من "إن الرأي السائد الذي يذهب إلى اعتبار العربية إما نموذجاً بدئياً أو صورة حقيقية للغة الأولى تعرض للطعن في الأونة الأخيرة. فالتراكيب الصوتية الفنية في العربية يضاهيها الآن ما يوازيها في الاوغاريتية والعربية الجنوبية، كما أن نظام الأفعال المتطور جداً فيها صار ينظر إليه كنتيجة لمنهجية القواعد أكثر منه لعراقته اللغوية" (121) فنظام الأفعال المتطور جداً لم يكن الناتج الحتمي لعراقة اللغة، بل أن عراقة اللغة هي التي فرضت نظاماً خاصاً للأفعال، وفرضت بنية قواعدية ونحوية دقيقة ومتطورة. لأن قول الباحث المذكور يضع الرأس للأسفل، فلا يمكن أن تأتي عراقة اللغة ومتانتها وقوة وبلاغة تركيبها من خلال مجموعة من النظم والاسس القواعدية والنحوية.(1/208)
فالتراكم الكمي الأفقي والنوعي العمودي، والغنى المفرداتي والحضاري والثقافي والميثولوجي وغيره، هو الذي يفرض مجموعة النظم والقواعد الناظمة للسيرورة التالية، من هنا كان تأكيدنا على أن اللغة العربية المعاصرة لم تكن وليدة لحظة أو فترة تاريخة قصيرة، بل كانت السيرورة الطبيعية والحتمية لمسارٍ لغوي غني يمتد إلى آلاف السنين قبل التاريخ.
وهذا ما يتأكد من خلال قول الباحث المذكور في ماتلا من سطور في بحثه عندما يقول: "فهناك نقاط التقاء وتقاطع بين الأكدية والحبشية، ونقاط التقاء وتقاطع بين الأكدية والبربرية- الليبية، لقد أكد روسلر أن البربرية الليبية تتسم بخصائص قربى خاصة تربطها بالأكدية، وهو رأي يستند إلى مقابلات ذات طبيعة صوتية، وصرفية ومفرداتية (122) فإذا كانت الأكدية تلتقي مع الحبشيّة، ومع البربرية- الليبية، ألا يعني هذا أيضاً أن الحبشيّة تلتقي مع الليبية أيضاً.
فكيف اعتبر هؤلاء "العلماء "أن الأكدية والحبشية تنتمي إلى أسرة لغوية، بينما تنتمي الليبية إلى أسرة أخرى، خصوصاً أن اللغة البربرية هي لغة الأقوام الأصليين لسكان افريقيا الشمالية وكانت البربرية وما تزال، كتابة تدعى بالكتابة الليبية، ترجع حروفها إلى أصل فينيقي (123).
فنلاحظ كيف أن للبربرية وما تزال كتابة ترجع حروفها إلى أصل فينيقي أي كنعاني، وكيف تتقاطع مع الأكدية والحبشية (الكوشيتية) لنرى معنى البعد الأيديولوجي المخيف الذي يقف وراء تقسيم اللهجات العروبية إلى لغات، ومن ثم تقسيمها إلى أسر لا يستند ولا إلى أي معنى. خصوصاً أننا درسنا بالتفصيل علاقة الحبشية بالعربية الجنوبية، ومن ثم علاقة البربرية- الليبية بالمصرية، وعلاقة هذه الأخيرة بالأكدية وغيرها.(1/209)
"وتشير الدراسات الفقهية اللغوية التي تستند إلى قياس درجات الإختلاف بين اللغات المتفرعة من اللغة الأم (العروبية البدئية) بمقارنة عدد من المقررات الأساسية (كما فعلنا نحن وسنفعل) إلى أن أول مجموعة انفصلت عن اللغة الأم كانت الأكدية (في حدود 3200ق.م) وثاني مجموعة كانت العروبية الجنوبية (النصف الثاني من الألف الثالث ق.م) كما لوحظ أن للمجموعة المركزية الشمالية (الكنعانية الأوغاريتية، الآمورية، من ثم الفينيقية صلات عريقة مع اللغة العربية" (124) ويجمع اللغويون اليوم على إدراج هاتين المجموعتين (ويقصد السامية والحامية بتسمية الاستشراق الصهيوني) في مجموعة واحدة تمت إلى عائلة لغوية واحدة، انحدرت من أسرة لغوية مشتركة، يفترض أنها وجدت في مرحلة يرجع تأريخها إلى ما بين الألف السادس والألف الثامن قبل الميلاد. وفي الموسوعة البريطانية أن موطنها ربما كان في الصحراء الكبرى. وقد اقترح بعضهم مصطلح Erytheraear (أي العائلة اللغوية الاريتيرية) مع اعتبار أن العائلة وجدت على ساحلي البحر الأحمر.؟. إلا أن هذا الاقتراح واجه اعتراضاً جدياً، لأنه افتراض لا يمكن إقامة الدليل عليه. أما اقتراح اللغوي جوزيف غرينبرغ في عام 1952- بتسميتها المجموعة الأفرواسيوية Afer-Asian فقد اعتبر شاملاً وفضفاضاً جداً، إذا أخذنا بعين الاعتبار محدودية المنطقة التي يقيم فيها الناطقون بهذه اللغات (يقصد مساحة الوطن العربي بالنسبة للقارتين) ثم اقترح اللغوي السوفياتي ايغور ياكوفوف مصطلح Afrasian، ويقصد بذلك النصف افريقي ونصف آسيوي) على أساس أنه يشمل المناطق التي تنتشر فيها هذه اللغات منذ الألف الخامس قبل الميلاد على الأقل"(125)
لكن إجماع اللغويين واضح أيضاً على أن يبتعدوا عن التسمية الحقيقية لهذه العائلة اللغوية فإذا كان الجميع متفقاً على:
1-القدم التاريخي لما قبل الألف الخامس قبل الميلاد على الأقل.(1/210)
2-انتشارها في المساحة الجغرافية للوطن العربي الحالي.
3-أنها تكوين لغوي واحد.
فلماذا لا يسمونها الأسرة العروبية كما هي فعلاً؟
لكن تبدو الخلفية الأيديو- سياسية التي تحرك هؤلاء المستشرقين واضحة من خلال قراءة الرأيين التاليين "حيث كان البروفسور كلاي Clay من بين من يعتقدون أن بلاد الآموريين (سوريا) كانت مهد الساميين وكان يرى أن النظرية القائلة بأن العرب هم أصل الساميين غير صحيحة، لأنها لا تقدم تفسيراً رسيّاً (عرقياً) مقبولاً: إذ كيف يمكن للعرب ذوي الرؤوس المستطيلة أن يكونوا أسلاف اليهود ذوي الرؤوس المدورة.
وهناك من يرى أن أرمينيا كانت مهد الساميين وذلك بالإستناد إلى أخبار التوراة حول الطوفان وإلى أمور تشريحية مفادُها أن الأرمن والحثيين كانت لهم أنوف معقوفة تشبه أنوف اليهود في حين لا تظهر مثل هذه الملامح عند العرب"(126)
حيث يلاحظ القارئ أن اليهود هم المعيار الأول والأخير للدراسات المناقشة فإذا كان كلاي Clay يثبت اليهود كأصل عرقي في بلاد الشام ويعتبرهم الجذر، ينفي عن العرب وجودهم التاريخي في المنطقة، في حين يقوم الآخر(127) بجرّ كل الجماعات البشرية العروبية إلى خارج المنطقة حيث كان أجداده فعلاً!!!؟؟
فلذلك أرى أن القارئ استطاع أن يقف على أرضية صلبة الآن فيما صنفنا فيه التاريخية الأناسية المعرفية للغة العروبية بدون أن نتطرق للبنية المورفولوجية التي لجأ إليها بعض الباحثين حيث "كان بالاغريف Pala-Garave قد أثبت أوجه الشبه الرسية (العرقية) بين العرب والاحباش والبربر لا سيما شكل الفك ونحافة ربلة الساق، فضلاً عن صلة القربى اللغوية، وكان معه Gerland غيرلاند من أنصار هذا الرأي أيضاً لأنه يعتقد أن العرب ينتمون إلى الجنس الإفريقي (شكل الجمجمة((128).(1/211)
ففي المراحل الأخيرة من العصر الحجري القديم انتقل الإنسان الحديث Homo Sapiens إلى شمال افريقيا إما من وادي الخسيف الافريقي أو امتداده في الجزيرة العربية عبر سيناء مجتازاً غرب آسيا وحل في ليبيا بين 29000-26000 ق.م وهي مرحلة اقترنت بصناعة الشفرات الحجرية في أواخر العصر الحجري القديم. وفي مصر عثر على مخلفاته التي أبلتها المياه الجارية في طمي عزبة السبيل "وقد تبين بعد التحليل الدقيق أن هذه المخلفات التي تشتمل على أجزاء من الجماجم البشرية، وفكوك وعظام أخرى أقرب إلى الإنسان المصري في المرحلة السابقة لعصر السلالات منها إلى أي جنس آخر/ مع التذكير بأن الدراسات المورفولوجية تثبت اشتراك العرب بنفس المواصفات المورفولوجية المذكورة. وفي نهايات المرحلة الأخيرة (حتى 10.000ق.م) انخفض منسوب نهر النيل في مصر العليا إلى أكثر من مئة قدم عن مستواه الحالي، وأصبحت الطبيعة الصحراوية في شمال افريقيا في جفافها على نحو ما هي عليه اليوم إن لم تكن أشد جفافاً، وقد كفت المنطقة عن اجتذاب مهاجرين جدد من أنحاء أخرى من افريقيا ومن آسيا الغربية، بل بالعكس من ذلك قد يكون الواقع الجديد هو ما دفع سكان الصحراء العربية (التي لم تكن صحراء) إلى الهجرة باتجاه وادي النيل والواحات والينابيع، ولعلهم قد اندفعوا تحت استمرار الجفاف إلى الاتجاه شرقاً عبر سيناء إلى ساحل المتوسط الشرقي وذلك حتى الألف العاشر قبل الميلاد، حيث بدأت الحركة الجولانية بالعكس مع استمرار حالة الجفاف في شبه الجزيرة العربية" فقد تم الكشف في حلوان" عن رؤوس- رماح ذات وجهين من العصر الحجري الحديث سميت "رؤوس رماح حلوان" ويعتقد أن مصدرها وادي النطوف في فلسطين وكما أسلفنا في فصل سابق/ ومع المرحلة الدفيئة عاد النيل إلى مجراه ومستواه الحالي لتنتهي مرحلة الحضارة السبيلية الموافقة للنطوفية في بلاد الشام والصفاقصية في الشمال الافريقي.(1/212)
واستمرت الصلات بين مصر والدلتا ووادي النيل الشمالي مع بلاد الشمال في حراك جولاني دائم" يمكن إقامة الدليل عليه بواسطة علم الآثار. والظاهر أن الحافز نحو تدجين الحيوانات والنباتات كالحنطة والشعير ونحو ممارسة نمط من الحياة المستقرة يعتمد على انتاج الطعام إنما جاء إلى مصر من منطقة الهلال الخصيب، ومنذ ذلك الوقت بقيت الصلات مستمرة بين مراكز مصر "المدينة" ومراكز مشابهة لها أخرى لكنها أكثر تقدماً، في فلسطين وسوريا، ويمكن إدراك هذه الصلات ليس فقط على الصعيد المادي، بل وفي المعتقدات الدينية وطقوس الدفن، ربما أيضاً في المواصفات الجسمية والعرقية لسكانها (130) ويشير بعض المؤرخين إلى أن مصر الجنوبية خضعت، منذ أوائل عهد المملكة الأولى إلى نفوذ حضاري من الشمال أكثر منه سياسياً. وأن هذا النفوذ ذو جذور ترجع إلى الهلال الخصيب .فقد لاحظ اللغويون أن هناك عناصر عروبية شرقية في اللهجة المصرية القديمة، واستنتجوا من تطابق المعنى للكلمتين الدالتين على "الشمال" واليمن "مع مفهومي" الشرق "والغرب" على التوالي أن هذا العنصر دخل مصر من الشمال مع جماعات الحراك الجولاني العروبي التي اتجهت إلى أعالي النيل ذلك أن الكلمتين المشار إليهما تنتميان إلى طور اللهجة المشرقية العروبية في اللغة المصرية فكلمة (ش م أل) المشرقية وتعني اليد اليسرى لا تظهر في الطور التالي من اللهجة المصرية أو فروعها الديموطيقي ومع هذا استعملت كلمة (شمول) في حالة واحدة فقط في اللهجة القبطية (131).(1/213)
حيث كانت اللهجات بما تعنيه وضعية اليدين بعداً أناسياً معرفياً مرتبطاً بتوجيه الإنسان نحو الشرق إلى حيث تبزغ الشمس بحيث تصبح اليد اليسرى باتجاه الشمال واليمنى إلى الجنوب ومع إدراك أهمية نهر النيل أصبح التوجيه الإنساني ببعديه الميثولوجي (المعتقدي) والمعرفي إلى الجهة التي يأتي منها النيل وحينها إذا توجه الإنسان (الناظر) إلى الجهة التي يأتي منها النيل العظيم تصبح يده اليمنى باتجاه /اليمن=الغرب/ ويده اليسرى باتجاه الشرق، الشمال =الشرق.
ومن بين المؤثرات الرافدينية على مصر يشار أيضاً إلى : (1) بعض الأواني الصنبورية ذات الطراز الرافديني (2) الاختام الاسطوانية (3) الزوارق الشراعية ذات الأشكال الهلالية الرافدينية (4) بدلة أحد الأبطال المنقوشة صورته في أثر مصري (5) سلالة جديدة من الكلاب، (6) استعمال رأس العصا (الصولجان) كأداة للنقش بالحفر لأغراض تذكارية ونذرية (7) عدد من الملامح الفنية (1) طراز العمارة الآجري ذي الشرفات المفتوحة (9) أنماط من السيراميك (10) استعمال الرسوم في الكتابة"(132)(1/214)
لكن ذلك لا يمكن أن يكون إلاّ بالعلاقات التبادلية أي يمكن أن تكون قد نقلت ضمن الحراك الجولاني الذي نتحدث عنه من بلاد النيل إلى الرافدين وبالعكس. خصوصاً إذا أدركنا التوازي في التطور الحضاري والمؤكد في بلاد الرافدين منذ بداية الألف السادس قبل الميلاد بتواجد عروبي صريح والذي أطلق عليهم لاندزبيرغر اسم الفراتيين الأوائل، والذي أكد مع مجموعة من الباحثين أن مفردات اللهجة السومرية تتألف من طبقتين (بدون أن يأخذوا بعين الاعتبار التطور التاريخي لأي لغة، ومعنى دخول مفردات جديدة مع تطور الحياة الاجتماعية وآلية النتاج الاجتماعي) احداهما تمثل لغة الفراتيين الأوائل (133) السابقين لوجود السومريين وقد أيد هذه الفرضية البروفسور Gelb غلب مع مجموعة من الباحثين (الباحث غلب Gelb، أحد المسهمين الاساسيين في إعداد معجم شيكاغو للأشوريات الموسوعي) وأكدوا على وجود بعض الاسماء الجغرافية غير السومرية وتشتمل على أسماء بعض أقدم المدن فضلاً عن اسمي دجلة والفرات (ايدحلات، بورانون) بالإضافة إلى كلمات تدل على فعاليات وحرف أساسية:
الفلاحة، البستنة، التخمير، (الجعة مثلاً) الفخار، وصناعة الجلود (اسكافي) والبناء بينما يُعزى إلى السومريين أنهم ابتكروا مفردات للملاحة، والعلف (علاف) والنحت (نحات) والكتابة والتعليم بالإضافة إلى ذلك هناك عدد من الكتابات المسمارية ذات قيم صوتية بحتة تعطي انطباعاً عن ألفاظ غير سومرية ظهرت في الكتابة السومرية!! وهذا يقودنا إلى استنتاج بأن السومريين استعاروا نظام كتابتهم من مجموعة لغوية أخرى(134)(1/215)
لكن من الواضح مما سبق أن الكتلة الاجتماعية العروبية الأولى كانت تتمتع بوجود لغة عروبية بدئية ولم يكن السومريون إلاّ النتاج الطبيعي لهذه المجموعة حضارياً ولغوياً خصوصاً أن اللهجة العروبية الاجتماعية المذكورة هي التي تطورت لاحقاً إلى الحضارة العبيدية (نسبة إلى تل العبيدة) القريبة من (أور) السومرية جنوب العراق والتي عثر فيها على حضارة سابقة لحضارة السومريين دامت بين 4500-3500ق.م.
ولكن هناك آثار بينة أيضاً على أن حضارات العبيد شملت سومر "أور" أيضاً وكل المناطق المقترنة بالسومريين كما بينت الحفريات أيضاً أن الحضارة العبيدية والسومرية شملت شمال سوريا أيضاً، وبأن حضارة العبيد مع وجود صلات وثيقة مع معاصريهم كانت إلى الشمال والجنوب والشرق.
وهذا ما يؤكد رأينا القائل بأن الجماعة العروبية البدئية كانت تشغل المنطقة كاملاً وببنى حضارية شاملة منذ ما قبل الألف الخامس قبل الميلاد.
"على أن النصوص السومرية تؤكد لنا: أيضاً أن هناك شعباً آخر، يتكلم اللهجة الأكدية، كان موجوداً في المنطقة، ولعله أجدادهم من "العبيديين" الذين تواجدوا في المنطقة قبل السومريين بزهاء ألف عام. وقد عرف الأكاديون أول الأمر من أسماء العلم التي ورد ذكرها في الوثائق السومرية، منذ أواسط الألف الثالث ق.م في ألواح من قارة (شروباك القديمة، موطن نوح البابلي أو ثنابشتم) وربما منذ مرحلة أقدم، في النصوص القديمة من أور. كما أن الكتابات السومرية في أبو صلابيخ كانت تحتوي على عدد كبير من الاسماء الأكدية.وهناك أدلة على وجود كلمات أكدية في اللهجة السومرية منذ مرحلة مبكرة جداً (136) يتضح من هذا أن اللهجة الأكادية كان لها حضور في وادي الرافدين منذ أيام العبيديين (4500-3500ق.م) ولعل من شأن هذه الحقيقة إلى جانب ظهور لغة ايبلا المتقاطعة مع الأكادية والأمورية كما أسلفنا أن توجه أنظار القراء إلى وحدة البنية اللغوية.(1/216)
لكن الكلمات التي تعتبر سومرية هي بالحقيقة عروبية، وهذا يعني في صميم حوارنا الأناسي المعرفي أن التكوين الحضاري متداخل وواحد في احداثياته العمودية والأفقية، فكلمة ملاّح Ma-Lah التي يحاول المستشرقون ومن معهم أن يعتبروها سومرية (بعد أن يبتعدوا بالسومريين عن الجغرافية التاريخية العروبية) ترجمت إلى (بحّار) وهي بالعربية الفصحى" ملاح" ولا أعتقد بأن أي مهتم سيجد في أي منجد أقل من صفحتين عن شرح هذه الكلمة وعلاقتها بالبحر، حتى من يفتش عن جذريها (السومريين) كما يقولون MA "قاب" Lahيذهب "يسيّر سيجد ملاّ (الاناء المملوء وهي السفينة بالأوغاريتية أنا ي= أنايا بالأكدية = إناء =وعاء، و"اللاح" الوادي الضيق "في حين أن كلمة "ملاح" نفسها تختصر المعاني في علاقتها بالبحر ذي الماء المالح .. إلخ.
أما عن بعض الكلمات السومرية الأخرى التي يقال أن الأكدية استعارتها /طبعاً بتصنيفهم/ فهي (برأي الباحث القدير علي الشوك):
فخار= Phahar=بحّار.
نجّار=Na - Gra=نجار
فلاّح =Ikkar-Engar= بالأكدية "أكار" بالعربية
اسكافي= ASHGAB=اسكاف
البناء=SHIDIM بالسومرية= شيّد بالعربية.
وغيرها الكثير من المفردات التي توضح وتبين أن البنية الحضارية للكتلة الاجتماعية العروبية منذ العصر الدافئ استمرت في تطور متداخل ومتواصل بدون دخول عناصر غريبة عليها. بحيث يصعب حتى تمييز الحدود الفاصلة بين مرحلة وأخرى، /وليس فقط على المستوى اللغوي، بل والتاريخي والحضاري..(1/217)
فإذا قلنا (كما يفعل الاستشراق الايديولوجي بأن السومريين غرباء عن المنطقة فكيف" تسلّل" كل هذا الكم من المفردات إلى الأكدية) ومن العبيدية إلى السومرية، وبالعكس (فأس =Khazi وتقابلها: خصين" بالعربية و"ثمن، سعر "=Sha,M والثوم =Tomkorum وتاجر =Damgara= تامجار "بالسومرية) وإذا قلنا معهم أيضاً بأن السومريين قدموا من الشمال.. فكيف استطاعوا أن يتجاوزوا الأكديين المقيمين إلى الشمال من الموقع الذي ظهرت فيه المظاهر السومرية؟ وكيف استطاع الأكديون إذا توالوا حقاً (أي بعد مجئ السومريين) أن يتجاوزوا أو يقفزوا من فوقهم ليتجهوا شمالاً؟ وتنبغي الاشارة أيضاً إلى أنه لا وجود لأي نص سومري ينعت فيه الأكاديين بأنهم أعداء أو غزاة أو بدو.
نستنتج مما سبق إذن، أن المظهر اللغوي "العبيدي -السومري-الاكادي" هو مرحلة تداخلية للمرحلتين الأولى والثانية من التطور العمودي للغة العربية، تتداخل العروبية البدئية مع الكتابة التأريخية مثلها مثل الجوانب الأخرى التي تؤكد الانتماء الأناسي المعرفي والاثنوغرافي بمعانيه الحضارية والثقافية لتلك الجماعة البشرية إلى أمّة عريقة لا يمكن لغيرها أن يضاهي بعمق جذوره في التاريخ كما تفعل هي، بحيث أن اسقاطاً للقراءة اللغوية لتطور اللغة العروبية يمكننا أن ندرس البنية التأريخية للتطور العمودي والافقي للأمة العروبية في مراحلها الأولى والعربية في مراحلها التالية.
بالاضافة إلى ما سبق يستنتج المتلقي أن التطابق الدقيق بين المراحل اللاحقة لتطور اللغة أفقياً وعمودياً من حيث التكوين البنيوي بمواصفات اللغة الاساسية وبالمعجم المفرداتي لا يمكن أن يكون إلاّ ناتجاً لحضارة واحدة بقوام واحد، تتعدد مظاهرها، وتتنوع ألوانها، حسب الغنى الذي تتمتع به من عراقة وتجذير. فاللهجات العروبية (كما سبق ولخصنا الموضوع في بداية البحث وحتى العربية المعاصرة القواعدية:(1/218)
1-معظم كلماتها ذات جذر ثلاثي وهو أكثر بكثير من الرباعي، ويشغل القسم الاعظم من مصادر المفردات المعجمية اللغوية والرباعي رغم قلته إلا أن الخماسي أندر. فكلمة (كتب) يتألف جذرها الصوتي من ثلاثة حروف ساكنة هي (كتب)... وهكذا.
2-طريقة اشتقاق صيغ جديدة للكلمة الواحدة تتم بواسطة تغيير الصوت الصائت في أصل الكلمات الدالة على الفعل.
3-التشابه في الضمائر المتصلة: فصيغة الفعل (قبر) في العربية للمفرد الغائب: قبر (للمذكر)، قبرتْ (للمؤنث).
في الأكدية قبِر QABIR(للمذكر) قبرت QABRAT (للمؤنث)
وفي الأوغاريتية قبر (للمذكر Qb، قبرت "Qbrt" (للمؤنث)
وفي السريانية قِبَرْ (للمذكر) Qabar وقِبْرت Qebrat (للمؤنث)
وفي الحبشية قبَرَ (للمذكر) Qabara وقَبَرْت Qabarat(للمؤنث)
4-تشابه الضمائر المنفصلة بالمثال:
أنا بالعربية
أنا كو بالأكدية
أن (ك) بالأوغاريتية
أينا بالسريانية
أنا بالحبشية
5-الفعل المتعدي يكون بتشديد عين الفعل (كما لاحظنا في أمثلة كثيرة)
6-وجود الحروف الحلقية كالعين والهمزة وغيرها
7-التشابه في تسميات أعضاء البدن (بل والتطابق في معظم التسميات)
8-حروف العطف:
بالعربية وَWa
بالأكدية U وبالاوغاريتية W وبالحبشية Wa
9-الفعل يسبق الفاعل.
10-ارتباط الصفة بالموصوف .
11-استعمال تاء تأنيث، وياء النسبة، واستخدام كاف المخاطب وميم المكان ونون الجمع.
12-التسميات الحضارية والتقنية والثقافية والميثولوجية (سين، دجن، عشتار، أيل، بعل، آدم، حوا).(1/219)
وبهذا الشكل نستطيع أن نجزم بأن اللهجات العروبية نمت وتطورت بتداخل وترابط شديدين فيما بينها بحيث يتعذر مثلاً، مناقشة أي لهجة منها بدون دراسة علاقتها مع شقيقاتها، ولا يمكن أن يُضرب أيّ مثل لأي لهجة، بأنها نمت مستقلة، أو كانت بجذور خاصة، أوبعيدة، تماماً كما أننا لا نستطيع تحديد المنطلق الجذري الجغرافي الأولي الذي انطلقت منه الحركية الجولانية فقراءة ما سبق من حراك تاريخي أناسي ولغوي يدفعنا إلى وضع عدة احتمالات:
-منطقة الهلال الخصيب.
-منطقة الخليج العربي (منطقة ما قبل الخليج).
-الجزيرة العربية.
-الصحراء العربية الكبرى (الليبية)
-وادي ودلتا النيل.
ونحن، ومن خلال متابعتنا لما أسميناه الحراك العروبي، لا يمكننا إلاّ أن نضع النتيجة التالية في جوهر أي نقاش حول الجذر التاريخي الأولي للمنظومة العروبية بمعانيها الأناسية والأثنية واللغوية... إلخ:
إن كل منطقة في الوطن العربي لديها الحيثيات الأثارية واللغوية والأناسية والحضارية والثقافية والميثولوجية وغيرها، والتي تدفع الحوار في حال تجريد الظواهر، إلى التوثيق على أن ذلك الموقع أو هذا، هو الجذر الأولي للحراك التاريخي المدروس. وهذا يعني في أهم جوانبه أن ذلك الحراك كان متعدد الجهات، وأن المنظومة العروبية تاريخياً وجغرافياً، عرفت حركة الجماعات البشرية بين أقاليمها بدون أي موانع طبيعية أو حضارية أو لغوية، في تلك الرقعة التي نعرفها الآن بالوطن العربي.
وإذا كان لا بد من التراتبية الزمنية في القراءة التاريخية فيمكن تلخيص الخط العام لذلك الحراك بالشكل التالي:
1-من منطقة الجنوب الجزيري (اليماني)/(1/220)
الامتداد الجغرافي لوادي الخسيف الأفريقي (العربي) ومن قسمه الافريقي أيضاً، حيث عرف هذا الوادي التواجد الأول للإنسان العاقل الحديث، وكانت جهته في الحالتين باتجاه الشمال باتجاه الصحراء العربية الكبرى (التي لم تكن صحراء في حينها)، في القسم الافريقي، وباتجاه منطقة ما قبل الخليج العربي (حين كان نهرا دجلة والفرات (بالتقائهما وتشكيل شط العرب) يصبان في مياه بحر العرب عند مضيق هرمز وهذا ما يتوافق مع المراحل الاخيرة من العصر الحجري القديم. وبعد أن أثبتنا في الفصل الأول أن إنسان "النياندرتال" في منطقة الشرق العربي كان سباقاً بتواجده على نظيره الأوروبي بحوالي 40.000-60.000 عام مثل الإنسان الحديث Homo Sapiens يصبح واضحاً إذن أن الحراك المدروس كان سباقاً في تأريخه. وهذا يعني أن الإنسان الحديث "العروبي" ARABOID انتشر في الألف الثلاثين قبل الميلاد في ليبيا، وفي منطقة ما قبل الخليج وامتد انتشاره إلى منطقة السبيل في وادي النيل وهذا ما تثبته الحفريات التي اكتشفت الشفرات الحجرية المطابقة لذلك الزمان، إن كان عن طريق السفينة البحثية الألمانية "المونيتيور" أو عن طريق آثاريات منطقة السبيل.
وقد تبين بعد التحليل الدقيق إن هذه المخلّفات التي تشتمل على جماجم وبقايا عظمية إنسانية أنها قريبة من النموذج التشريحي المورفولوجي للسلالة المصرية الأولى والجزيرة (المتطابقة معها).
وفي نهايات المرحلة الجليدية الأخيرة (بين 6.000-10.000ق.م) (اشتد الجفاف في منطقة وادي النيل ومنابعه، ومنطقة الخسيف بامتداديها المذكورين، مما أدى إلى الهجرة الاضافية الثانية بنفس الاتجاه ولكن مع الابتعاد أكثر باتجاه سواحل البحر الأبيض المتوسط بقسميه العربيين (الأسيوي والافريقي).(1/221)
2-مع بداية امتداد العصر الدفئ وانتشار مياه البحر إلى شمال هرمز، وإلى الشمال مما هو عليه الآن بحوالي 149-160كم شمالاً (عن حدوده الحالية) بالاضافة إلى تشكل الخليج العربي، وفيضان النيل، اندفع الحراك المدروس باتجاه المناطق الشمالية والغربية من الهلال الخصيب...، منطلقة" تلك الجماعات البشرية من منطقة ما قبل الخليج، ومن منطقة وادي النيل القبلي "والصحراء الليبية" وإلى الشمال الافريقي غرباً، وعبر سيناء شرقاً.
وهذا ما انعكس لاحقاً بالحضارات النطوفية والسبيلية والصفاقصية ومثيلاتها في الوطن العربي، وأهمها في شمال الجزيرة السورية.
3-أدى الانحسار التالي لمياه الخليج العربي إلى ما هو عليه الواقع الآن، وعودة مياه نهر النيل إلى الاستقرار إلى حراك جولاني اتجه هذه المرة:
آ- من شمال وغرب الهلال الخصيب إلى جنوب بلاد الرافدين -مع الابقاء على المواقع الأولية والتي استندت عليها الحضارات التالية.
ب- من الصحراء الليبية والتي بدأت تصبح مع هذا الطور صحراء فعلاً إلى وادي ودلتا النيل.
جـ- من منطقة الجنوب اليماني والساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى هضبة الحبشة ومنها إلى منطقة النوبة في الوجه القبلي، ومن ثم باتجاه الصحراء الليبية نحو الشمال الافريقي العربي.
... ... وهذا ما أدى إلى ظهور الحضارات البدئية السابقة للحضارات الكتابية التأريخية في جنوب الرافدين، وفي شمال وغرب الهلال الخصيب ودلتا النيل والشمال الافريقي.
4-الحراك الجولاني التلقائي(1/222)
وهو الذي كان يحدث بين التمركزات المدينية في الحضارات الجليلة الكتابية التي ظهرت مع بداية التاريخ وكان هذا الحراك تبادلاً "حضارياً" ثقافياً" وأحياناً يأخذ الشكل العسكري. لكن الجماعات البشرية العروبية بقيت تتحرك وتنتقل من موقع إلى آخر، ومن أقصى نقطة في الشرق إلى أقصى نقطة في الغرب، وبالعكس ومن الشمال إلى الجنوب، وبالعكس، بدون أية حواجز جغرافية أو لغوية أو إثنية وامتد هذا الحراك زمنياً حتى سقوط بابل نتيجة الغزو الفارسي، على يد كيرش عام 539ق.م.
ومن أهم نماذج هذا الحراك وأمثلته، الحراك الكنعاني /الفينيقي (على امتداد سواحل شبه الجزيرة العربية الغربية والجنوبية، من سواحل الخليج العربي فالسواحل الشامية، ومن ثم الامتداد غرباً باتجاه السواحل الشمالية الافريقية العربية، بل وحتى سواحل أوروبا وغيرها.
(وهذا الحراك عفوي تلقائي، ويتم كحركة جماعات بشرية في وطنها، بدون أية حواجز جغرافية أو لغوية أو إثنية).
5-الحراك الجولاني القسري:
ويتم تأريخه مع بداية الغزو الفارسي وسقوط بابل على يد كيرش (قيرش) عام 539ق.م وما تلاه من غزوات اغريقية ورومانية وغيرها. وهذا ما خلق نمطاً جديداً من الحراك ليس بمعناه الجغرافي التاريخي (القسري) فقط، بل ومعناه الحضاري المتعدد الجوانب.
فالأقوام التي غزت الوطن العربي واستمرت بغزواتها على مدى ألف عام تقريباً، كانت تدرك السبق الحضاري الذي حققه العرب على مدى آلاف السنين السابقة. وبات من الممكن مع التوسع العمودي التالي لمفهوم الدولة العربية من تحقيق بنية "سياسية"/ بإحداثيات ذلك الزمان/ عربية، تنجز مشروعها التالي، الذي أعطى الفينيقيون مثاله الرائع. فكانت تلك الغزوات "دفاعية" من وجهة نظر أصحابها الغزاة من جانب، وهجومية لتلقّف تلك الوضعية الحضارية واحتلالها من جذورها.
6-الحراك العربي الاسلامي:(1/223)
ولقد كان بتعبيراته السياسية والحضارية الرد الحتمي على ما سبقه. فإذا لم تستطع المسيحية بجذورها العربية تحقيق الرد اللازم بسبب تبنّيها التالي من قبل تلك الامبراطوريات، وبالتالي التغريب بها، ودفعها إلى خارج مواقعها المعرفية الأثنوأناسية التي أنتجتها، إلا أن الرسالة المحمدية العظيمة استطاعت انجاز ذلك المشروع بتعبيراته الحضارية العالية. وتجاوزت العروبة مع هذا الحراك التوضع التاريخي الجغرافي للانتشار العربي باتجاه الشرق والشمال وتجاوزت البحار إلى أوربا.
لكن ما يهمنا في هذا الموقع، هو التأكيد على أن البنائية العربية بتأسيسها الأناسي المتعدد الجوانب وعبر الاسلام كمظهر معرفي من مظاهر العروبة، وإن استطاعت أن تفرض بنيتها السياسية على رقعة واسعة تمتد إلى سور الصين شرقاً وإلى الصحراء الآسيوية شمالاً وإلى جبال الألب غرباً، إلاّ أنها وتأكيداً لما قلناه سابقاً لم تستطع أن تفرض اللغة العربية إلاّ بما يعنيه ذلك من علاقتها بالتكوين الأناسي المعرفي العربي. لتبقى الدولة العربية لاحقاً بالمعنى القومي في حدود التواجد الأوليّ للجماعات البشرية العروبية عبر مراحل تاريخيتها العريقة، وهو ما نسميه اليوم"الوطن العربي".(1/224)
إذن، لم يكن الحراك الجولاني بين مناطق الوطن العربي ذا اتجاه محدّد، ولم يكن ذا مصدر واحد. أي أن الجماعات البشرية العروبية، وإن كانت في لحظة ما، من التاريخ السحيق جماعة صغيرة نمت وتفرّعت، أو جماعات صغيرة مترابطة جغرافياً وأثنولوجياً، لكن وبغض النظر عن ذلك، من الثابت الآن كما برهنا نحن وبشكل قاطع أن التطابق في المخلفات الأثرية الأولية ولو بين أماكن ومناطق تبدو متباعدة حتى بمقاييس العصر الراهن ليدل على استمرارية الحراك الجولاني والتداخل الحضاري. فالدارس للميتولوجية العروبية المصرية، يكتشف أن معبودات الدين المصري، وبالدليل القاطع (مش: آمون، حور، رع، أوزير، ينث" كانت جاءت من خارج وادي النيل. فأمون، وأوزير، ونيث وغيرهم كثير كانت أرباباً صحراوية قدمت مع المهاجرين من الصحراء الليبية. والمعبود حور هو (=حورس= طائرالحر= الصقر /كما أسلفنا/) كان معبود القادمين من شبه الجزيرة الذين استوطنوا الصعيد وقدّسوه مع الدلتا بعد ذلك. كما أن جميع أسماء الأرباب المصرية القديمة (خاصة ما كان منها على المستوى الوطني الشامل) أسماء عربية الأصل، يمكننا حتى الآن في عصرنا هذا وبلغتنا المتطورة الحديثة جداً أن نفهمها ونردها إلى أصلها العربي بوضوح كامل. والمثير أن عروبة هذه الأسماء تنطبق على أرباب الصحراء الليبية أيضاً مما يثبت وحدة الأصل اللغوي البعيد، أو اللغة الأم. كما أن أهل وادي النيل نظروا إلى الجزيرة العربية (وخاصة الحجاز حيث توجد الكعبة الشريفة) دائماً نظرة تقدير واحترام وتقديس، باعتبارها "أرض الأرباب" (ت. د. ن. ت. ر.و=طية النظر (ين) =أرض الأرباب= أرض الآلهة) (137)...(1/225)
ووردت معنا مئات الأمثلة المطابقة خلال بحثنا أما ما يخص التشابه أو التماثل أو التطابق في البناء الميثولوجي العروبي بمظاهره المتعددة، فلقد خصصنا لذلك جزءاً مستقلاً سيأتي لاحقاً، لكن ما يهمنا في هذا الإطار بعضٌ مما له علاقة مباشرة بالبنية اللغوية. فكلمة "نهر" في العربية المعاصرة هي بالأوغاريتية "ن.هـ.ر" "وبالآرامية" نهرا" وباليمنية القديمة "نهر" وبالأكدية" نهرو" والبحر" كما ورد معنا، بالأوغاريتية "يم" و"يما" بالأرامية و"يامو" بالأكدية وعلى رأي سايروس غورون (138) فان الكلمة أكثر تجذراً في اللهجة الأوغاريتية. وهناك أيضاً مادة (ت.هـ.م) تفيد معنى "العمق، البحر، الملح، اللج، البحر المحيط" في اللهجات العروبية:
"ت. هـ، م" بالأوغاريتية.
"تهموما" بالسريانية.
"تهامات" بالإيبلاوية وتعني "المحيط المنخفض"
"تيامت" بالبابلية وتعني الهولة البحرية التي قتلها الإله مردوخ كما جاء في أسطورة الخلق البابلية" حينما في الأعلى "كما أن"تامتو" البابلية تعني "بحر" وتقابلها في العربية المعاصرة "تهامة" وهي اسم جغرافي يطلق على الجزء الغربي من الجزيرة العربية عند ساحل البحر الأحمر. وهي كلمة لها علاقة بالماء والبحر(139). على أن الدكتور كمال صليي يقترح لهذه الكلمة جذراً آخراً هو "هيم" أو "هام" "بمعنى" عطش "ومنه الهيام" وهو أشد العطش. ويعتبر التاء في بداية الكلمة هي الضمير المتصل المؤنث للمفرد والغائب، من صيغة (تفعل) كما في (تدمر)؟؟! وتغلب وتنوخ. وباعتبار هذه الكلمة لم ترد معرّفة بأداة تعريف فهي ليست نكرة، وفي هذه الحالة تعتبر اسماً جغرافياً على نحو ما يذهب إليه معناها في العربية المعاصرة(140) ومهما كان معناها، فهي موجودة في كل اللهجات العروبية بمعان أربع/
تهامة: أرض منخفضة بين ساحل البحر وبين الجبال في الحجاز واليمن.
تهامة: ذات العلاقة بالبحر.
تهامة: ذات العلاقة بالعطش والصحراء.(1/226)
تهامة: الرمز الثيولوجي المعروف في "حينما في الأعلى" والذي يقاطع على ما يبدو المعاني السابقة في اتجاهاتها المتعددة.
ولهذه المفردة مغزى "خاص" في الإشارة إلى الحراك الجولاني الذي نتحدث عنه والذي يمكننا من خلاله توزيع الرقعة الأفقية لانتشار اللهجات العروبية على النحو التالي بعد أن تفرعت من اللهجة العروبية البدئية الأصل:
1-اللهجات العروبية المشارقية، وتضم:
-ما قبل خليجية وهي شفوية غير مكتوبة، إلاّ تلك المفردات التي انتقلت إلى اللهجات التالية مكانها جغرافياً:
-السومرية، والأكادية (البابلية والاشورية).
-الكنعانية (الأوغاريتية، الفينيقية، والأمورية، والمرآبية).
-الآرامية: (الآرامية، السريانية، النبطية، والتدمرية، المندائية، الصابئية..)
-العربية الجنوبية (الحضرمية، المعينية).
2-اللهجات العروبية الوسطى:
-العربية الجنوبية (القتبانية، السبئية، الحميرية).
-السيناوية.
-المصرية(الهيروغليفية، الهيراتيقية، الدوميثقية..)
-الحبشية (الجمعرية، الأمهرية، التيغرية، إلخ) الكوشيتية.
3-اللهجات العروبية المغاربية:
-الأمازيغية/ البربرية.
-الليبية (الجبالية).
-الكوشيتية.
-الفينيقية (القرطاجية)/ الكنعانية.
-الاتروسكية.(1/227)
وبهذا الشكل يبدو جلياً المعنى الملازم للبعد الأناسي المعرفي للغة، ابتداءً من الكتابة التصويرية والتي تعني نقل المشخص القائم في الموضوع والمحيط إلى الحركة الإبداعية، الممثلة بفعل الخلق المنمذج. وهنا تأخذ الذاكرة الحدْثيّة EPIZOTIC دورها الخاص في الانتقال من المشخص العياني إلى الموضوعي، إلى المعزول. فالتصوير يعني الانتقال في التشخيص انطلاقاً مما هو قائم الآن في الواقع المشاهد إلى الواقع الموضوعي، حيث تتدخل الذاكرة البصرية (الطيفية)، لكن تبقى في احداثيات الحدث، المعيّن بأبعاد واقعية. من ثم تنتقل الحركية المعرفية إلى نقل هذا الموضوع عبر أدوات التعبير (التي هي البدء في الحالة المناقشة) إلى بنية أخرى معزولة، لكنها غير متطابقة مع الأصل.
من ثمّ الانتقال الثاني باعتبار اللغة التصويرية الأولى، هي التمثيل الثاني للموضوع، فيُعامل على أنه موضوع جديد مستقل، (وهذا كما أسلفنا مرتبط بالانتقال من اللغة الشفوية إلى اللغة الكتابية) مما يُخضعه لنفس عمليات النمذجة المعرفية التي خضع لها الموضوع الأول المشخص عيانياً.(1/228)
وهنا تتدخل الذاكرة الدلالية بحدود امتلاكها للواقع الموضوعي. فيتم الانتقال إلى المرحلة التالية من الكتابة التصويرية إلى مرحلة التركيز على عناصر، يعتبرها المبدع هي الأكثر أهمية، ويتمّ بالتالي اختزال بعض الصفات في التصوير الأول، ليُصاغ بالتالي نمطٌ "رمزيٌّ" جديد يحمل السمات الهامة من التصوير الأول. وهذا ما يمكن أن نسميه التجريد الكتابي الأوّلي. بحيث ركز الإنسان العروبي على مفاصل ما، في الكتابة التصويرية الأولى، اعتبرها الأهم، فأهمل ما عداها ونقلها إلى النمط الرمزي الجديد من الكتابة. ونظراً لارتباط ذلك الموضوع المشخص بالحركات الصوتية وما يعنيه ذلك بالمنهج الأناسي المعرفي من تداخل الذاكرتين الصدوية ICOIC "السمعية" والبصرية ICONIC فقد تم إدخال التجريد على التعبير الصوتي والصوري، مما أدى في البداية إلى نشوء الرموز التركيبية ثم تحولت إلى مقاطع ذات قيم صوتية ترسم بخطوط مستقيمة. وبالتالي تم استبدال الأهم في الشكل الواقعي الموضوعي المشخص بالنموذج الرمزي الذي يداخل معه الحركية الصوتية. ولا يمكن لتلك السلسلة الإبداعية أن تتم إلا بفضل عامل التواصل بين أفراد الجماعات البشرية، وما يعنيه ذلك، من نقل التواصل المباشر الموضوعي إلى المجرد. وهذا ارتبط بدوره بنشوء العلامات الأولية للفكر الفلسفي.
والمتتبع لمراحل تطور أبجديات اللهجات العروبية يدرك تماماً، أن هناك تطابقاً كاملاً في الانتقال المذكور عبر مراحل التطور من الشكل التصويري اللغوي إلى الأبجدي.(1/229)
فالتتبع لتطور اللهجات كالهيروغليفية مثلاً والتي بدأت أولاً بالمرحلة التصويرية "حيث الصورة تعبر عن الفكرة. فصورة القدم تعطي فكرة المشي، وصورة العصفور تعطي فكرة الطيران، ولتمييز الاسم عن الفعل جعلوا إشارة خاصة تتبع الفعل دائماً، ثم انتقلت إلى المقطع الصوتي ثم إلى الشكل الرمزي، بحيث بلغت رمزها وأشكالها وحروفها في إحدى مراحل تطورها السبعمائة"(141) يدرك تماماً أنها عبرت نفس مراحل النمو المعرفي التي مرت به شقيقاتها المسمارية والأبجدية الفينيقية. "فالمسمارية بدأت بحوالي 2000 علامة ثم تقلّصت إلى 500 علامة ثم اختزلت إلى 400-350علامة مسمارية (141) تماهت لاحقاً بالكتابة المسمارية الأوغاريتية، لتتداخل تلك المحاولات للأبجدية وتنتج الأبجدية الفينيقية والتي يرى البعض (أنها تتقاطع بالكثير مع الأحرف السيناوية (نسبة إلى سيناء) المشتقة عن الهيروغليفية المتطورة.
والمعروف أن الأحرف السيناوية مشتقة عن الهيراطيقية. وقد اعتمد هؤلاء الدارسون برأيهم على التشابه الشديد بين الأحرف الفينيقية والسنياوية"(142) وبعضهم الآخر يردها إلى المسمارية الأكدية(143).
وهذا يهمنا بنتيجة واحدة مفادها أن تلك اللهجات تطورت مورفولوجياً وزمنياً بمراحل واحدة ومنحى أناسي ومعرفي وثقافي واحد، بل وبجذر أثنولوجي واحد.
(
هوامش الفصل الرابع
(1) قاسم العتمة - اللغة العربية كأداة توحيد - الوحدة -العدد 33-34- حزيران وتموز1987.
(2)المصدر السابق
(3) المصدر السابق.
(4) د.الغالي أحروشاو: مجلة دراسات عربية العدد /8/ السنة الحادية والعشرون- حزيران 1985.- ومعنى القول مأخوذ من عالم اللغة بياجيه.
(5) هنري لوفيفر، اللسان والمجتمع، ترجمة مصطفى صالح- وزارة الثقافة في ج.ع.س ص135.
(6) قاسم العتمة اللغة العربية كأداة توحيد.
(7) محمد الأسعد - في الشائع والموروث.. وأصل أم الحضارات - جريدة الحياة /العدد 11793/ حزيران 1995.
((1/230)
8) محمد الأسعد - المصدر السابق
(9) محمد الأسعد - المصدر السابق
(10) بييرروسي - مدينة ايزيس - التاريخ الحقيقي للعرب- ترجمة فريد جحا - وزارة التعليم العالي- دمشق 1980 ص8
(11) بييرروسي - المصدر السابق ص18
(12) محمد الأسعد - المصدر السابق
(13) محمد الأسعد - المصدر السابق
(14) بييرروسي - المصدر السابق ص31
(15) بييرروسي - المصدر السابق ص31
(16) بييرروسي - المصدر السابق ص37
(17) بييرروسي - المصدر السابق ص18-48-49
(18) بييرروسي - المصدر السابق ص34
(19) بييرروسي - المصدر السابق ص38
(20) بييرروسي - المصدر السابق ص25
(21) بييرروسي - المصدر السابق ص50
(22) محمد الأسعد - المصدر السابق.
(23) احسان جعفر - بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية - مجلة الوحدة العدد 20أيار 1986.
(24) أحمد كمال - مجلة المقتطف، المجلد التاسع والخمسون، الجزء الثالث - منقول عن دراسة احسان جعفر السابقة الذكر
(25) احسان جعفر - المصدر السابق .
(26)احسان جعفر - المصدر السابق
(27)أحمد كمال : أول أمين مصري لمتحف القاهرة وأستاذ للحضارة القديمة في الجامعة المصرية القديمة وله من الكتب المطبوعة: "العقد الثمين في تاريخ مصر القديم." اللآلئ الدرية" اجرومية هيروغليفية - عربية - "بغية الطالبين" في علوم قدماء المصريين.- "ترويح النفس" في مدينة عين شمس.- "ترجمة" دليل متحف القاهرة.- "صفائح القبور" في العصر اليوناني والروماني.- الدر المكنوز في الجنايا والكنوز و"الموائد القديمة" وغيرها.
(28) المعلومات السابقة مأخوذة من مقالة إحسان المصدر السابق .
(29) احسان جعفر المصدر السابق،
(30) د. عبد العزيز صالح، حضارة مصر وآثارها الفصل الأول.
(31) احسان جعفر - المصدر السابق
(32) قاسم العتمة - اللغة العربية كأداة توحيد- مجلة الوحدة العدد 33-34 حزيران- تموز 1987 ص10
((1/231)
33) قاسم العتمة المصدر السابق - ووردت نفس المعطيات أيضاً في مقدمة لدراسة التطور الدلالي في العربية الفصحى، مجلة عالم الفكر العدد 4لعام 1986 للدكتور أحمد محمد قدور ص 29 وما بعدها.
(34) قاسم العتمة - المصدر السابق.
(35) د.عبده بدوي -دور الشعر وخدمته لعملية التنمية الثقافية عالم الفكر- العدد4 -1986-ص99.
(36) قاسم العتمة - المصدر السابق
(37) أحمد عثمان - هجرة قبائل العرب قبل اختراع الكتابة - جريدة الحياة العدد 11789 حزيران 1995.
(38) أحمد عثمان - المصدر السابق.
(39) علي أبو عساف - آثار الممالك القديمة في سورية.- وزارة الثقافة في ج.ع.س 1988ص129.
(40) فك رموز اللغة المسمارية العالم الألماني جبمورج فريدريك عزوتغند وأكمل عمل هذا الباحث الانكليزي رولنسون عام 1846، في حين فك رموز الهيروغليفية- العالم شامبليون.
(41) أحمد عثمان.- المصدر السابق.
(42) د.علي فهمي خشيم - أقسام البشر الاربعة في قصة الخلق المصرية - مجلة الوحدة العدد33-34 حزيران -تموز 1987 ص100مأخوذة عن:
Budge,The Egyption Gods ,P.8
Budge, The Egyption Heaven And Hell P144
(43) انظر:
Gardiner, Eg P.618 Budge An En Heir Diet P432-6
(44) قارن:
Budge, An Eg. Hier Diet-6
Budge, Egyption Language P.10.7-210
(45) M.Grant, The Etrucons. Waidenfeld And Nicolson,London 1980
(46) علي فهمي خشيم - المصدر السابق
(47) د.البر فريد النقاش - الآثار وكتابة تاريخ العرب القديم - مجلة الفكر العدد 52 ص11-12
(48) د.عفيف بهنسي - وثائق ايبلا دمشق 1984.
(49) د.عفيف بهنسي - المصدر السابق ص24
(50) د.عفيف بهنسي - المصدر السابق ص25.
(51) د.عفيف بهنسي - المصدر السابق ص135
(52)
P.Biggs: The Epla Tablette. An Interim Perspective Biolical Archaeology Spring 1980
... وارداً في وثائق ايبلا للدكتور عفيف بهنسي ص120
(53) د.عفيف بهنسي - المصدر السابق ص141.
((1/232)
54) المصدر السابق المذكور بالهامش (52)
(55) د.عفيف بهنسي - وثائق ايبلا دمشق 1984ص147.
(56) د.عفيف بهنسي - المصدر السابق ص152
(57) د.عفيف بهنسي - المصدر السابق ص149
... (إن الأمثلة على تطابق اللهجات الايبلاوية والكنعانية -الأوغارتية كثيرة جداً، وهذا يعني وحدتها ضمن منظومة اللغة العروبية التي تطورت إلى العربية الحديثة" ويمكن العودة إلى قاسم الشواف "العلاقة بين لغة رأس شمرا واللغة العربية "والكتاب الذي أصدره بالانكليزية عز الدين الياسمين "العلاقات اللغوية بين الأوغاريتية والعربية "عن جارشكتون كولدج 1952./هامش ص143في كتاب د.بهنسي المذكور أعلاه/
(58) د.البر فرينقاش - الآثار وكتابة التاريخ العربي القديم - مجلة الفكر العربي العدد 52.
(59) د.البر فريد نقاش - المصدر السابق ص16 هامش (4).
(60) د.عفيف بهنسي - وثائق ايبلا دمشق 1984 ص142.
(61) د.البر فريدنقاش - المصدر السابق.
(62) د.البر فريد نقاش - المصدر السابق.
(63) الشيخ نسيب وهيبة الخازن - من الساميين إلى العرب - دار مكتبة الحياة بيروت ص161-163.
(64) حروف المسند مأخوذة من "المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام للدكتور جواد علي الجزء الثامن- 1971الطبعة الثانية ص220.
(65) الأحرف الفينيقية ومعناها مأخوذة من كتاب من الساميين إلى العرب للشيخ نسيب وهيبة الخازن ص39.
(66) د.جواد علي المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام - ط2 1971-الجزء الثامن ص202وما بعد .- (67)د.جواد علي - ط2 1971- الجزء الثامن ص212. دار العلم للملايين
(68) د.جواد علي - ط2 1971- الجزء الثامن ص213 دار العلم للملايين
(69) د. جواد علي - ط2 1971- الجزء الثامن ص213.
(70) سبق ووضحنا في الفصل السابق ارتباط التسمية بالتاريخ الجغرافي الأناسي لجنوب العربية وارتباطها بالجماعات العروبية المهاجرة (الجوالة) مع فجر التاريخ.
((1/233)
71) أمين توفيق الطيي - العلاقات بين الجزيرة العربية والحبشة قبل الاسلام - جريدة الحياة العدد /11770/ تاريخ /14/5/1995.
(72) أمين توفيق الطيي - المصدر السابق
(73) أمين توفيق الطيي - المصدر السابق.
(74) د.جواد علي المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام - المصدر السابق ج8 ص229
(75) زياد منى - عودة التاريخ المخطوف - مجلة الناقد- العدد 54 /أيار- مايو 1994.
(76) زياد منى - المصدر السابق.- ومن الجدير ذكره أن الدراسة المنوه عنها أعلاه صدرت عن دار رياض الريس في بيروت في كتاب مستقل بعنوان "التوراة أتت من جزيرة العرب".
(77) زياد منى - المصدر السابق .
(78) علي الشوك: جولة في أقاليم اللغة والاسطورة - دار المدى ط1994 ص43-44.
(79) علي الشوك - المصدر السابق ص43.
(80) علي الشوك - المصدر السابق ص42.
(81) د.محمد عجينة - موسوعة أساطير العرب - دار الفارابي ط1 1994 الجزء الأول ص275-177.
(82) د. محمد عجينة - المصدر السابق ص336.
(83) علي الشوك: جولة في أقاليم اللغة والاسطورة - دار المدى ط1994 ص9.
(84) علي الشوك - المصدر السابق ص11.
(85)علي الشوك - المصدر السابق ص61
(86) علي الشوك - المصدر السابق ص13.
(87) علي الشوك - المصدر السابق ص13.
(88) علي الشوك - المصدر السابق ص13.
(89) علي الشوك - المصدر السابق ص13.
(90) قاموس الآلهة والاساطير - في بلاد الرافدين والحضارة السومرية - تأليف د.اذزارو وم هـ بوب ورف. رولينغ - ترجمة أحمد وحيد خياطة - توزيع دار سومر -حلب ص183
(91) علي الشوك - المصدر السابق ص15
(92) علي الشوك - المصدر السابق ص19.
(93) علي الشوك - المصدر السابق ص22.
(94) علي الشوك - المصدر السابق ص22.
(95)علي الشوك - المصدر السابق ص28.
(96) د. محمد عجنية - موسوعة أساطير العرب الفارابي 1994- ج1-ص302
(97) علي الشوك - المصدر السابق ص 54.
(98) علي الشوك - المصدر السابق ص62.
((1/234)
99) علي الشوك - المصدر السابق ص95.
(100) علي الشوك - المصدر السابق ص128.
(101) علي الشوك - المصدر السابق ص128.
(102) علي الشوك - المصدر السابق ص132.
(103) الأزرقي، أخبار ج1 ص177-187.- جولة في أساطير العرب (موسوعة) - محمد عجنية- فارابي ط1 1994 ص184
(104) علي الشوك - جولة في أقاليم اللغة والاسطورة، دار المدى ط1 1994 ص182-183
(105) علي الشوك - المصدر السابق ص185.
(106) علي الشوك - المصدر السابق ص186.
(107) علي الشوك - المصدر السابق ص187.
(108) علي الشوك - المصدر السابق ص191.
(109) علي الشوك - المصدر السابق ص195.
(110) علي الشوك - المصدر السابق ص202.
(111) علي الشوك - المصدر السابق ص204.
(112) سيد محمود القمني - التراث والاسطورة -دار سين، مصر، ط1993 /عدة مواقع/.
(113) علي الشوك - المصدر السابق ص208-209.
(114) علي الشوك - المصدر السابق، ص211.
(115) أحمد عثمان - هل كانت العربية الفصحى هي بالفعل لغة الكلام في قريش - جريدة الحياة العدد 11803/16 حزيران 1995.
(116) أحمد عثمان - المصدر السابق.
(117) علي الشوك - الوطن الأم للأقوام السامية - الكرمل 40-41/1991
(118) علي الشوك - المصدر السابق الذكر ص64.
(119) أحمد عثمان - المصدر السابق.
(120) أحمد عثمان - المصدر السابق.
(121) علي الشوك - الوطن الأم للأقوام السامية - الكرمل 40-41/1991
(122) علي الشوك - المصدر السابق.
(123) علي الشوك - المصدر السابق.
(124) علي الشوك - المصدر السابق.
(125) علي الشوك - المصدر السابق.
(126) علي الشوك - الوطن الأم للأقوام السامية - الكرمل 40-41/1991
(127) الرأي لـ يهو شع عزنتز في بحث نشره في "مجلة دراسات الشرق الأدنى" التي تصدرها جامعة شيكاغو عام 1962 تحت عنوان الوطن الأم للساميين.
... وقد ورد بشكل أوسع في الفصل الخاص "الأناسة التاريخية المعرفية المسروقة من هذا الكتاب.
((1/235)
128) علي الشوك - الوطن الأم للأقوام السامية - الكرمل 40-41/1991
(129) علي الشوك - المصدر السابق .
(130) علي الشوك - المصدر السابق.
(131) علي الشوك - المصدر السابق.
(132) علي الشوك - المصدر السابق
(133) علي الشوك - المصدر السابق
(134) علي الشوك - المصدر السابق.
(135) علي الشوك - المصدر السابق .
(136) علي الشوك - المصدر السابق
(137) علي فهمي خشيم - نحو دراسة علمية للتاريخ العربي القديم - الوحدة عدد 24-آذار 1988.
(138) علي الشوك - الوطن الأم للأقوام السامية - الكرمل 40-41/1991.
(139) علي الشوك - المصدر السابق
(140) علي الشوك - المصدر السابق
(141) لبيب عبد الساتر - الحضارات - دار المشرق- بيروت 1986 ص18
(141) عبد الحكيم الذنون - بدايات الحضارة -دار علاء الدين 1993 ص80.
(142) لبيب عبد الساتر - الحضارات - دار المشرق بيروت 1986 ص88.
(143) لبيب عبد الساتر - المصدر السابق ص90.
(((
الفصل الخامس
الإناسة التاريخية المعرفية المسروقة
لم تعد إعادة الإحداثيات للتاريخ مسألة عدالة وتوازن حقيقي، بل هي رؤية معرفية نقدية تدفعنا لإعادة استكشاف الآفاق المستقبلية للصيرورة التالية للأمة العربية، وهذا يعني من أحد جوانبه إعادة التوازن المعرفي لأدوات القراءة، وبالتالي إعادة القراءة الأناسية المعرفية للتاريخ العربي، بما يعنيه ذلك من استثمار كافة الوسائل المتاحة، من مناهج وأدوات علم اللسانيات المقارن، والتاريخ المقارن، والجغرافية التاريخية، وغيرها، بهدف وضع المقدّمات الأولية لعودة التاريخ العربي لإحداثياته الحقيقية.(1/236)
وأول ما يعنينا هذا الكلام، يخص بالدرجة الأساسية إعادة تقييم التسمية المتداولة، الاستغرابية الاستشراقية/ والتي لم تعنِ أكثر من تأطير أيديولوجي للمشروع الرأسمالي - اليهودي- الصهيوني في المنطقة العربية، ألا وهي تسمية " السامية"، وهل هناك ضرورة لإضافة أن تعبير (سامي) لم يرد له ذكر بين مفردات اللغة الإغريقية، أو اللغة اللاتينية؟ وما يقال في هذا المجال طويل، إننا لن نجد هذا التعبير قبل نهاية القرن الثامن عشر، ذلك أن العالم(1) ل. شلوتسر هو الذي صاغ هذا النعت(السامي) في مؤلف نشره عام 1781، وأعطاه العنوان التالي (فهرس الأدب التوراتي والشرقي)، كأن الأدب " التوراتي " ليس شرقياً(1)، وليس مأخوذاً بكامله عن الآداب والمثيولوجيات العروبية السابقة والموازية لتدوين التوراة وخصوصاً العهد القديم. وهذا ما تشي به، القراءات غير المنحازة، الحيادية، البعيدة عن التأثير الأيديولوجي الصهيوني والذي تفصح عنه، وبما لا يدع مجالاً للشك، القراءات المعرفية ذات المناهج المفتوحة والتي تعتمد على القراءة التاريخية الأناسية، وليس التأريخية، وعلى علم الجغرافية التاريخية المقارنة، " منها نحن لم نعثر حتى اليوم على أثر، ولا على أقل إشارة، تجبرنا على التحدث عن عاصمة عبرية، أو عن ملوك عبريين، ولم يسجَّل في مكانٍ ما اسم داوود أو سليمان، ولم تسجَّل في أي مكان الفتوحات الكبرى التي يمجدها العهد القديم، إن الديوان الفرعوني صامت في هذا الصدد، وهو الذي يحلو له أن يقص أدنى الأحداث السياسية أوالعسكرية للمنطقة(2).(1/237)
وأعتقد من ناحيتي بأن التسميات الأنتربولوجية الإثنية التي وزعت شعوب الأرض بين سام، وحام ويافث، لم تعد تجد لنفسها مكاناً في ساحة المنطق والعلم، حتى أن المعنى الاشتراطي لهذه التسميات فقد بريقه، وتحوّل إلى شعوذة، لأن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمنا بدلاً عن الساميين الأبطال المخْتَلَقين من أصل خيالي.. لو أننا تكلمنا عن العرب، ذلكم الشعب الحقيقي، والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً، وجوداً ثقافياً ولغوياً، يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين(3).
والمتتبع لنا في الفصول السابقة يدرك، وبشكل قطعي، أن ما سقناه من وثائق متداخلة وعديدة ومتشابكة أناسياً ومعرفياً ولغوياً وتاريخياً وجغرافياً .. تؤكد أن التقسيم الشلوتسري لم يستند إلاّ إلى الوهم الأيديولوجي، والذي يدفع إلى تقسيم المنطقة العربية أثنياً وأناسياً، بما يسهل للسايكسبيكوية اللاحقة طرق سيطرتها، وذلك عندما بدأت الرأسمالية تتوسع خارج حدود مراكزها القومية مع نهاية القرن الثامن عشر، والانطلاق باتجاه الأطراف إلى مواقع أضعف تسهل السيطرة عليها، وجعلها تدور ضمن حلقة الأطراف المنهكة والمراكز الرأسمالية القومية، وما يعنيه ذلك من محاولة الرأسمالية أولاً، والإمبريالية ثانياً إدارة أزماتها، وليس الخروج منها، عن طريق سحق الأطراف، والتي تشكل منطقتنا العربية الحلقة الأهم فيها، بالنسبة لمراكز التوضع الرأسمالي الأوروبي سابقاً أو الأمريكي لاحقاً، مع دور الأيديولوجية اليهودية الصهيونية الهام والمعروف في عملية المركزة والتطريف الهامين، والتي استندت إلى البنية الإيديولوجية لنصوص العهد القديم " لذلك يبدو أن اليوم الذي يتوقف فيه العهد القديم عن تغذية علمنا التاريخي، سيغدو شرحنا لأمور الشرق محرّراً من إمبراطورية الأفكار المسبقة(4).(1/238)
وبداية " يبدو أن إيضاحاً حول قضية العبرية يبدو ضرورياً، لأن وهماً معقداً ومستمراً لشعوذة اشتقاقية لغوية قد استطاع أن يجر كثيراً من الناس ليروا العبرانيين وفي " ثقافتهم " الأجداد" الساميين" لتاريخ الشرق، ولتاريخنا نحن أيضاً. إن علينا أن نعرف قبل كل شيء أن التاريخ المصنوع للعبرانيين خارج النصوص التوراتية هو الصمت الكلي المطبق، فلا العمارة ولا الكتابات المنقوشة على الآثار، ولا القوانين والدساتير تكتشف أثراً قليلاً للعبرانيين، فعلى آلاف النصوص المسمارية أو المصرية التي تؤلف المكتبة المصرية أو مكتبة راس شمراً أو نينوى، وحتى في الروايات الآرامية... في ذلك كله لا تذكر كلمة (عبرية) وأشهر ملوك التورات وهما داوود وسليمان لم يصبحا قط موضوع وقائع تاريخية، وليس هناك أبداً ذكر للملحمة وللوقائع الحربية المعزوَّة لعبور العبرانيين "(5)" أما اللغة العبرية الحديثة، فهي اختراعٌ أملاه اليعازر بن يهوه الذي نشر بين عامي 1910-1922معجماً طلبته الحركة الصهيونية العالمية وخصصته لإيجاد نوع من (الاسبيرانتو) ليهود العالم الموعودين بالهجرة إلى فلسطين، إنه إذاً أداة سياسية "(6).
والعبرية بحدَّ ذاتها هي لغة الكلام الكنعانية( شفة كنعان) مكتوبة بحروف آرامية(7)، والآرامية فرع من فروع اللهجات العروبية الشمالية الغربية، سميت كذلك نسبة إلى الجماعات الآرامية التي سكنت أعالي أرض ما بين النهرين، وكان الآراميون يمثلون جماعات عربية، جاءت من منطقة الخليج العربي، وانتشرت شمالاً في منطقة الهلال الخصيب وتدريجياً منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد- مثل " أرام زوبة" و" أرام معكة" و" أرام ريحون "، و" جشور" و" حلب" و" حمص" و" بيت أديني" ثم امتد وجود الآراميين جنوباً إلى تدمر ودمشق..(1/239)
وبدأ انتشار اللهجة الآرامية مع التجار الذين تجولوا في منطقة الهلال الخصيب- إذ كان الآراميون متخصصين في الأعمال التجارية - أصبحت الآرامية لهجة المعاملات التجارية في المنطقة، قبل أن تصبح خاصةً بالمعاملات الدبلوماسية، واستخدمت الآرامية الأبجدية الفينيقية لكتابة لغتها بالحبر والقلم اتباعاً للطريقة المصرية(8).
وتتكون الأبجدية الآرامية من 33 حرفاً ساكناً، تتفق مع الحروف الفينيقية وتختلف أداة التعريف فيها عما عليه في العربية المعاصرة فإن الألف الممدودة تأتي في نهاية الكلمة الآرامية المفردة، فتصبح كلمة " الملك" في العربية المعاصرة " ملكا" عند تعريفها في لهجتها الآرامية ومثل باقي اللهجات العُروبية سابقاً والعربية لاحقاً، تعتمد الآرامية في كلماتها على المصدر الثلاثي، كما يتم تغيير المعنى عن طريق تغيير الحركات( وتتطابق بنفس المواصفات المميزة التي أوردناها في الفصول السابقة):
ففي الآرامية: دانينل بارك لألا شميا
وفي العربية المعاصرة: دنيال بارك إلّه السماء (9).
وفي الآرامية : ملة ملكا
تعني بالعربية المعاصرة: كلمة الملك (10).
لذلك لا يمكن الحديث إطلاقاً عن أيَّة لغة عبرية، وبالتالي لم نحاول أن نستخدم في المقارنات اللغوية التي اتبعناها في مؤلفنا هذا، ما يفعله الباحثون العرب "أو المستشرقون بتناول " العبرية" كلغة مستقلة أو كلهجة، مثلها مثل اللهجات الأخرى، فالتسمية " عبري" كما لاحظنا اشتراطية، ولا يوجد لها أي تأسيس تاريخي معرفي " والعبرية" هي الكنعانية نفسها مكتوبة بالأبجدية الآرامية، المتقاطعة أوالمتشابهة أو المتطابقة كما لاحظنا أيضاً مع الأبجدية الفينيقية,..
وانطلاقاً من قناعتنا بأن اللغة هي الشكل الحركّي للفكر، فعن أي فكر عبريٍّ " يهودي" يمكن الحديث إذن، بعد أن أقتنعنا بالحقيقة التي تنفي وجود لغة أو لهجة عبرية ذات خصائص متميزة وبعيدة عن اللهجات العربية التاريخية في المنطقة العربية؟!!(1/240)
أما ما يخص البناء المثيولوجي اليهودي تاريخياً، فلكلِّ نصٍّ ديني محورٌ ميثولوجي( ثيولوجي) وحاملٌ ثقافي. يتضمن الأول جملة المكوِّنات الثيولوجة- العقائدية- التي تحدّد إطار الاستناد للعقيدة والطقس، أما الحامل الثقافي فيتضمن منظومة العناصر المعرفية والأخلاقية الناظمة للبنية الشعائرية والسلوكية (الفردية والجماعية)، والمنظمة للقيم والمعاهد والمبادئ الواسمة لتعامل (الذات الكتلية) مع المحيط والمجتمع، وللمكونات الداخلية فيما بينها، والحامل الثقافي مرتبط بالبنية الثقافية العامة المنتجة في سيرورتها التاريخية..
أما العلاقة بين ثيولوجية الرمز الديني أو الأسطوري وحامله الثقافي، فهي معقدة ومتداخلة، يصبح الحكم على جوانبها المتعددة شكلاً من مظاهر الحفر المعرفي الاناسي المتعدد الجوانب والمناهج، خصوصاً أن معظم العناصر الثيولوجية في المنظومة الأناسية المعرفية تنتمي للثقافي المعرفي بالمفهوم الدلالي اللفظي الحّدْثي، في حين نستطيع تمييز ما هو أيديولوجي ثقافي في المنظومة الأناسية المعرفية المعبَّر عنها في الحامل الثقافي..
ولكن، وعندما ترتبط البنية المعرفية في السياق التطوري التاريخي لعملية النتاج الاجتماعي، وحركية التاريخ الجمعي ( الكتلي) بالعناصر الأخرى للبنى الفوقية، بما يحدد إحداثيات توضع الجماعة البشرية ضمن منظومة الكتل الإنسانية بشكل عام، يصبح للحامل الثقافي معنىً أكثر اتساعاً، وبالتالي يصبح للحامل الثقافي بجانبه المعرفي مساحةً أوسع من القطع التاريخي الذي قد تعاني منه بنيةٌ ميثيولوجية أو أسطورية ما، في مقطع زمني محدّد، لم تكن فيه إلاَّ لحظة عبور في زمن أنيّ فيزيائي ميقاتي، وسياقات عابرة في الآن المختلف لزمن اجتماعي آخر، لأن الثقافة أصلاً منتجٌ تاريخي - ولا ثقافة خارج التاريخ..(1/241)
لذلك، ليس سهلاً، استقبال البنية المثيولوجية اليهودية بتوضعها الثيولوجي و" الثقافي" ضمن نفس النسق والقرائن التي تحدثنا عنها، وبما يمكن أن نطبقه لمقاربة البنى المثيولوجية الأخرى لخطابات دينية متعددة، ابتداءً من الأديان البدئية والأولية، وانتهاءً بمنظومة الديانات التوحيدية بمظاهرها المختلفة بمناح واتجاهات معرفية وثقافية واحدة، وذلك لأن اليهودية تحديداً لا تحمل بناءً تكوينياً خاصاً مميزاً، ليس فقط لافتقارها الكامل للحامل الثقافي، بل، لأنها تفتقد أيضاً للبنية الثيولوجية الخاصة المستقلة، المميزة لها، وهذا ما يمكن تأكيده من خلال أسفار العهد القديم نفسه، والتي تشكل التأسيس الوحيد لليهودية كخطاب " ديني" ولليهودية الصهيونية كخطاب أيديولوجي معاصر..
وإذا كنت سأعرّج على البنية المثيولوجية العروبية الواحدة في مؤلفاتنا اللاحقة ضمن هذا المشروع، وحينها سنعرج معاً بالتفصيل على كلّ ثيولوجي أو مثيولوجي أو ثقافي أو أدبي في منظوماتنا الأناسية المعرفية العربية الواحدة بمظاهرها المتعددة والمتعاقبة وأفقياً، وحينها لابد لنا من الحفر حول الجذور الأولية لما تبنته اليهودية لاحقاً من بنى أناسية ومثيولوجية بعد أن سرقته من التاريخ الأناسي المعرفي العربي (والعروبي)، إلاَّ أنني لا بدَّ لي أن أعرج في مؤلفي المتواضع هذا، على بعض المفاصل الهامة والأساسية في البنية " اليهودية" مثيولوجياً وثقافياً، لنثبت ومن موقع القارئ الحيادي اللامنحاز أن كل مكوناتها مأخوذة من التكوين العروبي أولاً والعربي لاحقاً، تماماً كما فعلت مع اللهجة الكنعانية التي كتبتها بحروف آرامية وأنتجت تلك التسمية الأيديولوجية اللاحقة " العبرية" وهذا بأحد جوانبه يفسر للقارئ عدم استخدامي في الدراسات المقارنة في الفصول السابقة المصطلحات المتداولة في القاعات الأيديولوجية لتعابير الزركشة التغريبية المعروفة / كالسامية والعبرية وغيرها/.(1/242)
وباعتبارنا متفقين على أن لا ثقافة خارج التاريخ، وبأن الثقافة هي نفسها نتاج تاريخي، علينا التأكيد على أن التاريخ غير فاعل خارج الكتلة الاجتماعية الموسومة بزمنها الخاص فعندما نقول ثقافة شعب ما أو أمة، فهذا يعني أننا نقصر إحداثيات معرفية محدِّدة لطوبولوجية أو توضّع ذلك الشعب أو الأمة على خارطة الكون، في لحظة تاريخية معينة وفي واقع ديموجغرافي محدد..
فكيف نقرأ اليهودية من خلال تلك المقدمة؟ ولماذا استبعدنا اليهود من الحراك الاناسي التاريخي والجغرافي في منطقة الشرق العربي؟ وهل يتوفر فعلاً ولو سبب واحد من الأسباب الموجبة لتكوين خطاب ثقافي خاص ونوعي يشكل حاملاً معرفياً متميزاً ومميزاً لليهود في احداثيات تاريخية بيَّنة؟
وقبل الإجابة، لابد من التأكيد على أن المنهج العلمي في المقاربة يقتضي ربط الأحداث التاريخية وسياقاتها بإحداثياتها الزمنية والجغرافية، وربطهاضمن تسلسل منطقي بسيط، يستطيع أيّ متلقٍ استنتاج واستقراء القرائن الموضوعية بإحداثياتها المحكمة..
يُضاف إلى ماسبق التساؤل المشروع حول الموطن الأساسي للقبائل " العبرانية"، بعد أن أصبحت النظرية السامية- الحامية - اليافثية على طاولة تشريح المومياوات، وحول المصدر الاناسي المعرفي لليهودية، وكيفية امتلاكها لبنية مثيولوجية سابقة عليها، ولكل مكِّون من مكوناتها ومثبتة في مثيولوجيات الحضارات التي سبقتها أو التي سبقت تدوين أسفار العهد القديم.
فبالنسبة للموطن الأصلي " لليهود" تاريخياً، أي للجماعة " العبرانية" يمكن أن ندرسه عبر مناحٍ متعددة، ترتبط بالقراءات التاريخية المعرفية، أي من خلال وضع التسلسل المعرفي للأحداث التاريخية عبر سياقاتها المتعددة، وإحداثياتها اللازمة، ومن خلال الاعتماد على الإحداثيات الجغرافية وارتسامها في المنظومة الفكرية، وما يعنيه ذلك من تأطير ملامح لخطاب خاص يرسم خطاه بنفسه.(1/243)
فلم تكوِّن الشراذم القبلية التي انحدر منها اليهود، والمنحدرة أصلاً من خارج المنطقة العربية، بنيةً متميزةً بالمفهوم الديموغرافي أو الأناسي التطوري، أو المعرفي، وبالتالي، لم تتحقق الشروط اللازمة لإنتاج خطاب مثيولوجي خاص، يميز بنيةً أناسية لازمة، أخذاً بالاعتبار أن المراحل السابقة لتسلل اليهود إلى المنطقة العربية كانت تتصف بتطور تقني وحضاري وثقافي مميز للمنطقة الممتدة من الخليج العربي شرقاً وحتى الصحراء العربية الكبرى غرباً والمحيط الأطلسي في أقصاها، والتي تشمل بتمركز خاص بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ووادي ودلتا النيل وشبه الجزيرة العربية وسواحلها كلها.. الخ فمع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد وحتى الزمن المُفترض لهجرة إبراهيم النبي - عام 1850 ق.م - شمخت المنطقة على أعمدة حضارات جليلة: السومريون والبابليون والآشوريون وحضارة عبلة (إيبلا) والكنعانيون والفينيقيون وحضارة الفراعنة على امتداد مجرى ودلتا النيل، فلذلك لم يشعر ذلك اللفيف من الشراذم عندما تسلل كقطعان رعوية إلى المنطقة العربية باغتراب أناسي شامل فقط، بل وباغتراب حضاري وثقافي وتقني أيضاً، والمتابع الدقيق لرحلة أسفار العهد القديم وتفسيراته المتعددة، وحتى الاستشراقية أو الصهيونية منها، يدرك الفارق الحضاري المتعدد الوجوه الذي كان يفصل تلك الشراذم الرعوية عن المحيط الدائري الذي تواجدت فيه والممتد من جزيرة الديلم (البحرين حالياً) باتجاه عربستان والرافدين شرقاً، ومن ثم الاتجاه غرباً نحو الساحل الشامي فالانتقال إلى دلتا ومجرى النيل..(1/244)
* في سفر التكوين (11-19) ومات هاران قبل أتارح أبيه في أرض ميلاده في أور الكلدانيين" وفي نفس السفر في الأصحاح(11-32)" فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان " يتضح حسب ذلك بأنَّ الميلاد والهجرة تما في / ومن أور الكلدانيين، ومن المعروف بالوثائق التي لا تقبل الجدل لدى أحد، أن الكلدانيين، باشروا ببناء دولتهم عام 830 ق.م، في حين كانت هجرة النبي إبراهيم المزعومة بين عام 1900- 1850 ق.م، فالفارق الزمني إذن بين تاريخ الهجرة الإبراهيمية وظهور المدينة الكلدانية يتعدى الألف عام .( مع العلم أن جميع الباحثين متفقٌ على أن كتابة وتدوين أسفار العهد القديم تمت بين القرن السادس- الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الأول بعده)..
* في سفر التكوين (11-21) فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، و" حاران" منطقة تقع شمال الحدود العربية السورية الحالية مع تركيا على ضفاف نهر البليخ، شمال بلدة تل أبيض الحدودية السورية، وعلى خط عرض 37 أيضاً، وافترضنا شرطاً صحة ما ورد في سفر التكوين، فلماذا الاتجاه شمالاً من أور حيث خط عرض 31 إلى حاران حيث خط العرض 37، ومن ثمَّ العودة والاتجاه جنوباً نحو أرض كنعان إلى نفس خط العرض الذي انطلق منه 31.. في حين كان بإمكان الرحلة الإتجاه غرباً مباشرةً واختصار تضاعف المسافة إلى أكثر من خمس مرات؟ فالنص هنا صريح جداً، لا يحمل أكثر من تأويل واحد: وهو الخروج من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان، إلاَّ إذا كان هناك خلط متعمد بين أور الكلدانيين و" أور " أخرى تقع إلى الشمال من " حاران" فكان لابد من الرحلة أثناء مرورها جنوباً أن تمر من " حاران"..(1/245)
* في سفر التكوين ( 2،8،10، 14) وغرس يهوه جنةً في عدن شرقاً، ووضع هناك آدم الذي جبله.. وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس، اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة، حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيجون، وهو المحيط بجميع أرض كوش اسم النهر الثالث حداقل (دجلة)وهو الجاري شرق آشور والنهر الرابع الفرات..".
ويعلق ليوتاكسيل في كتابه " التوراة - كتاب مقدس، أم جمع من الأساطير؟ فيقول رأيه بالآيات السابقة "، بهذه التفاصيل، أراد المؤلف رسم حدود المكان الذي تقع فيه الجنة الأرضية رسماً دقيقاً، ولكن حبذا، لو لم يقل شيئاً بهذا الصدد قط، لأنه من الصعب أن تجد من يضع نفسه في موقع أكثر غباءً من هذا الموقع..
فالباحثون يعترفون كلهم بأن نهر فيشون هو نهر فاز، الذي دُعي فيما بعد باسم أراكس، ويقع هذا النهر في أرمينيا وهو ينبع من منطقة هي أكثر مناطق القفقاس وعورة، وإذا افترضنا جدلاً، أن تلك المنطقة تحتوي على الذهب وحجر الجزع فإن أحداً لا يعرف ماهو المقل(11).
وهنا لا تهمنا طبيعة الجنة إن كانت وعرة أو حدائق غناء، بمقدار ما يهمنا موقعها الجغرافي، والمحدد في منطقة أرمينيا، وربما لا يدع مجالاً للشك، فكيف يمكن لذلك النص أن يرسم تلك الجغرافية بهذه الدّقة ويسمي تفاصيلها لو لم يكن هناك ارتباط موطني أصلي تاريخي، وكيف لكاتب النص أن يترك بلاد الرافدين والساحل الشامي وبلاد النيل وساحل الخليج العربي، والساحل العربي الإفريقي الشرقي والشمالي، بكل ما تحمله تلك المناطق من جمال وغنى طبيعة خلابة.. ويعين جنته في تلك المنطقة الوعرة الخربة الجبلية لو لم يكن هناك رابط موطني جذري بها؟؟(1/246)
يضاف إلى ذلك أن المدقق بالخارطة المرفقة بكتاب الاستاذ أنطون موتكارت " تاريخ الشرق القديم" يلاحظ أن بلاد أرمينيا الحالية كان اسمها بلاد أور - أرتو، ومن هنا أتت التسمية اللاحقة لتلك المنطقة " أرارات" يضاف أيضاً أن أرفكشاد، ابن سام، ووالد شالح - كما هو نسبه في التوراة نفسها يتقاطع بالاسم مع منطقة أرفكشاد المحيطة ببحيرة فان في أرمينيا التي تنبع منها الأنهار الأربعة الواردة في التوراة، وحيث خصص كاتب الكتاب المقدس جنته هناك.
شمال بلاد الرافدين وجنوب القوقاز الأرميني" ومن جهة أخرى لا يمكن أن يكون ثمة خطأ بصدد نهري دجلة والفرات، وبناءً على ذلك يتضح أن التوراة تحدد موقع الجنة الأرضية في مكان ما، يقع بين أرمينيا وبلاد الرافدين، ومع أن منابع أراكس ودجلة والفرات ليست بعيدة إلاَّ أن لكل منها منبعه المستقل، فأراكس وهو أكبر روافد نهر كورا، ينبع من بينغيل - داغ في (تركيا) ويسير حتى بحر قزوين، أما دجلة والفرات فالأمر لايقتصر على أن لكل منهما منبعه المستقل، بل إنهما يلتقيان معاً قبل أن يصبا في الخليج العربي. أما فيما يتصل بالنهر الذي يدعوه سفر التكوين جيجون فإن خطأ المؤلف " المقدس " والكلام ل " ليوتاكسيل" يعبر خيالياً، فحسب السفر المذكور إن هذا النهر يحيط بجميع أرض كوش ( حوش) ولكن أرض حوش ( وهو ابن حام ووالد نمرود ) هي حسب التوراة اثيوبيا بعينها. أي أن نهر جيجون هو النيل، الذي من المعروف أنه يجري في افريقيا وفي اتجاه معاكس للاتجاه الذي يجري فيه دجلة والفرات، أي من الجنوب إلى الشمال، وإذا أخذنا نقطة انبثاقه في إفريقيا الاستوائية من منطقة بحيرة فكتوريا، فإن المسافة التي تفصل هذه المنطقة عن المنطقة، التي تقع فيها منابع الأنهار الثلاثة الأولى، هي ثلاثة آلاف كيلو متر، أما سفر التكوين، فيعلن أن الأنهار الأربعة تروي بستاناً واحداً هو، جنة عدن..(1/247)
والحقيقة أن المسافة بين منبعي دجلة والفرات ليست أكثر من مائة كيلو متر، ومع ذلك فإنها مسافة كبيرة لري بستان واحد، ولكن ماهو هذا البستان المترامي الأطرف، الذي يحتوي على جبال ومنحدرات عظيمة تقع في أكثر بقاع الأرض وعورة(12)، بوصفها الموطن الأصلي للرعاة العبرانيين وذلك على سبيل الحقيقة والواقع لا على سبيل الكناية أو المجاز.
وفي مواقع أخرى يدور الحديث عن أور - أرتو " آرارات لاحقاً" في أسفار العهد القديم، لاكأنها، بل باعتبارها فعلاً الموطن الأصلي للرعاة " العبرانيين"، فبعد أن يتأكد من التوضع الجغرافي أرارات إلى الشمال من جنة العهد القديم والتي تحددها من الشرق أرفكشاد، يسمي المنطقة الواقعة بين نهري فيشون وميجون، أشكيناز، والتي يرد ذكرها بموقع العطف مع آرارات في الكتاب المقدس في سفر إرميا -27: " انصبوا الراية في الأرض وانفخوا في البوق في الأمم قدسوا عليها الأمم ونادوا عليها ممالك آرارات ومنى واشكيناز"..وفي موقع آخر وفيما هو ساجد في بيت نصروك إلهه قتله وابناه بالسيف وهرباً إلى أرض آرارات / شعيا: ( 37-38)
ومن ناحية أخرى".. يلاحظ المتتبع لدراسة وبائيات الأمراض وانتشارها خصوصاً ما يتعلق منها، بالعوامل الوراثية، أن كلَّ الأمراض ذات الصلة بالوراثة القوقازية تجمع بداخلها اليهود... فغالباً ما نقرأ : " يصيب هذا المرض (كذا) شعوب القوقاز واليهود..".(1/248)
وهذا يعني امتلاك نفس البنية الوراثية وما يعنيه ذلك من امتلاك نفس الأصل الأثني بمعناه الأناسي (الانتروبولوجي) الحرفي المباشر، وبهذا الأسلوب بالذات يحددون الانتماءات العرقية الأصلية للأفارقة الأوروبيين، فمن المعروف أنه ونتيجة لانتشار الملاريا في قطاع خط الاستواء، حدثت بنية وراثية خاصة دفاعية تميزت بنقص مايسمى G.6-Pd وهي المسؤولةعن عمليتي الأكسدة والارجاع في كريات الدم الحمراء، وهي تظهر فيما نسميه نحن الفوَّال Favizm فكيف بنا ونحن نرى بأن الوبائيات الوراثية الامراضية تجمع شعوب القوقاز دائماً مع اليهود، ألا يعني ذلك بأن اليهود أصلاً منحدرين أثنولوجياً من شمال الهضبة التركية أي من أرمينيا؟ أولا تؤكد ذلك أيضاً الدراسات المورفولوجية والتي تقرأ التقاطع والتطابق والتشابه بين شعوب القوقاز واليهود..؟
ألا يدعم ذلك ما قرأناه أعلاه حول التأصيل التاريخي الجغرافي والجغرافي التاريخي لليهود..؟
أمَّا عن الأسباب التي دفعت هؤلاء الرعاة إلى الهجرة إلى منطقة الشرق العربي، فهي متعددة في قسْمها المدروس والمحتمل، ومجهولة في قسمها الآخر، لكن من المؤكد أنهم لم يحملوا معهم بناءً أناسياً معرفياً وثقافياً خاصاً، حتى وإن حملوا معهم بعضاً من ذلك فقد كان بدائياً متخلفاً جداً بالنسبة للبنية الحضارية العربية المحيطة بهم أثناء هجراتهم وحركاتهم، ومع الاحتكاك التالي والذي استمرعشرات السنين سطت تلك الشراذم الرعوية على مقتطفات من أساطير المنطقة وعلى مثيولوجيات كاملة، وحتى على اللغة( كما أثبتنا ذلك في بداية هذا الفصل)، وجمعتها وشكلت منها لاحقاً- مع تدوين اسفار العهد القديم بناءً مثيولوجياً، بقي مفتقداً للحاضنة الثقافية، لأن العبرانيين لم يستطيعوا الاستمرار لفترات تاريخية معينة ككتلة اجتماعية في صيرورة تاريخية قادرين على إنتاج ماهو خاص بهم ومميَّز لهم..(1/249)
من ناتج عملية السطو تلك، كتبت أسفار العهد القديم، في نفس الوقت الذي بقيت فيه البنى الأصلية التي سُرقت منها تلك الأسفار، وبنصوصها التاريخية، مخزَّنة تحت أمتار من التراب في أور وبابل وعبلة " ايبلا" وأوغاريت وآشور... وعلى امتداد نهر النيل، يتناقلها الناس شفاهاً كاملةً أو في بعض مقاطع منها، حتى أتت المكتشفات الأثرية في القرنين التاسع عشر والعشرين، لتظهر بالأدلة والبراهين أكبر عملية سطو وسرقة وتلفيق على مدى تاريخ الإنسانية كله، وبالتالي لم يكن بوسع تلك المسروقات في مثيولوجية اليهود من خلق أو تكوين حامل - خطاب ثقافي معين ذي ملامح خاصة مميزة، ساعد على ذلك أن معظم الممالك والدويلات اليهودية المزعومة قامت في الوهم، والمتخيل، ولم تقم على أرض الواقع موضوعياً - وإن فعلت ذلك كانت لفترات زمنية قصيرة غير قادرة من خلالها على تراكم بنيوي ينتج خطاباً ثقافياً خاصاً، يضاف إلى ذلك أن الصقل اللاحق لتلك المسروقات في الثيولوجية اليهودية، واعتناقها من قبل أناس آخرين، أبقت الخطاب الثقافي لهؤلاء الناس مرتبطاً بالبناء الأناسي القومي الذي ينتسبون له، فالعربي اليهودي لم يتخلَّ عن خطابه وانتمائه الثقافي تحت تأثير ثيولوجيا هي في الأساس مسروقة من بنائه الأناسي المعرفي، فلذلك تابع تطوره الثقافي ضمن الصفة أو الحاضنة القومية التي ينتسب إليها، واليهود العرب بقوا مزروعين في النسيج الاجتماعي العربي على مدى التاريخ كمكوِّنات في البنية الاجتماعية العربية (مثال الأندلس).(1/250)
نضيف إلى ذلك أن المرحلة التالية لتكون الثيولوجيا اليهودية لم ترافق بالاستقرار الاجتماعي كأرضية تحتية لتشكيل الثقافي التالي المنتج (بفتح التاء) فإذا افترضنا أن الحياة المعاشة بطبيعتها البدوية وعدم الاستقرار لم تترك أثراً واضحاً وبيناً كشاهد عليها، إلاَّ أن الاستقرار وقيام الكيان السياسي والتدوين أي لو بدأنا مع المملكة التي أقامها ( شاوول وداوود وسليمان) رغم عدم ثبوت التدوين آنذاك (100 ق.م) لما وجدنا لأي من تلك الأسماء المفخمة قدسياً وسياسياً وعسكرياً أي ذكرٍ في أي من دول المنطقة بكاملها وبدون استثناء، ذلك رغم ما قيل عن عظمة تلك المملكة واتساعها وجبروتها، وعظم شأنها ومنشآتها مع ما زعم عن الهيكل والقصور والجيش العرمرم، مهما دققت النظر وأعييت الذهن، فلن تجد أي إشارة لا لمملكة عظيمة ولا لمملكة وضيعة، ولا حتى في حفائر الدول الحالية، ولا أثر معماري واحد يتيم كشاهدة وحيدة على تلك المنشآت التي صدعت بهاأسفار الكتاب المقدس رؤوسنا... فالمملكة التي تبجّح الكتاب المقدس بعظمتها لاشيء عنها البتة، لا في أثر على الأرض، ولا في باطن الأرض، ولا حتى على الورق، إلاَّ اللهم ورق الكتاب المقدس وحده..".(13).(1/251)
إن ذلك يعني فقدان ( أو عدم توفر) الشروط اللازمة للتكوين الثقافي اليهودي خارج الإطار الاجتماعي العام للبنية الثقافية العروبية الشاملة، ولذلك بقي الحامل " الثقافي" غائباً، أو متطابقاً مع الخطاب الثيولوجي المسروق من آداب ومثيولوجيات المنطقة العربية، حتى بن غوريون نفسه يقول عن الآية (15: 18) من سفر التكوين والتي تقول : / لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات/، لا يهم إن كانت هذه القصة تسجيلاً حقيقياً لحادثة تاريخية أم لا، المهم هو أن هذه الفكرة مغروسة في الوجدان اليهودي، لذلك، يجب أن تبقى سارية المفعول حتى بعد أن يثبت أن الوعد المقطوع هو مجرد أسطورة شعبية، ليس لها أي مصدر إلهي ..؟(14).
أما روجية غارودي فيقول : " إن اليهودية تطالب بفلسطين باسم ذلك التصور حيث تمنح الآلهة الاراضي للقبائل التي تعبدها، وهذه ظاهرة عامة في كل الشرق " الأوسط" من مصر إلى بلاد الرافدين:
- فوق مسلّة تحوتمس الثالث، يُرى الإله يمنح الأرض لفرعون.
- في بلاد الرافدين، يحدد الإله مردوك لكل شعب نصيبه من الأرض، حسب قصيدة الخلق البابلية كما ورد في الآية 46
- بين القطبين يشكر الحثيون الإلهة أرينا لأنها " رسمت حدود البلد" ولم لم يكن العبرانيون قد تلقوا هذا الوعد، لكان ذلك استثناءً (15)، ولما استطاعوا إتمام منظومة السرقة والسطو حتى الوعد نفسه يرد في مواقع متعددة من الأسفار بصيغ ثلاث بتحديدها الجغرافي : فمرّةً يحدد بين النيل والفرات، ومرّة بأرض كنعان، ومرةً أخرى بالأرض التي ترى، ومن المعروف أن حدود البصر المحسوبة في قطر دائرة الناظر وعلى مساحة أفقية تماماً - كسطح البحر مثلاً- محدد بمايعادل ستة أميال فقط..(1/252)
إذن لم يكن ذلك الوعد، حتى بتناقضاته العديدة إلاَّ نمطاً مثيولوجياً سائداً في منطقة الشرق العربي، يرتبط بالبنية الأناسية المعرفية عبر منظومتها التكوينية، كان لابدَّ للعبرانيين = اليهود " ومن خلال تبنّيهم للمنظومة العروبية بعد سرقتها من امتلاك وعد ما، كما هو سائد ومعروف، من خلال علاقة الإله بالرعية بتطور إحداثياتها عبر الزمان والمكان العروبيين.
وهذا ما يقودنا إلى اكتشاف التطابق بين أساطير الخلق والتكوين والطوفان كما وردت في الأسفار السومرية والبابلية والكنعانية والمصرية والعبلاوية، وكما سرقتها الأسفار التوراتية التي كتبت بعدها بزمن طويل " إن جميع سفر التكوين التوراتي، ذلك السديم البدائي مع روح الإله المرفرف على الظلمات الرطبة، وافتراق المياه التي في الأسفل عن المياه التي في الأعلى، إن ذلك قد سبق خلق العالم مع وجود الحيوانات التي سبقت ظهور الإنسان، والطوفان والسفينة وبرج بابل واختلاط اللغات... الخ هذه الأمور كلها قصص نجدها متماثلة بصورة مطلقة مع أقدم النصوص المسمارية، إن الاسم الذي أعطاه اليهود للإله كاسم اللَّه الذي يتضرع به المسلمون هما اسمان بابليان بجذرهما آل، أو إيل الذي يعني بالكلدانية الكائن الأسمى.."(16).(1/253)
ويضاف إلى ذلك التطابق في سفر التنين السومري والبابلي والتوراتي، وفي الجنة السومرية والبابلية والتوراتية.. حتى الوهم المزروع في الأذهان بأن اليهودية ديانة توحيدية( ويختلف هذا من سفر إلى آخر) يؤكد بأن التوراة سرقت ما يشير إلى التوحيد من الديانةالأخناتونية (الأثونية) حتى أن القارئ البسيط يدرك التطابق شبه الكامل في النص وقرائنه بين المزمور 104 وصلاة أخناتون، وقد أورد تلك المقارنة الباحث العربي فراس سواح، في كتابه " مغامرة العقل الأولى " وحتى فرويد يذكر في كتابه "موسى والتوحيد" بأن اليهود لم يحضروا معهم إلى سورية الجنوبية ثقافةً خاصة بهم ( وهذا ما يُدعم بجملة الاكتشافات الأركيولوجية المعاصرة كما أسلفناه أعلاه) فقد عاشوا في مصر عيشة العبيد الأذلاء، وفروا منها استجابة لدعوة رجل فولاذي هو موسى..
وقد تضاربت الآراء حول هذه الشخصية الفذة، ولعل أكثر الآراء إثارة النظرية القائلة انّ موسى مصريٌّ الأصل، وليس عبرانياً، وأنه قائد عسكري من أتباع ديانة أتون، وهي أول ديانة توحيدية أسسّها الفرعون أخناتون، ولمَّا هلك أخناتون، ودمّر كهنة الديانات التقليدية كل ما بناه تفرّق أتباعه وأهلّه، إلاّ أن موسى التابع المخلص لأخناتون أخذ على عاتقه متابعة الرسالة، فقام باختيار اليهود تلك الفئة الغريبة للتبشير بينهم، ولعل هذا الاختيار الذي قام به موسى هو الذي أعطى فكرة اختيار الإله يهوه لشعبه في التوراة(17).(1/254)
ومثله أيضاً ما حدث حول مكتشفات عبلة(إيبلا) التي تؤكد أن البناء الأناسي المعرفي العروبي كان يتصاعد بحلزونه التطوري نحو التوحيد، ارتقاءً بالفكر والتخيل والعمل للارتقاء بالأرض عالياً، وبالانسان بشكل خاص عندما اكتشف انساننا العروبي، بأنه غير قادر على سحب السماء إليه، فلا بدَّ أن يرتقي بنفسه إلى الأعلى إذن " فورود أسماء إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل في المكتشفات العبلاوية يؤكد أن الوحدانية قديمة جداً وسابقة لتاريخ إبراهيم الخليل في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وأن ايل هو الرب الواحد الأحد الذي عبد منذ البداية، والدليل على ذلك اسم اسمع ايل( اسماعيل) واسرائيل (عبد الله)، وهذان الاسمان وخلافاً لما ورد في التوراة (سفر الخروج) لم يظهرا في القرن 18 ق.م بل هما معروفان منذ ما قبل القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد كما تؤكد ألواح ايبلا (18) فنحن نعلم أن :
ابراهام: تعني والد أمم كثيرة..
ابرام : تعني الجد الكبير..
اسم ايل: تعني اسمع ( أيها الإله) ايل
واسرائيل : تعني أسير (عبد) الإله ايل
ميكائيل : تعني من هو مثل الـ (19)(1/255)
وما كان ترداد تلك الأسماء في التورات إلاَّ إثباتاً أكيداً لعملية السطو التي تمت على آداب المنطقة العروبية، والقراءات المعرفية التفكيكية المقارنة تثبت ذلك ليس من ناحية السرد التاريخي فقط، بل ومن ناحية المحتوى الأناسي أيضاً ففي " منابع سفر التكوين- قصة الخلق-(20)- يوضح الدكتور الباحث سيد القميني آلية السرقة التي تمت على ميتولوجيات المنطقة العربية من قبل كتّاب (مؤلفي) التوراة كما يُثبت في كتابه "اسرائيل" التوراة.. التاريخ التضليل "(21) بأن مما بات معلوماً اليوم أن نسبة الأسفار الخمسة الأولى ( التوراة) إلى النبي موسى أمر مشكوكٌ فيه تماماً، وغير علمي، بل أصبح من العلمية القطع بتأليفه على يد عدد من الكتاب الذين اختلفت مشاربهم وأمزجتهم وثقافتهم ومواقعهم الاجتماعية وتوجهاتهم العقائدية، وهو الأمر الذي فرض نفسه في النهاية على المؤسسات الدينية ذاتها، حتى أنك تجد في مقدمة الطبعة الكاثوليكيه للكتاب المقدس، الصادرة في عام 1960 مانصه:
" مامن عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة، منذ قصة الخليقة أو أنّه اشرف حتى على وضع النص، لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده، لذلك يجب القبول أن ازدياداً تدريجياً قد حدث، وسببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية..".
وقد كان السبب في إطلاق اصطلاح (أسفار موسى الخمسة) على التوراة، هو افتراض ايماني ينسب تأليفها إلى النبي موسى، حتى صار ذلك الافتراض عقيدة يهودية .. إلا أن التوراة نفسها تقدم لمن يبحثها شواهد تقطع بأن تلك النسبة إلى موسى باطلة تماماً، ومن تلك الشواهد على سبيل المثال (22):(1/256)
هناك عبارات تتعلق بموسى في التوراة، ويستحيل أن تصدر عنه وذلك مثل الآية التي تقول:" وأما الرجل موسى فكان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض / عدد12 :3/ فهنا واضح تماماً أن الكاتب شخص آخر يتحدث عن موسى -، ويذهب إلى تأكيد حلم( الرجل موسى) كما لوكانت محاولة للتنصل من أحداث في سيرة ذلك النبي التوراتية تنفي عنه صفة الحلم بالمرة... هذا ناهيك عن الخبر الخاص بوفاة موسى والذي يقول : فمات هناك موسى عبد الله في أرض موآب حسب قول الله، ودفنه في الجوار في أرض موآب- تثنية 34:5/ " وبالطبع يستحيل أن يكتب موسى عن نفسه أنه قد مات، بل ويحدد موضع دفنه.(23).
- إنك تجد في التوراة أسماء لمواضع جغرافية يستحيل أن يكون لدى موسى علم بها لأنها في عمق أرض فلسطين وموسى مات ولم تطأ قدمه أرض فلسطين إضافة إلى أن أكثر الأسماء لم تكن قد سميت زمن موسى(24).
وهناك الكثير من التناقضات السياقية التاريخية والجغرافية، التي يمكن ملاحظتها بسهولة والتي تدحض البنية التاريخية " السليمة" الصحيحة حتى للمقومات الثيولوجية المسروقة والتي حاولوا إضفاء صفة الاستقلالية عليها، عبثاً وإيهاماً وتزويراً، شمل الجغرافية والتاريخ والأسماء والأماكن والآلهة، فبعد أن بينا آلية التزوير في ا نتماء " أور" الجغرافي والتاريخي ونقلها من " أور " القوقازية إلى " أور " الكلدانية:" بحيث تم نقلها جغرافياً لأكثر من ألفي كيلومتر، وتاريخياً لأكثر من ألف عام، تماماً كما زوّروا تاريخ يوسف الذي اقتطع لأهله أ رض رعمسيس كما أمر فرعون، علماً أن الرعامسة ظهروا بعد خمسة قرون من تاريخ يوسف(25).(1/257)
وحتى أسطورة السقوط في الخطيئة الأولى ( الأصلية) كما وردت في سفر التكوين، مأخوذة حرفياً من اللوحة السومرية - البابلية المعروفة، فالقارئ للاصحاح الثالث من سفر التكوين، كأنه يفكك رمز تلك اللوحة حركةً حركةً، وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الربُّ الإله، فقالت المرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من كلِّ شجر الجنة، فقالت المرأة للحية من ثمرشجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسَّاه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأن الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر (26)
ويؤكد كيوتاكسيل على أن اليهود لم يسرقوا فقط الميثولوجيات والأسفار والآداب واللغة، بل قاموا أيضاً بمنظومة سطو فرعية يمكن إيراد بعض الأمثلة منها:
- يعود أصل الأسطورة التوراتية عن تحويل الماء إلى دم كما وردت في سفر الخروج (7،17) " ها أنا أضرب بالعصا التي في يدي على الماء الذي في النهر فيتحول دماً، ويموت السمك الذي في النهر، وينتن النهر، فيعاف المصريون أن يشربوا ماءً من النهر إلى الأسطورة السومرية " أنانا وشو كالليتودا" حيث يجري الحديث عن الآلهة التي أرادت أن تنتقم من الإنسان الذي أذلها، فحولت مياه البلاد كلها إلى دماء(27).
- يشوع بن نون- شخصية مثيولوجية يرى بعض دارسي التوراة أنها تجسيد إله النبات عند الكنعانيين الشماليين، وتجدر الإشارة والإضافة من طرفنا إلى أن يشوع، يشوع، يسع، يسوع يثع، عيسى، سين، هي أسماء عربية متعددة وقديمة للإله القمر في المنطقة العربية(28).(1/258)
كروبيم العبريين مسروقة عن ثيران آشور المجنحة فترسم المثيولوجيا اليهودية في صورة كائن له أربعة وجوه، وأربعة أجنحة تحتها أربع أيد بشرية، وأربع عجلات، ويمثل الكروييم التعقل والطاعة والقوة والسرعة، وقد جاء في التوراة أن يهوه يمتطي الكيروبيم ( ملوك 4،4 مزمور 79، 2، 2) وأن الكيروبيمات تحرس الجنة ( تكوين : 3/24) وتحمل مركبات يهوه في الغيوم (حزقيال : 1،10) والاسم إما مأخوذ من كلمة كيروب = كاراب الآرامية التي معناها " يحرث " أو أنها مشتقة من الكلمة الآشورية " كاروبي "ومعناها " المبارك"..
حتى أن هناك كاتباً آخر، يعتبر متحيزاً لليهود (اينارلسنر) يؤكد تلك المعطيات في كتابه " الماضي الحي" ترجمة شاكر ابراهيم سعيد - اصدار الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1981، يؤكد تلك المعطيات ويضيف إليها في ص 142:
- أن قصة الطوفان مأخوذة بالكامل من الطوفان البابلي..
- وأن بعل إله الفينقيين ينتقل بعد أن سطا عليه اليهود ليصبح أشبعل ومربعل ..
-ويسرق " إيل" الإله الكنعاني بعد صراعه مع يعقوب ليتحول هذا الأخير إلى إسرائيل .. أما جيمس هنري برستد في كتابه فجر الضمير، ترجمة سليم حسن مكتبة مصر فيقول في ص 372: " إن الكنعانيين الذين كانوا يسكنون هذه البلاد قبل العبرانيين، كانوا قد اجتازوا مرحلة النمو المتحضر لمرحلة زمنية تبلغ أكثر من ألف سنة قبل أن يغزو العبرانيون البلاد، وقد عرفنا من النقوش التاريخية البابلية القديمة وكذلك من الحفائر الاثارية شيئاً كثيراً عن المدن الفلسطينية الكنعانية..
ويتابع برستد سلسلة السطو على مثيولوجيات وأساطير وآداب المنطقة العربية وتبنيها من قبل التوراة فيقول:(1/259)
" نصائح إلى مري كارع في المثيولوجيا المصرية هي نفسها سفر صموئيل وسفر الأمثال، كما أن مفهوم العدالة الفرعوني هو المبثوث في سفر ملاخي " ويضرب مثالاً من السفر المذكور قوله " إليكم يامن تخافون اسمي، تشرق شمس العدالة بالشفاء في أجنحتها، ويعقب الباحث بأن العدالة بالمفهوم المصري مثلتها الالهة (ماعت) بنت رع الشمس، وأن شمس العدالة وصفتها التوراة بأن لها أجنحة، ولم يوجد في أي تصور عبري صورة لإلههم يهوه تمثله بأجنحة.
ثم يؤكد برستد أن اليهود كانوا على علم - لا شك - بأنشودة أخناتون العظيمة لإله الشمس بعد أن قارنها بسفر المزامير وكذلك كانوا على علم بحكم الحكيم المصري (آمن موبي) بعد أن عقد بينها وبين أسفار إرميا والمزامير والأمثال مقابلة نصية كادت تكون حرفية، استغرقت حوالي خمس وثلاثين صفحة..
" سيصبح الأمر مبتذلاً أن نذكر بالتفصيل آلاف التشبيهات ( السرقات ) القريبة الواضحة بين الديانات الفلسطينية والموضوعات الأساسية لليهودية المستعارة بوضوح من الموضوعات العربية "(30) ولمزيد من التفصيل الدقيق يمكن العودة إلى " الميتولوجيا الكنعانية والاغتصاب التوراتي " (31) الذي يورد بالتفصيل نسيج السطو الذي ارتكب بحق الميتولوجيا العروبية سابقاً والعربية لاحقاً..
كل ذلك يدفع بالضرورة العلمية الحيادية إلى استثناء كل مايتعلق باليهودية وبالعبرية من المنظومة الأناسية المعرفية العربية بزواياها المتعددة الجغرافية التاريخية والتاريخ الجغرافي، واللغة ولهجتها والحراك الجولاني، والذاكرة الجمعية والمخيال الاجتماعي .. الخ وخصوصاً أننا أسّسنا علمياً لنسف النظرية الأيديولوجية التزييفية بالتقسيم السامي والحامي واليافثي وغيره، فكان لزاماً على الدارس الحيادي اللا متحيز، أن يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه مظهراً الوحدة الأناسية المعرفية للوجود العربي في عمق ما قبل التاريخ مروراً بالعصور التاريخية وصولاً إلى اللحظة القائمة الآن..(1/260)
وإذا كنا قد وقفنا مع المراحل الأولى للعصر العربي الثاني فكان ذلك ضرورياً لدراسة البنية العربية المثيولوجية الواحدة وتأسيسها المعرفي المتعدد الجوانب وهذا ما سنقف عنده طويلاً في أجزائنا اللاحقة..
(
هوامش الفصل الخامس
(1) بييرروسي - مدينة إيزيس - التاريخ الحقيقي للعرب ترجمة فريد جحا - وزارة التعليم العالي في ج.ع. س ط1 1980ص12.
(2) بيروسي - المصدر السابق ص48
(3) بيروسي - المصدر السابق ص 18
(4) بيروسي - المصدر السابق ص 38-39
(5) بيروسي - المصدر السابق ص 19.
(6) بييروسي ص 23
(7) أحمد عثمان - الأنباط العرب يستخدمون الآرامية لكتابة لغتهم - جريدة الحياة العدد 11817 30 حزيران 1995
(8) أحمد عثمان - المصدر السابق
(9) أحمد عثمان - المصدر السابق
(10) لمزيد من التفاصيل الدقيقة والمقارنات بين العربية ولهجتها الآرامية يرجى العودة إلى كتاب الشيخ نسيب وهيبة الخازن من الساميين إلى العرب..- منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت لبنان إصدار 1962، من الصفحة 77 وحتى الصفحة 147.
(11) ليوتاكسيل - التوراة - كتاب مقدس أم جمع من الأساطير - ترجمة د. حسان ميخائيل اسحق.- بدون دار نشر ط1 1994 ص 13
(12) ليوتاكسيل - المصدر السابق ص 13-14.
(13) د. سيد محمود القمني - الأسطورة والتراث، دار سينا، ج,م.ع في مواقع عديدة ط1993
(14) د. عبد الوهاب المسيري - الأيديولوجيا الصهيونية - سلسلة عالم المعرفة، الكويت ص118
(15) روجيه غارودي - الأصوليات المعاصرة - دار ألفين، فرنسا، باريس ص 70.
(16) بييروسي - المصدر السابق ص 86 - نقلاً عن الحضارت الأولى، منشورات فلاماريون إصدار عام 1889 ص555.
(17) فراس سواح - مغامرة العقل الأولى - ص 121
(18) د. عفيف بهنسي - وثائق ايبلا - دمشق 1984 ص 90- 91
(19) د. عفيف بهنسي - وثائق إيبلا - دمشق 1984 ص 147
(20) سيد القمني - قصة الخلق - منابع سفر التكوين - دار كنعان ط1 1994
((1/261)
21) اسرائيل - التوراة - التاريخ - التضليل - دار كنعان ط1 1994 ص 19
(33) سيد القمني - المصدر السابق ص 20
(24) سيد القمني - المصدر السابق ص 20
(24) سيد القمني - المصدر السابق ص 20
(25) عفيف بهنسي - وثائق ايبلا - دمشق 1984 ص 114
(26) سفر التكوين - الاصحاح الثالث (1-6)
(27) ليوتاكسيل - التوراة كتاب مقدس - أم جمع من الأساطير - ترجمة د. حسان ميخائيل اسحاق ص 534
(28) يرجى العودة بهذا الخصوص إلى مؤلف الدكتور سيد القمني : النبي ابراهيم والتاريخ المجهول.
(29) ليوتاكسيل - المصدر السابق ص 528
(30) بييروسي - المصدر السابق ص 86
(31) الميثولوجيا الكنعانية والاغتصاب التوراتي - حسن الباش، دار الجليل دمشق، ط1 1988
(((
ملحق بالأبجديات المقارنة
وببعض المفردات المقارنة بين عدة لهجات
عروبية - عربية وبعض مظاهر الوحدة الفكرية والأناسية، والأدبية بين مواقع الحضارات الجليلة
في الوطن العربي .
الأبجدية الكنعانية - أوغاريت (القرن 14 ق.م)/ بدايات الحضارة، عبد الحكيم الذنون ص34.
البدايات الأولى للكتابة السومرية في العراق / المصدر السابق، ص10/
... ... من الشمال إلى اليمين :
1- الصورة أو المرحلة التصويرية ... 3- الكتابة الهيراتيقية
2- الهيروغليفية الأولى ... ... 4- الكتابة الدوميتيقية
الكتابة الهيروغليفية
/كتاب الحضارات، لبيب عبد الساتر، دار المشرق، بيروت، 1986/
تطور الكتابة في العراق القديم من طور الكتابة الصورية PICTOGRAPHY (3300 - 2800ق.م) إلى طور الكتابة المسمارية CUNEIFORM (2800ق.م - 75م) / بدايات الحضارة، ص11/
من أقدم النقوش العربية المعروفة / الحضارات، ص335/
مقارنة لبعض الأبجديات
المصدر نسيب وهيب الخازن " الساميين إلى العرب" جريدة الحياة . " الأعداد والباحثين في متون النص".
جدول مقارن بالأبجديات
جدول مقارن مأخوذ عن تاريخ العرب لفيليب حتي
/الحضارات - ص93/
جدول لغوي مقارن(1/262)
/عن جريدة "الحياة" - الأعداد والباحث في متون النص/
... كتابات أرامية ... ... ... ... نصّ من قانون حمورابي
/بدايات الحضارة ص87/ ... ... ... ... الحضارات ص49
المادة السادسة من قانون حمورابي
/بدايات الحضارة ص61
وفيما يلي سنعرض لصور من التشابه والتشاكل والمداخلة بين عدد من الألفاظ المصرية القديمة ومثيلاتها في العربية
/مجلة الوحدة - عدة أعداد، وأرقامها وأسماء الباحثين في متون النص/
- أبّ : ترد في المصرية القديمة بمعنى ورق الشجر أو زهره والكلمة عربية، وفي القرآن الكريم ،[ وفاكهة وأبّا ] وقال الشاعر
ترى بها الأب واليقطين مختلطا
على الشريعة يجري تحته الغرب
وقيل الأب للحيوان كالفاكهة للإنسان، وقد وجدت الكلمة هذه ترد أيضاً في اللغة الأوغاريتية، وهي لغة سامية قريبة جداً من العربية، ومعاني الأب في كل من المصرية والعربية والأوغاريتية واحد..
- دجى : اسم الوطواط أو الخفاش أو السحا في المصرية، وهو مأخوذ من الكلمة العربية الدجى بمعنى الظلام، لأن في العربية " داجي" ومؤنثها " داجية " من الدجية أي الظلمة، والوطواط هو طير الدجى..
- بس : اسم معبود مصري قديم يقابله في العربية بّس، وهو بيت كان لغطفان أنشأته للعبادة، نقلت قبائل الأعناء عبادته لمصر (تاج العروس)..
- بَعْنا: اسم البان " نوع من الشجر"، حرف العين ينوب عن الفتحة في الكلمات العربية المنقولة عن المصرية..
- عرّا: الأسد الذي يقال له في العربية عرهم وعارن ومأواه العرين.
- أدس : اسم العدس في المصرية
- ينكون: اسم الينسون، قلبت فيه الكاف سينا،
- بكاء: اسم لنوع من الشجر، يقال له بالعربية بكاء أيضاً.
- صعتا (أو) سَتَرْ : الصعتر..
- زت: زيت.
- طوب : حجر، طوب.
أردب: أردب ( مقياس)..
- السبط : بمعنى ابن الابن وابن البنت يوجد في العربية والمصرية ولغات سامية أخرى، قال أحمد كمال : إن هذه اللفظة وجدت في نصائح " بتاح حتب " على جدران مقبرة " أمست " بمعنى ما جاءت به في العربية .(1/263)
- صهر : بمعنى طبخ واذاب وردت في اللغتين العربية والمصرية القديمة بمعنى واحد..
- البيعة : بمعنى المعبد في العربية، وردت في المصرية في ورق أبوت 1/10/16 أو 1/10/16 المؤشر عليه برقم 10221 في متحف انكلترا، وفسروها بمعنى الجبانة، بيد أن أحمد كمال يرجح أنها بمعنى المعبد كما يدل عليه السياق السابق.
- زبر : وذبر وسفر وكلها واحدة، لفظها في العربية وفي النصوص المصرية، وهذا القلب والابدال في الحروف له أصول متبعة في اللغتين المصرية والعربية، والسبب فيه تعدد القبائل ولهجتها.
- شمشم : سمسم .
- بصل : بصل .
- زلم : " حب العزيز " هوزلم أيضاً في العربية.
- عرو : نوع من الشجر " العرعر" .
- فوم : فوم.
- قمح : قمح.
- لذن : لاذن.
- نبس : نبق ( السين والقاف أو الكاف تتبادلان في العربية والمصرية القديمة)..
- أبت : أبط.
- مسحو : تمساح.
- يتاح: فتاح.
- مناة : معبود مصري قديم، وهي مناة التي كانت تعبد في الجاهلية كما هو معروف.
- بوبو : بعبع.
وفيما يلي كلمات أخرى مصرية قديمة لا زالت حية في بعض اللهجات العربية الدارجة على الأخص في اللهجتين المصرية والسورية.
/مجلة الوحدة /الأرقام، والباحث في متون النص/
مصري قديم ... عربي عامي ... المعنى
امبمو (22) ... امبو ... اشرب ( تستعمل للأطفال ) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
واوا ... واوا ... وجع ( تستعمل للأطفال) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
كخ ... كخ ... قذارة (تستعمل للأطفال) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
تاتا ... تاتا -دادا ... امش (تستعمل للأطفال) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
رخ ... رخ ... نزل ( رخت المطرة) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
حالوم ... حالوم ... جبنة حالوم موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
مدمس ... المدمس ... الفول الناضج موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
بوش ... بوش ... فارغ (راحت بوش) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
كاني ماني ... كاني ماني ... سمن وعسل (لا تقل لي كاني وماني) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.(1/264)
شأشأ ... شأشأ ... انبثق (شأشأ الضوء) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
ليلي ... يا ليلي ... انشراح (ياليلي ياعين) موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
هيليليصا ... هيليليصا ... وقع في الطين موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
بلح ... بلح ... نخيل موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
زلط (23) ... زلط ... حجر أملس موجودة في عامية مصر وبلاد الشام.
قائمة بمفردات عربية مصرية قديمة
عربية ... مصرية قديمة ... توضيحات ... عربية ... مصرية قديمة ... توضيحات
أب ... أب ... ورقة الشجر أو زهره ... صعتر ... صعتا، ستر
بس ... بس ... معبود مصري وبيت ... زيت ... زت
أنشأته غطفان للعبادة ... طوب، حجر ... طوب
بان ... بعنا ... نوع من الشجر ... تمساح ... مسحو
شجر البان ... إردب ... إردب ... مقياس
عرهم، عارن ... عرّا ... الأسد ... السبط ... السبط ... الحفيد
ابط ... ابت ... صهر ... صهر ... أذاب وطبخ
عدس ... أوس ... مناه ... مناه ... اسم معبود
ينسون ... ينكون ... البيعه ... البيعه ... المعبد
بكاء ... بكاء ... نوع من الشجر ... سفر، ذبر ... زبر ... الكتب
فتاح ... يناح ... عرعر ... عرو ... شجر
سمسم ... شمشم
بصل ... بصل
قمح ... قمح
فوم ... فوم
المفردات الأساسية للغتين العربية والآرامية
عربية شمالية ... عربية جنوبية ... آرامية ... عربية شمالية ... عربية جنوبية ... آرامية
اب ... اب ... ابا ... حقل ... حقل ... حقل
ابن ... ابن ... برا ... حم ... حم ... حما
اخ ... اخو ... احا ... خمس ... خمس ... حمشا
اخذ ... احز ... احد ... دبس ... دبس ... دبشا
اذن ... ازن ... اودنا ... دم ... دم ... دما
اثنتان ... سنيت ... تريت ... ذنب ... زاب ... دابا
ارض ... ارض ... امرعا، ارقا ... ذباب ... ذبب ... دبوبا
أربع ... أربع ... أربع ... راس ... راس ... ويستا
اسم ... سم ... شما ... رحم ... رحم ... رحم
ام ... ام ... اما ... ركب ... ركب ... ركب
انسان ... انش ... ناشا ... زرع ... زرع ... زرعا
بئر ... بئر ... برا ... سبع ... شبعو ... شبع
برق ... فبرق ... برقا ... ست ... سنو ... شنا
بعل ... بعل ... بعلا ... سماء ... سماي ... شمانا
بكر ... بكر ... بكرا ... شعر ... سعرت ... سعرا
بنت ... بنت ... برتا ... صرخ ... صرخ ... صرح
بيت ... بيت ... بيتا ... طحن ... طحن ... طحن
تسع ... تشع ... تشع ... طعم ... طعم ... طعما
ثلاث ... شلاس ... ثلاث ... طيب ... طيب ... طيبا
ثمان ... سماني ... ثمانا ... ظفر ... ظفر ... ظفرا
ثور ... سور ... تورا ... ظل ... صللوات ... طلا
ثوم ... سومات ... توما ... عشر ... عشرو ... عسر
جمل ... جمل ... جملا ... عض ... غد ... اعا
حبل ... حبل ... حبلا ... عظم ... عضم ... عظما
عقرب ... عقرب ... عقربا ... ليل ... ليل ... لليا
عمود ... عمد ... عمودا ... ماء ... ماي ... مايا
عنب ... عنب ... عنبا ... مائة ... ماءات ... ماء(1/265)
عين ... عين ... عينا ... متى ... مت ... امت
فتح ... فتح ... فتح ... مثل ... مسبل ... مثل
فتل ... فتل ... فتل ... ملك ... ملكي ... ملكا
فك ... اف ... بوما ... موت ... موت ... موتا
قرب ... قرب ... قرب ... نسر ... نشر ... نشرا
قمح ... قمح ... قمحا ... نفس ... نفس ... نفشا
قوس ... قشت ... قشتا ... نمر ... نمر ... نمرا
كبد ... كبد ... كبدا ... ود ... ود ... يد
كرش ... كرش ... كرسا ... ورق ... ورق ... يرقا
كلب ... كلب ... كلبا ... وقر ... وقر ... ايقر
كوكب ... كوكب ... كوكبا ... ولد ... ولد ... ايلد
لب ... لب ... لبا ... يد ... اد ... ايدا
لسان ... لسان ... لشن ... يمين ... يمن ... يمينا
لهب ... لهب ... شلهب ... يوم ... يوم ... يوما
المصادر : مجلة "الوحدة"
/ أرقام الأعداد والباحثين في متون النص/
حجر الرشيد وتبدو في محاوره الثلاثة الكتابات :
الهيروغليفية - الهيراطيقية - الديموطيقية
التاثير المصري في الفن الفينيقي نقوش من العاج
من الرسائل المتبادلة بين سومر وإيبلا (2300-2350ق.م)إيبلا-تل مرديخ .
/بدايات الحضارة - عبد الحكيم الذنون ص26
كتابات مسمارية آكادية - بابلية./ المصدر السابق ص40/
خارطة توضح التطابق الطبوغرافي للأسماء التاريخية للمناطق الجولانية الأناسية على ضفتي البحر الأحمر / بين اليمن والحبشة.
/جريدة "الحياة" الباحث، وأرقام الأعداد وتاريخها في متون النص/
رقم رياضي هندسي-تل حرمل-بغداد يبين الشكل رسماً موضحاً للمسألة الهندسية كما نقشت على اللوحة الحجرية ويمكن ملاحظته على صورة الشريحة.
/بدايات الحضارة -ص82
الهرم من الداخل
بدايات الحضارة ص22
ناووس احيرام ، وعلى غطائه الأبجدية الأولى
اسماء فينقية
/الحضارات - لبيب عبد الساتر، دار المشرق 1986/
بالرغم من بعد الشقة لا تزال بعض الأسماء التي كان يستعملها الفينقيون متداولة في لبنان اليوم، وان يكن قد طرأ عليها بعض التحريف فإن الارومة التي اشتقت منها لاتزال ظاهرة، ومن الأمثلة على ذلك اسماء الأعلام التالية:(1/266)
زينون - ملكي -إشموني- سلَّوم- زكَّا - مالك، أو أسماء القرى مثل : بعلشميه - قرطاضه - قبر شمون - بزيزا - بيت مري - وكل الأمساء التي تبدأ بلفظة كفر : كفر جره - كفر رمان - كفر دبيان - كفر فالوس، وكفر معناها القرية.
وقد يجد القارئ اللبناني سهولة في ترجمة بيت شعر بالفينقية إلى اللهجة العامية، واليك هذا البيت مكتوباً بالأحرف العربية:
وبِحلِمْيْ إيْلْ يَأتين بِشَارَتِيْ، أب آدم، ويَلِدْ سُفُح لِكِرت ( اسم علم كِرِت) وغُلاَم، لعبد إيل.
وقد اصطلح الملمون بالفينيقية على ترجمة هذا البيت بما يلي :
وبحلمي بشَّرني إيل والدُ آدَمْ، أَنْجِبْ ذريةً، لِكِرِتْ وغُلامَاً لِعَبْدِ إيل:
واسهل من ذلك أن نفهم ما يلي :
طل شمين شمن ارص أو طُلُّ( مطر) السماوات سمن الارض،
من فينيقيا.
((
لوح طيني (رقيم من ايبلا
لوح طيني يختم بقلم خشبي برموز سومرية. تسمى الكتابة المسمارية وهي كتابة رمزية وليست أبجدية. أما اللغة فهي أصل اللغة الرعبية.
في هذا الرقيم نلاحظ أن الأسطر عمودية السطر الأول يبدأ من اليسار وتقرأ الكتابة من الأعلى إلى الأسفل.
/كتاب "وثائق ايبلا " د.عفيف بهنسي ص126/
الرقم الايبلائية، بأشكال مختلفة وبحالة سليمة - محفوظة في متحف حلب.
/وثائق ايبلا ، د.عفيف بهنسي ص165
بقايا جذع تمثال وعليه كتابة ايبلائية ونصها يعرفنا على ملك ايبلا اييبت ليم.
- محفوظ في المتحف الوطني بدمشق-
/وثائق ايبلا، د.عفيف بهنسي ص166/
الفهرس:
الفصل الأول ...
مقدمة في الأنتربولوجية المعرفية العربية التاريخية: ...
الفصل الثاني ...
الأناسة المعرفية العروبية الماقبل تاريخية: ...
الفصل الثالث: ...
الحراك الجغرافي الأناسي العروبي - مع فجر التاريخ ...
الفصل الرابع ...
الأناسة العربية اللغوية المقارنة والميتولوجيّة ...
الفصل الخامس ...
الإناسة التاريخية المعرفية المسروقة ...
ملحق بالأبجديات المقارنة .....................................................
((((1/267)
صدر للمؤلف
1. الظل الدائري - رواية - دار ميسلون - دمشق ط1 1986
2. محاولات للهروب من الصمت إلى الجسد - شعر - دار جعفر - حمص ط1 1992
3. آيات الإماطة - شعر - دار الحصاد - دمشق - ط1 - 1994
4. رقصة العراة / المفجوعة- رواية - دار الحصاد - دمشق ط1 - 1994
5. الفن عند الانسان البدائي - ترجمة -، دار الحصاد - دمشق - 1995 ط1
6. مأساة العقل العربي / بحث في البناء الأناسيالمعرفي العربي المعاصر / دار الحصاد ، دمشق ط1 1995
7. زمن النص، دار الحصاد ، دمشق ، ط1 1995
8. ذاكرة الانسان ، بنى وعمليات ، في ضوء علم النفس المعرفي، وزارة الثقافة، ج.ع.س، ط1 1996
9. الذاكرة المثقوبة ، قراءة نقدية في المشروع النهضوي العربي اتحاد الكتاب العرب - ط1 ، دمشق 1996
(
رقم الايداع في مكتبة الأسد الوطنية :
عودة التاريخ : الانتربولوجية المعرفية العربية : دراسة في الأناسة المعرفية / جمال الدين الخضور- دمشق : اتحاد الكتاب العرب، 1997 - ج1: 224 ص؛ 24 سم.
الجزء الأول حتى الألف الثاني قبل الميلاد .
1- 306.40656 خ ض و ع ... ... ... 2- 930 خ ض و ع
3- العنوان ... ... ... ... ... 3- الخضور
ع 1674 / 10/ 1997 ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
(
هذا الكتاب
دراسة قومية فكرية لمواجهة مايطرح في إطار التشكيك بالتاريخ العربي والهوية العربية، والحث على استنهاض عربي لتعميق الوعي العلمي التاريخي بالتاريخ العربي ولمواجهة المشاريع المناهضة للتقدم والاستقلال العربي.
وقد رصد الكاتب الأطوار التي مرّت بها الأمة العربية ولغتها عبر آلاف السنين للوصول إلى حقيقة وحدة هذه الأمة ووحدة ترابها في كل من آسيا وافريقيا.
((1/268)