نقض الكاشف
للمدعو سعيد فودة
والدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -
وهو مجمل للمسائل التي أثارها المخالف في كتابه الكاشف وقد لخصت أغلب هذه المسائل في كتابي " كتب ورسائل سعيد فودة في ميزان النقد العلمي "
الفهرس
المقدمة .................................................. ...
بين يدي الرد وفيه مجمل تدليساته وتلبيساته...................
وقفة مع إهدائه ...............................................
ترجمة الفخر الرازي ..............................................
بيان أن الرازي خالف مذهب الأشاعرة في مسائل مختلفة .......
التعريف بجهمي العصر الكوثري .................................
بيان ذم السلف لعلم الكلام والتحذير منه ...........................
أول من خرج عن مذهب السلف من الخلفاء المأمون .........
فتوى ابن الصلاح في علم الكلام ...............................
بيان أن علم أصول الفقه علم مشترك بين المتكلمين والفقهاء....
من هم أهل السنة والجماعة ؟ .....................................
التعريف بالأشعري والمراحل التي مر بها .......................
مخالفة الأشاعرة لأهل السنة في جل أبواب الاعتقاد .............
مخالفة الماتريدية لأهل السنة في جل أبواب الاعتقاد.............
ابن حزم والأشاعرة ................................................
كلام شيخ الإسلام في ابن حزم ...................................
طرق المعرفة .................................................. ....
الرد على المعترض في قوله أن شيخ الإسلام أبطل كل الأدلة العقلية التي اعتمد عليها العلماء من سائر الفرق في إثبات وجود الله....
بيان ما أنكره أهل السنة على المتكلمين في مسألة العقل ........
مسألة النظر من المسائل التي بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة .................................................. ....(1/1)
بيان أن شيخ الإسلام أنكر الطرق المبتدعة التي سلكها المتكلمون , ومن تبعهم في إثبات وجود الله بالعقل ............................
منظومة لابن القيم في ذم العقل بلا اعتماد على الشرع ........
مسألة قياس الغائب على الشاهد .............................
تدليس المعترض ومحاولة ربطه بين هذه المسألة والتجسيم ....
توضيح مسألة قياس الأولى ......................................
بيان أن أهل السنة يستخدمون قاعدة قياس الأولى في حق الله تعالى
قياس الشاهد على الغائب , وقياس الأولى قد استدل بها بعض علماء الأشاعرة .................................................. ......
الرد على شبهة الحس والإحساس ............................
هل يمكن أن يدرك الله بالحواس .................................
محاولة المعترض زوراً وبهتاناً إلزام شيخ الإسلام بالشم والذوق بالتضليل والتلبيس .................................................
تكذيبه لشيخ الإسلام في قوله أن بعض الأشاعرة أثبتوا أن الله يُدرك وبيان أن هذا من جهله أو تجاهله بمذهبه .........................
هل يوصف الله بالإدراكات الخمس ؟...............................
إثبات بعض علماء الأشاعرة لذلك وتفصيلهم بأنها ثلاث صفات إدراك الملموسات , وإدراك المشمومات , وإدراك المذوقات !....
تناقض للمعترض في هذه المسألة ...............................
مبحث الفطرة .................................................. .
أول من عرف عنه إنكار المعرفة بالفطرة هم أهل الكلام .......
تفسير شيخ الإسلام بأن الفطرة الإسلام والتوحيد مسبوقاً بكلام من سبقه من أهل العلم ............................................
تعقب ابن تيمية ابن عبد البر في ترجيحه للفطرة بما رجحه النظار
جل علماء السلف على أن المقصود بالفطرة الإسلام ...........(1/2)
إجابة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الإشكال الذي ذكره ابن عبد البر في تفسير الفطرة بالإسلام................................
بيان أن الفطرة دلت على علو الله تعالى علو ذات وعلى ذلك مذهب الأشعري وشيخه ابن كلاب ........................................
ما دار بين أبي المعالي وأبي جعفر في إثبات العلو بالفطرة .......
مسألة تسلسل الحوادث و مسألة حوادث لا أول لها موجبة بالذات
تدليس المعترض على شيخ الإسلام أنه يقول بقدم العالم , وبحوادث لا أول لها , وأنها ملازمة لذات الله .............................
بيان أن لفظ التسلسل لفظ مجمل لم يرد في نفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة وبيان أقسامه ............................................
شيخ الإسلام يقرر في أكثر من موضع من كتبه ورسائله أن الله كان ولم يكن شيء قبله , ولم يكن شيء معه سبحانه وتعالى , وأن هذا العالم حادث وكائن من العدم ورد على الفلاسفة الذين جعلوا هذا العالم لازماً لذات الله أزلاً.......................................
توضيح مسألة حوادث لا أول لها موجبة بالذات ...................
تفسير كلام السلف قديم النوع حادث الآحاد .....................
الجواب على شبهة التجسيم .......................................
بيان سبب خوض شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مثل هذه الألفاظ المجملة , والتي توهم معنى حقاً وباطلاً ..........................
بيان أن لفظ الجسمية من نفاه أراد نفي صفات الله , وأن من أثبته أراد إثبات الصفات لله مع التوقف في هذا اللفظ ...................
الجواب على شبهة التركيب ........................................
الجسم والمركب والتركيب من ألفاظ المتكلمين الذين يموهون بها ويلزمون بها من أثبت الصفات , والتي يريدون بها الباطل من نفي صفات الله تعالى .................................................(1/3)
صفات الله تنقسم إلى ذاتية وفعلية ...................................
تقسيم الأشاعرة لصفات الله تعالى وبيان لا يخلو من التشويش والاضطراب .................................................
الكلام على شبهة الحد ............................................
الجمع بين ماورد عن بعض السلف من إثباته ونفيه ............
الجواب على شبهة الجهة .........................................
من نفى الجهة أراد نفي علو الله على خلقه واستوائه على عرش
الكلام على شبهة التحيز والمتحيز..................................
الجسم والحيز والجهة ألفاظ فيها إجمال وإبهام ....................
الجواب على شبهة التناهي .........................................
من أراد بنفي التناهي نفي العلو رد اللفظ والمعنى , وإن أريد بالتناهي أن الله عال على خلقه مستو على العرش فهذا حق مع التوقف في اللفظ .................................................
الجواب على شبهة الحركة ....................................
الصفات الاختيارية أو مسألة حلول الحوادث .................
مبحث كلام الله تعالى وما يتعلق به من مسائل وفوائد ........
عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى ..................
مذاهب الفرق في كلام الله تعالى ..................................
بيان مذهب الأشاعرة في كلام الله والرد عليهم .................
كيف نشأ مذهب الأشاعرة ........................................
الكلام النفسي والرد عليه .........................................
الرد عليهم في قولهم أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ..........
شبهة من نفى أن يكون الله يتكلم بمشيئته وقدرته كالأشاعرة ...
الرد عليهم في مسألة إنكارهم للحرف والصوت ................
قولهم أن الحروف تحتاج إلى مخارج وأدوات ...............(1/4)
الرد عليهم في مسألة إن كلام الله معنى واحد ..................
لازم من قال أن القرآن هو عبارة أو حكاية عما في نفس الله.
مسألة اللفظ وما امتحن به البخاري - رحمه الله - .............
مسألة هل الكلام غير المتكلم , والقول غير القائل؟ ...........
تفسير قول السلف : قديم النوع حادث الآحاد ...................
وجه إنكار الإمام أحمد لمن قال أن الحروف مخلوقة ......
بيان أن أبا محمد الجويني والنووي تراجعا إلى مذهب السلف في كلام الله .................................................. ......
وقفة مع تكذيبه لشيخ الإسلام ................................
بيان أن الأشاعرة من أكثر الناس حيرة وشكاً وتوقفاً ..........
بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في الاستواء على العرش ....
ما نقله ابن حجر عن السلف في هذه المسألة ...................
قول المعترض يوجد بعض المجسمة من أهل القرون الأولى أثبتوا لله تعالى الأعضاء والأركان ! ...................................
محاولة المعترض إلصاق تهمة تفسير الاستواء بالجلوس بشيخ الإسلام وبيان أن هذا من الكذب عليه رحمه الله تعالى
أبو الحسن الأشعري يقرر مذهب السلف في علو الله تعالى واستوائه على عرشه ..................................................
إجلاس نبينا صلى الله عليه وسلم على العرش ................
بيان ضعف الأحاديث والآثار في ذلك ..........................
مسألة ما ادعاه المعترض على شيخ الإسلام كذباً أنه يقول بجواز مماسة الله للنجاسات والشياطين ! .................................
تفسير الله الصمد الذي لا جوف له تفسير صح عن السلف ولا محذور في ذلك .................................................. ....
حديث الإدلاء .................................................. ...
عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله محيط بكل شيء وفوقه ......(1/5)
قال أبو بكر الصديق _رضي الله عنه _: " الكذب مجانب الإيمان "
صححه أحمد شاكر , ووافقه الألباني
قال ابن القيم _رحمه الله _ : إنما يؤتى الرجل من سوء فهمه أو من سوء قصده أو من كليهما ؛ فإذا اجتمعا كَمُل نصيبه من الضلال .
"مختصر الصواعق"
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم , و أهل البدع يموتون ويموت ذكرهم .
"مجموع الفتاوى" (16/528)
وقل للعيون العمي للشمس أعينٌ
سواك تراها في مغيبٍ ومطلع
وسامح نفوساً أطفأ الله نورها
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة فالمخاطب لهم إما أن يفصل , ويقول ما تريدون بهذه الألفاظ؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت , وإن فسروها بخلاف ذلك ردت , وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا ؛ فإن امتنع عن التكلم معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع .
وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا , وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها .
"درء تعارض العقل والنقل" (1/133)
إن الحمد لله , نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ,وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :
فإن من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر , ومن سنة الله تعالى أن يبتلي أهل السنة على مر العصور بأعداء وخصوم وحسدة ينالون من عرضهم , ويتكلمون في حقهم بالباطل ؛ ليرفع الله درجتهم , ويعلي شأنهم في الدنيا والآخرة .
وإن من علماء الأثر شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي المتوفى سنة (728) رحمه الله تعالى .(1/6)
فإن هذا الإمام قد أعطاه الله من القبول والصواب في قوله وكتبه ما تحدث عنه القاصي والداني, وكما قال هو رحمه الله عن أهل السنة : أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم , وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم ([FONT='Times New Roman','serif'][1]).[/font]
وقد شهد له العلماء في القديم والحديث على علمه وعلو شأنه , وتبحره في العلوم حتى قال في حقه الذهبي : هو من أذكياء العالم , ووصفه ابن حجر العسقلاني بالحافظ في أكثر من موضع في كتبه , ويكفي في ذلك شهادة أهل عصره كالذهبي والمزي وابن كثير وابن عبد الهادي, وغيرهم حتى من خصومه , ومن المسلّم في حق هذا الإمام أنه اتفق عليه أهل البدع والضلال من جهمية ومعتزلة ورافضة وأشاعرة على مهاجمته , ومحاولة النيل منه , والحط من قدره , وما ذلك إلا لما بذله من جهاد عظيم ([FONT='Times New Roman','serif'][2]) في كسر شوكة أهل البدع وغيرهم مما هو مسطر في كتبه .[/font]
وقد حاول أحدهم التعرض لشيخ الإسلام بكتاب سماه "الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية" كشف فيه عن نفسه , وأبان عن جهله وكذبه , وسود أوراقه افتراءً زعم أنه كشف عن حقيقة شيخ الإسلام بما لم يسبق إليه , ولم يفهمه قبله أحد .
وما مثله إلا كمثل الرجل أراد الاشتهار فبال في زمزم لعله أن يشتهر , وقد كان ما أراد فذكر ولكن بماذا ؟
وشبيه به هذا المعترض الذي أساء إلى نفسه بما ذكره في كاشفه من تدليس وتلبيس([FONT='Times New Roman','serif'][3]).[/font]
هذا وقد قمت بتتبع المسائل التي أثارها في الكتاب , ورددت على الشبه التي أثارها , وبينت فيها حقيقة كلام شيخ الإسلام, والله أسال أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم .
بين يدي الرد
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : الكذب مجانب الإيمان
وهذا المعترض في كاشفه لم يتورع عن الكذب أو التدليس(1/7)
1-ففي صفحة 24 نسب إلى شيخ الإسلام أنه يثبت لله الجنب فقال : هذا هو حاصل قول ابن تيمية بالضبط , وإن لم يصرح به بهذا الوضوح .
2-حاول أن يربط بين مذهب هشام بن الحكم المبتدع المشبه([FONT='Times New Roman','serif'][4][/font]) , وبين أقوال شيخ الإسلام كذباً وتدليساً بقوله ص20 : سترى أن معظم ما نقله الأشعري عن هذا المجسم المشهور فابن تيمية يقول بكثير منه صراحة , وينسبه إلى السلف الصالح إلا إنني لم أجد له نصاً يقول فيه بأن طوله مثل عرضه مثل عمقه , ولا أنه كالسبيكة الصافية فقد عرفنا الآن سلفه .
3-نسب إلى شيخ الإسلام كذبا وتدليسا أنه يقول : أن الله مماس للعرش ص28
4-دلس على القراء أن شيخ الإسلام يقول: أن الله له طول وعرض وارتفاع – هكذا زعم – ص31
5-نسب إلى شيخ الإسلام كذباً بقوله ص31 الله يمكن أن يحس بالحواس الخمس ويمكن أن يمس .
6-نسب إلى شيخ الإسلام قوله بحوادث لا أول لها موجبة بالذات كما في ص 97.
7-نسب إلى شيخ الإسلام أنه أبطل كل الأدلة العقلية التي تدل على وجود الله ص39
8-قال ص 50 : فإنك تعلم أن ابن تيمية لا يريد بالرؤية إلا الانفعال الحاصل في شبكية العين نتيجة ارتطام شعاع منعكس عن المرئي بها , وكذلك بالنسبة إلى الله - كذا قال - والحكم للقاريء- .
9-نسب إلى شيخ الإسلام أنه يقول : إن الله مماس للشياطين والنجاسات ص420 إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة التي تدل على سوء قصده وسوء فهمه .
10-استعماله لسوء الأدب كما في ص 29 -30 -52- مع شيخ الإسلام ونسبته الكذب له كما في ص 326
11- غروره وتبجحه وعجبه فكلام شيخ الإسلام لم يفهمه أحد كما فهمه هو , قال ص188: ونحن هنا سوف نوضح مسألة في مذهب ابن تيمية لم أر أحداً وضحها بتفصيل من أصحابه .
وقال ص189 : هذا هو حاصل مذهب ابن تيمية في هذه المسألة الفريدة التي لا تجد من وضحها كما ذكرناه هنا .(1/8)
ولا عجب في ذلك فقدوته الرازي ([FONT='Times New Roman','serif'][5]) ؛ فهو يقول في مقدمة المباحث المشرقية بعد أن بين أنه لخص أقوال الفلاسفة واجتهد في تحريرها : ثم نضم إليه أصولاً وفقنا الله إلى تحريرها وتحصيلها مما لم يقف عليه أحد من المتقدمين ؛ ولم يقدر على الوصول إليه أحد من السالكين .[/font]
وقال في نهاية العقول عن سبب تأليفه : وكثر إلحاحهم علي بتصنيف كتاب في أصول الدين مشتمل على نهاية الأفكار العقلية , وغاية المباحث العلمية صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى لي بحق ملتمسهم , وأوردت فيه من الحقائق والدقائق مالا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من المحالفين والمخالفين والمرافقين والمفارقين .
موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2|671)
12- ودندن حول تكفير شبخ الإسلام كما في ص189 , وإن لم يصرح بذلك علانية.
فالله الموعد ,وإليه التحاكم , وبين يديه التخاصم .
وقفة مع إهدائه
أهدى المعترض كتابه إلى فخر الدين الرازي , وإلى محمد زاهد الكوثري
أما الفخر الرازي فقد ذكره الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه "ميزان الاعتدال" (3/340) فقال : صاحب التصانيف رأس في الذكاء والعقليات ؛ لكنه عري عن الآثار , وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا, وله كتاب" السر المكتوم في مخاطبة النجوم" ، سحر صريح فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله .
انظر كذلك "اللسان" (4/499)
وقال ابن كثير رحمه الله في ترجمته (13|60) من "البداية والنهاية" : وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول : من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز..
وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله :قال محمد البادي يعني العربي يريد النبي صلى الله عليه وسلم نسبة إلى البادية , وقال محمد الرازي يعني نفسه , ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة .(1/9)
قلت : ومن أقواله أنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص , ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلاً .
"الصواعق المرسلة" (4|1228)
وهو القائل بتقديم العقل على النقل عند التعارض , قال : إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات ؛ فإما أن يجمع بينهما , وهو محال لأنه جمع بين النقيضين , وإما أن يردها جميعا, وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل؛ فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل ؛ والقدح في أصل الشيء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعا , فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول , وإما أن يفوض .
"درء التعارض" (1|7)
وقطع كذلك بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة بالنسبة لعدالتهم وحفظهم سواء , وأن في الصحيحين أحاديث وضعها زنادقة .
"عقيدة الأشاعرة" (37)
وقد انتقده بعض متأخري الأشاعرة حتى قال السنوسي في " ""شرح السنوسية الكبرى" عنه : وقد يحتمل أن يكون سبب دعائه بهذا ما علم من حاله من الولوع بحفظ آراء الفلاسفة وأصحاب الأهواء وتكثير الشبه لهم وتقوية إيرادها , ومع ضعفه عن تحقيق الجواب عن كثير منها على ما يظهر من تآليفه , ولقد استرقوه في بعض العقائد فخرج إلى قريب من شنيع أهوائهم , ولهذا يحذر الشيوخ من النظر في كثير من تآليفه .
وقال أيضا في شرحه لعقيدته الأخرى " أم البراهين" : وليحذر المبتديء جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشيت بكلام الفلاسفة , وأولع مؤلفوها بنقل هوسهم , وما هو كفر صراح من عقائدهم التي ستروا نجاستها بما ينبههم على كثير من اصطلاحهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات , وذلك ككتب الإمام الفخر في علم الكلام ... .
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2|663)
"ومما يدل على دخوله في الفلسفة أمور(1/10)
أ - اهتمامه بكتب ابن سينا وغيره , ولم يقتصر الأمر على شرح كتب الفلاسفة بل دافع عنها .
ب - موافقته لأقوال الفلاسفة في بعض المسائل التي اختصوا بها , وهو وإن رجع عن بعضها إلا أن أقواله وترجيحاته بقيت مدونة في كتبه , ومن الأمثلة على ذلك :
1- قوله: بالعقول المجردة , وأن لكل ملك نفساً ,ويرى أن دليل المتكلمين على إبطال ما قاله الفلاسفة من وجود العقول المجردة دليل ضعيف .
2- قوله : بالمثل الإفلاطونية في بعض كتبه فقد أثبتها في" الملخص في الحكمة والمنطق" , وقال في "شرح الإشارات": ما قامت الدلالة القاطعة على فسادها . ولكنه في "المباحث المشرقية" أبطلها .
3- وأخطر قضية قال بها ووافق الفلاسفة قوله بالتنجيم , وأن للكواكب أرواحاً تؤثر في الحوادث الأرضية , وكذلك قوله في السحر ؛ وتأليفه في ذلك كتاباً مستقلاً سماه" السر المكتوم في مخاطبة النجوم" .
4- ومن المسائل التي كان قوله فيها مضطرباً , وكثيراً ما يميل فيها إلى أقوال الفلاسفة مسألة النبوة وخصائص النبي .
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2|667)
بيان أن الرازي خالف مذهب الأشاعرة في مسائل مختلفة
فقد كانت للرازي اجتهادات في المذهب الأشعري وصلت إلى حد القرب من المعتزلة أحياناً , والرد على أدلة الأشاعرة وتضعيفها أحياناً أخرى مع النقد لأعلام الأشاعرة في مناسبات مختلفة , ومن الأمثلة على ذلك :
1- نقده للغزالي وللبغدادي وللشهرستاني , وقد جاء نقده في مناظراته في بلاد ما وراء النهر .
2- في مسألة الرؤية ضعف دليل الأشاعرة العقلي , واقتصر في إثباتها على السمع .
3- كما نقد دليل الأشاعرة على إثبات صفة السمع والبصر , وكذا في صفة المحبة وأنه لا دليل لهم على تأويلها .
4- وفي حصرهم الصفات الثابتة بسبع نقدهم نقداً قوياً .(1/11)
5- أما في صفة الكلام فيعتبر الرازي من الذين ناقشوا حقيقة الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة , وقد ضعف أدلة الأشاعرة العقلية لإثبات هذه الصفة بل بين أن منازعة الأشاعرة للمعتزلة في هذه المسألة ضعيفة , وصرح بأن الحروف والأصوات محدثة .
6- اعتذاره لنفاة الصفات بأنهم أرادوا بنفيها إثبات كمال الوحدانية لله تعالى بل مال إلى مذهب المعتزلة في الصفات حين رد صفتي الإرادة والقدرة إلى صفة العلم .
7- كما نقد الاستدلال بالإحكام والإتقان على العلم ؛ وهو من أدلة الأشاعرة المشهورة .
8- دافع عن تكفير المعتزلة والخوارج والروافض , وناقش الأوجه التي كفر بها بعضهم بعضا , ومن ذلك تكفير الأشاعرة لغيرهم .
9- تصريحه بالجبر في مسألة القدر , وذلك خلافا لشيوخه الذين ينكرون أن يكون قولهم بالكسب يؤدي إلى الجبر .
ر "موقف ابن تيمية من الأشاعرة " (2|677)
10- قوله بقيام الحوادث بالله موافقاً لأهل السنة مخالفاً لمذهب الأشاعرة .
قال ابن حجر رحمه الله : وذكر الفخر الرازي في" المطالب العالية" : أن قول من قال أنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره ؛ هو أصح الأقوال نقلاً وعقلاً , وأطال في تقرير ذلك .
"الفتح" (13|455)
وقد أجمع من ترجم له من العلماء أنه تراجع عن مذهبه في علم الكلام , والخوض فيه , ومن المشهور من قوله :
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وكان يقول : لقد اختبرت الطرق الكلامية , والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ,ولا تشفي عليلا , ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات {الرحمن على العرش استوى} {إليه يصعد الكلم الطيب} وفي النفي {ليس كمثله شيء} {هل تعلم له سيما} ([FONT='Times New Roman','serif'][6]).[/font](1/12)
أما الكوثري فهو جهمي هذا العصر الشعوبي ([FONT='Times New Roman','serif'][7]) صاحب الخيانات العلمية ، والطعون الجلية في حق علماء وأئمة الإسلام حتى تعداه إلى الصحابة والتابعين.[/font]
قال الإمام عبد الرحمن المعلمي –رحمه الله- : فرأيت الأستاذ –أي الكوثري- تعدى ما يوافقه عليه أهل العلم من توقير أبي حنيفة وحسن الذب عنه إلى ما لا يرضاه عالم متثبت من المغالطات المضادة للأمانة العلمية , ومن التخليط في القواعد , والطعن في أئمة السنة ونقلتها حتى تناول بعض الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة مالكا والشافعي وأحمد , وأضرابهم , وكبار أئمة الحديث وثقات نقلته , والرد لأحاديث صحيحة ثابتة , والعيب للعقيدة السلفية.. .
فقد رمى هذا الجهمي أنساً –رضي الله عنه – بالخرف , وطعن في البخاري حتى نفى عنه ما وصفوه به بأنه أمير المؤمنين في الحديث , وزعم أنه رجل متبجح , ومن المتساهلين الذين لا يعرفون شمالهم من يمينهم كما في" تأنيب الخطيب" (44/45) وكان يدعي أن ابن تيمية كان يتعاطى خمسة دراهم مقابل كل فتوى يحل فيها الحرام , ويحرم فيها الحلال .
وقد رد عليه الشيخ أحمد بن محمد الصديق الغماري في كتابه "بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري " .
وقد كشف كذلك وبين خيانته وتبرأ منه ناشر بعض كتبه وهو حسام الدين القدسي واضطر إلى إيقافه عن التصحيح والتعليق , وأعلن في مقدمة كتاب "الانتقاء" خيانته على رؤوس الأشهاد وجنايته على الدين وأهله بما لم يسبق إلى مثله([FONT='Times New Roman','serif'][8]) .[/font]
بيان ذم السلف لعلم الكلام والتحذير منه
قل من تمذهب بمذهب الخلف من جهمية ومعتزلة وأشاعرة إلا وتجده يحاول أن يرفع من شأن علم الكلام مع أن أكثر علماء السنة على ذم هذا العلم والتحذير منه ومن أهله .(1/13)
ذكر أهل العلم أن أول من أظهر هذا العلم -المنطق - ودعا إليه بقوة , وعمل على نشره هو الخليفة العباسي المأمون ؛ والذي حمل الناس في عصره على القول بخلق القرآن , والتي امتحن فيها إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله .
وقد كان الخلفاء قبل المأمون على السنة , وهو أول من خرج عن مذهب أهل السنة والجماعة من خلفاء بني أمية والعباس .
قال الإمام البيهقي رحمه الله : لم يكن في الخلفاء قبله -أي المأمون - من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف و مناهجهم ؛ فلما ولي الخلافة اجتمع به هؤلاء - أي بشر المريسي وأضرابه - فحملوه على ذلك وزينوا له. ([FONT='Times New Roman','serif'][9]) [/font]
قال العلامة السفاريني في كتابه "لوامع الأنوار" (1/9) "إن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى – أظنه صاحب جزيرة قبرص _ طلب من خزانة كتب اليونان , وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشاروا بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد ؛ فإنه قال : جهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها.
قال الصلاح الصفدي : حدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يقول : ما أظن أن الله يغفل عن المأمون, ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها.
وقد كان أول من صنف في علم الكلام والجدال والخصام مع أهل السنة واصل بن عطاء رئيس المعتزلة لما اعترض على الحسن البصري في مسألة فاعل الكبيرة , وقال بالمنزلة بين المنزلتين فطرده الحسن البصري من مجلسه , واعتزل واصل وجلس إليه عمرو بن عبيد ؛ فقيل له ولاتباعهما المعتزلة.
"لوامع الأنوار" (1/12)
وقال الغزالي رحمه الله في كتابه "الإحياء "(1/114) :
مسألة : فإن قلت تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو مباح أو مندوب إليه ؟(1/14)
فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف ؛ فمن قائل إنه بدعة أو حرام , وأن العبد إن لقي الله عز وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام , ومن قائل إنه واجب وفرض إما على الكفاية أو على الأعيان , وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات؛ فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله تعالى ؛ وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان , وجميع أهل الحديث من السلف .
قال ابن عبد الأعلى رحمه الله : سمعت الشافعي رضي الله عنه يوم ناظر حفصاً الفرد , وكان من متكلمي المعتزلة يقول : لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام .
ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه .
وقال أيضاً : قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط , ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام .
وحكي الكرابيسي أن الشافعي رضي الله عنه سأل عن شيء من الكلام فغضب , وقال : سل عن هذا حفصا الفرد وأصحابه أخزاهم الله .
ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص الفرد فقال له : من أنت؟ فقال : حفص الفرد فقال : لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت فيه .
و قال أيضا : لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد .
وقال أيضا: إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى؟ فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له .
وقال الزعفراني قال الشافعي : حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر يقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام .
وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدا , ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل .(1/15)
وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة , وقال له : ويحك ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة , والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث .
وقال أحمد رحمه الله : علماء الكلام زنادقة .
وقال مالك رحمه الله : أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد . يعني أن أقوال المتجادلين تتفاوت .
وقال مالك رحمه الله أيضا : لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء , فقال بعض أصحابه في تأويله أنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا .
وقال أبو يوسف : من طلب العلم بالكلام تزندق .
وقال الحسن : لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم.
وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا , ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه , وقالوا : ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر , ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون ([FONT='Times New Roman','serif'][10]) أي المتعمقون في البحث والاستقصاء .[/font]
واحتجوا أيضا : بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويعلم طريقه ويثني عليه وعلى أربابه ؛ فقد علمهم الاستنجاء , وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليه ونهاهم عن الكلام في القدر ...
وعلى هذا استمر الصحابة رضي الله عنه ؛ فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم , وهم الأستاذون والقدوة , ونحن الأتباع والتلامذة .
ثم ذكر رحمه الله أدلة القول الثاني ثم المختار عنده.
وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله في مقدمة" المجموع" (1|27) إن من أقسام العلوم المحرم تعلمها علم الفلسفة .(1/16)
وسئل ابن الصلاح كما في فتاويه "مجموعة الرسائل المنيرية " (4/34) فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعلماً وتعليماً , وهل المنطق جملةً وتفصيلاً مما أباح الشارع تعلمه وتعليمه والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون ذكروا ذلك أو أباحوا الاشتغال به أو سوغوا الاشتغال به أم لا ؟
وهل يجوز أن تستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات المنطقية أم لا ؟
وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا ؟
وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهراً به ؟
وما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروفاً بتعليمها وإقرائها والتصنيف فيها , وهو مدرس في مدرسة من مدارس العلم فهل يجب على سلطان تلك البلدة عزله وكفاية الناس شره ؟.
فأجاب رحمه الله : الفلسفة أس السفه والانحلال , ومادة الحيرة والضلال , ومثار الزيغ والزندقة , ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة , ومن تلبس بها تعليماً وتعلماً قارنه الخذلان والحرمان , واستحوذ عليه الشيطان , وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه ويظلم قلبه عن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كلما ذكره الذاكرون , وكلما غفل عن ذكره غافل مع انتشار آياته المستبينة ومعجزاته المستنيرة...
وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر , وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع , ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر من يقتدى به من أعلام الأمة وساداتها ؛ وإن كان الأمة وقادتها قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه فطهرهم من أوصابه .(1/17)
وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية ؛ فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة , وليس بالأحكام الشرعية والحمد لله افتقار إلى المنطق أصلا , وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن لا سيما عن خدم نظريات العلوم الشرعية , ولقد نمت الشريعة وعلومها وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة , ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به ؛ فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم ويخرجهم عن المدارس , ويبعدهم , ويعاقب على الاشتغال بفنهم , ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام لتخمد نارهم وتمحى آثارها وآثارهم يسر الله ذلك وعجله .
ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها ثم سجنه وإلزامه منزله , وإن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم؛ فإن حاله يكذبه والطريق في خلع الستر قلع أصوله , وانتصاب مثله مدرسا من العظائم حمله , والله تعالى ولي التوفيق والعصمة وهو أعلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (9/82) : فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد .
وقال رحمه الله (9/7) : ولهذا مازال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله , وينهون عنه , وعن أهله حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية فيها كلام عظيم في تحريمه , وعقوبة أهله حتى إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي , وقال : أخذها منه أفضل من أخذ عكا ؛ مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحراً في العلوم الكلامية والفلسفية منه وكان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقاداً.(1/18)
وقال الذهبي- رحمه الله -:
وإذا كان علم الآثار مدخولا فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة , ولا والله عرفها ابن المبارك ولا أبو يوسف القائل من طلب الدين بالكلام تزندق ولا وكيع ولا ابن مهدي ولا ابن وهب ولا الشافعي ولا عفان ولا أبو عبيد ولا ابن المديني وأحمد وأبو ثور والمزني والبخاري والأثرم ومسلم والنسائي وابن خزيمة وابن سريج وابن المنذر, وأمثاله بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو , وشبه ذلك .
"تذكرة الحفاظ" (1|205)
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- (9/269) : وأما هو في نفسه- علم المنطق - فبعضه حق وبعضه باطل , والحق الذي فيه كثير أو أكثره لا يحتاج إليه .
والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به , والبليد لا ينتفع به والذكي لا يحتاج إليه , ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه ؛ فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء , وكان سبب نفاقهم وفساد علومهم .
وقول من قال إنه كله حق كلام باطل بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية وأقسام القياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع وقد بين ذلك علماء المسلمين .
قلت :وقد ألف عدة علماء في ذم الكلام وأهله ([FONT='Times New Roman','serif'][11])[/font] فمنهم أبو إسماعيل الهروي في كتابه "ذم الكلام "والخطابي في كتابه" الغنية عن الكلام وأهله " وغيرهم كثير.(1/19)
والغزالي كذلك ألف قبل موته كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام "وكتاب "تهافت الفلاسفة " .وقد انتهى أمره كما يقول ابن أبي العز الحنفي إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات وصحيح الإمام البخاري على صدره ([FONT='Times New Roman','serif'][12])[/font]
وقال ابن حجر العسقلاني _رحمه الله _نقلا عن القرطبي صاحب المفهم :بعد هذا وقد عرفت كلام السلف الصالح رضوان الله عليهم في ذم الكلام وأهله وعرفت ذم أهله الذين خاضوا فيه , وتأسفوا على أوقاتهم التي ذهبت سدى في الجوهر والعرض والشك والنظر([FONT='Times New Roman','serif'][13])[/font].
قلت: فأين هذا الكلام الذي قدمناه عن هؤلاء الأئمة من كلام المعترض في كاشفه
بقوله: وقد اهتم المتعلمون الإسلاميون وخاصة أهل السنة الأشاعرة والماتريدية - كذا قال – بتنقيح طرق المعرفة وبينوا ذلك في علمين من أجل العلوم الإسلامية الأول : علم الكلام الذي هو رأس العلوم .
والثاني : علم أصول الفقه.
فالعلم الأول : يبين الأدلة والحجج التي تنبني عليها عقائد المسلمين .
والثاني : يبين الأدلة التي تنبني عليها الأحكام العملية في العبادات والمعاملات والشؤون الدنيوية([FONT='Times New Roman','serif'][14]) [/font].
وقال أيضا : ص16 علم الكلام هو علم التوحيد
قلت : وأما علم أصول الفقه فهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه "الاستقامة" (1/50) : هو علم مشترك بين الفقهاء والمتكلمين .
وبين رحمه الله أن المتكلمين أدخلوا فيه الكثير من مباحث علم الكلام والمنطق التي لا يحتاج إليها الفقيه والأصولي .(1/20)
ولذلك قال رحمه لله : فبنوه على أصولهم الفاسدة حتى أن أول مسألة منه , وهي الكلام في حد الفقه لما حدوه بأنه العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية أورد هؤلاء كالقاضي أبي بكر الرازي والآمدي , ومن وافقهم من فقهاء الطوائف كأبي الخطاب وغيره السؤال المشهور هنا؛ وهو أن الفقه من باب الظنون لأنه مبني على الحكم بخبر الواحد والقياس والعموم والظواهر وهي إنما تفيد الظن فكيف جعلتموه من العلم حيث قلتم العلم ؟
وقال رحمه الله : .. وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي وذمه فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره([FONT='Times New Roman','serif'][15])[/font].
من هم أهل السنة والجماعة ؟
أعطى المعترض في كاشفه ص(37) لقب أهل السنة والجماعة للأشاعرة والماتريدية فهل حقاً هم كذلك ؟.
أولاً : قال الشيخ سفر الحوالي في كتابه "عقيدة الأشاعرة "(14) إن مصطلح أهل السنة والجماعة يطلق , ويراد به معنيان :
1-المعنى الأعم وهو ما يقابل الشيعة ؛ فيقال المنتسبون للإسلام قسمان أهل السنة والشيعة مثلما عنون شيخ الإسلام كتابه في الرد على الروافض منهاج السنة , وفيه بين هذين المعنيين.
وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأشاعرة لا سيما , والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الصحابة والخلفاء متفقون مع أهل السنة , وهي نقطة الاتفاق المنهجية الوحيدة كما سيأتي .
قلت : ولعل أن يقال أنهم حتى في هذا النقطة قد خالفوا أهل السنة كما نقل الزركشي بأن أكثر الأشاعرة وافقوا الشيعة في تفسيق معاوية وأصحابه .
انظر " الرد على الحبشي" لدمشقية (355)
2- المعنى الأخص وهو ما يقابل المبتدعة وأهل الأهواء وهو الأكثر وروداً في كتب الجرح والتعديل ؛ فإذا قالوا عن الرجل أنه صاحب سنة أو أنه من أهل السنة ونحوها فالمراد أنه ليس من إحدى الطوائف المبتدعة كالخوارج والمعتزلة والشيعة وليس صاحب كلام وهوى , وهذا المعنى لا يدخل فيه الأشاعرة أبدا بل هم خارجون عنه .(1/21)
وقد نص الإمام أحمد وابن المديني على أن من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة والجماعة , وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل أو يسلم للنصوص.
ثانياً : أبو الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه هذا المعترض قد مر بثلاث مراحل في العقيدة فالمرحلة الأولى مرحلة الاعتزال ، فقد اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عاما يقرره ويناظر فيه ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم.
وسبب ذلك المناظرة المشهورة مع الجبائي شيخ الاعتزال في عصره في قول المعتزلة يجب على الله فعل الأصلح .
فقال له الأشعري : بل يفعل ما يشاء , فما تقول في ثلاثة أخوة مات أحدهم وكبر اثنان فآمن أحدهم وكفر الآخر فما العلة في اخترام الطفل؟
قال: لأنه تعالى علم أنه لو بلغ لكفر فكان اخترامه أصلح له .
قال الأشعري : فقد أحيا أحدهما فكفر.
قال: إنما أحياه ليعرضه أعلى المراتب .
قال الأشعري : فلم لا أحيا الطفل ليعرضه لأعلى المراتب ؟
قال الجبائي: وسوست .
قال: لا والله , ولكن وقف حمار الشيخ .
"السير" (15/89)
ثم تاب الأشعري من الاعتزال , وصعد على المنبر وقال : إني كنت أقول بخلق القرآن , وأن الله لا يرى بالأبصار, وأن الشر فعلي ليس بقدر , وإني تائب معتقد الرد على المعتزلة.
"السير" (15/89)
ثم المرحلة الثانية وهي مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة ,وهي طريقة أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (16|471) : والأشعري , وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذ من هؤلاء كلاماً صحيحاً , ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة , وهي فاسدة.
ثم المرحلة الثالثة : وهي مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتدياً بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه "الإبانة عن أصول الدبانة " وهو آخر كتبه.([FONT='Times New Roman','serif'][16])[/font](1/22)
وإن كان كثير من الأشاعرة ينكرون هذه المرحلة الثالثة وينكرون كتاب الإبانة ويزعمون أنه منتحل عليه.
وقد أثبت كتاب الإبانة للأشعري جملة من كبار العلماء حتى من أنصاره وأتباع مذهبه.
فقد نقل عنه ابن عساكر الدمشقي رحمه الله في كتابه "تبيين كذب المفتري" (157) بتحقيق الكوثري جملة من قوله في كتاب "الإبانة"([FONT='Times New Roman','serif'][17])[/font]
قال: فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه الإبانة
فإنه قال: ودفعوا أن يكون لله وجه- أي المعتزلة - مع قوله :{ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }
وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله {لما خلقت بيدي }
وأنكروا أن يكون له عين مع قوله {تجري بأعيننا} ولقوله {ولتصنع على عيني}
ونفوا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا.
وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله باباً باباً , وبه المعونة والتأييد ومنه التوفيق والتسديد .
فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون , وديانتكم التي تدينون بها.
قيل له : قولنا الذي به نقول وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ؛ ونحن بذلك معتصمون , وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ,ولمن خالف قوله مجانبون ؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال , وأوضح به المنهاج , وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم , وعلى جميع أئمة المسلمين .(1/23)
وجملة قولنا : أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله , وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا , وأن الله إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا , وأن محمداً عبده ورسوله, وأن الجنة والنار حق , وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور , وأن الله استوى على عرشه , وأن له وجهاً كما قال: {يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } , وأن له يداً كما قال: { بل يداه مبسوطتان} وقال :{ لما خلقت بيدي} , وأن له عيناً بلا كيف كما قال : {تجري بأعيننا}..
قلت: لكن رجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة ليس رجوعاً إلى مذهب السنة المحض ؛ فإن رجوعه ليس رجوعا صافيا ؛ فقد بقيت بعض شوائب الاعتزال في مذهبه .
قال شيخ الإسلام (16/471) :
والأشعري وأمثاله برزخ بن السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحا , ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة , وهي فاسدة ؛ فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية , ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية..
و قال رحمه الله (12/204) عن أبي الحسن الأشعري..(1/24)
لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة, وخبرته بالسنة خبرة مجملة ؛ فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة , واعتقد أنه يمكن الجمع بين تلك الأصول وبين الانتصار للسنة كما فعل في مسألة الرؤية والكلام والصفات الخيرية وغير ذلك , والمخالفون من أهل السنة والحديث , ومن المعتزلة والفلاسفة يقولون : إنه متناقض , وأن ما وافق فيه المعتزلة يناقض ما وافق فيها أهل السنة كما أن المعتزلة يتناقضون فيما نصروا فيه دين الإسلام؛ فإنهم بنوا كثيراً من الحجج على أصول تناقض كثيراً دين الإسلام بل جمهور المخالفين للأشعري من المثبتة والنفاة يقولون: إنما قاله في مسألة الرؤية والكلام معلوم الفساد بضرورة العقل, ولهذا يقول أتباعه إنه لم يوافقنا أحد من الطوائف على قولنا في مسألة الرؤيا والكلام؛ فلما كان في كلامه شوب من هذا وشوب من هذا صار يقول من يقول أن فيه نوعا من التجهم .
وأما من قال إن قوله قول جهم فقد قال الباطل, ومن قال إنه ليس فيه شيء من قول جهم فقد قال الباطل, والله يحب الكلام بعلم وعدل وإعطاء كل ذي حق حقه , وتنزيل الناس منازلهم.
وقال رحمه الله : … و إلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث , و إنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوال أئمتهم .
وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير.
و أما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل, ولهذا لما صنف كتابه في مقالات الإسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام , واختلافهم على التفصيل .
وأما أهل السنة والحديث فلم يذكر عنهم إلا جملة مقالات مع أن لهم في تفاصيل تلك من الأقوال أكثر مما لأهل الكلام .(1/25)
إلى أن قال رحمه الله "…: فإن الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد , والطائفة الواحدة مما يحمد به من الحسنات , وما يذم به من السيئات , وما لا يحمد به ولا يذم من المباحات والمعفو عنه من الخطأ والنسيان بحيث يستحق الثواب على حسناته , ويستحق العقاب على سيئاته بحيث لا يكون محمودا ولا مذموما على المباحات والمعفوات .
إلى أن قال رحمه الله : ولا ريب أن للأشعري في الرد على أهل البدع كلاماً حسناً هو من كلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية .
وله أيضاً كلام خالف به بعض السنة هو من كلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة , وإذا كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية والكلام السيء كان صاحبه مجتهداً مخطئاً مغفوراً له خطؤه لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة , ويذم الكلام المخالف للسنة . "الفتاوى المصرية" (5/250)
ثالثاً :إن الأشاعرة خالفوا أهل السنة في جل أبواب العقيدة فهم
1- في باب الإيمان مرجئة جهمية
ومنه قول صاحب الجوهرة
وفسر الإيمان بالتصديق النطق فيه الخلف بالتحقيق
وقد رجح الشيخ حسن أيوب من المعاصرين أن المصدق بقلبه ناج عند الله , وإن لم ينطق بهما , ومال إليه البوطي .
فعلى كلامهم لا داعي لحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لعمه أبي طالب قل لا إله إلا الله لأنه لا شك في تصديقه له بقلبه هو , ومن شابهه على مذهبهم من أهل الجنة .
2-وهم في باب القدر بين الجبرية والقدرية فجاءوا بنظرية الكسب , وهي في مآلها جبرية خالصة لأنها تنفي قدرة العبد أو تأثيره .
أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة أنفسهم عن فهمها فضلا عن إفهامها لغيرهم.
ولهذا قال الرازي الذي عجز هو الآخر عن فهمها : أن الإنسان مجبور في صورة مختار.
"عقيدة الأشاعرة" (44)(1/26)
وقال الباجوري (198) : وخلاصة القول في هذه المسألة أن أهل السنة ذهبوا إلى أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها , وليس لقدرة العباد تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً ؛ فإذا لم يكن ثمة مانع بأنه أوجد فيه فعله المذكور مقارناً لهذه القدرة , وهذا الاختيار اللذين أوجدهما الله تعالى فيه فيكون فعل العبد على هذا مخلوقاً لله تعالى إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد , والمراد بكسبه مقارنة وجود الفعل بقدرته واختياره من غير أن يكون ثمة تأثير منه أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا لظهور الفعل هذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري .
وقال أيضا (205) : ولا تأثير لقدرة العبد في فعله لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين لمؤثر واحد , وإذا ما ثبت هذا دحض كون فعل العبد واقعا بقدرة العبد , وثبت أنه واقع بقدرة الله تعالى .
والثاني : لو كان العبد موجداً لأفعاله بالاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها ثم قال بعد ذلك فيثبت أن العبد غير موجد لأفعاله بالاختيار والاستقلال ثم قال : وبالجملة فمذهب أهل السنة أن الموجد لأفعال العباد هو الله تبارك وتعالى وحده غير أن الاختيارية منها تقارنها قدرة حادثة من غير تأثير لها فيها أصلا.
3- وفي كلام الله فرقوا بين المعنى واللفظ فكلام الله عندهم هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ولا يوصف بالخير ولا الإنشاء .
وأما اللفظ فهو مخلوق لله , وقالوا هو عبارة عن كلام الله النفسي .
"عقيدة الأشاعرة "(44)
وعقيدتهم في القرآن في حقيقته يؤول إلى أن القرآن مخلوق
قال الباجوري (173): ومذهب أهل السنة يعني الأشاعرة أن القرآن الكريم بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق .
وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق لكنه يمتنع أن يقال القرآن مخلوق ويراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم ؛ لأنه ربما أوهم القرآن بمعنى الكلام النفسي مخلوق ...(1/27)
وقال أيضا (113) وهو صفه أزلية قائمة بذاته تعالى ليست بحرف ولا صوت منزهة عن التقدم والتأخر والإعراب والبناء....
وقال الباجوري (118) في قوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} أي : أزال عنه الحجاب , وأسمعه الكلام القديم ثم أعاد الحجاب , وليس المراد أنه تعالى يبتديء كلاماً ثم يسكت لأنه لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً .
وقال الإيجي في "المواقف" (3|129) : إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة , وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة فنحن نقول به , ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك .
وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته .. .
4- في باب النبوات يقررون أن إرسال الرسل راجع للمشيئة المحضة , وأنه لا دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلا المعجزة ثم يقررون أن أفعال السحرة والكهان من جنس المعجزة لكنها لا تكون مقرونة بادعاء النبوة والتحدي.
وفي باب الأسماء والصفات يثبتون الأسماء وينفون الصفات إلا سبعا منها , وهي مجموعة في قول الناظم
حي عليم قدير والكلام له إرادة وكذلك السمع والبصر.
5-و قالوا : بنفي حكمة الله ؛ وأن يكون لشيء من أفعال الله علة مشتملة على حكمة.
قال الباجوري: ولا يتصف بالأغراض في الأفعال والأحكام إذ ليس خلقه الأكوان لمصلحة باعثة على ذلك الخلق ,وهذا لا ينافي أنه لحكمة.
"شرح الجوهرة "(181)
6- و أنكروا طبائع الأشياء
قال الباجوري (225) : والحق أن العبد لا يخلق أي فعل من أفعاله الاختيارية , وقد علم من وجوب انفراده تعالى بالخلق , ومن نفي تأثير العبد عما باشره من الأفعال بطلان دعوى أن شيئاً يؤثر بطبعه أو بقوة مودعة فيه , وإنما الله تعالى بحسب ما جرت به العادة يخلق ذلك الأثر عنده لا به كالستر عند اللبس ,والري عند الشرب ,والاحتراق عند مماسة النار, وعليه فمن اعتقد أن شيئا من الأسباب العادية يؤثر بطبعه فلا نزاع في كفره..
7- وجوزوا على الله أن يثيب العاصي , وأن يعذب المطيع.(1/28)
قال الباجوري (228) : حتى لو عذب الله المطيع وأثاب العاصي بأن جعل الطاعة أمارة على العذاب , والمعصية أمارة على الثواب لكان منه حسنا سبحانه…
8- ولا يقبح عند الأشاعرة ترك إرسال الرسل , ولا يجب على الله.
9- وسموا علم الكلام بعلم التوحيد كما في "شرح الجوهرة "(21)
واستدلوا أن وجود الله بدليل الحدوث والنظر العقلي .
" شرح الجوهرة" "(32)
10-وعرفوا المقلد أن يأخذ المكلف بقول غيره من غير أن يعرف دليله والمراد بالأخذ اعتقاد مضمون المأخوذ .
وضرب السنوسي مثلا بجماعة نظروا للهلال فسبق أحدهم لرؤيته فأخبرهم به ؛ فإن صدقوه من غير معاينة كانوا مقلدين , وإن أرشدهم بالعلامة حتى عاينوه لم يكونوا مقلدين .
11- وقد اختلفوا في إيمان المقلد وقد كفره بعضهم
وذكر فيه الخلاف صاحب الجوهرة :
إذ كل من قلد بالتوحيد إيمانه لم يخل من ترديد
ففيه بعض القوم يحكي الخلفا وبعضهم حقق فيه الكشفا
11- وتناقضوا في أول ما يجب على العبد:
أ-الأشعري قال: إنه المعرفة.
ب-أبو إسحق الإسفراييني قال : النظر الموصل للمعرفة.
ج-الباقلاني قال : أول النظر أي المقدمة الأولى منه نحو قولك العالم حادث , وكل حادث لا بد له من محدث ؛ فمجموع المقدمتين هو النظر , والمقدمة الأولى هي أول النظر.
د-إمام الحرمين القصد إلى النظر أي تفريغ القلب عن الشواغل.
ه -التقليد
و-النطق بالشهادتين
ثم قال الباجوري : والأصح أن أول واجب –غاية- المعرفة , وأول واجب- وسيلة قريبة -النظر , وأول واجب -وسيلة بعيدة -القصد إلى النظر, وبهذا يجمع بين الأقوال الثلاثة !.
" شرح الجوهرة "(59)
12- وأثبتوا الإدراكات لله كالشم والذوق .(1/29)
قال الباجوري (121) : الإدراك في حق الحادث هو تصور حقيقة الشيء المدرك , وأما في حقه تعالى على القول به فهو صفه قديمة قائمه بذاته تعالى تسمى الإدراك ؛ قيل إنه يدرك بها كل موجود, وقيل يدرك بها الملموسات كالنعومة والمشمومات كالروائح والمذوقات كالحلاوة من غير اتصال بمحالها التي هي الأجسام , ولا تكيف بكيفيتها لأن الاتصال والتكيف إنما هو عادي في حصول الإدراك وقد ينفك .
وقد صرح بعض المتأخرين بأنها صفة واحدة لكن الواقع في كتب علم الكلام أنها ثلاث صفات إدراك الملموسات وإدراك المشمومات وإدراك المذوقات .
ودليل المثبتين لها كالباقلاني وإمام الحرمين بأنها كمال , وكل كمال واجب لله .
لأنه لو لم يتصف بها لاتصف بضدها وهو نقص, والنقص عليه تعالى محال فوجب أن يتصف بها على ما يليق به من غير اتصال بالأجسام, ومن غير وصول اللذات والآلام له تعالى.
14- وحكموا العقل في صفات الله ونصوص الوحي
وعليه يقول" صاحب الجوهرة" (149)
وكل نص أوهم التشبيها أوّله أو فوض ورم تنزيها
والنصوص المتشابهة في نظر الأشاعرة الاستواء والعلو والوجه والإتيان والمجيء والنزول والصورة وغيرها.
15- وجعلوا التفويض- تفويض المعنى - مذهب السلف
"شرح الجوهرة" (167)
وكذلك الماتريدية خالفوا أهل السنة في جل مسائل العقيدة
1-فمصدر التلقي عند الماتريدية هو العقل دون النقل في معظم أبواب التوحيد , وذلك لأن الأدلة العقلية عندهم قطعية , أما السمعية فإنها ظواهر ظنية .
وقالوا : إن الشرع إنما ثبت بالعقل فلو أتى الشرع بما يكذب العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل ؛ فلذلك قالوا بتقديم العقل على النقل.
2-قال الماتريدية بالتفويض في حق صفات الله تعالى بل صرح أبو منصور الماتريدي إن آيات الصفات كالحروف المقطعة مثل الم المص.
3-استدلوا على وجود الله بطريق أهل الكلام والفلسفة والاعتزال فقالوا الاستدلال على الله دليله الحدوث , وهو أن العالم عندهم جواهر وأعراض .(1/30)
والجواهر لا تنفك عن الأعراض والأعراض حادثة , وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث ؛ فالعالم إذن حادث.
4-التوحيد عندهم لا يتعدى توحيد الربوبية
أما توحيد العبادة أو الألوهية فلا ذكر له عندهم , والتوحيد عندهم الوحدة في الذات ؛ والمراد بها انتفاء الكثرة عن ذات الله تعالى يعني عدم قبولها الانقسام.
والثاني الوحدة في الصفات ؛ والمراد بها انتفاء النظير له في كل صفة من صفاته ,والوحدة هي الأفعال ؛ والمراد بها انفراده تعالى باختراع جميع الكائنات.
4-أول واجب عندهم هو النظر والاستدلال المؤدي إلى المعرفة بالله.
5- أثبتوا ثمان صفات لله فقط , وأولوا وفوضوا بقية الصفات.
6-في مسألة الإيمان وافقوا المرجئة وأخرجوا العمل من مسمى الإيمان , وقالوا بعدم زيادة الإيمان ونقصانه , وغير ذلك من المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة .
عن كتاب "منهج الماتريدية" (51)
ولا بد أن يعلم القارئ الكريم أن الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية في مسائل العقيدة كثير جدا ، وقد تتبعها الشيخ عبد الرحمن دمشقية في "كتاب الرد على الحبشي"(309)
ابن حزم والأشاعرة
وصف المعترض في كاشفه (26) في الحاشية ابن حزم بالجهل بالمذهب الأشعري قال: لتعلم بعد ذلك أن مذهب ابن حزم في العقائد مخالف أشد المخالفة لمذهب ابن تيمية , وهو قريب من مذهب الأشاعرة في باب التنزيه , وأما ذم ابن حزم لمذهب الأشاعرة في العديد من المواضع ؛ فهو راجع إلى جهله بحقيقة مذهبهم ولو عرفه لما خالفه.
وللرد على كلامه هذا نقول:
1-إن ابن حزم رحمه الله من أعلم الناس بالملل والنحل, وقد صنف كتاباً في ذلك , ولا يشك أنه اطلع على كتب الأشاعرة.
2-إن ابن حزم أكثر من الرد على علماء الأشاعرة حتى على الأشعري نفسه في مسائل عدة , وعلى الباقلاني , وابن فورك , وابن كلاب شيخ الأشعري, وعلى السمناني .
وقد حكم بكفر طائفة من علمائهم على مسائل عدة.(1/31)
3-رد عليهم في باب كلام الله , وإعجاز القرآن والكلام في القدر ,والإيمان ,والشك ,وطبائع الأشياء , والأسباب , وعلى الأحوال عند الأشعري .
وعلى قولهم أن العرض لا يبقى زمانين , وفي مسألة خبر الواحد, وفي الشفاعة , وفي انحرافهم في أسماء الله .
فهل يقال بعد ذلك أن ابن حزم لم يطلع على مذهب الأشاعرة , وأصوله ,وكتب أتباعه.
انظر كتاب " موقف ابن حزم من المذهب الأشعري" للشيخ عبد الرحمن دمشقية
4-قال شيخ الإسلام عن أبي محمد ابن حزم- رحمه لله -
و كذلك أبو محمد ابن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء , ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة .
وكذلك ما ذكره في باب الصفات ؛ فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة , ويعظم السلف وأئمة الحديث , ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها , ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك لكن الأشعري , ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل, ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات , وإن كان أبو محمد ابن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوى من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى .
"مجموع الفتاوى" (4/18)
طرق المعرفة
زعم المعترض في كاشفه (39) أن شيخ الإسلام أبطل كل الأدلة العقلية التي اعتمد عليها العلماء من سائر الفرق في إثبات وجود الله ؛ فلايوجد دليل عقلي عند ابن تيمية على وجود الله -كذا قال -
قلت: وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
1-قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :(1/32)
ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال, وأنهم ينكرون حجة العقل, وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة , وهذا مما ينكرونه عليهم .
فيقال لهم: ليس هذا بحق ؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن هذا أصل متفق عليه بينهم ,والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية , ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة , ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك , ولكن وقع اشتراك في لفظ -النظر والاستدلال - ولفظ الكلام ؛ فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم ؛ فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال, وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه أصول الدين , وهذا اسم عظيم والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم .
فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك .
قال المبطل : قد أنكروا أصول الدين , وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين , وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين ,وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان .
فالدين ما شرعه الله ورسوله ,وقد بين أصوله وفروعه , ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع فهكذا لفظ النظر والاعتبار والاستدلال إلى أن قال رحمه الله:
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارض الحديث لا سيما في أخبار الصفات حمل الحديث على عقله , وصرح بتقديمه على الحديث , وجعل عقله ميزاناً للحديث فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحاً بتقديمه في الشريعة المحمدية فيكون من السبيل المأمور باتباعه أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله
"مجموع الفتاوى" (4/55)(1/33)
وقال كذلك رحمه الله : أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة ثم بعد أن قرر ذلك .
قال : وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديماً لكان إما واجباً بنفسه , وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره , والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه , وإنما واجباً بغيره فيكون المقتضى له موجباً بذاته .... .
"منهاج السنة" (2|270)
2-لا بد أن يعلم القاريء الكريم أن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل , وقدصرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي , وشراح الجوهرة , وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض بل إن من المعاصرين منهم ومن هؤلاء السابقين من صرح أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر , وبعضهم خففها فقال : هو أصل الضلالة . نعوذ بالله من الكفر والضلال .
"عقيدة الأشاعرة" (32)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أول كتابه "درء تعارض العقل والنقل " :
قول القائل -المقولة للرازي - إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات ؛ فإما أن يجمع بينهما, وهو محال لأنه جمع بين النقيضين , وإما أن يردها جميعا, وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل ؛ فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه , فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعا فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض .(1/34)
قال شيخ الإسلام : وهذا الكلام جعله الرازي وأتباعه قانونا كليا فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام وما لا يستدل به , ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله , وغير ذلك من الأمور التي أنبئوا بها , وظن هؤلاء أن العقل يعارضها .
"درء التعارض" (1|7)
وقال السنوسي في "شرح الكبرى"
: وأما من زعم أن الطريق إلى معرفة الحق هو الكتاب والسنة , ويحرم ما سواهما فالرد عليه أن حجتهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي , وأيضا فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع .
ويقول أيضا : أصول الكفر ستة فذكر خمسة .
ثم قال سادسا : التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية !
3- صرح متكلموهم –الرازي - أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة , ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض منها الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز ..إلخ
وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي بل قالوا : من احتمال المعارض العقلي !.
"عقيدة الأشاعرة" (35)
4- إن الأشاعرة جعلوا دليل الحدوث والقدم هو الاستدلال على وجود الله بأن الكون حادث , وكل حادث فلا بد له من محدث قديم , وأخص صفات هذا القديم مخالفته للحوادث , وعدم حلولها فيه, ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً ولا في جهة ولا في مكان إلخ
ثم أطالوا جدا في تقرير هذه القضايا.
"عقيدة الأشاعرة " (37)
5- قال ابن حجر في "الفتح" (3/361) شارحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن : فليكن أو ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك…(1/35)
وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين , واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال , ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي , واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر , وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك ؛ وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض فيكون أول واجب جزأ من النظر , وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب , وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أول واجب القصد إلى النظر...([FONT='Times New Roman','serif'][18])[/font]
وقد ذكرت في كتاب الإيمان من أعرض عن هذا من أصله , وتمسك بقوله تعالى :{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وحديث : كل مولود يولد على الفطرة .
فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل القطرة , وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه الصلاة والسلام ؛ فأبواه يهودانه وينصرانه .
وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا , وقال : إن المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة , وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه , وأنه لا يكفي التقليد في ذلك .
ونقل كذلك عن القرطبي صاحب المفهم كما في "الفتح" (13/363) : ولو لم يكن في الكلام إلا مسئلتان هما من مبادئه لكان حقيقاً بالذم :
أحدهما: قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر...
ثانيتها: قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه .
قلت : وهم مع ذلك متناقضون في أول ما يجب كما تقدم .
6-إن شيخ الإسلام أنكر الطرق المبتدعة التي سلكها المتكلمون , ومن تبعهم في إثبات وجود الله بالعقل.(1/36)
قال رحمه الله : وأصل منشأ نزاع المسلمين في هذا الباب أن المتكلمين من الجهمية والمعتزلة , ومن اتبعهم سلكوا في إثبات حدوث العالم , وإثبات الصانع طريقاً مبتدعة في الشرع مضطربة في العقل , وأوجبوها , وزعموا أنه لا يمكن معرفة الصانع إلا بها .
وتلك الطريق فيها مقدمات مجملة لها نتائج مجملة فغلط كثير من سالكيها في مقصود الشارع , ومقتضى العقل فلم يفهموا ما جاءت به النصوص النبوية , ولم يحرروا ما اقتضته الدلائل العقلية ؛وذلك أنهم قالوا لا يمكن معرفة الصانع إلا بإثبات حدوث العالم , ولا يمكن إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام.
"مجموع الفتاوى" (12/213)
و قال رحمه الله : فإن قيل إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتاً في كل فطرة ؛ فكيف ينكر ذلك كثير من النظار –نظار المسلمين وغيرهم – وهم يدعون أنهم يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الألهية !
فيقال أولاً : أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه العرفة –أي الفطرة- هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمهم من الجهمية والقدرية , وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم.
"مجموع الفتاوى" (16/340)
ورحم الله ابن القيم إذ يقول:
فعلى عقولكم العفاء فإنكم عادتتم المعقول والمنقولا
وطلبتم أمرا محالا وهو إدراك الهدى لا تتبعون رسولا
وزعمتم أن العقول كفيلة بالحق أين العقل كان كفيلا
وهو الذي يقضي فينقض حكمه عقل ترون كليهما معقولا
وتراه يجزم بالقضاء وبعد ذا يلفي لديه باطلا معلولا
لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا
كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى تراه بكرة وأصيلا
فإذا الظلام تلاطمت أمواجه وطمعت بالأبصار كنت محيلا
وإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلا
نور النبوة مثل نور الشمس للعين البصيرة فاتخذه دليلا
طرق الهدى مسدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلا
فإذا عدلت عن الطريق تعمدا فاعلم بأنك ما أردت وصولا(1/37)
يا طالبا درك الهدى بالعقل دون النقل لن تلقى لذاك دليلا
كم رام قبلك ذاك من متلدد حيرانعاش مدى الزمان جهولا
ما زالت الشبهات تغزو قلبه حتى تشحط بينهن قتيلا
فتراه بالكلي والجزئي والذاتي طول زمانه مشغولا
فإذا أتاه الوحي لم يأبه له ويقوم بين يدي عداه مثيلا
ويقول تلك أدلة لفظية معزولة عن أن تكون دليلا
وإذا تمر عليه قال لها اذهبي نحو المجسم أو خذي التأويلا
وإذا أبت إلا النزول عليه كان لها القرى التحريف والتبديلا
فيحل بالأعداء ما تلقاه من كيد يكون لحقها تعطيلا
واضرب لهم مثلا بعميان خلوا في ظلمة لا يهتدون سبيلا
فتصادموا بأكفهم وعصيهم ضربا يدير رحى القتال طويلا
حتى إذا ملوا القتال رأيتهم مشجوجا أو مبعوجا أو مقتولا
وتسامع العميان حتى أقبلوا للصلح فازداد الصياح عويلا
"مختصر الصواعق" (1/196)
مسألة قياس الغائب على الشاهد
قال المعترض في كاشفه (44) :"اعلم أن قياس الغائب على الشاهد هو أصل أصيل عند ابن تيمية , وقاعدة أكيدة لا يستطيع أن يستغني عنها الإنسان لا في مجال المخلوقات , ولا في مجال الخالق , ومذهبه في العقائد وهو مذهب التجسيم قائم على هذه القاعدة.... .
أقول مستعينا بالله
1- هذا المعترض يحاول أن يربط بين أي كلام لشيخ الإسلام وبين التجسيم ، كما في هذه المسألة , وفي مسألة الفطرة , وأكثر كتابه يدور على هذه المسألة , ويحاول أن يحشد من كلام شيخ الإسلام ,ويقتطع من كلامه من هذا الكتاب , وهذا الكتاب مدلساً , ومشتتاً القاريء بإلزاماته وتفسيراته.(1/38)
2- بين شيخ الإسلام أن هذه القاعدة غير مطردة فهو يقول رحمه الله : لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقاً وتارة باطلاً , وهو متفق عليه بين العقلاء ؛ فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كل ما لم يحسه مماثلاً لما أحسه إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها , ولم يحس ما يماثلها من كل وجه بل من الأمور الغائبة عن حسه ما لا يعلمه أو ما يعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شاهده , وهذه هو المعقول كما أن الأول هو المسموع والمحسوس ابتداء هو ما يحسه بظاهرة أو باطنه , وهذا بين.
"بيان تلبيس الجهمية " (1|317)
قلت :وهذا الكلام من شيخ الإسلام واضح بين يجلي للقاريء الكريم مقصد شيخ الإسلام من قياس الغائب على الشاهد.
2-قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للطحاوية (105)
" وأما ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور الغائبة فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عاداً ؛ فإن عاداً من جنسهم , والريح من جنس ريحهم , وإن كانت أشد.
وكذلك غرق فرعون في البحر , وكذا بعينه الإخبار عن الأمم الماضية , ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا كما قال تعالى:{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} .
وقد يكون الذي يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ , وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم .(1/39)
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد , ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب أشهدهم إياه , وأشار لهم إليه وفعل قولا يكون حكاية له وشبها به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة فينبغي أن يعرف هذه الدرجات :
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة
وثانيها : عقله لمعانيها الكلية .
وثالثها : تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية
فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب
فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما , وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق كما تقدم في قصص الأمم , وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق بأن يقال ليس ذلك مثل هذا ونحو ذلك .
وإذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك , وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة , ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط.
3-إن في السنة أدلة كثيرة على بيان صحة هذه القاعدة.
أ- عن جرير- رضي الله عنه – قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة - يعني البدر - فقال :" إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " . ثم قرأ { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب }
البخاري في صحيحه (554), ومسلم في صحيحه (633)
ووجه الشاهد تشبيه الرؤية بالرؤية , وهي قياس شاهد على غائب .(1/40)
ب- عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة – رضي الله عنه - يقرأ هذه الآية { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } إلى قوله تعالى { سميعا بصيرا } قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه , والتي تليها على عينه .
قال أبو هريرة : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع إصبعيه . قال ابن يونس قال المقري : يعني إن الله سميع بصير يعني أن لله سمعا وبصرا .
قال أبو داود : وهذا رد على الجهمية .
أبو داود في سننه (4728)
ووجه الشاهد أن النبي صلى الله غليه وسلم أراد تأكيد المعنى , وإثبات صفتي السمع والبصر ,وهي قياس شاهد على غائب .
ج- عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: " يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده - وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها - ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ قال : ويتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
ابن ماجه في سننه (198)
ووجه الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تشبيه القبض والبسط وتأكيده .
د- عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال : إني لأنذركموه وما من نبي إلا أنذره قومه لقد أنذر نوح قومه , ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور , وأن الله ليس بأعور .
البخاري في صحيحه (3057) , ومسلم في صحيحه (169)
ووجه الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد إثبات صفة العينين لله , وأنه سبحانه ليس بأعور , والعور معروف مشاهد من الإنسان , وصفة الله -العين - من الأمور الغائبة التي نؤمن بها بما يليق بجلاله .
توضيح مسألة قياس الأولى(1/41)
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرح كلام شيخ الإسلام في الواسطية
"ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى"
القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قياس شمول وقياس تمثيل وقياس أولوية ؛ فهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه قياس تمثيل ولا قياس شمول.
1-قياس الشمول : هو ما يعرف بالعام الشامل لجميع أفراده بحيث يكون كل فرد منه داخلاً في مسمى ذلك اللفظ, ومعناه ؛ فمثلاً إذا قلنا الحياة فإنه لا تقاس حياة الله تعالى بحياة الخلق من أجل أن الكل يشمله اسم حي .
2-قياس التمثيل : هو أن يلحق الشيء بمثيله فيجعل ما ثبت للخالق مثل ما ثبت للمخلوق .
3- قياس الأولوية : هو أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل , وهذا يقول العلماء إنه مستعمل في حق الله لقوله تعالى : {ولله المثل الأعلى} بمعنى كل صفة كمال فلله تعالى أعلاها والسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة والحكمة , وما أشبهها موجودة في المخلوقات لكن لله أعلاها وأكملها.
ولهذا أحيانا نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس بالأولى ؛ فمثلاً نقول العلو صفة كمال في المخلوق ؛ فإذا كان صفة كمال في المخلوق فهو في الخالق من باب أولى, وهذا دائما نجده في كلام العلماء .
"شرح الواسطية "(1/130)
وقال شيخ الإسلام : " والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع , ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه ؛ فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساوياً له أصلاً بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك ,والعدل بالله , وجعل الند بالله , وجعل غيره له كفوا وسميا , وهم مع هذا كثير والبراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله , وجعل غيره له كفواً ونداً وسمياً كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك .(1/42)
ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة في كتاب" الإيضاح في شرح الصحاح" أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه , وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى , وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكلما ثبت للمخلوق من صفات ؛ فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه , ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى وأحرى أن يكون هو موصوفا به إذ ليس أعطى , وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله لغيره ؛ فإن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة , وكذلك ما كان منتفياً عن المخلوق لكونه نقصاً وعيباً , فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع .
وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل , ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها , وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحق بالتنزيه عنها لأنه عن العدم أبعد من سائر الموجودات .
ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته , وذاته بذاته تنافي العدم , وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته ؛ فإذا أثبت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريق القياسية العقلية التي لله فيها المثل الأعلى كان ذلك اعتباراً صحيحاً , وكذلك إذا نفي عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطريق , ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية .
"بيان تلبيس الجهمية "(1|327)(1/43)
وقال ابن أبي العز الحنفي: ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع , ولا بقاس شمولي يستوي أفراده ؛ فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره , ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها, ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافيها ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى سواء كان تمثيلاً أو شمولاً كما قال تعالى {ولله المثل الأعلى } مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه , وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه ؛ فالواجب القديم أولى به ,وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر ؛ فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره , وهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه , وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات ؛ فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى .
"شرح الطحاوية" (119)
وقال شيخ الإسلام : … والثالثة طريق قياس الأولى وهي الترجيح والتفصيل , وهو أن الكمال إذا ثبت للمحدث الممكن المخلوق فهو للواجب القديم الخالق أولى , والقرآن يستدل بهذه وهذه .
ثم قال : وأما الاستدلال بطريق الأولى فقوله {ولله المثل الأعلى} ومثل قوله { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم }.
وأمثال ذلك مما يدل على أن كل كمال لا نقص فيه يثبت للمحدث المخلوق الممكن فهو للقديم الواجب الخالق أولى من جهة أنه أحق بالكمال لأنه أفضل.
"مجموع الفتاوى"( 16/357)(1/44)
إلا أن هذه القاعدة غير مطردة كما ذكر علماء السنة فالأكل والشرب والنوم مثلا كمال في حق المخلوق نقص في حق الخالق .
" شرح الواسطية للعثيمين "(1|82)
ما نقله المعترض عن شيخ الإسلام في تطبيق هذه القاعدة بقوله : من المعلوم أن الأجسام التي نشاهدها بعضها متحرك وبعضها غير متحرك , ومعلوم أن الأجسام المتحركة أكمل من الأجسام غير المتحركة فالحركة إذن كمال , وكل كمال ثبت للمخلوق ؛ فالخالق أولى به "الكاشف" (60 ) ثم نقل كلاما شوش فيه ودلس .
وفي كلامه من التدليس ما يلي :
1-أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة , ومن نحا نحوهم ينفون عن الله الصفات الفعلية التي أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه كالنزول والاستواء والمجيء والإتيان والكلام بزعمهم أن إثباتها لله تعالى يلزم من ذلك قيام الحوادث به , وذلك يلزم تشبيهه بالمخلوق , ويطلقون على هذه الصفات الفعلية الحركة والحدث تنفيرا للسامع ؛ فإذا قابلهم أهل السنة وتكلموا بألفاظهم هذه التي يشوشون بها , والتي تنفر منها النفوس ألزموا أهل السنة بباطلهم , وقالوا كما زعم هذا المعترض عن شيخ الإسلام أنه يثبت أن الله جسم متحرك مع أن الكلام واضح بين أن شيخ الإسلام يثبت لله تعالى الأفعال الاختيارية التي أثبتها لنفسه , والتي يسميها أهل البدع حركة وحدوث وجسم.
قال ابن القيم رحمه الله في "الصواعق" (2/438) لما ذكر الأسباب التي تحمل النفوس الجاهلة قبول التأويل(1/45)
السبب الثاني : أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله في التأويل في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب , وتنبوا عنها الأسماع فيتخير له من الألفاظ أكرهها وأبعدها وصولا إلى القلوب وأشدها نفرة ؛ فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل فيسمون إثبات صفات الكمال لله تجسيما وتشبيها وتمثيلا ويسمون إثبات الوجه واليدين له تركيبا , ويمسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوه على خلقه فوق سمواته تحيزا وتجسيما ويسمون العرش حيزا..
2-إن أهل السنة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قرروا أن الألفاظ التي لم يرد ذكرها في الكتاب والسنة والتي توهم معنى حقا وباطلا الأصل فيما الاستفصال كلفظ الحركة هنا ؛ فلفظ الحركة لم يرد في الكتاب والسنة فيستفصل عن معناه ؛ فإن أريد به أن الله يتحرك كتحركنا أي كتحرك المحدثات رددنا هذا المعنى الباطل , وإن أريد أن الله يتكلم متى شاء سبحانه , وينزل في الثلث الأخير من الليل , ويجيء , ويأتي يوم القيامة كما أخبر عن نفسه فيقبل هذا المعنى الحق مع التوقف في اللفظ.
3-إن قياس الشاهد على الغائب , وقياس الأولى قد استدل بها بعض علماء الأشاعرة
قال الباجوري شارح الجوهرة ، في بيان دليل وجود الله : -
:" إذا وضعت كتابا على مكتبك ثم خرجت من الحجرة وعدت إليها بعد قليل فرأيت الكتاب الذي تركته على المكتب موضوعاً في الدرج ؛ فإنك تعتقد تماما أن أحداً لا بد قد وضعه في الدرج لأنك تعلم من صفات هذا الكتاب أنه لا ينتقل بنفسه احفظ هذه النقطة , وانتقل معي إلى نقطة أخرى : لو كان معك في حجرة مكتبك شخص جالس على الكرسي ثم خرجت وعدت إلى الحجرة فرأيته جالساً على البساط مثلا ؛ فإنك لا تسأل عن كيفية انتقاله , ولا يخطر لك أن أحداً نقله من موضعه لأنك تعلم من صفات هذا الشخص أنه ينتقل بنفسه , ولا يحتاج إلى من ينقله احفظ هذه النقطة الثانية أيضاً .(1/46)
ثم اسمع ما أقول : إنه لما كانت هذه المخلوقات محدثة , ونحن نعلم من طبائعها وصفاتها أنها لا توجد بذاتها بل لا بد لها من موجد كما سبق وبيناه عرفنا أن موجدها هو الله تبارك وتعالى , ولما كان كمال الألوهية يقتضي عدم احتياج الإله إلى غيره بل إن من صفات قيامه بنفسه ومعناه عدم احتياجه لموجد عرفنا أن الله تعالى موجود بذاته أزلا, وأنه غير محتاج إلى من يوجده ,وإذا وضعت النقطتين السابقتين إلى جانب هذا الكلام اتضح لك هذا الكلام .
"شرح الحوهرة" (34)
4-إن السلف الصالح استعملوا هذه القاعدة
قال الإمام أحمد في "الرد على الزنادقة والجهمية" (47) :
فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته , وضربنا لهم في ذلك مثلاً فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وحجار ؛ واسمها اسم شيء واحد , وسميت نخلة بجميع صفاتها ؛ فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات لا يقدر حتى خلق له قدرة , والذي ليس له قدرة هو عاجز , ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق له علماً فعلم , والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا لا متى ولا كيف , وقد سمى الله رجلاً كافراً اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال : {ذرني ومن خلقت وحيدا} , وقد كان هذا الذي سماه الله وحيداً له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة ؛ فقد سماه الله وحيداً بجميع صفاته فكذلك الله , وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد .(1/47)
وقال رحمه الله (49) : وإنما معنى قول الله جل ثناؤه :{وهو الله في السموات وفي الأرض } يقول : هو إله من في السموات وإله من في الأرض , وهو على العرش وقد أحاط علمه بما دون العرش , ولا يخلو من علم الله مكان ,ولا يكون علم الله في مكان دون مكان فذلك قوله : {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما}.
ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صاف, وفيه شراب صاف كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله , وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه .
وخصلة أخرى: لو أن رجلاً بنى دارا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره , وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار ؛ فالله وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه وعلم كيف هو وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق .(1/48)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : والأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة كالتي تسمى أقيسة منطقية وبراهين عقلية , ونحو ذلك استعمل سلف الأمة وأئمتها منها في حق الله سبحانه وتعالى ما هو الواجب وهو ما يتضمن نفياً وإثباتاً بطريق الأولى لأن الله تعالى وغيره لا يكونان متماثلين في شيء من الأشياء لا في نفي ولا في إثبات بل ما كان من الإثبات الذي ثبت لله تعالى ولغيره؛ فإنه لا يكون إلا حقا متضمنا مدحا وثناء وكمالا , والله أحق به ليس هو فيه مماثلاً لغيره ,وما كان من النفي الذي ينفي عن الله وعن غيره ؛ فإنه لا يكون إلا نفي عيب ونقص , والله سبحانه أحق بنفي العيوب والنقائص عنه من المخلوق فهذه الأقيسة العادلة والطريقة العقلية السلفية الشرعية الكاملة , فأما ما يفعله طوائف من أهل الكلام من إدخال الخالق والمخلوقات تحت قياس أو تمثيل يتساويان فيه ؛ فهذا من الشرك والعدل بالله , وهو من الظلم , وهو ضرب الأمثال لله , وهو من القياس والكلام الذي ذمه السلف وعابوه , ولهذا ظن طوائف من عامة أهل الحديث والفقه والتصوف أنه لا يتكلم في أصول الدين , ولا يتكلم في باب الصفات بالقياس العقلي ,وأن ذلك بدعة , وهو من الكلام الذي ذمه السلف , وكان هذا مما أطمع الأولين فيهم لما رأوهم ممسكين عن هذا كله إما عجزاً أو جهلاً .
وإما لاعتقاد أن ذلك بدعة وليس من الدين وقال لهم الأولون : ردكم أيضاً علينا بدعة ؛ فإن السلف والأئمة لم يردوا مثل ما رددتم , وصار أولئك يقولون عن هؤلاء إنهم ينكرون العقليات , وأنهم لا يقولون بالمعقول , واتفق أولئك المتكلمون مع طوائف من المشركين والصابئين والمجوس وغيرهم من الفلاسفة الروم والهند والفرس وغيرهم على ما جعلوه معقولاً يقيسون فيه الحق تارة والباطل أخرى , وحصل من هؤلاء تفريط وعدوان , ومن هؤلاء تفريط وعدوان أوجب تفرقاً واختلافاً بين الأمة ليس هذا موضعه .(1/49)
ودين الإسلام هو الوسط وهو الحق والعدل وهو متضمن لما يستحق أن يكون معقولاً ولما ينبغي عقله وعلمه ومنزه عن الجهل والضلال والعجز وغير ذلك مما دخل فيه أهل الانحراف فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى , وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها , وتوعد على ذلك بالعقاب كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه .
وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام, وهي مما فطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة ؛ فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الرب عنه لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات , ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة , وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير ؛ فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له وينزه عن النجاسة كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة أعظم وأكثر للعلم بأن الرب أحق بالتنزيه عن كل ما ينزه عن غيره .
"بيان تلبيس الجهمية " (2|536)
الرد على شبهة الحس والإحساس
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين :
1-هل يمكن أن يدرك الله بالحواس , ويقصد بذلك أن الله يُرى ويُسمع كلامه والذي حاول المعترض زوراً وبهتاناً إلزام شيخ الإسلام بالشم والذوق بالتضليل والتلبيس.
2-هل توصف ذات الله بالإدراكات أي هل نثبت لله بما يسمى في حق المخلوق حواساً كالسمع والبصر اليد , وهو ما جاء في الكتاب والسنة والتي عبر عنها أهل الكلام بالحواس.
والجواب على ذلك من وجوه
المسألة الأولى:(1/50)
1-إن الكذب مجانب الإيمان, وهذا المعترض لا يتورع من الكذب فهو يتهم شيخ الإسلام أنه يقول : يمكن أن يحس بالله بسائر الحواس الخمس السمع والبصر واللمس والشم والذوق هذا هو الأصل كذا قال ص (51) - عامله الله بما يستحق- .
2-هذه الألفاظ كالجسم والحس واللمس والجوهر والعرض والحد والحيز ومثل هذه الألفاظ , والتي اضطر أهل السنة للتكلم فيها , والخوض في معانيها بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سبب اضطرار أهل السنة للتكلم بهذه الألفاظ والمصطلحات التي هي مصطلحات أهل البدع من أهل الكلام .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة فالمخاطب لهم إما أن يفصل , ويقول ما تريدون بهذه الألفاظ ؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت , وإن فسروها بخلاف ذلك ردت , وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا ؛ فإن امتنع عن التكلم معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع .
وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا , وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها .
"درء تعارض العقل والنقل" (1/133)
وقال ابن القيم رحمه الله لما ذكر الأسباب التي تحمل النفوس الجاهلة قبول التأويل
السبب الثاني : أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب, وتنبوا عنها الأسماع ؛ فيتخير له من الألفاظ أكرهها وأبعدها وصولا إلى القلوب وأشدها نفرة؛ فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل؛ فيسمون إثبات صفات الكمال لله تجسيماً وتشبيهاً وتمثيلاً ويسمون إثبات الوجه واليدين له تركيباً , ويسمون إثبات استوائه على عرشه , وعلوه على خلقه فوق سمواته تحيزا .
"الصواعق" (2/438)
قلت ومن ذلك لفظ الحس والحواس التي دندن حولها هذا المعترض.(1/51)
2-الأصل في هذه الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة على قاعدة أهل السنة أنها لا ترد ولا تثبت حتى يستفصل عن معناها ؛ فإن أريد بها معنى حقا قبلت مع التوقف في اللفظ , وإن أريد معنى باطلاً رد اللفظ والمعنى.
3- سياق كلام شيخ الإسلام في مسألة هي يدرك الله بالحواس كما جاء في الفتاوى الكبرى(5/31) في كتابه المسمى بالتسعينية والتي رد فيها على الأشاعرة , ومن نحا نحوهم ممن يقول بالكلام النفسي لما تحدث عن سبب ضلال جهم كما نقل عن الإمام أحمد -رحمه الله -
" الرد على الزنادقة والجهمية" (23)
قال: فكان مما بلغنا من أمر جهم عدو الله أنه كان من أهل خورسان من أهل ترمذ , وكان صاحب خصومات وكلام , وكان أكثر كلامه في الله تبارك و تعالى فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم .
فقالوا له : نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا, وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟
قال الجهم : نعم
فقالوا له: فهل رأيت إلهك ؟
قال: لا
فقالوا له : هل سمعت كلامه؟
قال: لا
قالوا :فشممت له رائحة ؟
قال : لا
قالوا : فوجدت له حسا ؟
قال: لا
قالوا : فوجدت له مجسما ؟
قال : لا
قالوا: فما يدريك أنه إله ؟ قال : فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً.
ثم استدرك حجة من جنس حجة الزنادقة من النصارى .
وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هي من روح الله من ذات الله , وإذا أراد الله أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه ؛ فتكلم على لسان بعض خلقه فيأمر بما شاء وينهى عن ما شاء, وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة
فقال للسمني : ألست تزعم أن فيك روحا.
فقال :نعم
قال : فهل رأيت روحك ؟
قال : لا
قال : فسمعت كلامه ؟
قال :لا
قال : فوجدت له حسا ؟
قال : لا(1/52)
قال : فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة , وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان .
قال : ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله{ ليس كمثله شيء} {وهو الله في السموات وفي الأرض} {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}
فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات , وتأول القرآن على غير تأويله , وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وزعم أن من وصف من الله شيئا مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا .
وكان من المشبهة وأضل بشراً كثيراً, وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة , ووضع دين الجهمية .
وهكذا وصف العلماء حال جهم كما قال أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري في كتاب السنة والجماعة من تأليفه .
"الفتاوى الكبرى" (5/32)
ثم قال شيخ الإسلام بعد ذلك :
" والجواب الذي أجاب به مبتدعة الصابئين , ومن اتبعهم من مبتدعة هذه الأمة باطل , وذلك أن قول القائل ما لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره أو أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما أحس به العباد في الجملة أو بما يمكن الإحساس به في الجملة ؛ فإن كان أرادوا الأول وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات حيث ذكروا السمنية أنهم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات فينكرون المتواترات والمجربات والضروريات العقلية وغير ذلك إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن جمع من العقلاء في مدينة أو قرية , وما ذكره من مناظرة الجهم لهم يدل على أقرارهم بغير ذلك .
وذلك أن حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير أخبارها وفي الأعمال أيضا .(1/53)
فالرجل منهم لا بد أن يقر أنه مولود ,وأن له أبا وطيء أمه وأماً ولدته , وهو لم يحس بشيء من ذلك من حواسه الخمس بل أخبر بذلك , ووجد في قلبه ميلا إلى ما أخبر به
وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام والأخوال والأجداد وغير ذلك , وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا .
وكذلك لا ينكر أحد من بني آدم أنه ولد صغيراً , وأنه ربي بالتغذية والحضانة , ونحو ذلك حتى كبر , وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تمييزه بل لا يذكر طائفة من بني آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم وشبعه ولذته وألمه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وغير ذلك مما لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة .
بل يعلمون أن غيرهم من بني آدم يصيبهم ذلك , وذلك مما لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة , وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما كان في غير مدينتهم من المدائن والسير والمتاجر وغير ذلك مما هم متفقون على الإقرار به , وهم مضطرون إلى ذلك , وكذلك لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناؤون , والطبيخ الذي يأكلونه طبخه الطباخون , والثياب المنسوجة التي يلبسها نسجها النساجون , وإن كان ما يقرون به من ذلك لم يحسه أحدهم بشيء من حواسه الخمس .
وهذا باب واسع فمن قال : إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور فقد قال الباطل .
ثم قال -رحمه الله - بعد ذلك :
" والسمنية الذين ناظروا الجهم قد غالطوا الجهم , ولبسوا عليه في الجدال حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقر به , وكأن الأصل أن ما لا يتصور الإحساس به لا يقر به فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم ما لا يحسه الإنسان لا يقر به .
هل المراد به هذا أو هذا ؟
فإن أراد أولئك المعنى الأول أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة , وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك.
وإن أرادوا المعنى الثاني ؛ وهو أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به؛ فهذا لا يضر تسليمه لهم بل يسلم لهم يقال لهم ؛ فإن الله تعالى تمكن رؤيته ويسمع كلامه .(1/54)
بل قد سمع بعض البشر كلامه وهو موسى عليه السلام, وسوف يراه عباده في الآخرة وليس من شرط كون الشيء موجوداً أن يحس به كل أحد في كل وقت أو أن يمكن إحساس كل أحد به في كل وقت ؛ فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك .
بل متى كان الإحساس به ممكناً ولو لبعض الناس في بعض الأوقات صح القول بأنه يمكن الإحساس به , وقد قال تعالى {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء}
وهذا هو الأصل الذي ضل به جهم وشيعته حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يرى ولا يحس به بشيء من الحواس كما أجاب إمامهم الأول السمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه .
ولهذا كان : أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم على نقض هذا الأصل الذي بناه الجهمية ,وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة من أن الله يرى ويسمع كلامه وغير ذلك وأثبتوا أيضا بالمقاييس العقلية أن الرؤيا يجوز تعلقها بكل موجود ؛ فيصح إحساس كل موجود ؛ فما لا يمكن إحساسه يكون معدوما , ومنهم من طرد ذلك في اللمس , ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من متكلمة الصفاتية الأشعرية وغيرهم .
"الفتاوى المصرية" (5/36)
قارن بهذا السياق الطويل الذي سقته من كلام شيخ الإسلام , وبين اقتطاعه كلام شيخ الإسلام وتشويش القاريء والتلبيس عليه , ووضع اللوازم الباطلة لكلام شيخ الإسلام والتفسيرات المنفرة التي توقع القاريء في المتاهات .
- شيخ الإسلام أورد هذا الكلام وتكلم بمصطلحات القوم في مسألة الحواس, وقرر رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يرى في الآخرة , وأنه يسمع كلامه كما مر معنا تقريره .
- حاول أن يلصق المعترض بابن تيمية رحمه الله مسألة أنه يمكن أن يحس الله باللمس والذوق والشم مع أن شيخ الإسلام ليس كلامه موضع تقرير لمذهب أهل السنة , وإنما هو ناقل لأقوال الطوائف والفرق.(1/55)
وإليك تعليق هذا المعترض الذي نسأل الله أن يعامله بما يستحق عند قول شيخ الإسلام ومنهم من طرد ذاك في اللمس .
قال : من أهل الإثبات أي المجسمة من قال : إن الله يلمس ويُلمس إن الله يلمسنا ونحن نلمسه فاستمع واستمع , وهذا القول هو الذي يقول به ابن تيمية كما سوف يظهر لك من خلال مباحث هذا الكتاب ثم قال: ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من متكلمة الصفاتية الأشعرية وغيرهم
"الكاشف"( 70)
ثم قال المعترض : أما نسبته هذا القول إلى طائفة من الأشعرية فهي كذب عليهم..
قلت: وفي كلامه كذب ظاهر فأين التزم شيخ الإسلام رحمه الله بالمس وأين قرره في مسألة الذوق والشم .
وأما تكذيبه نسبة ذلك إلى الأشاعرة فهذا من جهله أو تجاهله بمذهبه
قال الباجوري (122) ناقلاً الخلاف بين علماء الأشاعرة هل يدرك الله ؟
"وقد اختلف أيضا في كونه مُدركا أولا تبعاً للاختلاف في الإدراك " !
المسألة الثانية
هل يوصف الله بالإدراكات الخمس ؟
هذه المسألة شبيهة بالمسألة الأولى فلفظ الحواس لفظ مجمل الأصل أن يستفصل عن معناه , وقرر رحمه الله إثبات السمع والبصر التي ورد في إثباتها الكتاب والسنة ولم يلتزم غير ذلك.
قال رحمه الله كما في "مجموع الرسائل والمسائل " (2/237)
وأما قول القائل: أنه لو قيل لهم أيما أكمل ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات من الذوق والشم واللمس أم ذات لا توصف بها لقالوا .
الأول : أكمل ولم يصفوه بها .
فتقول : مثبتة الصفات لهم في هذه الإدراكات ثلاثة أقوال معروفة :
أحدها : إثبات هذه الإدراكات لله تعالى كما يوصف بالسمع والبصر , وهذا قول القاضي أبي بكر وأبي المعالي , وأظنه قول الأشعري نفسه بل هو قول المعتزلة البصريين الذي يصفونه بالإدراكات , وهؤلاء وغيرهم يقولون تتعلق به الإدراكات الخمسة أيضا كما تتعلق به الرؤية , وقد وافقهم على ذلك القاضي أبو يعلى في المعتمد وغيره.(1/56)
والقول الثاني : قول من ينفي هذه الثلاثة كما ينفي ذلك كثير من المثبتة أيضاً من الصفاتية وغيرهم .وهذا قول طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد , وكثير من أصحاب الأشعري وغيره .
والقول الثالث : إثبات إدراك اللمس دون إدراك الذوق لأن الذوق إنما يكون بالمطعوم فلا يتصف به إلا من يأكل , ولا يوصف به إلا ما يؤكل.
والله سبحانه منزه عن الأكل بخلاف اللمس ؛ فإنه بمنزلة الرؤية .
وأكثر أهل الحديث يصفونه باللمس , وكذلك كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولا يصفونه بالذوق .
وذلك أن نفاة الصفات من المعتزلة قالوا للمثبتة: إذا قلتم أنه يُرى فقولوا إنه يتعلق به سائر أنواع الحس , وإذا قلتم إنه سميع بصير؛ فصفوه بالإدراكات الخمسة .
فقال أهل الإثبات قاطبة : نحن نصفه بأنه يُرى وأنه يُسمع كلامه كما جاءت بذلك النصوص , وكذلك نصفه بأنه يسمع ويرى .
وقال جمهور أهل الحديث والسنة نصفه أيضا بإدراك اللمس لأن ذلك كمال لا نقص فيه , وقد دلت عليها النصوص بخلاف إدراك الذوق ؛ فإنه مستلزم للأكل, وذلك مستلزم للنقص كما تقدم .
قلت : فمن هذا النص الذي قدمناه يتبن لك
1- إن شيخ الإسلام يثبت لله تعالى السمع والبصر , ولم يلتزم ذلك في الشم والذوق .
2-وردت بعض الأحاديث والآثار التي تثبت صفة المس لله , وهذه الصفة ليست بأعجب من باقي الصفات لأننا نثبت لله صفات الكمال من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف وإليك الدليل :
أ- عن ابن عباس قال لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول من جحد آدم إن الله تعالى لما خلقه مسح ظهره ؛ فأخرج منه ما هو من ذراري إلى يوم القيامة فعرضهم عليه
أحمد في"مسنده "(1|251) , وإسناده حسن لغيره
كتاب" السنة" لابن أبي عاصم (90)
على خلاف بين العلماء بين تصحيحه وتضعيفه .(1/57)
ب-عن حكيم بن جابر قال : أخبرت أن ربكم عز وجل لم يمس بيده إلا ثلاثة أشياء غرس الجنة بيده , وخلق آدم بيده , وكتب التوراة بيده .
وإسناده صحيح كما ذكر الذهبي في كتابه "إثبات اليد" (21) و شيخنا في "مختصر العلو" (130)
ج-عن خالد بن معدان قال : إن الله عز وجل لم يمس بيده إلا آدم صلوات الله عليه خلقه بيده , والجنة , والتوراة كتبها بيده .
"السنة" (1|297) لعبد الله
وصح كذلك عن ميسرة والآثار في ذلك كثيرة .
3- إن الأشاعرة أثبتوا الإدراكات لله
قال الباجوري في "شرح الجوهرة" (121) : " والإدراك في حق الحادث هو تصور حقيقة الشيء المدرك , وأما في حقه تعالى على القول به فهو صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تسمى الإدراك .
قيل : إنه يدرك بها كل موجود.
وقيل : يدرك بها الملموسات كالنعومة , والمشمومات كالروائح , والمذوقات كالحلاوة من غير اتصال بمحالها التي هي الأجسام , ولا تكيف بكيفيتها لأن الاتصال , والتكيف إنما هو عادي في حصول الإدراك وقد ينفك .
وقد صرح بعض المتأخرين بأنها صفة واحدة لكن الواقع في كتب علم الكلام أنها ثلاث صفات إدراك الملموسات , وإدراك المشمومات , وإدراك المذوقات , ودليل المثبتين لها كالباقلاني وإمام الحرمين بأنها كمال , وكل كمال واجب لله .
لأنه لو لم يتصف بها لا تصف بضدها , وهو نقص , والنقص عليه تعالى محال ؛ فوجب أن يتصف بها على ما يليق به من غير اتصال بالأجسام ومن غير وصول اللذات , والآلام له تعالى.
فما رأي هذا المعترض بهذا الكلام عن أرباب علماء الأشاعرة([FONT='Times New Roman','serif'][19]) ؟![/font]
مبحث الفطرة
كما قلنا سابقا أن المعترض يحاول أن يربط بين التجسيم , وأي كلمة من كلام شيخ الإسلام، فهو لينفي صفة العلو لله تعالى يدعي أن تفسير ابن تيمية -رحمه الله - لمعنى الفطرة من حديث : كل مولود يولد على الفطرة : أنها الإسلام أنه باب يتخذه شيخ الإسلام للدخول فيه لإثبات الجسمية لله تعالى.(1/58)
قال المعترض (85) : وابن تيمية كما تراه يحاول بكل قواه أن يدلل على أن الفطرة هي الإسلام , وذلك ليتخذ كل ما يسميه بالفطرة دليلاً على ما يريد من عقائد التجسيم فيقول مثلاً إن الإنسان بفطرته يعتقد أن الله فوق الخلق مريداً إثبات الجهة لله تعالى ... ثم قال : وهكذا فتصبح الفطرة في يديه سلاحاً للتجسيم 000
وللرد على هذه الفرية
أقول مستعينا بالله:
1-إن أول من عرف عنه إنكار المعرفة بالفطرة هم أهل الكلام الذين اتفق السلف على ذمهم من الجهمية والقدرية , وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم .
"مجموع الفتاوى" ( 16/340)
وهو كذلك قول المعتزلة
"بيان تلبيس الجهمية" (2|473)
2-إن تفسير شيخ الإسلام بأن الفطرة الإسلام والتوحيد مسبوقاً بكلام من سبقه من أهل العلم , وهو ليس ببدع من القول , وعليه تدل الأدلة الكثيرة من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبد البر مبيناً اختلاف العلماء في معنى الفطرة :
" الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلف العلماء فيها واضطربوا في معناها وذهبوا في ذلك مذاهب متباينة, , ونزعت كل فرقة منهم في ذلك بظاهر آية ونص وسنة , وسنبين ذلك كله ونوضحه :
فقالت جماعة من أهل الفقه والنظر : أريد بالفطرة المذكورة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه ... إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقها إلى معرفة ذلك
واحتجوا.. ..
قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها.
وقال آخرون : الفطرة ها هنا الإسلام قالوا : وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل قد أجمعوا في قول الله عز وجل : { فطرة الله التي فطر الناس عليها}
على أن قالوا فطرة الله دين الله الإسلام واحتجوا..
وقال آخرون معنى قوله عليه السلام : كل مولود يولد على الفطرة(1/59)
يعني على البدأة التي ابتدأهم للحياة والموت والشقاء والسعادة , وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من ميولهم عن آبائهم واعتقادهم, وذلك ما فطرهم الله عليه مما لا بد من مصيرهم إليه .
قالوا: والفطرة في كلام العرب البدأة والفاطر المبديء والمبتديء ؛ فكأنه قال صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة مما يصير إليه .
وقال آخرون : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة . أن الله قد فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان.
وقال آخرون : معنى الفطرة المذكورة في المولودين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم ألست بربكم قالوا: بلى…
وقال آخرون : الفطرة ما يقلب الله قلوب الخلق إليه مما يريد ويشاء فقد يكفر العبد ثم يؤمن فيموت مؤمنا , وقد يؤمن ثم يكفر فيموت كافرا , وقد يكفر ثم لا يزال على كفره حتى يموت عليه.
"التمهيد" ( 18/93)
فأنت ترى مما قدمناه أن المسألة خلافية , وأكثر السلف على ما قرره شيخ الإسلام.
3-تعقب شيخ الإسلام ابن عبد البر في ترجيحه للفطرة بما رجحه النظار , وبين أن الصواب قول السلف في تعريف الفطرة بالإسلام
واستدل رحمه الله بالحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه : إني خلقت عبادي حنفاء " .
مسلم في" صحيحه" (2865)
والحنيف هو المسلم كما رجح ذلك ابن عبد البر نفسه ذلك في " التمهيد" (18/75).
قال شيخ الإسلام في كتابة "درء التعارض " (2|24): وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كل مولود يولد على الفطرة , وقوله فيما يرويه عن ربه : خلقت عبادي حنفاء , ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط ؛ بل إقرار تبعه عبودية الله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له , وهذا هو الحنيفية , وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه بالخالق , وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا .(1/60)
وانظر كذلك "مجموع الفتاوى" (4/245)
وقال ابن القيم- رحمه الله- :
والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين هما أصل السعادة
أحدهما : أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة , فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم , وشبّه ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها , وثبت عنه أنه قال: يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم , وحرمت عليهم ما أحللت لهم , وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ؛ فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئا ,ولم تشرك به, ولم تجحد كمال ربوبيته وكان أحب شيء إليها , وأطوع شيء لها, وآثر شيء عندها ولكن يعدها من يقترن بها من شياطين الجن والإنس بتزيينه وإغوائه حتى ينغمس موجبها وحكمها .
الأمر الثاني : أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة , ومكنهم من أسبابها , وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل , وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه ففي كل نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له , وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصل بها إلى سعادة الآخرة .
"شفاء العليل" (1|173)
قلت : وإلى هذا جنح الإمام أحمد و البخاري وعامة السلف ورجحه ابن حجر وغيره من العلماء
قال البخاري : قال ابن شهاب يصلى على كل مولود متوفى , وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام .
"صحيح البخاري" رقم (1358)
وقال البخاري أيضا : والفطرة الإسلام
"كتاب التفسير. باب لا تبديل لخلق الله "
ونقل ابن حجر -رحمه الله - عن محمد بن نصر المروزي : أن آخر قولي الإمام أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام .
وقال ابن حجر :
وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر : وهو المعروف عند عامة السلف.(1/61)
وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } الإسلام
واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب : اقرؤوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها } .
وبحديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم . الحديث .
وقد رواه غيره فزاد فيه : حنفاء مسلمين , ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى :{ فطرة الله } لأنها إضافة مدح , وقد أمر نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام .
وقال ابن جرير : قوله : {فأقم وجهك للدين} أي سدد لطاعته حنيفاً أي مستقيماً فطرة الله- أي صبغة الله - وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول أو منصوب بفعل مقدر أي الزم , وقد سبق قبل أبواب قول الزهري في الصلاة على المولود من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام , وسيأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإسلام , وقد قال أحمد : من مات أبواه , وهما كافران حكم بإسلامه , واستدل بحديث الباب ؛ فدل على أنه فسر الفطرة بالإسلام .
"الفتح" (3|292)
وقال ابن حجر :قال ابن القيم : وقد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه ؛ فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم .
وروى أبو داود عن حماد بن سلمة أنه قال : المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد حيث قال :{ ألست بربكم قالوا بلى} , ونقله ابن عبد البر عن الأوزاعي , وعن سحنون , ونقله أبو يعلى بن الفراء عن إحدى الروايتين عن أحمد , وهو ما حكاه الميموني عنه وذكره ابن بطة ...
قال الطيبي : ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقوي ما أوله حماد بن سلمة من أوجه أحدها: أن التعريف في قوله على الفطرة إشارة إلى معهود , وهو قوله تعالى {فطرة الله }ومعنى المأمور في قوله {فأقم وجهك} أي : اثبت على العهد القديم .(1/62)
ثانيها : ورود الرواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله للدين حنيفا هو عين الملة قال تعالى:{ دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} , ويؤيده حديث عياض المتقدم .
ثالثها: التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال : والمراد تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة , والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها , ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس , وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى .
وإلى هذا مال القرطبي في "المفهم "
فقال:" المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ؛ فما دامت باقية على ذلك القبول , وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق , وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث حيث قال : كما تنتج البهيمة يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة ؛ فلو ترك كذلك كان بريئاً من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً ؛ فخرج عن الأصل , وهو تشبيه واقع ووجهه واضح , والله أعلم .
"الفتح" (3|293)
وانظر تفسير ابن جرير الطبري (10/183) فقد نقل عن عدة من السلف في تفسير الفطرة بالإسلام
وقال ابن كثير رحمه الله (3/416) عند قوله تعالى : {فطرة الله التي فطر الناس عليها } : فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها, وكملها لك غاية الكمال وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها , فإنه تعالى فطر خلقا على معرفته وتوحيده , وأنه لا إله إلا هو كما تقدم عند قوله تعالى :{وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى }.
ثم قال رحمه الله بعد كلام : والفطرة الإسلام .
- أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الإشكال الذي ذكره ابن عبد البر في تفسير الفطرة بالإسلام .
"التمهيد" (18/77)
قال رحمه الله :(1/63)
" ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل ؛ فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا , ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق الذي هو الإسلام بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلما , وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع هي فطرة الله التي فطر الناس عليها .
"مجموع ا لفتاوى" (4/247)
وقال ابن القيم - رحمه الله- : ليس المراد بقوله يولد على الفطرة أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول :{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} , ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته ؛ فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة , وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلا بحيث يخرجان الفطرة عن القبول , وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلي ؛ وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف , ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا .والله أعلم
"الفتح" (3|293)
4-إن الفطرة قطعاً دلت على علو الله تعالى علو ذات وعلو قهر وعلو منزلة سبحانه وتعالى , وعلى ذلك مذهب الأشعري وشيخه ابن كلاب .
قال ابن القيم رحمه الله:(1/64)
الطريق الثاني : أن يقال علوه سبحانه على العالم , وأنه فوق السماوات كلها , وأنه فوق عرشه أمر مستقر في فطر العباد معلوم لهم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم إقراراً بذلك , وتصديقاً من غير تواطؤ منهم على ذلك ولا تشاعر , وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون ذلك بالضرورة , وجميع الطوائف تنكر قول المعطلة إلا من تلقاه منهم , وأما العامة من جميع الأمم ففطرهم جميعهم مقرة بأن الله فوق العالم , وإذا قيل لهم لا داخل العالم , ولا خارجه , ولا فوقه , ولا تحته , ولا مباين لهو , ولا محايث , ولا يصعد إليه شيء , ولا ينزل منه شيء , ولا يقرب إليه شيء, ولا يقرب هو من شيء , ولا يحجب العباد عنه حجاب منفصل , ولا ترفع إليه الأيدي , ولا تتوجه إليه القلوب نحو العلو أنكرت فطرهم ذلك غاية الإنكار ودفعته غاية الدفع .
قال أبو الحسن الأشعري في كتبه : ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات ؛ فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو السماء كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض .
هذا لفظه في أجل كتبه وأكبرها وهو الموجز , وفي أشهرها وهو الإبانة التي اعتمد عليها أبصر الناس له , وأعظمهم ذبا عنه من أهل الحديث أبو القاسم ابن عساكر؛ فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله من أعظم مناقبه في كتاب "تبيين كذب المفتري " ثم قال في كتابه : ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون يا ساكن العرش ويقولون : لا والذي احتجب بسبع سماوات .(1/65)
وقال أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب في كتاب الصفات , وقد ذكر مسألة الاستواء ... قال : ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي ؛ كيف وقد غرس في بنية الفطرة , ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه , ولا أوكد لأنك لا تسأل أحدا عنه عربياً ولا عجمياً ولا مؤمناً ولا كافراً فتقول أين ربك ؟ إلا قال : في السماء إن أفصح أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل , ولا رأينا أحدا داعيا إلا رافعا يديه إلى السماء .
وقال ابن عبدالبر إمام أهل السنة ببلاد المغرب في التمهيد لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته , وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي , وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قال الجماعة , وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان قال: والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى -وذكر عدة آيات - إلى أن قال:
وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد , ولا أنكره عليهم مسلم وهذا قليل من كثير من كلام من ذكر أن مسألة العلو فطرية ضرورية , وأما من نقل إجماع الأنبياء والرسل والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ؛ فأكثر من أن يذكر ولكن ننبه على اليسير منه ....
"الصواعق المرسلة" (4|1282)
ومن ذلك ما دار بين أبي المعالي وأبي جعفر
قال شيخ الإسلام : الوجه الرابع أن الذين يرفعون أيديهم وأبصارهم وغير ذلك إلى السماء وقت الدعاء تقصد قلوبهم الرب الذي هو فوق , وتكون حركة جوارحهم بالإشارة إلى فوق تبعاً لحركة قلوبهم إلى فوق , وهذا أمر يجدونه كلهم في قلوبهم وجداً ضرورياً إلا من غيرت فطرته باعتقاد يصرفه عن ذلك .(1/66)
وقد حكى محمد بن طاهر المقدسي عن الشيخ أبي جعفر الهمداني أنه حضر مجلس أبي المعالي فذكر العرش , وقال : كان الله ولا عرش ونحو ذلك وقام إليه الشيخ أبو جعفر فقال : يا شيخ دعنا من ذكر العرش , وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ؛ فإنه ما قال عارف قط : يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة لطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة , قال فضرب أبو المعالي على رأسه وقال: حيرني الهمداني .
فأخبر هذا الشيخ عن كل من عرف الله أنه يجد في قلبه حركة ضرورية إلى العلو إذا قال : يا الله , وهذا يقتضي أنه في فطرتهم وخلقتهم العلم بأن الله فوق , وقصده والتوجه إليه إلى فوق .
بيان تلبيس الجهمية" (2|445)
ونحن ندعوه أن يرجع إلى عقيدة عجائز المسلمين كما قال سلفه الرازي .
مسألة تسلسل الحوادث و مسألة حوادث لا أول لها موجبة بالذات
1- حاول المعترض أن يدلس على القراء أن شيخ الإسلام يقول بقدم العالم , وبحوادث لا أول لها , وأنها ملازمة لذات الله. انظر الكاشف ص97
وهذا من الكذب على شيخ الإسلام
قال المعترض في كاشفه (89)
وقد يفهم من كلمات لابن تيمية في بعض ا لمواضع أن كل ما هو موجود الآن ؛ فإنه مخلوق في شيء قبله , وهذا الشيء مخلوق ومنه كل شيء .
وهذا القول قريب من قول الفلاسفة بقدم مادة العالم وحدوث صورتها , والقول بقدم العالم بالنوع هو عين القول بقدم نوع المفاعيل والآثار لا يوجد فرق بينهما , وكل منهما بينه ابن تيمية على كون الله تعالى خالقاً منذ الأزل , ومعنى كونه خالقاً عنده لا يحتمل إلا أنه لم يزل يوجد مخلوق , وقبله مخلوق وهكذا لا إلى بداية ؛ فهو مبني على قدم نوع صفات الله تعالى , وسنتحدث عن هذه المسألة في فصل خاص , ومبني أيضاً على القول بأن الله تحل فيه الحوادث المتعاقبة منذ الأزل إلى الأبد ؛ فإذن هذه الأصول هي أساسية عند ابن تيمية , وهو يقول بها جميعاً ليتم له إثبات ما يريد إثباته - كذا قال -(1/67)
وسوف نبين بإذن الله هذا التدليس على شيخ الإسلام , وحقيقة قول هذا المعترض وماذا أراد.
1-لفظ التسلسل لفظ مجمل لم يرد في نفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة
"شرح الطحاوية "( 130)
فالواجب الاستفصال عن معناه.
2-ممن أبان عن هذه المسألة ابن أبي العز الحنفي في شرحه للطحاوية
قال رحمة الله : وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن ؛ فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية .
"شرح الطحاوية"( 130)
وهو فرض أن المخلوقات كلها متوالدة عن بعضها إلى ما لا نهاية بحيث يكون كل واحد منها معلولاً بما قبله , وعلة لما بعده دون أن تتبع هذه السلسلة أخيراً علة واجبة .
" كبرى اليقينيات" (82)
والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد , وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له , وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل , وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه ؛ فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء , ولم تحدث له صفة الكلام في وقت , وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته ؛ فإن كل حي فعال , والفرق بين الحي والميت الفعل .
ولهذا قال غير واحد من السلف : الحي الفعال .
وقال عثمان بن سعيد : كل حي فعال , ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله من الكلام والإرادة والفعل .
"شرح الطحاوية "(130)
قلت : وهذا هو الذي ينكره الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والذين يزعمون أن إثبات ذلك يلزم قيام الحوادث به , والذي يلزم من ذلك مشابهته للمخلوق , ولذلك جعلوا من أثبت قيام الأفعال الاختيارية به ألزموه بالقول بقدم العالم كما فعل هذا المعترض محاولا التلبيس والتدليس بقوله المتقدم(1/68)
: والقول بقدم العالم بالنوع هو عين القول بقدم نوع المفاعيل والآثار لا يوجد فرق بينهما , وكل منهما بينه ابن تيمية على كون الله تعالى خالقاً منذ الأزل , ومعنى كونه خالقاً عنده لا يحتمل إلا أنه لم يزل يوجد مخلوق وقبله مخلوق , وهكذا لا إلى بداية فهو مبني على قدم نوع صفات الله تعالى – كذا قال -.
قلت: وهذا الكلام هو عين كلام الجهمية الذين ينكرون أن الله يتكلم بقدرته ومشيئته , ويمتنع عندهم أنه كان قادرا على الخلق حتى خلق وعلى الإحياء حتى أحيا ؛ فكان معطلاً لا يفعل شيئا ولا يتكلم بشيء بل هو وحده موجود بلا كلام ولا فعل يفعله ثم أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته.
قال ابن أبي العز (128)
قال رحمه الله : وأصل هذا الكلام من الجهمية ؛ فإنهم قالوا إن دوام الحوادث ممتنع , وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ لامتناع حوادث لا أول ؛ فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك لأن القدرة على الممتنع ممتنعة وهذا فاسد.
ولذلك قرر الإمام الطحاوي في عقيدته الرد على أولئك الجهمية وأضرابهم .
بقوله :" ليس بعد الخلق استفاد اسم الخالق , ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب , ومعنى الخالق ولا مخلوق , وكما أنه محي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل أحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم.
قلت : وهو الذي يسميه المتكلمون بقدم النوع .(1/69)
3-وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف كما تتسلسل في طرف الأبد ؛ فإذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً , وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له - أي يمكن أن يخلق وأن لا يخلق أن يتكلم , وأن لا يتكلم سبحانه فهو يفعل ما يشاء - وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل , ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له ؛ فلكل مخلوق أول , والخالق سبحانه لا أول له ؛ فهو وحده الخالق , وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن .
"شرح الطحاوية" ( 130)
وقال أيضاً :
والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن ؛ أما كون الرب تعالى لم يزل معطلاً عن الفعل ثم فعل؛ فليس في الشرع , ولا في العقل ما يثبته بل كلاهما يدل على نقيضه .
"شرح الطحاوية " (131)
وهذا التسلسل الممكن هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو واضح بين , و فرق بين هذا القول , وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم وبحوادث لا أول لها موجبة بالذات _ أي ملازمة لذات الله لا تنفك عنه- .
ولذلك قال ابن أبي العز رحمه الله :(1/70)
" ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال , ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء ؛ فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه هو الأول الذي ليس قبله شيء ؛ فالرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء ويتكلم إذا شاء قال تعالى :{ قال كذلك الله يفعل ما يشاء} وقال تعالى {ولكن الله يفعل ما يريد} وقال تعالى {ذو العرش المجيد فعال لما يريد} وقال تعالى : {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } وقال تعالى {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قيل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}.
" شرح الطحاوية" (129)
4-إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قرر في أكثر من موضع من كتبه ورسائله أن الله كان ولم يكن شيء قبله , ولم يكن شيء معه سبحانه وتعالى , وأن هذا العالم حادث وكائن من العدم , وأن الله خلقه بعد أن كان معدوماً , ورد على الفلاسفة الذين جعلوا هذا العالم لازماً لذات الله أزلاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله " والمقصود هنا التنبيه على أنه لا حجة لهم تدل على قدم شيء من العالم ….
"الصفدية "(2/138)
وقال شيخ الإمام ابن تيمية : .. وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم , ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن ؛ فإن القديم المعلول لا يصدر إلا عن موجب بذاته أزلي الإيجاب وهو العلة التامة الأزلية التي تستلزم معلولها في الأزل .(1/71)
فلو كان في العالم ما هو قديم لزم ثبوت العلة التامة الأزلية لكن ثبوت هذه ممتنع لأنه حينئذ يلزم ألا يكون للحوادث فاعل لا بوسط ولا بغير وسط لأن الحوادث لا تحدث عن علة تامة لها أزلية ؛ فكل ما سوى الله لا بد أن يقارن شيئا من الحوادث أو تحدث فيه الحوادث , وكل ما قارن شيئا من الحوادث أو حدثت فيه الحوادث يمتنع أن يصدر عن علة تامة أزلية إذ يمتنع صدوره دون الحوادث عن الفاعل لأنه لا بد للحوادث من الفاعل ؛ فإثبات قدم شيء من العالم يستلزم إثبات علة قديمة له .
وإثبات العلة القديمة توجب كون الحوادث لا فاعل لها سواء قيل إن تلك العلة القديمة صدر عنها ما قارنته الحوادث أو صدر عنها ما حدثت فيه الحوادث ؛ فإنه على التقديرين يلزم كون الحوادث لا فاعل لها لامتناع صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية , وإذا كان قدم شيء من العالم يستلزم إثبات العلة التامة القديمة , و إثبات ذلك يستلزم كون الحوادث لا فاعل لها .
وهذا اللازم باطل بالضرورة فالملزوم أيضاً باطل والملزوم قدم شيء من العالم ؛ فإذا كان الملزوم باطلا ؛ فنقيضه حق , وأنه ليس من العالم شيء قديم .
"الصفدية" (1/22)
وقال ابن القيم - رحمه الله - مبيناً فساد قول الفلاسفة عند قوله تعالي :{ الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش }
تأمل ما في هذه الآيات من الرد على طوائف المعطلين والمشركين القائلين بقدم العالم , وأنه لم يزل , وأن الله تعالى لم يخلق بقدرته ومشيئته بل من أثبت منهم وجود الرب جعله لازما لذاته أزلا وأبدا كما يقول ابن سينا والنصير الطوسي….
"اجتماع الجيوش الإسلامية" (1|45)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : وأما قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فهذا نازعهم فيه أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة وأئمة أهل الحديث والسنة وجمهورهم نازعوهم في هذه ونازعهم فيها أئمة الأوليين والآخرين مثل أرسطو ومن قبله .(1/72)
فالقائلون بقدم الأفلاك من الفلاسفة يقولون أن القديم تقوم به حوادث لا أول لها.
وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون أن كل سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن , وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث بل ما قارنته الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث لامتناع صدوره عن علة تامة قديمة أزلية , والمشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو هو القول بحدوث العالم , وإنما اشتهر القول بقدمه عنه وعن متبعيه كالفارابي وابن سينا والحفيد وأمثالهم .
وأما قيام الأفعال الاختيارية , وقيام الصفات بالله تعالى فهو قول سلف الأمة وأئمتها الذين نقلوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القول الذي جاء به التوراة والإنجيل وهو القول الذي يدل عليه صريح المعقول مطابقا لصحيح المنقول .
وحينئذ فنعلم بالعقل الصريح أن العالم حادث كما أخبرت به الرسل مع أن الرب لم يزل ولا يزال متصفاً بصفات الكمال لم يصر قادراً بعد أن لم يكن , ولا متكلماً بعد أن لم يكن ولا موصوفاً بأنه خالق فاعل بعد أن لم يكن .
بل لم يزل موصوفاً بصفات الكمال المتضمنة لكماله في أقواله وأفعاله , وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا بيان ما ذكرناه من الدليل على حدوث كل ما سوى الله , وأن حقيقة قولهم يستلزم أن لا يكون للحوادث محدث أصلاً لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية …. وأما حجتهم المذكورة على قدم العالم فجوابها من وجوه000
" الصفدية" (1/131)
وقال رحمه الله: ثم إنه من المعلوم بضرورة العقل أن لا بد في الوجود من موجود واجب بنفسه قديم أزلي محدث للحوادث ؛ فإذا كان هذا معلوما بالفطرة والضرورة والبراهين اليقينية , وكانت أصولهم التي عارضوا بها الرسول تناقض هذا دل على فسادهما جملة وتفصيلا .
مجموع الفتاوى (16/444)
توضيح مسألة حوادث لا أول لها موجبة بالذات
كان الناس في مسألة خلق العالم قبل ابن سينا على قسمين(1/73)
الأول : الذين يقولون بقدم العالم , وأنه لاخالق لهذا الكون والموجودات , وهم الدهريون والمشركون .
الثاني : الذين يقولون بإثبات الخالق , وأن هذا الكون مخلوق لله
فأحدث ابن سينا وقوم من متأخري الفلاسفة قولاً ثالثاً وهو أن العالم موجب بالذات أي لازم لذات الله لا ينفك عنه , وهذا الذي دندن حوله هذا المعترض في كاشفه ص97مع أنه لشيخ الإسلام الأقوال الكثيرة في رد هذا القول .
قال رحمه الله :
وهذا القول هو أصل الكلام المحدث في الإسلام الذي ذمه السلف والأئمة ؛ فإن أصحاب هذا الكلام فى الجهمية والمعتزلة , ومن اتبعهم ظنوا أن معنى كون الله خالقاً لكل شيء كما دل عليه الكتاب والسنة , واتفق عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى , وغيرهم أنه سبحانه وتعالى لم يزل معطلا لا يفعل شيئا , ولا يتكلم بشيء أصلا بل هو وحده موجود بلا كلام يقوله ولا فعل يفعله ثم إنه أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته المنفصلة عنه فأحدث العالم , وظنوا أن ما جاءت به الرسل , واتفق عليه أهل الملل من أن كل ما سوى الله مخلوق , والله خالق كل شيء هذا معناه , وأن ضد هذا قول من قال بقدم العالم أو بقدم مادته فصاروا في كتبهم الكلامية لا يذكرون إلا قولين:
أحدهما : قول المسلمين وغيرهم من أهل الملل أن العالم محدث ومعناه عندهم ما تقدم.
والثاني : قول الدهرية الذين يقولون العالم قديم وصاروا يحكون في كتب الكلام والمقالات أن مذهب أهل الملل قاطبة من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم أن الله كان فيما لم يزل لا يفعل شيئا , ولا يتكلم بشىء ثم إنه أحدث العالم , ومذهب الدهرية أن العالم قديم .(1/74)
والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له ؛ فينكرون الصانع جل جلاله , وقد ذكر أهل المقالات أن أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم أرسطو صاحب التعاليم الفلسفية المنطقي والطبيعي والإلهي , وأرسطو وأصحابه القدماء يثبتون في كتبهم العلة الأولى ويقولون : إن الفلك يتحرك للتشبه بها فهي علة له بهذا الاعتبار إذ لو لا وجود من تشبه به الفلك لم يتحرك وحركته من لوازم وجوده فلو بطلت حركته لفسد .
ولم يقل أرسطو أن العلة الأولى أبدعت الأفلاك , ولا قال هو موجب بذاته كما يقوله من يقول من متأخري الفلاسفة كابن سينا وأمثاله , ولا قال أن الفلك قديم وهو ممكن بذاته بل كان عندهم ما عند سائر العقلاء أن الممكن هو الذي يمكن وجوده وعدمه , ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثا , والفلك عندهم ليس بممكن بل هو قديم لم يزل , وحقيقة قولهم أنه واجب لم يزل ولا يزال .
فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم إلا عمن ينكر الصانع ؛ فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة صار هذا قولاً آخر للقائلين بقدم العالم أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم , وصاروا أيضاً يطلقون ألفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك , ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي لا يريدون بذلك أن الله أحدث شيئاً بعد أن لم يكن , وإذا قالوا أن الله خالق كل شيء فهذا معناه عندهم فصار المتأخرون من المتكلمين يذكرون هذا القول , والقول المعروف عن أهل الكلام في معنى حدوث العالم الذي يحكونه عن أهل الملل كما تقدم كما يذكر ذلك الشهرستاني والرازى والآمدي وغيرهم .
وهذا الأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام من امتناع دوام فعل الله ؛ وهو الذي بنوا عليه أصول دينهم وجعلوا ذلك أ صل دين المسلمين .
"مجموع الفتاوى" (5|541)(1/75)
وقال رحمه الله : وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة ؛ فإن الموجب بذاته إذا كان أزلياً يقارنه موجبه فلو كان الرب تعالى موجباً بذاته للعالم في الأزل لكان كل ما في العالم مقارناً له في الأزل , وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما شاء الله وجوده من العالم ؛ فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته , وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده .
ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال ؛ فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته فلا منافاة بين كونه فاعلا بالقدرة والاختيار ؛ وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير , وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار فهذا باطل ممتنع , وإن أريد أن علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلى بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلاً وأبداً - الفلك أو غيره - فهذا أيضاً باطل .
فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل , وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان , وما لم يشأ لم يكن فهو حق ؛ فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته لكن لا يقتضي هذا أنه شاء شيئا من المخلوقات بعينه في الأزل بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة .
ولهذا كان عامة العقلاء على أن الأزلي لا يكون مراداً مقدوراً , ولا أعلم نزاعاً بين النظار أن ما كان من صفات الرب أزلياً لازماً لذاته لا يتأخر منه شيء لا يجوز أن يكون مراداً مقدوراً , وأن ما كان مراداً مقدوراً لا يكون إلا حادثاً شيئا بعد شيء , وإن كان نوعه لم يزل موجوداً أو كان نوعه كله حادثا بعد أن لم يكن .(1/76)
ولهذا كان الذين اعتقدوا أن القرآن قديم لازم لذات الله متفقين على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته , وإنما يكون بمشيئته وقدرته خلق إدراك في العبد لذلك المعنى القديم , والذين قالوا كلامه قديم وأرادوا أنه قديم العين متفقون على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته سواء قالوا هو معنى واحد قائم بالذات أو قالوا هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية الأعيان .
بخلاف أئمة السلف الذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته , وإنه لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء ؛ فإن هؤلاء يقولون الكلام قديم النوع , وإن كلمات الله لا نهاية لها بل لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته , ولم يزل يتكلم كيف شاء إذا شاء ونحو ذلك من العبارات .
منهاج السنة النبوية " (1|166)
وانظر دفع الشبه الغوية (12)
تفسير كلام السلف قديم النوع حادث الآحاد
1-يوضحه كلام الإمام الطحاوي رحمه الله
بقوله : ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته , وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً ليس بعد الخلق استفاد اسم الخالق , ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب , ومعنى الخالق ولا مخلوق , وكما أنه محي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم , كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم .
قال ابن أبي العز رحمه الله : أي أن الله سبحانه لم يزل متصفاً بصفات الكمال صفات الذات وصفات الفعل , ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها .
لأن صفاته سبحانه صفات كمال , و فقدها صفة نقص, ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفا بضده .
"شرح الطحاوية"( 124)
وقال رحمه الله : أشار بقوله مازال بصفاته قديماً قبل خلقه الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة ؛ فإنهم قالوا أنه تعالى صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً .(1/77)
و أنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي , وعن ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فإنهم قالوا أن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعا عنه .
وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة بل هو شيء واحد لازم لذاته.
"شرح الطحاوية " ( 127)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
والقول الثاني : قول من يقول إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته مع أن كلامه غير مخلوق , وهذا قول جماهير أهل السنة والنظر وأئمة السنة والحديث لكن من هؤلاء من اعتقد أن الله لم يكن يمكنه أن يتكلم في الأزل بمشيئته كما لم يكن يمكنه عندهم أن يفعل في الأزل شيئاً فالتزموا أنه تكلم بمشيئته بعد أن لم يكن متكلماً كما أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلاً وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث والسنة .
وأما السلف والأئمة فقالوا : إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته , وإن كان مع ذلك قديم النوع بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ؛ فإن الكلام صفة كمال ,ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم , ومن يتكلم بمشيئته وقدرته , ومن لا يزال متكلماً بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكنا له بعد أن يكون ممتنعا منه أو قدر أن ذلك ممكن فكيف إذا كان ممتنعاً لامتناع أن يصير الرب قادراً بعد أن لم يكن , وأن يكون التكلم والفعل ممكنا بعد أن كان غير ممكن كما قد بسط هذا في مواضع أخر .
" مجموع الفتاوى " (12/372)
وقال كذلك رحمه الله : وأما القول الأول هو قول سلف الأمة وأئمتها وجمهورها وقول كثير من سلف أهل الكتاب وجمهورهم ؛ فإما أن يقال الكلام قديم النوع بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته أو قديم العين , وإما أن يقال ليس بقديم بل هو حادث .
والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث .
وأما القائلون بقدم العين فهم يقولون الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث , وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا .
"الجواب الصحيح "(3/312)(1/78)
وقال رحمه الله : وكلام الله غير مخلوق عند سلف الأمة وأئمتها وهو أيضا يتكلم بمشيئته وقدرته عندهم لم يزل متكلماً إذا شاء فهو قديم النوع ؛ وأما نفس النداء الذي نادى به موسى ونحو ذلك فحينئذ ناداه به كما قال تعالى :{ فلما أتاها نودي يا موسى} , وكذلك نظائره فكان السلف يفرقون بين نوع الكلام , وبين الكلمة المعينة قال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} وكلام الله وما يدخل في كلامه من ندائه وغير ذلك ليس بمخلوق بائن منه بل هو منه والقرآن سمعه جبريل من الله , ونزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى :{ قل نزله روح القدس من ربك بالحق } وقال تعالى :{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وقال تعالى :{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } ونحو ذلك .
"مجموع الفتاوى" (12|577)
الجواب على شبهة التجسيم
هذه الشبهة أكبر مسألة أخذت حيزاً في كتاب المعترض فهو يتكلم عليها في مقدمة كتابه ثم يعقد لها فصلاً مستقلاً طويلاً , ويحشر الأقوال الكثيرة من كلام شيخ الإسلام ويقتطع من هنا وهنا , ويضع اللوازم والتفسيرات , ويلبس على القاريء ويشوش عليه.
وللجواب على هذه الشبهة إليك البيان:
1-إن لفظ الجسم والجسمية هي من ألفاظ أهل الكلام الذين يتبجح هذا المعترض بالانتساب إليهم , ويدعو إلى دراسة هذا العلم الذي أوله سفسطة وآخره زندقة
وهو لفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وأما اللفظ - أي الجسم - فبدعة نفياً وإثباتاً فليس في الكتاب والسنة , ولا قول أحمد من سلف الأئمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتاً.
2-بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى سبب خوضه في مثل هذه الألفاظ المجملة , والتي توهم معنى حقاً وباطلاً .(1/79)
قال رحمه الله :" وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة ؛ فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول ما تريدون بهذه الألفاظ ؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت , وإن فسروها بخلاف ذلك ردت , وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً ؛ فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع , وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً , وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي يتنزه الله عنها .
" درء التعارض" (1/133)
قلت: كما فعل هذا المعترض في كتابه
وقال ابن القيم رحمه الله : لما ذكر الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلية قبول التأويل السبب الثاني : أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب , وتنبو عنها الأسماع فيتخير له من الألفاظ أكرهها , وأبعدها وصولاً إلى القلوب وأشدها نفرة فكذلك أهل البدع والضلال منجميع الطوائف .
هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل فيسمون إثبات صفات الكمال لله تجسيماً وتشبيهاً وتمثيلاً , ويسمون إثبات الوجه واليدين تركيباً , ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوه على خلقه فوق سماواته تحيزاً وتجسيماً ويسمون العرش حيزاً .
"الصواعق" (2/438)
3-إن من نفى لفظ الجسم والجسمية أراد نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه , ووصفه بها النبي صلى الله عليه وسلم كالوجه واليد والعين وغيرها من صفات الكمال له سبحانه وتعالى , وجعل إثبات الصفات يستلزم التجسيم والتركيب .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وكذلك هؤلاء نفاة الصفات أخذوا يقولون إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم .
إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم , والجسم مركب في اصطلاحهم , وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة وذلك تركيب .
"الصفدية" (1/104)(1/80)
وقال رحمه الله : " فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفاة الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسماً ومشبهاً , ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة من الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم .
"منهاج السنة "(2/105)
وقال رحمه الله : لفظ الجسم فيه إجمال قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والانفصال أو المركب من مادة وصورة أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر المفردة .
والله تعالى منزه عن ذلك كله عن أن يكون كان متفرقاً ؛ فاجتمع أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه .
و قد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات , والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات , ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم ؛ فإذا أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى .
قيل له : هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول , وأنت لم تقم دليلا على نفيه .
وأما اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً.
"منهاج السنة" (2|134)
وقال ابن القيم رحمه الله في" الصواعق"
:" فالناس كانوا طائفتين سلفية وجهمية فحدثت الطائفة السبعية - الأشاعرة - واشتقت قولا بين القولين فلا للسلف أثبتوا ولا مع الجهمية بقوا .
وقالت طائفة أخرى : ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاض كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول , وما كان ظاهره جوارح وأبعاض كالوجه واليدين والقدم والساق والإصبع ؛ فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم .(1/81)
قال المثبتون : جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات ؛ فإنهم قالوا لكم لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض , ولزم التركيب والتجسيم والانقسام كما قلتم لو كان له وجه ويد وأصبع لزم التركيب والانقسام .
فما جوابكم لهؤلاء نجيبكم به !
فإن قلتم : نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضاً ولا نسميها أعراضاً فلا يستلزم تركيباً ولا تجسيماً .
قيل لكم : ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه إذ نفيتموها أنتم على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح , ولا يسمى المتصف بها مركباً ولا جسماً ولا منقسماً .
"الصواعق" (1/226)
وقال ابن القيم رحمه الله : فلفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فتكون له حرمة الإثبات , ولا نفيا فيكون له إلغاء النفي .
فمن أطلقه نفيا أو إثباتا سئل عما أراد به ؟
فإن قال أردت الجسم معناه في لغة العرب , وهو البدع الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه , ولا يقال للهواء جسم لغة ولا للنار ولا للماء ؛ فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا فهذا المعنى منفي عن الله عقلا وسمعا .
وإن أردتم به المركب من المادة والصورة أو المركب من الجواهر الفردة ؛ فهذا منفي عن الله قطعاً , والصواب نفيه عن الممكنات أيضا فليس الجسم المخلوق مركبا لا من هذا ولا من هذا , وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصره ويرضى ويغضب .
فهذه المعاني ثابتة للرب وهو موصوف بها ؛ فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما .
" الصواعق" (3/939)
فملخص الكلام
1- إن لفظ الجسمية لم يثبته شيخ الإسلام ولم ينفه حتى يستفصل عن معناه .
2- إن من نفاه أراد نفي صفات الله , وأن من أثبته أراد إثبات الصفات لله مع التوقف في هذا اللفظ .
3- إن هذا اللفظ من ألفاظ المتكلمين التي يضطر أهل السنة للتكلم بألفاظهم للرد عليهم .(1/82)
4- إن شيخ الإسلام يناقش أهل الكلام باصطلاحاتهم وينقض أقوالهم بأقوالهم وقواعدهم التي يتحاكمون إليها .
الجواب على شبهة التركيب
كما قدمنا في جوابنا على شبهة التجسيم نقول في شبهة التركيب
1-إن مثل هذه الألفاظ الجسم والمركب والتركيب من ألفاظ المتكلمين الذين يموهون بها ويلزمون بها من أثبت الصفات , والتي يريدون بها الباطل من نفي صفات الله تعالى.
2-اضطرار أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم من أهل السنة إلى ذكر هذه الألفاظ ومخاطبة القوم بألفاظهم وبيان فساد قولهم.
3-إن لفظ التركيب لفظ لم يرد في الكتاب والسنة والأصل كما في قاعدة أهل السنة الاستفصال عن المعنى المراد.
قال ابن القيم -رحمه الله - : وأشد ما جادل أعداء الرسول في التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به ؛ وضرب الأمثال القبيحة له والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين فوصلت إلى قلوبهم فنفرت عنه , وأكثر العقول كما عهدت يقبل القول بعبارة ويرده بعبارة أخرى .
وكذلك إذا قال الفرعوني : لو كان فوق السموات رب أو على العرش إله لكان مركباً .
قيل له: لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله كقوله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك}
وقولهم : ركبت الخشبة و الباب , وما يركب من أخلاط وأجزاء بحيث كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وركبت حتى صار شيئا واحدا كقولهم ركبت الدواء من كذا وكذا.
وإن أردتم بقولكم لو كان فوق العرش كان مركباً هذا التركيب المعهود أو أنه كان متفرقاً فاجتمع ؛فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع والعقل .
وإن أردتم أنه لو كان فوق العرش لكان عالياً على خلقه بائناً منهم مستوياً على عرشه ليس فوقه شيء فهذا المعنى حق .
فكأنك قلت : لو كان فوق العرش لكان فوق العرش فنفيت الشيء بتغيير العبارة وقلبها إلى عبارة أخرى , وهذا شأنكم وأكثر مطالبكم .
"مختصر الصواعق" (1/178)(1/83)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وهذه الألفاظ المحدثة المجملة النافية مثل لفظ المركب والمؤلف والمنقسم ونحو ذلك قد صار كل من أراد نفي شيء مما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات عبر بها عن مقصوده ؛ فيتوهم من لا يعرف مراده أن المراد تنزيه الرب الذي ورد به القرآن , وهو إثبات أحديته وصمديته , ويكون قد أدخل في تلك الألفاظ ما رآه هو منفياً , وعبر عنه بتلك العبارة وضعاً له واصطلاحاً اصطلح عليه هو ومن وافقه على ذلك المذهب , وليس ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن , ولا من لغة أحد من الأمم ثم يجعل ذلك المعنى هو مسمى الأحد والصمد والواحد , ونحو ذلك من الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة , ويجعل ما نفاه من المعاني التي أثبتها الله ورسوله من تمام التوحيد.
"مجموع الفتاوى" (17/351)
وقال رحمه الله : وأما نفي النافي للصفات الخبرية المعينة فلاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار فقد تقدم جواب نظيره .
فإنه إن أريد بالتركيب ما هو المفهوم منه في اللغة أو في العرف العام أو عرف بعض الناس -وهو ما ركبه غيره- أو كان متفرقاً فاجتمع أو ما جمع الجواهر الفردة أو المادة والصورة أو ما أمكن مفارقة بعضه لبعض ؛ فلا نسلم المقدمة الأولى , ولا نسلم أن إثبات الوجه واليد مستلزم للتركيب بهذا الاعتبار .
"مجموع الفتاوى" (6/109)
وقال ابن القيم رحمه الله:
وقالت طائفة أخرى ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاض كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول , وما كان ظاهره جوارح وأبعاض كالوجه واليدين والقدم والساق والإصبع ؛ فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم .
قال المثبتون : جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات .(1/84)
فإنهم قالوا لكم : لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض , ولزم التركيب والتجسيم والانقسام كما قلتم لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام فما جوابكم لهؤلاء نجيبكم به!
فإن قلتم : نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضاً , ولا نسميها أعراضاً فلا يستلزم تركيباً ولا تجسمياً .
قيل لكم : ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه إذ نفيتموها أنتم على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح , ولا يسمى المتصف بها مركباً ولا جسماً ولا ومنقسماً.
"الصواعق " (1/226)
صفات الله تنقسم إلى ذاتية وفعلية
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها
وهي نوعان : معنوية وخبرية
فالمعنوية مثل الحياة والعلم والقدرة والحكمة وما أشبه ذلك , وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر
والخبرية مثل اليدين والوجه والعينين , وما أشبه ذلك مما سماه نظيره أبعاض وأجزاء لنا فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن .
ولن ينفك عن شيء منه كما أن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً لم يزل عالماً ولا يزال عالماً ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً .
وهكذا يعني ليس حياته تتجدد , ولا قدرته تتجدد , ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً , وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع ؛ فأنا مثلا عندما أسمع الأذان الآن ؛ فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله .
لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة
واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية قالوا : لأنها ملازمة للذات لا تنفك عنها.
والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته وهي نوعان:(1/85)
1-صفات لها سبب معلوم مثل الرضى فالله عز وجل إذا وجد سبب الرضى رضي كما قال تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم}
2- وصفات ليس لها سبب معلوم مثل النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتبارين ؛ فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال متكلما لكنه يتكلم بما شاء ومتى شاء واصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية لأنها من فعله سبحانه وتعالى .
ولها أدلة كثيرة من القرآن مثل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر : 22) {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك} (الأنعام : 158) {رضي الله عنهم ورضوا عنه} (المائدة : 119) {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم } (التوبة : 46) {أن سخط الله عليم وفي العذاب هم خالدون} (المائدة :80)
وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلا لما يريد .
"شرح العقيدة الواسطية" (1/79)
وبعد هذا الكلام نذكر ما يأتي:
1- القاعدة تقول لا مشاحة في الاصطلاح إلا إذا لزم منه معنى باطلاً.
2-إن هذا التقسيم لصفات الله تعالى ينزل على قاعدة إثبات الصفات من غير تشبيه ولا تحريف ومن غير تكييف ولا تمثيل.(1/86)
3-ادعو القارئ الكريم إلى مقارنة كلام العلامة العثيمين الذي هو حاصل كلام شيخ الإسلام في كتبه ورسائله وبين كلام هذا المعترض إذ يقول : هذا هو حاصل مذهب ابن تيمية في هذه المسألة الفريدة _ أي تقسيم صفات الله إلى معنوية وخبرية - التي لا تجد من وضحها كما ذكرناه هنا , ومن البين للقارئ النبيه أن قول ابن تيمية بهذا المعنى إنما هو راجع إلى اعتقاده الذي بيناه سابقاً وهو كون الله تعالى مركباً واليد التي هي عين أي لها حيز بذاتها ويشار إليها إشارة حسية هي التي يطلق عليها في اللغة اليد الجارحة والعضو والركن وغير ذلك من الأسماء؛فإذا أطلق عليها ابن تيمية هنا اسم العين - الصفات العينية أي الخبرية - فإن هذا الاسم لا يستلزم أنه ينفي معنى العضوية والأركان , ولكن في الحقيقة يثبته ويقويه ويوضحه.
"الكاشف" ( 189)
4-قارن بين تقسيم أهل السنة والجماعة الواضح البين , وبين تقسيم الأشاعرة لصفات الله تعالى الذي لا يخلو من التشويش والاضطراب .
فهم يقسموها إلى قسمين ثبوتية وسلبية.
فالثبوتية قسمان : منها ما يدل على نفس الذات دون معنى زائد عليها وهي الوجود , ومنها ما يدل على معنى زائد على الذات , وهي صفات المعاني والمعنوية إلا أن هذا المعنى الزائد وجودي في المعاني وثبوتي في المعنوية .
وكلاهما أربع عشرة صفة القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام وكونه تعالى قديراً مريداً عليماً حياً بصيراً سميعاً متكلماً فصفات المعاني دلت على معنى زائد على الذات .
وكذلك المعنوية إذ هو عبارة من قيام المعاني بالذات .
والسلبية خمس صفات وهي : القدم والبقاء والقيام بالنفس والمخالفة للحوادث والوحدانية .
"شرح الجوهرة "(85)
قال العلامة الشنيقطي رحمه الله : " اعلم أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام:
1-صفة نفسية
2-صفة سلبية
3-صفة معنى
4-صفة معنوية
5-صفة فعلية
6-صفة جامعة مثل العلو والعظمة مثلا.(1/87)
7-الصفة الإضافية هي تتداخل مع الفعلية.
لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة فهي صفة إضافية , وليست كل صفة إضافة فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة .
وتنفرد الفعلية في نحو الاستواء وتنفرد الإضافية في نحو كونه تعالى موجوداً قبل كل شيء وأنه فوق كل شيء .
لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية وليست من صفات الأفعال.
وضابط الصفة السلبية عندهم هي الصفة التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلاً , وإنما تدل على المعنى السلبي غير الثبوتي كالقدم يدل على عدم سبق العدم , والبقاء يدل على عدم لحوق الفناء إلى آخر الصفات الخمسة التي تقدم ذكرها.
"الصفات الإلهية"( 200) , نقلا عن "أضواء البيان" (2/306)
5- احتاج السلف إلى تقسيم صفات الله إلى خبرية ومعنوية لما ظهرت بعض الفرق والطوائف وفرقت بين ما ثبت بالسمع, وبين ما ثبت بالعقل , وبين الصفات اللازمة لذات الله , والصفات المتعلقة بالإرادة والمشيئة , وحملهم هذا التقسيم المبتدع على إثبات البعض , ونفي البعض الآخر اقتضى ذلك من أهل السنة أن يقسموا هذا التقسيم .
انظر الفتوى الحموية (159) مقدمة الشيخ حمد التويجري
الكلام على شبهة الحد
1-أصل الكلام على الحد هو سؤال وجه للإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لعبد الله بن المبارك : بما نعرف ربنا؟ قال : بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه. قلت: بحد قال: بحد لا يعلمه غيره.
"السنة" (1/175) لعبد الله بن أحمد بن حنبل , و "الأسماء والصفات" للبيهقي (538)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وهذا مشهور عن ابن المبارك ثابت عنه في غير وجه , وهو أيضاً ثابت عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغير واحد من الأئمة.
"مجموع الفتاوى" (5/184)
2-إن هذا اللفظ من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة(1/88)
قال الإمام الذهبي رحمه الله : الصواب الكف عن إطلاق ذلك إذ لم يأت فيه نص , ولو فرض أن المعنى صحيح ؛ فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفا من أن يدخل القلب شيء من البدعة .
"سير الأعلام النبلاء " (20|86)
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل
إذا ثبت استواؤه سبحانه , وأنه في جهة , وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه ؟
قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المروزي ؛ وذُكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد : بلغني ذلك وأعجبه .
وقال الأثرم ، قلت لأحمد : يحكي عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد .
فقال أحمد : هكذا هو عندنا.
ثم ذكر عن أبي داود قال : جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له: لله تبارك وتعالى حد ؟ قال: نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى {وترى الملائكة حافين من حول العرش} يقول محدقين فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله تعالى .
" بيان تلبيس الجهمية" (2|173)
قال ابن القيم -رحمه الله - على هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي يستخدمها أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم :
:" ويقولون نحن ننزه الله تعالى عن الأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث ؛ فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها أنهم يمجدونه ويعظمونه , ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ ؛ فيرى تحتها الإلحاد وتكذبت الرسل وتعطيل الرب تعالى عما يستحق من كماله.
"الصواعق المرسلة" (3|934)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- :(1/89)
وكذلك إذا قالوا إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أوهموا الناس بأن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات , ولا تحوزه المصنوعات , وهذا المعنى الصحيح ومقصودهم أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه , وأنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله , وأن محمدا لم يعرج به إليه , ولم ينزل منه شيء , ولا يصعد إليه شيء , ولا يتقرب إليه شيء , ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا غيره , ونحو ذلك من معاني الجهمية .
"درء التعارض" (1|241)
وقال - رحمه الله -:
وقال محمد بن مخلد قال أحمد : نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله
وقال يوسف بن موسى : إن أبا عبد الله قيل له : ولا يشبه ربنا شيئاً من خلقه قال: نعم {ليس كمثله شيء} فقول أحمد أنه ينظر إليهم ويكلمهم كيف شاء وإذا شاء .
وقوله : هو على العرش كيف شاء وكما شاء وقوله : وهو على العرش بلا حد كما قال: {ثم استوى على العرش} كيف شاء المشيئة إليه والاستطاعة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء.
قلت :وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير شيء يبين أن نظره وتكليمه وعلوه على العرش واستواءه على العرش مما يتعلق بمشيئته واستطاعته
وقوله : بلاحد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده حد نفى به إحاطة علم الخلق به وأن يحدوه أو يصفوه على ما هو عليه إلا بما أخبر به عن نفسه ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته كما قال الشافعي في الرسالة: : الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه , وفوق ما يصفه به خلقه .
ولهذا قال أحمد : لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية .
فنفى أن يدرك له حد أو غاية فهذا أصح القولين في تقسيم الإدراك…
وما في هذا الكلام من نفى تحديد الخلق وتقديرهم لربهم وبلوغهم حقه لا ينافي ما مضى عليه أحمد وغيره من الأئمة كما ذكره الخلال أيضا(1/90)
قال حدثنا أبو بكر المروزي قال سمعت أبا عبد الله لما قيل له : روى علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له : كيف نعرف الله عز وجل قال: على العرش بحد قال: قد بلغني ذلك عنه وأعجبه .
ثم قال أبو عبد الله {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} ثم قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا}
قال الخلال : وأنبئنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال: قلت لأحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك , وقيل له :كيف نعرف ربنا ؟ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد .
فقال أحمد : هكذا هو عندنا
وأخبرني حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق يعني ابن راهويه : هو على العرش بحد .
قال : نعم بحد
وذكر عن ابن المبارك قال: هو على عرشه بائن من خلقه بحد .
قال : وأخبرنا المروزي قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تبارك وتعالى : {الرحمن على العرش استوى}
إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى , ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة , وحتى قعور البحار ورؤوس الآكام , وبطون الأودية .
وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السموات السبع , وما فوق العرش أحاط بكل شيء علما؛ فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها , ولا حبة في ظلمات البر والبحرولا رطب ولا يابس إلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره ؛ فهذا مثاله مما نقل عن الأئمة كما قد بسط في غير هذا الموضع , وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره كما قال مالك وربيعة وغيرهما الاستواء معلوم والكيف مجهول .(1/91)
فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر , ولكن نفوا علم الخلق به , وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدرته وكيفيته , وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف , وقد ذكره ابن بطة في الإبانة وأبو عمرو الطلمنكي في كتابه الأصول .
ورواه أبو بكر الأثرم قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال: أما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت فيه الجهمية , ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير, وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحشرت العقول في معرفة قدره إلى أن قال :
بأنه لا يعلم كيف هو إلا هو , وكيف يعرف قدر من لا يموت ولا يبلى , وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف , الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه …
ثم ذكر بعد هذا كلام الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه رد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد فيما افتراه على الله في التوحيد :
فقال : باب الحد والعرش
قال أبو سعيد وادعى المعارض أيضا: أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية.
قال : وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته , واشتق منها جميع أغلوطاته , وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق إليها جهما أحد من العالمين .
فقال له قائل : ممن يحاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم قد علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم شيء إلا وله حد وغاية وصفه , وأن لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة ؛ فالشيء أبدا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية , وقولك لا حد له يعني أنه لا شيء .(1/92)
قال أبو سعيد : والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره , ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه لكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله .
" درء التعارض" (1|267)
وملخص الكلام الذي قدمناه من كلام شيخ الإسلام يتبين لك معنى كلام السلف في إثبات الحد لله تعالى أو نفيه عن الله تعالى؛ فمن أثبته أراد أن الله له صفات الكمال , وهذه الصفات لها كيفية كماقال تعالى :{ليس كمثله شيء} و قال الإمام مالك : والكيف مجهول , ومن نفاها أراد نفي إحاطة علم الخلق به أن يحدوه أو يصفوه على ما هو عليه إلا بما أخبر به عن نفسه ليثبت أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته .
الجواب على شبهة الجهة
1-كما قدمناه سابقا في لفظة الجسم والتركيب أن هذه الألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة قال شيخ الإسلام : وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفياً ولا إثباتاً.
"منهاج السنة "(2/528)
2-إن هذه من ألفاظ أهل الكلام التي يموهون بها للتوصل بها إلى معنى باطل.
3-إن من نفى الجهة أراد نفي علو الله على خلقه , واستوائه على عرشه
قال ابن أبي العز الحنفي : "ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو , ويذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة , وأنه كان قبل الجهات , وأن من قال أنه في جهة يلزم القول بقدم شيء من العالم , وأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها.
وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمي جهة أو لم يسم .
وهذا حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل أمر اعتباري , ولا شك أن الجهات لا نهاية لها وما لا يوجد فيها لا نهاية له فليس بموجود .
"شرح الطحاوية "(221)
وقال ابن القيم -رحمه الله -:
وكذلك قولهم ننزهه عن الجهة ؛ إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف بالمظروف فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى .
ولكن لا يلزم من كونه فوق العرش هذا المعنى .(1/93)
وإن أردتم بالجهة أمراً يوجب مباينة الخالق للمخلوق ,وعلوه على خلقه , واستواءه على عرشه فنفيكم لهذا المعنى الباطل , وتسميته جهة اصطلاح منكم توصلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة , وسميتم ما فوق العالم جهة , وقلتم منزه عن الجهات , وسميتم العرش حيزاً , و قلتم ليس بمتحيز , وسميتم الصفات أعراضاً, وقلتم الرب منزه عن قيام الأعراض به .
وسميتم حكمته غرضاً , وقلتم منزه عن الأغراض .
وسميتم كلامه بمشيئته ,ونزوله إلى السماء الدنيا , ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء , ومشيئته ,وإرادته المقارنة لمرادها , وإدراكه المقارن لوجود المدرك , وغضبه إذا عصي , ورضاه إذا أطيع , وفرحه إذا تاب إليه العباد, ونداه لموسى حين أتى الشجرة, ونداه للأبوين حين أكلا من الشجرة, ونداه لعباده يوم القيامة , ومحبته لمن كان يبغضه حال كفره ثم صار يحبه بعد إيمانه وربوبيته التي هو بها كل يوم في شأن حوادث , وقلتم هو منزه عن حلول الحوادث .
"مختصر الصواعق" (1/181)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -:
" وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد بل , ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظة أو نفيه حتى يعرف مراده ؛ فإن أراد حقاً قبل وإن أراد باطلاً رد .
وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً, ولم يرد جميع معناه بل يوقف اللفظ , ويفسر المعنى كما تنازع الناس في الجهة والتحيز , وغير ذلك فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً كما إذا أريد الجهة نفس العرش أو نفس السموات , وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم .
ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة , ولا نفيه كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه ,ونحو ذلك .(1/94)
وقد علم أن ما من موجود إلا الخالق والمخلوق , والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته .
فيقال لمن نفى الجهة أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق ؟
فالله ليس داخلا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؛ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات .
وكذلك يقال لمن قال الله في جهة أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات .
فإن أردت الأول فهو حق , وإن أردت الثاني فهو باطل .
وكذلك لفظ التحيز إن أراد أن الله تحوزه المخلوقات , فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض , وقد قال الله تعالى : {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه}
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض …
البخاري (6519) ومسلم (2787)
وإن أراد أن الله منحاز عن المخلوقات : أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها ؛ فهو سبحانه كما قال أئمة السنة فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه .
"مجموع الفتاوى" (3/42)
وقال ابن رشد في " مناهج الأدلة"(1/95)
: وأما هذه الصفة – أي الجهة - فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كأبي المعالي , ومن اقتدى بقوله , وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } ومثل قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } ومثل قوله : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ومثل قوله : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } ومثل قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } ومثل قوله : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً , وإن قيل فيها : إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء , وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين ,وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى .
قال : " وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك , والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية .
قال : ونحن نقول : إن هذا كله غير لازم ؛ فإن الجهة غير المكان ....
"درء التعارض"(3|211)
الكلام على شبهة التحيز والمتحيز
1-قال شيخ الإسلام :" وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك ؛ فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفياً ولا إثباتاً
"منهاج السنة" (2/528)
2- الأصل أن يستفصل عن معناه
قال شيخ الإسلام : وكذلك لفظ التحيز إن أراد أن الله تحوزه المخلوقات ؛ فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال الله تعالى : {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه }(1/96)
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض… .
وإن أراد أن الله منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها؛ فهو سبحانه كما قال أئمة السنة فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه.
"مجموع الفتاوى" (3/42)
وقال - رحمه الله – :
" فيقال أولا لفظ الجسم والحيز والجهة ألفاظ فيها إجمال وإبهام , وهي ألفاظ اصطلاحية , وقد يراد بها معان متنوعة ولم يرد الكتاب والسنة في هذه الألفاظ لا بنفي ولا إثبات , ولا جاء عن أحد من سلف الأمة وأئمتها فيها نفي ولا إثبات أصلا….
ثم ذكر رحمه أنه يجب الاستفصال عن المراد من هذه الألفاظ قال: وكذلك لفظ المتحيز يراد به ما أحاط به شيء موجود كقوله تعالى : {أو متحيزا إلى فئة } ويراد به ما انحاز عن غيره وباينه ؛ فمن قال: إن الله متحيز بالمعنى الأول لم يسلم له, ومن أراد أنه مباين للمخلوقات سلم له المعنى وإن لم يطلق اللفظ .
"مجموع الفتاوى" (5/298)
وقال رحمه الله : وكذلك إذا قالوا : " إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات " أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات , ولا تحوزه المصنوعات , وهذا المعنى صحيح ؛ ومقصودهم : أنه ليس مبايناً للخلق, ولا منفصلا عنه , وأنه ليس فوق السماوات رب, ولا على العرش إله , وأن محمداً لم يعرج به إليه , ولم ينزل منه شيء , ولا يصعد إليه شيء ,ولا يتقرب إليه شيء , ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره , ونحو ذلك من معاني الجهمية .
"درء التعارض"(1|245)
الجواب على شبهة التناهي(1/97)
أصل هذه الشبهة أوردها الرازي في كتابه أساس التقديس , وملخصها أنه لو أثبتنا أن الله فوق العرش لكان متناهيا –أي له حد ونهاية -, والله لا حد له ولا نهاية ليتوصل بذلك إلى نفي علو الله .قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " يقال لك إذا عقل موجود لا نهاية له ؛ فهل التفسير يعقل موجود فوق العرش لا يوصف بالتناهي وعدمه أولى وأحرى بمعنى أنه يمتنع أن يكون له نهاية أو يكون ذا مساحة لا نهاية لها ؛ فإنه إذا عقل هذا في موجود مطلق لم يمتنع وصف هذا الموجود بأنه فوق العرش ,ويكون كذلك بل يكون هذا أقرب إلى العقل لأن الفطر تقر بأن الله فوق العالم وتنكر وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ؛ فإذا أقررت بوجوده خارج العالم كان أقرب إلى الفطرة والعقل , وإذا جاز أن يقال في هذا إنه لا يتناهى بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بتناهي المقدار وعدمه كذلك يقال فيه مع وجوده فوق العرش , وإذا قال قائل هذا الفوقية أو هذا العلو فوق العرش لا يعقل أو قال لا يعقل علو ولا فوقية إلا بمعنى الذهاب في الجهات قيل له معرفة الصفة وعقلها فرع على معرفة الموصوف وعقله فطلبك العلم بكيفية علوه مع أنك لا تعقل حقيقته جمع بين الضدين , وإذا كنت تقر بأنه موجود بل إقرارك بأن ذاته فوق العرش فوقية تناسب ذاته أسهل على العقل من الإقرار بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بل الإقرار بأنه ليس ذا مساحة ومقدار لا ينافي الإقرار بأنه خارج العالم وفوقه كما يناسب ذاته ومنافاة الإقرار بوجوده مع كونه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تنافيا .(1/98)
وأما المقام الثاني : فكلام من لا ينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظا أو معنى أو لا يعترض لها بنفي ولا إثبات , وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها , وجماهير أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم , وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين حيث ائتموا بما في الكتاب والسنة , وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده فلم يغيروا وجعلوا كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام , وأما الكلام المجمل المتشابه الذي يتكلم به النفاة ففصلوا مجمله ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق , ولا وافقوهم أيضا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل , وإن شنع النفاة على من يثبت ذلك أو زعموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم .
" بيان تلبيس الجهمية " (2|180) ودرء التعارض (3|257)
فأجاب ابن تيمية رحمه الله : إن الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة الأصل أن يستفصل عن معناها مع التوقف في اللفظ كما مر معنا سابقا , ولفظ التناهي من هذا القبيل ؛ فإن أريد بنفي التناهي نفي العلو رد اللفظ والمعنى , وأن أريد بالتناهي أن الله عال على خلقه مستو على العرش فهذا حق مع التوقف في اللفظ ,ولا يرد الحق بتسميتكم له المعاني الباطلة .
الجواب على شبهة الحركة
1- اعلم أولا أن لفظ الحركة لم يرد في الكتاب والسنة وكما قدمنا:
الأصل أن يستفصل عن معناه.(1/99)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وكذلك لفظ الحركة أثبته طوائف من أهل السنة والحديث وهو الذي ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في السنة التي حكاها عن الشيوخ الذين أدركهم كالحميدي وأحمد بن حنبل وسعيد بن منصور وإسحاق بن إبراهيم ,وكذلك هو الذي ذكره عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على بشر المريسي ,وذكر أن ذلك مذهب أهل السنة , وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة من الشيعة والكرامية والفلاسفة الأوائل والمتأخرين كأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهم .
ونفاه طوائف منهم أبو الحسن التميمي وأبو سليمان الخطابي , وكل من أثبت حدوث العالم بحدوث الأعراض كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم ممن سلك في إثبات حدوث العالم هذه الطريقة التي أنشأها قبلهم المعتزلة .
وهو أيضا قول كثير من الفلاسفة الأوائل والمتأخرين كابن سينا وغيره .
والمنصوص عن الإمام أحمد إنكار نفي ذلك, ولم يثبت عنه إثبات لفظ الحركة ,وإن أثبت أنواعاً قد يدرجها المثبت في جنس الحركة ؛ فإنه لما سمع شخصا يروي حديث النزول ويقول ينزل بغير حركة ولا انتقال ولا بغير حال أنكر أحمد ذلك وقال : قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كان أغير على ربه منك .
"الاستقامة" (1/73)
وقال شيخ الإسلام : " والله سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص, وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص ؛ فالخالق أحق به ,وكل نقص نزه عنه المخلوق ؛ فالخالق أحق بأن ينزه عنه , والفعل صفة كمال لا صفة نقص كالكلام والقدرة , وعدم الفعل صفة نقص كعدم الكلام وعدم القدرة فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وهو المطلوب .(1/100)
وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين ؛ فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها , والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا ؛ فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به , ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها , ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي و أبو الحسن الأشعري وغيرهما , وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب , ولهذا أمر أحمد بهجره وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث : إنه رجع عن قوله .
وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين ,ورجح قول ابن كلاب ,وذكر ذلك في قول الله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وأمثال ذلك , وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كحرب الكرماني و عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة , وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه و عبد الله بن الزبير الحميدي و سعيد بن منصور , وقال عثمان بن سعيد وغيره : إن الحركة من لوازم الحياة فكل حي متحرك , وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم .
وطائفة أخرى من السلفية كنعيم بن حماد الخزاعي و البخاري صاحب الصحيح و أبي بكر بن خزيمة وغيرهم كأبي عمر بن عبد البر وأمثاله : يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء , ويسمون ذلك فعلا ونحوه , ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور .(1/101)
وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء كأبي بكر عبد العزيز و أبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ومنهم من يوافق الأولين كأبي عبد الله بن حامد وأمثاله , ومنهم طائفة ثالثة ؛ كالتميميين و ابن الزاغوني غيرهم يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم .
ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث كالبخاري و أبي زرعة و أبي حاتم و محمد بن يحيى الذهلي , وغيرهم من العلماء الذين أدركهم الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته : من أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء , وأنه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة , وكان له أصحاب كأبي علي الثقفي وغيره تلقوا طريقة ابن كلاب فقام بعض المعتزلة , وألقى إلى ابن خزيمة سر قول هؤلاء ,وهو أن الله لا يوصف بأنه يقدر على الكلام إذا شاء , ولا يتعلق ذلك بمشيئته فوقع بين ابن خزيمة وغيره وبينهم في ذلك نزاع حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه ,وأمر ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له وصار الناس حزبين ؛ فالجمهور من أهل السنة وأهل الحديث معه ومن وافق طريقة ابن كلاب معه حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين فالحاكم أبو عبد الله و أبو عبد الرحمن السلمي و أبو عثمان النيسابوري وغيرهم معه ,وكذلك يحيى بن عمار السجستاني و أبو عبد الله بن منده و أبو نصر السجزي و شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري و أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه ,وأما أبو ذر الهروي و أبو بكر البيهقي وطائفة أخرى فهم مع ابن كلاب .
"درء التعارض" (1|245)
الصفات الاختيارية أو مسألة حلول الحوادث
1-أراد المتكلمون بمسألة حلول الحوادث بهذا اللفظ نفي صفات الله الاختيارية من نزول و كلام واستواء…(1/102)
قال شيخ الإسلام : " وإذا قالوا : لا تحله الحوادث , أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلاً للتغيرات والاستحالات , ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم , وهذا معنى صحيح , ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام , ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته , وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء ,وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلاً بل عين المخلوقات هي الفعل ليس هناك فعل ومفعول وخلق ومخلوق بل المخلوق عين الخلق والمفعول عين الفعل ونحو ذلك .
"درء التعارض" (1|245)
قال ابن القيم رحمه الله : وأما حلول الحوادث فيريدون به أنه لا يتكلم بقدرته وميشئته , ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا, ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء, ولا يغضب بعد أن كان راضياً ولا يرضى بعد أن كان غضبان , ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن , ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريداً له , ولا يقول له كن حقيقة , ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستوياً عليه , ولا يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله , ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا لهم ولا يقول للمصلي إذا قال : الحمد لله رب العالمين
قال: حمدني عبدي .
فإذا قال :الرحمن الرحيم .
قال: أثنى علي عبدي .
وإذا قال: مالك يوم الدين .
قال : مجدني عبدي .(1/103)
فإن هذه كلها حوادث , وهو منزه عن حلول الحوادث , وبعضهم يختصر العبارة , ويقول أنا أنزهه عن التعدد والتحدد والتجدد ؛ فيتوهم السامع الجاهل بمراده أنه ينزهه عن تعدد الآلهة , وعن تحدد محيط به حدود وجودية تحصره وتحويه كتحدد البيت ونحوه , وعن تجدد إلهيته وربوبيته ؛ ومراده بالتعدد الذي ينزه عنه تعدد أسمائه وصفاته , وأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا , ولا يتكلم ومراده بالتحدد أنه ليس فوق خلقه ,ولا هو مستو على عرشه , ولا فوق العرش إله يعبد ,وليس فوق العرش إلا العدم .
ومراده بالتجدد أنه لا يقوم به فعل ولا إرادة ولا كلام بمشيئته وقدرته وبعضهم يقتصر على حرفين ؛ فيقول نحن ننزهه عن التكثر والتغير فيتوهم السامع تكثر الآلهة وتغيره سبحانه واستحالته من حال إلى حال , وحقيقة هذا التنزيه أنه لا صفة له ولا فعل .
"الصواعق المرسلة" (3|937)
وقال شيخ الإسلام : والكلابية يقولون هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة , ولا تكون بمشيئته ؛ فأما ما يكون بمشيئته ؛ فإنه حادث , والرب تعالى لا تقوم به الحوادث ويسمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث
فإنه إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته , وناداه حين أتاه بقدرته وبمشيئته كان ذلك النداء , والكلام حادثاً .
قالوا : فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث .
قالوا : ولو قامت به الحوادث لم يخل منها و ما لم يخل من الحوادث فهو حادث .
قالوا : ولأن كونه قابلاً لتلك الصفة إن كانت من لوازم ذاته كان قابلاً لها في الأزل فيلزم جواز وجودها في الأزل .
والحوادث لا تكون في الأزل ؛فإن ذلك يقتضي وجود حوادث لا أول لها , وذلك محال لوجوه قد ذكرت في غير هذا الموضع.
"مجموع الفتاوى "(6/220)
وأما شبهة هؤلاء فهو أنه لو قامت به الأفعال الاختيارية للزم أن لا يخلو منها , وإذا لم يخل منها لزم أن يكون حادثا.
مبحث كلام الله تعالى وما يتعلق به من مسائل وفوائد(1/104)
نقرر مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى ثم نذكر أقوال المذاهب في ذلك , ومذهب الأشاعرة , والرد على شبههم .
عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى
" إن صفة الكلام صفة ذاتية قديمة قائمة بذاته تعالى باعتبار نوع الكلام , وهي صفة فعل تتعلق بها مشيئة الله تعالى باعتبار أفراد الكلام ؛ لأن الكلام الذي خاطب الله به نوحا عليه السلام في شأن ابنه {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} غير الكلام الذي خاطب به موسى عليه السلام {أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين}.
وهو غير الكلام الذي خاطب به عيسى عليه السلام {يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}
وهذا الكلام كله غير الكلام الذي خاطب الله به خاتم رسله وإمامهم محمدا عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج في شأن الصلاة : " لقد خففت على عبادي وأمضيت فريضتي" .
البخاري(3207) ومسلم (164)
وهذا كله غير القرآن الذي أنزله عليه وختم به كتبه .
هذا المعنى , وهذا الفهم هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة , وهم الفرقة الناجية التي تمسكت بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعتقد .
وهذا يعنى أنهم يثبتون لله كلاماً حقيقياً يسمعه المخاطب , وأن هذا القرآن الذي نقرأه بألسنتنا , ونحفظه في صدورنا , ونكتبه في ألواحنا وكتبنا أنه كلام الله حقيقة لفظه ومعناه .
ولا يبحثون عن كيفية تكلمه تعالى به .
لأننا نؤمن به ولا نحيط به علما هذا هو موقف السلف من صفة الكلام بإيجاز لعلمهم بأن الوصف بالتكلم من أوصاف الكمال , وضده من أوصاف النقص , ولا يختلف العقلاء في ذلك , وكلنا نعلم أن معبود قوم موسى الذي اتخذوه من حليهم مما عيب عليه عدم الكلام بل يستدل بذلك على أنه ليس بإله إذ يقول الله تعالى : {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يرو أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا }.(1/105)
1-ومن أقوى الأدلة على أن الله يتكلم حقيقة قوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} حيث أكد الكلام بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمعنى المجازي , وهو أسلوب معروف عند أهل اللغة ؛ فمن قال قتلت العدو قتلا لا يفهم من كلامه إلا القتل الحقيقي الذي هوإزهاق الروح بخلاف ما لو قال قتلت العدو فسكت ؛ فإنه يحتمل القتل الحقيقي , ويحتمل الضرب الشديد المؤلم جدا .
ومما يحكى في هذا الصدد أن بعض المعتزلة قال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة أريد أن تقرأ {وكلم الله موسى تكليما } ينصب لفظ الجلالة ليكون موسى هو المتكلم لا الله !
فقال له أبو عمرو : هب أني قرأت هذه الآية كذا فكيف تصنع بقوله تعالى : {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} فبهت المعتزلي !.
2-قوله تعالى :{ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم} فأنت ترى أن الله عاقبهم , وأهانهم بترك تكليمهم تكليم إكرام وإنعام , ولكنه سبحانه يكلمهم ويوبخهم بقوله : {اخسؤوا فيهاولا تكلمون } .
3-قوله تعالى : {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله }
وهذه الآية من أقوى الأدلة في أن هذا القرآن المقروء , والمسموع كلام الله حقيقة , وهي رد مفحم لأولئك الذين يزعمون أن هذا القرآن ليس بكلام الله حقيقة , وإنما هو دال على كلام الله الحقيقي النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت أو هو عبارة عنه.. .
وهذه العبارة : تعني فيما تعني الاستخفاف بالقرآن الكريم , وعدم احترامه الاحترام الذاتي , وإنما يحترم بواسطة غيره ,وهو ذلك الكلام النفسي الذي يدل عليه .
وهذا المعنى مصرح به في بعض كتبهم , وهم يضمرونه في أنفسهم , ولا يصرحون به في كل مكان إلا في مقام التعليم لبيان الواقع .
وهناك أحاديث في هذا المعنى منها:
1-عن أبي سعيد الخدري قال(1/106)
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ؟ فيقولون : لبيك ربنا وسعديك , فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى, وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك , فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا .
البخاري (7518) ومسلم (2859)
2- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ": إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون ؛ فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم " قال :" فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربك ؟ فيقول : الحق فيقولون : الحق الحق .
أبو داود في سننه (4738) . وأصل الحديث في البخاري (4701) من حديث أبي هريرة .
3-حديث عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه – قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان.
البخاري في صحيحه معلقاً باب قول الله تعالى :{ولا تنفع الشفاعة عنده } , وقد أخرجه في الأدب المفرد وأخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ومدار الحديث على عبد الله بن محمد بن عقيل , وفيه كلام , وللحديث شواهد .
انظر "الفتح" (13|465)
4- قال الإمام البخاري : باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة ثم ساق سنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إن الله قد أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه… .
البخاري (7485) ومسلم (2637)(1/107)
5-ثم ساق حديثاً آخر عن الأعرج عن أبي هريرة وفيه :" ثم يعرج الذين باتوا فيكم - يعني الملائكة - فيسألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم يصلون وأتيناهم يصلون .... " .
البخاري (7486) ومسلم (632)
6- وقال الإمام البخاري باب قول الله تعالى : يريدون أن يبدلوا كلام الله
ثم ساق حديثاً مسنداً عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم :
وفيه يقول الله عز وجل :" الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي.
البخاري(7492) ومسلم (1151)
7-ثم قال الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه : باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء , وغيرهم ثم ساق حديث الشفاعة بطوله , وألفاظه المختلفة .
وفي آخره يقول النبي صلى الله عليه وسلم : فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله فيقول الله عز وجل : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله.
البخاري (7510) ومسلم (193)
هذه الأحاديث , وأخرى كثيرة في صحيح البخاري , وصحيح مسلم , وعند أصحاب السنن الأربعة تضاف إلى الآيات الكثيرة التي تثبت لله الكلام اللفظي الحقيقي .
"الصفات الإلهية "(266)
مذاهب الفرق في كلام الله تعالى
قال ابن أبي العز الحنفي - رحمه الله -:
وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال
أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني إما من العقل الفعال عند بعضهم أو من غيره ,وهذا قول الصابئة والمتفلسفة .
وثانيها : أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه , وهذا قول المعتزلة .
وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله , وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً , وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة, وهذا قول ابن كلاب , ومن وافقه كالأشعري وغيره.
ورابعها : أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل , وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث .(1/108)
وخامسها : أنه حروف وأصوات لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما, وهذا قول الكرامية وغيرهم.
وسادسها : أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته , وهذا يقوله صاحب المعتبر , ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.
وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره , وهذا قول أبي منصور الماتريدي.
وثامنها : أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات , وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات , وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.
وتاسعها : أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء , وهو يتكلم به بصوت يسمع , وأن نوع الكلام قديم , وإن لم يكن الصوت المعين قديما .
وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
"شرح الطحاوية" (168) , و"مجموع الفتاوى" (12/162)
بيان مذهب الأشاعرة في كلام الله
يقوم مذهب الأشاعرة على أن :-
1-كلام الله معنى قائم بالنفس دون الحروف والألفاظ , وهذا ما يسمونه بالكلام النفسي , ومن ثم منعوا أن الله يتكلم بحرف وصوت .
2-إنه قديم أزلي قائم بذات الله كحياته وعلمه , ولذا فهو لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته ولا يتكلم إذا شاء متى شاء .
3-إنه معنى واحد لا يتجزأ هو الأمر بكل مأمور ,والنهي عن كل منهي عنه , والخبر عن كل مخبر عنه ؟ إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً , وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة , وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً .
4-إن القرآن عبارة عن كلام الله وهو مخلوق أتى به جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم أو أوجده في الهواء أو في اللوح المحفوظ .
5-إن تكليم الله لملائكته ,وتكليمه لموسى , وتكليمه لعباده يوم القيامة , ومناداته لمن ناداه إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجوداً .
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (3|1260)
وللرد عليهم نبين كيف نشأ مذهب الأشاعرة :
فقد كان الناس قبل ابن كلاب – شيخ الأشعري – في الصفات على قولين :(1/109)
1-قول أهل السنة الذين يثبتون جميع الصفات كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والوجه واليدين والعين والمجيء ...دون أن يفرقوا بين صفات الذات , وصفات الفعل المتعلقة بمشيئته وقدرته .
2- وقول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون جميع هذه الصفات دون تفريق
ولم يكن هناك قول ثالث حتى جاء ابن كلاب فأثبت الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والإرادة والكلام والوجه واليدين , ونفى ما يتعلق بمشيئته وإرادته من الصفات الاختيارية , وتبعه على ذلك الأشعري ,وجمهور الأشاعرة .
قال شيخ الإسلام :" ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبد الله بن كلاب ؛ فإن السلف والأئمة كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته , والجهمية تنكر هذا وهذا ؛ فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة , وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته .
وجاء أبو الحسن الأشعري بعده , وكان تلميذاً لأبي علي الجبائي المعتزلي ثم إنه رجع عن مقالة المعتزلة , وبين تناقضهم في مواضع كثيرة , وبالغ في مخالفتهم في مسائل القدر والإيمان والوعد والوعيد حتى نسبوه بذلك إلى قول المرجئة والجبرية والواقفة , وسلك في الصفات طريقة ابن كلاب , وهذا القول في القرآن هو قول ابن كلاب في الأصل , وهو قول من اتبعه كالأشعري وغيره .
"مجموع الفتاوى" (12|178)(1/110)
وقد نقل شيخ الإسلام عن أبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد والتي تسمى باسم الرد على من أنكر الحرف والصوت ؛ بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله فقال :" اعلموا - أرشدنا اله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي و الأشعري , وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة , وهم معهم ... من أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق , وإن اختلفت به اللغات , وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذي تكلموا في العقليات , وقالوا : الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة وقالت - يعني علماء العربية - : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ؛ فالاسم مثل زيد وعمرو والفعل مثل جاء وذهب , والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد , وما شاكل ذلك فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا ؛ فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه , وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل , وهم لا يخبرون أصول السنة , ولا ما كان السلف عليه , ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعماً منهم أنها أخبار آحاد , وهي لا توجب علما , وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت ويدخله التعاقب والتأليف , وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون , ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض , وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق والكل والبعض والحركة والسكون وحكم الصفة الذاتية حكم الذات .
قالوا : فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له أحدثه , وأضافه إلى نفسه كما نقول : خلق الله وعبد الله وفعل الله .
قال : فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها , وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل .(1/111)
فالتزموا ما قالته المعتزلة , وركبوا مكابرة العيان , وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة : المسلم والكافر , وقالوا للمعتزلة : الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام ,وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه , وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم ؛ فمنهم من اقتصر على هذا القدر , ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه - تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام - ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم , وإثبات اللغة فيه تشبيه , وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل :
إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فغيروه وقالوا : إن الكلام من الفؤاد .... .
"درء التعارض" (2|86)
ثم قال شيخ الإسلام : وإنما اضطر ابن كلاب و الأشعري , ونحوهما إلى هذا الأصل : أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا تكلم , ولا غير ذلك , وقد تبين لهم فساد قول من يقول : ( القرآن مخلوق ) ولا يجعل لله تعالى كلاماً قائماً بنفسه بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره , وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولاً منفصلاً عن المتكلم , ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه بل إذا خلق الله شيئاً من الصفات , والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل لا لله ؛ فإذا خلق في محل الحركة كان ذلك المحل هو المتحرك بها , وكذلك إذا خلق فيه حياة كان ذلك المحل هي الحي بها , وكذلك إذا خلق علما أو قدرة كان ذلك المحل هو العالم القادر بها ؛ فإذا خلق كلاماً في غيره كان ذلك المحل هو المتكلم به .
وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف مثل أهل الحديث والسنة ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم .(1/112)
ولازم هذا أن من قال : ( إن القرآن العربي مخلوق ) أن لا يكون القرآن العربي كلام الله بل يكون كلاماً للمحل الذي خلق فيه , ومن قال : إن لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا , تبطل حجته على المعتزلة ؛ فإن أصل الحجة أنه إذا خلق كلاماً في محل ؛ كان الكلام صفة لذلك المحل ؛ فإذا كان القرآن العربي كلاماً مخلوقاً في محل كان ذلك المحل هو المتكلم به , ولم يكون كلام الله ولهذا قال من قال : ( لا يسمى كلاماً إلا مجازاً ) فرارا من أن يثبتوا كلاماً حقيقياً قائماً بغير المتكلم به ؛ فلما عظم شناعة الناس على هذا القول , وكان تسمية هذا كلاماً حقيقة معلوماً بالاضطرار من اللغة أراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركاً ؛ فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم .
وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج , ونحوهم ؛ فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طريقة ابن كلاب - ومضمونها : أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء , ولا هو متكلم باختياره ومشيئته - طمع فيهم أولئك لأن جمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختياره , وهو قادر على الكلام وهو يتكلم بما يشاء .
ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته فلزم هؤلاء - إذا جعلوا يتكلم بإرادته وقدرته واختياره - أن يكون كلامه مخلوقاً منفصلاً عنه , ولزم هؤلاء - إذا جعلوه غير مخلوق - أن لا يكون قادرا على الكلام , ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بما يشاء .(1/113)
والمقصود هنا : أن عبد الله بن سعيد بن كلاب , وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه كما قال الأئمة : كلام الله من الله ليس ببائن منه , وقالوا : إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود , فقالوا : ( منه بدأ ) ردا على الجهمية الذين يقولون : بدأ من غيره , ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } ( الزمر : 1 ) وقال تعالى : { ولكن حق القول مني } ( السجدة : 13 ) وأمثال ذلك .
ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل , وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدوراً له متعلقاً بمشيئته بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة ؛ فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدوراً مراداً , قالوا : والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة ؛ فأثبتوا معنى واحداً لم يمكنهم إثبات معان متعددة خوفا من إثبات ما لا نهاية له فاحتاجوا أن يقولوا ( معنى واحدا ) فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين بل جمهور العقلاء عليهم .
وأنكر الناس عليهم أموراً : إثبات معنى واحد هو الأمر والخبر وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به , وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله وأن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها ؛ فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن , وأن الله لا يقدر أن يتكلم , ولا يتكلم بمشيئته واختياره وتكليمه لمن كلمه من خلقه كموسى وآدم ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم فالتكليم هو خلق الإدراك فقط .
ثم منهم من يقول : السمع يتعلق بذلك المعنى , وبكل موجود فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع كما يقوله أبو الحسن ونحوه .
ومنهم من يقول : إنه يسمع ذلك المعنى من القاريء مع صوته المسموع منه كما يقول ذلك طائفة أخرى .(1/114)
وجمهور العقلاء يقولون : إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة , وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم .... .
"درء التعارض"(2|115)
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (3|1266) بتصرف يسير
وأما حجتهم في قولهم بالكلام النفسي :
فقد استدلوا على ذلك
1-قوله تعالى :{ ويقولون في أنفسهم } وما في معناها
2-وقول عمر : "زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها "
البخاري (6830)
3- وقول الأخطل : إن الكلام لفي الفؤاد
وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الأدلة , وبين أنه لا دليل لهم عليها :
أما قوله تعالى :{ويقولون في أنفسهم } فالجواب :
1- أنه قيده بالنفس , وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم , وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق , والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل .
البخاري (5269) , ومسلم (127)
2-وأما قول عمر : زورت فى نفسي مقالة أردت أن أقولها .
فهي حجة عليهم .
قال أبو عبيد : التزوير إصلاح الكلام وتهيئته , وقال أبو زيد: المزور من الكلام والمزوق واحد ؛ وهو المصلح الحسن , وقال غيره : زورت فى نفسى مقالة أى : هيأتها لأقولها ؛ فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله , ولم يقله , فعلم أنه لا يكون قولاً إلا إذا قيل باللسان , وقبل ذلك لم يكن قولاً لكن كان مقدرا في النفس يراد أن يقال كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج , وأنه يصلي وأنه يسافر إلى غير ذلك فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس , ولكن لا يسمى قولا وعملا إلا إذا وجد في الخارج كما أنه لا يكون حاجا ومصلياً إلا إذا وجدت هذه الأفعال في الخارج .... . وهذا يدل عليه الحديث السابق : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل .(1/115)
وأما البيت المنسوب إلى الأخطل ففيه ما فيه من ناحية صحة نسبته إليه حتى ألفاظ البيت حرفت لتوافق مقصود من استشهد به من أهل الكلام.
وقد تعجب شيخ الإسلام من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني , ولم يثبت عنه فقال : ولو احتج محتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا هذا خبر واحد , ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول , وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد ولا أكثر من واحد , ولا تلقاه أهل العربية بالقبول فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة فضلاً عن مسمى الكلام ثم يقال مسمى الكلام .
"مجموع الفتاوى" (7|138)
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (3|1271) بتصرف
وأما الرد على قولهم أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ([FONT='Times New Roman','serif'][20][/font])
أولا :عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :
فصل في الصفات الاختيارية
وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته مثل كلامه وسمعه وبصره وإرادته ومحبته ورضاه ورحمته وغضبه وسخطه , ومثل خلقه وإحسانه وعدله , ومثل استوائه ومجيئه وإتيانه ونزوله , ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسنة.
فالجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم يقولون لا يقوم بذاته شيء من الصفات , ولا غيرها .
والكلابية ومن وافقهم من السالمية , وغيرهم يقولون تقوم صفات بغير مشيئته وقدرته ، فأما ما يكون بمشيئته وقدرته فلا يكون إلا مخلوقاً منفصلاً عنه .
وأما السلف وأئمة السنة والحديث فيقولون : إنه متصف بذلك كما نطق به الكتاب والسنة وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة أو أكثرهم كما ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع .(1/116)
ومثل هذا الكلام ؛ فإن السلف وأئمة السنة والحديث يقولون يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه ليس بمخلوق بل كلامه صفه له قائمة بذاته .
وممن ذكر أن ذلك قول أهل السنة أبو عبد الله بن مندة , وأبو عبد الله بن حامد , وأبو بكر بن عبد العزيز , وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم.
وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في الاستواء , وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي , ومن لا يحصى من الأئمة .
وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني عن سعيد بن منصور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وسائر أهل السنة والحديث متفقون على أنه متكلم بمشيئته , وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء.
وقد سمى الله القرآن العزيز حديثاً فقال : {الله نزل أحسن الحديث} وقال: {ومن أصدق من الله حديثا} وقال : {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء .
أبو داود في سننه (924)
وهذا مما احتج به البخاري في صحيحه , وفي غير صحيحه واحتج به غير البخاري كنعيم بن حماد وحماد بن زيد .
ومن المشهور في السلف: أن القرآن العزيز كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود .
وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون : ليس له كلام قائم بذاته بل كلامه منفصل عنه مخلوق عنه والمعتزلة يطلقون القول بأنه يتكلم بمشيئته , ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاماً منفصلاً عنه، والكلابية والسالمية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه قائم بذاته بدون قدرته ومشيئته مثل حياته , وهم يقولون الكلام صفة ذات لا صفة فعل يتعلق بمشيئته وقدرته , وأولئك يقولون هو صفة فعل لكن الفعل عندهم هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته .(1/117)
وأما السلف وأئمة السنة , وهو كثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير اليامي , وطوائف غير هؤلاء يقولون إنه صفة ذات وفعل هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً بذاته , وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم فكل من وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم .
والكلام صفة كمال لا صفة نقص , ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق .
ولكن الجهمية والمعتزلة بنوا على أصلهم أن الرب لا يقوم به صفة لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع إذ الصفة عرض والعرض لا يقوم إلا بجسم .
والكلابية يقولون : هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة ولا تكون بمشيئته ؛ فأما ما يكون بمشيئته ؛ فإنه حادث , والرب تعالى لا تقوم به الحوادث , ويسمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث؛ فإنه إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته وناداه حيث ناداه بقدرته ومشيئته كان ذلك النداء والكلام حادثاً .
"مجموع الفتاوى" (6/220)
شبهة من نفى أن يكون الله يتكلم بمشيئته وقدرته كالأشاعرة وغيرهم .
شبهة أولئك جاءت أنهم قالوا: " لو اتصف الرب به لقامت به الحوادث قالوا : ولو قامت به الحوادث لم يخل منها , وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
قالوا: ولأن كونه قابلاً لتلك الصفة إن كانت من لوازم ذاته كان قابلاً لها في الأزل فيلزم جواز وجودها هي الأزل , والحوادث لا تكون في الأزل؛ فإن ذلك يقتضي وجود حوادث لا أول وذلك محال.
قالوا : وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام , وبه عرفنا حدوث العالم , وبذلك أثبتنا وجود الصانع وصدق رسله فلو قدحنا في تلك اللوازم لزم القدح في أصول الإيمان والتوحيد .
"مجموع الفتاوى" (6/220)
وأما الرد عليهم في مسألة إنكارهم للحرف والصوت ([FONT='Times New Roman','serif'][21][/font])(1/118)
أولا: عقيدة أهل السنة والجماعة أن كلام الله حرف والصوت
" ومن أنكر أن الله يتكلم بحرف وصوت فهو جهمي .
"مجموع الفتاوى" (12/305)
ثانيا : إن هذه المسألة من المسائل التي يجب أن يستفصل عن معناها
وقال شيخ الإسلام :" ويتبين هذا الجواب بالكلام على المسألة الثانية وهي قوله إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا ؛ فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفياً وإثباتاً خطأ , وهي من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة ، لما قال قوم من متكلمة الصفاتيه إن كلام الله الذي أنزل على أنبياءه كالتوراة والإنجيل والقرآن , والذي لم ينزله والكلمات التي كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره ونهيه وخبره ليست إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة قامت بالله إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة , وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن , وأن الأمر والنهي والخير صفات لها لا أقسام لها ,وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله ولم يتكلم بها , وليست من كلامه إذ كلامه لا يكون إلا بحرف وصوت .
عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد , وهذا لم يقله عالم .
والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد , وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع النصوص الثابتة , وإجماع سلف الأمة , وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره , ولكن أنزله على رسوله وليس القرآن اسماً لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعها , وكذلك سائر الكلام ليس هو الحرف فقط ولا المعاني فقط كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما .(1/119)
وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحيحة , وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القاريء ولا غيره , وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته , وكذلك لا تشبه كلامه كلام المخلوق , ولا معانيه تشبه معانيه , ولا حروفه يشبه حروفه , ولا صوت الرب يشبه صوت العبد ؛ فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته .
"المجموع "(12/244)
أنكر الأشاعرة أن الله يتكلم بحرف وصوت وقالوا : هما مخلوقان لله !
قال الإيجي في المواقف (3|129) : إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة , وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة ؛ فنحن نقول به , ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك .
وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته .. .
قال شيخ الإسلام : " فنص أحمد على ما جاء به الكتاب والسنة أنا نقرأ القرآن بأصواتنا والقرآن كلام الله لفظه ومعناه سمعه جبريل من الله , وبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم , وسمعه محمد منه , وبلغه محمد إلى الخلق يبلغه بعضهم إلى بعض , ويسمعه بعضهم من بعض , ومعلوم أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فبلغوه عنه كما قال : "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه".
فهم سمعوا اللفظ من الرسول بصوت نفسه بالحروف التي تكلم بها وبلغوا لفظه بأصوات أنفسهم , وقد علم الفرق بين من يروي الحديث بالمعنى لا باللفظ .
واللفظ المبلغ هو لفظ الرسول , وهو كلام الرسول ؛ فلو كان صوت المبلغ ليس صوت الرسول , وليس ما قام بالرسول من الصفات والأعراض فارقته , وما قامت بغيره بل , ولا تقوم الصفة والعرض بغير محله .(1/120)
وإذا كان هذا معقولا في صفات المخلوقين ؛ فصفات الخالق أولى بكل صفة كمال , وأبعد من كل صفة نقص , والتباين الذي بين صفة الخالق والمخلوق أعظم من التباين الذي بين صفة مخلوق ومخلوق .
وامتناع الاتحاد والحلول بذات الخالق وصفاته في المخلوق أعظم من الاتحاد والحلول بالذات للمخلوق وصفاته في المخلوق .
"مجموع الفتاوى" (12/99)
وقال ابن قدامة المقدسي -رحمه الله- في جزئه المسمى" الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم" .
" وكلام الله تعالى الذي تكلم به والكلام هو الحروف المنظومة والكلمات المفهومة والأصوات المعلومة .
والدليل على ذلك من وجهين :
أحدهما : من الكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب فقول الله تعالى {آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا }
وقال لمريم {فقولي إن نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} إلى قوله {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} وقال {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن} ….
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم :"عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به ".
البخاري(5269) ومسلم (127) بلفظ :إن الله تجاوز عن أمتي ....
وأخرجه ابن ماجه (2045): بلفظ :إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
وقوله : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ......
مسلم (537)
وأما الإجماع : فإن الناس في أشعارهم ومنثور كلامهم وعرفهم وأحكامهم على أن الكلام النطق، ولهذا قال قائلهم : (إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب)
وأشباه هذا كثيرة
وفي الشعر فما يُكلم إلا حين يبتسم
وقال هبيرة
وإن كلام المرء في غير كنهه كنبل تهوي ليس فيها نصالها
ومثل هذا كثير لا ينحصر .
وأجمعوا على أنه لو حلف لا يتكلم لم يحنث إلا أن ينطق ، ولو قال: امرأته طالق إن بدأ بها بالكلام ، لم يتعلق ذلك إلا بالبداية بالنطق.
وقال أهل العربية: الكلام من اسم وفعل وحرف(1/121)
وقالوا : الكلام ما أفاد، ولا يكون إلا من جملة فعلية ومبتدأية ، ولا ينتظم إلا من اسمين ، أو اسم وفعل أو اسم وحرف في النداء خاصة , ولأن التكليم فعل متعد ، يقال كلمت فلاناً كلاماً، وقد قيل اشتقاقه من الكلم وهو الجرح لأنه يؤثر في المكلم كتأثير الكلم.
والمؤثر المتعدي إنما هو النطق الذي يسمعه المكلم فيؤثر فيه تارة خوفاً ، وتارة رجاء وتارة سروراً ,وتارة حزناً , وتارة تكليفاً ، وتارة إسقاطاً ، وأشباه هذا.
أما ما في النفس فلا يتعدى إليه , ولا يؤثر شيئا فيه، فلا يكون كلاماً ولا تكليماً .
واعترضوا على هذا من وجوه:
أحدها : أن الأخطل قال:
إن الكلام من الفوائد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا
وهذا شاعر نصراني عدو الله ورسوله ودينه ، فيجب إطراح كلام الله ورسوله وسائر الخلق تصحيحاً لكلامه , وحمل أقوالهم على المجاز صيانة لكلمته هذه عن المجاز .
الثاني : قالوا سلمنا أن كلام الآدمي صوتاً وحرفاً , ولكن كلام الله بخلافه لأنه صفته ؛ فلا تشبه صفات الآدميين ولا كلامه كلامهم.
الثالث: أن مذهبكم في الصفات أن لا تفسر فكيف فسرتم كلام الله تعالى بما ذكرتم.
الرابع: أن الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات والصوت لا يكون إلا من جسم , والله تعالى يتعالى عن هذا.
الخامس : أن الحروف يدخلها التعاقب فالباء تسبق السين والسين تسبق الميم وكل مسبوق مخلوق.
السادس : أن هذا يدخله التجزيء والتعداد , والقديم لا يتجزأ ولا يتعدد .
قلنا الجواب عن الأول من وجوه:
الأول : يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر ببيان إسناده , ونقل الثقات له ولا نقنع بشهرته فقد يشتهر الفاسد .
وقد سمعت شيخنا أبا محمد بن الخشاب إمام أهل العربية في زمانه يقول : قد فتشت دواوين الأخطل الكبيرة فلم أجد هذا البيت فيها .
الثاني : لا نسلم أن لفظه هكذا إنما قال:
إن البيان من الفؤاد فحرفوه
وقالوا الكلام. ......(1/122)
السادس: أنه لا تصح إضافة ما ذكروه إلى الله تعالى ؛ فإنه جعل الكلام في الفؤاد , والله تعالى لا يوصف بذلك وجعل اللسان دليلا عليه .
ولأن الذي عنى الأخطل بالكلام هو التروي والفكر واستحضار المعاني وحديث النفس ووسوستها ؛ فلا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى الله تعالى بلا خلاف بين المسلمين .
ومن أعجب الأمور أن خصومنا ردوا على الله وعلى رسوله ,وخالفوه , وخالفوا جميع الخلق من المسلمين وغيرهم فراراً من التشبيه على زعمهم ثم عادوا إلى تشبيه أقبح وأفحش من كل تشبيه , وهذا نوع من التغفيل , ومن أدل الأشياء على فساد قولهم تركهم قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم , وما لا يحصى من الأدلة , وتمسكوا بكلمة قالها الأخطل جعلوها أساس مذهبهم وقاعدة عقدهم .
فلو أنها انفردت عن مبطل وخلت عن معارض لما جاز أن يبنى عليها هذا الأصل العظيم فكيف , وقد عارضها ما لم يمكن رده فمثلهم كمثل رجل بنى قصرا على أعواد الكبريت في مجرى السيل .
وأما قولهم إن كلام الله تعالى يجب أن لا يكون حروفاً لأن لا يشبه كلام الآدميين .
قلنا : جوابه من وجوه
أحدها : أن الاتفاق في أصل الحقيقة ليس بتشبيه كما أن اتفاق البصر في إدراك المبصرات والسمع في أنه إدراك المسموعات , والعلم في أنه إدراك المعلومات ليس بتشبيه كذلك هذا.
الثاني: أنه لو كان ذلك تشبيهاً كان تشبيههم أقبح وأفحش على ما ذكرنا.
الثالث : أنهم إن نفوا هذه الصفة لكون هذا تشبيهاً ينبغي أن ينفوا سائر الصفات من الوجود من الحياة والسمع والبصر وغيرها.
الرابع : أننا نحن لن نفسر هذا إنما فسره الكتاب والسنة كما تقدم.
وأما قوله : إنكم فسرتم هذه الصفة
قلنا: إنما لا يجوز تفسير المتشابه الذي سكت السلف عن تفسيره وليس كذلك الكلام ؛ فإنه من المعلوم بين الخلق لا شبهة فيه , وقد فسره الكتاب والسنة .(1/123)
الثاني: إننا نحن فسرناه بحمله على حقيقته تفسيراً جاء به الكتاب والسنة , وهم فسروه بما لم يرد به كتاب وسنة , ولا يوافق الحقيقة , ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى.
وأما قولهم أن الحروف تحتاج إلى مخارج وأدوات .
قلنا : احتياجها إلى ذلك في حقنا لا يوجب ذلك في كلام الله تعالى الله عن ذلك .
فإن قالوا بل يحتاج الله كحاجتنا قياسا له علينا أخطؤوا من وجوه :
أحدها : أنه يلزمهم في سائر الصفات التي سلموها كالسمع والبصر والعلم والحياة فلا يكون ذلك في حقنا إلا في جسم , ولا يكون البصر إلا في حدقة ولا السمع إلا في انخراق , والله تعالى بخلاف ذلك .
الثاني : أن هذا تشبيه لله تعالى بنا , وقياس له علينا وهذا كفر .
الثالث: أن بعض المخلوقات لم تحتج إلى مخارج في كلامها كالأيدي والأرجل والجلود التي تتكلم يوم القيامة , والحجر الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم , والحصى الذي سبح في كفه , والذراع المسمومة التي كلمته .
وقال ابن مسعود : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل .
ولا خلاف في أن الله تعالى قادر على إنطاق الحجر الأصم بلا أدوات ؛ فكيف عجزوا الله تعالى عن الكلام بلا أدوات.
وقولهم : أن التعاقب يدخل بالحروف
قلنا : إنما كان ذلك في حق من ينطق بالمخارج والأدوات , ولا يوصف الله تعالى في ذلك وقولهم إن القديم لا يتجزأ ولا يتعدد غير صحيح .
فإن أسماء الله معدودة قال الله تعالى {ولله الأسماء الحسنى } وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة .
البخاري(2736) ومسلم (2677)
وهي قديمة , وقد نص الشافعي على أن أسماء الله غير مخلوقة .
وقال الإمام أحمد : من قال إن أسماء الله مخلوقة فقد كفر .
وكذلك كُتُب الله تعالى؛ فإن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن متعددة , وهي كلام الله غير مخلوقة , وإنما هذا شيء أخذوه من علم الكلام , وهو مطرح عند جميع الأئمة الأعلام .
"الصراط المستقيم" (48)(1/124)
" وأما شبهتهم فيما ذهبوا إليه أنهم يقولون إن كان الله تعالى يتكلم بكلام له صوت وحرف ؛ لزم من ذلك التشبيه والتجسيم لأنه لا بد له حينئذ من مخارج الحروف من اللسان والشفتين وغيرهما , وأن الله منزه عن ذلك إلى آخر كلامهم المعروف هذه شبهتهم...
الجواب: إذا قلنا أنه تعالى يتكلم بما يليق بجلاله وعظمته دون أن نلزم كلامه لوازم كلام البشر انتفت الشبهة .
وقد جاء في القرآن الكريم أن بعض أعضاء بني آدم سوف تتكلم يوم القيامة كما ثبت في السنة كلام بعض الجمادات , وكل ذلك دون أن يكون لها مخارج الحروف , وإذا كنا نؤمن بكلام هذه الأشياء تصديقا لخبر الله وخبر رسوله عليه السلام ؛ فكيف نستبعد إذن أن يتكلم الله كيف يشاء ومتى شاء , وهو على كل شيء قدير أو كيف نحاول أن ندرك كيفية تكلمه , وإذا ما عجزنا عن الإدراك نفينا كلامه كأننا نكذب كتابه ورسوله الصادق الأمين أو نتلاعب بالنصوص بعقولنا القاصرة بدعوى التأويل , ونحن عاجزون عن إدراك كيفية كلام الأشياء المذكورة وهي من مخلوقات الله تعالى....
وإليكم النصوص المشار إليها من الكتاب والسنة:
1-قوله تعالى {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم}
2-قوله تعالى : {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء}
3-تسبيح الحصى وتسبيح الطعام وسلام الحجر على المبعوث بالمعجزات الباهرات محمد عليه الصلاة والسلام كما أثبتت السنة ذلك , ونحن وإياكم نؤمن بذلك كله فلنؤمن إذن بكلام الله الذي أنطقها وهو على كل شيء قدير.
"الصفات الإلهية " (268)(1/125)
وقال شيخ الإسلام : فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق , وهم إنما يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله تعالى لكن الله تعالى تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق , وصفات الله تعالى لا تماثل صفات العباد ؛ فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته و لا صفاته ولا أفعاله , والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة والصوت الذي سمعه منه موسى ليس كأصوات شيء من المخلوقات والصوت المسموع هو حروف مؤلفة .
وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده ؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات , وهو سبحانه قد علم العباد من علمه ما شاء كما قال تعالى :{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }
وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقا , ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقا فلا يقال أن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به , وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقاً .
وأصل هذا أن ما يوصف الله به ويوصف به العباد يوصف الله به على ما يليق به , ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك مثل الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ؛ فإن الله له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه والعبد له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام.
وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه 000
ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله ؛ فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق , وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة .
" مجموع الفتاوى " (12|66)
وقال ابن حجر رحمه الله : واختلف أهل الكلام في أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا ؟
فقالت المعتزلة : لا يكون إلا بحرف وصوت ([FONT='Times New Roman','serif'][22])[/font]
والكلام المنسوب إلى الله قائم بالشجرة(1/126)
وقالت : الأشاعرة كلام الله ليس بحرف ولا صوت , وأثبتت الكلام النفسي , وحقيقته معنى قائم بالنفس , وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية , واختلافها لا يدل على اختلاف المعبر عنه , والكلام النفسي هو ذلك المعبر عنه , وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت .
أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القرآن .
وأما الصوت فمن منع قال : إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحنجرة .
وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر, وصفات الرب بخلاف ذلك ؛ فلا يلزم المحذور المذكور مع اعتقاد التنزيه ,وعدم التشبيه , وأنه يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه .
وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب" السنة " : سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال لي أبي : بل تكلم بصوت هذه الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره. ([FONT='Times New Roman','serif'][23])[/font]
وقال ابن حجر -رحمه الله- في شرح حديث أبي سعيد الخدري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله : يا آدم فيقول لبيك وسعديك فيناد بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار".
البخاري( 7483)
قال: قوله : فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار.
وقد طعن أبو الحسن بن الفضل في صحة هذه الطريق , وذكر كلامهم في حفص بن غياث وأنه انفرد بهذا اللفظ عن الأعمش , وليس كما قال فقد وافقه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة له عن أبيه عن المحاربي ([FONT='Times New Roman','serif'][24])[/font]
وأما الرد عليهم في مسألة إن كلام الله معنى واحد(1/127)
وقولهم : لا يتجزأ هو الأمر بكل مأمور , والنهي عن كل منهي عنه , والخبر عن كل مخبر عنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً , وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة , وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً , وقولهم إن الأمر والنهي صفات للكلام لا أنواع له , ولذلك فلا فرق بين القرآن والتوراة , ولا بين آية وآية أخرى دلت على معنى مختلف .
والجواب: أن هذا من أعجب ما في مذهب الأشاعرة , وأشده غرابة حيث إنه مخالف لبداهية العقول , ولواقع الأمر أيضا ...ولذلك اعترف بعض أعلامهم بما في المذهب الأشعري من إشكالات حتى قال العز بن عبد السلام لما سئل في مسألة القرآن : كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار , فقال أبو محمد : ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري .
وقد رد شيخ الإسلام على قولهم هذا بما يلي :
1- إن هذا القول انفردوا به عن سائر الفرق كما ذكره الرازي .
2- يقال للأشاعرة موسى لما كلمه الله أفهم كلامه كله أو بعضه إن قلتم كله ؛ فقد صار موسى يعلم علم الله , وهذا من أعظم الباطل , وإن قلتم بعضه فقد تبعض كلام الله , وأنتم تقولون إنه لا يتبعض ,وفي هذا إبطال لقولكم .
3- إلزامهم أن يقولوا في الصفات ما قالوه في الكلام وبالعكس , وذلك أنه إذا جاز أن يجعلوا الحقائق المتنوعة كآية الدين وآية الكرسي وقصة موسى وقصة نوح , والأمر بالصلاة , والنهي عن الزنا , وعن الربا , والقرآن, والتوراة , والإنجيل شيئاً واحداً ؛ فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والحياة والإرادة صفة واحدة ....(1/128)
4- يقال لمن قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية , وأن الباء ليست قيل السين : هذا بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعاني وهو المعنى القائم بالذات ؛ فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظاً ومعنى قبل الثاني ؛ فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف .
"التسعينية" (188)
5- إن النصوص قد وردت بما يدل على تعدد الكلام , وبطلان قول من زعم أنه معنى واحد ومنها :
أ- الآيات الواردة بأنها كلمات , ومنها قوله تعالى :{ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } وقوله تعالى : {ما نفدت كلمات الله} .
ب- كما وردت أحاديث كثيرة فيها الاستعاذة بكلمات الله التامة
ج- ومنها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن .
مسلم (811)
6-إن أئمة الأشاعرة اعترفوا بفساد قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله , ومن هؤلاء أبو حامد الإسفراييني , وأبو محمد الجويني , وأبو الحسن الكرجي , والعز بن عبد السلام وغيرهم .
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (3|1295)
-لازم قول من قال أن القرآن هو عبارة أو حكاية عما في نفس الله
قال شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله -: وأما قوله أم الذي يقوم بنا يكون عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازا فيقال:
العبارة عن كلام الغيب يقال لمن في نفسه معنى ثم يعبر عنه غيره كما يعبر عما في نفس الأخرس من فهم مراده .
والذين قالوا : القرآن عبارة عن كلام الله قصدوا هذا , وهذا باطل بل القرآن العربى تكلم الله به وجبريل بلغه عنه .(1/129)
وأما الحكاية فيراد بها ما يماثل الشيء كما يقال: هذا يحاكي فلانا إذا كان يأتي بمثل قوله أو عمله , وهذا ممتنع في القرآن ؛ فإن الله تعالى يقول {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله}
وقد يقال فلان حكى فلان عنه أي بلغه عنه ونقله عنه ويجيء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها يحكي عن ربه , ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم روى عن ربه وحكى عن ربه ؛ فإذا قيل أنه حكى عن الله بمعنى أنه بلغ عن الله فهذا صحيح .
"مجموع الفتاوى" (12/552)
- مسألة اللفظ وما امتحن به البخاري - رحمه الله -
قال شيخ الإسلام :" ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل , وغيره من أئمة السنة يقولون من قال: اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي , ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع .
وفي بعض الروايات عنه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يعنى به القرآن فهو جهمي لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا , ومسمى هذا فعل العبد , وفعل العبد مخلوق , ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ , وذلك كلام الله لا كلام القاريء فمن قال إنه مخلوق ؛ فقد قال إن الله لم يتكلم بهذا القرآن , وأن هذا الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله , ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول .
وأما صوت العبد فهو مخلوق , وقد صرح أحمد وغيره بأن الصوت المسموع صوت العبد ولم يقل أحمد قط من قال : صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي , وإنما قال من قال لفظي بالقرآن , والفرق بين لفظ الكلام وصوت المبلغ له فرق واضح .(1/130)
فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الرجل ؛ فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه , وهو إنما بلغه بصوت نفسه لا بصوت ذلك الغير , ونفس اللفظ والتلاوة والقراءة والكتابة ونحو ذلك لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد , وما يحدث عنها من أصواتهم وشكل المداد ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي ويتلوه ويلفظ به ويكتبه منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات الذي يقتضي جعل صفات الله مخلوقة أو جعل صفات العباد ومدادهم غير مخلوق .
وقال أحمد : نقول كلام الله غير مخلوق حيث تصرف أي حيث تلي وكتب وقريء مما هو في نفس الأمر كلام الله فهو كلامه , و كلامه غير مخلوق , وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرؤون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق , ولهذا من لم يهتد إلى هذا الفرق يحار .
"مجموع الفتاوى" (12/75)
قال شيخ الإسلام : " وكذلك أيضا افترى بعض الناس على البخاري الإمام صاحب الصحيح أنه كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق , وجعلوه من اللفظية حتى وقع بينه وبين أصحابه مثل محمد بن يحيى الذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم بسبب ذلك , وكان في القضية أهواء وظنون حتى صنف كتاب خلق الأفعال , وذكر فيه ما رواه عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال : مازلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة .
وذكر فيه ما يوافق ما ذكره في آخر كتابه الصحيح من أن القرآن كلام الله غير مخلوق , وأن الله يتكلم بصوت وينادي بصوت , وساق في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآثار ما ليس هذا موضع بسطه , وبين الفرق بين الصوت الذي ينادي الله به وبين الصوت الذي يسمع من العباد , وأن الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من القاريء , وبين دلائل ذلك , وأن أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة , والله تعالى بفعله , وكلامه غير مخلوق .
"مجموع الفتاوى" (12/365)
مسألة هل الكلام غير المتكلم , والقول غير القائل(1/131)
سئل شيخ الإسلام- رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى" (12/560)
ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين - فيمن يقول الكلام غير المتكلم , والقول غير القائل , والقرآن والمقروء والقاريء كل واحد منها له معنى بينوا لنا ذلك بياناً شافياً ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد أثابكم الله بمنه .
فأجاب -رحمه الله -:
الحمد لله
من قال: إن الكلام غير المتكلم , والقول غير القائل , وأراد أنه مباين له ومنفصل عنه ؛ فهذا خطأ وضلال وهو قول من يقول : إن القرآن مخلوق ؛ فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره , ويوهمون الناس بقولهم العلم غير العالم , والقدرة غير القادر , والكلام غير المتكلم ثم يقولون , وما كان غير الله فهو مخلوق , وهذا تلبيس منهم ؛ فإن لفظ الغير يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له , وعلى هذا فلا يجوز أن يقال علم الله غيره , ولا يقال أن الواحد من العشرة غيرها , وأمثال ذلك وقد يراد بلفظ الغير ما ليس هو الآخر , وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقا لأن صفاته ليست هي الذات لكن قائمة بالذات والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله .
وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها.(1/132)
والصواب : أن يقال في مثل هذا أن يقال الكلام صفة المتكلم , والقول صفة القائل , وكلام الله ليس بايناً منه بل أسمعه لجبريل , ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} , ولا يجوز أن يقال إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره بل يقال كما قال السلف : أنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ و إليه يعود . فقولهم منه بدأ رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام , ومن ذلك المخلوق ابتدأ ؛ فبينوا أن الله هو المتكلم به (منه بدأ) لا من بعض المخلوقات , وإليه يعود أي فلا يبقى في الصدور منه آية , ولا في المصاحف حرف , وأما القرآن فهو كلام الله فمن قال إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال: إن الكلام غير المتكلم , وكذلك من قال إن كلام الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه ظاهر .
وكذلك من قال إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون فقد أخطأ , وإن أراد بالقرآن مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآناً , وقال أردت أن القراءة غير المقروء فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن , وقد يراد بالقراءة المصدر ؛ فمن جعل القراءة التي هي المصدر غير المقروء كما يجعل التكلم الذي هو فعله غير الكلام الذي هو يقوله , وأراد بالغير أنه ليس هو إياه فقد صدق .
فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة ,ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني , ولهذا يجعل القول قسيما للفعل وقسما منه أخرى .
"مجموع الفتاوى" (12/560)
تفسير قول السلف : قديم النوع حادث الآحاد
قال ابن أبي العز الحنفي : والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء , وأن نوع كلامه قديم.
"شرح الطحاوية"( 176)(1/133)
وقال شيخ الإسلام : وأما السلف والأئمة فقالوا: إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته , وإن كان مع ذلك قديم النوع بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ؛ فإن الكلام صفة كمال , ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم , ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون متكلماً بمشيئته وقدرته , ومن لا يزال متكلماً بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكناً له بعد أن يكون ممتنعا منه أو قرر أن ذلك ممكن فكيف إذا كان ممتنعاً لامتناع أن يصير الرب قادراً بعد أن لم يكن وأن يكون التكلم والفعل ممكنا بعد أن كان غير ممكن
"مجموع الفتاوى" (12/372)
وجه إنكار الإمام أحمد لمن قال أن الحروف مخلوقة
قال شيخ الإسلام
الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضاً , وليس في كلامه تناقض وهو أنكره على من قال إن الله خلق الحروف ؛ فإن من قال إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله أن الله لم يتكلم بقرآن عربي , وأن القرآن العربي مخلوق .
ونص أحمد أيضاً على أن كلام الآدميين مخلوق , ولم يجعل شيئا منه غير مخلوق , وكل هذا صحيح… وأحمد أنكر قول القائل أن الله لما خلق الحروف .
وروى عنه أنه قال: من قال إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي لأنه سلك طريقا إلى البدعة , ومن قال: إن ذلك مخلوق فقد قال: إن القرآن مخلوق , وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلما إذا شاء .
"مجموع الفتاوى" (12/85)
بيان أن أبا محمد الجويني تراجع إلى مذهب السلف في كلام الله
ممن تراجع إلى مذهب السلف في مسألة استواء الله على عرشه , وفي مسألة كلام الله وإثبات الحرف والصوت أبو محمد الجويني .(1/134)
وقد كتب في ذلك رسالة ونصيحة إلى إخوانه قال فيها : وبعد فهذه نصيحة كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء والإخلاص والوفاء لما تعين علي من محبتهم في الله ونصيحتهم في صفات الله عز وجل ؛ فإن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه , وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم .
وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة ثلاثا قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
أعرفهم أيدهم الله تعالى بتأييده , ووفقهم لطاعته ومزيده أنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل مسألة الصفات, ومسألة الفوقية , ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد, وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف فيها أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ؛ فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات , وكذلك في إثبات العلو والفوقية , وكذلك في الحرف والصوت ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم ؛ منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء , ويؤول النزول بنزول الأمر , ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين , ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم, وأمثال ذلك ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائماً بالذات بلا حرف ولا صوت , ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم .(1/135)
وممن ذهب إلى هذه الأقوال وبعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين لأني على مذهب الشافعي رضي الله عنه عرفت فرائض ديني وأحكامه ؛ فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال , وهم شيوخي , ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها , وأجد الكدر والظلمة منها, وأجد ضيق الصدر , وعدم انشراحه مقروناً بها فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره .
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه , ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني, وأجد الرسول قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها , وأعلم بالاضطرار أنه كان يحضر في مجلسه الشريف العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها, ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلمين مثل تأويلهم الاستيلاء بالاستواء , ونزول الأمر للنزول , وغير ذلك ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لديه من الفوقية واليدين وغيرها ....
" رسالة في الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت " (32) للجويني
قلت : وكذلك ممن تراجع إلى مذهب السلف في مسألة الحرف والصوت الإمام النووي رحمه الله , وقد حقق بعض طلبة العلم رسالة له في ذلك قبل موته بأشهر أثبت فيها الحرف والصوت , والرسالة مطبوعة متداولة .
وقفة مع تكذيبه لشيخ الإسلام
نقل المعترض في كاشفه ص327 عن شيخ الإسلام في "منهاج السنة" لما ذكر اختلاف الناس في مسألة الكلام :(1/136)
أحدها : قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم , وإما من غيره وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود , وفي كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها بل المضنون الكبير, والمضنون الصغير, ورسالة مشكاة الأنوار , وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا , وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة , وتارة يخالفه , وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطالعة الأحاديث النبوية .
" منهاج السنة " (2|359)
قال المعترض : هذا القول الأول الذي ذكره ابن تيمية في مسألة الكلام , ونسبه إلى الإمام الغزالي في بعض كتبه , وهو في هذه النسبة قريب من الكذب على الإمام الحجة رحمه الله تعالى ؛ فما كان ينبغي له أن ينسب إلى الغزالي ما هو خلاف الدين ؛ فالغزالي رحمه الله في هذه الكتب إنما يشرح , ويبين قول الفلاسفة , ولم يقل أن هذا القول الذي يقول به , ولكن ابن تيمية يهمه جداً أن يظهر الإمام الغزالي , وغيره من السادة الأشاعرة على أنهم من المترددين المتشككين .... والحق أن كل ما نسبه ابن تيمية من تردد علماء الاشاعرة في بعض المسائل , وفي تراجع بعضهم عن بعض الأقوال لا يعدو أن يكون تحريفاً لحقيقة الحال , وهو قد تعمد هذا الوصف الكاذب ... .
قلت : وفي كلامه من الزيغ ما يلي :(1/137)
1- تكذيبه لشيخ الإسلام , وسوء أدبه مع هذا الإمام رحمه الله مع أن كلام شيخ الإسلام واضح جلي , وحقيقة قوله الدفاع عن الغزالي فهو يبين أن للغزالي قولين ؛ وآخر أقواله مخالفته للفلاسفة في هذا القول , وكتاب الغزالي المضنون مطبوع , وبعضهم ينكر أن يكون للغزالي لما فيه من الأقوال الشنيعة , ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها وغيرها من كتب مصنفيها قطعة من هذا ؛ وبسبب ذلك وقع ابن عربي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة مع هؤلاء , ولهذا كثر كلام علماء المسلمين في مصنفيها , ومن الناس من ينكر أن تكون من كلام أبي حامد لما رأى ما فيها من المصائب العظيمة , وآخرون يقولون بل رجع عن ذلك وختم له بالاشتغال بالبخاري ومسلم كما قد ذكر ذلك في سيرته.
الرد على المنطقيين (282)
وقال شيخ الإسلام عن كتاب الغزالي المضنون :والمقصود هنا أن كثيراً من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم , ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره مثل ما ذكره في اللوح المحفوظ حيث جعله النفس الفلكية, ولفظ القلم حيث جعله العقل الأول , ولفظ الملكوت و الجبروت و الملك حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل , ولفظ الشفاعة حيث جعل ذلك فيضا يفيض من الشفيع على المستشفع , وإن كان الشفيع قد لا يدرى وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا كما قد بسط فى موضع آخر.
مجموع الفتاوى (1|245)
2-إن الغزالي له من الأقوال الشنيعة الكثيرة في الإحياء وغيرها .(1/138)
3-إن الأشاعرة من أكثر الناس حيرة وشكاً وتوقفاً , ومثالاً على ذلك الرازي الذي ألف هذا المعترض كتابه للدفاع عنه ؛ فهو مثلاً يقول في مسألة حدوث العالم , وأنه ليس من شرطه أن يكون مسبوقاً بالعدم قال بعد ذكر الأدلة : وعلى هذه الطريقة إشكال ثم ذكره , وقال: فقد بطلت هذه الحجة فهذا شك لابد وأن يتفكر في حله. ويقول في مسألة أخرى : ولكن لابد من فرق بين البابين وهو مشكل جداً . وفي الأربعين قال :حول حدوث العالم : هذا مما نستخير الله فيه وقال هذا سؤال صعب ...
وأما تناقضه فمثلاً في أساس التقديس قال بتماثل الأجسام محتجا به على نفي العلو والصفات الخبرية , ولكنه في المباحث المشرقية وشرح الإشارات رد ذلك وقال بعدم تماثلها .
وفي صفة المحبة قال بتأويلها بالإرادة كما فعل الأشاعرة , ولكنه في أحد مواضع من التفسير قال : ثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة ؛ فوجب نفيها لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة ...
ثم ذكر في موضع آخر في مسألة أدلة الأشاعرة على وجوب حصر الصفات بالسبع أن هذه القاعدة من أدلتهم فقال : أقوى ما قيل فيه أن الله تعالى كلفنا بمعرفته فلا بد من طريق إلى ذلك , وإلا وقع التكليف بالمحال , والطريق لنا إلى ذلك ليس إلا أفعال الله تعالى , وأفعال الله تعالى لا تدل إلا على هذا العدد من الصفات بدليل أنا لو قدرنا ذاتاً موصوفة بهذا القدر من الصفات ؛ فإنه يصح منه الإلهية فثبت أن ما وراء هذه الصفات لم يوجد عليه دلالة أصلا فوجب نفيها .(1/139)
ثم قال معقباً : وقد عرفت ما يمكن أن يقال على هذه الطريقة , وما فيها ومن أبرز الأمثلة على تناقض الرازي أنه في جميع كتبه قرر أن الأدلة النقلية لا تفيد القطع واليقين فلا يحتج بها في العقائد , ومن هذه الكتب نهاية العقول حيث فصل الكلام , وأطال فيه فلما وصل في هذا الكتاب إلى مسألة صفة السمع والبصر ضعف دليل الأشاعرة العقلي في إثباتها ثم رجح أن الأولى الاستدلال لهما بنصوص السمع .
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2|673)
وقد قدمنا قول السنوسي في أنه كان ولوعاً بحفظ آراء الفلاسفة وأصحاب الأهواء وتكثير الشبه لهم وتقوية إيرادها , ومع ضعفه عن تحقيق الجواب عن كثير منها على ما يظهر من تآليفه , ولقد استرقوه في بعض العقائد فخرج إلى قريب من شنيع أهواتئهم , ولهذا يحذر الشيوخ من النظر في كثير من تآليفه .
وقال أيضاً في شرحه لعقيدته الأخرى أم البراهين : وليحذر المبتديء جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشيت بكلام الفلاسفة وأولع مؤلفوها بنقل هوسهم , وما هو كفر صراح من عقائدهم التي ستروا نجاستها بما ينبههم على كثير من اصطلاحهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات وذلك ككتب الإمام الفخر في علم الكلام ...
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2|663)
وانظر كذلك حول حيرة الغزالي وشكه وتخبطه .
"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2|622)
بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في الاستواء على العرش
يعتقد أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه على عرشه استوى والاستواء معناه العلو والارتفاع كما فسره مجاهد و أبو العالية كما في صحيح البخاري
(صحيح البخاري كتاب التوحد باب وكان عرشه على الماء).
قال ابن بطال كما في" الفتح" (13/416):
" اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا فقالت المعتزلة معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة واحتجوا بقول الشاعر
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وقالت الجسمية معناه الاستقرار .(1/140)
وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع , وبعضهم معناه علا
وبعضهم معناه الملك والقدرة ومنه استوت له الممالك يقال لمن أطاعه أهل البلاد
وقيل: معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء , ومنه قوله تعالى : {ولما بلغ أشده واستوى} فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء .
وقيل : إن على في قوله على العرش بمعنى إلى ؛ فالمراد على هذا انتهى إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء .
ثم قال ابن بطال : فأما قول المعتزلة ؛ فإنه فاسد لأنه لم يزل قاهراً غالباً مستولياً, وقوله ثم استوى يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن , ولازم تأويلهم أنه كان مغالباً فيه ؛ فاستوى عليه بقهر من غالبه , وهذا منتف عن الله سبحانه .
وأما قول المجسمة ففاسد أيضاً لأن الاستقرار من صفات الأجسام , ويلزم منه الحلول والتناهي , وهو محال في حق الله تعالى ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وقوله {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} قال , وأما تفسير استوى علا ؛ فهو صحيح وهو المذهب الحق , وقول أهل السنة لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلي وقال: {سبحانه وتعالى عما يشركون} وهي صفة من صفات الذات ، وأما من فسره ارتفع ففيه نظر لأنه لم يصف به نفسه.
وقال ابن حجر رحمه الله : وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل {الرحمن على العرش استوى} فقال: هو على العرش كما أخبر قال : يا أبا عبد الله إنما معناه استولى ، فقال : اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد .(1/141)
ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول : أرادني أحمد بن أبي داود أن أجد له في لغة العرب {الرحمن على العرش استوى} بمعنى استولى فقلت : والله ما أصبت هذا.
وقال غيره : لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش ، لأنه غالب على جميع المخلوقات . ونقل محي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع .
وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه .
وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قال: الاستواء غير مجهول , والكيف غير معقول , والإقرار به إيمان , والجحود به كفر .
ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش؟ فقال: الاستواء غير مجهول , والكيف غير معقول , وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم .
وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال : كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه , ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته .
وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى {ثم استوى على العرش} فقال: هو كما وصف نفسه .
وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله : الرحمن على العرش استوى . كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه , ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه .
ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن قال فيه : والإقرار به واجب والسؤال عنه بدعة .
وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال : كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون , ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف . قال أبو داود: وهو قولنا .
قال البيهقي : وعلى هذا مضى أكابرنا .(1/142)
وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن ؛ وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير؛ فمن فسر شيئا منها , وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه , وفارق الجماعة لأنه وصف الرب بصفة لا شيء .
ومن طريق الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكاً والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا : أمورها كما جاءت بلا كيف.
وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها , ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر , وأما قبل قيام الحجة ؛ فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل , ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات , وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال :{ليس كمثله شيء } .
وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال : كل ما وصف الله به نفسه في كتابه ؛ فتفسيره تلاوته والسكوت عنه .
ومن طريق أبي بكر الضبعي قال : مذهب أهل السنة في قوله :{الرحمن على العرش استوى } قال : بلا كيف , والآثار فيه عن السلف كثيرة , وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل .
"الفتح" (13/418)
قارن بهذه النصوص التي ذكرها ابن حجر رحمه الله , وبين قول المعترض ص191 .. نعم يوجد بعض المجسمة من أهل القرون الأولى أثبتوا لله تعالى الأعضاء والأركان ! .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
تفسير استواء الله تعالى على عرشه بأن علوه تعالى على عرشه على ما يليق بجلاله هو تفسير السلف الصالح .
قال ابن جرير إمام المفسرين في تفسيره: " من معاني الاستواء العلو والارتفاع كقول القائل استوى فلان على سريره يعني علوه عليه "(1/143)
وقال في تفسير قوله تعالى :{الرحمن على العرش استوى } يقول جل ذكره الرحمن على عرشه ارتفع وعلا , ولم ينقل السلف ما يخالفه .
ووجهه أن الاستواء في اللغة يستعمل على وجوه
الأول : أن يكون مطلقاً غير مقيد فيكون معناه الكمال كقوله تعالى {ولما بلغ أشده استوى }
الثاني : أن يكون مقروناً بالواو فيكون بمعنى التساوي ؛ كقولهم استوى الماء والعتبة .
الثالث : أن يكون مقروناً بإلى فيكون بمعنى القصد كقوله تعالى :0{ ثم استوى إلى السماء }.
الرابع : أن يكون مقروناً بعلى فيكون بمعنى العلو والارتفاع كقوله تعالى :{ الرحمن على العرش استوى }.
وذهب بعض السلف إلى أن الاستواء المقرون بعلى بمعنى الصعود والاستقرار إذا كان مقروناً بعلى , وأما تفسيره بالجلوس فقد نقل ابن القيم في" الصواعق" (4/ 1303)عن خارجة بن مصعب في قوله تعالى :{ الرحمن على العرش استوى } قوله وهل يكون الاستواء إلا الجلوس .
وقد ورد ذكر الجلوس في حديث أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا .
"مجموع فتاوى الشيخ العثيمين" (1/ 134)
قلت : أما قول خارجة بن مصعب بتفسير الاستواء بالجلوس فهو تفسير ضعيف , وهذا الأثر أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة (1|106) , وخارجه بن مصعب قد كذبه العلماء .
وأماحديث ابن عباس ؛ وهو حديث الشفاعة : فأرى ربي عز وجل وهو على كرسيه أو سريره .
فإسناده ضعيف في إسناده علي بن زيد بن جدعان .
المسند (1|295) وليس فيه ذكر الجلوس . والله أعلم
وعلى فرض أنه صح عن بعض السلف ؛ فالأصل أن يتوقف في مثل هذه الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة , وأن يستفصل عن معناه كما قدمناه سابقاً.
فإن أراد بالجلوس صفة تليق بجلال الله لا تشبه شيئا من صفات المخلوقين فهو حق مع التوقف في اللفظ , وإن أراد غير ذلك من المعاني الباطلة رددناه.(1/144)
وأما ادعاء المعترض ومحاولة إلصاق تهمة الجلوس بشيخ الإسلام ؛ فهو من الكذب عليه رحمه الله تعالى ؛ فأين التزام شيخ الإسلام أن استواء الله على العرش معناه الجلوس والاستقرار عليه بمماسة.
وخصوصاً أن شيخ الإسلام أكثر من قوله أن الله على عرشه بائن عن خلقه في كثير من المواضع , وإليك بعضها :
قال رحمه الله: وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له بما نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه , ولانقول كما تقول الجهمية أنه ههنا في الأرض . وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
"مجموع الفتاوى" (5/52)
وقال رحمه الله : أما من اعتقد الجهة , فإن كان يعتقد أن الله داخل المخلوقات تحويه المصنوعات وتحصره السماوات , ويكون بعض المخلوقات فوقه , وبعضها تحته فهو مبتدع , وكذلك إن كان يعتقد أن الله يفتقر إلى شيء يحمله إلى العرش أو غيره , فهو أيضاً مبتدع ضال .
وكذلك إن جعل صفات الله مثل صفات المخلوقين فيقول استواء الله كاستواء المخلوق أو نزوله كنزول المخلوق , ونحو ذلك فهذا مبتدع ضال ؛ فإن الكتاب والسنة مع العقل دلت على أن الله لا تماثله المخلوقات في شيء من الأشياء , ودلت على أن الله غني عن كل شيء , ودلت على أن الله مباين للمخلوقات عال عليها .
وإن كان يعتقد أن الخالق تعالى بائن عن المخلوقات , وأنه فوق سماواته على عرشه بائن من مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته , وأن الله غني عن العرش , وعن كل ما سواه لا يفتقر إلى شيء من المخلوقات بل هو مع استوائه على عرشه يحمل العرش وحملة العرش بقدرته , ولا يمثل استواء الله باستواء المخلوقين بل يثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات , وينفي عنه مماثلة المخلوقات , ويعلم أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ؛ فهذا مصيب في اعتقاده موافق لسلف الأمة وأئمتها.
مجموع الفتاوى" (5/262)(1/145)
وادعو القارئ الكريم أن يقارن كلام شيخ الإسلام الذي نقلناه , وبين كذب المعترض على شيخ الإسلام بقوله في كاشفه (398) أن شيخ الإسلام يقول
الله استوى على العرش بمماسة .
وكذلك لفظة الاستقرار فقد نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض السلف
قال : وقال عبد الله بن المبارك ومن تابعه من أهل العلم وهم كثير أن معنى استوى على العرش استقر وهو قول القتيبي .
"مجموع الفتاوى "(5/519)
ووردت عن ابن عباس بسند ضعيف عنه أنه قال في قوله تعالى : {ثم استوى على العرش} قال : استقر على العرش , ويقال امتلأ به .
"الأسماء والصفات" للبيهقي (521)
ونقلها ابن القيم رحمه الله عن ابن عبد البر حافظ المغرب: " والاستواء في اللغة معلوم مفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء , والاستقرار , والتمكن فيه قال أبو عبيدة في قوله تعالى : استوى قال: علا , وتقول العرب : استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت.
قال أبو عمرو : الاستقرار في العلو .
"تهذيب السنن" (13/28) المطبوع على حاشية عون المعبود
وانظر "اجتماع الجيوش الإسلامية" (1|79)
فيقال في هذه اللفظة ما قدمناه في لفظة الجلوس .
أبو الحسن الأشعري يقرر مذهب السلف في علو الله تعالى واستوائه على عرشه
قال ابن القيم رحمه الله :
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب " مقالات المصلين" له في باب ترجمته باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان أم في كل مكان أم في كل مكان وهل حملة العرش ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة.
اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة(1/146)
ثم قال: وقال أهل السنة والحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء , وأنه على العرش كما قال: {الرحمن على العرش استوى} فلا نتقدم بين يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف , وأن له وجهاً كما قال {ويبقى وجه ربك} , وأن له يدين كما قال {خلقت بيدي} , وأن له عينين كما قال {تجري بأعيننا} , وأنه يجيء يوم القيامة وملائكته كما قال {وجاء ربك والملك صفا صفا}, وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث , ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت المعتزلة : إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى .
وقال بعد ذلك في حكاية قول أهل السنة والحديث هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله , وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً , وأنه تعالى إله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً , وأن محمدا عبده ورسوله , وأن الجنة حق والنار حق , وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور , وأن الله تعالى على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} , وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خلقت بيدي} { بل يداه مبسوطتان} , وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} , وأنه له وجهاً كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ثم ذكر مذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب فقال كان يقول : إن القرآن كلام الله , وساقه إلى أن قال : وأنه مستو على عرشه كما قال: وأنه تعالى فوق كل شيء , هذا كله لفظه في المقالات .
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله أيضاً في كتاب "الموجز" :" وإن قالوا: أفتزعمون أن الله في السماء , قيل له : قد نقول إن الله عال فوق العرش مستو عليه , والعرش فوق السماء ولا نصفه بالدخول في الأمكنة , ولا المباينة لها .(1/147)
وأما قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} ؛ فإن معناه أنه إله أهل الأرض وإله أهل السماء .
وقد جاءت الأخبار أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة فكيف يكون فيها , وهو ينزل إليها كما جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا .
فهذا الذي استقر عليه مذهب أبي الحسن في كل كتبه الموجز , والمقالات , والمسائل , ورسالته إلى أهل الثغر , والإبانة أن الله فوق عرشه مستو عليه , ولا يطلق عليه لفظ المباينة لأنها عنده من لوازم الجسم , والله تعالى مننزه عن الجسمية ؛ فظن بعض أتباعه أن نفيه للمباينة نفي للعلو والاستواء بطريق اللزوم فنسبه إليه , وقال عليه ما هو قائل بخلافه , وهذا بين لكل منصف تأمل كلامه وطالع كتبه .
"عون المعبود" (13/40) الحاشية.
إجلاس نبينا صلى الله عليه وسلم على العرش
حاول المعترض أن يربط بين التجسيم , وبين نقل لشيخ الإسلام فيما جاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى :{ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} : يقعده على العرش .
انظر "كاشف المعترض "(412)
وللجواب على هذه الشبهة نقول :
1-إن جلوس نبينا على العرش وردت فيه أحاديث مرفوعة , وأحاديث موقوفة , ولا يصح شيء منها في ذلك .
أما المرفوعة
أ - عن عائشة- رضي الله عنها- قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود قال : وعدني ربي بالقعود على العرش .
ذكره ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه (244) وقال : هذا حديث مكذوب لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب - عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال : بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأ عليه حتى بلغت {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال : يجلسني على العرش .
قال الذهبي في العلو : هذا حديث منكر لايفرح به , وسلمة هذا – أي الراوي في الحديث- متروك الحديث , وأشعث لم يلحق ابن مسعود .(1/148)
ج- عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال : يجلسني معه على السرير .
أخرجه الديلمي في مسند الفردوس كما في الضعيفة (6465) , وقال شيخنا باطل .
وأما الموقوفة
أ - عن ابن عباس قال في قول الله عز وجل: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال : يجلسه فيما بينه وبين جبريل , ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود .
أخرجه الطبراني في الكبير , وإسناده باطل كما قال شيخنا في الضعيفة (5008).
ب-عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه - قال : إن محمداً يوم القيامة بين يدي الرب على كرسي الرب تبارك وتعالى .
"السنة" للخلال (209) من عدة طرق عن سيف السدوسي , وسيف هذا مجهول .
وأما الآثار عن التابعين
1- عن مجاهد قال في قوله تعالى :{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال: يجلسه على العرش .
"السنة" للخلال (213) , والآجري في "الشريعة " (405) ,ومدار طرقه على ليث بن أبي سليم ,وهو مختلط جداً .
والصواب أن المقام المحمود هو الشفاعة
1- أورد البخاري في كتاب التفسير باب { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } عن ابن عمر -رضي الله عنهما – يقول : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاً كل أمة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .
البخاري (4718)
2- عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ؛ آت محمدا الوسيلة والفضيلة , وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة .
البخاري (4719)
3- عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } سئل عنها قال : هي الشفاعة .
الترمذي (3137) , قال أبو عيسى : هذا حديث حسن(1/149)
وقال شيخنا الألباني رحمه الله في "مختصر العلو" (16) بعد أن نقل قول الإمام الذهبي : ولكن ثبت في الصحاح أن المقام المحمود هو الشفاعة العامة , والخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال شيخنا : وهذا هو الحق في تفسير المقام المحمود دون شك , ولا ريب للأحاديث التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى , وهو الذي صححه الإمام ابن جرير في تفسيره (15/99) ثم القرطبي (10/309) , وهو الذي لم يذكر الحافظ ابن كثير غيره , وساق الأحاديث المشار إليها بل هو الثابت عن مجاهد نفسه من طريقين عنه عند ابن جرير , وذاك الأثر عنه- أي أثر الجلوس - ليس له طريق معتبر فقد ذكر المؤلف (ص 125) أنه روي عن ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد .
قال الألباني –رحمه الله- : والأولان مختلفان والآخران ضعيفان بل الأخير متروك متهم .
ونقل كذلك شيخنا عن الذهبي قوله في حديث ابن مسعود مرفوعا : يجلسني على العرش وضعفه بقوله : مرسله الأحمر متروك الحديث
ورواه (ص99) عن ابن عباس موقوفا , وقال : إسناده ساقط , وعمر بن مدرك الرازي متروك , وهذا مشهور من قول مجاهد , ويروى مرفوعا وهو باطل , وقد خرجت الحديث في الضعيفة (865) .
"مختصر العلو"( 14)
وقال كذلك - أي الذهبي - في ترجمة محمد بن مصعب العابد كما يأتي : فأما قضية قعود نبينا على العرش ؛ فلم يتبين في ذلك نص بل في الباب حديث واه , وما فسر به مجاهد الآية كما ذكرناه.
"مختصر العلو"( 14)
2- إن الموضع الذي نقل منه المعترض سياق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ليس موضع تحرير وتقرير , وإنما هو في سياق أدلة من فضل صالحي البشر على الملائكة من العلماء , وذكر من جملة أدلتهم أنهم استدلوا بما ورد عن مجاهد أن فسر المقام المحمود بإقعاد نبينا على العرش .
4- قال بعض علماء السلف بهذه الآثار , وقالوا بها مع بيان تطبيق قواعد مذهب أهل السنة ولا محذور في ذلك.(1/150)
قال ابن القيم -رحمه الله- : قال القاضي : صنف المروزي كتاباً في فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم , وذكر فيه إقعاده على العرش , قال القاضي : وهو قول أبي داود وأحمد بن أصرم ويحيى بن أبي طالب وأبي بكر بن حماد وأبي جعفر الدمشقي وعياش الدوري وإسحاق بن راهويه وعبد الوهاب الوراق وإبراهيم الأصبهاني وإبراهيم الحربي وهارون بن معروف ومحمد بن إسماعيل السلمي ومحمد بن مصعب بن العابد وأبي بن صدقة ومحمد بن بشر بن شريك وأبي قلابة وعلي بن سهل وأبي عبد الله بن عبد النور وأبي عبيد والحسن بن فضل وهارون بن العباس الهاشمي وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ومحمد بن عمران الفارسي الزاهد ومحمد بن يونس البصري وعبد الله ابن الإمام والمروزي وبشر الحافي .
قلت : وهو قول ابن جرير الطبري , وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير , وهو قول أبي الحسن الدارقطني .
ومن شعره فيه
حديث الشفاعة عن أحمد ... إلى أحمد المصطفى مسنده
وجاء حديث بإقعاده ... على العرش أيضا فلا نجحده
أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده
ولا تنكروا أنه قاعده ... ولا تنكروا أنه يقعده
"بدائع الفوائد "(4|841)
وقال ابن جربر الطبري بعد أن ذكر روايات العلماء في تفسير الآية قال: وهذا , وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} لما ذكرنا من الرواية عن رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعيين أي الشفاعة ؛ فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه قول غير مدفوع صحته لا من جهة خبر ولا نظر , وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا عن أحد من أصحابه , ولا عن أحد من التابعين بإحالة ذلك.
"تفسير ابن جرير" (8/134)
مسألة ما ادعاه المعترض على شيخ الإسلام أنه يقول بجواز مماسة الله للنجاسات والشياطين
"الكاشف" (420)(1/151)
1-هذا المعترض لا يتورع عن الكذب والتدليس ، فهو يقتطع كلام ابن تيمية ويفسره بما يحلو له , وهذه المسألة من هذا القبيل ؛ فأنا أسوق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كاملاً , وأدع للقاريء الكريم الحكم , وهل يفهم ما ادعاه ؟ !.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإن قيل ما ذكره الإمام أحمد , وقدرتموه من امتناع كونه في العالم غير مباين ولا مماس معارض بما يذكره المؤلف عن أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم القائلون بأنه فوق العرش ؛ فإنهم يقولون هو فوق العرش غير مباين , ولا مماس فما الفرق بين الموضعين؟
قيل : هؤلاء الذين يقولون هذا إنما يقولونه لأنهم يقولون أنه فوق العرش , وليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف ممن اتبعهم من أهل الفقه وغيرهم, وطوائف كثيرة من أهل الكلام والفقه يقولون : بل هو مماس للعرش .
ومنهم من يقول : هو مباين له ولأصحاب أحمد ونحوهم من أهل الحديث والفقه والتصوف في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
منهم من يثبت المماسة كما جاءت بها الآثار
ثم من هؤلاء من يقول : إنما أثبت إدراك اللمس من غير مماسة للمخلوق بل أثبت الإدراكات الخمسة له , وهذا قول أكثر الأشعرية والقاضي أبي يعلى وغيره.
فلهم في هذه المسألة قولان كما تقدم بيانه وعلى هذا فلا يرد السؤال .
ومنهم من أصحاب أحمد وغيره : من ينفي المماسة.
ومنهم من يقول لا أثبتها ولا أنفيها ؛ فلا أقول هو مماس مباين ولا غير مماس ولا مباين وهذه المباينة التي تقابل المماسة أحق من المباينة التي تقابل المحايثة .
فإن هذه العامة متفق عليها عند أهل الإثبات , وهي تكون للجسم مع الجسم , وللجسم مع العرض , وأما التي تقابل المماسة ؛ فإنها لا تكون له مع العرض والعرض يحايث الجسم فلا يباينه المباينة العامة.
وأما الخاصة فلا يقال فيها مباينة ومماسة فامتناع خلوه عن المباينة العامة والمحايثة أولى.(1/152)
فإن المباينة الخاصة والمماسة نوعان للمباينة العامة
فإذا امتنع رفع النوع فامتناع رفع الجنس أولى , وليس هذا موضع الكلام في هذه الأقوال , ولكن نذكر جواباً عاماً فنقول : كونه فوق العرش ثبت بالشرع المتواتر , وإجماع سلف الأمة مع دلالة العقل ضرورة ونظراً أنه خارج العالم ؛ فلا يخلو مع ذلك إما أن يلزم أن يكون مماساً أو مبايناً أو لا يلزم ؛ فإن لزم أحدها كان ذلك لازماً للحق ، ولازم الحق حق، وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك ؛ فإن تنزيهه عن ذلك إنما أثبتناه لوجوب بعد هذه الأشياء عنه , وكونها ملعونة مطرودة لم نثبته لاستحالة المماسة عليه، وتلك الأدلة منتفية في مماسته للعرش ونحوه كما روي في مس آدم وغيره , وهذا جواب جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام.
وإن لم يلزم من كونه فوق العرش أن يكون مماساً أو مبايناً ؛ فقد اندفع السؤال .
فهذا الجواب هنا قاطع من غير حاجة إلى تغيير القول الصحيح في هذا المقام , وبين من قال : إنه فوق العرش ليس بمباين كما يقوله من الكلابية والأشعرية من يقول , ومن اتبعهم من أهل الفقه والحديث والتصوف والحنبلية وغيرهم إن كان قولهم حقاً فلا كلام , وإن كان باطلاً فليس ظهور بطلانه موجود قائم بنفسه أنه فيه ليس بمماس , ولا مباين له ، وأنه ليس هو فيه ولا هو خارجا عنه.
"بيان تلبيس الجهمية" (2|556)
قلت: فيتبين لك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما يلي:
1-يبحث اختلاف العلماء في مسألة علو الله على عرشه بمماسة أوغير مماسة.
2-يقرر رحمه الله أن علو الله على عرشه لا يخلو إما أن يكون بمماسة أو غير مماسة أو لا يلزم.
فإن قلنا أنه سبحانه على عرشه بمماسة ؛ فلا محذور في ذلك لأن العرش أكبر مخلقات الله وأعظمها ولا محذورفي مماسته له .(1/153)
فالعرش ليس شيئا مستهجنا كالمخلوقات المستهجنة المطرودة كالشياطين والنجاسات ؛ فالعرش شيء عظيم بل هو أعظم المخلوقات .
وهذا التنزيه لوجوب بعد هذه الأشياء المستهجنة عنه سبحانه وتعالى .
وإذا قلنا : أنه لا يلزم أنه مماس أوغير مماس ؛ فلا حاجة للجواب لأنه اندفع السؤال .
3- قد قرر رحمه الله تنزيه الله عما ذكره هذا المعترض في كتابه بيان تلبيس الجهمية , ولا شك أن المعترض اطلع على كلامه فجل رده على كتاب شيخ الإسلام المذكور , ولكن سوء القصد والتعلق بأي كلمة .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى , وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها , وتوعد على ذلك بالعقاب كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه .
وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام, وهي مما فطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها ,واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة ؛ فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الرب عنه لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات , ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة , وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير ؛ فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له وينزه عن النجاسة كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة أعظم وأكثر للعلم بأن الرب أحق بالتنزيه عن كما ينزه عن غيره .
"بيان تلبيس الجهمية " (2|537) والحكم للقاريء
4- وقارن بكلام شيخ الإسلام , وبين كلام الرازي شيخ المعترض الذي يقول : إنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص , ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلا! .(1/154)
قال ابن القيم -رحمه الله - : كما صرح به الرازي وتلقاه عن الجويني وأمثاله قالوا , وإنما نفينا النقائص عنه بالإجماع , وقد قدح الرازي وغيره من النفاة في دلالة الإجماع , وبينوا أنها ظنية لا قطعية ؛ فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص بل غاية ما عندهم في ذلك الظن فيا للعقلاء ويا لأولي الألباب كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على خلقه , واستوائه على عرشه , وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكليمه لموسى حقيقة بكلامه القائم به , ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عياناً من فوقهم في الجنة حتى تدعي أن الأدلة السمعية الدالة على ذلك قد عارضها صريح العقل , وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليل عقلي , ولكن علمناه بالإجماع , وقد قلتم دلالته ظنية ؛ فوالله لو قال المشبه المجسم بزعمكم ما قال ما رضي لنفسه بهذا , ولكان رب العالمين وقيوم السماوات والأرض أكبر في صدره وأجل في قلبه من أن لا يكون في عقله دليل ينزهه عن النقائص , ولعل جاهلاً أن يقول إنا قلنا عليهم ما لم يقولوا أو استجزنا ما يستجيزونه هم من حكاية مذاهب الناس عنهم فما يعتقدونه هم لازم لأقوالهم فيكذبون عليهم كذباً صريحاً يقولون مذهب الحنابلة إن الله يجوز أن يتكلم بشيء ولا يعني به شيئا, ومذهبهم أن الله لا يجوز أن يرى , وأمثال ذلك مما هو كذب صريح وفرية مستندهم فيها ما فهموه من لازم قولهم ؛ فنحن لا نستجيز ذلك على أحد من الناس , ولكن هذه كتب القوم فراجعها , ولا تقلد الحاكي عنهم , ويكفيك من فساد عقل يعارض الوحي أنه لم يقم عنده دليل عقلي ينزه ربه وخالقه عن العيوب والنقائص ؛ فلقد كشف لك صاحب هذا العقل عن حقيقة معقوله , وأقر على نفسه وعقله أنه أقل وأحقر شأنا أن يعارض الوحي ونصوص الأنبياء ثم يتقدم عليها وبالله التوفيق .
"الصواعق المرسلة "(4|1229)
تفسير الله الصمد الذي لا جوف له .(1/155)
قول شيخ الإسلام في هذه المسألة ليس ببدع من القول كما يقول المعترض في كاشفه (430) : هذه المسألة غريبة , وقول شاذ ينكره العاقل .. فحاصل قوله في ذلك أن معنى ذلك أن الله لا جوف له بل هو ممتليء ولا يوجد فراغ فيه أي في ذاته.
قلت:
1-كلام شيخ الإسلام واضح جلي فهو ينقل أقوال من سبقه من علماء السلف في تفسير معنى الصمد , ومنها أنه الذي لا جوف له.
فقد ورد عن السلف في تفسير الصمد ثلاثة معان ذكرها ابن جرير في تفسيره , وذكرها القرطبي في كتاب الأسني في شرح أسماء الله الحسنى.
1-الصمد الذي لا جوف له
ورد عن مجاهد من طريقين ,وعن الحسن البصري , وعن سعيد بن جبير , وعن عكرمة بأسانيد صحيحة كما في التنكيل , وقد ورد مرفوعاً إلا أنه ضعيف.
2-وقيل الصمد الباقي الذي لا يفنى كما ورد عن الحسن البصري , وكما في" السنة" لابن أبي عاصم (1/301) , وتفسير ابن جرير.
3-الصمد : السيد الذي كمل سؤدده ؛ فهو العالم الذي كمل في علمه , والقادر الذي كملت قدرته , وقد رجح ابن جرير هذا المعنى.
قال شيخ الإسلام : وتفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له معروف عن ابن مسعود موقوفاً ومرفوعاً وعن ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والسدي وقتادة , وبمعنى ذلك قال سعيد بن المسيب قال: هو الذي لا حشو له
وكذلك قال ابن مسعود : هو الذي ليست له أحشاء
وكذلك قال الشعبي : هو الذي لا يأكل ولا يشرب
وعن محمد بن كعب القرظي وعكرمة : هو الذي لا يخرج منه شيء
وعن ميسرة : هو المصمت
قال ابن قتيبة : كأن الدال في هذا التفسير مبدلة من تاء والصمت من هذا .
"مجموع الفتاوى "(17/215)
وهذه الأقوال لا منافاة بينها:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحه للواسطية (1/160) :" قيل: إن الصمد هو الكامل في علمه في قدرته في حكمته في سؤدده في كل صفاته .(1/156)
وقيل الصمد : الذي لا جوف له بمعنى لا أمعاء ولا بطن , ولهذا قيل الملائكة صمد لأنهم ليس لهم أجواف لا يأكلون ولا يشربون هذا المعنى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما , ولا ينافي المعنى الأول لأنه يدل على غناه بنفسه عن جميع خلقه .
وقيل الصمد بمعنى المفعول : أي المصمود إليه أي الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها بمعنى تميل إليه , وتنتهي إليه وترفع إليه حوائجها فهو بمعنى الذي يحتاج إليه كل أحد .
هذه الأقاويل لا ينافي بعضها بعضا فيما يتعلق بالله عز وجل , ولهذا نقول : إن المعاني كلها ثابتة لعدم المنافاة فيما بينها.
حديث الإدلاء
قال المعترض : وهو يتضمن القول بأن الله محيط بذاته بالمخلوقات.
نقول أولا :
1-إن شيخ الإسلام قد ضعف حديث الإدلاء قال رحمه الله : وحديث الإدلاء الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن عن أبي هريرة وهو منقطع ؛ فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة , ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع ؛ فإن كان ثابتا فمعناه موافق لهذا .
"مجموعة الرسائل والمسائل" (2/139)
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله عن حديث الإدلاء :(1/157)
هذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه , والذين قالوا إنه صحيح يقولون إن معنى الحديث لو أدليتم بحبل لوقع على الله –عز وجل- لأن الله تعالى محيط بكل شيء ؛ فكل شيء هو في قبضة الله سبحانه وتعالى , وكل شيء ؛ فإنه لا يغيب عن الله تعالى حتى إن السموات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن –عز وجل كخردلة في يد أحدنا يقول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون دالاً على أن الله في كل مكان أو على أن الله تعالى في أسفل الأرض السابعة ؛ فإن هذا ممتنع شرعاً وعقلاً وفطرة لأن علو الله سبحانه وتعالى قد دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والعقل والفطرة .
"مجموع فتاوى الشيخ العثيمين "(1/140).
2- إن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله محيط بكل شيء وفوقه
قال ابن أبي العز الحنفي (281)
" وأما قوله : محيط بكل شيء وفوقه , وفي بعض النسخ : محيط بكل شيء فوقه [ بحذف الواو ] من قوله : فوقه , والنسخة الأولى هي الصحيحة , ومعناها أنه تعالى محيط بكل شيء , وفوق كل شيء , ومعنى الثانية : أنه محيط بكل شيء فوق العرش وهذه - والله أعلم - إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد وإنكار لصفة الفوقية ؛ وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات , وليس فوقه شيء من المخلوقات ؛ فلا يبقى لقوله : محيط - بمعنى : محيط بكل شيء فوق العرش , والحالة هذه : معنى إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحيط به فتعين ثبوت الواو ويكون المعنى : أنه سبحانه محيط بكل شيء وفوق كل شيء .(1/158)
أما كونه محيطاً بكل شيء فقال تعالى : { والله من ورائهم محيط } { ألا إنه بكل شيء محيط } { ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا } , وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك , وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً , وإنما المراد : إحاطة عظمته وسعة علمه وقدرته , وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن - إلا كخردلة في يد أحدكم .
ومن المعلوم - ولله المثل الأعلى - أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها , وأحاط قبضته بها وإن شاء جعلها تحته , وهو في الحالين مباين لها عال عليها فوقها من جميع الوجوه فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف ؛ فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم , وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة ؛ فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم , وهو على عرشه فوق سماواته ؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه ؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره .
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى : فقال له أبو زرين : كيف يسعنا - يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخلياً به والله أكبر من ذلك , وإذا أفل تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء .
أبو داود (4731) , وابن ماجه (180)وإسناده حسن
فهذا يزيل كل إشكال ويبطل كل خيال .
وأما كونه فوق المخلوقات فقال تعالى : { وهو القاهر فوق عباده } { يخافون ربهم من فوقهم } 000(1/159)
وقال شيخ الإسلام: والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره أو تدركه أبصارهم أو يحيطون به علماً , وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم أو تحت شيء منه ؛ فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل , وأحاط بها بغير ذلك لم يجز أن يقال : إن أحد جانبيها فوقه لكون يده لما أحاطت بها كان منها الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها , ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار لم يكن هذا صفة نقص بل صفة كمال .
وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات كإحاطة الإنسان بما في جوفه , وإحاطة البيت بما فيه , وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب ؛ فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال : إنها تحت المحاط , وأن ذلك نقص مع كون المحيط يحيط به غيره ؛ فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء الذي تكون الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به ويكون ذلك نقصاً ممتنعاً .
وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل فقال للسائل : إذا كان باشق كبير- نوع من الطيور - , وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكاً لها في حال طيرانه , وهو فوقها ومحيط بها ؛ فإذا كان مثل هذا ممكنا في المخلوق فكيف يتعذر في الخالق .
"درء التعارض "(3|281)
هذا ما يسر الله سبحانه وتعالى من الرد على كتاب "الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية " للمدعو سعيد فودة , أسأل الله العظيم أن ينفع بهذا الكتاب , وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم .
وفي الختام نقول كما قال ابن القيم رحمه الله :
ونحن وإياهم نموت ولا أفلح عند الحساب من ندما(1/160)
([1])" مجموع الفتاوى " (16|528) وقد تسلط بعض أمراء دمشق على كتب شيخ الإسلام بالحرق والإتلاف , وكان يشتري كتبه ورسائله , وإذا علم أن عند أحد كتابا لشيخ الإسلام يشح به ؛ دفع له أغلى الأثمان , وقد عامل الله قصده بالنقيض فها هي كتب شيخ الإسلام شرقا وغربا تملأ الأسواق والمكتبات , وقل من رسالة أو كتاب إلا ولشيخ الإسلام فيها ذكر , ولله الحمد والمنة .
([2])والراد على أهل البدع مجاهد بل هو أفضل من المجاهد في سبيل الله كما قرره -رحمه الله تعالى - بقوله : فالراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحيى بن يحيى يقول : الذب عن السنة أفضل من الجهاد . "مجموع الفتاوى" (4|13)
([3]) قال نذير العطاونة في كتابه "إحكام التقييد على أغاليط سعيد " (75) : وأما كتاب سعيد " الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية " الذي طوله وعرضه وأعطاه فكرة صناعته سيدي السقاف ! حتى أعاره كتاب ابن تيمية " التأسيس" ... والكتاب أيضا ضعيف جداً وأسلوبه مشوش بحيث لا يستفيد من يقرأه شيئا يذكر ... مع التنبيه إلى أنه لم يحسن الرد على ابن تيمية لكثرة الإنشاءات في ثنايا كتابه بل وقع هو نفسه بطامات عظيمة ... .
وهؤلاء من زمرة واحدة .
([4]) وقد قرر شيخ الإسلام أن أقوال هذا المبتدع الرافضي لم يقلها أحد من أهل السنة . انظر "منهاج السنة" (2|516)
([5]) وقد ألف المعترض كتابه للدفاع عن كتابه أساس التقديس كما ذكر .
([6])البداية والنهاية (13/6) , وسير أعلام النبلاء (21|500).
([7]) ومن قوله الذي نقل عنه : عالجت نفسي في بغض العرب كذا وكذا سنة فلم أستطع! .
([8]) التنكيل (1/74) من كلمة لمحمد بهجة البيطار علامة الشام في عصره.
([9])" البداية والنهاية" (10|346)
([10])مسلم في صحيحه (2670) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
[11] ([11])انظر "تبيين كذب المفتري" في ذم علم الكلام (333)
([12])شرح العقيدة الطحاوية (208)
([13])الفتح (13|312)
([14])الكاشف ( 37)(1/161)
([15]) مجموع الفتاوى (9|231)
([16]) "القواعد المثلى " (81) , ومن العجب والعجائب جمة أن يصبح أبو الحسن الأشعري عند السقاف من المجسمة , وهذا من أسباب الخلاف بينه وبين فودة .
([17])وكذلك الإمام البيهقي في كتابه " الأسماء والصفات"
([18])وقد قرر ابن أبي العز -رحمه الله- بقوله : ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على الخلق شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر ولا القصد 000
([19]) ومن تناقض هذا المعترض أنه نقل الخلاف عند الأشاعرة في أنه هل للمولى تعالى صفة زائدة على السبع المعاني تسمى الإدراك يدرك بها الملموسات والمذوقات والمشمومات لأنها كمال , وكل كمال يجب أن يثبت له.. ! . تهذيب السنوسية (44)
([20])انظر الكاشف (311) والعجب أن الرازي يقول بقيام الحوادث بالله موافقاً لمذهب السلف مخالفاً لمذهب الأشاعرة . قال ابن حجر رحمه الله : وذكر الفخر الرازي في" المطالب العالية" : أن قول من قال أنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلاً وعقلاً ! , وأطال في تقرير ذلك .
([21]) "الكاشف" (309)
([22]) والفارق بين أهل السنة والمعتزلة أنهم يقولون الله يخلق الكلام , وأما أهل السنة فيقولون هو صفة الله .
([23]) "الفتح " (13/469) , وأما حديث ابن مسود فهو ما ذكره البخاري معلقا عن ابن مسعود مرفوعا صحيحا – وقد تقدم -: إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السموات ؛ فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا….
([24]) "الفتح" (13/468)(1/162)