إعداد
د/ عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله
المقدمة
(الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين)(1).
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أما بعد:
__________
(1) هذه هي خطبة الإمام أحمد -رحمه الله- في كتاب الرد على الجهمية والزنادقة الذي صنفه في محبسه ورأيت مناسبتها لهذا الموضوع... الرد على الجهمية والزنادقة 13، 14. انظر المنهاج 5/273.(1/1)
فقد (كان الناس لما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في ضلال عظيم، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وإن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان، فابعث جندًا ابعث مثيلهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق أنفق عليك، وقال: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا..»(2) الحديث بطوله.
وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول، وصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين» يقتلهم أولى الطائفتين بالحق(3).
__________
(1) عياض بن حمار المجاشعي التميمي، صحابي جليل، انظر تجريد أسماء الصحابة 1/430، الإصابة 7/185، التقريب 1/437، سكن البصرة، وعاش إلى حدود الخمسين، روى له مسلم والأربعة.
(2) رواه مسلم كتاب "الجنة وصفة نعيمها وأهلها"، باب "الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار" 4/2197- 2199 مع اختلاف يسير.
(3) رواه مسلم كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/745، 746.(1/2)
وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق، وحدثت أيضا بدعة التشيع كالغلاة المدعين لإلهية علي والمدعين النص على علي - رضي الله عنه - السابين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما [وطائفة ثالثة تفضل عليًا على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وهذه من الشيعة] فعاقب أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - الطائفتين [الأولتين]: قاتل المارقين، وأمر بإحراق أولئك الذين ادَّعوا فيه الإلهية، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له فقال لهم: ما هذا ؟ فقالوا: أنت هو. قال: من أنا؟ قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو، فقال: ويحكم هذا كفر، ارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك فأخرهم ثلاثة أيام - لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام - فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد فخدت فأضرمت فيها النار(1) عند باب كندة وقذفهم في تلك النار.
وروي عنه أنه قال:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا ... أججت ناري ودعوت قنبرا(2)
وقتل هؤلاء واجب باتفاق المسلمين، لكن في جواز تحريقهم نزاع فعلي - رضي الله عنه - رأي تحريقهم، وخالفه ابن عباس وغيره من الفقهاء.
قال ابن عباس: أما أنا فلو كنت لم أحرقهم لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن يعذب بعذاب الله»(3) ولضربت أعناقهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه»(4)، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
__________
(1) الفصل 5/46، 47.
(2) الفصل 5/47.
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب لا يعذب بعذاب الله 4/21.
(4) رواه البخاري كتاب استتابة المرتدين باب حكم المرتد والمرتدة 8/50.(1/3)
وأما السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر، فإن عليًا لما بلغه ذلك طلب ابن السوداء(1) الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنه أراد قتله فهرب منه إلى أرض قرقيسيا(2).
وأما المفضلة على أبي بكر وعمر، فروي عنه أنه قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري.
وقد تواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهًا(3). ورواه البخاري وغيره، ولهذا كانت الشيعة المتقدمون كلهم متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر كما ذكر ذلك غير واحد، فهاتان البدعتان بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة(4). ولا شك أن الرافضة من أشد أعداء المسلمين، بل هم أشد على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى، وذلك أنهم يحيكون المؤامرات ضد المسلمين باسم الإسلام فيدسون السم في الدسم فينخدع بهم كثير من المسلمين، وقليل من المسلمين من ينتبه لأخطارهم ويعرف حقيقة أمرهم وغاية نواياهم وقصدهم، فلزم تجلية أمرهم و كشف أسرارهم وهتك أستارهم، ولم أر في الكتب المصنفة في الرد على الرافضة وفضحهم وبيان قبح مذهبهم بأسلوب قوي كتابًا أحسن من منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولذلك رغبت في قراءته قراءة فاحصة مركزة لأجل أن أستفيد أولاً وأفيد المسلمين ثانيًا فلذلك رأيت أن أسجل موضوع رسالتي العالمية "الماجستير" بهذا العنوان "موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الرافضة في منهاج السنة" وكان اختياري لهذا الموضوع لعدة أسباب منها: -
__________
(1) الأثر كله في البخاري 4/21، انظر تعليق رقم 1.
(2) بلد على نهر الخابور قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ وعندها مصب الخابور في الفرات فهي مثلث الخابور والفرات، معجم البلدان 4/328، 329.
(3) فضائل الصحابة للإمام أحمد 80/84/90.
(4) انظر المنهاج 1/305- 308.(1/4)
1- أهمية الموضوع وذلك أن الرافضة في هذا الزمن صار لهم دول يحتمون بها ويحكمون تحت ظلها.
2- كثرة دعاة الرافضة وانتشارهم في أقطار الأرض ومحاولة جذب المسلمين إلى مذهبهم الفاسد.
3- قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مناقشة الخصوم ودحض حججهم وبيان الحق بطريق النقل والعقل وجهاد الأعداء بالسيف والبنان واللسان فرحمه الله رحمة واسعة.
4- أهمية كتاب منهاج السنة كما وصفه بذلك أهل العلم وكل من قرأه متجردًا من الهوى والعصبية عرف ذلك ووجده واضحًا جليًّا فإنه لم يؤلف في موضوعه مثله فيما أعلم.
5- مشابهة هذا الزمن لزمن لشيخ الإسلام من ناحية ظهور الرافضة ووجود دولة تحميهم، وضعف كثير من أهل السنة أو تخاذلهم.
6- أن ما صلح أن يكون ردًّا على الروافض في ذلك الوقت فهو صالح أن يكون ردًّا عليهم في هذا الوقت، ولذلك رأيت أن يكون بحثي في هذا الكتاب اختصارًا وترتيبًا.
7- انخداع بعض المسلمين بالرافضة وظهور من يدعو إلى التقريب بين أهل السنة والرافضة ووجود معاهد في بعض بلاد أهل السنة لهذا الغرض بل وجد من يزعم أنه لا فرق بين أهل السنة والرافضة في شيء من أمور الاعتقاد بل ذلك كالخلاف بين المذاهب الأربعة.
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة ومدخل وثلاثة أبواب وخاتمة:
أما المقدمة فقد بينت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره وخطة البحث، وأما المدخل فذكرت فيه خمس مباحث: -
المبحث الأول: لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية وشيء من ثناء العلماء عليه.
المبحث الثاني: أسباب تأليف المنهاج وأسلوب شيخ الإسلام في المناقشة والرد.
المبحث الثالث: ابن المطهر ولمن ألف كتابه منهاج الكرامة.
المبحث الرابع: تعريف الشيعة والرافضة.
المبحث الخامس: بيان حال الرافضة وصفاتهم.
وأما الباب الأول: ففيه بيان عقيدة الرافضة وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: عقيدتهم في الله ويشمل ستة مباحث:
المبحث الأول: موقفهم من الصفات.
المبحث الثاني: التجسيم.(1/5)
المبحث الثالث: البداء.
المبحث الرابع: رؤية الله عز وجل.
المبحث الخامس: القدر.
المبحث السادس: بيان مخالفتهم لأهل البيت في الاعتقاد.
الفصل الثاني: عقيدتهم في القرآن ويشمل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مسألة كلام الله تعالى وأقوال الناس فيها.
المبحث الثاني: مذهب الرافضة في القرآن ونماذج من تأويلاتهم الفاسدة.
المبحث الثالث: بيان مذهب أهل السنة في القرآن مع ذكر بعض أقوال الأئمة في ذلك.
الفصل الثالث: عقيدتهم في النبوة ويشمل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النبوة ولوازمها.
المبحث الثاني: عصمة الأنبياء وتنازع الرافضة في ذلك.
المبحث الثالث: تطاولهم على مقام النبوة.
الباب الثاني: موقفهم من الصحابة، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فضائله.
المبحث الثاني: خلافته.
المبحث الثالث: بعض مطاعن الرافضة عليه والرد عليها.
الفصل الثاني: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فضائله.
المبحث الثاني: خلافته.
المبحث الثالث: بعض مطاعن الرافضة عليه والرد عليها.
الفصل الثالث: عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: فضائله.
المبحث الثاني: خلافته.
المبحث الثالث: بعض المطاعن التي يطعن بها الرافضة عليه والرد عليها.
المبحث الرابع: تفضيل الثلاثة على علي رضي الله عنهم.
الفصل الرابع: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: فضائله.
المبحث الثاني: خلافته.
المبحث الثالث: بعض ما زعم الرافضي أنها براهين تدل على إمامته.
المبحث الرابع: بعض ما يدعي الرافضي أنها فضائل، وهي في الحقيقة مطاعن وبيان ذلك مع الرد عليها.
الفصل الخامس: بقية الصحابة رضي الله عنهم وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -.
المبحث الثاني: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.(1/6)
المبحث الثالث: آل البيت رضي الله عنهم.
المبحث الرابع: خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
المبحث الخامس: عموم الصحابة رضي الله عنهم.
الباب الثالث: الرافضة والإمامة، وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: الوصية.
الفصل الثاني: الإمامة عند الرافضة.
الفصل الثالث: الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم.
الفصل الرابع: المهدي المنتظر.
ثم الخاتمة وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها خلال البحث ثم ذيلت البحث بفهارس تعين القارئ على الاستفادة من البحث وهي كما يلي: -
1- فهرس الآيات.
2- فهرس الأحاديث.
3- فهرس الآثار.
4- فهرس الأعلام.
5- فهرس الفرق والطوائف.
6- فهرس الأماكن والبلدان.
7- فهرس اللغة.
8- فهرس الروايات الشيعية.
9- فهرس المصادر والمراجع.
10- فهرس الموضوعات.
منهجي في هذا البحث:
أما منهجي الذي سلكته في إعداد هذا البحث فهو كما يلي: -
1- قرأت كتاب "منهاج السنة النبوية" بتمعن، مفهرسًا له حسب خطة البحث، وقد اعتمدت في العزو إليه على طبعة جامعة الإمام، تحقيق د. محمد رشاد سالم - رحمة الله عليه- وأذكره بقولي "المنهاج"، وأما إذا عزوت إلى طبعة أخرى منه فإني أبينها.
2- جمعت كل موضوع على حدة، فإن كان الكلام متشابها - وهذا كثير- نقلت الموضع المناسب، ثم أشرت إلى بقية المواضع في الهامش بقولي: "انظر المنهاج".
3- اكتفيت بكلام شيخ الإسلام؛ لأنه كلام علمي رصين، لا مزيد عليه فيما أرى، وإنما عملي هو في جمع المتفرق والاختصار والتبويب والترتيب والتقسيم، أسأل الله أن أكون قد وفقت فيه للصواب.
4- عزو الأحاديث الواردة في الرسالة، فإن لم يكن الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أحاول أن أذكر حكم بعض العلماء عليه، حسب الاستطاعة.
5- عزوت الآثار الواردة في الرسالة قدر الإمكان، ذاكرًا حكم العلماء عليها إن وجدته.
6- عرفت بالأعلام الوارد ذكرهم في الرسالة - عدا المشهورين جدًّا -وقليل منهم لم أقف له على ترجمة.(1/7)
7- لم أترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ترجمة وافية وذلك لشهرته، وقد كتبت فيه رسائل علمية، ولكن اكتفيت بذكر شيء من سيرته ووقوفه ضد فرق الضلال مجاهدًا في سبيل الله، وذكرت بعض ثناء العلماء عليه.
8- عرفت بالبلدان، والأماكن، والفرق، والقبائل، وغريب اللغة، وإنني أشكر الله تعالى أن وفقني لاختيار هذا البحث وإتمامه، فإن وفقت فيه للصواب فذلك من فضل الله وكرمه وإحسانه، وإن جانبني فيه الصواب فحسبي أنني كنت حريصًا عليه.
ثم أشكر فضيلة الشيخ الأستاذ / عبد الله بن محمد الغنيمان، المشرف على هذا البحث وأسأل الله أن يجزيه عني أفضل الجزاء، كما لا أنسى أن أتوجه بالشكر إلى كل من مد لي يد العون و المساعدة في إنجاز هذا البحث وإتمامه وأسأل الله أن يجزيهم عني خير الجزاء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
مدخل:
ويشمل خمس مباحث:
المبحث الأول: لمحات من حيات شيخ الإسلام وشيء من ثناء العلماء عليه.
المبحث الثاني: أسباب تأليف المنهاج وأسلوب شيخ الإسلام في المناقشة والرد.
المبحث الثالث: ابن المطهر ولمن ألف كتابه منهاج الكرامة.
المبحث الرابع: تعريف الشيعة والرافضة.
المبحث الخامس: بيان حال الرافضة وصفاتهم.
* * *
المبحث الأول
لمحات من حياة شيخ الإسلام وشيء من ثناء العلماء عليه (661هـ - 728هـ)(1/8)
إن شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية النميري الحراني رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جناته(1)، قد جدد للناس المنهج الصحيح الذي تؤخذ منه العقيدة، وتبنى عليه الأحكام، ويرجع إليه عند التنازع والاختلاف، ألا وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة وتقديمهما على غيرهما.
ومن هذا المنطلق كتب في العقيدة، وفي الحديث وعلومه، والتفسير وأصوله، والفقه، وأصول الفقه، وفي القواعد، والرسائل، والأجوبة، والفتاوى، والمناظرات، والردود على أهل البدع والخرافات والفرق التي كانت منتشرة في زمنه، وهو أبرز من صدع بالحق في وجوه تلك الفرق في الشام، في القرن السابع الهجري والثامن الهجري.
ومن هذه الفرق التي رد عليها:
__________
(1) للاستزادة من ترجمته، انظر العقود الدرية في مناقب الإمام المجتهد ابن تيمية لابن عبد الهادي، والكواكب الدرية لمرعي الحنبلي، والشهادة الذكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي أيضا، والأعلام العلية للبزار، والرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي، وحياة شيخ الإسلام لمحمد بهجت البيطار، وابن تيمية السلفي لمحمد خليل هراس، وأحمد بن تيمية لأبي الحسن الندوي وغيرها من الكتب التي يصعب حصرها، وقد كتبت فيه رسائل علمية منها: ابن تيمية محدثًا، للدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي وغيرها.
ولم أكتب لشيخ الإسلام ترجمة وافية لعدة أسباب منها:
لأن الكتابة في ترجمته تحتاج إلى رسالة مستقلة.
لشهرته فهو رحمه الله أشهر من أن أترجم له.
لأنه قد كتبت فيه عدد من الرسائل العلمية.
ولذلك اقتصرت على هذه النبذة اليسيرة.(1/9)
1- فرقة الجهمية: وقد رد عليهم بكتاب "بيان تلبيس الجهمية(1) في تأسيس بدعهم الكلامية(2)" أو "نقض تأسيس الجهمية"، وقد قال عنه ابن عبد الهادي(3)، "وهو كتاب جليل المقدار معدوم النظير كشف الشيخ فيه أسرار الجهمية وهتك أستارهم ولو رحل طالب العلم لأجل تحصيله إلى الصين ما ضاعت رحلته"(4).
2- فرقة المعتزلة(5): وقد رد عليهم بكتاب "التدمرية(6)، وفي ثنايا كتبه الأخرى.
__________
(1) أتباع الجهم بن صفوان الراسبي الضال المبتدع، قال عنه الذهبي: (ما علمته روى شيئا ولكنه زرع شرا عظيمًا)، وهم الجبرية الخالصة وينفون جميع الصفات عن الله عز وجل، الفرق بين الفرق /211، الملل والنحل للشهرستاني 1/86، ميزان الاعتدال 1/426، و الأشعرية من الجهمية في باب الصفات.
(2) هذا الكتاب قد طبع منه محمد بن قاسم جزأين، وباقيه قد حقق في سبع رسائل دكتوراه جامعة الإمام ولم تطبع.
(3) هو الإمام محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي ولد سنة 704هـ، وقيل سنة 705 هـ أو سنة 706 هـ، وهو أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد توفي سنة 744هـ (ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/436- 439، تذكرة الحفاظ 4/1508، شذرات الذهب 6/141).
(4) العقود الدرية لابن عبد الهادي صـ 22، طبعة المدني.
(5) هم أتباع واصل بن عطاء المعتزلي الذي اعتزل مجلس الحسن البصري وهم يجمعون بين نفي القدر ونفي صفات الله تعالى، والقول بالمعتزلة بين المنزلتين، ويسمون أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد، انظر الملل والنحل 1/43، 46، الفرق بين الفرق /117.
(6) الكتاب مطبوع عدة طبعات منها طبعة بتحقيق: د/ محمد السعوي.(1/10)
3- فرقة الأشاعرة(1): وهذه الفرقة قد أكثر وأطال في الرد عليها؛ لأنها لبست على الناس وخلطت الحق بالباطل وادعت أنها صاحبة الحق وأنها هي أهل السنة والجماعة الوقفة ضد المعتزلة، فرد عليهم في عديد من كتبه، وفي ثنايا أجوبته، وأفرد للرد عليهم كتبًا خاصة، مثل: "درء تعارض العقل والنقل(2) الذي امتدحه الإمام العلامة شيخ الإسلام الثاني ابن قيم الجوزية(3) فقال في نونيته: -
وأقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثان(4)
__________
(1) هم الذين ينتمون إلى أبي الحسن الأشعري، ويأخذون بمذهبه الموافق للكلابية قبل أن يتحول إلى مذهب أهل السنة، وهو الأشعرية المعاصرة، السيرة 1/85، البداية والنهاية 11/119، الفتاوى 6/51.
(2) الكتاب مطبوع في عشر مجلدات والحادي عشر فهارس. تحقيق د/ محمد رشاد سالم -رحمه الله- ط جامعة الإمام.
(3) هو العلامة المجتهد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية الفقيه الحنبلي بل المجتهد المطلق، المفسر النحوي الأصولي المتكلم ولد سنة 691هـ، وتوفي سنة 751هـ (ذيل طبقات الحنابلة 2/447- 452) شذرات الذهب، 6/168- 170.
(4) النونية لابن القيم،فصل في مصارع النفاة والمعطلين بأسنة أمراء الإثبات الموحدين صـ 159 [من (متن القصيدتين النونية والميمية للعلامة ابن القيم)، نشر عبد الفتاح الزيني سنة 1407هـ]، وفيها عدد كثير من مؤلفات شيخ الإسلام. ويعني أنه ليس في الوجود له نظير ثان من الكتب المؤلفة في هذا الباب.(1/11)
(وكتاب بيان تلبيس الجهمية) رد فيه على الرازي(1)، وكتاب (التسعينية)(2) التي كتبها في الأشهر الأخيرة من حياته - رحمه الله - جوابًا عن محاكمة الأشاعرة له.
__________
(1) هو الفخر الرازي: محمد بن عمر بن حسين القرشي الأصولي المفسر الرونق ويقال: خطيب الري له مصنفات كثيرة في الأصول والتوحيد وعلم الكلام وغيرها، [البداية والنهاية 13/55/56، طبقات الشاء 5م33، لسان الميزان 4/426- 429].
(2) الكتاب مطبوع ضمن الفتاوى الكبرى في أول المجلد الخامس حتى صـ 396، تصوير دار الكتاب العلمية، سنة 1403 هـ.(1/12)
وكتاب شرح العقيدة الأصفهانية(1)، وهو شرح لعقيدة الشمس الأصفهاني(2) التي جرى فيها على أصول الأشاعرة، "والفتوى الحموية(3)"، و"الرسالة المدنية"(4)، و"النبوات"(5)، وهو رد على الباقلاني(6) خاصة والأشاعرة عامة وكتاب "الإيمان"(7) وهو نقد للأشاعرة في الإيمان وذكر بقية المرجئة(8)، تبعا، و"القاعدة المراكشية"(9)، وهي كالبيان لمذهب مالك في العقيدة والرد على متأخري المالكية من المغاربة الأشعرية.
__________
(1) الكتاب مطبوع تحقيق حسنين مخلوف.
(2) هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن محمد بن عباد السلماني الأصفهاني الأصولي المتكلم المتوفى سنة 688هـ (البداية والنهاية 13/315، العبر 3/367، شذرات الذهب 5/406، طبقات الشافعية 5/41، الأعلام 7/87)، وله كتاب يسمى العقيدة الأصفهانية شرحه ابن تيمية رحمه الله تعالى.
(3) الرسالة مطبوعة مع مجموعة من الفتاوى جـ 3، ومفردة، عدة طبعات وقد لخصها الشيخ محمد بن صالح العثيمين بـ كتاب سماه (فتح رب البرية بتلخيص الحموية).
(4) الرسالة مطبوعة.
(5) الكتاب مطبوع بتحقيق د/ أحمد الطويان رسالة.
(6) هو محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر القاضي المعروف بابن الباقلاني أو الباقلاني، وهو يعد أعظم الأشاعرة بعد الأشعري سنة 403هـ شذرات الذهب 3/168- 170، البداية والنهاية 11/350.
(7) مطبوع وحقق أخيرًا في جامعة أم القرى رسالة دكتوراه.
(8) هم الذين يؤخرون العمل عن الإيمان وأكثرهم يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ويقولون: إن أهل القبلة لن يدخلوا النار مهما ارتكبوا من المعاصي [لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر عمل] (مقالات الإسلاميين للأشعري 1/213- 234، الملل والنحل 1/139- 146، الفرق بين الفرق /202- 207، الفصل لابن حزم 4/154، 156، التبصير في الدين لأبي المظفر الإسفرائيني/97-99).
(9) القاعدة مطبوعة.(1/13)
وكتاب "المناظرة في الواسطية"(1) ألفها في محاكمة الأشاعرة له بسبب الواسطية، وكتاب الاستقامة"(2) كتبه نقضًا لكتاب(3) القشيري(4) الصوفي الأشعري)(5).
4- الماتريدية:(6) ورد عليهم بكتاب"الماتريدية"(7) وفي الفتاوى وغيرها.
5- الصوفية:(8)، وفيه رد عليهم في ثنايا كتبه، وفي كتاب الاستقامة خاصة، وفي المجلد (الحادي عشر) من الفتاوى.
__________
(1) الكتاب مطبوع عدة طبعات منها طبعة مع الواسطية، نشر زهير الشاويش ط- المكتب الإسلامي سنة 1405هـ، الأولى.
(2) مطبوع في جزأين تحقيق د/ محمد رشاد سالم ط دار الفضيلة بالسعودية.
(3) الكتاب هو الرسالة القشيرية.
(4) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري القشيري الشافعي الصوفي الأشعري المفسر صاحب الرسالة المتوفى سنة 465هـ (تاريخ بغداد 11/83، سير أعلام النبلاء 18/227، طبقات الشافعية للسبكي 3/243).
(5) انظر منهج الأشاعرة في العقيدة (تعقيب على مقالات الصابوني) د. سفر الحوالي صـ 11، 12، ط الدار السلفية /الكويت.
(6) هم أتباع أبي منصور الماتريدي، مرجئة في باب الإيمان، معطلة في باب الصفات، الفرق الكلامية /241، انظر الماتريدية وموقفهم من الأسماء والصفات للشيخ شمس الدين الأفغاني /رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة.
(7) الكتاب مخطوط، وقد ذكره ابن عبد الهادي في العقود المدرية صـ 41، وهو الآن في عداد المفقود.
(8) جماعة سموا بهذا الاسم للبسهم الصوف ولهم طريقة معينة تعرف بالتصوف وقد مر التصوف بمراحل، فأول ما نشأ كان زهدًا في الدنيا وانقطاعا للعبادة ثم تطور شيئا فشيئا حتى صار إلحادا وضلالاً، وقال أصحابه بالحلول ووحدة الوجود وإباحة المحرمات. انظر اعتقادات فرق المسلمين والمشركين صـ 72، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان صـ 101.(1/14)
6- المتكلمة:(1) وقد رد عليهم في ضمن ردوده على الأشاعرة والجهمية ونحوهم وفي كتاب درء تعارض العقل والنقل.
7- المناطقة:(2) وقد رد عليهم بكتاب "الرد على المنطقيين"(3)، وكتاب " نقض المنطق"(4).
8- الفلاسفة:(5)، وقد رد عليهم في ثنايا كتبه، وفي كتاب "الصفدية"(6) خاصة، وكتاب "درء تعارض العقل والنقل.
__________
(1) نسبة إلى علم الكلام، وهو الجدال في الأمور الاعتقادية بالعقل، وهم طوائف متعددة، انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/336، التعريفات للجرجاني 156، 185، 208، والأشاعرة منهم، ولكنهم أعم.
(2) نسبة إلى علم المنطق، وقد قال الجرجاني عنه في التعريفات "آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، فهو علم عملي آلي...." إلخ، التعريفات 232، وفي الحقيقة: هو الذي خرب الأذهان وأفسدها وصرفها عن التمسك بالكتاب والسنة.
(3) الكتاب مطبوع ويسمى "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان" وقد طبع باسم "الرد على المنطقيين" انظر صفحة س من مقدمة المحقق.
(4) الكتاب مطبوع.
(5) جمع متفلسف والفلسفة بلسان اليونان الحكمة والفلاسفة طوائف متعددة، انظر الملل والنحل 2/58، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين /91.
(6) الكتاب مطبوع في مجلدين تحقيق د/ محمد رشاد سالم.(1/15)
9، 10- المشبهة(1) والمجسمة(2): وقد رد عليهم في ثنايا كتبه، وخاصة في "منهاج السنة النبوية"(3).
11، 12- اليهود(4) والنصارى(5): وقد رد عليهم بكتاب "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"(6).
13، 14- المشركون والقبوريون: وقد رد عليهم في ثنايا كتبه، وفي كتاب "الرد على البكري(7)) وكتاب الرد على الأخنائي(8).
__________
(1) هم الذين يشبهون ذات الله تعالى بذوات المخلوقين، وصفاته بصفات المخلوقين تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا (الفرق بين الفرق /225- 228، التبصير في الدين /119- 121).
(2) هم الذين يقولون: إن الله جسم من الأجسام له طول وعرض وعمق وطعم ورائحة... إلخ منهم هشام بن الحكم الرافضي (الفرق بين الفرق /65- 69، المقالات 1/106، وما بعدها).
(3) هو الكتاب الذي سأتكلم عن موقف شيخ الإسلام من خلاله، وهو مطبوع بتحقيق د.محمد رشاد سالم في 8 مجلدات والتاسع فهارس. ط جامعة الإمام محمد بن سعود.
(4) هم أمة موسى - صلى الله عليه وسلم -، والكتاب الذي أنزل إليهم هو التوراة، وهم طوائف متعددة. الملل والنحل 1/210، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان /88.
(5) هم أمة عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، وهم ممن يعبد الله على جهل، الملل والنحل 1/210، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان /88
(6) الكتاب مطبوع في أربعة أجزاء في مجلدين، وقد حقق في رسائل دكتوراه وطبع في دار الفضيلة بالسعودية.
(7) الكتاب مطبوع، وهو رد على البكري في مسألة الاستغاثة بالمخلوق، والبكري هو أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعي المتوفى سنة 724هـ (البداية والنهاية 14/114، 115، طبقات الشافعية 6/242).
(8) الكتاب مطبوع بتحقيق عبد الرحمن المعلمي، وهو رد عليه في مسألة الزيارة، والأخنائي هو محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الأخنائي السعدي ولد سنة 664هـ، وتوفي سنة 732هـ (البداية والنهاية 14/16، طبقات الشافعية 6/45).(1/16)
15- الاتحاديون(1): ورد عليهم بكتاب "الرد على أهل وحدة الوجود(2)، مع رده عليهم فيما رد به على الصوفية، وفي ثنايا كتبه وفي كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(3)، وكتاب السبعينية(4) الذي رد فيه على ابن سبعين(5)، وأضرابه.
__________
(1) فرقة من غلاة الصوفية، يقولون بوحدة الوجود، وأن الرب عبد والعبد رب انظر أهل الحلول والاتحاد صـ 106.
(2) الكتاب مطبوع عدة طبعات - وموجود ضمن مجموعة الفتاوى 2/134- 285.
(3) الكتاب مطبوع عدة طبعات - وموجود ضمن مجموعة الفتاوى 11/156- 311.
(4) الكتاب مطبوع ضمن الفتاوى الكبرى جـ 5، ويسمى مسائل الإسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية، العقود الدرية صـ 27.
(5) ابن سبعين هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر المعروف بابن سبعين من شيوخ الصوفية القائلين بوحدة الوجود، توفي بمكة سنة 669هـ، (شذرات الذهب 5/329، 330، العبر للذهبي 3/320، البداية والنهاية 13/261).(1/17)
16- الفقهاء المتعصبون: وأعني بهم فقهاء المذاهب الأربعة "المتبوعة" الذين خالفهم في بعض المسائل، ورد عليهم ببيان الدليل الصحيح، ومن أعظم المسائل التي أثارتهم عليه: مسألة الطلاق الثلاث وأنها واحدة إذا وقعت في طهر واحد لم يراجعها(1) فيه، ومسألة الحلف بالطلاق(2)، وغيرها، ورد عليهم بكتاب "الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق"(3) وكتاب" الفرق بين التطليق والأيمان"(4)
__________
(1) توضيح هذا المسألة: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثًا، أو قال: طالق، طالق، طالق، أو قال: أنت طالق، ثم قال بعد يوم أو أسبوع: أنت طالق، ثم قال بعد يوم أو أسبوع: أنت طالق، وكل هذا في طهر واحد لمراجعتها فيه فإن أهل العلم قد اختلفوا في ذلك، فمنهم من يوقعه ثلاثًا، وهو المذهب، ومنهم من لا يوقعه إلا واحدة؛ لأن الله تعالى قال: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } والذي طلق الثلاث بطهر واحد لم يراجعها فيه - لم يطلق للعدة، فلذلك لا يعتبر إلا واحدة، وهذا هو رأي شيخ الإسلام... انظر الاختيارات /271، رسالة في حكم الطلاق الثلاث / للشيخ محمد العثيمين والذي طلق الثلاث بطهر واحد لم يراجعها فيه - لم يطلق للعدة، فلذلك لا يعتبر إلا واحدة، وهذا هو رأي شيخ الإسلام... انظر الاختيارات /271، رسالة في حكم الطلاق الثلاث/ للشيخ محمد العثيمين "خ".
(2) هذه المسألة منتشرة حتى في هذا الزمن، وهي أن يقول الرجل: زوجتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن لم يصل كذا وكذا، فإذا لم يقع المحلوف عليه هل تطلق الزوجة ؟ أم لا ؟، المسألة خلافية، فشيخ الإسلام وكذا المحققون من أهل العلم: يرون أنه إذا قصد اليمين، ولم يقصد الطلاق فإن عليه كفارة يمين ولا تطلق زوجته، وأما إذا قصد إيقاع الطلاق فإنه يقع.... والله أعلم.
(3) مخطوط ثلاث مجلدات، ذكره ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة 2/404.
(4) مخطوط في مجلد كبير، ذكره ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة 2/404.(1/18)
، وغيرها.
17- الرافضة(1): ورد عليهم بكتاب "الرد على أهل كسروان الرافضة" وهو مجلدان ذكره ابن عبد الهادي(2)، وكتاب "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" رد فيه على ابن المطهر الحلي(3) الرافضي، وبين جهل الرافضة وضلالهم وكذبهم وافترائهم، وغير ما ذكرته من الفرق التي تناصب أهل السنة والجماعة العداء، فوقعت جميع هذه الفرق ضده، ورمته عن قوس واحد.
ومع ذلك فقد تصدى لها وصبر على ذلك ونصر الله به الحق، وقد رزقه الله تعالى حافظة قوية بحيث إنه قوي الحجة سريع استحضار الأدلة، سريع الحفظ بطيء النسيان.
و"منهاج السنة" من أهم الكتب التي رد بها على الفرق المخالفة لطريق أهل السنة والجماعة، إذ بين فيه بطلان عقيدة الروافض، وأنهم أجهل الناس في المعقولات، وأكذب الناس في المنقولات، ومخالفتهم لما عليه المسلمون الأولون من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وهو كتابه هذا الذي سنتحدث عنه موقفه من الرافضة من خلاله.
فيعتبر هذا الكتاب في مقدمة كتب شيخ الإسلام النفيسة التي أوضح فيها منهج السلف في جميع الأبواب، وقد بين بطلان مذهب الرافضة وسخافاتهم بالحجة القوية والبرهان الواضح والدليل الناصع، من الأثر والنظر. من العقل والنقل، وليس هذا بغريب على شيخ الإسلام الذي قال فيه مرعي بن يوسف الكرمي(4):
__________
(1) سيأتي التعريف بهم في المبحث الرابع.
(2) العقود الدرية صـ 48، وذيل طبقات الحنابلة 2/403.
(3) ستأتي ترجمته في المبحث الثالث.
(4) هو الإمام الفقيه مرعي بن يوسف الكرمي ثم المقدسي الحنبلي ت 1033 هـ صاحب كتاب الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية وكتاب الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية. انظر الأعلام 7/203.(1/19)
(وقد أثنى الأئمة الأعلام على هذا الإمام، ولقبوه بشيخ الإسلام، وأفردوا مناقبه بالتصانيف، وتحلت بذكره التواريخ والتآليف، ولم ينقصه إلا من جهل مقداره وخطره، ومن جهل شيئا أنكره)(1).
وقال فيه ابن عبد البر السبكي(2):
(والله يا فلان: ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن قول الحق بعد معرفته به)(3).
وقال الذهبي(4):
(وكان - يعني ابن تيمية - من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين والزهاد الأفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد، أثنى عليه الموافق والمخالف، وسارت بتصانيفه الركبان، لعلها ثلاثمائة مجلد)(5).
وقال في موضع آخر:
__________
(1) الشهادة الزكية لمرعي بن يوسف الحنبلي صـ 24.
(2) هو أبو البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى السبكي الشافعي ولد سنة 707هـ، وتوفي سنة 777هـ، الرد الوافر 93- 96، الدر الكامنة 4/109، 110.
(3) الشهادة الزكية صـ 24.
(4) هو أبو عبد الله مؤرخ الإسلام شيخ المحدثين شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت سنة 748هـ، قال ابن كثير: (وختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله). شذرات الذهب 6/153-157، البداية والنهاية 14/225.
(5) تذكرة الحفاظ 4/1496.(1/20)
(قلت: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم، وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه، الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة(1) والمسند(2)، بحيث يصدق عليه أن يقال: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث" ولكن الإحاطة لله تعالى، غير أنه يغترف من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي)(3).
وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن -وقت إقامة الدليل بها على المسألة- قوة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحير فيه، ولفرط إمامته في التفسير، وعظمة إطلاعه، يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين ويوهي أقوال عديدة، وينصر قولا واحدًا موافقا لما دل عليه القرآن والحديث(4).
وقال البزار(5) عن شيخ الإسلام:
__________
(1) هي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه.
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -.
(3) قال في تهذيب اللغة في مادة (سقي) 9/231، والساقية من سواقي الزرع: نهير صغير، انظر لسان العرب 14/391.
(4) العقود لابن عبد الهادي صـ 20.
(5) هو الشيخ الفقيه المحدث الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى بن الخليل البغدادي البزار ولد سنة 688هـ تقريبًا في بغداد وتوفي سنة 749هـ عند توجهه للحج في ذي القعدة. انظر الرد الوافر /195، 196، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/444، الدرر الكامنة لابن حجر /256، و شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 6/163.(1/21)
"وقل كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، وكان الله قد خصه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالبًا إلا ويبقى على خاطره إما بلفظه أو معناه وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن مستعارا بل كان له شعارًا ودثارًا"(1).
وقال عنه ابن عبد الهادي "صاحب التصانيف التي لم يسبق لمثلها"(2) وذكر ابن عبد الهادي أن ابن دقيق العيد(3) اجتمع بشيخ الإسلام وسمع كلامه وذكر أنهم سألوه بعد انقضاء المجلس فقال: "هو رجل حفظة"(4)(5).
وقال ابن دقيق العيد: "لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد(6).
__________
(1) الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزار صـ 20، تحقيق زهير الشاويش ط. المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1396هـ بيروت.
(2) العقود الدرية لابن عبد الهادي صـ 3، مطبعة المدني - القاهرة.
(3) هو الشيخ تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع المنفلوطي المشهور بابن دقيق العيد المالكي الشافعي، ولد سنة 625هـ، وتوفي سنة 702هـ، تذكرة الحفاظ 4/1481، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 6/5، الرد الوافر 106، 107، طبقات الشافعية للسبكي 6/2- 23.
(4) قال في تهذيب اللغة في مادة (حفظ) 4/359: (والحفظة: اسم من الاحتفاظ عندما يرى من حفيظة الرجل، تقول: أحفظته فاحتفظ حفظة) وانظر اللسان 7/442.
(5) العقود الدرية صـ 83، الرد الوافر لابن ناصر الدين صـ 107.
(6) الكواكب الدرية صـ 56، الرد الوافر صـ 107، الشهادة الذكية صـ 29، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/392.(1/22)
قال ابن الهادي رحمه الله: وكان رحمه الله - يعني ابن تيمية- سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجي في حلوق [أهل] الأهواء المبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحرًا لا تكدره الدلاء، وحبرًا يقتدي به الأخيار الألباء، طنت بذكره الأمصار وضنت بمثله الأعصار(1).
وقال ابن عبد الهادي: وقال العلامة كمال الدين ابن الزملكاوي:(2) كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله، إلى أن قال.... واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها(3).
وهذا الباب كثيرٌ جدًّا، ولعل ما ذكرت فيه كفاية، والله المستعان.
* * *
المبحث الثاني
أسباب تأليف المنهاج وأسلوب شيخ الإسلام في المناقشة
ذكر شيخ الإسلام الأسباب التي دعته إلى تأليف هذا الكتاب فسأذكر ما قاله، ثم أبرز أهم الأسباب:
قال شيخ الإسلام:
__________
(1) العقود الدرية صـ 7.
(2) هو محمد بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم الأنصاري الدمشقي كمال الدين ابن الزملكاوي ولد في شوال سنة 666،و مات في رمضان سنة 727هـ، وهو في طريقه إلى مصر ليتولى قضاءها.
قال ابن كثير: (وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متوليًا أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية، فدعا عليه فلم يبلغ أمله ومراده) انظر البداية والنهاية 14/131، 132، الدرر الكامنة 4/192- 194.
(3) العقود الدرية صـ 7، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/390.(1/23)
(أما بعد: فإنه قد أحضر إلي طائفة من أهل السنة والجماعة كتابا صنفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا منفقا لهذه البضاعة يدعو به إلى مذهب الرافضة الإمامية من أمكنه دعوته من ولاة الأمور وغيرهم أهل الجاهلية ممن قلت معرفتهم بالعلم والدين ولم يعرفوا أصل دين المسلمين وأعانه على ذلك من عادتهم إعانة الرافضة من المتظاهرين بالإسلام من أصناف الباطنية(1) الملحدين.
الذين هم في الباطن من الصابئة(2) الفلاسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين الذين لا يوجبون اتباع دين الإسلام ولا يحرمون اتباع ما سواه من الأديان بل يجعلون الملل بمنزلة المذاهب والسياسات التي يسوغ اتباعها وأن النبوة نوع من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة في الدنيا)(3).
وقد بين متى يكثر هذا الصنف من الناس فقال: (فإن هذا الصنف يكثرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال.
وهؤلاء لا يكذبون بالنبوة تكذيبا مطلقا بل هم يؤمنون ببعض أحوالها ويكفرون ببعض الأحوال وهم متفاوتون فيما يؤمنون به ويكفرون به من تلك الخلال.
فلهذا يلتبس أمرهم بسبب تعظيمهم للنبوات على كثير من أهل الجهالات.
__________
(1) الباطنية: سموا بهذا الاسم: لدعواهم أن لظواهر القرآن والسنة بواطن، تجري في الظاهر مجرى اللب من القشر،،، وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع، وهم فرق كثيرة منهم القرامطة والإسماعيلية، وضررهم على الإسلام والمسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى، والدهوريين بل أعظم من ضرر الدجال، الفرق بين الفرق /281- 312، فضائح الباطنية 11- 12، ذكر مذاهب الثنتين والسبعين فرقة /89-92.
(2) الصابئة هم قوم يعبدون الكواكب واسمهم مأخوذ من إذا خرج من شيء إلى شيء ومن دين إلى دين والصابئة للحنفية، البرهان في عقائد أهل الأديان 92- 4، الملل والنحل 2/3-6.
(3) المنهاج 1/4-6.(1/24)
والرافضة والجهمية هم الباب لهؤلاء الملحدين)(1).
وقال: (وذكر من أحضر هذا الكتاب أنه من أعظم الأسباب في تقرير مذاهبهم عند من مال إليهم من الملوك وغيرهم وقد صنفه للملك المعروف الذي سماه فيه خدا بنده(2) وطلبوا مني بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب لما في ذلك من نصر عباد الله المؤمنين وبيان بطلان أقوال المفترين الملحدين)(3).
وقال: (فلما ألحوا في طلب الرد لهذا الضلال المبين ذاكرين أن في الإعراض عن ذلك خذلانا للمؤمنين وظن أهل الطغيان نوعا من العجز عن رد هذا البهتان فكتبت ما يسره الله من البيان وفاء بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم والإيمان وقياما بالقسط وشهادة لله كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (4) والليُّ: هو تغيير الشهادة، والإعراض: كتمانها)(5).
وقال: (وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقا وعلما وعملا وتبليغا فالطعن فيهم طعن في الدين موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين.
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع)(6).
وقال في موضع آخر: (ولولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله وسادات أهل الأرض خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين ويسلط الكفار والمنافقين ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين، لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره وهتك أستاره والله حسيبه وحسيب أمثاله)(7).
__________
(1) المنهاج 1/6 - 7.
(2) ستأتي ترجمته.
(3) المنهاج 1/7- 8.
(4) النساء/ 135.
(5) المنهاج 1/15، 16.
(6) المنهاج 1/18.
(7) المنهاج 7/292(1/25)
وقال: (ونحن نبين إن شاء الله تعالى طريق الاستقامة في معرفة هذا الكتاب منهاج الندامة بحول الله وقوته)(1).
وقال في بيان الطريقة المثلى في مناقشة الفرق، وقبول ما عندها من الحق ورد ما عندها من الباطل: (ولهذا جعل هذا الكتاب «منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية» فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضا بدعة وباطل وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد.
لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله)(2).
ويمكن إبراز أهم الأسباب فيما يلي: -
1- قوة تأثير هذا الكتاب فيمن ليست لديهم خبرة ولا علم بفساد مذهب الرافضة.
2- أن الرافضي ألف هذا الكتاب يدعو به إلى مذهب من استطاع دعوته من ولاة الأمور وغيرهم.
3- أن هذا الكتاب من أعظم الأسباب في تقرير مذهب الرافضة عند من مال إليهم.
4- أن هذا الكتاب صنفه مصنفه لأحد الملوك - وقد كان سببًا في صرفه إلى مذهب الرافضة.
5- أن في رد هذا الكتاب نصرة لعباد الله المؤمنين وبيانا لبطلان أقوال المفترين الملحدين.
6- إجابة السؤال الذي طلب منه ممن عرف تأثير هذا الكتاب.
7- أن هؤلاء القوم يظهرون ويكثرون عندما يكثر الجهل ويقل العلماء العاملون بالكتاب والسنة الذين يقفون في وجوه المبطلين.
8- ظن أهل الطغيان نوعًا من العجز عن رد هذا البهتان.
9- أن هذا الرد وفاء بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم والإيمان، وقيامًا بالقسط وشهادة لله.
__________
(1) المنهاج 1/57.
(2) المنهاج 2/342.(1/26)
10- أن كتاب الرافضي فيه الطعن بالصحابة، والطعن فيهم طعن في هذا الدين موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين فوجب رده وبيان طريق الاستقامة.
11- أن هذا الكتاب إنما صنفه شيخ الإسلام لإقامة العدل وإبطال الباطل.
***
المطلب الثاني: أسلوب شيخ الإسلام -رحمه الله- في المناقشة:
ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- قاعدة عامة في المناقشة لا بد من سلوكها، وهي العدل مع الخصم، وقبول ما عنده من الحق، ورد ما في كلامه من الباطل، وأن لا يقابل الباطل بباطل ولا البدعة ببدعة، وبين أن هذه طريقة السلف فمما قاله في ذلك قوله: (فالواجب إذا كان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدا فإن هذا محرم ومذموم يذم به صاحبه ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك ولبسط هذه الأمور مكان آخر والله أعلم)(1).
وقال: (وأما إذا كان المقصود بيان رجحان بعض الأقوال فهذا ممكن في نفسه وهذا هو الذي نسلكه في كثير مما عاب به الرافضة كثير من الطوائف المنتسبين إلى السنة في إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة فإنهم عابوا كثيرا منهم بأقوال هي معيبة مذمومة والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق)(2).
وقال في بيان طريقة السلف في الرد: (لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله.
__________
(1) المنهاج 2/343.
(2) المنهاج 2/342.(1/27)
ولهذا لم نرد ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك)(1).
من أهم الأساليب التي استعملها شيخ الإسلام في رده على الرافضي:
أولاً: الإقناع: حيث يذكر الأدلة التي تقنع من أراد الحق.
- من ذلك: أن يأتيه بكلام أصحابه كقوله رحمه الله: (وقال محمد بن سعيد الأصبهاني(2) سمعت شريكا يقول: «أحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينا(3)».
وشريك هذا هو شريك بن عبد الله القاضي(4)، قاضى الكوفة من أقران الثوري(5) وأبي حنيفة وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه أنا من الشيعة وهذه شهادته فيهم)(6).
- ومن ذلك ذكر الاتفاق على خلاف ما ذكره الخصم، كقوله: (إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب بإجماع المسلمين سنيهم وشيعيهم بل هذا كفر.
__________
(1) المنهاج 2/342، انظر 3/77.
(2) محمد بن سعيد بن سليمان الكوفي المعروف بابن الأصبهاني روى عن شريك وروى له البخاري والترمذي والنسائي، وقال النسائي عنه: ثقة، وقال ابن حجر: ثقة ثبت، ت سنة 220هـ، الخلاصة للخزرجي 2/407، تقريب التهذيب تحقيق عوامة /480.
(3) لم أجده.
(4) قال ابن معين: ثقة يغلط، وقال العجلي: ثقة، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرًا تغير حفظه منذ ولي القضاء، مات سنة 177هـ، الخلاصة للخزرجي 1/448، تقريب التهذيب /266.
(5) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أحد الأئمة الأعلام ولد سنة 77هـ، قال العجلي: كان لا يسمع شيئا إلا حفظه، وقال ابن حجر: ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، توفي سنة 161هـ، بالبصرة، الخلاصة 1/396، التقريب /244.
(6) المنهاج 1/60.(1/28)
فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام فالكافر لا يصير مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكفار أولا... بل نحن نعلم بالاضطرار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يذكر للناس إذا أرادوا الدخول في دينه الإمامة لا مطلقا ولا معينا، فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين(1)؟!).
ثانيًا: استعمال أسلوب الحصر والتقسيم: حيث يحصر المسألة في عدة أمور أو احتمالات لا تخرج عنها، ثم يجيب عنها واحدًا واحدًا، ومثال ذلك قوله: (إن قول القائل: الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين إما أن يريد به إمامة الاثنى عشر أو إمام كل زمان بعينه في زمانه بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمد المنتظر والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة علي عندهم والأهم في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بإمامته وإما أن يراد به الإيمان بأحكام الإمامة مطلقا غير معين وإما أن يراد به معنى رابعا.
أما الأول: فقد علم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلوما شائعا بين الصحابة ولا التابعين بل الشيعة تقول إن كل واحد إنما يعين بنص من قبله فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين.
وأما الثاني:.... إلخ)(2)، وهكذا.
ومن ذلك التماس جواب للخصم - يجيب به - ثم الرد عليه وهذا كثير في الكتاب.
ثالثًا: الإنصاف:
أي إنصاف الخصم وعدم الظلم أو الاعتداء وهذا أمثلته كثيرة، وسأذكر منها ما يتبين به المقصود، فمن ذلك قوله: (وينبغي أيضا أن يعلم أنه ليس كل ما أنكره بعض الناس عليهم يكون باطلا بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعض والصواب مع من وافقهم لكن ليس لهم مسألة انفردوا بها أصابوا فيها)(3).
__________
(1) المنهاج 1/75- 77.
(2) المنهاج 1/79، 80.
(3) المنهاج 1/44.(1/29)
وقوله: (مما ينبغي أن يعرف أن ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة وإن كان أضعاف ما ذكر لكن قد لا يكون هذا كله في الإمامية الاثنى عشرية ولا في الزيدية ولكن يكون كثير منه في الغالية وفي كثير من عوامهم مثل ما يذكر عنهم من تحريم لحم الجمل وأن الطلاق يشترط فيه رضا المرأة ونحو ذلك مما يقوله بعض عوامهم وإن كان علماؤهم لا يقولون ذلك...)(1).
أو قول القائل: (أو قول القائل: إن الرافضة تفعل كذا وكذا المراد به بعض الرافضة كقوله تعالى: { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } (2)، { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } (3) لم يقل ذلك كل يهودي بل قاله بعضهم...)(4). إلى غير ذلك من الأساليب المقنعة، الداحضة لحجة الخصوم.
فكل من أراد الحق وتجرد عن الهوى، فلا بد أن يقتنع ببطلان مذهب الروافض، وأن الحق مع أهل السنة، وأن ما ذهبوا إليه هو الصواب الذي أمر الله به ورسوله، وهو الشرع الذي تعبد الله به أمة الإسلام.
* * *
المبحث الثالث
ابن المطهر ولمن ألف كتابه منهاج الكرامة
المطلب الأول: ترجمة ابن المطهر 648هـ، 726هـ، ويشمل اسمه، ونشأته، وتصانيفه، ووفاته:
__________
(1) المنهاج 2/57.
(2) التوبة/ 30.
(3) المائدة/64.
(4) المنهاج 1/36، 37.(1/30)
اسمه ونشأته: هو جمال الدين الرافضي أبو منصور الحسن -وقيل الحسين- بن يوسف بن علي بن محمد ابن المطهر(1) الحلي(2) العراقي الشيعي المعتزلي، شيخ الروافض بتلك النواحي(3)، وهو رأس الشيعة بالحلة(4)، ولقد ولد في الحلة وكان من سكانها وتوفي فيها.
__________
(1) انظر الدرر الكامنة لابن حجر 2/158، لسان الميزان لابن حجر 2/317، البداية والنهاية لابن كثير 14/125، ذيول العبر للذهبي 4/77، معجم المؤلفين عمر رضا كحالة 3/303، المستدرك على معجم المؤلفين كحالة صـ 206، الأعلام للزركلي 2/227.
(2) نسبة إلى الحلة بالعراق وتسمى الحلة السيفية التي بناها الأمير سيف الدولة صدقة ابن منصور المزيدي الاسدي من أمراء دولة الديالمة في محرم سنة 495هـ، وهي و اقعة بين النجف والخار على طرفي شط الفرات، مقدمة تحقيق منهاج السنة ط دار العروبة د. محمد رشاد سالم صـ 17 (م).
(3) البداية والنهاية لابن كثير 14/ 125.
(4) الأعلام للزركلي 2/227.(1/31)
قال ابن كثير رحمه الله: ولد ابن المطهر الذي لم تطهر خلائقه، ولم يتطهر من دنس الرفض ليلة الجمعة سابع وعشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة(1) ولقد طلب العلم، وتتلمذ(2) على والده سديد الدين يوسف(3)، وعلى ابن عم والدته نجيب الدين يحيى(4)، و على خاله أبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى الملقب بالمحقق على الإطلاق(5)، وعلى برهان الدين النسفي(6)، وعلى عز الدين الفاروقي الواسطي -من فقهاء أهل السنة-(7)، و على علي بن عمر الكاتبي القزويني المعروف بـ "دبيران"(8).
وأهم شيوخه الذين أكثر من ملازمتهم هو نصير الدين الطوسي(9).
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 14/125.
(2) انظر مقدمة منهاج السنة د. محمد رشاد سالم صـ 19، (م) ط دار العروبة سنة 1382هـ.
(3) هو سديد الدين يوسف بن علي بن محمد بن المطهر لم أقف له على ترجمة.
(4) لم أجد له ترجمة.
(5) هو جعفر بن الحسن بن يحيى بن الحسين بن سعيد الهذلي الحلي نجم الدين أبو القاسم فقيه إمامي مقدم كان مرجع الشيعة الإمامية في عصره ولد سنة 602هـ، وتوفي سنة 676هـ، الأعلام 2/123.
(6) هو محمد بن محمد وفي الشذرات محمود بن محمد الحنفي أبو الفضل برهان الدين النسفي المتكلم ولد سنة 600هـ، وتوفي سنة 687هـ، وفي الشذرات سنة 684هـ، الأعلام 7/31، شذرات الذهب 5/385.
(7) لم أجد له ترجمة.
(8) هو نجم الدين علي بن عمر الكاتبي القزويني المعروف بـ دبيران حكيم منطقي من تلاميذ النصير الطوسي ولد سنة 600 هـ، وتوفي سنة 675هـ، الأعلام 4/315.
(9) هو أبو جعفر أبو عبد الله محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي ويعرف بالمحقق، وبالخواجة، ولد بطوس (قرب نيسابور) سنة 597هـ، وتوفي ببغداد سن 662هـ، وكان مهتما بمؤلفات ابن سيناء، وهو أحد المعاول التي مكن للتتار من تدمير بغداد، وقتل المسلمين، وغير ذلك، الشذرات 5/339، البداية والنهاية 13/267، الأعلام 7/30.(1/32)
تصانيفه: قال عنها الحافظ ابن كثير رحمه الله: "... وله التصانيف الكثيرة، يقال: تزيد على مائة وعشرين مجلدًا، وعدتها خمسة وخمسون مصنفًا في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض وغير ذلك من كبار وصغار"(1)، ومن هذه المؤلفات: -
1- شرح ابن الحاجب في أصول الفقه، قال عنه ابن كثير، وليس بذاك الفائق(2).
2- منتهى المطلب في تحقيق المذهب(3) في الفقه.
3- النكت البديعة في تحرير الذريعة للسيد المرتضي(4) في أصول الفقه(5).
4- نهج الإيمان في تفسير القرآن(6).
5- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال(7).
6- كشف الفوائد شرح قواعد العقائد(8).
7- تذكرة الفقهاء(9).
8- إرشاد الأذهان إلى أحكام الأركان أو (إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان(10)).
9- مصباح المجتهد(11).
10- إيضاح المقاصد شرح حكمة العين(12).
11- الأسرار الخفية في العلوم العقلية(13).
12- الإيضاح في حل المشكلات(14).
13- قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام(15).
14- منهاج الصلاح(16).
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 14/125.
(2) البداية والنهاية لابن كثير 14/125.
(3) مطبوع في سبع مجلدات. الأعلام 2/227.
(4) هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد أبو القاسم المعروف بالسيد المرتضي.
(5) معجم المؤلفين تأليف كحالة 3/303.
(6) معجم المؤلفين 3/303، الأعلام 3/227.
(7) تراجم وهو مطبوع، الأعلام 3/228.
(8) معجم المؤلفين 3/303.
(9) مخطوط الأعلام 2/227، معجم المؤلفين 30/303.
(10) المستدرك على معجم المؤلفين عمر رضا كحالة صـ 106، وفي الأعلام 2/227، مخطوط وذكر الإيمان بدل الأركان.
(11) المستدرك على معجم المؤلفين ص 206.
(12) المستدرك على معجم المؤلفين ص 206.
(13) المستدرك على معجم المؤلفين ص 206.
(14) المستدرك على معجم المؤلفين ص 206.
(15) مطبوع. الأعلام 2/227، المستدرك على معجم المؤلفين صـ 206.
(16) المستدرك على معجم المؤلفين صـ 206.(1/33)
15- تبصرة المتعلمين في أحكام الدين(1).
16- كشف المراد في شرح "تجربة الاعتقاد للطوسي"(2)(3).
17- تهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول(4).
18- نهاية الوصول إلى علم الأصول(5).
19- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة(6).
20- أنوار الملكوت في شرح الياقوت(7).
21- الأبحاث المفيدة في تحصيل العقيدة(8).
22- كنز العرفان في فقه القرآن(9).
23- نظم البراهين في أصول الدين(10).
24- تلخيص المرام في معرفة الأحكام(11).
25- تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية(12).
26- استقصاء الاعتبار- في الحديث(13).
27- مصابيح الأنوار - حديث(14).
28- السر الوجيز في تفسير القرآن العزيز(15).
29- مبادئ الوصول إلى علم الأصول(16).
30- نهاية المرام في علم الكلام(17).
31- الأسرار الخفيفة في المنطق الطبيعي والإلهي(18).
32- القواعد والمقاصد(19).
33- المقامات(20).
__________
(1) مطبوع الأعلام 2/227، المستدرك على معجم المؤلفين صـ 206.
(2) الطوسي هو نصير الدين شيخ ابن المطهر سبقت ترجمته.
(3) المستدرك على معجم المؤلفين صـ 206.
(4) مطبوع. الأعلام 2/227.
(5) مخطوط. الأعلام 2/227.
(6) مطبوع، الأعلام 2/227.
(7) مخطوط في الأصول والكلام، الأعلام 2/227.
(8) مخطوط، الأعلام 2/227.
(9) مخطوط، الأعلام 2/227.
(10) مخطوط، الأعلام 2/227.
(11) مخطوط. الأعلام 2/227.
(12) مطبوع أربعة أجزاء، الأعلام 2/227.
(13) الأعلام 2/227.
(14) الأعلام 2/227.
(15) الأعلام 2/227.
(16) رسالة مطبوعة، الأعلام 2/227.
(17) الأعلام 2/227.
(18) ثلاثة أجزاء. مخطوط في المكتبة الحيدرية بالنجف، الأعلام 2/228.
(19) في المنطق والطبيعيات والإلهيات، الأعلام 2/228.
(20) في الحكمة ناقش فيه من سبقه من الحكماء. الأعلام 2/228.(1/34)
34- إيضاح التلبيس من كلام الرئيس(1) -ابن سيناء-(2).
35- المطالب العالية في علم العربية(3).
36- منهاج الهداية(4).
37- إيضاح الاشتباه في أسماء الرواة(5).
38- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين(6).
39- استقصاء النظر في القضاء والقدر(7).
40- منهاج الكرامة في معرفة الإمامة(8).
قال عنه الإمام ابن كثير رحمه الله وله كتاب منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدر كيف يتجه، إذ خرج عن الاستقامة، وقد انتدب في الرد عليه الشيخ الإمام، العلامة شيخ الإسلام: تقي الدين أبو العباس ابن تيمية في مجلدات أتى فيها بما يبهر العقول من الأشياء المليحة الحسنة وهو كتاب(9) حافل(10).
__________
(1) ابن سيناء هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سيناء الفيلسوف الملقب بالرئيس ولد سنة 370 هـ، وكان من القرامطة الباطنيين، قال ابن القيم: وكان ابن سيناء كما أخبر عن نفسه، قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى. إغاثة اللهفان 2/226، الأعلام 2/241.
(2) الأعلام 2/228.
(3) الأعلام 2/228.
(4) في علم الكلام. الأعلام 2/228.
(5) صغير مطبوع. الأعلام 2/228.
(6) مطبوع. الأعلام 2/228.
(7) مخطوط. الأعلام 2/228.
(8) مطبوع، وهو موجود في مقدمة منهاج السنة النبوية. تحقيق د. محمد رشاد سالم ط/ مكتبة دار العروبة 1382هـ.
(9) يعني منهاج السنة النبوية لابن تيمية.
(10) البداية والنهاية لابن كثير 14/125.(1/35)
وله كتاب في أصول الفقه على طريقة المحصول والأحكام(1)، هذا الذي استطعت الحصول عليه من كتبه في المراجع التي لدي(2) وهي كتب كما ترى في فنون متعددة، وهذا مؤشر إلى أن هذا الرجل له مكانة عند قومه، وأنه مقدم فيهم، ولقد قال عنه الحافظ ابن حجر: ".... وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة.... وتخرج به جماعة... واشتهرت تصانيفه"(3).
__________
(1) مجلدان، ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 14/125 وقد يكون أحد الكتب المتقدمة، وقد يكون كتابا مستقلا غيرها، لأن ابن كثير رحمه الله لم يذكر اسمه وإنما ذكر وصفه.
(2) وقد ذكر د. محمد رشاد سالم عدة كتب زيادة على ما ذكرته هنا نقلا عن الخوانساري (في روضات الجنات)، منها:
1- المحاكمات بين شراح الإشارات.
2- التناسب بين الأشعرية وفرق السوفسطائية.
3- كاشف الأستار في شرح كشف الأسرار.
4- الدر المكنون في علم القانون في المنطق.
5- المباحث السنية والمعارضات النصيرية.
6- حل المشكلات من كتاب التلويحات.
7- مراصد التدقيق ومقاصد التحقيق في المنطق الطبيعي والإلهي، فإذا أضيف إلى ما سبق صار المجموع سبعة وأربعين مؤلفًا.
(3) الدر الكامنة لابن حجر 2/158.(1/36)
وقال عنه أيضًا: "ويقال: إنه تقدم في دولة خدا بندا(1)، وكثرت أمواله، وكان مع ذلك في غاية الشح وحج في أواخر عمره...(2)"، وقال عنه الإمام ابن كثير رحمه الله "ولما ترفض الملك خدا بندا حظي عنده ابن المطهر، وساد جدا، وأقطعه بلادًا كثيرةً..."(3) فمما تقدم يتبين أثره على من حوله ومنزلته عندهم مع أنه في غاية الشح.
وفاته:
توفي ابن المطهر ليلة الجمعة عشرين من شهر محرم سنة 726هـ(4)، وعمره ثمانون سنة(5) لكن قال الذهبي: من أبناء الثمانين بل أزيد(6).
__________
(1) هو خدا بندة محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن طولو بن جنكيز خان، ولقبه غياث الدين، تولى الملك على التتار في شوال سنة 703هـ، وبقي حتى مات سنة 716هـ، وقد تحول من مذهب السنة إلى مذهب الرافضة (نعوذ بالله نم سوء الخاتمة) البداية والنهاية لابن كثير 14/29، 77، وسيأتي له زيادة إيضاح في المطلب الثاني من هذا المبحث.
(2) الدرر الكامنة لابن حجر 2/159.
(3) البداية والنهاية لابن كثير 14/125.
(4) البداية والنهاية لابن كثير 14/125.
(5) عند حساب عمره باعتبار أن ولادته سنة 648 يكون ثمانية وسبعين عامًا.
(6) ذيول العبر للذهبي 4/77.(1/37)
ولا بد من ذكر بعض ما قاله الشيخ ابن تيمية عن هذا الرافضي، فقال عنه: (مصنف هذا الكتاب [يعني منهاج الكرامة] فإنه عند الإمامية أفضلهم في زمانه بل يقول بعض الناس ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقا ومع هذا فكلامه يدل على أنه من أجهل خلق الله بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وأعماله فيروي الكذب الذي يظهر أنه كذب من وجوه كثيرة فإن كان عالما بأنه كذب فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:«من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»(1) وإن كان جاهلا بذلك دل على أنه من أجهل الناس بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -)(2).
وقال: (ومن الناس من يقول إن صاحب هذا الكتاب ليس هو في الباطن على قولهم وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية وهذا يقوله غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه والأشبه أنه وأمثاله حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وابن سينا وأمثالهما ويعظم شيوخ الإمامية ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه وتقول إنه ليس على طريق الإمامية)(3).
ولا ريب أن ما ذكره شيخ الإسلام قد سلك فيه الوسط في هذا الرافضي، فلا إفراط ولا تفريط، مع أن هذه الطائفة يغلب عليها الجهل، كما سيتبين ذلك في المبحث الخامس إن شاء الله.
ثم قال شيخ الإسلام: (وهذا الرافضي المصنف وإن كان من أفضل بني جنسه ومن المبرزين على طائفته فلا ريب أن الطائفة كلها جهال)(4).
__________
(1) رواه مسلم في المقدمة باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين 1/9.
(2) المنهاج 4/127، 128، وانظر 5/461.
(3) المنهاج 6/483، وانظر 5/162.
(4) المنهاج 6/444.(1/38)
وقد بين شيخ الإسلام أن هذا الرافضي جمع أصول البدع، وهي: الرفض والتجهم ونفي القدر فقال: (وإنما ظهر هذا لما صار بعض الناس رافضيا قدريا جهميا فجمع أصول البدع كصاحب هذا الكتاب وأمثاله)(1).
وبين أنه اعتمد على المعتزلة في المعتقد فقال: (فهذا المصنف الإمامي اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم)(2).
ووضح خبث طوية هذا الإمامي، وحقده على الصحابة وأئمة المسلمين، مع ثنائه على الطوسي وأمثاله، فقال: (ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذَّاب المفتري يذكر أبا بكر وعمر وعثمان وسائر السابقين الأولين والتابعين وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه ويجيء إلى من قد اشتهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله فيقول قال شيخنا الأعظم ويقول قدس الله روحه مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين)(3).
وبين أن هذا هو طريق من أزاغ الله قلوبهم فهم يفضلون الكفار على المسلمين، فقال شيخ الإسلام: (فإنهم(4) دائما يستعينون بالكفار والفجار على مطالبهم ويعاونون الكفار والفجار على كثير من مآربهم وهذا أمر مشهود في كل زمان ومكان ولو لم يكن إلا صاحب هذا الكتاب منهاج الندامة وإخوانه فإنهم يتخذون المغل(5) والكفار أو الفساق أو الجهال أئمة بهذا الاعتبار)(6).
وقد وصفه شيخ الإسلام بأنه حمار وأنه أحمر من عقلاء اليهود(7)، وقال بأن (العامة معذورون في قولهم: الرافضي حمار اليهودي)(8).
__________
(1) المنهاج 3/9، وانظر 8/10.
(2) المنهاج 2/563.
(3) المنهاج 3/450.
(4) يعني الرافضة.
(5) يريد بهم المغول فقد قال 3/447 (ولهذا كانوا [يعني الرافضة] من أنقص الناس منزلة عند الأمير... الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام.... إلخ).
(6) المنهاج 4/11- 112.
(7) انظر المنهاج 7/290، 291.
(8) المنهاج 7/290، 291.(1/39)
وقد أجاب شيخ الإسلام عن سؤال قد يتطرق إلى ذهن القارئ عندما يرى وصفه هذا الرافضي بهذه الأوصاف من الجهل والبلادة، حتى صار أشبه بالحمار... وهذا السؤال هو لماذا إذا كان الرافضي بهذه المثابة -يتعب شيخ الإسلام نفسه بالرد عليه؟- فقال: (ومصنف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سلفها وخلفها فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين وإلى خير أمة أخرجت للناس فجعلوهم شرار الناس وافتروا عليهم العظائم وجعلوا حسناتهم سيئات...)(1).
المطلب الثاني: ألف هذا الكتاب:
صرح ابن المطهر في أول كتابه "منهاج الكرامة في معرفة الإمامة" بأنه ألف هذا الكتاب ليخدم به خزانة الملك الجايتوخدا بندا محمد. فقال "أما بعد فهذه رسالة شريفة ومقالة لطيفة، اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمام..... -إلى أن قال- خدمت بها خزانة السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، ملك ملوك طوائف العرب والعجم، مولي النعم، مسند الخير والكرم، شاهنشاه المعظم، غياث الحق والملة والدين، الجايتوخدا بنده محمد، خلد الله سلطانه"(2).
لقد صرف ابن المطهر في هذا الكتاب خلقا كثيرًا عن الدين الحق عن مذهب أهل السنة إلى مذهب الرافضة والمجوس ومنهم الملك الذي أقام على السنة سنوات قليلة من ملكه ثم في عام 709هـ ترك مذهب أهل السنة وأعلن تحوله إلى مذهب الرافضة وكتب للأقاليم بأن لا يذكر في الخطب إلا علي وأهل بيته، فكان لهذا الأمر الخطير أثره على أهل السنة حيث ظهر عليهم أهل البدعة(3).
__________
(1) المنهاج 5/160.
(2) منهاج الكرامة في معرفة الإمامة في مقدمة تحقيق منهاج السنة د. محمد رشاد سالم صـ 77 (م) ط. مكتبة دار العروبة.
(3) انظر البداية والنهاية لابن كثير 41/56.(1/40)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عن خدا بنده "توفي في السابع والعشرين من رمضان -يعني سنة 716هـ- ودفن بتربته بالمدينة التي أنشأها، يقال لها السلطانية، وقد جاوز الثلاثين من العمر، وكان موصوفًا بالكرم، ومحبا للهو واللعب والعمائر، وأظهر الرفض، أقام سنة على السنة ثم تحول إلى الرفض، وأقام شعائره في بلاده، وحظي عنده الشيخ جمال الدين ابن المطهر الحلي تلميذ نصير الدين الطوسي وأقطعه عدة بلاد، ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أن مات في هذه السنة(1)، وقد جرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام فأراح الله منه العباد والبلاد"(2).
قال شيخ الإسلام في بيان بداية تحول الرفض في دولة خدا بنده: (ولما قاموا [يعني الرافضة] في دولة خدا بنده الذي صنف له الرافضي هذا الكتاب فأرادوا إظهار مذهب الرافضة وإطفاء مذهب السنة، منعوا ذكر الخلفاء على المنبر، ثم عوضوا بذكر علي والأحد عشر الذين يزعمون أنهم المعصومون)(3).
وقال عن خدا بنده: (ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عدوه ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث وقد برأ الله رسوله منها لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال كان قليل العقل.
ولا ريب أن من فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول - صلى الله عليه وسلم -)(4).
(فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة)(5).
المبحث الرابع
__________
(1) أي سنة 716هـ.
(2) البداية والنهاية لابن كثير 14/77.
(3) المنهاج 4/165.
(4) المنهاج 8/430، 431.
(5) المنهاج 8/430.(1/41)
تعريف الشيعة والرافضة
المطلب الأول: تعريف الشيعة:
الشيعة لغة: الأعوان والأنصار(1)، والأحزاب(2) والأتباع.
وقال ابن منظور: والشيعة: القوم الذين يجتمعون على الأمر، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وكل قوم أمرهم واحد، يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع(3).
وقال: وأصل الشيعة الفرقة من الناس، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد... وأصل ذلك من المشايعة: وهي المتابعة والمطاوعة(4).
وقال في مختار الصحاح: وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره(5)، وتشيع الرجل ادعى دعوى الشيعة(6).
أما في الاصطلاح: فقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته -رضي الله عنهم- حتى صار اسما خالصا لهم.
قال أبو الحسن الأشعري(7): وإنما قيل لهم الشيعة؛ لأنهم شايعوا عليا -رضوان الله عليه- ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(8).
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/235.
(2) مجمل اللغة لابن فارس 2/518.
(3) لسان العرب لابن منظور 8/188.
(4) لسان العرب لابن منظور 8/189.
(5) مختار الصحاح للرازي 353، القاموس المحيط للفيروزبادي /949.
(6) مختار الصحاح للرازي /353، القاموس المحيط للفيروزبادي /950.
(7) هو إمام المتكلمين أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري اليماني البصري ولد سنة 260هـ كان على مذهب المعتزلة، ولما برع فيه كرهه وتبرأ منه وتاب إلى الله تعالى منه وصنف في الرد عليهم، صاحب كتاب المقالات والإبانة وغيرها، ت سنة 330هـ، وقيل غيرها. سير أعلام النبلاء 15/85-90، تاريخ بغداد 11/346/ 347.
(8) مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/65.(1/42)
وقال ابن الأثير(1): وأصل الشيعة الفرقة من الناس...، وقد غلب هذا الاسم على كل من يزعم أنه يتولى عليًا رضي الله عنه وأهل بيته حتى صار لهم اسما خاصًا، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا: أي عندهم(2).
وقال الشهرستاني(3): الشيعة هم الذين شايعوا عليًا - رضي الله عنه - على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصًّا ووصيةً، إما جليا، وإما خفيا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده، ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر، والقول بالتوالي والتبري قولا وفعلاً وعقدًا إلا في حال التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك(4).
ومما يسبق يتبين الصلة بين المعنى اللغوي للتشيع والمعنى الاصطلاحي حيث إن التشيع في اللغة، وفي الاصطلاح يدور على المشايعة، وهي المطاوعة والمناصرة، وكان التشيع في بداية أمره قريبا جدًا من معناه اللغوي، حيث إنه يقال لكل قوم ناصروا رجلا، وكانوا معه إنهم من شيعته، فيقال: شيعة علي - رضي الله عنه - وشيعة عثمان - رضي الله عنه - وشيعة معاوية - رضي الله عنه - وهكذا، ولكن هذا الاسم غلب على شيعة علي - رضي الله عنه -؛ لأنهم أقاموا من أجل هذا التشيع الحروب، واعتقدوا اعتقادات باطلة خرجت بالتشيع عن مفهومه الصحيح إلى الرفض.
__________
(1) هو المبارك بن محمد الجزري مجد الدين أبو السعادات (544- 606) مصنف النهاية في غريب الحديث، وغيره، شذرات الذهب 5/22، 23.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/519، 520.
(3) هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (479- 548)، صاحب كتاب نهاية الأقدام في علم الكلام، وكتاب الملل والنحل، وغيرها، شذرات الذهب 4/194، الأعلام 6/215.
(4) الملل والنحل للشهرستاني 1/146، 147.(1/43)
قال شيخ الإسلام: (وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين شيعة عثمانية وشيعة علوية وليس كل من قاتل مع على كان يفضله على عثمان بل كان كثير منهم يفضل عثمان عليه كما هو قول سائر أهل السنة)(1).
المطلب الثاني: الرافضة ووجه تسميتهم بذلك:
تعريف الرافضة:
1- الرافضة في اللغة: من الرفض وهو الترك: قال ابن فارس(2): (الراء والفاء والضاد أصل واحد وهو الترك)(3).
وقال في مختار الصحاح: (رفضه: تركه)(4).
وقال في القاموس المحيط: (والروافض كل جند تركوا قائدهم، والرافضة الفرقة منهم)(5).
فمن هذا المعنى اللغوي تتبين الصلة بينه وبين المعنى الاصطلاحي كما سيأتي:
2- الرافضة في الاصطلاح: سموا بذلك لرفضهم الحق الذي عليه الصحابة، ومنه إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد(6): سألت أبي عن الرافضة فقال: الذين يشتمون أو يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما(7)، وقال أيضا: قلت لأبي من الرافضي ؟ قال: الذي يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما(8)، وقال أبو الحسن الأشعري: وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما(9).
__________
(1) المنهاج 4/132، وانظر 2/91، 92، 93.
(2) هو أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا لغوي شاعر، ت 395هـ، صاحب مجمل اللغة، انظر البداية والنهاية لابن كثير 11/335.
(3) معجم مقاييس اللغة 2/422.
(4) مختار الصحاح / 250.
(5) القاموس المحيط /830، وانظر لسان العرب 7/157، تهذيب اللغة 12/15، وقال: والنسبة إليهم رافضي.
(6) ستأتي ترجمته.
(7) الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية /567.
(8) مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله /99.
(9) مقالات الإسلاميين 1/89.(1/44)
وقال في الشيعة والتشيع عن الاثنى عشرية: (ويسمون أيضًا الرافضة أو الروافض لرفضهم مناصرة أئمتهم ومتابعتهم، وغدرهم بهم، وعدم وفائهم لهم كما وصفهم علي - رضي الله عنه - بقوله: الذي رواه في كتاب الكافي المعتمد عندهم: لو ميزت شيعتي لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ولو تمحضتهم لما خلص من الألف واحد(1))(2).
وقد أورد الكليني(3) في كتابه الكافي ما يدل على أن هذا الاسم -أي الرافضة لم يكن من قبل الناس، وإنما هو اسم سماهم الله به- فيروى عن محمد بن سليمان عن أبيه أنه قال: قلت لأبي عبد الله، [جعفر]: جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزًا أثقل ظهرونا وماتت له أفئدتنا، واستحلت له الولاة دمائنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة ؟ قلت: نعم، قال: لا والله ما هم سموكم ولكن الله سماكم به(4).
قال شيخ الإسلام: (ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه وتارة يخفى)(5).
__________
(1) كتاب الروض من الكافي 8/338.
(2) الشيعة والتشيع لإحسان إلهي ظهير /270.
(3) هو محمد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني إمامي، كان شيخ الشيعة ببغداد وتوفي فيها سنة 329هـ، وهو صاحب الكافي الأعلام 7/145.
(4) كتاب الروض من الكافي 5/34، نقلا عن الشيعة والتشيع /271.
(5) المنهاج 7/27، والمعنى: أنه تارة يظهر اشتقاقهم من الشرك والإلحاد، وتارة يخفى.(1/45)
سبب تسمية الرافضة بهذا الاسم: كثير من كتب المقالات(1)، وكتب التاريخ(2)، وكتب اللغة(3)؛ تذكر أن سبب التسمية بذلك هو انفصال الشيعة وافتراقهم على زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حينما سألوه عن رأيه في الشيخين أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما، وقال: [هما وزيرا جدي] فانفض عنه أكثرهم حتى لم يبق معه إلا القليل، فالذين انفضوا عنه سموا رافضة والذين بقوا معه سموا زيدية.
قال الأشعري: فإنه لما ظهر -يعني زيدًا- في الكوفة في أصحابه الذين بايعوه سمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر فأنكر ذلك على من سمعه منه فتفرق عنه الذين بايعوه. فقال لهم: [رفضتموني]، فيقال: إنهم سموا الرافضة لقول زيد لهم: [رفضتموني](4).
__________
(1) انظر مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/137، الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي /35، 36، الملل والنحل 1/155.
(2) انظر البداية والنهاية لابن كثير 9/329، 330، تاريخ الأمم والملوك للطبري 7/180، الكامل 5/242، 243.
(3) انظر لسان العرب 7/157، القاموس المحيط /830، مختار الصحاح /250، تهذيب اللغة 12/16.
(4) مقالات الإسلاميين 1/137.(1/46)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: (لكن لفظ الرافضة إنما ظهر لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين(1) في خلافة هشام(2)، وقصة زيد بن علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين ومائة في أواخر خلافة هشام)(3).
وقال: (قلت: ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه قوم فقال لهم: رفضتموني فسموا رافضة لرفضهم إياه وسُمي من لم يرفضه من الشيعة زيديا لانتسابهم إليه)(4).
وقال شيخ الإسلام: (ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا عليا أو كانوا في ذلك الزمان لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر.
__________
(1) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين، ثقة تنسب إليه الزيدية خرج في خلافة هشام بن عبد الملك وقتل في الكوفة سنة 122هـ التقريب/ 224، الخلاصة 1/354.
(2) هشام بن عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين أبو الوليد القرشي الأموي، ولد بعد السبعين واستخلف بعهد معقود له من أخيه يزيد، في شعبان سنة 105هـ إلى أن مات في ربيع الآخر سنة 125هـ، وله أربع وخمسون سنة، سير أعلام النبلاء 5/351- 353، البداية والنهاية لابن كثير 9/351- 354، شذرات الذهب 1/163- 165.
(3) المنهاج 1/34، 35.
(4) المنهاج 1/35.(1/47)
حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم(1) البلخي قال سأل سائل شريك بن عبد الله بن أبي نمر(2) فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟! فقال: نعم إنما الشيعي من قال مثل هذا والله لقد رقى علي هذه الأعواد فقال ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر أفكنا نرد قوله أكنا نكذبه والله ما كان كذابا)(3).
فمن هذا النص يتبين أن خلاف الشيعة الأولى إنما هو في تفضيل عثمان، أما أبو بكر وعمر فلا خلاف في تفضيلهما، ويحمل ما قاله الأشعري والشهرستاني: (من أنهم يفضلون عليا على سائر الصحابة)(4)، على أن هذا إنما هو في المتأخرين، وأما المتقدمون فكما ذكر شيخ الإسلام، وهذا هو الأليق من ناحية النظر ؛ لأن الناس في ذلك الوقت ليس فيهم من يجرؤ على إظهار الطعن في أبي بكر وعمر أو انتقاصهما حقهما، فضلاً عن تفضيل أحد عليهما.
وقال شيخ الإسلام: (ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان)(5).
* * *
المبحث الخامس
بيان حال الرافضة وصفاتهم
المطلب الأول: بيان حال الرافضة:
في هذا الأمر لا بد من بيان أصل مذهبه، ومقصود من أحدث بدعة الرفض.
__________
(1) العلامة شيخ المعتزلة أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي من نظراء الجبائي، صاحب التصانيف، ت سنة 329هـ، وكان داعية إلى الاعتزال. سير أعلام النبلاء 14/313، 15/ 255، 256.
(2) شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، وقال ابن عدي: إذا حدث عنه ثقة فلا بأس به، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ مات سنة 140هـ، روى له البخاري ومسلم وغيرهما، الخلاصة 1/449، التقريب /266.
(3) المنهاج 1/13، 14.
(4) سبق.
(5) المنهاج 2/95، وانظر 4/132، 2/91، 92.(1/48)
قال شيخ الإسلام: (إذ كان أصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم في حياته علي أمير المؤمنين - رضي الله عنه - فحرق منهم طائفة بالنار(1)، وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار وتوعد بالجلد طائفة مفترية فيما عرف عنه من الأخبار)(2).
وقال: (لكن لما كان أصل مذهبهم مستندا إلى جهل كانوا أكثر الطوائف كذبا وجهلا)(3).
وقال: (وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد)(4).
وقال: (إذ كان مبدأ بدعة القوم من قوم منافقين لا مؤمنين)(5).
وقال رحمه الله: (ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة، وإنه وضع عليها)(6).
فأصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين، ومستند إلى جهل، فما نتيجة اجتماع الزندقة والإلحاد والجهل والنفاق؟ وهل يرجى ممن هذا مذهبه صلاح أو فلاح ؟!!
ويوضح هذا أيضا ما كتبه شيخ الإسلام عن مقصود أول من أحدث بدعة الرفض، حيث قال: (وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين لنوع من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى فقبل معه الضلالة وهذا أصل كل باطل)(7).
__________
(1) انظر قصة إحراق علي لهؤلاء الزنادقة وقول ابن عباس لما بلغه ذلك، في البخاري كتاب الجهاد والسير باب لا يعذب بعذاب الله 4/21، وكتاب استتابة المرتدين باب حكم المرتد والمرتدة 8/50.
(2) المنهاج 1/11، وانظر 7/409، 8/279.
(3) المنهاج 1/57.
(4) المنهاج 1/67، وانظر 3/464.
(5) المنهاج 2/302.
(6) المنهاج 7/459.
(7) المنهاج 1/18.(1/49)
وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ما أراده أول من ابتدع الرفض هو إفساد دين الإسلام كما أراد بولص(1) إفساد النصرانية فقال: (ذكر غير واحد منهم [يعني من أهل العلم] أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقا زنديقا أراد فساد دين الإسلام وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولص بالنصارى لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص... وهذه الأمة والحمد لله لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله)(2).
وقد وضح شيخ الإسلام -رحمه الله- مدى علم القوم فقال: (وهؤلاء الرافضة إما منافق وإما جاهل فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول مع الإيمان به فإن مخالفتهم لما جاء به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى)(3).
وقال: (وهم في دينهم لهم عقليات وشرعيات فالعقليات متأخروهم فيها أتباع المعتزلة إلا من تفلسف منهم فيكون إما فيلسوفا وإما ممتزجا من فلسفة واعتزال ويضم إلى ذلك الرفض مثل مصنف هذا الكتاب وأمثاله فيصيرون بذلك من أبعد الناس عن الله ورسوله وعن دين المسلمين المحض)(4).
وقال: (والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة)(5).
__________
(1) بولص بن يوشع ملك اليهود الذي أفسد النصرانية، انظر كتاب اليهود والمسيحية، د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي صـ 293- 312، وغيرها.
(2) المنهاج 6/428، وانظر 8/479.
(3) المنهاج 5/161، 162.
(4) المنهاج 5/162.
(5) المنهاج 5/157.(1/50)
ثم وضح مدى علمهم وخاصة بالسنة فقال: (والرافضة لا خبرة لها بالأسانيد والتمييز بين الثقات وغيرهم بل هم في ذلك من أشباه أهل الكتاب كل ما يجدونه في الكتب منقولا عن أسلافهم قبلوه بخلاف أهل السنة فإن لهم من الخبرة بالأسانيد ما يميزون به بين الصدق والكذب)(1).
ثم قال مبينا أن ما نسبه إليهم من الشر والحماقات غيض من فيض فقال: (فما أذكره في هذا الكتاب من ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله)(2).
ثم ذكر أن استقصاء ما يعرفه عنهم بالمباشرة، ونقل الثقات وما رآه في كتبهم يحتاج إلى كتاب كبير(3).
ومذهب الرافضة قد جمع بين أرذل المذاهب وأرداها.
قال شيخ الإسلام: (وأما الرافضة كهذا المصنف وأمثاله من متأخري الإمامية فإنهم جمعوا أخس المذاهب مذهب الجهمية في الصفات ومذهب القدرية في أفعال العباد ومذهب الرافضة في الإمامة والتفضيل)(4).
(ويضعون الأحاديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام)(5).
ولهذا فهم دائمًا مغلوبون مقهورون منهزمون وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر(6)، إضافة إلى طعنهم المستمر في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل هذه الأمة بعد نبيها(7).
(ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من جنس المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة إن كان فيهم مرتد)(8).
__________
(1) المنهاج 5/163، وانظر 2/518، 4/18.
(2) المنهاج 5/160.
(3) انظر المنهاج 7/416.
(4) المنهاج 8/10.
(5) انظر المنهاج 7/411.
(6) انظر المنهاج 2/90.
(7) انظر المنهاج 3/463
(8) المنهاج 3/460.(1/51)
وذكر شيخ الإسلام من حالهم وأنهم من أضل الناس فقال: (ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر، حتى أن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل(1) الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقطعون الطريق استحلالا لذلك وتدينا به فقاتلهم صنف من التركمان فصاروا يقولون نحن مسلمون فيقولون لا أنتم جنس آخر فهم بسلامة قلوبهم علموا أنهم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم)(2).
فتبين أن الرافضة من أشد أعداء المسلمين كما أنهم شر الطوائف المنتسبة للإسلام، ومع ذلك فليس في علماء الأمة أحد من الإمامية لا ظاهرًا ولا باطنا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رجلا له في الأمة لسان صدق يتهم بمذهب الإمامية فضلا عن أن يقال: إنه يعتقده في الباطن)(3).
(وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف والكذب فيهم قديم ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.
__________
(1) لعله جبل كسروان في الشام.
(2) المنهاج 3/376.
(3) المنهاج 4/131.(1/52)
قال أبو حاتم الرازي:(1) سمعت يونس بن عبد الأعلى(2) يقول: قال أشهب بن عبد العزيز(3): سئل مالك عن الرافضة فقال: [لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون](4)، وقال أبو حاتم: حدثنا حرملة(5) قال سمعت الشافعي يقول: [لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة](6).
__________
(1) هو محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التميمي البكري الطبرستاني الأصولي المفسر أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له: ابن خطيب الري، وله مصنفات كثيرة في التوحيد وعلم الأصول، وعلم الكلام وغيرها، ت سنة 606هـ، البداية والنهاية لابن كثير 3/55، 56، وطبقات الشافعية 5/33، لسان الميزان 4/426- 429، السير 21/ 500، 501.
(2) هو يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة بن حفص بن حيان الإمام أبو موسى الصدفي المصري المقري الحافظ ولد سنة 170 هـ، وتوفي سنة 264هـ، السير 12/348- 351، الجرح والتعديل 9/243، التقريب /613.
(3) هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي أبو عمرو البصري، يقال اسمه مسكين وأشهب لقب له، ثقة فقيه ولد سنة 140 هـ، وتوفي سنة 204هـ، التاريخ الكبير 2/57، السير 9/500- 503، الشذرات 2/12.
(4) لم أجده.
(5) هو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي، أبو حفص المصري أحد الحفاظ المشاهير من أصحاب الشافعي وكبار رواة مذهبه الجديد ت 243هـ، بمصر. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/61، 62، الشذرات 2/103.
(6) الإبانة 2/545، بلفظ [لم أر أحدًا من أصحاب الأهواء أكذب في الدعوى ولا أشهد بالزور من الرافضة].(1/53)
وقال مؤمل بن إهاب:(1) سمعت يزيد بن هارون(2) يقول: [يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون](3)... وقال أبو معاوية:(4): سمعت الأعمش(5) يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين يعني أصحاب المغيرة بن سعيد(6)، قال الأعمش: [ولا عليكم ألا تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا إنا أصبنا الأعمش مع امرأة](7).
وهذه آثار ثابتة رواها أبو عبد الله ابن بطة(8) في "الإبانة الكبرى" هو وغيره.
__________
(1) هو مؤمل بن إهاب الربعي العجلي أبو عبد الرحمن الكوفي الحافظ الصدوق ت 254هـ، السير 12/246- 248، التقريب /555.
(2) ستأتي ترجمته.
(3) لم أجده.
(4) ستأتي ترجمته.
(5) ستأتي ترجمته.
(6) هو المغيرة بن سعيد الكوفي دجال، كذاب، رافضي، يضع الحديث، ادعى النبوة، قال ابن عدي: لم يكن بالكوفة ألعن من المغيرة بن سعيد في ما يروي عنه من الزور على علي، هو دائم الكذب على أهل البيت ولا أعرف له حديثا مسندا، قتله خالد القسري في حدود 120هـ، كتاب المجروحين 3/7-8، الكامل في الضعفاء 6/2351، 2352، الضعفاء والمتروكون للدارقطني /370، ميزان الاعتدال 4/160- 162.
(7) لم أجده.
(8) ستأتي ترجمته، وكتابه هذا قد طبع منه جزءان تحقيق د. رضا بن نعسان معطي.(1/54)
وروى أبو القاسم الطبري(1) كلام الشافعي فيهم من وجهين من رواية الربيع(2) قال: سمعت الشافعي يقول: [ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة](3)، ورواه أيضًا من طريق حرملة وزاد في ذلك: [ما رأيت أشهد على الله بالزور من الرافضة](4).
وهذا المعنى وإن كان صحيحًا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي ولهذا ذكر الشافعي ما ذكره أبو حنيفة وأصحابه أنه يرد شهادة من عرف بالكذب كالخطابية(5)(6))(7).
__________
(1) هو اللالكائي وستأتي ترجمته.
(2) هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي، الإمام المحدث الفقيه الكبير المصري صاحب الإمام الشافعي وخادمه ورواية كتبه الجديدة قال الشافعي عنه: رواية كتبي، ت 270هـ، السير 12/587- 591، الشذرات 2/159، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/65، طبقات الفقهاء للشيرازي /109.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 8/1457.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 8/1457، بلفظ ما أحد أشهد.
(5) الخطابية هم: أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد يقولون بإلهية جعفر بن محمد، ويزعمون أن الأئمة أنبياء، وأن في كل وقت رسول ناطق وصامت، ويزعمون أن لكل شيء من العبادات باطنا ويبيحون نكاح المحرمات... إلخ، وهم خمس فرق، انظر مقالات الإسلاميين 1/76- 80، الملل والنحل 1/179- 181، البرهان في عقائد أهل الأديان 69، 70.
(6) البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان للسكسكي /70.
(7) المنهاج 1/59- 62.(1/55)
(وهذا حال أهل الكتاب مع المسلمين فما يوجد في المسلمين شر إلا وفي أهل الكتاب أكثر منه ولا يوجد في أهل الكتاب خير إلا وفي المسلمين أعظم منه... والرافضة فيهم من لعنة الله وعقوبته بالشرك ما يشبهونهم به من بعض الوجوه فإنه قد ثبت بالنقول المتواترة أن فيهم من يمسخ كما مسخ أولئك وقد صنف الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي(1) كتابا سماه [النهي عن سب الأصحاب وما ورد فيه من الذم والعقاب](2) وذكر فيه حكايات معروفة في ذلك وأعرف أنا حكايات أخرى لم يذكرها هو.
وفيهم من الشرك والغلو ما ليس في سائر طوائف الأمة ولهذا أظهر ما يوجد الغلو في طائفتين في النصارى والرافضة)(3).
(وهذا باب مطرد لا تجد أحدا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ولا تجد أحدا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه فإن الروافض شر من النواصب والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب)(4).
__________
(1) هو الشيخ الإمام الحافظ القدوة المحقق الحجة بقية السلف ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد السعدي المقدسي الجماعيلي الحنبلي صاحب التصانيف والرحلة الواسعة ولد سن 569هـ، وتوفي سنة 643هـ، ذيل طبقات الحنابلة 2/236- 240، والسير 23/ 126- 130، الشذرات 5/224- 226.
(2) هذا الكتاب مخطوط وقد نسبه إليه الذهبي في السير 23/128.
(3) المنهاج 1/484- 486.
(4) المنهاج 2/71، وانظر 2/80، 81، 82، 8/148- 152.(1/56)
(والرافضة أعظم جحدا للحق تعمدا... فإن منهم ومن المنتسبين إليهم كالنصيرية وغيرهم من يقول إن الحسن والحسين ما كانا أولاد علي بل أولاد سلمان الفارسي(1) ومنهم من يقول إن عليا لم يمت وكذلك يقولون عن غيره.
ومنهم من يقول إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من يقول إن رقية(2) وأم كلثوم(3) زوجتي عثمان ليستا بنتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن هما بنتا خديجة من غيره ولهم في المكابرات وجحد المعلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين وهذا مما يبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين)(4).
__________
(1) هو أبو عبد الله سلمان الفارسي صحابي جليل أصله من رامهرمز، وقيل: أصبهان وكانت أول مشاهده الخندق، توفي في آخر خلافة عثمان - رضي الله عنه - سنة 35هـ الاستيعاب 4/221- 225، تجريد أسماء الصحابة 1/230، الإصابة 4/223- 225.
(2) رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمها خديجة بن خويلد رضي الله عنها، تزوجها عثمان بمكة وولدت له بالحبشة عبد الله وتوفيت ليالي بدر بالحصبة ودفنت بالمدينة، الاستيعاب 12/ 319- 327، تجريد أسماء الصحابة 2/268، الإصابة 12/257- 259.
(3) أم كلثوم بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمها خديجة بنت خويلد، وهي أسن من رقية وفاطمة وقد تزوجها عثمان بعد وفاة رقية سنة 3هـ، وتوفيت عنده أيضا سنة 9هـ، رضي الله عنها، الاستيعاب 13/270- 272، تجريد أسماء الصحابة 2/333، الإصابة 13/275، 276.
(4) المنهاج 4/368.(1/57)
(الرافضة يوجد فيهم من المسائل ما لا يقوله مسلم يعرف دين الإسلام منها ما يتفقون عليه ومنها ما يقوله بعضهم مثل ترك الجمعة والجماعة فيعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه عن الجمعة والجماعات ويعمرون المشاهد التي حرم الله ورسوله بناءها ويجعلونها بمنزلة دور الأوثان ومنهم من يجعل زيارتها كالحج كما صنف المفيد(1) كتاب سماه [مناسك حج المشاهد]، وفيه من الكذب والشرك ما هو من جنس كذب النصارى وشركهم ومنها تأخير صلاة المغرب مضاهاة لليهود)(2)... إلخ.
(وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون مرادهم إفساد دين الإسلام وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ورأيت أقوال أولئك فرأيت فيها اختلافا كثيرا.
وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم)(3).
(وأما الرافضة فهم المعروفون بالبدعة عند الخاصة والعامة حتى أن أكثر العامة لا تعرف في مقابلة الشيء(4) إلا الرافضي لظهور مناقضتهم لما جاء به الرسول عليه السلام عند الخاصة والعامة فهم عين على ما جاء به حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم إذا قالت لهم الرافضة: [نحن مسلمون] يقولون أنتم جنس آخر)(5).
__________
(1) ستأتي ترجمته.
(2) المنهاج 3/418، 419، وانظر 3/469، 502، 7/209، 210، 211، 219.
(3) المنهاج 6/303، وانظر 7/9، 109.
(4) هكذا في المنهاج (الشيء) ولعلها السني بالسين المهملة بعدها نون.
(5) المنهاج 7/413، 414.(1/58)
(فإن قيل فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم قيل ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة وإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواع كثيرة كقوله: «لعن الله الخمر وشاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وآكل ثمنها»(1)، و«لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه»(2)، و«لعن الله من غير منار الأرض»(3)، وقال: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا»(4). وقال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط». وقال: «لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء». وقال: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».
وقال الله تعالى في القرآن: { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } (5).
__________
(1) الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ أخرجه أبو داود في كتابه الأشربة [باب العنب يعصر للخمر] 4/81، والإمام أحمد في المسند 1/316، 2/25، 97، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند 4/321، 322، 7/12، 8/70، ورواه الحاكم في المستدرك 2/31، 32، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) رواه مسلم في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله 3/1219.
(3) رواه مسلم في كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله 3/1567.
(4) رواه البخاري في كتاب فضائل المدينة باب حرمة المدينة في حديث طويل 2/221، ومسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة... إلخ، في حديث طويل 2/994- 999، ورواه غيرهما.
(5) الأعراف/ 44، 45.(1/59)
فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم تحذيرا من ذلك الفعل وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد)(1).
(وثبت عنه في الصحيح أن رجلا كان يشرب الخمر وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أتي به إليه جلده الحد فأتي به إليه مرة فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»(2). فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر وشهد له بأنه يحب الله ورسوله مع لعنة شارب الخمر عموما.
فعلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين وعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم أخف ضررا على المسلمين من أمر أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم)(3).
المطلب الثاني: صفات وأوصاف الرافضة:
أ- الجهل وقلة العقل: قال: (وهم الغاية في الجهل وقلة العقل يبغضون من الأمور ما لا فائدة لهم في بغضه ويفعلون من الأمور ما لا منفعة لهم فيه إذا قدر أنهم على حق)(4).
(وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وأقرب إلى كل شر وأبعد عن كل خير من طائفته)(5). يعني الرافضة.
(ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم وكتبهم كلها شاهدة بذلك وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة وذكر جهلهم وضلالهم.
__________
(1) المنهاج 5/147- 149.
(2) رواه البخاري في كتاب الحدود باب [ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة] 8/14.
(3) المنهاج 5/154.
(4) المنهاج 7/406، وانظر 1/58، 59، 89- 90.
(5) المنهاج 2/607، انظر 4/63، 65، 6/393.(1/60)
وهم دائما يذكرون من جهل الرافضة وضلالهم ما يعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم وأبعد طوائف الأمة عن الهدى كيف ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة فإنهم جهمية قدرية رافضة وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله والكتب مشحونة بذلك ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك)(1).
(والرافضة من فرط جهلهم يكذبون الكذب الذي لا يخفى على من له بالسيرة أدنى علم)(2).
(فقد تبين أن الجهل الذي يوجد فيمن هو من أجهل أهل السنة يوجد في الشيعة من الجهل ما هو أعظم منه لا سيما وجهل أولئك أصله جهل نفاق وزندقة لا جهل تأويل وبدعة وهؤلاء أصل جهلهم لم يكن جهل نفاق وزندقة بل جهل بدعه وتأويل وقلة علم بالشريعة...وهؤلاء ونحوهم أكفر من اليهود والنصارى)(3).
(والرافضة من أجهل الناس بدين الإسلام وليس للإنسان منهم شيء يختص به إلا ما يسر عدو الإسلام ويسوء وليه فأيامهم في الإسلام كلها سود وأعرف الناس بعيوبهم وممادحهم أهل السنة لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها عرفتها كما قال تعالى في اليهود { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ } (4))(5).
__________
(1) المنهاج 4/130، 131، انظر 2/301، 302، 4/66، 7/36، 260، 8/200، 203، 204.
(2) المنهاج 4/276، وانظر 6/409.
(3) المنهاج 4/520.
(4) المائدة/ 13.
(5) المنهاج 7/415، 416، وانظر 7/173، 177، 8/143.(1/61)
ب- النفاق: (والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسمية التقية(1)، وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا عن جعفر الصادق أنه قال: [التقية ديني ودين آبائي](2)، وقد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك، بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان، وكان دينهم التقوى لا التقية)(3).
(وعامة علامات النفاق وأسبابه ليست في أحد من أصناف الأمة أظهر منها في الرافضة حتى يوجد فيهم من النفاق الغليظ الظاهر ما لا يوجد في غيرهم وشعار دينهم التقية التي هي أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه وهذا علامة النفاق كما قال الله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } (4).
وقال تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } (5).
__________
(1) التقية والتقاء والتقوى والتقاء كله واحد وهي كلمة تدل على دفع شيء عن شيء بغيره واصطلاحا: هي أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن، انظر في مادة وقي: تهذيب اللغة 9/374- 376، ومعجم مقاييس اللغة 6/131، لسان العرب 15/401- 405، ترتيب القاموس المحيط 4/648-649، وسيأتي تعريف شيخ الإسلام لها بعد قليل.
(2) أصول الكافي 2/219.
(3) المنهاج 2/46، وانظر 2/48، 4/133- 134.
(4) آل عمران /166، 167.
(5) التوبة/ 74.(1/62)
وقال تعالى: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } (1)، وفيها قراءتان (يًكذِبُون) (ويُكَذَّبُون)(2).
وفي الجملة فعلامات النفاق مثل الكذب والخيانة وإخلاف الوعد والغدر لا يوجد في طائفة أكثر منها في الرافضة وهذا من صفاتهم القديمة حتى إنهم كانوا يغدرون بعلي وبالحسن والحسين)(3).
__________
(1) البقرة/10.
(2) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء مخففا يكْذبون وقرأ الباقون وابن كثير وأبو عمرو بن العلاء وعبد الله بن عامر بضم الياء مشددا يكّذبون، انظر الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي 1/329، الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/227، التيسير في القراءات السبع /72.
(3) المنهاج 7/151، وانظر 8/318.(1/63)
(فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويوالون الكفار والمنافقين وقد قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (1).
__________
(1) المجادلة /14- 22.(1/64)
فهذه الآيات نزلت في المنافقين وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر»(1) أخرجاه في الصحيحين)(2).
ثم بين معاشرة الرافضي لغيره بالتقية، وإن كان من ضعفاء الناس فقال: (وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه)(3).
(فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منهم حتى يوجد فيهم النصيرية(4) والإسماعيلية(5) وأمثالهم ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله)(6).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامات المنافق 1/14، وفي كتاب المظالم والغصب باب إذا خاصم فجر 3/101، وفي كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر، 4/69، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان خصال المنافق 1/78.
(2) المنهاج 3/374، 375.
(3) المنهاج 6/425.
(4) سيأتي التعريف بها.
(5) سيأتي التعريف بها.
(6) المنهاج 7/476.(1/65)
جـ الكذب: وأنهم أكذب خلق الله: (وفي الجملة فمن جرب الرافضة في كتابهم وخطابهم علم أنهم من أكذب خلق الله فكيف يثق القلب بنقل من كثر منهم الكذب قبل أن يعرف صدق الناقل؟! وقد تعدى شرهم إلى غيرهم من أهل الكوفة وأهل العراق حتى كان أهل المدينة يَتَوَقَّونَ أحاديثهم وكان مالك يقول: [نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم](1)، وقال له عبدالرحمن مهدي(2): يا أبا عبدالله سمعنا في بلدكم أربعمائة حديث في أربعين يوما ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله فقال له يا عبدالرحمن ومن أين لنا دار الضرب أنتم عندكم دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار(3).
وهذا مع أنه كان في الكوفة وغيرها من الثقات الأكابر كثير لكن لكثرة الكذب الذي كان أكثره في الشيعة صار الأمر يشتبه على من لا يميز بين هذا وهذا بمنزلة الرجل الغريب إذا دخل بلدا نصف أهله كذابون خوانون فإنه يحترس منهم حتى يعرف الصدوق الثقة وبمنزلة الدراهم التي كثر فيها الغش فإنه يحترس عن المعاملة بها من لا يكون نقادا. ولهذا كره لمن لا يكون له نقد وتمييز النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلال في الآراء ككتب أهل البدع وكره تلقي العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم وإن كانوا يقولون صدقا كثيرا. فالرافضة أكذب من كل طائفة باتفاق أهل المعرفة بأحوال الرجال)(4).
(ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله)(5).
__________
(1) انظر: جامع بيان العلم وفضله 2/157، السير 8/68.
(2) ستأتي ترجمته.
(3) ورد في ترتيب المدارك 2/141، قال مطرف: جاء رجل من أهل الكوفة إلى مالك: فأقام نحو الستين أو السبعين يومًا، فسمع عددها أحاديث،... وذكر نحوه، وفي آخره قال مالك: كانت العراق تجيش علينا بالدنانير والدراهم فصارت الآن تجيش علينا بالحديث.
(4) المنهاج 2/467، 468.
(5) المنهاج 6/268.(1/66)
(وقد نبهنا في هذا الرد على طرق مما به يعلم كذب ما يعتمدون عليه غير طرق أهل الحديث وبينا كذبهم تارة بالعقل وتارة بما علم بالقران وتارة بما علم بالتواتر وتارة بما أجمع الناس كلهم عليه)(1).
(فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديقًا بالكذب وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك)(2).
(وقد قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (3) الآية فقد ذم الله سبحانه وتعالى الكاذب على الله والمكذب بالصدق وهذا ذم عام.
والرافضة أعظم أهل البدع دخولا في هذا الوصف المذموم فإنهم أعظم الطوائف افتراء للكذب على الله وأعظمهم تكذيبا بالصدق لما جاءهم وأبعد الطوائف عن المجيء بالصدق والتصديق به)(4).
د- البهت: (ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)(5).
(وإنما يعظم القول... أهل الجهل والهوى الذين لهم غرض في فتح باب الشر على الصحابة بالكذب والبهتان)(6).
(وهم يسمون مذهب أهل السنة والجماعة مذهب الجمهور يريدون بذلك انتقاصهم)(7).
ثم وضح شدة ما انطوت عليه أنفسهم من الكذب والبهت، فقال: (ثم صار هؤلاء يعدون ما افتروه عليه [يعني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -] من هذه الأمور مدحا له يفضلونه بها على الخلفاء قبله ويجعلون تنزه أولئك من مثل الإباطيل عيبا فيهم وبغضا)(8)، وهذا من البهتان لخيار أولياء الله المتقين.
__________
(1) المنهاج 7/418، 419.
(2) المنهاج 8/371، وانظر 4/356.
(3) الزمر /32، 33.
(4) المنهاج 7/190، وانظر 4م39، 6/ 302، 8/319.
(5) المنهاج 8/371.
(6) المنهاج 6/347.
(7) انظر المنهاج 2/521، 7/31، 33 وغيرها.
(8) المنهاج 8/13.(1/67)
هـ - التعصب: (لا نعلم طائفة أعظم تعصبا في الباطل من الرافضة حتى أنهم دون سائر الطوائف عرف منهم شهادة الزور لموافقهم على مخالفهم وليس في التعصب أعظم من الكذب)(1).
ثم وضح شدة تعصبهم وأنه ليس للدين بل للنسب والآباء. فقال: (ولكن كلام الرافضة من جنس كلام المشركين في الجاهلية يتعصبون للنسب والآباء لا للدين ويعيبون الإنسان بما لا ينقص إيمانه وتقواه وكل هذا من فعل الجاهلية ولهذا كانت الجاهلية ظاهرة عليهم فهم يشبهون الكفار من وجوه خالفوا بها أهل الإيمان والإسلام)(2).
و- ضعف أقوالهم، وأن أهل السنة أولى منهم بكل خير: (والرافضة أقل معرفة وعناية بهذا إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد ولا في سائر الأدلة الشرعية والعقلية هل توافق ذلك أو تخالفه؟ ولهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط بل كل إسناد متصل لهم فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط.
وهم في ذلك شبيه باليهود والنصارى فإنه ليس لهم إسناد والإسناد من خصائص هذه الأمة وهو من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة والرافضة من أقل الناس عناية إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم وعلامة كذبه أنه يخالف هواهم ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: [أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم](3).
ثم إن أولهم كانوا كثيري الكذب فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع والاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد).
(ففي الجملة لا يدعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به وما ادعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه)(4).
__________
(1) المنهاج 4/137، 138.
(2) المنهاج 8/545.
(3) لم أجده.
(4) المنهاج 7/37، وانظر 6/368، 369.(1/68)
(والحق أن أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ، ولم تنفرد الشيعة عنهم قط بصواب بل كل ما خالفت فيه الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون، كما أن ما خالفت فيه اليهود والنصارى لجميع المسلمين فهم فيه ضالون، وإن كان كثير من المسلمين قد يخطئ)(1).
وقد وضح أن أهل السنة (لا يتفقون على ضلالة وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنة والجماعة والرافضة فالصواب فيها مع أهل السنة وحيث تصيب الرافضة فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنة وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنة وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد انفردوا بها عن جميع أهل السنة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الاثني عشر وعصمتهم)(2).
(فما من طائفة من طوائف أهل السنة على تنوعهم إلا إذا اعتبرتها وجدتها أعلم وأعدل وأبعد عن الجهل والظلم من طائفة الرافضة فلا يوجد في أحد منهم معاونة ظالم إلا وهو في الرافضة أكثر ولا يوجد في الشيعة بعد ما عن ظلم ظالم إلا وهو في هؤلاء أكثر.
وهذا أمر يشهد به العيان والسماع لمن له اعتبار ونظر ولا يوجد في جميع الطوائف لا أكذب منهم ولا أظلم منهم ولا أجهل منهم وشيوخهم يقرون بألسنتهم يقولون يا أهل السنة أنتم فيكم فتوة لو قدرنا عليكم لما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا)(3).
__________
(1) المنهاج 3/497.
(2) المنهاج 3/342.
(3) المنهاج 4/121.(1/69)
(فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبازائها للسني حجة من جنسها أولى منها فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } (1)، لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه قال تعالى: { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } (2))(3).
(وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق -المعلوم يقينا بطرق كثيرة علما لا يقبل النقيض- بشبه في غاية الضعف هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم زيغ الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء)(4).
(والمقصود هنا التنبيه على أن أقوال أهل السنة خير من أقوال الشيعة وأنه إن كان قول بعض أهل السنة ضعيفا فقول الشيعة أضعف منه)(5).
(فلا يوجد لأهل السنة قول ضعيف إلا وفي الشيعة من يقوله ويقول ما هو أضعف منه ولا يوجد للشيعة قول قوي إلا وفي أهل السنة من يقوله، ويقول: ما هو أقوى منه ولا يتصور أن يوجد للشيعة قول قوي لم يقله أحد من أهل السنة فثبت أن أهل السنة أولى بكل خير منهم كما أن المسلمين أولى بكل خير من اليهود والنصارى)(6).
(فقول أهل السنة خبر صادق وقول حكيم وقول الرافضة خبر كاذب وقول سفيه)(7).
__________
(1) الفرقان/ 33.
(2) المؤمنون / 71.
(3) المنهاج 7/456، 457.
(4) المنهاج 7/464.
(5) 1/446، وانظر 4/115.
(6) المنهاج 1/445- 446، وانظر 3/435، 4/18، 19، 5/157، 158.
(7) المنهاج 1/556.(1/70)
ز- ليس لهم قول انفردوا به إلا وهو في غاية الفساد: الرافضة من أبعد الطوائف عن السنة والآثار ولذلك فكل قول انفردوا به عن سائر طوائف الأمة فهو في غاية الفساد. قال شيخ الإسلام: (والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد لا ينفردون قط بقول صحيح وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر وليس في الطوائف المنتسبين إلى السنة أبعد عن آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرافضة.
فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالا في غاية الفساد مثل تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب مضاهاة لليهود وقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعجيل المغرب(1)، ومثل صومهم قبل الناس بيومين وفطرهم قبل الناس بيومين مضاهاة لمبتدعة أهل الكتاب الذين عدلوا عن الصوم بالهلال إلى الاجتماع وجعلوا الصوم بالحساب)(2)
(ومفاريد الرافضة التي تدل على غاية الجهل والضلال كثيرة لم نقصد ذكرها هنا لكن المقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينفردون عن سائر الطوائف بحق والرافضة أبلغ في ذلك من غيرهم)(3).
(وما انفردوا به فلا يساوى مداده فإن المداد ينفع ولا يضر وهذا يضر ولا ينفع)(4).
__________
(1) انظر صحيح البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب وقت المغرب 1/140، وصحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب بيان أول وقت المغرب عند غروب الشمس 1/441.
(2) المنهاج 5/172، 173.
(3) المنهاج 5/177.
(4) المنهاج 6/381.(1/71)
ح- التناقض في الاستدلال: (وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين لفرط جهلهم وظلمهم يجعلون عليا أكمل الناس قدرة وشجاعة حتى يجعلوه هو الذي أقام دين الرسول وأن الرسول كان محتاجا إليه ويقولون مثل هذا الكفر إذ يجعلونه شريكا لله في إقامة دين محمد ثم يصفونه بغاية العجز والضعف والجزع والتقية بعد ظهور الإسلام وقوته ودخول الناس فيه أفواجا ومن المعلوم قطعا أن الناس بعد دخولهم في دين الإسلام أتبع للحق منهم قبل دخولهم فيه فمن كان مشاركا لله في إقامة دين محمد حتى قهر الكفار وأسلم الناس كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه هم أقل من الكفار الموجودين عند بعثة الرسول وأقل منهم شوكة وأقرب إلى الحق منهم؟!)(1).
(والرافضة وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فساد قولهم وتناقضهم فإنه إن احتج بنظيرها عليهم فسد قولهم المنقوض بنظيرها وإن لم يحتج بنظيرها بطلت هي في نفسها لأنه لا بد من التسوية بين المتماثلين ولكن منتهاهم مجرد الهوى الذي لا علم معه { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (2))(3).
(والرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضا كثيرا بينا إذ هم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك)(4).
(ثم الرافضة يتناقضون فإنهم يصفون عليا بأنه كان هو الناصر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لولا هو لما قام دينه ثم يصفونه بالعجز والذل المنافي لذلك)(5).
__________
(1) المنهاج 7/207، وانظر 8/335.
(2) القصص/ 50.
(3) المنهاج 4/358، وانظر 6/476.
(4) المنهاج 4/285.
(5) المنهاج 4/485.(1/72)
قد بين شيخ الإسلام تناقضهم فيما نسبوه إلى جعفر الصادق(1) من أنه اشتغل بالعبادة عن الرياسة فقال: (وأما قوله اشتغل بالعبادة عن الرياسة. فهذا تناقض من الإمامية لأن الإمامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها وبأعبائها فإنه لا إمام في وقته إلا هو فالقيام بهذا الأمر العظيم لو كان واجبا لكان أولى من الاشتعال بنوافل العبادات)(2).
ط- ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح: (فإن الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح ولا يقيمون حقا ولا يهدمون باطلا لا بحجة وبيان ولا بيد وسنان)(3).
(ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون كانت ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون هي فساد وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون هي خير وصلاح فليس لهم لا عقل ولا نقل بل لهم نصيب من قوله { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (00(4))(5).
(وهذه الأمور من تدبرها تبين له أن الإمامية لا يرجعون في شيء مما ينفردون به عن الجمهور إلى الحجة أصلا لا عقلية ولا سمعية ولا نص ولا إجماع وإنما عمدتهم دعوى نقل مكذوب يعلم أنه كذب أو دعوى نص أو قياس يعلم أنه لا دلالة له.
وهم وسائر أهل البدع كالخوارج والمعتزلة وإن كانوا عند التحقيق لا يرجعون إلى حجة صحيحة لا عقلية ولا سمعية وإنما لهم شبهات لكن حججهم أقوى من حجج الرافضة السمعية والعقلية أما السمعيات فإنهم لا يتعمدون الكذب كما تتعمده الرافضة ولهم في النصوص الصحيحة شبهة أقوى من شبه الرافضة.
__________
(1) ستأتي ترجمته.
(2) المنهاج 4/53.
(3) المنهاج 4/69.
(4) الملك/ 10.
(5) المنهاج 6/121.(1/73)
وأيضا فإن سائر أهل البدع أعلم بالحديث والآثار منهم والرافضة أجهل الطوائف بالأحاديث والآثار وأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا يوجد في كتبهم وكلامهم من الجهل والكذب في المنقولات ما لا يوجد في سائر الطوائف وكذلك لهم في العقليات مقاييس هي -مع ضعفها وفسادها- أجود من مقاييس الرافضة)(1). (ولهذا يقال فيهم ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة)(2).
(وأما الرافضة فلا يميزون بين ما يصح نقله عن أئمتهم وما لا يصح ولا يعرفون أدلتهم ومآخذهم بل هم من أهل التقليد بما يقلدون فيه وهم يعيبون هؤلاء الجمهور بالاختلاف وفيما ينقلونه عمن يقلدونه من الاختلاف ما لا يكاد يحصى... فبكل حال الشر فيهم أكثر من غيرهم والغلو فيهم أعظم وشر غيرهم جزء من شرهم)(3).
(وهم لا يعتمدون في أدلتهم إلا على أحد ثلاثة أشياء: إما نقل كاذب وأما دلالة مجملة مشبهة, وأما قياس فاسد... والحجج الباطلة السمعية إما نقل كاذب وإما نقل صحيح لا يدل وإما قياس فاسد وليس للرافضة وغيرهم من أهل الباطل حجة سمعية إلا من هذا الجنس)(4).
ي- دخول الملاحدة من بابهم لإفساد الإسلام: وقد بين أن الملاحدة يظهرون في دعواتهم التشيع لآل البيت وأن هذا الأمر يدل على أن ... التشيع من بابه يدخل (الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى فدل ذلك على أن التشيع دهليز(5) الكفر والنفاق)(6).
__________
(1) المنهاج 8/343، 344.
(2) المنهاج 7/172.
(3) المنهاج 2/475- 477، وانظر 2/479.
(4) المنهاج 7/319.
(5) الدّهليز -بالكسر- ما بين الباب والدار، فارسي معرب، لسان العرب 5/349، ترتيب القاموس المحيط 2/324، مختار الصحاح /213.
(6) المنهاج 8/486، وانظر 5/160، 161، 7/409.(1/74)
ولهذا فإن صاحب دعوى الباطنية الملاحدة قد رتب دعوته مراتب فأول ما يدعو إليه المستجيب له، يدعوه إلى التشيع ثم بعد ذلك يتنقل في بقية المراتب(1).
(والعلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا مقصوده إفساد دين الإسلام ولهذا صار الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطلة كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم.
وأول الفكرة آخر العمل فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد دين الإسلام ونقض عراه وقلعه بعروشه آخرا لكن صار يظهر منه ما يكنه من ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وهذا معروف عن ابن سبأ(2) وأتباعه وهو الذي ابتدع النص في علي وابتدع أنه معصوم فالرافضة الإمامية هم أتباع المرتدين وغلمان الملحدين وورثة المنافقين إن لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين)(3).
(ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام وصارت شبها عند من لم يعلم أنها كذب وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام.
وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث... ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز على الكفر والإلحاد)(4).
__________
(1) انظر المنهاج 7/410.
(2) هو عبد الله بن سبأ اليمني من غلاة الزنادقة، ضال مضل، وقد نفاه علي بعد ما هم به، ليس له رواية ولله الحمد، أتباعه يسمون السبأية يعتقدون إلهية علي، مات في حدود 40هـ، ميزان الاعتدال 2/289، 290، الأعلام 4/88.
(3) المنهاج 7/219، 220.
(4) المنهاج 7/9، 10، وانظر 1/552.(1/75)
(ولا ريب أن المجوس(1) والصابئة(2) شر من اليهود والنصارى ولكن تظاهروا بالتشيع قالوا لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا لما فيهم من الخروج عن الشريعة ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات)(3).
(وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء [يعني الملاحدة] على المسلمين وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الإسلام وبهذا وصوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع وصاروا يستعينون بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء حتى فعلوا في أهل الإيمان ما لم يفعله عبدة الأوثان والصلبان وكان حقيقة أمرهم دين فرعون الذي هو شر من دين اليهود والنصارى وعباد الأصنام وأول دعوتهم التشيع وآخرها الانسلاخ من الإسلام بل من الملل كلها)(4).
ك- تعاونهم مع الكفار وسائر أعداء الإسلام وموالاتهم على حرب الإسلام وأهله: وقد بين حقدهم على الإسلام ومعاونتهم للكفار وأنهم شر الطوائف وسبب ذلك هو اتباع الهوى وهذا حال أهل البدع فقال: (وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ففيهم جهل وظلم لا سيما الرافضة فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلا وظلما يعادون خيار أولياء الله تعالى من بعد النبيين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين)(5).
__________
(1) المجوس قوم يعبدون النار ولهم شبهة كتاب وقد أثبتوا إلهين النور والظلمة ويستحلون نكاح المحارم، ويتطهرون بأبوال البقر تدينا. البرهان في عقائد أهل الأديان / 90، 91، الملل والنحل 1/130- 144.
(2) سبق.
(3) المنهاج 3/453.
(4) المنهاج 8/14، وانظر 6/464.
(5) المنهاج 1/20، وانظر 5/157.(1/76)
ثم قال: (فتجدهم أو كثيرا منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء... تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن).
(كما قد جربه الناس منهم غير مرة في مثل إعانتهم للمشركين من الترك وغيرهم على أهل الإسلام بخراسان والعراق والجزيرة والشام وغير ذلك وإعانتهم للنصارى على المسلمين بالشام ومصر وغير ذلك في وقائع متعددة من أعظمها الحوادث التي كانت في الإسلام في المائة الرابعة والسابعة(1).
فإنه لما قدم كفار الترك إلى بلاد الإسلام وقتل من المسلمين ما لا يحصى عدده إلا رب الأنام كانوا من أعظم الناس عداوة للمسلمين ومعاونة للكافرين وهكذا معاونتهم لليهود أمر شهير حتى جعلهم الناس لهم كالحمير)(2).
__________
(1) الذي حصل منهم في المائة الرابعة أمور عظائم من أشهرها قتلهم للحجاج تحت الكعبة وأخذهم الحجر الأسود، وقد مكث عندهم ثنتين وعشرين سنة من عام 317هـ حتى 339 هـ، وكذلك في المائة السابعة حصل منهم محن عظيمة من أشدها وأشهرها ما حدث في بغداد سنة 656هـ من إعانتهم للمغول على المسلمين وخيانة ابن العلقمي وقتل الخليفة العباسي وقتل العلماء وإغراق الكتب في النهر حتى تغير لونه.... إلخ.
(2) المنهاج 1/20، 21.(1/77)
( ... وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين ولهذا لما خرج الترك(1) والكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة(2)، وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ووزير بغداد المعروف بالعلقمي(3) هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم وكذلك إذا صار اليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم)(4).
__________
(1) يعني بهم التتار.
(2) وهي جزيرة أقور بين دجلة والفرات، فيها مدن كثيرة منها حران والرها والرقة وغيرها، معجم البلدان 2/134- 136، مراصد الاطلاع 1/331.
(3) ابن العلقمي: هو محمد بن أحمد بن محمد بن علي، أبو طالب الأسدي البغدادي، الرافضي وزير المستعصم العباسي، وصاحب الجريمة النكراء، في ممالأة هولاكو خان على غزو بغداد، هلك سن 656هـ، قال ابن كثير: وكان رافضيًّا خبيثًا رديءَ الطوية على الإسلام وأهله، البداية والنهاية 13/212، الشذرات 5/272.
(4) المنهاج 3/377- 378، انظر 1/10، 11، 5/154- 156.(1/78)
(ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب(1) ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي(2)، ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض ما يفعله من محاربتهم وإثارات أبي لؤلؤة!)(3).
(وأما الرافضة فإما أن تعاون أعداء الإسلام وإما أن تمسك عن نصر الطائفتين ولا ريب أن الله تعالى يحكم يوم القيامة بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وبين من عاداهم من الأولين والآخرين كما يحكم بين المسلمين والكفار)(4).
(ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود والنصارى والمشركين مشركي الترك ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين وسادات المتقين وهم الذين أقاموه وبلغوه ونصروه.
ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام.
وأما قصة الوزير ابن العلقمي وغيره كالنصير الطوسي مع الكفار وممالأتهم على المسلمين فقد عرفها الخاصة والعامة)(5).
__________
(1) مسيلمة الكذاب بن ثمامة الحنفي أبو ثمامة، ولد ونشأ في اليمامة بوداي حنيفة في نجد وادعى النبوة، أرسل إليه أبو بكر جيشًا كبيرا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بقيادة خالد بن الوليد، وقتل مسيلمة فيها سنة 12هـ الكامل في التاريخ 2/360- 367، الأعلام 7/226.
(2) اسمه فيروز مجوسي الأصل رومي الدار غلام المغيرة بن شعبة، وقال ابن جرير نصراني، البداية والنهاية 7/137، تاريخ الطبري 4/190.
(3) المنهاج 6/370، 371، وانظر 3/458، 459.
(4) المنهاج 4/118.
(5) المنهاج 7/414.(1/79)
(فهذه الأمور وأمثالها مما هي ظاهرة مشهورة يعرفها الخاصة والعامة توجب ظهور مباينتهم للمسلمين ومفارقتهم للدين ودخولهم في زمرة الكفار والمنافقين حتى يعدهم من رأى أحوالهم جنسا آخر غير جنس المسلمين فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق والغرب قديما وحديثا هم الجمهور والرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام ونقض عراه وإفساد قواعده والقدر الذي عندهم من الإسلام إنما قام بسبب قيام الجمهور به)(1).
ل- أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى: (أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى؛ فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد لله ورسوله ولا يغلون فيه غلو النصارى ولا يجفون جفاء اليهود والنصارى تدعي فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل، كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي؛ كمحمد بن أبي بكر(2) والأشتر النخعي(3) على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار)(4).
(وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته، وأنه من أهل الجنة -فضلا عن إمامته- إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة)(5).
__________
(1) المنهاج 7/415.
(2) محمد بن أبي بكر الصديق ولد في حجة الوداع، في السنة العاشرة من الهجرة المنهاج وقد انضم إلى علي فكان من أمرائه فسيره على إمرة مصر، ت سنة 38هـ، 3/481- 482، الشذرات 1/48، الجرح والتعديل 7/351، التاريخ الكبير 1/124.
(3) مالك بن الحارث النخعي الملقب بالأشتر، مخضرم، نزيل الكوفة، ولاه علي مصر، ومات قبل أن يدخلها، ت سنة 37 هـ، السير 4/ 34، 35، التقريب /516، التاريخ الكبير 11/311.
(4) المنهاج 2/55، وانظر 7/109، 110.
(5) المنهاج 2/58.(1/80)
(ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم كما أن النصارى من أجهل الناس، والرافضة من أخبث الناس، كما أن اليهود من أخبث الناس ففيهم نوع من ضلال النصارى ونوع من خبث اليهود)(1).
(ولا يمكن الرافضة أن ترد على هؤلاء بحجة صحيحة مع اعتقادهم مذهب الإمامية فإن حجج الإمامية متناقضة يحتجون بالحجج التي ينقضونها في موضع آخر ويحتجون بالحجة العقلية أو السمعية مع دفعهم لما هو أعظم منها بخلاف أهل السنة فإن حججهم صحيحة مطردة كالمسلمين مع النصارى وغيرهم من أهل الكتاب)(2).
م- افتراؤهم على الصحابة رضي الله عنهم وتكفيرهم: ومما يبين ذلك ويوضحه أنهم يكفرون أكثر الصحابة ويعتبرونهم مرتدين ويفترون عليهم الأكاذيب. قال شيخ الإسلام: (ثم أن الرافضة أو أكثرهم لفرط جهلهم وضلالهم يقولون: إنهم [يعنون الصحابة] ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين وأن اليهود والنصارى كانوا خيرا منهم لأن الكافر الأصلي خير من المرتد وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين)(3).
(وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به والصحابة أبعد الناس عنه فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب إذ قال: «أنا نبي صادق ومحمد كذاب» ولهذا يصفون أنفسهم بالإيمان ويصفون الصحابة بالنفاق وهم أعظم الطوائف نفاقا والصحابة أعظم الخلق إيمانا)(4).
__________
(1) المنهاج 2/65، وانظر 7/208.
(2) المنهاج 4/400، وانظر 3/408، 409.
(3) المنهاج 7/475، 3/463.
(4) المنهاج 2/87.(1/81)
(ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام وهذا حال المعلم الأول للرافضة أول من ابتدع الرفض وحال أئمة الباطنية وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى وهو الغالب على عامة الشيعة إذا كانوا مسلمين في الباطن)(1).
(وهم يدعون أن أبا بكر وعمر ومن اتبعهما ارتدوا عن الإسلام وقد علم الخاص والعام أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدين فإذا كانوا يدعون أن أهل اليمامة مظلومون قتلوا بغير حق وكانوا منكرين لقتال أولئك متأولين لهم كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لأولئك السلف وأن الصديق وأتباعه يقاتلون المرتدين في كل زمان)(2).
(الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين أتباع المرتدين الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه ومرقوا من الإسلام ونبذوه وراء ظهورهم وشاقوا الله ورسوله وعباده المؤمنين وتولوا أهل الردة والشقاق فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصديق - رضي الله عنه - وحزبه من أصولهم من جنس المرتدين الكفار كالمرتدين الذين قاتلهم الصديق - رضي الله عنه -)(3).
(وما تجد أحدا يقدح فيهم [يعني في الصحابة] إلا وهو يعظم من هو دونهم ولا تجد أحدا يعظم شيئًا من زلاتهم إلا وهو يغضي عما هو أكبر من ذلك من زلات غيرهم وهذا من أعظم الجهل والظلم.
__________
(1) المنهاج 6/115، وانظر 5/160، 161.
(2) المنهاج 4/493، 494.
(3) المنهاج 4/490.(1/82)
وهؤلاء الرافضة يقدحون فيهم بالصغائر وهم يغضون عن الكفر والكبائر فيمن يعاونهم من الكفار والمنافقين كاليهود والنصارى والمشركين والإسماعيلية والنصيرية وغيرهم فمن ناقش المؤمنين على الذنوب وهو لا يناقش الكفار والمنافقين على كفرهم ونفاقهم بل ربما يمدحهم ويعظمهم دل على أنه من أعظم الناس جهلا وظلما إن لم ينته به جهله وظلمه إلى الكفر والنفاق)(1).
ن- ادعاؤهم محبة آل البيت مع بغضهم لهم ومحاربتهم وقتلهم: (ومن العجب من هؤلاء الرافضة أنهم يدعون تعظيم آل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وهم سعوا في مجيء التتار الكفار إلى بغداد دار الخلافة حتى قتلت الكفار من المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمائة ألف ونيفا وسبعين ألفا وقتلوا الخليفة العباسي وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين فهذا هو البغض لآل محمد - صلى الله عليه وسلم - بلا ريب وكان ذلك من فعل الكفار بمعاونة الرافضة)(2).
(فقاتل الله الرافضة وانتصف لأهل البيت منهم فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين مالا يخفى على ذي عين)(3).
(وقد قلنا غير مرة إن هؤلاء الجهال يكذبون ما يظنونه مدحا ويمدحون به فيجمعون بين الكذب وبين المدح فلا صدق ولا علم ولا عدل)(4).
(فتبين أن الرافضة من أعظم الناس قدحا وطعنا في أهل البيت وأنهم هم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر ونسبوهم إلى أعظم المنكرات التي من فعلها كان من الكفار وليس هذا ببدع من جهل الرافضة وحماقاتهم)(5).
(فإن منتهى أمرهم تكفير علي وأهل بيته بعد أن كفروا الصحابة والجمهور)(6).
الباب الأول
عقيدة الرافضة
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: عقيدتهم في الله.
الفصل الثاني: عقيدتهم في القرآن.
__________
(1) المنهاج 4/373، 374.
(2) انظر المنهاج 4/592، 593.
(3) المنهاج 4/246.
(4) المنهاج 8/74، وانظر 7/181.
(5) المنهاج 7/408.
(6) المنهاج 7/409.(1/83)
الفصل الثالث: عقيدتهم في النبوة.
الفصل الأول
عقيدتهم في الله
المبحث الأول موقفهم من الصفات:
الرافضة ينقسمون إلى قسمين في الصفات فالقسم الأول: متقدموهم وهؤلاء مجسمة - وسيأتي الكلام عليهم في المبحث الآتي.
والقسم الثاني: متأخروهم وهؤلاء أخذوا في الصفات مأخذ المعتزلة والجهمية قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ولكن في أواخر المائة الثالثة دخل من دخل من الشيعة في أقوال المعتزلة كابن النوبختي(1)... وأمثاله وجاء بعد هؤلاء المفيد بن النعمان(2) وأتباعه ولهذا تجد المصنفين في المقالات كالأشعري لا يذكرون عن أحد من الشيعة أنه وافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم إلا عن بعض متأخريهم وإنما يذكرون عن بعض قدمائهم التجسيم وإثبات القدر وغيره)(3).
فقد وافقوا المعتزلة في بعض أصولهم قال شيخ الإسلام في بيان أصولهم: (أصول الدين عند الإمامية أربعة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة... وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات والقول بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يُرى في الآخرة)(4).
__________
(1) هو أبو محمد الحسن بن موسى بن محمد النوبختي أو ابن النوبختي ت سنة 300هـ، لسان الميزان 2/258، الأعلام 2/239.
(2) أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي الكوفي الملقب بالشيخ المفيد، إمام الرافضة ولسان الإمامية، صاحب التصانيف الكثيرة ت سنة 413 هـ. شذرات الذهب 3/199- 200، العبر 2/225، البداية والنهاية 12/15.
(3) المنهاج 1/72.
(4) المنهاج 1/99.(1/84)
وقد بين شيخ الإسلام التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأنزلت من شأنه الكتب، فقال: (الذي جاء به الكتاب والسنة هو توحيد الإلهية فلا إله إلا هو فهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } (1)، وقال تعالى: { وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } (2)... إلخ)(3).
وسأذكر مناقشة شيخ الإسلام لابن المطهر الرافضي في أن الله واحد وأن كل ما سواه محدث، قال شيخ الإسلام: (وأما قوله: (لأنه واحد.....) فإن أراد بالواحد ما أراده الله ورسوله بمثل قوله: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } (4) وقوله: { وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (5)، ونحو ذلك فهذا حق وإن أراد بالواحد ما تريده الجهمية نفاة الصفات من أنه ذات مجردة عن الصفات فهذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وإنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان ويمتنع وجود ذات مجردة عن الصفات ويمتنع وجود حي عليم قدير لا حياة له ولا علم ولا قدرة فإثبات الأسماء دون الصفات سفسطة(6) في العقليات وقرمطة(7) في السمعيات)(8).
__________
(1) سورة البقرة / 163.
(2) سورة النحل / 51.
(3) المنهاج 2/121.
(4) البقرة / 163.
(5) الرعد: 12.
(6) السفسطة هي نفي الحقائق الثابتة مع العلم بها تمويها ومغالطة، نسبة إلى السوفسطائية الذين ينكرون المحسوسات. انظر البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان صـ 42، التعريفات للجرجاني 18- 119، والسفسطة ثلاثة أنواع انظر المنهاج 2/525.
(7) هي الأخذ بأطراف النصوص وسلوك مسلك القرامطة في تفسيرهم للنصوص بمعنى يخالف مقتضى اللفظ، ووجه قرمطتهم أنهم جعلوا للنص معنى باطنا يخالف معناه الظاهر المعروف من جهة اللغة والشرع، انظر التحفة الهدية شرح التدميرية/ 56.
(8) المنهاج 3/133- 134.(1/85)
وقال: (وأما قوله: (إن كل ما سواه محدث) فهذا حق والضمير في ما سواه عائد إلى الله وهو إذا ذكر باسم مظهر أو مضمر دخل في مسمى اسمه صفاته فهي لا تخرج عن مسمى أسمائه)(1).
وقد بين شيخ الإسلام أن هذا اعتقاد جميع المسلمين فقال: (جميع المسلمين يعتقدون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وهو المختص بالقدم والأزلية)(2).
وكما بين شيخ الإسلام أن الله بعث الرسل بالإثبات المفصل لصفات الكمال والنفي المجمل لصفات النقص فقال: (الله سبحانه بعث الرسل بما يقتضى الكمال من إثبات أسمائه وصفاته على وجه التفصيل والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها منزه عن النقص بكل وجه ممتنع، وأن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقا وأما صفات الكمال فلا يماثله بل ولا يقاربه فيها شيء من الأشياء)(3).
وبين أن المبدع للكمال أحق به، فقال: (وأيضا فالممكنات فيها كمالات موجودة وهي من الواجب بنفسه والمبدع للكمال المعطي له الخالق له، أحق بالكمال، إذ الكمال إما وجود وإما كمال وجود ومن أبدع الموجود كان أحق بأن يكون موجودا إذ المعدوم لا يكون مؤثرا في الموجود وهذا كله معلوم)(4).
وقد بين الأصل الذي يجب على المسلمين اتباعه في الألفاظ التي يوصف الله بها، فقال: (الأصل الذي يجب على المسلمين أن ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب الإيمان به فيصدق خبره ويطاع أمره وما لم يثبت عن الرسول فلا يجب الحكم فيه بنفي ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم ويعلم صحة نفيه أو إثباته وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال)(5).
__________
(1) المنهاج 2/132- 133.
(2) المنهاج 2/121.
(3) المنهاج 2/156- 157، 183.
(4) المنهاج 2/182، 183.
(5) المنهاج 2/216، 217.(1/86)
وقد ذكر أن التنزيه نوعان، فقال: (والتنزيه يجمعه نوعان: نفي النقص، ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال كما دل على ذلك سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وغيرها من القرآن مع دلالة العقل على ذلك وإرشاد القرآن إلى ما يدل على ذلك من العقل)(1).
وقد ذكر الأصل الذي يفرق بين أهل السنة ومن خالفهم، فقال: (والأصل الذي باين به أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وسائر أئمة المسلمين للجهمية والمعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات أن الرب تعالى إنما يوصف بما يقوم به، لا يوصف بمخلوقاته وهو أصل مطرد عند السلف والجمهور)(2).
ثم بين طريقة السلف في الصفات، وأن قولهم مبني على أصلين فقال: (وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فهذا رد على الممثلة { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (3) رد على المعطلة.
فقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات)(4).
* * *
المبحث الثاني
التجسيم
__________
(1) المنهاج 2/157.
(2) المنهاج 2/390.
(3) الشورى / 11.
(4) المنهاج 2/523، 4/ 589، 590.(1/87)
الرافضة تنقسم في هذه المسألة أيضا إلى قسمين: فالأول: متقدموهم وهؤلاء يقولون بأن الله جسم ويغلون في التجسيم والتمثيل قال شيخ الإسلام: (وكان متكلمو الشيعة كهشام بن الحكم(1) وهشام الجواليقي(2) ويونس بن عبد الرحمن القمي(3)، وأمثالهم يزيدون في إثبات الصفات على مذهب أهل السنة فلا يقنعون بما يقوله أهل السنة والجماعة من أن القرآن غير مخلوق وأن الله يرى في الآخرة وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث حتى يبتدعون في الغلو في الإثبات والتجسيم والتبعيض والتمثيل ما هو معروف من مقالاتهم التي ذكرها الناس)(4).
وأول ما عرف التجسيم فيهم. قال شيخ الإسلام: (وأول من عرف عنه في الإسلام أنه قال إن الله جسم هو هشام بن الحكم بل قال الجاحظ(5) في كتابه: "الحجج في النبوة"(6) ليس على ظهرها رافضي إلا وهو يزعم أن ربه مثله)(7).
__________
(1) هشام بن الحكم الشيباني بالولاء متكلم مناظر، كان شيخ الإسلام الإمامية في وقته من المجسمة الغلاة في الكوفة ت سنة 190 هـ، الأعلام 8/85، لسان الميزان 6/194.
(2) هشام بن سالم الجواليقي الجعفي العلاف من الإمامية المشبهة مفرط في التجسيم والتشبيه، وتسمى فرقته بالهشامية أو الجواليقية، 1/109، الفرق بين الفرق 68، 69.
(3) يونس بن عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين من الإمامية المشبهة ت سنة 308هـ، وإليه تنسب فرقة اليونسية. المقالات 1/110، الفرق بين الفرق 70، التبصير في الدين/ 24.
(4) المنهاج 1/71، 72.
(5) هو عمر بن بحر بن محبوب أبو عثمان البصري المعتزلي كان رأسا في الكلام والاعتزال قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون ت سنة 250 هـ، تاريخ بغداد 12/ 212- 220، الشذرات 2/121، 122.
(6) نسب هذا الكتاب إليه في ترجمته في السير 11/ 526.
(7) المنهاج 1/72، 73.(1/88)
وقال: (وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم كذا نقل ابن حزم وغيره)(1).
وقد ذكر شيخ الإسلام مقالات الرافضة في التجسيم، وأنهم ست فرق(2)، ونقل ما قاله أبو الحسن الأشعري في المقالات ثم قال: (قلت: وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات حتى نفس الشيعة كابن النوبختى وغيره ذكر ذلك عن هؤلاء الشيعة)(3).
وكما أنهم فرق في التجسيم فهم أيضا فرق في التشبيه، وقد ذكر شيخ الإسلام ما نقله الناس عن الرافضة من التشبيه، والمهم هنا هي الإمامية فقال: (ونقل الناس عن الرافضة هذه المقالات وما هو أقبح منها فنقلوا ما ذكره الأشعري وغيره في كتب "المقالات" عن بيان بن سمعان التميمي(4) الذي تنتسب إليه البيانية من غالية الشيعة...ونقلوا عن المغيرية...)(5). وغير هؤلاء.
__________
(1) المنهاج 2/217، انظر 2/ 220، وفيها نقل كلام ابن حزم، 51، 528.
(2) انظر المنهاج 2/217- 220.
(3) المنهاج 2/220.
(4) هو بيان بن سمعان النهدي من بني تميم ظهر بالعراق بعد المائة، وقال بالإهية علي، وأن فيه جزءًا إلهيا، ثم من بعده ابنه محمد ابن الحنفية، ثم في أبي هاشم ولد ابن الحنفية، قتله خالد بن عبد الله القسري والي العراق سنة 119 هـ الكامل في التاريخ 5/207- 209، اللباب 1/195، 196، لسان الميزان 2/ 69، 70.
(5) المغيرية من غلاة الرافضة، أتباع المغيرة بن سعيد العجلي، كان يظهر في بدء أمره موالاة الإمامية ثم ادعى النبوة، واستحل المحارم، وغلا في علي بن أبي طالب، قتله خالد القسري، الفرق بين الفرق /238، الملل 1/176، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان /77.(1/89)
(ومن الغالية من يزعم أن روح القدس هو الله كانت في النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم في علي ثم في الحسن (*) ثم في الحسين(1) ثم في علي بن الحسين(2) ثم في محمد بن علي(3) ثم في جعفر بن محمد(4) ثم في موسى بن جعفر(5) ثم في علي بن موسى بن جعفر(6) ثم في محمد بن علي بن موسى(7) ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى(8)
__________
(1) الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني، سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته، حفظ عنه، استشهد يوم عاشوراء سنة 61هـ، وله ست وخمسون سنة. تقريب التهذيب /167، الخلاصة 1/228.
(2) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهامشي "زين العابدين"، ثقة ثبت عابد فقيه، فاضل مشهور، قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه، ت سنة 93 هـ، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة، الخلاصة 2/245، 246، تقريب التهذيب / 400.
(3) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر، ثقة كثير الحديث توفي سنة بضع عشرة ومائة، روى له الجماعة، تقريب التهذيب /497، الخلاصة 2/440.
(4) جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو عبد الله المعروف بالصادق، صدوق، فقيه إمام، ثقة، ت سنة 148 هـ، روى له مسلم وغيره، تقريب التهذيب /141، الخلاصة 1/168- 169.
(5) موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي المعروف بالكاظم، صدوق، عابد، ثقة، ت سنة 183 هـ، روى له الترمذي وغيره، تقريب التهذيب /550، الخلاصة 3/63، 64.
(6) علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي الهاشمي يلقب الرضا - بكسر الراء وفتح المعجمة - صدوق والخلل ممن روى عنه، مات مسمومًا سنة 203 هـ، روى له ابن ماجه، تقريب التهذيب /405، الخلاصة 2/357.
(7) محمد بن علي بن موسى الجواد تدعى الرافضة فيه العصمة ت في بغداد سنة 220هـ، وله 25 سنة، الشذرات 2/48.
(8) علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق العلوي الحسني بن جعفر الصادق المعروف بالهادي، كان فقيها، إمامًا متعبدًا، وهو أحد الأئمة الاثنى عشر الذين تعتقد غلاة الشيعة عصمتهم كالأنبياء. ت سنة 254 هـ، الشذرات 2/128.(1/90)
ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي(1) ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد(2).
قال [يعني أبا الحسن الأشعري]: وهؤلاء آلهة عندهم كل واحد منهم إله على التناسخ والإله عندهم يدخل في الهياكل وهؤلاء هم من الإمامية الاثنى عشرية)(3).
والقسم الثاني: متأخروهم وهم نفاة الصفات ويقولون: إن الله ليس بجسم، وقد تكلم شيخ الإسلام على قول الرافضي، ولأنه ليس بجسم فقال: (لفظ الجسم فيه إجمال قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والانفصال أو المركب من مادة وصورة أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة والله تعالى منزه عن ذلك كله عن أن يكون كان متفرقا فاجتمع أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه.
وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا)(4).
فهؤلاء الرافضة قدماؤهم مجسمة ومتأخروهم معطلة، فنفاة الجسم ومثبتوه موجودون في الرافضة:
__________
(1) الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني أحد الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة فيهم العصمة وهو والد المنتظر محمد، صاحب السرداب، ت سنة 260 هـ الشذرات 2/141.
(2) سيأتي الكلام عليه في الباب الثالث.
(3) المنهاج 2/502- 509.
(4) المنهاج 2/134- 135، انظر 2/211، 212 بمعناه، 2/192- 198، 224.(1/91)
قال شيخ الإسلام: (وكل من الطائفتين نفاة الجسم ومثبتيه موجودون في الشيعة وفي أهل السنة المقابلين للشيعة أعني الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة)(1).
وقد بين شيخ الإسلام بأن التشبيه فيهم والتجسيم أعظم من غيرهم فقال: (فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن قدماء الرافضة ثم الرافضة حرموا الصواب في هذا الباب كما حرموه في غيره فقدماؤهم يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا)(2).
ثم علق على قول الرافضي: "إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات" بقوله: (أهل السنة أحق بتنزيهه عن مشابهة المخلوقات من الشيعة فإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منه في طوائف الشيعة وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف ثم قدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب فقدماؤهم غلوا في التشبيه والتجسيم ومتأخروهم غلوا في النفى والتعطيل فشاركوا في ذلك الجهمية والمعتزلة دون سائر طوائف الأمة وأما أهل السنة المثبتون لخلافة الثلاثة فجميع أئمتهم وطوائفهم المشهورة متفقون على نفي التمثيل عن الله تعالى)(3).
ثم بين شيخ الإسلام مذهب أهل السنة في هذه المسألة فقال: (أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله)(4).
__________
(1) المنهاج 2/217، 210.
(2) المنهاج 2/242، 243، 2/513 بمعناه.
(3) المنهاج 2/102، 103.
(4) المنهاج 2/110.(1/92)
ثم قال: (ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون لله ما أثبته من الصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات يثبتون له صفات الكمال وينفون عنه ضروب الأمثال ينزهونه عن النقص والتعطيل وعن التشبيه والتمثيل إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رد على الممثلة { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (1) رد على المعطلة)(2).
ثم ضرب أمثلة لبيان أن الاشتراك في الاسم لا يقتضي الاشتراك في المسمى، رادًا بذلك على من يثبت بعض الصفات، وعلى من يثبت الأسماء فقط وعلى من ينفيهما(3)... إلخ، ثم قال بعد ذلك: (والمقصود أن إثبات الأسماء والصفات لله لا يستلزم أن يكون سبحانه مشبها مماثلا لخلقه)(4).
ثم بين سبب ضلال من ضل في هذا الباب فقال: (من هنا ضل هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض والتعطيل شر من التجسيم والمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما والممثل أعشى والمعطل أعمى.
ولهذا كان جهم(5) إمام هؤلاء وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء)(6).
* * *
المبحث الثالث
البداء
البداء في اللغة: من بدا يبدو بدوًا، إذا ظهر، قال في معجم مقاييس اللغة: الباب والدال والواو أصل واحد وهو ظهور الشيء، يقال: بدا الشيء يبدو إذا ظهر فهو باد....، وتقول: بدا لي في هذا الأمر بداء، أي تغير رأيي عما كان عليه(7).
وقال في اللسان: قال ابن الأثير: (والبداء استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم(8)، وذلك على الله غير جائز(9))(10).
__________
(1) الشورى /11.
(2) المنهاج 2/111.
(3) المنهاج 2/111- 120.
(4) المنهاج 2/120.
(5) سبق ذكره.
(6) المنهاج 2/ 526.
(7) معجم مقاييس اللغة 1/212.
(8) انظر تهذيب اللغة 14/202، مختار الصحاح صـ 44.
(9) النهاية في غريب الحديث 1/ 109 (مادة بدو).
(10) اللسان 14/ 66.(1/93)
وقد ذكر الأشعري في المقالات: أنهم ثلاث فرق في جواز البداء (*) على الله(1). قال شيخ الإسلام: (بل قال الجاحظ في كتابه: "الحجج في النبوة" ليس على ظهرها رافضي إلا وهو يزعم أن ربه مثله وأن البدوات تعرض له وأنه لا يعلم الشيء قبل كونه إلا بعلم يخلقه لنفسه)(2).
وقال: (وكل الروافض -إلا شرذمة قليلة- يزعمون أن الله يريد الشيء ثم يبدو له فيه)(3). وهذا نقله عن الأشعري في المقالات(4).
فهذا من جرأتهم على الله، ومع ذلك فهم ينزهون أئمتهم عما يصفون الله به قال شيخ الإسلام: (وأيضا فكثير من شيوخ الرافضة من يصف الله تعالى بالنقائص كما تقدم حكاية بعض ذلك- فزرارة بن أعين(5)، وأمثاله يقولون: يجوز البداء عليه وأنه يحكم بالشيء ثم يتبين له ما لم يكن علمه فينتقض حكمه لما ظهر له من خطئه فإذا قال مثل هؤلاء بأن الأنبياء والأئمة لا يجوز أن يخفى عليهم عاقبة فعلهم فقد نزهوا البشر عن الخطأ مع تجويزهم الخطأ على الله وكذلك هشام بن الحكم وزرارة بن أعين وأمثالهما ممن يقول إنه يعلم ما لم يكن عالما به.
ومعلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب)(6).
__________
(1) المقالات 1/113.
(2) المنهاج 1/73.
(3) المنهاج 2/236.
(4) المنهاج 1/ 111.
(5) زرارة بن أعين ين سنسن الشيباني بالولاء الكوفي الرافضي رأس الفرقة الزرارية، وإليه تنسب. ت سنة 150 هـ. لسان الميزان 2/ 473، 474، المقالات 1/110، 111، اللباب 2/63، الأعلام 3/43.
(6) المنهاج 2/394، 395، 589، 590.(1/94)
ودلالة هذا على جرأتهم على الكذب على الله لا تحتاج إلى إيضاح، وقد قال شيخ الإسلام: (وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع؛ ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم. ومنهم من ادعى إلهية البشر... [إلى أن قال:] واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم)(1).
حتى إنه بلغ بهم الغلو إلى أذية الله ورسوله، قال شيخ الإسلام: (كما يذكر عن بعض الرافضة أنه آذى الله ورسوله بسبب تقديم الله ورسوله لأبي بكر وعمر)(2).
* * *
المبحث الرابع
رؤية الله عز وجل
قال شيخ الإسلام في معرض رده على الرافضي: (وأما قوله: (وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } (3) ولأنه ليس في جهة).
فيقال له أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم... والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم.
قال الأشعري: وكل المجسمة إلا نفرًا قليلاً يقولون بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم(4).
__________
(1) المنهاج 2/34.
(2) المنهاج 5/137.
(3) الأنعام: 103.
(4) المقالات 1/290.(1/95)
قلت:(1) وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة... فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بحديثه وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين بأقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار.
ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها... والمقصود هنا نقل إجماع السلف على إثبات الرؤية بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي - صلى الله عليه وسلم -(2) خاصة)(3).
ثم بين شيخ الإسلام أن الآية حجة على النفاة لا لهم فقال: (وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } (4) فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة والأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال إنه أدركه كما لا يقال أحاط به.
كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك؟ فقال: [ألست ترى السماء، قال: بلى، قال: أكلها ترى، قال: لا](5)
__________
(1) أي شيخ الإسلام.
(2) كتاب السنة للإمام أحمد 67- 76، وهو مطبوع مع كتاب الرد على الجهمية، وكتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد 20 - 21، 44- 46.
(3) المنهاج 2/315- 317، انظر 2/317- 321، 3/341، 342.
(4) الأنعام /103.
(5) انظر تفسير ابن جرير 27/ 52 (مجلد 13) عند قوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }
النجم / 13، عن عكرمة. الدر المنثور 3/353، عند تفسير قوله تعالى { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } الأنعام /103، عن عكرمة، وقال: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس، تفسير ابن كثير 2/161، عن تفسير قوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } الأنعام /103 عن عكرمة.(1/96)
، ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة. لا يقال: إنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع(1) بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره.
وقد قال تعالى: { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } (2) فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحوقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضا ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح.
فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه … وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه إنه لا يرى فعلم أن نفى الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه.
__________
(1) هكذا في المنهاج.
(2) الشعراء /61، 62.(1/97)
وإذا كان المنفى هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفى إحاطة العلم والرؤية نفي العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى و يحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفي وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم.
وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(1).
ولا تحتاج الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف)(2).
ثم رد على قول الرافضي:
"ولأنه ليس في جهة" فمما قال في ذلك: (لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده)(3).
ثم وضح متى يكون صحيحًا مراد النافي للجهة وبين أن المعطلة لا يريدون المعنى الصحيح فقال:
__________
(1) انظر جامع البيان لابن جرير، تفسير سورة الأنعام عند قوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } آية / 103، فقد ذكر عدة آثار عن ابن عباس, عائشة وقتادة وعطية العوفي، وتكلم ابن جرير - نفسه - على الآية (7/299- 304) المجلد الخامس. انظر الدر المنثور عند الكلام على الآية (7/335، 336).
(2) المنهاج 2/317- 321.
(3) المنهاج 2/323، 348- 349.(1/98)
(ومن نفى الجهة وأراد بالنفي كون المخلوقات محيطة به أو كونه مفتقرا إليها فهذا حق لكن عامتهم لا يقتصرون على هذا بل ينفون أن يكون فوق العرش رب العالمين أو أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - عرج به إلى الله أو أن يصعد إليه شيء وينزل منه شيء أو أن يكون مباينا للعالم.
بل تارة يجعلونه لا مباينا ولا محايثا فيصفونه بصفة المعدوم والممتنع وتارة يجعلونه حالا في كل موجود أو يجعلونه وجود كل موجود ونحو ذلك مما يقوله أهل التعطيل وأهل الحلول(1))(2).
ثم رد على قول الرافضي "ولا في مكان" فمما قال في ذلك: (فقد يراد بالمكان ما يحوى الشيء ويحيط به وقد يراد به ما يستقر الشيء عليه بحيث يكون محتاجا إليه وقد يراد به ما كان الشيء فوقه وإن لم يكن محتاجا إليه وقد يراد به ما فوق العالم وإن لم يكن شيئا موجودا.
فإن قيل: هو في مكان بمعنى إحاطة غيره به وافتقاره إلى غيره فالله منزه عن الحاجة إلى الغير وإحاطة الغير به ونحو ذلك وإن أريد بالمكان ما فوق العالم وما هو الرب فوقه.
قيل: إذا لم يكن إلا خالق أو مخلوق والخالق بائن من المخلوق كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وإذا قال القائل هو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فهذا المعنى حق سواء سميت ذلك مكانا أو لم تسمه وإذا عرف المقصود فمذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وهو القول المطابق لصحيح المنقول وصريح المعقول)(3).
* * *
المبحث الخامس
القدر
__________
(1) هم من يزعمون أن الله تبارك وتعالى حال بالمخلوقات، وهم فرق شتى، وأول من أظهر هذا المذهب الروافض إذ زعموا أن الله تعالى حال في أئمتهم كما أن بعض المتصوفة يعتقد ذلك، الفرق بين الفرق / 254، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين /73.
(2) المنهاج 2/324.
(3) المنهاج 2/144، 145.(1/99)
الرافضة أخذوا أصولهم في الاعتقاد عن المعتزلة وكذلك في مسألة القدر فإن أصول دينهم التوحيد والعدل فالتوحيد يدخلون فيه نفي الصفات -كما سبق بيانه- وأما العدل فقد قال شيخ الإسلام: (ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء ولا يقدر أن يضل من يشاء وأنه قد يشاء مالا يكون ويكون مالا يشاء وغير ذلك فلا يقولون إنه خالق كل شيء ولا إنه على كل شيء قدير ولا إنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن)(1).
ولما ذكر ابن المطهر مذهب الإمامية لم يأت به على وجهه بل أتى بما يراه سائغا عند بعض الناس من العبارات الموهمة التي سيأتي كلام شيخ الإسلام على بعضها قال شيخ الإسلام: (من تمام قول الإمامية الذي حكاه [ابن المطهر]-وهو قول من وافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم من متأخري الشيعة- أن الله لم يخلق شيئا من أفعال الحيوان لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم بل هذه الحوادث التي تحدث تحدث بغير قدرته ولا خلقه!!
ومن قولهم أيضا: إن الله تعالى لا يقدر أن يهدي ضالا!! ولا يقدر أن يضل مهتديا!! ولا يحتاج أحد من الخلق إلى أن يهديه الله!! بل الله قد هداهم هدى البيان. وأما الاهتداء فهذا يهتدي بنفسه لا بمعونة الله له وهذا لا يهتدي بنفسه لا بمعونة الله له.
ومن قولهم: إن هدى الله للمؤمنين والكفار سواء ليس له على المؤمنين نعمة في الدين أعظم من نعمته على الكافرين بل قد هدى علي بن أبي طالب كما هدى أبا جهل(2) بمنزلة الأب الذي يعطي أحد بنيه دراهم ويعطى الآخر مثلها لكن هذا أنفقها في طاعة الله وهذا في معصيته فليس للأب من الإنعام على هذا في دينه أكثر مما له من الإنعام على الآخر.
__________
(1) المنهاج 1/99/ 100.
(2) هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام، قتل يوم بدر سنة 2 هـ، الأعلام 5/87.(1/100)
ومن أقوالهم: إنه يشاء الله مالا يكون ويكون ما لا يشاء!...، وفي الجملة فالقوم لا يثبتون لله مشيئة عامة ولا قدرة تامة!! ولا خلقًا متناولاً لكل حادث، وهذا القول أخذوه عن المعتزلة هم أئمتهم فيه)(1).
ثم ذكر مذهب أهل السنة في ذلك فقال: (أن سائر أهل السنة الذين يقرون بالقدر ليس فيهم من يقول إن الله تعالى ليس بعدل ولا من يقول إنه ليس بحكيم ولا فيهم من يقول إنه يجوز أن يترك واجبا ولا أن يفعل قبيحا فليس في المسلمين من يتكلم بمثل هذا الكلام الذي أطلقه ومن أطلقه كان كافرا مباح الدم باتفاق المسلمين)(2).
وقد بين قولهم في الهداية فقال: (فإنهم [يعني أهل السنة المثبتين للقدر] يقولون كل من خصه الله بهدايته إياه صار مهتديا ومن لم يخصه بذلك لم يصر مهتديا فالتخصيص والاهتداء متلازمان عند أهل السنة)(3).
ثم بين أن أكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل فقال: (وأما أهل السنة القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب ويرضى كما دل على ذلك الكتاب والسنة ويقولون إن المحبة والرضا أخص من الإرادة -وأما المعتزلة وأكثر أصحاب الأشعري فيقولون إن المحبة والرضا والإرادة سواء- فجمهور أهل السنة يقولون إن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى شخص يكون عديم الحكمة بل لله في المخلوقات حكم قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها)(4).
وقد بين شيخ الإسلام حال هذا الرافضي في نقله عن أهل السنة من الكذب عليهم فقال: (فإن هذا المبتدع أخذ يشنع على أهل السنة فذكر مسائل لا يذكر حقيقتها ولا أدلتها وينقلها على الوجه الفاسد.
__________
(1) المنهاج 1/129، 130.
(2) المنهاج 1/134، 447، 6/ 402.
(3) المنهاج 1/130.
(4) المنهاج 1/145، 146.(1/101)
وما ينقله عن أهل السنة خطأ أو كذب عليهم أو على كثير منهم وما قدر انه صدق فيه عن بعضهم فقولهم فيه خير من قوله فإن غالب شناعته على الأشعرية ومن وافقهم والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل من يدري ما يقول ويتقي الله فيما يقول)(1).
ثم رد على الرافضي فيما نسبه إلى أهل السنة من أنهم جوزوا على الله فعل القبيح أو الإخلال بالواجب فقال: (وأما قول الرافضي: «وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب».
فيقال له: ليس في طوائف المسلمين من يقول إن الله تعالى يفعل قبيحا أو يخل بواجب ولكن المعتزلة ونحوهم ومن وافقهم من الشيعة النافين للقدر يوجبون على الله من جنس ما يوجبون على العباد ويحرمون عليه ما يحرمونه على العباد ويضعون له شريعة بقياسه على خلقه فهم مشبهة الأفعال وأما المثبتون للقدر من أهل السنة والشيعة فمتفقون على أن الله تعالى لا يقاس بخلقه في أفعاله كما لا يقاس بهم في ذاته وصفاته فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله،... فهذا أصل قولهم الذي اتفقوا عليه واتفقوا على أن الله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبا بحكم وعده فإنه الصادق في خبره الذي لا يخلف الميعاد واتفقوا على أنه لا يعذب أنبياءه ولا عباده الصالحين بل يدخلهم الجنة كما أخبر)(2).
__________
(1) المنهاج 1/ 444.
(2) المنهاج 1/ 447، 448.(1/102)
ثم بين مذهب أهل السنة ومذهب القدرية في القدر، وبين ما هو أصل قول القدرية فقال: (فأهل السنة يؤمنون بالقدر وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الهدى بفضل منه والقدرية يقولون إنه يجب عليه أن يفعل بكل عبد ما يظنونه هم واجبا عليه ويحرم عليه ضد ذلك فيوجبون عليه أشياء ويحرمون عليه أشياء وهو لم يوجبها على نفسه ولا علم وجوبها بشرع ولا عقل ثم يحكون عن من لم يوجبها أنه يقول إن الله يخل بالواجب وهذا تلبيس في نقل المذهب وتحريف له وأصل قول هؤلاء القدرية تشبيه الله بخلقه في الأفعال فيجعلون ما حسن منه حسن من العبد وما قبح من العبد قبح منه، وهذا تمثيل باطل)(1).
ثم وضح أنه ليس في أهل الإسلام من يقول: إن الله يفعل ما هو ظلم منه تعالى الله عن ذلك فقال: (فليس في أهل الإسلام من يقول إن الله يفعل ما هو ظلم منه ولا عبث منه تعالى الله عن ذلك بل الذين يقولون إنه خالق كل شيء من أهل السنة والشيعة يقولون إنه خلق أفعال عباده فإنها من جملة الأشياء ومن المخلوقات ما هو مضر لبعض الناس ومن ذلك الأفعال التي هي ظلم من فاعلها وإن لم تكن ظلما من خالقها... فالله تعالى إذا خلق في محل صفة أو فعلا لم يتصف هو بتلك الصفة ولا ذلك الفعل إذ لو كان كذلك لاتصف بكل ما خلقه من الأعراض.
ولكن هذا الموضع زلت فيه الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة الذين يقولون ليس لله كلام إلا ما خلقه في غيره وليس له فعل إلا ما كان منفصلا عنه فلا يقوم به عندهم لا فعل ولا قول...)(2) إلخ.
__________
(1) المنهاج 1/454.
(2) المنهاج 1/455، 456.(1/103)
ثم فصل شيخ الإسلام فيما نسبه الرافضي إلى أهل السنة فقال: (فقوله عن أهل السنة إنهم يقولون إنه يفعل الظلم والعبث إن أراد فهم لا يسلمون له أنه ظلم،... وإن أراد ما هو ظلم وعبث من العبد فهذا لا محذور في كون الله يخلقه وجمهورهم لا يقولون إن هذا الظلم والعبث فعل الله بل يقولون إنه فعل العبد لكنه مخلوق لله كما أن قدرة العبد وسمعه وبصره مخلوق لله تعالى وليس هو سمع الحق ولا بصره ولا قدراته)(1).
وقد وضح شيخ الإسلام أن ما يثبته أهل السنة أكمل مما يثبته غيرهم فقال: (ففي الجملة لم تثبت المعتزلة والشيعة نوعا من الحكمة والرحمة إلا وقد أثبت أئمة أهل السنة ما هو أكمل من ذلك وأجل منه مع إثباتهم قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه العام)(2).
ولما ذكر الرافضي عدل الله وأنه لا يظلم أحدًا وإلا لزم الجهل والحاجة قال شيخ الإسلام: (وأما قوله: "إنه عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا لزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما".
__________
(1) المنهاج 1/460.
(2) المنهاج 1/ 460.(1/104)
فيقال له هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا ولا يظلم أحدا ولكن النزاع في تفسير ذلك فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد هل يقال إنه فعل ما هو قبيح منه وظلم أم لا، فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا والقدرية يقولون لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا لما هو قبيح منه وأما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضي أن يكون قبيحا من خالقه كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا يقتضى أن يكون كذلك لخالقه لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم... وإذا خلق الإنسان هلوعًا جزوعًا كما أخبر تعالى بقوله: { إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } (1) لم يكن هو سبحانه لا هلوعًا ولا جزوعًا ولا منوعا كما تزعم القدرية(2) أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا تعالى عن ذلك وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق أفعال العباد فإنهم يقولون إن الله تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك)(3).
__________
(1) المعارج/ 19- 21.
(2) القدرية هم نفاة القدر الذي يزعمون أن العبد هو الذي يخلق فعله استقلالا فأثبتوا خالقا مع الله تعالى ! لذلك سموا مجوس هذه الأمة، لأن المجوس قالوا: بإثبات خالقين النور والظلمة، الفرق بين الفرق / 114، الملل والنحل 1/43، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان /49.
(3) المنهاج 2/294، 295.(1/105)
فإنهم يفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول وهذا واضح بحمد الله، وهذا الرافضي يقول بأن من مذهبه أن الله قادر على جميع المقدورات فبين شيخ الإسلام التمويه الذي في هذه العبارة فقال: (وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير كما تقدم بيانه وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر وأما القدرية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم فإذا قالوا إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات.
وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له وأما نفس أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية... وبكل حال فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له كان هذا بمنزلة أن يقال هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها... فإن الشأن في بيان المقدورات هل هو على كل شيء قدير.
فمذهب هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قدير، وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا... فظهر تمويههم بقولهم إن الله قادر على جميع المقدورات وأما أهل السنة فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير وكل ممكن فهو مندرج في هذا)(1).
وقد بين أن هؤلاء الإمامية أخذوا أقوالهم في القدر عن المعتزلة وأن حججهم أخذوها من أصول المعتزلة القدرية(2).
وبين أن القدر فيه نزاع بين الإمامية كما أن بينهم نزاعًا في الصفات(3).
__________
(1) المنهاج 2/291، 293.
(2) انظر المنهاج 6/388، 6/396.
(3) انظر المنهاج 2/299.(1/106)
وقد وضح أن ما ذكره في الصفات والقدر لا يختص بالإمامية فقال: (ما ذكره من الصفات والقدر لا يتعلق بمسألة الإمامة أصلا بل يقول بمذهب الإمامية من لا يقول بهذا ويقول بهذا من لا يقول بمذهب الإمامية ولا أحدهما مبنى على الآخر فإن الطريق إلى ذلك عند القائلين به هو العقل وأما تعيين الإمام فهو عندهم من السمع فإدخال هذا في مسألة الإمامة مثل إدخال سائر مسائل النزاع وهذا خروج عن المقصود)(1).
وقد ذكر أن إدخال هذه المسائل في مسألة الإمامة إما جهلاً وإما تجاهلاً(2)؛ لأنه لا علاقة بين القول بهذا والقول بهذا كما سبق بيانه.
* * *
المبحث السادس
في بيان مخالفتهم لأهل البيت في الاعتقاد
قال شيخ الإسلام: (غالب الشيعة الأولى كانوا مثبتين للقدر وإنما ظهر إنكاره في متأخريهم كإنكار الصفات، فإن غالب متقدميهم كانوا يقرون بإثبات الصفات والمنقول عن أهل البيت في إثبات الصفات والقدر لا يكاد يحصى)(3).
ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام عن جعفر وهو قوله:(4) أراد بهم وأراد منهم. وقد بين عدم اختلاف الصحابة ومنهم أهل البيت في شيء من قواعد الإسلام. فقال: (ولم يختلفوا [أي الصحابة] في شيء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام... إلخ)(5).
وقال عن جعفر: (مع قول جعفر وسائر المسلمين وأهل الملل وجماهير العقلاء من غير أهل الملل أن الله تعالى خالق كل شيء وأن ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن ليس مع الله شيء من العالم قديم بقدم الله)(6).
__________
(1) المنهاج 2/100، 1/128، 144.
(2) انظر المنهاج 1/ 128.
(3) المنهاج 3/9، انظر 8/ 6.
(4) انظر المنهاج 3/ 169، والمقصود: إثبات الإرادة بقسميها....
(5) المنهاج 6/336.
(6) المنهاج 2/247.(1/107)
وقد وضح أن مذهب الرافضة مبني على الجهل والهوى(1)، والكذب وأنهم لم يتبعوا أئمة أهل البيت في اعتقادهم مع ادعائهم محبتهم فقال: (وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم متفقون على القول الوسط المغاير لقول أهل التمثيل وقول أهل التعطيل وهذا مما يبين مخالفة الرافضة لأئمة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصول دينهم كما هم مخالفون لأصحابه بل ولكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -)(2).
ومع ذلك فهم معترفون بأنهم لم يتلقوا هذا الاعتقاد من أئمة أهل البيت كما يقر بذلك شيوخهم وفي هذا يقول شيخ الإسلام: (وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وهم في الحقيقة إنما تلقوه عن المعتزلة وهم شيوخهم في التوحيد والعدل وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع)(3).
ثم أكد هذه المسألة بذكر بعض الأئمة فقال: (...ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس في أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق من كان ينكر الرؤية أو يقول بخلق القرآن أو ينكر القدر... إلخ)(4).
ثم أختم هذا الفصل بأنه لا بد من تصحيح المذهب ومناظرة المخالفين فيه من أهله -حتى لا يحصل تناقض- كل ذلك قبل الدعوة إليه، كما قال شيخ الإسلام: (والمقصود هنا أن يقال لهذا الإمامي وأمثاله ناظروا إخوانكم هؤلاء الرافضة في التوحيد وأقيموا الحجة على صحة قولكم ثم ادعوا إلى ذلك ودعوا أهل السنة والتعرض لهم)(5).
***
الفصل الثاني
عقيدتهم في القرآن
المبحث الأول: مسألة كلام الله تعالى وأقوال الناس فيها:
__________
(1) انظر المنهاج 2/243.
(2) المنهاج 2/243.
(3) المنهاج 2/369.
(4) المنهاج 2/368.
(5) المنهاج 2/245.(1/108)
تعريف الكلام: هذه المسألة كثرت فيها أقوال الناس واضطربوا إلا من اعتصم بالكتاب والسنة قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (هذه مسألة كلام الله تعالى والناس فيها مضطربون وقد بلغوا فيها إلى تسعة أقوال وعامة الكتب المصنفة في الكلام وأصول الدين لم يذكر أصحابها إلا بعض هذه الأقوال إذ لم يعرفوا غير ما ذكروه فمنهم من يذكر قولين ومنهم من يذكر ثلاثة ومنهم من يذكر أربعة ومنهم من يذكر خمسة وأكثرهم لا يعرفون قول السلف.
أحدها: قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم وإما من غيره وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب "وحدة الوجود".
وثانيها: قول من يقول: إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه وهذا قول هذا الإمامي وأمثاله من الرافضة المتأخرين والزيدية والمعتزلة والجهمية.
وثالثهًا: قول من يقول إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهذا قول ابن كلاب(1) ومن وافقه كالأشعري وغيره.
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصري، الذي صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهو من متكلمة الصفاتية، وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل السنة، لكن فيها نوع بدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته، لكن له في الرد على الجهمية نفاة الصفات والعلو من الدلائل والحجج وبسط القول، ما يبين به فضله في هذا الباب. الفتاوى 12/ 366، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان 36، المقالات 1/350، 2/225، السير 11/ 174- 176، لسان الميزان 3/290، 291.(1/109)
ورابعهًا: قول من يقول: إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة وهو الذي يذكر عن السالمية(1) ونحوهم...
وخامسهًا: قول من يقول: إنه حروف وأصوات لكن تكلم به بعد أن لم يكن متكلمًا وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته بعد أن لم يكن متكلما ولا فاعلا وهذا قول الكرامية(2) وغيرهم وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة...
وسادسهًا: قول من يقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء بكلام يقوم به وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام أزلي قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
وسابعهًا: قول من يقول كلامه يرجع إلى ما يحدث من علمه وإرادته القائم بذاته ثم من هؤلاء من يقول لم يزل ذاك حادثا في ذاته كما يقوله أبو البركات صاحب "المعتبر"(3) وغيره ومنهم من لا يقول بذلك وأبو عبدالله الرازي يقول بهذا القول في مثل المطالب العالية.
__________
(1) أتباع أحمد بن محمد بن سالم أبو الحسن، وهم والحنبلية كالشيء الواحد إلا في مواضع مخصوصة، وفيهم تصوف، الفتاوى 6/56، الشذرات 3/ 36.
(2) هم أتباع محمد بن كرام السجتاني وهم إحدى فرق المرجئة، يقولون: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون القلب، وكانوا يثبتون الصفات إلا أنهم ينتهون فيها إلى التشبيه، الملل 1/108، الفرق بين الفرق /215، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين / 67 البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان / 35.
(3) هو أبو البركات هبة الله بن ملكا، صاحب كتاب «المعتبر في الحكمة» مختلف في اسمه، وفي سنة وفاته، فقيل سنة 547 هـ، وقيل سنة 560 هـ، وقيل: سنة 570هـ، وهو طبيب وفيلسوف، كان يهوديا فأسلم، وكتابه «المعتبر» مطبوع في الهند سنة 1357 هـ، الأعلام 8/ 74، 75، الصفدية تحقيق د. محمد رشاد سالم 1/ 45، جامع الرسائل لابن تيمية (المجموعة الأولى) صـ 180، 181.(1/110)
وثامنها: قول من يقول كلامه يتضمن معنى قائما بذاته وهو ما خلقه في غيره ثم من هؤلاء من يقول في ذلك المعنى بقول ابن كلاب وهذا قول أبي منصور الماتريدي(1) ومنهم من يقول بقول المتفلسفة وهذا قول طائفة من الملاحدة الباطنية متشيعهم ومتصوفهم.
وتاسعها: قول من يقول كلام الله مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي(2) ومن اتبعه من متأخري الأشعرية.
وبالجملة أهل السنة والجماعة أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة وأئمة أتباعهم والطوائف المنتسبين إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون إن كلام الله غير مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق وهذا هو المتواتر المستفيض عن السلف والأئمة من أهل البيت وغيرهم)(3).
__________
(1) هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي من أئمة علماء الكلام، نسبته إلى ماتريد، «محلة بسمرقند» من كتبه «التوحيد»، و«أوهام المعتزلة» و«الرد على القرامطة» و«مآخذ الشرائع» في أصول الفقه، وكتاب «الجدل» ت سنة 333هـ، الأعلام 71/ 19، معجم المؤلفين 11/ 300.
(2) هو الإمام الكبير شيخ الشافعية، إمام الحرمين، أبو المعالي عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية الجويني ثم النيسابوري ضياء الدين الشافعي، صاحب التصانيف ومنها: الإرشاد في أصول الدين، ت سنة 478، السير 18/ 468- 477، العبر 2/339، الشذرات 3/358- 362، الأعلام 4/160.
(3) انظر المنهاج 2/358- 363، 3/222، 353، 358- 361.(1/111)
ثم أيد هذا القول بأنه مذهب السلف بذكر مؤلفاتهم التي ذكروا فيها هذا القول ونصروه بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة، وأن نقل هذا عنهم متواتر. فقال: (والنقول بذلك متواترة مستفيضة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعي تابعيهم وفي ذلك مصنفات متعددة لأهل الحديث والسنة يذكرون فيها مقالات السلف بالأسانيد الثابتة عنهم وهي معروفة عند أهلها وذلك مثل كتاب "الرد على الجهمية" لمحمد بن عبدالله الجعفى(1) ولعثمان بن سعيد الدارمي(2) وكذلك نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسى(3) "والرد على الجهمية" لعبد الرحمن بن أبي حاتم(4)، وكتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد - رضي الله عنه -(5)
__________
(1) لم أجد بهذا الاسم غير الهرواني، وهو محمد بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله الجعفي الكوفي الحنفي، ولد سنة 305 هـ، وحدث ببغداد، قال الخطيب كان ثقة ت سنة 402، وقد عاش 97 سنة، ولم أر من ذكر له كتاب الرد على الجهمية، انظر السير 17/101- 102، تاريخ بغداد 5/472- 473، غاية النهاية 2/177- 178، الشذرات 3/165، العبر 2/203.
(2) عثمان بن سعيد الدارمي السجستاني، أبو سعيد محدث هرات له تصانيف في الرد على الجهمية ت سنة 280 هـ، تذكرة الحفاظ 2/621، السير 13/ 319، 326، طبقات الحنابلة 1/221، الشذرات 2/176.
(3) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي مولاهم البغدادي المريسي، المتكلم رأس الجهمية في وقته، قال الذهبي: وقع كلامه إلى عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ فصنف مجلدا في الرد عليه. ت سنة 218، السير 10/199- 202.
(4) هو عبد الرحمن بن محمد «أبي حاتم» بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد، من كبار حفاظ الحديث له تصانيف كثير منها «الجرح والتعديل» و«الرد على الجهمية» ت سنة 327 هـ، السير 13/263، 269، تذكرة الحفاظ 3/829، 832، طبقات الحنابلة 20/55.
(5) هو عبد الله بن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي، أبو عبد الرحمن من أهل بغداد حافظ للحديث له «زوائد المسند» ت سنة 290 هـ السير 13/516- 526، طبقات الحنابلة 1/180- 188، تهذيب التهذيب 5/141- 143، الشذرات 2/203، 204، تهذيب الكمال 14/285- 292، تاريخ بغداد 9/375، 376.(1/112)
، ولأبي بكر الأثرم(1)، وللخلال، وكتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري(2) وكتاب "التوحيد" لأبي بكر بن خزيمة(3) وكتاب "السنة" لأبي القاسم الطبراني(4)، ولأبي الشيخ الأصبهاني(5)
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن هانئ الأسكافي الأثرم الطائي، أبو بكر الحافظ، قال عنه الكلبي أحد الأعلام وصنف السنن تلميذ الإمام أحمد، له مصنف في علل الحديث ت سنة 261 هـ، السير 12/623- 628، الشذرات 2/141، 142، طبقات الحنابلة 1/66، 74، تذكرة الحفاظ 2/570- 572، العبر 2/42.
(2) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبد الله، حبر الإسلام والحافظ لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولد في بخارى. سنة 194 هـ ت سنة 256 هـ، السير 12/391- 417، الجرح والتعديل 7/191، تذكرة الحفاظ 2/555- 557، تهذيب التهذيب 9/47- 55، تاريخ بغداد 2/4- 34، طبقات السبكي 2/2- 19، طبقات الحنابلة 1/271- 279، مقدمة الفتح 477 - 493، الشذرات 2/134- 136.
(3) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة الحافظ الحجة، شيخ الإسلام إمام الأئمة أبو بكر السلمي النيسابوري الشافعي، صاحب التصانيف، من أشهرها كتاب التوحيد ولد سنة 223هـ، وعني في حداثته بالحديث والفقه، حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم، والإتقان، ت سنة 311هـ، انظر، سير أعلام النبلاء 14/365- 382، الجرح والتعديل 7/196، البداية والنهاية 11/149، الشذرات 2/262- 261.
(4) هو سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، إمام حافظ ثقة محدث الإسلام له مؤلفات عديدة، أشهرها «المعاجم الثلاثة» ت سنة 360هـ، وكتابه «السنة» ذكره الذهبي في السير. انظر السير 16/119- 130، طبقات الحنابلة 2/49- 51، تذكرة الحفاظ 3/912- 917، الشذرات 3/30.
(5) هو الإمام الحافظ الصادق، محدث أصبهان، أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، المعروف بأبي الشيخ، صاحب التصانيف ولد سنة 274 هـ، ت سنة 369 هـ. قال الذهبي: «لأبي الشيخ كتاب السنة مجلد، وكتاب السنن في عدة مجلدات» السير 16 / 276- 280، الشذرات 3/69، تذكرة الحفاظ 3/945- 947.(1/113)
ولأبي عبدالله بن منده(1)، "والأسماء والصفات" لأبي بكر البيهقي(2)، "والسنة" لأبي ذر الهروي(3)، "والإبانة" لابن بطة(4)
__________
(1) وجدت عالمين كل منهما أبو عبد الله بن منده، ولم أجد لأي منهما كتاب السنة، أما الأول فهو: الإمام الكبير الحافظ المجود محمد بن يحيى بن منده أبو عبد الله جد صاحب التصانيف الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق (وهو الثاني وستأتي ترجمته) ولد في حدود سنة 220هـ، ومات سنة 301هـ، ولم أجد من ذكر له كتاب السنة، وقد قال عنه الذهبي «جمع وصنف» وفي طبقات الحنابلة روى عنه قول للإمام أحمد، وهو (من قال: لفظي بالقرآن مخلوق كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل). السير 14/182- 193: طبقات الحنابلة 1/328، الشذرات 2/234، والثاني هو الإمام الحافظ الجوال، محدث الإسلام، أبو عبد الله، محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، مولده سنة 310 هـ، وله كتاب «الإيمان»، و«التوحيد» و«الصفات» وغيرها ولم أر من ذكر له كتابًا يسمى «السنة» ت سنة 395 هـ، السير 17/28- 43، مقدمة كتاب «الإيمان» لابن منده تحقيق الفقيهي 1/22- 51، طبقات الحنابلة 2/167، البداية والنهاية 11/336.
(2) هو أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي ولد سنة 384هـ، كان أوحد أهل زمانه في الحفظ والإتقان والفقه والتصنيف، وكان فقيها محدثا أصوليا، له مؤلفات كثيرة منها: «شعب الإيمان»، «ودلائل النبوة» «والسنن الكبرى» والأسماء والصفات، وغيرها، ت سنة 458هـ، السير، 18/ 163، 170، البداية والنهاية 12/94، الشذرات 3/304، 305.
(3) هو الحافظ الإمام المجود العلامة، شيخ الحرم أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، المعروف ببلده «بابن السماك» الأنصاري الخراساني الهروي المالكي له مصنفات عدة منها «السنة» ت سنة 435 هـ، السير 17/554- 563، البداية والنهاية 12/50، 51، تاريخ بغداد 11/141.
(4) هو عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله العكبري، عالم بالحديث من فقهاء الحنابلة من مصنفاته «الإبانة الكبرى»، «والإبانة الصغرى» توفي سنة 387، طبقات الحنابلة 2/144، العبر 2/171، الشذرات 3/122- 124.(1/114)
، وقبله "الشريعة" لأبي(1) بكر الآجري، "وشرح أصول السنة" لأبي القاسم اللالكائي(2)، "والسنة" لأبي حفص بن شاهين(3)، "وأصول السنة" لأبي عمر الطلمنكي(4) وأمثال هذا الكتب ومصنفوها من مذاهب متبوعة مالكي وشافعي وحنبلي ومحدث مطلق لا ينتسب إلى مذهب أحد)(5).
__________
(1) هو الإمام المحدث القدوة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري صاحب التواليف منها «الشريعة» في السنة و«الرؤية» و«الغرباء» وغير ذلك وكان صدوقا خيرا عابدًا صاحب سنة واتباع، ت سنة 360 هـ، السر 16/133- 136، تاريخ بغداد 2/243، الشذرات 3/35، البداية والنهاية 11/270.
(2) هو الإمام الحافظ المجود أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن منصور الطبراني الرازي الشافعي اللالكائي مفيد بغداد في وقته، قال الخطيب: «كان يفهم ويحفظ وصنف كتابا في السنة» ت سنة 418هـ، السير 17/419- 420، وكتابه «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» حققه د. الغامدي، تاريخ بغداد 14/70، 71.
(3) هو الشيخ الصدوق الحافظ العالم، صاحب التفسير الكبير أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي الواعظ، ولد سنة 297 ت سنة 385هـ، السير 16/ 431- 435، البداية والنهاية 11/316- 317، وتاريخ بغداد 11/ 265- 268.
(4) هو الإمام المحقق المحدث الحافظ الأثري، أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الأندلس الطلمنكي «وطلمنك ميلاده» كان من بحور العلم ت سنة 429هـ، قال الذهبي «رأيت له كتابا في السنة في مجلدين عامته جيد» السير 17 / 566- 569، ترتيب المدارك للقاضي عياض 8/32، 33، معرفة القراء الكبار للذهبي 1/385- 387.
(5) المنهاج 363- 367.(1/115)
ثم وضح رحمه الله بعض الأدلة التي يستدل بها أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق فقال: (والسلف ( وجمهور أهل السنة يطردون أصلهم ولهذا احتج الإمام أحمد - رضي الله عنه - وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر»(1) قالوا لا يستعاذ بمخلوق وكذلك ثبت عنه أنه قال: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك» وقالوا لا يستعاذ بمخلوق وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرضا والمعافاة فكان ذلك عند أئمة السنة مما يقوم بالرب تعالى كما تقوم به كلماته ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه)(2).
(والمتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته وقام به الكلام)(3).
(فمن قال: إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلاً عنه، فقد قال ما لا يفعل. بل إن كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفصل عنه بل ما هو متصف به)(4).
(والكلام صفة كمال والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل لا يعقل متكلم إلا كذلك ولا يكون الكلام صفة كمال إلا إذا قام بالمتكلم)(5).
(ولكن هذا الموضع زلت فيه الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة الذين يقولون ليس لله كلام إلا ما خلقه في غيره وليس له فعل إلا ما كان منفصلا عنه فلا يقوم به عندهم لا فعل ولا قول وجعلوا كلامه الذي يكلم به ملائكته وعباده والذي كلم به موسى والذي أنزله على عباده هو ما خلقه في غيره.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب: «يزفون النسلان في المشي» 4/119، ومسلم كتاب الذكر والدعاء باب: «في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء» 4/2080- 3081.
(2) المنهاج 2/374- 375.
(3) انظر المنهاج 2/377.
(4) انظر المنهاج 2/376.
(5) المنهاج 3/360، انظر المنهاج 2/373، 374.(1/116)
فيقال لهم الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها لم يكن المتحرك بها هو الخالق لها وكذلك إذا خلق لونا أو ريحا أو علما أو قدرة في محل كان ذلك المحل هو المتلون بذلك اللون المتروح بتلك الريح العالم بذلك العلم القادر بتلك القدرة فكذلك إذا خلق كلاما في محل كان ذلك المحل هو المتكلم بذلك الكلام وكان ذلك الكلام كلاما لذلك المحل لا لخالقه فيكون الكلام الذي سمعه موسى وهو قوله: { إِنِّي أَنَا اللَّهُ } (1) كلام الشجرة لا كلام الله لو كان ذلك مخلوقا)(2).
* * *
المبحث الثاني
مذهب الرافضة في القرآن، ونماذج من تأويلاتهم الفاسدة
قد اختلف الروافض في القرآن وصاروا قسمين وقد نقل شيخ الإسلام قول الأشعري في المقالات فقال: (قال الأشعري: واختلفت الروافض في القرآن وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم هشام بن الحكم وأصحابه يزعمون أن القرآن لا خالق ولا مخلوق وزاد بعض من يخبر عن المقالات في الحكاية عن هشام فزعم أنه كان يقول لا خالق ولا مخلوق ولا يقال أيضا غير مخلوق لأنه صفة والصفة لا توصف.
قال وحكى زرقان(3) عن هشام بن الحكم أنه قال: القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن فأما القرآن فهو فعل الله مثل العلم والحركة لا هو هو ولا غيره.
والفرقة الثانية: منهم يزعمون أنه مخلوق محدث لم يكن ثم كان كما تزعم المعتزلة والخوارج قال وهؤلاء قوم من المتأخرين منهم.
__________
(1) طه آية/14.
(2) المنهاج 1/456، 457، انظر المنهاج 2/371، 374.
(3) هو محمد بن شداد بن عيسى المسمعي البصري ثم البغدادي المتكلم المعتزلي من أصحاب النظام له مجالس وكتب، منها «كتب المقالات» ت سنة 279هـ، السير 13/148- 149، اللباب 3/212، ميزان الاعتدال 3/579. الأعلام 6/157.(1/117)
قلت: ومعلوم أن قول جعفر بن محمد الصادق وهؤلاء الذين قالوا من السلف ليس بمخلوق لم يريدوا أنه ليس بمكذوب بل أرادوا أنه لم يخلقه كما قالت المعتزلة وهذا قول متأخري الرافضة)(1).
(فإن طائفة من متأخري الإمامية كأبي القاسم الموسوي المعروف بالمرتضى(2) وغيره لما وافقوا المعتزلة على أنه محدث منفصل عن الله وأنه لم يكن يمكنه أن يتكلم ثم صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما وليس له كلام يقوم به بل كلامه من جملة مصنوعاته المنفصلة عنه ثم سمعوا عن السلف من أهل البيت مثل جعفر بن محمد وغيره أنهم قالوا إنه غير مخلوق قالوا لا نقول إنه مخلوق متابعة لهؤلاء بل نقول إنه محدث مجعول موافقة لما ظنوه من لفظ القرآن في قوله: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا } (3).
وقوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } (4))(5).
وقال بعد ذلك -مبينا مخالفة الرافضة لأئمة أهل البيت: (وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة [يعني القرآن] وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث وهذا القول هو المعروف عن أهل البيت كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد الصادق وغيرهم.
ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم، فليس في أئمة أهل البيت - مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق من كان... يقول بخلق القرآن....) إلخ(6).
__________
(1) المنهاج 2/248، 249.
(2) هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى، أبو القاسم، ويعرف «بالشريف المرتضي» المتكلم الرافضي، صاحب التصانيف، وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة. هلك سنة 436 هـ، لسان الميزان 4/223- 224، العبر 2/272، 273، البداية والنهاية 12/53.
(3) الزخرف/ 3.
(4) الأنبياء /2.
(5) المنهاج 2/249، انظر 2/245، 246.
(6) المنهاج 2/367، 368، انظر 3/353.(1/118)
وقد بين أن الرافضة لا يعتمدون على القرآن، ولا على الحديث موضحًا عدم اهتمامهم بالقرآن فقال: (والرافضة لا تعتني بحفظ القرآن ومعرفة معانيه وتفسيره وطلب الأدلة الدالة على معانيه ولا تعتنى أيضا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة صحيحه من سقيمه والبحث عن معانيه ولا تعتنى بآثار الصحابة والتابعين حتى تعرف مآخذهم ومسالكهم ويرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسول بل عمدتها آثار تنقل عن بعض أهل البيت فيها صدق وكذب)(1).
وقال: (ولهذا قراءة القرآن فيهم قليلة ومن يحفظه حفظا جيداً فإنما تعلمه من أهل السنة وكذلك الحديث إنما يعرفه ويصدق فيه ويؤخذ عن أهل السنة وكذلك الفقه والعبادة والزهد والجهاد والقتال إنما هو لعساكر أهل السنة وهم الذين حفظ الله بهم الدين علما وعملا بعلمائهم وعبادهم ومقاتليهم)(2).
وقال عن تحريفهم للقرآن: (لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه كقولهم في قوله تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } (3) أي ذنب آدم وما تأخر من ذنب أمته فإن هذا ونحوه من تحريف الكلم عن مواضعه)(4).
ثم وضح كونه تحريفًا فقال:
(أما أولا: فلأن آدم تاب وغفر له ذنبه قبل أن يولد نوح وإبراهيم فكيف يقول له: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ذنب آدم.
وأما ثانيا: فلأن الله يقول: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (5) فكيف يضاف ذنب أحد إلى غيره؟
__________
(1) المنهاج 5/163، 164، انظر 1/69.
(2) المنهاج 7/415.
(3) الفتح آية / 3، ولم أجد هذا القول فيما بين يدي من المراجع إلا على أنه قول مردود، بدعوى منافاته للعصمة ولعل هذا من التقية، انظر مثلا: الطبرسي 9/110.
(4) انظر المنهاج 2/401.
(5) الإسراء آية /150.(1/119)
وأما ثالثا: فلأن في حديث الشفاعة الذي في الصحاح أنهم يأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا إلى ربك فيذكر خطيئته ويأتون نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول لهم: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر(1) فكان سبب قبول شفاعته كمال عبوديته وكمال مغفرة الله له فلو كانت هذه لآدم لكان يشفع لأهل الموقف.
وأما رابعا: فلأن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه ( يا رسول الله هذا لك فما لنا فأنزل الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } (2) فلو كان ما تأخر ذنوبهم لقال هذه الآية لكم.
__________
(1) رواه البخاري كتاب بدء الخلق باب قوله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً } ... إلخ السورة 4/105، 106، وفي كتاب التوحيد باب قوله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } 8/172، 173، وباب قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } 8/183، 184، وفي كتاب تفسير القرآن سورة البقرة قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا } 5/146، 147، ومسلم كتاب الإيمان باب «أدنى أهل الجنة منزلة فيها» 1/180-187، وغيرها من المواضع.
(2) الفتح آية/ 4، وانظر تفسير ابن كثير 4/183، وقال: «أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به»، ولم أجده فيهما حتى الآن، فتح القدير 5/46.(1/120)
وأما خامسا فكيف يقول عاقل إن الله غفر ذنوب أمته كلها وقد علم أن منهم من يدخل النار وإن خرج منها بالشفاعة فهذا وأمثاله من خيار تأويلات المانعين لما دل عليه القرآن من توبة الأنبياء من ذنوبهم واستغفارهم وزعمهم أنه لم يكن هناك ما يوجب توبة ولا استغفار ولا تفضل الله عليه بمحبته وفرحه بتوبتهم ومغفرته ورحمته لهم فكيف بسائر تأويلاتهم التي فيها من تحريف القرآن وقول الباطل على الله ما ليس هذا موضع بسطه)(1).
ثم ذكر نماذج أخرى من تحريفهم للقرآن فقال: (وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم مثل قولهم إن قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (2) نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة.
وقوله تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } (3) علي وفاطمة { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } (4) الحسن والحسين { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } (5) علي بن أبي طالب: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ } (6) هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران(7)
__________
(1) المنهاج 2/401- 403.
(2) المائدة آية /55، انظر: تفسير الطبرسي: 3/210- 211، البرهان: 1/480- 485.
(3) الرحمن آية / 19.
(4) الرحمن آية / 22، انظر الطبرسي: 9/201، البرهان: 4/265، 266.
(5) يس آية / 22، انظر: البرهان / 4/6.
(6) آل عمران آية /33، ولم أجد هذا القول فيما بين يدي من المراجع.
(7) هو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش، والد علي رضي الله عنه، وعم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكافله ومربيه ومناصره، توفي قبل الهجرة بثلاث سنوات، من عقلاء قريش وخطبائهم، ومن أسيادهم، نزلت فيه الآية { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ }
القصص آية /56، الأعلام 4/166، اللباب 2/269.(1/121)
{ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } (1) طلحة والزبير { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ } (2) هم بنو أمية { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (3) عائشة { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (4) لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية.
__________
(1) التوبة آية / 12، انظر تفسير العياشي 2/77- 79، الطبرسي 5/11، الطوسي 5/214.
(2) الإسراء آية 60، انظر: العياشي 2/297، الطبرسي 6/434، الطوسي 6/493- 494، البرهان: 2/424، 425، وغيرها.
(3) البقرة آية 67، وهذا القول لم أجده فيما بين يدي من المراجع.
(4) الزمر آية 65، انظر: البرهان في تفسير القرآن للبحراني: 4/83.(1/122)
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم ثم من هذا دخلت الإسماعيلية(1) والنصيرية(2) في تأويل الواجبات والمحرمات فهم أئمة التأويل الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ما لا يوجد في صنف من المسلمين فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد وحرفوا كتابه تحريفًا لم يصل غيرهم إلى قريب منه)(3).
* * *
المبحث الثالث
بيان مذهب أهل السنة في القرآن
__________
(1) هم المنتسبون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وهم من الباطنية ويزعمون أن لكل ركن من أركان الشريعة تأويلا، فيزعمون أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته... إلخ، وهم زنادقة دهريون، يقولون بقدم العالم وإنكار الإله إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة، الفرق بين الفرق / 28، الملل والنحل 1/191، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان / 62.
(2) هم أتباع محمد بن نصير النميري «من غلاة الرافضة» ادعى النبوة ثم الربوبية ويزعم أتباعه أن الله يحل في علي، ويعتقدون إباحة المحارم إلى غير ذلك من ضلالاتهم. الملل والنحل 1/188، الفرق بين الفرق / 255، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان / 67، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين / 61.
(3) المنهاج 3/404، 405.(1/123)
مذهب أهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق قال شيخ الإسلام في معرض رده على الرافضي: (وقد استفاض عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن؟ أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله(1) وهذا مما اقتدى به الإمام أحمد في المحنة. فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة وهذا قول السلف قاطبة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق)(2).
ثم ذكر أقول الأئمة في إثبات أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، فقال: (ما نقل عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما قيل له حكمت مخلوقا قال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن(3).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/242، شرح السنة للبغوي باب «الرد على من قال بخلق القرآن» 1/187، السنة لعبد الله بن الإمام أحمد تحقيق القحطاني1/151، 152، «خلق أفعال العباد» للبخاري/115، 136، و«الرد على الجهمية للدارمي»/164، «الاعتقاد للبيهقي»/65، «سنن البيهقي الكبرى» باب ما ترد به شهادة أهل الأهواء 10/206، و«الرد على بشر المريسي» للدارمي/19، و«الشريعة» للآجري/77، و«الأسماء والصفات» للبيهقي /317.
(2) المنهاج/ 245، 246.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/227، 228، 229، والأسماء والصفات 313، وقال: «هذه الحكاية عن علي - رضي الله عنه - شائعة فيما بين أهل العلم، ولا أراها شاعت إلا عن أصل، والله أعلم».(1/124)
وما رواه ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية قال كتب إلى حرب الكرماني(1) ثنا محمد بن المصفى(2) ثنا عبدالله بن محمد(3) عن عمرو بن جميع(4) عن ميمون بن مهران(5) عن ابن عباس قال: (لما حكم علي الحكمين قالت الخوارج حكمت رجلين قال ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن)(6).
__________
(1) هو حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني أبو محمد، قال عنه الخلال: رجل جليل ت سنة 280هـ، وقال الذهبي عنه: «صاحب الإمام أحمد حافظ فقيه نبيل، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة» طبقات الحنابلة1/145، السير 13/244، 245، الجرح والتعديل 3/253.
(2) هو محمد بن مصفى بن بهلول الحافظ الإمام عالم أهل حمص، ت سنة 246هـ روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه السير 12/94- 96، طبقات الحنابلة 1/325، تهذيب التهذيب 9/460، 461.
(3) لم أعرفه وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة: لم يذكر بين محمد بن المصفى وعمرو بن جميع أحد.
(4) هو عمرو بن جميع الكوفي، روى عن الأعمش وغيره، كان على قضاء حلوان، كذبه يحيى بن معين، وقال البخاري: منكر الحديث. لسان الميزان 4/358، 359.
(5) هو ميمون بن مهران الرقي أبو أيوب فقيه من القضاة، وكان ثقة في الحديث، كثير العبادة، ت سنة 117هـ، السير 5/71- 78، الشذرات 1/154 تذكرة الحفاظ 1/98، 99، البداية والنهاية 9/314.
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/228.(1/125)
حدثنا الأشج(1) ثنا يحيى بن يمان(2) ثنا حسن بن صالح(3) عن عبد الله بن الحسن(4) قال: قال علي للحكمين: (احكما بالقرآن كله فإنه كله لي)(5).
__________
(1) هو عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج الكندي الكوفي، المفسر الحافظ الإمام الثبت، ت سنة 257هـ، السير 12/182- 185، الخلاصة 2/61.
(2) هو يحيى بن اليمان العجلي الكوفي، أبو زكريا حافظ مفسر، كان ثقة كثير الحفظ سريعه، ت سنة 189هـ، تذكرة الحفاظ 1/268، السير 8/356، 357، ميزان الاعتدال 4/416، الشذرات 1/325.
(3) هو الحسن بن صالح بن حي الفقيه الهمداني ولد سنة 100 هـ، وت سنة 169 هـ، وقيل: 167هـ، التاريخ الكبير 2/295، تهذيب الكمال 6/177- 191.
(4) هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو محمد ثقة جليل القدر ت سنة 145هـ روى له الأربعة انظر التقريب/ 300 الخلاصة 2/49.
(5) لم أجده بهذا اللفظ.(1/126)
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي(1) ثنا الصهيبي(2) ابن عم علي بن عاصم(3) وعلي بن صالح(4) عن عمران بن حدير عن عكرمة(5) قال: كان ابن عباس في جنازة فسمع رجلا يقول يا رب القرآن ارحمه فقال ابن عباس: (مه القرآن منه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود)(6).
__________
(1) هو أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي حافظ الحديث من أقران البخاري ومسلم ت سنة 377هـ، انظر تاريخ بغداد 2/73، طبقات الحنابلة 1/284، تهذيب التهذيب 9/ 31.
(2) لم أجده.
(3) هو علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التميمي مولاهم صدوق يخطئ، ويصر، ورمي بالتشيع ت سنة 201هـ، وقيل بعدها، روى له الإمام مسلم والأربعة، تقريب التهذيب /402، الخلاصة 2/250.
(4) هو عمران بن حدير بمهملات مصغرًا السدوسي أبو عبيدة، ثقة، توفي سنة 149هـ، روى له مسلم وغيره، تقريب التهذيب / 429، الخلاصة 2/300.
(5) هو أبو عبد الله مولى ابن عباس أصله بربري، ثقة ثبت عالم بالتفسير ت سنة 104هـ، وقيل بعدها، روى له الجماعة، تقريب التهذيب/ 397، الخلاصة 2/240.
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/230- 231، الأسماء والصفات /312، شرح السنة 1/185، 186.(1/127)
حدثنا محمد بن عمار بن الحارث(1) ثنا أبو مروان الطبري(2) بمكة يعنى الحكم بن محمد ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: (سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق) وفي رواية: (منه بدأ وإليه يعود)(3) وهذا رواه غير واحد عن سفيان بن عيينة عن عمرو(4) ورواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد(5).
__________
(1) هو محمد بن عمار بن الحارث، أبو جعفر، من أهل الري، قال ابن أبي حاتم: «كتبت عنه وهو صدوق ثقة» الجرح والتعديل 8/43، الثقات لابن حبان 9/138.
(2) هو الحكم بن مروان الطبري، أبو مروان نزيل مكة صدوق وثقه ابن حبان ت سنة مائتين وبضعة عشر، تقريب 176، الخلاصة 1/246.
(3) هو عمرو بن دينار ثقة ثبت ت سنة 126 هـ، تقريب التهذيب /421، والأثر في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/134، السنن الكبرى للبيهقي باب «ما ترد به شهادة أهل الأهواء» 10/205، صريح السنة للطبري /19، الأسماء والصفات / 315، العلو للذهبي / 115 الرد على المريسي/ 116، 117، الاعتقاد للبيهقي /64، الرد على الجهمية للدارمي /163، شرح السنة «باب الرد على من قال بخلق القرآن» 1/186.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/234، الأسماء والصفات /315، العلو / 115، وقال: «وقد تواتر هذا عن ابن عيينة»، التاريخ الكبير للبخاري 2/332، شرح السنة «باب الرد على من قال بخلق القرآن» 1/186.
(5) صـ 11، «تحقيق بدر البدر».(1/128)
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا العباس بن عبد العظيم(1) ثنا رويم بن يزيد المقري(2) ثنا عبد الله بن عباس(3) عن يونس بن بكير(4) عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سئل على بن الحسين عن القرآن فقال: (ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق)(5).
__________
(1) عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل العنبري أبو الفضل البصري، ثقة حافظ، ت سنة 240، تقريب التهذيب / 293، الخلاصة 2/35، وفيه ت سنة 246هـ.
(2) رويم بن يزيد أبو الحسن المقري، ثقة سكن بغداد، ت سنة 211 هـ، تاريخ بغداد 8/429، 430.
(3) عبد الله بن عياش بن عباس القتباني أبو حفص الإمام العالم الصدوق، ت سنة 170هـ، انظر السير 7/333، 334، الكنى والأسماء لمسلم 1/202، والثقات لابن حبان 7/51، تهذيب الكمال 15/410- 412، الخلاصة 2/86.
(4) يونس بن بكير بن واصل الشيباني، صدوق يخطئ ت سنة 199هـ، تقريب التهذيب /613، الخلاصة 3/192.
(5) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1/153، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/236، 237، الأسماء والصفات /316، الاعتقاد للبيهقي /65.(1/129)
ورواه أبو زرعة(1) عن يحيى بن منصور عن رويم فذكره...... حدثنا عبدالله مولى المهلب بن أبي صفرة(2) ثنا علي بن أحمد بن علي بن جعفر بن محمد(3) عن أبيه عن جده عن أخيه موسى بن جعفر قال: (سئل أبي جعفر بن محمد عن القرآن خالق أو مخلوق؟ قال: لو كان خالقا لعبد ولو كان مخلوقا لنفد)(4).
__________
(1) هو الإمام سيد الحفاظ محدث الري عبد الله بن عبد الكريم بن يزيد، أبو زرعة، من حفاظ الحديث، ولد بعد نيف ومائتين، ت سنة 264هـ، السير 13/ 65- 85، الجرح والتعديل 1/328- 349، 5/324، 326.
(2) عبد الله بن عثمان بن عطاء الخرساني الرملي، هو مولى آل المهلب بن أبي صفرة الأزدي، قال ابن حبان: «يعتبر حديثه إذا روى عنه غير الضعفاء»، وقال الذهبي: «ليس بذاك» التاريخ الكبير 5/146، 147، الثقات 8/347، تهذيب الكمال 15/286، 287، الكاشف 2/97، تهذيب التهذيب 5/317.
(3) لم أجده فيما بين يدي من المراجع.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/243.(1/130)
ومثل هذه الآثار كثيرة عن الصحابة والتابعين والأئمة من أهل البيت وغيرهم فعلي - رضي الله عنه - لم يرد بقوله: (ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن) أي ما حكمت كلاما مفترى فإن الخوارج إنما قالوا له حكمت مخلوقا من الناس وهما أبو موسى(1) وعمرو بن العاص(2) فقال: (لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن وهو كلام الله)...... فهذا هو مراد علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد وغيرهما من أهل البيت رضوان الله عليهم وسائر سلف الأمة بلا ريب فتبين أن هؤلاء الرافضة مخالفون لأئمة أهل البيت وسائر السلف في مسألة القرآن كما خالفوهم في غيرها)(3).
وقد وضح الرد على قول الرافضة إنه مجعول فقال: (وأما قولهم: (إنه مجعول) فالله لم يصفه بأنه مجعول معدى إلى مفعول واحد بل قال: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا } (4) فإذا قالوا هو مجعول قرآنا عربيا فهذا حق وأما قوله تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } (5) فهذه الآية تدل على أن الذكر نوعان محدث وغير محدث كما تقول ما جاءني من رجل عدل إلا قبلت شهادته وصفة النكرة للتخصيص وعندهم كل ذلك محدث والمحدث في القرآن ليس هو المحدث في كلامهم فلم يوافقوا القرآن.
__________
(1) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار أبو موسى الأشعري صحابي مشهور أمّره عمر ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصفين، ت سنة 50 هـ، وقيل بعدها، تقريب التهذيب /318، الخلاصة 2/89، وفيه عبد الله بن قيس بن سليمان وفيه ت 42هـ.
(2) هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي، الصحابي المشهور، أسلم عام الحديبية ولي مصر مرتين، ت سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين، روى له الجماعة تقريب التهذيب /423، الخلاصة 2/288.
(3) المنهاج 2/251- 256.
(4) الزخرف آية / 3.
(5) الأنبياء آية / 2.(1/131)
ثم إذا قيل هو محدث لم يلزم من ذلك أن يكون مخلوقا بائنا عن الله بل إذا تكلم الله به بمشيئته وقدرته وهو قائم به جاز أن يقال هو محدث وهو مع ذلك كلامه القائم بذاته وليس بمخلوق وهذا قول كثير من أئمة السنة والحديث وقد احتج البخاري وغيره على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة»(1) ومعلوم أن الذي أحدثه هو أمره أن لا يتكلموا في الصلاة لا عدم تكلمهم في الصلاة فإن ذلك يكون باختيارهم ومنهم من تكلم بعد النهي لكن نهوا عن ذلك ولهذا قال: «يحدث من أمره ما يشاء»)(2).
ثم وضح - رحمه الله - أن القرآن يحكم ويقص ويفتي وذكر أدلة ذلك، فقال: (وهو سبحانه يصف كلامه بأنه يحكم ويقص ويفتي كقوله { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل } (3)، وكقوله: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ } (4) أي وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن وقوله: { وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (5) وإذا أضيف الحكم والقصص والإفتاء إلى القرآن الذي هو كلام الله فالله هو الذي حكم به وأفتى به وقص به كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع)(6).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله عز وجل { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }
8/207 عن ابن مسعود معلقًا، والنسائي كتاب السهو باب «الكلام في الصلاة» 3/19، المسند تحقيق أحمد شاكر 5/200، وقال: «إسناده صحيح».
(2) المنهاج 2/256، 257.
(3) النحل آية/ 76.
(4) النساء آية / 127.
(5) البقرة آية / 213.
(6) المنهاج 2/251- 255.(1/132)
وقبل أن أختم هذا المبحث فلا بد من بيان اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بجمع القرآن في المصحف حفظًا له من الضياع. قال شيخ الإسلام في بيان سبب جمع القرآن: (لأن الدين كمل واستقر بموته - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق فيه نسخ، ولهذا جمع القرآن بعد موته لكماله واستقراره بموته)(1).
وقال: (وكان زيد بن ثابت(2) قد انتدبه قبل ذلك [قبل عهد عثمان] أبو بكر وعمر لجمع المصحف في المصحف، فندب عثمان من ندبه أبو بكر وعمر، وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة، فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة، فإن جبريل عارض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين(3))(4).
وقال مبينا أن الاهتمام بجمع القرآن وتبليغه أهم مما سواه: (كجمع أبي بكر وعمر القرآن في المصحف، ثم جمع عثمان له في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار، فكان الاهتمام بجمع القرآن وتبليغه أهم مما سواه)(5).
* * *
الفصل الثالث
عقيدتهم في النبوة
المبحث الأول: النبوة ولوازمها:
قال شيخ الإسلام: (ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله تعالى إذا كان جعل الشخص نبيا رسولا من أفعال الله تعالى)(6).
__________
(1) المنهاج 1/83.
(2) زيد بن الضحاك بن لوذان الأنصاري النجاري أبو سعيد وأبو خارجة صحابي مشهور من كتاب الوحي. قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، ت سنة 45هـ، أو 48 هـ، وقيل: بعد الخمسين، تقريب التهذيب / 222، الخلاصة 1/ 350.
(3) رواه البخاري كتاب فضائل القرآن باب «كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -» 6/101، 102، ومسلم في فضائل الصحابة باب (فضائل فاطمة) 4/1904، 1905، وغيرهما.
(4) المنهاج 6/252- 253.
(5) المنهاج 7/424.
(6) المنهاج 2/413، 414.(1/133)
ثم ذكر النبوة عند الجهمية والأشاعرة وأنها: (مجرد إعلامه بما أوحاه الله، والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه)(1).
ثم بين ما هي النبوية عند المعتزلة والشيعة فقال: (وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لا يفضل شخصا على شخص إلا بعمله يقول إن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة)(2).
ثم ذكر النبوة عند المتفلسفة، وأنها: (فيض يفيض على الإنسان بحسب استعداده وهي مكتسبة عندهم... إلخ)(3).
__________
(1) المنهاج 2/414.
(2) المنهاج 2/415.
(3) المنهاج 2/415، انظر 4/520.(1/134)
ثم بعد ذلك بين قول السف فقال: (والقول الرابع: وهو الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أن الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس والله أعلم حيث يجعل رسالاته فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي(1) عقله ودينه واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } (2) وقال تعالى: { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (3) وقال تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (4).
فأخبر أنه اجتباهم وهداهم)(5). (والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين)(6).
__________
(1) هكذا في المنهاج ولعل الصواب بحذف الواو في (عقله ودينه).
(2) الزخرف آية / 31، 32.
(3) البقرة آية / 105.
(4) الأنعام آية 84- 87.
(5) المنهاج 2/416- 417.
(6) المنهاج 2/417.(1/135)
(أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوصف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذاك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبى كما قال عن الخليل { وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } (1) وقال يوسف: { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (2) فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها)(3).
ثم قال: (وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاه الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم)(4).
ثم بين الأدلة التي تدل على أن النبي لا يكون فاسقا ولا فاجرا فقال: (وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } -إلى قوله- { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } (5).
__________
(1) العنكبوت آية 27.
(2) يوسف آية 101.
(3) انظر المنهاج 2/ 418، 419.
(4) المنهاج 2/ 418.
(5) الشعراء آية 192- 226.(1/136)
فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي، وبين الشاعر والنبي، لما زعم المفترون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق(1)
فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يجزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح.... وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له ذو الخويصرة(2): اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء»(3) والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران.
__________
(1) رواه البخاري كتاب بدء الوحي باب «كيف كان بدء الوحي» 1/3 كتاب تفسير القرآن، سورة اقرأ 6/88، ومسلم كتاب الإيمان باب «بدء الوحي» 1/139- 143.
(2) هو حرقوص بن زهير السعدي التميمي، القائل: «يا رسول الله اعدل» قتل مع الخوارج يوم النهروان، تجريد أسماء الصحابة 1/169، الإصابة لابن حجر 2/226- 227، 3/214.
(3) رواه البخاري كتاب المناقب باب «علامات النبوة» 4/178- 179، ومسلم كتاب الزكاة باب (ذكر الخوارج وصفتهم) 2/743- 744.(1/137)
فإن ذلك ينافى النبوة ويقدح فيها وقد قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (1) وفيه قراءتان: يَغُل ويُغَل(2) أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا)(3).
ثم قال: (ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والاستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار)(4).
***
المبحث الثاني
عصمة الأنبياء وتنازع الرافضة في ذلك
(أهل السنة متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى وهذا هو مقصود الرسالة فإن الرسول هو الذي يبلغ عن الله أمره ونهيه وخبره وهم معصومون في تبليغ الرسالة باتفاق المسلمين بحيث لا يجوز أن يستقر في ذلك شيء من الخطأ)(5).
__________
(1) آل عمران آية 161.
(2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء وعاصم بفتح الياء وضم الغين والباقون بضم الياء وفتح الغين: البدور الزاهرة / 70، حجة القراءات لابن نجلة 179، 180.
(3) المنهاج 2/419- 421.
(4) المنهاج 2/421.
(5) انظر المنهاج 1/470، 471، 2/410، 3/372، 7/421.(1/138)
وقال شيخ الإسلام ردًا على القول الرافضي في ذكره لمذهب أهل السنة فزعم أن من مذهب أهل السنة: (أن الأنبياء غير معصومين) بل قد يقع منهم الخطأ.... إلخ)، (متفقون على أنهم لا يقرون علي خطأ في الدين أصلا ولا على فسوق ولا كذب ففي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله فهم متفقون على تنزيههم عنه وعامة الجمهور الذين يجوزون عليهم الصغائر يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها فلا يصدر عنهم ما يضرهم.... وأما النسيان والسهو في الصلاة فذلك واقع منهم وفي وقوعه حكمة استنان المسلمين بهم كما روُي في موطأ مالك «إنما أنسىَّ أو أنسَى لأسن»(1) وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» أخرجاه في الصحيحين(2))(3).
وأما الرافضة فإنهم طرفان: طرف غلوا في إثبات العصمة حتى جعلوهم في مرتبة الإله الخالق، وطرف غلوا في نفي العصمة وجوزوا عليهم العصيان حتى رفعوا الأئمة فوقهم، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: (قال الأشعري في (المقالات): واختلفت الروافض في الرسول هل يجوز عليه أن يعصي أم لا؟ وهم فرقتان:
فالفرقة الأولى منهم: يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصي الله وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا وإن جاز على الرسول العصيان قال والقائل بهذا القول هشام بن الحكم.
__________
(1) في كتاب السهو باب «العمل في السهو» 1/100، المسند تحقيق أحمد شاكر 6/36، وقال: إسناده صحيح.
(2) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب «التوجه نحو القبلة» 1/105، ومسلم في كتاب المساجد باب «السهو في الصلاة والسجود» 1/402.
(3) المنهاج 1/471، 472.(1/139)
والفرقة الثانية منهم: يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصي الله عز وجل ولا يجوز ذلك على الأئمة لأنهم جميعا حجج الله وهم معصومون من الزلل ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم كما جاز على المأمومين ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة لو كان ذلك جائزا عليهم جميعا)(1).
ثم قال: (فإذا قال مثل هؤلاء بأن الأنبياء والأئمة لا يجوز أن يخفى عليهم عاقبة فعلهم فقد نزهوا البشر عن الخطأ مع تجويزهم الخطأ على الله.... ومعلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب فإذا قالوا مع ذلك إن الأنبياء والأئمة لا يبدو لهم خلاف ما رأوا فقد(2) جعلوهم لا يعلمون ما لم يكونوا يعلمونه في مثل هذا..
وقالوا بجواز ذلك في غيره وأما ما تقوله غلاتهم من إلهية علي أو نبوته وغلط جبريل بالرسالة فهو أعظم من أن يذكر هنا)(3).
ثم ذكر أن العصمة قبل البعثة غير واجبة فقال: (اتفق المسلمون على أنهم معصومون [يعني الأنبياء] فيما يبلغونه عن الله فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه وبهذا يحصل المقصود من البعثة وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لا يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا وقول القائل: "لو لم يكن كذلك لم تحصل ثقة فيما يبلغونه عن الله" كذب صريح فإن من آمن وتاب حتى ظهر فضله وصلاحه ونبأه الله بعد ذلك كما نبأ إخوة يوسف ونبأ لوطا وشعيبا وغيرهما وأيده الله تعالى بما يدل على نبوته فإنه يوثق فيما يبلغه كما يوثق بمن لم يفعل ذلك وقد تكون الثقة به أعظم إذا كان بعد الإيمان والتوبة قد صار أفضل من غيره.
__________
(1) المنهاج 2/394.
(2) يقول (الخميني) في كتابه «الحكومة الإسلامية» صـ 61، (وقد ثبت ركنا أصيلا من عقيدتنا - نحن الإمامية- أن للمعصومين الأربعة عشر - عليهم السلام- امتيازا في جميع مراحل الوجود يفوقون به جميع الخلائق على الإطلاق).
(3) المنهاج 2/395.(1/140)
والله تعالى قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح(1) ومعلوم أن الصحابة ( من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يصدر منهم ما يدعونه من الأحداث كانوا من خيار الخلق وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام.
ثم يقال وأيضا فجمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى متصفا بصفات الكمال ووجوب بعض الذنوب أحيانا مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك وأيضا فوجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة)(2).
(والمقصود هنا أن الذين ادعوا العصمة مما يتاب منه عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لأن درجتهم أعلى فالذنب منهم أقبح وأنه يجب أن يكون فاسقا فلا تقبل شهادته وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرما وأذى الرسول محرم بالنص وأنه يجب الإقتداء بهم ولا يجوز الإقتداء بأحد في ذنب ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة وهم معصومون من الإصرار بلا ريب.
__________
(1) وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى منها، ما رواه مسلم في كتاب التوبة، وباب قوله تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } 4/2115.
(2) المنهاج 2/396، 397.(1/141)
وأيضا فهذا إنما يتأتى في بعض الكبائر دون الصغيرة وجمهور المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش وما ذكر الله تعالى عن نبي كبيرة فضلا عن الفاحشة بل ذكر في قصة يوسف ما يبين أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين، وإنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه....فلا يجوز أن يصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعمد الكذب ألبتة سواء كان صغيرة أو كبيرة.
بل قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين»(1))(2).
ثم قال مبينا مقصود الرافضة فيما ذهبوا إليه من وجوب العصمة قبل البعثة: (وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الأئمة فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر ويدعون أن عليا - رضي الله عنه - لم يزل مؤمنا وأنه لم يخطأ قط ولم يذنب قط وكذلك تمام الاثنى عشر وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع.
ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا وأن ذلك يجب تنزيههم عنه وهم مخطئون: إما في هذه المقدمة وإما في هذه المقدمة)(3).
وقد وضح سبب هذا الخطأ فقال: (وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب «قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام» 3/133، كتاب الحدود باب «الحكم فيمن ارتد» 4/520، ورواه النسائي في كتاب تحريم الدم باب «الحكم في المرتد» 7/103.
(2) المنهاج 2/426- 427، انظر 3/372، 373.
(3) المنهاج 2/429.(1/142)
وكذلك الغلاة في العصمة يعرضون عما أمروا به من طاعة أمرهم والاقتداء بأفعالهم إلى ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم فيتخذونهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم ويدخلون فيما حرمه الله تعالى ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصارى وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عند موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(1) يحذر ما فعلوه قالت عائشة رضي الله عنها: «ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا»)(2).
وقد بين أن (ما تذكره الرافضة من التنزيه إنما هو تعطيل وتنقيص لله ولأنبيائه)(3). فقال: (وأما الأنبياء فإنكم سلبتموهم ما أعطاهم الله من الكمال وعلو الدرجات بحقيقة التوبة والاستغفار والانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه... ولم تعلموا أن هذا من أعظم نعم الله وأعظم قدرته حيث ينقل العباد من النقص إلى الكمال وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير)(4).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب «ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور» 2/91، وفي باب «ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما» 2/106، وفي كتاب الأنبياء باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» 4/144، ومسلم في كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور.... إلخ، 1/376، 377، وفي المسند 5/204.
(2) المنهاج 2/435، انظر المنهاج 1/473- 474.
(3) انظر المنهاج 4/589.
(4) المنهاج 4/590.(1/143)
وقد نقل عن الأشعري أن من الرافضة صنفا غلوا في النبي حتى نسبوا إليه الخلق فقال: (قال(1): ومنهم صنف يزعمون أن الله وكل الأمور وفوضها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأن الله لم يخلق من ذلك شيئا)(2).
وهذا من الخروج عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أذيته، فإن إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حرام في أمته وسنته وغير ذلك(3) (وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } (4) فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ولو كان للناس معصوم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمرهم بالرد إليه فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -)(5).
ثم وضح أن هذه المسائل لا تختص بالإمامية فقال: (وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياء فلم يوافقهم عليه أحد أيضا حيث ادعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسهو(6) فإن هذا لا يوافقهم عليه أحد فيما علمت اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك فإن بينهم وبين الرافضة قدرا مشتركا في الغلو وفي الجهل والانقياد لما لا يعلم صحته.
والطائفتان تشبهان النصارى في ذلك)(7).
__________
(1) المقالات 1/88، قال: والصنف الخامس عشر من أصناف الغالية... فذكره.
(2) المنهاج 2/511.
(3) انظر المنهاج 4/588.
(4) النساء آية 59.
(5) المنهاج 3/380، 381.
(6) انظر المقالات 1/121، وفيه أيضًا:... وكذلك الأئمة لا يجوز عليهم السهو.
(7) المنهاج 2/453.(1/144)
وقد رد رحمه الله على زعم الرافضي بأن أهل السنة يقولون: بأنه يجوز أن يعذب أحدًا من أنبيائه فقال: (أن هذا الذي قاله باطل باتفاق المسلمين فلم يقل أحد منهم أن الله قد يعذب أنبياءه ولا أنه قد يقع منه عذاب أنبيائه بل هم متفقون على أنه يثيبهم لا محالة لا يقع منه غير ذلك لأنه وعد بذلك وأخبر به وهو صادق الميعاد وعلم ذلك بالضرورة)(1).
ثم وضح أنه ليس المراد نفي القدرة، وإنما نفي وقوع ذلك بوعد الله فقال: (إن أراد به أنهم يقولون إن الله قادر على ذلك فهو لا ينازع في القدرة، وإن أراد أنا هل نشك هل يفعله؟ أو لا يفعله فمعلوم: أنا لا نشك في ذلك بل نعلم انتفاءه وعلمنا بانتفائه مستلزم لانتفائه)(2).
ثم رد على زعم الرافضي بأنه إذا جاز أن يسهو النبي أو يقع في خطأ فإن هذا مما ينفي الوثوق ويجب التنفير. فقال: (وأما قوله: "إن هذا ينفي الوثوق ويوجب التنفير" فليس هذا بصحيح فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ولكن غايته أن يقال: هذا موجود فيما تعمد من الذنب فيقال بل إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واستغفاره ومغفرة الله له ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب بخلاف من يقول ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر مني ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته علي ويصر على كل ما يقوله ويفعله بناء على أنه لا يصدر منه ما يرجع عنه.
__________
(1) المنهاج 3/86، 87، انظر 1/446.
(2) المنهاج 3/89.(1/145)
فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكذب والكفر والجهل وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»(1) فكان هذا من أعظم ممادحه وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله»(2) وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام)(3).
ثم ذكر عددًا من الأمثلة في ذلك، مبينا أن هذه الأحوال مما ترفع بها درجات الأنبياء لاعترافهم بفقر العبودية وكمال الربوبية، ثم قال: (وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك وأما اللمم الذي يقترن به التوبة والاستغفار أو ما يقع بنوع من التأويل وما كان قبل النبوة فإنه مما يعظم به الإنسان عند أولي الأبصار.... فعلم أن التوبة والاستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ودعوى السلامة مما يحوج الرجوع إلى الله واللجأ إليه فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثقة فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل.
__________
(1) البخاري كتاب المرضي في باب «تمني المريض الموت» 7/10، مسلم في كتاب المنافقين، باب «لن يدخل أحد الجنة بعمل...» إلخ 4/2169- 2171.
(2) البخاري كتاب الأنبياء باب «واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها» الآية 4/142، والمسند 1/13، 24، 47.
(3) المنهاج 2/403، 404.(1/146)
وأما الأول: فإنه يصدر عن الصادقين العالمين ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها كما يفعله من يفعل ذلك والتوراة فيها قطعة من هذا، وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور وإنما كانوا يقدحون فيهم بالافتراء عليهم).
* * *
المبحث الثالث
تطاولهم على مقام النبوة
من ذلك طعنهم في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإشراكهم عليا معه في الرسالة، و تفضيلهم للاثني عشر على الأنبياء وغيرها: وقد طعنوا في أبي بكر، وقالوا: إنه يظهر موالاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويبطن معاداته والطعن في الصحابة طعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الكلام ينطبق عليهم تمامًا وكل إناء بما فيه ينضح: قال شيخ الإسلام في معرض رده لهذه الفرية: (فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو(1) لا يعلم ذلك والكلام بلا علم لا يجوز وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له لا إخبار منكر له فعلم أن قوله إن الله معنا من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه.
وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم ويطلبون قتله وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره وقد أظهر له هذا حزنه وهو مع ذلك عدو له في الباطن والمصحوب يعتقد أنه وليه وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم.
فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة)(2).
__________
(1) الضمير يعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
(2) المنهاج 8/430.(1/147)
(وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول)(1).
وقال في موضع آخر مبينا تفنيد هذا الزعم الباطل: (وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم ضمير ذلك قط وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع فهل يظن ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته. فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل عدو عاقل خير من صديق جاهل)(2).
وبين أنهم (مخالفون للقرآن والسنة المتواترة ولإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان)(3).
وأن باطن أمرهم الطعن في الرسالة، قال رحمه الله: (وأما الرافضة فيطعنون في الصحابة ونقلهم وباطن أمرهم الطعن في الرسالة)(4).
وقد بلغ بالرافضة حقدهم على الإسلام إلى أذية الله ورسوله قال شيخ الإسلام: (كما يذكر عن بعض الرافضة أنه آذى الله ورسوله بسبب تقديم الله ورسوله لأبي بكر وعمر وعن بعضهم أنهم كانوا يقرءون شيئا من الحديث في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتوا على فضائل أبي بكر فلما سمعها قال لأصحابه: «تعلمون والله بلاءكم من صاحب هذا القبر يقول مروا أبا بكر فليصل بالناس لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر»(5))(6).
__________
(1) المنهاج 8/431.
(2) المنهاج 8/478، سيأتي تتمة لهذا في الفصل الأول من الباب الثاني إن شاء الله.
(3) انظر المنهاج 4/177.
(4) المنهاج 3/463.
(5) سيأتي تخريج هذه الأحاديث في الباب الثاني الفصل الأول.
(6) المنهاج 5/137- 138.(1/148)
وقال مبينا تفضيلهم للاثني عشر على من سواهم من المسلمين: (والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغاليتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء لأنهم يعتقدون فيهم الإلهية كما اعتقدته النصارى في المسيح)(1).
(ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم. ومنهم من ادعى إلهية البشر، وادعى النبوة في غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وادعى العصمة في الأئمة، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف)(2).
وقد وضح أن منهم من ادعى إشراك علي - رضي الله عنه - في النبوة، ومنهم من ادعى النبوة لنفسه، فقال مبينا بطلان تفسيرهم لبعض آيات القرآن كقوله تعالى: { وأشركه في أمري } (3) فقال: (فصرحوا هنا بأن عليا كان شريكه في أمره كما كان هارون شريك موسى وهذا قول من يقول بنبوته وهذا كفر صريح وليس هو قول الأمامية وإنما هو من قول الغالية.
وليس الشريك في الأمر هو الخليفة من بعده فإنهم يدعون إمامته بعده ومشاركته له في أمره في حياته وهؤلاء الأمامية وإن كانوا يكفرون من يقول بمشاركته له في النبوة لكنهم يكثرون سوادهم في المقال والرجال بمن يعتقدون فيه الكفر والضلال وبما يعتقدون أنه من الكفر والضلال لفرط منابذتهم للدين ومخالفتهم لجماعة المسلمين وبغضهم لخيار أولياء الله المتقين واعتقادهم فيهم أنهم من المرتدين فهم كما قيل في المثل [رمتني بدائها وانسلت](4))(5).
__________
(1) المنهاج 1/481- 482.
(2) المنهاج 2/34، انظر المنهاج 1/374.
(3) سورة طه / 32.
(4) الأمثال لأبي عبيد باب «تعيير الإنسان صاحبه بعيب هو فيه»/73.
(5) المنهاج 7/276.(1/149)
وقال: (وأما الشيعة فكثير منهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك(1) إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم من الداخلين في الشيعة... وأول هؤلاء بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب(2) فإنه كان أمير الشيعة وقتل عبيدالله بن زياد(3) وأظهر الانتصار للحسين حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه)(4).
وقد وضح أن هذا ردة عن الإسلام و(أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف)(5).
***
الباب الثاني
موقفهم من الصحابة
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول / أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -.
الفصل الثاني / عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
الفصل الثالث / عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
الفصل الرابع / علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
الفصل الخامس / بقية الصحابة رضي الله عنهم.
الفصل الأول
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -
المبحث الأول: فضائله:
المطلب الأول: خصائصه:
سأذكر في هذا الفصل فضائل الصديق ومناقبه، مبتدئا بذكر خصائصه في الفضائل العامة ثم خلافته ثم أختم الفصل بذكر مطاعن الرافضة عليه، والرد عليها، فأقول:
__________
(1) أي بالتملك والتسلط.
(2) المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، أبو إسحاق، كان أبوه من جلة الصحابة، ولد عام الهجرة، وليس له صحبة، ولا رؤية، وأخباره غير مرضية قتله مصعب بن الزبير بالكوفة سنة 67هـ، الإصابة 10/77، الأعلام 7/192.
(3) عبيد الله بن زياد بن أبيه أبو حفص أمير العراق ولي البصرة سنة 55 هـ، وله 22 سنة، ت سنة 67هـ، قتله المختار بن عبيد الله الثقفي الكذاب، انظر السير 3/545- 549، البداية والنهاية 8/283، الشذرات 1/74.
(4) المنهاج 2/68، 69، انظر المنهاج 3/459.
(5) المنهاج 3/459، انظر 4/329.(1/150)
أ- من خصائصه، أنه أعلم الصحابة: (وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر فقال: «إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبك أبا بكر إن من أمّن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر»(1))(2).
وهذا هو أمر مشهور.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب «الخوخة والممر في المسجد» 1/119، 120، وكتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر» 4/190، 191، وفي كتاب مناقب الأنصار باب «هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة» 4/253، 245، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب «من فضائل أبي بكر الصديق» 4/1854، 1855، وغيرهما.
(2) المنهاج 8/ 549، انظر 8/425- 427، 498، 5/20، 35، 7/283، 375، 505.(1/151)
ب- إنفاقه في سبيل الله: (وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة وأن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد وأن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة» فقال أبو بكر: يا رسول الله فما على من دعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم»(1) ولم يذكر هذا لغير أبي بكر - رضي الله عنه -...
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما نفعني مال كمال أبي بكر»(2) وهذا صريح في اختصاصه بهذه الفضيلة لم يشركه فيها علي ولا غيره)(3).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب «الريان للصائمين» 2/ 277، وكتاب «بدء الخلق» باب «ذكر الملائكة صلوات الله عليهم» 4/80، وغيرها، ومسلم في كتاب الزكاة باب «من جمع الصدقة والبر» 2/711، 712، 713، وغيرها. فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/196، 197.
(2) المسند تحقيق أحمد شاكر 13/83، وكذلك 16/320، 321، وصححه، والترمذي كتاب المناقب باب مناقب أبي بكر 5/609، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه في المقدمة 1/36، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/64- 68، وفي مسند الحميدي 1/121، وكذا الألباني في صحيح الجامع 5/190.
(3) المنهاج 7/161- 163.(1/152)
(وفي الترمذي وسنن أبي داود عن عمر - رضي الله عنه - قال امرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق فوافق منى مالا فقلت اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته قال فجئت بنصف مالي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت مثله واتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟» قال: الله ورسوله قلت: «لا أسابقه إلى شيء أبدا»(1))(2).
جـ- ومن خصائصه كونه أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(ثبت في الصحيحين عن ابن عباس(3) رضي الله عنهما من خطبة عمر التي قال فيها:
__________
(1) سنن الترمذي في كتاب المناقب، باب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كلهما 5/614، 615، وأبو داود في كتاب الزكاة باب الرخصة في ذلك 2/312، 313، سنن الدارمي كتاب الزكاة باب «الرجل يتصدق بجميع ما عنده» 1/329.
(2) المنهاج 7/164.
(3) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفهم في القرآن فكان يسمى الحبر والبحر لسعة علمه، توفي سنة 68هـ، بالطائف، الخلاصة 2/69، 70، التقريب / 309.(1/153)
[وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، وذكر الحديث، وفيه أن الصديق قال: [ولقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم] فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة(1) -وهو جالس بيننا- فلم أكره مما قال غيرها، كان - والله - أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول لي نفسي شيئا عند الموت لا أجده الآن(2))(3).
(قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، يعني بلال(4))(5).
(وفي الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه - قال: أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(6))(7).
__________
(1) هو عامر بن عبد الله بن الجراح، أحد السابقين الأولين، وأحد المبشرين بالجنة سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة، غزا غزوات كثيرة توفي سنة 18هـ، السير 1/ 5- 23، الخلاصة 2/ 23.
(2) رواه البخاري في الكتاب الحدود باب «رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت» 8/25- 28 المسند تحقيق أحمد شاكر 1/323- 327، وقال: وروى بعضه مسلم 2/33، من طريق يونس، ولم أجده فيه.
(3) المنهاج 8/277- 278، انظر 4/465، 5/468.
(4) رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي ص4، باب «مناقب بلال بن رباح مولى أبي بكر»... إلخ، 7/187.
(5) المنهاج 7/187.
(6) البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -... إلخ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت متخذا خليلا... إلخ» 4/194، كتاب الحدود باب «رجم الحبلى» 8/168- 171، ولم أجده في مسلم. السنة لابن أبي عاصم 2/556، وحسنه الألباني في ظلال الجنة.
(7) المنهاج 7/283، 284، 375، 376، انظر 1/518، 4/466.(1/154)
(بل روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته: «أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه، فإنه لم يسؤني قط»(1))(2).
(وفي سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: «أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي»(3))(4).
د- من خصائص صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار: (إن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى: { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } (5)، فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الله معه ومع صاحبه، كما قال لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } (6)).
وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس(7) عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: (نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»(8).
__________
(1) الطبراني في الكبير 6/126، 127، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/282، تاريخ الخلفاء /52، الإصابة 4/280.
(2) المنهاج 7/235.
(3) سنن أبي داود في كتاب السنة باب «في الخلفاء» 5/41، والمستدرك 3/73، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 392.
(4) المنهاج 7/163.
(5) التوبة/ 40.
(6) طه/ 46.
(7) أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خدمه عشر سنين توفي سنة 92هـ، وقيل غيرها. الخلاصة 1/105، التقريب 115.
(8) البخاري في تفسير القرآن «تفسير سورة التوبة» باب قوله: { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِِ } 5/224، وكتاب مناقب الأنصار باب «هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة» 4/ 263، وغيرها، وكتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - 4/1854، المسند 1/ 159، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، و غيرهم.(1/155)
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه يقول: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (1))(2).
(ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة وهي خصائص مثل حديث المخالفة(3) وحديث إن الله معنا وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(4) وحديث الإتيان إليه بعده(5) وحديث كتابة العهد إليه بعده(6) وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة وتركه له(7) وهو قوله:« فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!»(8) وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط(9)
__________
(1) التوبة / 40.
(2) المنهاج 8/372، انظر 8/463- 446.
(3) تقدم تخريجه قريبا.
(4) رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «قول النبي: لو كنت متخذا خليلا.... إلخ» 4/ 192، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب «من فضائل أبي بكر الصديق» 4/ 1856، المسند 4/203، 6/141، وفي فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/197، 2/740، وغيرهم.
(5) رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي باب «قول النبي: لو كنت متخذا من أمتي خليلا...» 4/191، مسلم في كتاب فضائل الصحابة من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - 4/1855- 1857.
(6) رواه البخاري في كتاب المرضى باب قول المريض: إني وجع... إلخ 7/7-9، وفي كتاب الأحكام باب الاستخلاف 8/125، 126، مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - 4/1857.
(7) البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت متخذا خليلا» إلخ 4/192، وفي تفسير القرآن «سورة الأعراف» باب «قوله تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ } » 5/197، وغيره.
(8) سبق تخريجه.
(9) هو عقبة بن أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس من مقدمي قريش في الجاهلية كان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدعوة، فأسر يوم بدر وقتل، الأعلام 4/240، الكامل في التاريخ 2/ 130، البداية والنهاية 3/ 305- 306.(1/156)
لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟!(1) وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج(2) وصبره وثباته بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقياد الأمة له وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة(3)، وأمثال ذلك)(4).
المطلب الثاني: بقية الفضائل:
أ- علمه:
قال شيخ الإسلام في التعليق على قول الرافضي عن علي: («الثالث: أنه كان أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
__________
(1) البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي باب «حدثنا الحميدي ومحمد بن عبد الله » 4/197، 198، وفي كتاب مناقب الأنصار باب «ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -» 4/239، 240، وقال ابن كثير بعد أن ذكر الحديث: «انفرد به البخاري، وقد رواه في أماكن من صحيحه، وذكر عددًا ممن خرجوه»، انظر البداية والنهاية 3/44- 46.
(2) رواه البخاري في كتاب الحج باب «لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك» 2/164، وفي كتاب تفسير سورة براءة باب قوله تعالى: { وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ } ... إلخ 5/202، 203، وفي كتاب الصلاة «باب ما يستر من العورة» 1/197، مسلم في كتاب الحج باب «لا يحج البيت مشرك ولا يطوف...» إلخ 2/982.
(3) مسلم في كتاب فضائل الصحابة من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - 4/1857، وكتاب الزكاة باب من جمع الصدقات وأعمال البر 2/713.
(4) المنهاج 8/419.(1/157)
والجواب: أن أهل السنة يمنعون ذلك ويقولون ما اتفق عليه علماؤهم أن أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر وقد ذكر غير واحد الإجماع(1) على أن أبا بكر اعلم الصحابة كلهم ودلائل ذلك مبسوطة في موضعها فانه لم يكن أحد يقضي ويخطب ويفتي بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو بكر - رضي الله عنه - ولم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصله أبو بكر فانهم شكوا في موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينه أبو بكر ثم شكوا في مدفنه فبينه ثم شكوا في قتال مانعي الزكاة فبينه أبو بكر وبين لهم النص في قوله تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ } (2) وبين لهم أن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة(3) ونحو ذلك وفسر الكلالة(4) فلم يختلفوا عليه.
__________
(1) مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره انظر المنهاج 5/497، وستأتي ترجمته.
(2) الفتح/ 27، والحديث رواه البخاري في كتاب التفسير تفسير سورة الفتح (6/45- 46) ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب صلح الحديبية 3/1411، 1412، وفيه فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: ففيما نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا ؟ فقال: يا ابن الخطاب أني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال: يا ابن الخطاب، أنه رسول الله ولن يضيعه أبدا فنزلت سورة الفتح، ورواه غيرهما.
(3) مر الحديث في أول الفصل.
(4) انظر السنن الكبرى للبيهقي 6/224، وسنن الدارمي 2/264، ومصنف عبد الرازق 10/304، وتفسير الطبري سورة النساء عند قوله تعالى: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } 8/53، 45، 55 تحقيق محمود شاكر، والدر المنثور عند تفسير الآية السابقة 2/756.(1/158)
وكان علي وغيره يروون عن أبي بكر كما في السنن عن علي قال كنت إذا سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته حدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين يستغفر الله تعالى إلا غفر له»(1).
ولم يحفظ لأبي بكر فتيا تخالف نصًا... والصواب في الجد قول الصديق كما قد بينا ذلك في مصنف مفرد(2)، وذكرنا فيه عشرة وجوه تدل على صحة قوله وجمهور الصحابة معه في الجد نحو بضعة عشر منهم والذين نقل عنهم خلافه كزيد وابن مسعود واضطربت أقوالهم اضطرابا يبين أن قوله هو الصواب دون قولهم.
__________
(1) الحديث مع اختلاف في بعض الألفاظ عن علي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في سنن أبي داود 2/180 كتاب الصلاة باب الاستغفار. والترمذي 2/257، 258، كتاب الصلاة باب ما جاء في الصلاة عند التوبة، وقال: «حديث علي حسن»، وفي سنن ابن ماجه 1/446، كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في أن الصلاة كفارة، وفي المسند (ط. المعارف) تحقيق أحمد شاكر 1/ 153، 154، 174، 158، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه: «إسناده صحيح في المواضع الأربعة»، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب عند ترجمة أسماء بن الحكم في الكلام على هذا الحديث 1/267، 268: هذا الحديث جيد الإسناد.
(2) ذكره ابن عبد الهادي في العقود الدرية تحقيق الفقي/ 95، فقال: وله مسألة في أن الجد يسقط الأخوة.(1/159)
وقد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم من علي منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي(1) أحد أئمة الشافعية وذكر في كتابه «تقويم الأدلة» الإجماع من علماء السنة أن أبا بكر أعلم من علي كيف وأبو بكر كان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتي ويأمر وينهى ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - -هو وإياه- يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد وهو ساكت يقره ولم تكن هذه المرتبة لغيره)(2).
__________
(1) لعله منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني المروزي التميمي أبو المظفر، فإني لم أجد في السمعانين عالمًا اسمه منصور بن عبد الجبار، ومنصور هذا ولد سنة 426هـ، وتعلم الفقه ونبغ في مذهب أبي حنيفة على والده، ثم تحول شافعيا، قال الذهبي: «مفتي خراسان شيخ الشافعية» من كتبه «التفسير» وهو مشهور وكتاب «القوامية» قال السبكي: وكان صنفها لنظام الملك في تقديم أدلة الإمامة «قال أهل السنة: أبو بكر - رضي الله عنه - أفضل الصحابة في جميع الأشياء» السير 19/114- 119، البداية والنهاية 7/153، اللباب 2/138- 139، الشذرات 3/393، طبقات الشافعية للسبكي 4/21- 26، وفيه منصور بن أحمد.
(2) المنهاج 7/500- 502، انظر 5/496- 503، 513، 8/61.(1/160)
وقال: (وأيضا فإن الصديق استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة التي هي عمود الإسلام وعلى إقامة المناسك قبل أن يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادى: «أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» وأردفه بعلي فقال: أمير أم مأمور؟ فقال بل مأمور فأمر أبا بكر على عليِّ فكان ممن أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ويطيع لأبي بكر(1).
وهذا بعد غزوة تبوك التي استخلف فيها عليا على المدينة.
وكتاب أبي بكر في الصدقات(2) أصح الكتب وآخرها ولهذا عمل به عامة الفقهاء وغيره في كتابه ما هو متقدم منسوخ فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد(3) قال كان أبو بكر أعلمنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.(4)
__________
(1) البخاري في كتاب الصلاة باب ما يستر من العورة 1/97، وفي كتاب الحج باب لا يطوف بالبيت عريان... إلخ 2/164، وفي كتاب المعازي باب حج أبي بكر بالناس... إلخ 5/115، وغيرها، سنن أبي داود في كتاب الحج باب يوم الحج الأكبر 2/483، سنن النسائي في كتاب مناسك الحج باب قوله: «خذوا زينتكم»... إلخ 5/336، سنن الدارمي كتاب السير باب في الوفاء للمشركين في العهد 2/154، 155، المسند تحقيق أحمد شاكر 1/56، 2/32، 15/133، وكلها يقول: إسنادها صحيح.
(2) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب العرض في الزكاة 2/122، وفي باب زكاة الغنم 2/123، 124، وغيرها. وفي كتاب الحيل باب في الزكاة 8/59، 60، والإمام أحمد 1/183، تحقيق أحمد شاكر، والنسائي في الزكاة باب زكاة الإبل 5/18- 23، والحاكم في كتاب الزكاة 1/390، 391، 392، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الزكاة باب كيف فرض الصدقة 4/58، وغيرهم.
(3) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، له ولأبيه صحبة استصغر بأحد ثم شهد ما بعدها. ت بالمدينة سنة 74 هـ، وقيل: قبل ذلك. الخلاصة 1/371، التقريب / 232.
(4) سبق في أول هذا الفصل.(1/161)
وأيضا فالصحابة لم يتنازعوا في زمن أبي بكر في مسألة إلا فصلها وارتفع النزاع فلا يعلم بينهم في زمانه مسألة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفنه وميراثه وتجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك من المسائل الكبار.
بل كان - رضي الله عنه - هو خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم حقا يعلمهم ويقومهم ويشجعهم ويبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون.
وبعده فلم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله فصاروا يتنازعون في بعض المسائل كما تنازعوا في الجد والأخوة وفي الحرام(1) والطلاق الثلاث وفي متعة الحج ونفقة المبتوتة وسكناها وغير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر.
وكانوا يخالفون عمر وعثمان وعليا في كثير من أقوالهم ولم يعرف أنهم خالفوا الصديق في شيء مما كان يفتي به ويقضي وهذا يدل على غاية العلم)(2).
وقد بين فضل أبي بكر ورعيته على علي ورعيته فقال: (وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين تعلموا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العلم والدين فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأدينها وأما الذين كان علي يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين وكان كثير منهم من شرار التابعين ولهذا كان علي - رضي الله عنه - يذمهم ويدعو عليهم وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرا منهم وقد جمع الناس الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر.
__________
(1) المقصود به إذا قال الإنسان لزوجته: إنها عليه حرام هل هو طلاق أم ظهار أم يمين.
(2) المنهاج 7/508، 509، انظر 7/517- 522، وفيه نقل شيخ الإسلام رد ابن حزم على ادعاء الرافضة أن عليا أعلم من أبي بكر.(1/162)
ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم ولم يكن يعرف منهم اختلاف على عهده وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر)(1). وقد سبق حديث: «إن عبدًا خيره الله»، وفيه وكان أبو بكر أعلمنا(2).
ب- كمال إيمان أبي بكر:
ثم ذكر كمال إيمان أبي بكر فقال: (وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «من اصبح منكم اليوم صائما؟» فقال أبو بكر: أنا قال: «فمن تبع منكم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا قال: «هل فيكم من عاد مريضا؟» قال أبو بكر: أنا قال: «هل فيكم من تصدق بصدقة؟» فقال أبو بكر أنا قال: «ما اجتمع لعبد هذه الخصال إلا وهو من أهل الجنة»(3) وهذه الأربعة لم ينقل مثلها لعلي ولا لغيره في يوم)(4).
(ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه.
ولهذا قيل لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح)(5).
(وأيضا فقيامه بقتال المرتدين ومانعي الزكاة وتثبيت المؤمنين، مع تجهيز جيش أسامة مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا وقد روي أنه قيل له لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لفاضها وما نراك ضعفت فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى حزني -أو كما قال- لا عليك يا أبا بكر فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام)(6).
__________
(1) المنهاج 5/507، 508.
(2) تقدم قريبا.
(3) سبق تخريجه.
(4) المنهاج 7/161.
(5) المنهاج 8/493.
(6) المنهاج 8/455.(1/163)
و(كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا» فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان فاستاء لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:« خلافة نبوة ثم يؤتى الله ملكه من يشاء»(1).
وقال أبو بكر بن عياش(2): ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه(3))(4).
وقال استدلالا بقصة استصحاب النبي لأبي بكر في العريش يوم بدر على قوة إيمان أبي بكر وكماله: (من المعلوم لعامة العقلاء أن مقدم القتال المطلوب الذي قصده أعداؤه يريدون قتله إذا أقام في عريش أو قبة أو حركاه أو غير ذلك مما يجنه ولم يستصحب معه من أصحابه إلا واحدا وسائرهم خارج ذلك العريش لم يكن هذا إلا أخص الناس به وأعظمهم موالاة له وانتفاعا به وهذا النفع في الجهاد لا يكون إلا مع قوة القلب وثباته، لا مع ضعفه وخوره، فهذا يدل على أن الصديق كان أكملهم إيمانا وجهادا وأفضل الخلق هم أهل الإيمان والجهاد فمن كان أفضل في ذلك كان أفضل مطلقا)(5).
__________
(1) سنن الترمذي في كتاب الرؤيا باب ما جاء في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -... إلخ 4/540، وقال: حديث حسن صحيح، سنن أبي داود في كتاب السنة باب الخلفاء 5/29، 30، المسند 5/44، 50.
(2) أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط ثقة عابد إلا لما كبر ساء حفظه مشهور بكنيته والأصح أنها اسمه. ت سنة 194، وقيل قبل ذلك، التقريب 624، الخلاصة 3/204، وفيها ت 173هـ.
(3) لم أجده بهذا اللفظ عن أبي بكر بن عياش ولكن وجدت في فضائل الصحابة للإمام أحمد عن بكر بن عبد الله المزني: «أن أبا بكر لم يفضل الناس بأنه كان أكثرهم صلاة وصوما، إنما فضلهم بشيء كان في قلبه» فضائل الصحابة 1/141.
(4) المنهاج 8/493.
(5) المنهاج 8/539.(1/164)
وقد بين تفضيل الأمة لأبي بكر وتقديمها له، والإجماع على ذلك فمن ذلك ذكره لما ورد عن عمر في تقديمه لأبي بكر، و معرفته لفضله وقد سبق في الخصائص، ومن ذلك ما ذكره من قول علي وتفضيله لأبي بكر على من سواه من الصحابة حيث قال: (وطائفة كانت تفضله حتى قال: لا يبلغني عن أحد أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري(1).
وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجها أنه قال على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر(2). وفي صحيح البخاري وغيره.... أنه قال وقد سأله ابنه محمد ابن الحنفية(3) يا أبت من خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال أبو بكر قال: ثم من قال: ثم عمر قال: ثم أنت قال: إنما أبوك رجل من المسلمين)(4) وذكر رواية أخرى ثم قال: (وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه ولخاصته ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما ويراه مفتريا والمتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما يقول الحق ولا يسميه مفتريا)(5).
__________
(1) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/83، 294، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1295.
(2) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/78، 80، 84، 90، 147، 223، 304، 410، وغيرها كثير.
(3) محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو القاسم "ابن الحنفية" المدني ثقة عالم توفي بعد الثمانين، التقريب /497، الخلاصة 2/440.
(4) البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب قول النبي: لو كنت متخذا خليلا.. 4/195، وسنن أبي داود في كتاب السنة باب في التفضيل 5/26، مصنف ابن أبي شيبة كتاب الفضائل /12/12، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/153، 154، وغيرهم.
(5) المنهاج 7/511، 512، انظر 1/11، 12، 308، 7/284، 385، 2/72، 137، 178.(1/165)
وقال: (روى الترمذي(1) وغيره مرفوعا عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين لا تخبرهما يا علي»(2))(3).
وقد ذكر ما في الصحيحين مما قاله علي عند موت عمر فقال: (وكما في الصحيحين عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون له ويثنون عليه ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي فترحم على عمر وقال ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله أن كنت لأظن إن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كثيرا ما كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما»(4))(5).
(وقد وضح أن المتواتر عن ابن عباس أنه كان يفضل على علي أبا بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين)(6).
__________
(1) هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي أبو عيسى صاحب «الجامع» أحد الأئمة ت سنة 279هـ، التقريب / 500، الخلاصة 2/447.
(2) سنن الترمذي في كتاب المناقب باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما 5/610- 611، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، المسند تحقيق أحمد شاكر 2/37، 38، وقال: إسناده صحيح، وابن ماجه في المقدمة 1/36، 38، وصححه الألباني في صحيح الجامع 6/75، وغيرهم.
(3) المنهاج 7/285.
(4) البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي باب مناقب عمر بن الخطاب 4/199، وباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت متخذا خليلا....» إلخ 4/197، مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر - رضي الله عنه - 4/1858- 1859، وغيرهم.
(5) المنهاج 7/390، 391.
(6) انظر المنهاج 7/232.(1/166)
(وثبت عن ابن عباس أنه كان يفتي بكتاب الله فإن لم يجد فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر ولم يكن يفعل ذلك بعثمان ولا بعلي وابن عباس هو حبر الأمة وأعلم الصحابة في زمانه وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدما لهما على قول غيرهما...)(1).
ثم بين موقف الأمة من الصديق وتعظيمها له وذلك من نقل الإجماع على ذلك: (ولم تعظَّم الأمة أحدا بعد نبيها كما عظمت الصديق ولا أطاعت أحدا كما أطاعته من غير رغبة أعطاهم إياها ولا رهبة أخافهم بها بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعا مقرين بفضله واستحقاقه ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم ومراجعتهم له وهذا أمر لا يشركه فيه غيره)(2).
__________
(1) المنهاج 7/503.
(2) المنهاج 8/276، انظر 2/50، 51.(1/167)
(وأما أئمة المسلمين المشهورون فكلهم متفقون على أن أبا بكر وعمر أفضل من عثمان وعلي ونقل هذا الإجماع غير واحد كما روى البيهقي(1) في كتاب "مناقب الشافعي" مسنده عن الشافعي قال ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة(2) وروى مالك عن نافع(3) عن ابن عمر(4) قال: "كنا نفاضل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنقول: خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر"(5) وقد تقدم نقل البخاري عن علي هذا الكلام)(6).
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) مناقب الشافعي للبيهقي تحقيق أحمد صقر 1/434.
(3) نافع أبو عبد الله مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور ت سنة 117هـ أو بعد ذلك التقريب /559، الخلاصة 3/89.
(4) عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن ولد بعد المبعث بيسير واستصغر يوم أحد، أحد المكثرين من الصحابة، كان من أشد الناس اتباعا للأثر ت سنة 73هـ، التقريب / 315 الخلاصة 2/81، وفيه ت 74هـ.
(5) البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب فضل أبي بكر، 4 / 191، وفي كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 86، كتاب السنة لابن أبي عاصم 2/567.
(6) المنهاج 7/368، 369، انظر 7/286.(1/168)
(وكذلك أيضا لم يختلف علماء الإسلام في ذلك كما هو قول مالك وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه وداود(1) وأصحابه والثوري وأصحابه، والليث(2) وأصحابه والأوزاعي(3) وأصحابه، وإسحاق(4) وأصحابه، وابن جرير(5) وأصحابه وأبي ثور(6) وأصحابه وكما هو قول سائر العلماء المشهورين إلا من لا يؤبه له ولا يلتفت إليه)(7).
__________
(1) داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان الملقب بالظاهري أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام، تنسب إليه الظاهرية ولد بالكوفة، وسكن بغداد وت سنة 270هـ، الأعلام 2/333، السير 13/97- 108، تذكرة الحفاظ 2/572، ميزان الاعتدال 2/14، طبقات السبكي 2/42.
(2) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت فقيه إمام مشهور ت سنة 175، التقريب / 464، الخلاصة 2/371.
(3) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي أبو عمرو الفقيه ثقة جليل ت سنة 157هـ، التقريب /347، الخلاصة 2/ 146، 147.
(4) إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أبو محمد بن راهويه المروزي ثقة حافظ مجتهد، قرين أحمد بن حنبل -ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير ت سنة 238 هـ، التقريب / 99، تهذيب الكمال 2/373- 388، السير 11/ 358- 383.
(5) محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري ولد سنة 224هـ، وهو صاحب التفسير الذي لم يؤلف مثله، وله كتب كثيرة واختيارات، تفرد في مسائل حفظت عنه، ت سنة 310هـ، البداية والنهاية 11/145- 146، تاريخ بغداد 2/163- 169.
(6) إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي أبو ثور الفقيه صاحب الشافعي ثقة ت سنة 240هـ التقريب / 89، الخلاصة 1/44.
(7) المنهاج 7/286، انظر 2/71، 73، 6/135، 476.(1/169)
(ولهذا لما سأل الرشيد(1) مالك بن أنس عن منزلتهما -يعني أبا بكر وعمر- من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه في مماته» فقال: «شفيتني يا مالك شفيتني يا مالك»(2))(3).
(وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة علي - رضي الله عنه -.
__________
(1) أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، تولي الخلافة بعد الهادي - أخوه- وكان يحب المديح ت سنة 193 هـ، السير 9/286- 294، الشذرات 1/334- 339.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1299، بمعناه، الاعتقاد للبيهقي /239.
(3) المنهاج 7/506.(1/170)
وروى ابن بطة(1) عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق(2) حدثنا محمد بن حميد(3) حدثنا جرير(4) عن سفيان(5) عن عبد الله بن زياد(6) عن حدير(7) قال قدم أبو إسحاق السبيعي(8) الكوفة، قال لنا شمر بن عطية(9) قوموا بنا إليه فجلسنا إليه فتحدثوا فقال
__________
(1) عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن عتبة بن فرقد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبو عبد الله العكبري، سبقت ترجمته.
(2) هو الشيخ الزاهد الجليل الإمام، أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق البغدادي شيخ الصوفية توفي سنة 298هـ، وعاش 84 سنة، السير 13/494- 495، لسان الميزان 1/292، 293، تاريخ بغداد 5/100- 103.
(3) هو محمد بن حميد بن حيان التيمي الرازي العلامة، أبو عبد الله الحافظ، قال الذهبي: "كان من أوعية العلم لكن لا يحتج به "، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، ت سنة 248هـ، السير 11/ 503- 506، الشذرات 2/218، العبر 1/356، التقريب / 475.
(4) هو جرير بن عبد الحميد بن قرط الرازي الضبي، محدث الري في عصره، كان ثقة، ولد سنة 110 هـ، بالري توفي فيها سنة 188 هـ، السير 9/9- 18، التاريخ ليحيى بن معين 2/81، تهذيب الكمال 4/540- 551.
(5) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ، عابد إمام حجة سبقت ترجمته.
(6) عبد الله بن زياد أبو مريم الأسدي الكوفي ثقة روى له البخاري وغيره، التقريب /303، تهذيب التهذيب 5/221، تهذيب الكمال 14/533.
(7) حدير مصغرًا أخره راء بن كريب الحضرمي أو الحميري أبو الزاهرية، الحمصي، كان أميا، ثقة ابن معين ت سن 100هـ، الخلاصة 1/268، التقريب /154.
(8) هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي أبو إسحاق، الكوفي، أحد الأعلام، ثقة، وقال الذهبي عنه: حديثه محتج به في دواوين الإسلام ت سنة 127 على الصحيح. السير 5/392- 400، الخلاصة 2/290.
(9) شمر بن عطية الأسدي الكاهلي الكوفي صدوق، انظر التقريب 268، الخلاصة 1/457.(1/171)
أبو إسحاق خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدري ما يقولون؟!(1)...
وقال أحمد بن حنبل حدثنا ابن عيينة(2) عن خالد بن سلمة(3) عن الشعبي(4) عن مسروق(5) قال: «حب أبي بكر وعمر، ومعرفة فضلهما من السنة(6)» ومسروق من أجل تابعي الكوفة وكذلك قال طاووس(7): «حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة»(8) وقد روي ذلك عن ابن مسعود(9))(10).
__________
(1) لم أجده.
(2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران بن ميمون الهلالي، أبو محمد الكوفي ثم المكي ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بآخرة، وكان ربما دلس لكن عن الثقات، ت سنة 98هـ، وقيل سنة 91 التقريب /245، الخلاصة 1/397.
(3) خالد بن سلمة بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي الكوفي صدوق، رمي بالإرجاء وبالنصب، ت سنة 132هـ، التقريب / 188، الخلاصة 2/279.
(4) هو عامر بن شراحيل الشعبي، أبو عمرو، ثقة مشهور فقيه فاضل، قال مكحول: «ما رأيت أفقه منه» ت بعد المائة، التقريب / 287، الخلاصة 2/22.
(5) مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم ت سنة 62 هـ، الخلاصة 2/21، التقريب / 528.
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1239، السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 2/580.
(7) طاووس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن الحميري، مولاهم الفارسي يقال اسمه ذكوان وطاووس لقب، ثقة، فقيه فاضل ت سنة 106هـ التقريب / 281، الخلاصة 2/15.
(8) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1239.
(9) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين ومن كبار العلماء من الصحابة، أمره عمر على الكوفة، ت سنة 32هـ، التقريب / 323، الخلاصة 2/99، وقوله هذا موجود في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1237- 1238، 1239.
(10) المنهاج 6/134- 137.(1/172)
وبين أن شيعة علي الذين صحبوه كان يقدمون أبا بكر فقال: (وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر لا في فقه ولا علم ولا دين بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر)(1).
وقد ذكر أن تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر على علي أمر مشهور يعرفه حتى المشركون، فقال: (بل كان يفضل عليه أبا بكر وعمر تفضيلا بينا ظاهرا عرفه الخاصة والعامة حتى أن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك.
ولما كان يوم أحد قال أبو سفيان(2) وكان حينئذ أمير المشركين أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ ثلاثًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجيبوه» فقال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه إن قال كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد بقي لك ما يسوؤك. وقد ذكر باقي الحديث رواه البخاري وغيره(3).
__________
(1) المنهاج 7/510، انظر المنهاج 2/72، 6/135، 7/369، 391.
(2) صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، أبو سفيان صحابي شهير أسلم عام الفتح ت سنة 32 هـ، التقريب / 275، الخلاصة 1/446.
(3) البخاري كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب 4/26، 27، كتاب المغازي باب غزوة أحد 5/29، 30، المسند 4/293.(1/173)
فهذا مقدم الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر لعلمه وعلم الخاص والعام أن هؤلاء الثلاثة هم رءوس هذا الأمر وأن قيامه بهم ودل ذلك على أنه كان ظاهرا عند الكفار أن هذين وزيراه وبهما تمام أمره وأنهما أخص الناس به وأن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما. وهذا أمر كان معلوما للكفار فضلا عن المسلمين والأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا)(1).
__________
(1) المنهاج 7/389، 390، انظر 5/21، 22، 7/197- 199، 506.(1/174)
وقد بين أن سيد القارة «ابن الدغنة»(1) كان معظمًا لأبي بكر وقد وصفه بما وصفت به خديجة(2) رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «فإن مثلك لا يخرج ولا يُخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتُقري الضيف وتعين على نوائب الحق»(3) فهذه صفة أفضل الصديقين كصفة أفضل النبيين(4).
جـ- محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له:
__________
(1) بضم المهملة والمعجمة، وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه، وتخفيف النون - اسم أمه - وقيل أم أبيه، وقيل: دابته، واختلف في اسمه فقيل: إنه الحارث بن يزيد، وقيل اسمه مالك، و«القارة» بالقاف وتخفيف الراء قبيلة مشهورة من بني الهون كانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكان يضرب بهم المثل في قوة الرمي، "فتح الباري" كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 7/233، عن عائشة رضي الله عنها.
(2) خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي، القرشية الأسدية، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأول من صدقت ببعثته مطلقا، تزوجها الرسول، وعمرها أربعون سنة فولدت له القاسم وعبد الله، وأربع بنات توفيت سنة 10 للبعثة وقيل غير ذلك كما ذكر ابن كثير، الإصابة 12/213- 218، البداية والنهاية 3/127.
(3) البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 4/254، وفي كتاب الكفالة باب جوار أبي بكر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعقده، 3/58.
(4) انظر المنهاج 7/379، 8/476، 8/547- 549.(1/175)
ووضح اختصاص أبي بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاورة النبي له وانتصاره له فقال: (ولم يكن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من يقضي ويفتي إلا هو ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مشاورة لأحد من أصحابه منه له ولعمر ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منه ثم عمر)(1).
(والثابت من الأحاديث الصحيحة يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتصر لأبي بكر وينهى الناس عن معارضته ولم ينقل أنه ساءه... فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الوزيرين له شاورهما في أسرى بدر ما يصنع بهم(2) وشاورهما في وفد بني تميم لمن يولي عليهم(3) وشاورهما في غير ذلك من الأمور العامة يخصهما بالشورى)(4).
__________
(1) المنهاج 5/469، انظر 8/407.
(2) مسلم في كتاب الجهاد باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/1383- 1385، المسند تحقيق شاكر 1/244، 245، مسند عمر 5/227- 229.
(3) البخاري في كتاب المغازي باب وفد بني تميم 5/116، وفي كتاب تفسير القرآن باب سورة الحجرات 6/46، وغيرها، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الحجرات، 5/387، المسند 4/6.
(4) المنهاج 7/235- 236، انظر 6/131، 132.(1/176)
(وأبو بكر وعمر أكثر اختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من سائر الصحابة وأبو بكر اكثر اختصاصا به فإنه [يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -] كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ومصالح المسلمين كما روى أبو بكر بن أبي شيبة(1) حدثنا أبو معاوية(2) حدثنا الأعمش(3) ............................................ حدثنا إبراهيم(4) حدثنا علقمة(5) عن عمر قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين وأنا معه(6))(7).
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل، أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي ثقة حافظ صاحب المصنف، وغيره، ت سنة 235هـ، الخلاصة 2/94، البداية والنهاية 10/315، التقريب / 320.
(2) محمد بن حازم أبو معاوية الضرير الكوفي، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش ت سنة 195هـ، التقريب / 475، الخلاصة 2/1397.
(3) هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة، حافظ، عارف بالقراءات، ت سنة 248 هـ، تقريب التهذيب 254، الخلاصة 1/419- 420.
(4) إبراهيم بن يزيد بن عمرو بن الأسود أبو عمران الإمام الحافظ فقيه العراق الكوفي النخعي، ثقة، ت سنة 96هـ، الخلاصة 1/59- 60، التقريب / 95، السير 4/520- 529، البداية والنهاية 9/140.
(5) علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي أحد الأعلام مخضرم، ثقة، ثبت، قال ابن المديني: أعلم الناس بابن مسعود، ت سنة 61هـ، الخلاصة 2/241، التقريب / 397، السير 4/53- 61، الشذرات 1/70.
(6) رواه الإمام أحمد في المسند 1/229- 231، تحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح، والترمذي كتاب الصلاة باب ما جاء في الرخصة في السمر بعد العشاء 1/315، وقال: حديث حسن، وابن أبي شيبة في المصنف 2/282.
(7) المنهاج 7/504، انظر 8/390.(1/177)
(وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشاورته لأهل الفقه والرأي يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتكلمان في العلم ويتقدمان بحضرته على سائر الصحابة مثل مشاورته في أسارى بدر وغير ذلك وقد روي في الحديث انه قال: «إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما»(1) وفي السنن عنه أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(2) ولم يحصل هذا لغيرهما بل قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء»(3) فأمر باتباع سنة الخلفاء الأربعة وخص أبا بكر وعمر بالاقتداء ومرتبة المقتدي به في أفعاله وفيما سنه للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط.
__________
(1) مجمع الزوائد 9/52، بمعناه، 9/53.
(2) الترمذي في كتاب المناقب باب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث حسن، ابن ماجه في المقدمة باب في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/37، المسند 5/ 382، 399، 402، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/ 372، مسند الحميدي 1/214، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/238، 186، 187.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند 4/126، 127، وأبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة 5/13- 15، والترمذي في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5/44- 45، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين 1/15- 16، 17، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 13، وفي إرواء الغليل 8/107- 109، والدارمي في المقدمة باب اتباع السنة 1/ 44، 45، والحاكم في المستدرك، في كتاب العلم 1/95، 97، وقال: صحيح ليس به علة ووافقه الذهبي، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 17- 19، باب في «لزوم السنة»، وصححه الألباني في تخريج السنة، وابن حبان: انظر موارد الظمآن باب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -/ 56، والبغوي في مصابيح السنة في كتاب الإيمان باب الاعتصام بالكتاب والسنة 1/59، وفي شرح السنة 1/205.(1/178)
وفي صحيح مسلم(1) أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا معه في سفره فذكر الحديث وفيه: «أن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا»(2))(3). وقد وضح ذلك بقوله: (وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم)(4).
(كما في الصحيحين قيل له: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة»(5) قيل: ومن الرجال؟ قال: «أبوها»(6). وفي الصحيحين عن عمر أنه قال: أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذه الأحاديث التي أجمع أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ولم يقدح فيها أحد من [أهل] العلم تبين أن أبا بكر كان أحب إليه وأعلى عنده من جميع الناس)(7).
__________
(1) مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوي، ثقة حافظ إمام مصنف عالم بالفقه ت سنة 261هـ، التقريب 529، الخلاصة 3/24.
(2) مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب قضاء الصلاة الفائتة 1/472- 474، مطولا، وفي المسند 5/298.
(3) المنهاج 7/502، 503، انظر 6/138- 139.
(4) المنهاج 7/507، انظر 8/389- 390.
(5) هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أم عبد الله الفقيه ت سنة 57هـ على الصحيح ودفنت بالبقيع، الخلاصة 3/387، التقريب / 750.
(6) سبق تخريجه.
(7) المنهاج 7/283- 284، انظر 4/366، 7/ 285، 375، 375، 376، 8/421.(1/179)
(وأيضا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - محبته تابعة لمحبة الله وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى فهو أحبهم إلى رسوله وإنما كان كذلك لأنه أتقاهم وأكرمهم وأكرم الخلق علي الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة وإنما كان اتقاهم؛ لأن الله تعالى قال: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى } (1) وأئمة التفسير يقولون: إنه أبو بكر(2))(3)
(فقوله تعالى في القرآن { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ } (4) لا يختص بمصاحبته في الغار بل هو صاحبه المطلق الذي كمل في الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره فصار مختصا بالأكملية من الصحبة)(5).
(وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه «إن الله معنا» يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر.... ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر(6) وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن)(7).
__________
(1) الليل/ 17- 20.
(2) قال ابن جرير الطبري: نزلت الآية في أبي بكر الصديق 15/ 228، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور عن غير واحد من المفسرين أن الآية نزلت في أبي بكر 8/ 538.
(3) المنهاج 7/376، انظر 8/ 555.
(4) التوبة / 40.
(5) المنهاج 8/416، انظر 8/ 388، 389، 422، 423، 424، 425.
(6) الدر المنثور 4/199، 200، 201، وغيره.
(7) المنهاج 8/381، انظر 8/407.(1/180)
وقال مبينا طاعة أبي بكر وموافقته للنبي: (وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله لم يصدر عنه مخالفة في شيء قط بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - [يعني يوم الحديبية(1)] أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يسمع جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله...)(2).
د- شجاعته وجهاده:
وقد بين شجاعة أبي بكر وأن المراد شجاعة القلب فقال: (وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة(3) والزبير(4) وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم.
__________
(1) البخاري في كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب... إلخ 3/178- 184، المسند 4/330.
(2) المنهاج 8/410.
(3) هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم التيمي أبو محمد المدني أحد العشرة، ت سنة 36هـ، يوم الجمل، التقريب 282، الخلاصة 2/ 11- 12.
(4) الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ت سنة 36 هـ، التقريب / 214، الخلاصة 1/334- 335.(1/181)
فإن أبا بكر رضي الله باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول الإسلام إلى آخره ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل وكان يقدم على المخاوف يقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله وهو في ذلك كله مقدم وكان يوم بدر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعاونه ولما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه ويستغيث ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبد اللهم اللهم....» جعل أبو بكر يقول له يا رسول الله [كفاك](1) مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك(2) وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته شجاعة إيمانية زائدة على الشجاعة الطبيعية)(3).
__________
(1) المنهاج [هكذا] والتصويب من مسلم.
(2) مسلم في كتاب الجهاد والسير باب «الإمداد بالملائكة في غزوة بدر...» إلخ، 3/1383- 1385، والترمذي في كتاب التفسير باب «ومن سورة الأنفال» 5/269، المسند 1/30، 31.
(3) المنهاج 8/79، انظر 6/131، 132، 8/ 536، 537.(1/182)
(والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس ولم يكن بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أشجع منه ولهذا لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم حتى أوهنت العقول وطيشت الألباب واضطربوا اضطراب الأرشية(1) في الطوى(2) البعيدة القعر فهذا ينكر موته وهذا قد أقعد وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلم عليه وهؤلاء يضجون بالبكاء وقد وقعوا في نسخه القيامة وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين وذلت كماتة فقام الصديق - رضي الله عنه - بقلب ثابت وفؤاد شجاع فلم يجزع ولم ينكل قد جمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الله اختار له ما عنده وقال لهم: (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت(3) { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } (4) فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحدا إلا وهو يتلوها ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم.
__________
(1) جمع رشاء وهو رسن الدلو، إذا جعلت له حبلا «تهذيب اللغة للأزهري» 11/ 406، مادة رشا ومعجم مقاييس اللغة 2/ 397، مادة رشا.
(2) وهي البئر المطوية بالحجارة وجمعها أطواء، تهذيب اللغة 14/49، مادة طوى، معجم مقاييس اللغة 3/ 429.
(3) البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي باب حدثنا الحميدي ومحمد بن عبد الله... إلخ 4/193، 194، وفي كتاب المغازي باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - 5/142- 143، المسند 6/219- 220، وغيرهم.
(4) آل عمران / 144.(1/183)
قال أنس: (خطبنا أبو بكر - رضي الله عنه - وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود)(1))(2).
وقال: (ومن شجاعة الصديق ما في الصحيحين عن عروة بن الزبير(3) قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } (4)(5))(6).
__________
(1) لم أجده.
(2) المنهاج 8/28، 83، انظر 6/ 139، 537.
(3) عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه، مشهور، ت سنة 94هـ على الصحيح التقريب/ 389، الخلاصة 2/226، 227.
(4) غافر / 28.
(5) سبق تخريجه.
(6) المنهاج 8/85، انظر 8/419.(1/184)
وبين أن قتال المرتدين من أعظم فضائل الصديق: (ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة -أولهم وآخرهم- أنه قاتل المرتدين)(1). (والصديق - رضي الله عنه - هو الإمام في قتال المرتدين وهؤلاء مرتدون فالصديق وحزبه هم أعداؤه)(2). وبين أن من جهاد أبي بكر الجهاد بالمال، وأنه قد اشترى بماله سبعة من المعذبين في الله(3). وأنه (وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر)(4)، وأن جهاده (بماله ونفسه أعظم من جهاد غيره من الصحابة(5) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر(6). وقال: ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر» وأبو بكر كان مجاهدا بلسانه ويده وهو أول من دعا إلى الله وأول من أوذي في الله بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأول من دافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مشاركا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته وجهاده حتى كان هو وحده معه في العريش يوم بدر)(7).
هـ- إنفاقه في سبيل الله:
__________
(1) المنهاج 8/324.
(2) المنهاج 8/486.
(3) انظر المنهاج 8/541، 542.
(4) انظر المنهاج 7/197.
(5) انظر المنهاج 5/20.
(6) البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب: قوله - صلى الله عليه وسلم - سدو الأبواب إلا باب أبي بكر 4/191، مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب «من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -» 4/1854، 1855، الترمذي في كتاب المناقب 5/608، 609.
(7) المنهاج 5/20- 21، انظر 8/502.(1/185)
ثم بين أن من فضائله وجهاده إنفاقه في سبيل الله فقال: (وأما إنفاق الصديق ونحوه فإنه كان في أول الإسلام لتخليص من آمن والكفار يؤذونه أو يريدون قتله مثل اشترائه بماله سبعة كانوا يعذبون في الله منهم بلال(1) حتى قال عمر أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا -يعني بلالا- وإنفاقه على المحتاجين من أهل الإيمان وفي نصر الإسلام حيث كان أهل الأرض قاطبة أعداء الإسلام وتلك النفقة ما بقي يمكن مثلها)(2).
وبين أن كل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله فالصديق أول المرادين بها من الأمة مثل قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } (3)، وأبو بكر أفضل هؤلاء وأدلهم(4).
__________
(1) هو بلال بن رباح مؤذن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أبو عبد الله مولى أبي بكر من السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد، توفي سنة 17هـ، أو 18هـ، وقيل غيرها، التقريب / 129، الخلاصة 1/140.
(2) المنهاج 7/187، انظر 7/384، 8/500، 502، 504، 541- 542، 546.
(3) سورة الحديد/ 10.
(4) انظر المنهاج 8/555.(1/186)
ووضح أن إنفاقه معونة على إقامة الإيمان فقال: (إن إنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في طعامه وكسوته فإن الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين بل كان معونة له على إقامة الإيمان فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله لا نفقة على نفس الرسول فاشترى المعذبين مثل بلال وعامر بن فهيرة(1) وزنيرة(2) وجماعة)(3).
(وفي المسند والترمذي وأبي داود حديث عمر قال عمر أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أبقيت لأهلك؟» فقلت: مثله قال وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: «ما أبقيت لأهلك» قال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا(4).
فأبو بكر - رضي الله عنه - جاء بماله كله ومع هذا فلم يكن يأكل من أحد لا صدقة ولا صلة ولا نذرا بل كان يتجر ويأكل من كسبه... إلخ)(5).
(فهذه النصوص الصحيحة المتواترة الصريحة تدل على أنه كان من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضي الله ورسوله)(6).
و- زهده وتواضعه:
__________
(1) عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهما، أحد السابقين وذكره ابن إسحاق وغيره فيمن استشهد في بئر معونة قبل تبوك بست سنين، الإصابة 5/293، 294، تجريد أسماء الصحابة 1/287.
(2) زنيرة، بكسر أولها وتشديد النون المكسورة، بعدها تحتانية مثناة ساكنة، مولاة أبي بكر رضي الله عنهما، -الرومية - كانت من السابقات إلى الإسلام، وممن عذب في الله، كان أبو جهل يعذبها، وهي مذكورة في السبعة الذين اشتراهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، وأنقذهم من التعذيب، وكانت مولاة لبني عبد الدار، الإصابة 12/272، 273، الاستيعاب 13/ 14، 15، تجريد أسماء الصحابة 2/271.
(3) المنهاج 8/551.
(4) سبق تخريجه.
(5) المنهاج 7/380، انظر 5/17، 6/139، 7/164، 8/552.
(6) المنهاج 8/499.(1/187)
ثم بين زهده في الدنيا وتواضعه وأن هذا من أكبر فضائله فقال: (من أكبر فضائل الصديق - رضي الله عنه - وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا فلم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني(1).
كما قال أيضا: [أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم(2)])(3).
__________
(1) ذكر الطبري نحو هذه الرواية في التاريخ 3/223، 224، وابن الأثير نحوها أيضا 2/332، وابن كثير في نحوها أيضًا 6/301، وقال بعدها، وهذا إسناده صحيح.
(2) ابن الأثير في التاريخ 2/332، ابن كثير في البداية 6/301، وقال: هذا إسناده صحيح.
(3) المنهاج 5/462.(1/188)
ثم بين أنه أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (فإن أهل العلم بحالهما(1) يقولون: أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزهد الشرعي أبو بكر وعمر وذلك أن أبا بكر كان له مال يكتسبه فأنفقه كله في سبيل الله وتولى الخلافة فذهب إلى السوق يبيع ويتكسب فلقيه عمر وعلى يده أبراد فقال له أين تذهب فقال أظننت أني تارك طلب المعيشة لعيالي فأخبر بذلك أبا عبيدة والمهاجرين ففرضوا له شيئا فاستحلف عمر وأبا عبيدة فحلفا له أنه يباح له أخذ درهمين كل يوم ثم ترك ما له في بيت المال ثم لما حضرته الوفاة أمر عائشة أن ترد إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمسة دراهم وحبشية ترضع ابنه أو عبداً حبشياً وبعيرا ناضحا فأرسلت بذلك إلى عمر فقال عبد الرحمن بن عوف(2) له أتسلب هذا عيال أبي بكر فقال كلا ورب الكعبة لا يتأثم منه أبو بكر في حياته وأتحمله أنا بعد موته(3))(4).
__________
(1) يعني حال أبي بكر وعلي.
(2) هو عبد الرحمن بن عوف بن عوف القرشي الزهري أحد العشرة أسلم قديما ومناقبه شهيرة توفي سنة 32هـ، وقيل غير ذلك. التقريب / 348، الخلاصة 2/147.
(3) طبقات ابن سعد 3/184، برواية نحوها، صفة الصفوة لابن الجوزي 1/257، 258.
(4) المنهاج 7/479، 480.(1/189)
ثم نقل رد ابن حزم(1) على الرافضة وبيانه لزهد أبي بكر فقال مبينا متى يسمى الزهد زهدًا: (وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو عزوف النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية ليس للزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فأما عزوف النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألفا أنفقها في سبيل الله كلها وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله ولم يعتق عبيدا أجلادا يمنعونه لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل حتى هاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق لبنيه منها درهما ثم أنفقها كلها في سبيل الله حتى لم يبق له منها شيء وبقى في عباءة له قد خللها بعود إذا نزل فرشها وإذا ركب لبسها.... فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فانهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...إلخ)(2).
__________
(1) أبو محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان الفارسي الأصل، صاحب (المحلى) في الفقه، وله مؤلفات كثيرة قيل إنها (400) مجلدٍ، قال ابن كثير: وكان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه، وقال أيضا: وكان ظاهريا، حائرًَا في الفروع، وكان من أشد الناس تأويلا في باب الأصول، وآيات وأحاديث الصفات، ت سنة 456هـ، السير 18/184، البداية والنهاية 12/91- 92.
(2) المنهاج 7/481- 483، وهذا الكلام في الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/216.(1/190)
ثم بين زهده في الولد والقرابة والحاشية، وأنه لم يستعمل قرابته على الولايات ولا ولى أولاده ثم قال: (فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر - رضي الله عنه - أزهد من جميع الصحابة ثم عمر - رضي الله عنه -)(1).
* * *
المبحث الثاني
خلافته
ثم ذكر الأدلة على إمامة أبي بكر بعد ذكر النزاع في المسألة فقال: (ذهبت طوائف من أهل السنة إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره من الأئمة وقد ذكر القاضي أبو يعلى(2) في ذلك روايتين عن الإمام أحمد إحداهما: أنها ثبتت بالاختيار قال وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.
__________
(1) المنهاج 7/486، الفصل 4/218.
(2) محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، من أهل بغداد عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، له تصانيف كثيرة، شيخ الحنابلة ت سنة 458هـ، السير 18/89- 92، تاريخ بغداد 2/256، الشذرات 3/306- 307، طبقات الحنابلة 2/193- 230، المنهج الأحمد 2/128- 142، الأعلام 6/199.(1/191)
والثانية أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة قال: «وبهذا قال الحسن البصري(1) وجماعة من أهل الحديث وبكر من أخت عبد الواحد(2) والبيهسية(3) من الخوارج».
وقال شيخه أبو عبد الله بن حامد(4) فأما الدليل على استحقاق أبي بكر الخلافة دون غيره من أهل البيت والصحابة فمن كتاب الله وسنة نبيه.
__________
(1) الحسن بن يسار البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه فاضل مشهور، مات سنة 110هـ، وقد قارب التسعين روى له الجماعة، التقريب / 160، الخلاصة 1/210.
(2) بكر بن زيد البصري الزاهد من الخوارج، وإليه تنسب البكرية من الخوارج كان يقول في الكبائر التي تكون من أهل القبلة إنها نفاق وإن مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة عابد للشيطان مكذب لله سبحانه جاحد له منافق في الدرك الأسفل من النار مخلد فيها أبدًا، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة / 34، مقالات الإسلاميين 1/342، لسان الميزان 2/60.
(3) البهيسية أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر كان في زمن الحجاج وقتل في المدينة سنة 94، انفردوا بأن قالوا: من عمل ذنبا لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحد فيحكم عليه بالكفران، وإن تاب، الفرق بين الفرق / 108- مقالات الإسلاميين 1/191، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين/ 56، البرهان في عقائد أهل الأديان / 23، ذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين 32، 41.
(4) الحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد الله البغدادي إمام الحنبلية في زمانه، ومدرسهم وفقيههم، له مصنفات في العلوم المختلفة منها "الجامع في المذهب نحو من 400 جزء وشرح أصول الدين وأصول الفقه، وهو شيخ أبي يعلى، وكان كثير الحج ت سنة 403هـ، راجعا من مكة، وقد سمع من ابن بطة". طبقات الحنابلة 2/171- 177، الشذرات 3/166، 167.(1/192)
قال: وقد اختلف أصحابنا في الخلافة هل أخذت من حيث النص أو الاستدلال فذهب طائفة من أصحابنا إلى أن ذلك بالنص وأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك نصا وقطع البيان على عينه حتما ومن أصحابنا من قال إن ذلك بالاستدلال الجلي. قال ابن حامد: والدليل على إثبات ذلك بالنص أخبار.
من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم(1) قال أتت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن ترجع إليه فقالت أرأيت إن جئت فلم أجدك كأنها تريد الموت قال: «إن لم تجديني فأتى أبا بكر»(2) وذكر له سياقا آخر وأحاديث أخر. قال: «وذلك نص على إمامته».
قال: وحديث سفيان عن عبد الملك بن عمير(3) عن ربعي(4) عن حذيفة بن اليمان(5) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(6).
__________
(1) هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القريشي النوفلي صحابي عارف بالأنساب توفي سنة 58هـ، وقيل سنة 59هـ. التقريب / 138، الخلاصة 1/161.
(2) سبق تخريجه.
(3) عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي حليف بني عدي الكوفي، ويقال له الفرسي بفتح الفاء والراء ثم مهملة ثقة فصيح عالم تغير حفظه وربما دلس ت سنة 136 هـ، روى له الجماعة. التقريب / 364، الخلاصة 2/78- 179.
(4) ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن نجاد الإمام القدوة الولي الحافظ الحجة توفي سنة 81هـ، وقيل 82، وقيل 101، السير 4/359- 362، تاريخ بغداد 8/433، 434، الشذرات 1/121، تقريب التهذيب /205.
(5) حذيفة بن اليمان العبسي صحابي جليل من السابقين قال ابن حجر: صح في مسلم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بما كان وما يكون إلى قيام الساعة ت سنة 36 هـ في أول خلافة علي - رضي الله عنه -، التقريب / 154، الخلاصة 1/201.
(6) سبق قريبا.(1/193)
قال وأسند البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعة ضعف والله يغفر له ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا يفرى فرية حتى ضرب الناس بعطن»(1).
قال: «وذلك نص في الإمامة».
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التعبير باب نزع الذنوب والذنوبين بضعف 8/77، 78، وفي التوحيد باب في المشيئة والإرادة 8/192، 193، «وفي فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذا خليلا...» 4/193، مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عمر - رضي الله عنه - 4/1860- 1862.(1/194)
قال: «ويدل عليه ما أخبرنا أبو بكر بن مالك وروى عن مسند أحمد عن حماد بن سلمة(1) عن علي بن زيد بن جدعان(2) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة(3) عن أبيه(4) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوما أيكم رأى رؤيا» فقلت أنا رأيت يا رسول الله كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلافة نبوة ثم يؤتى الله الملك لمن يشاء»(5).
__________
(1) حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة ثقة عابد، وتغير حفظه بآخره ت سنة 167هـ التقريب / 178، الخلاصة 1/252.
(2) علي بن زيد بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري، أصله حجازي ينسب أبوه إلى جد جده، ضعيف ت سنة 131 وقيل قبلها، التقريب / 401، الخلاصة 2/248.
(3) عبد الرحمن بن أبي بكرة، نفيع بن الحارث الثقفي أول مولود بالبصرة روى عن أبيه وعنه ابن سيرين وجماعة، وثقة ابن حبان، وقال ابن حجر ثقة ت سنة 96هـ، الخلاصة 2/126، 127، التقريب / 337.
(4) هو نفيع بن حارث بن كلدة الثقفي أبو بكرة - نزل عليها من الطائف فكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بها - ت سنة 51، الخلاصة 3/99، التقريب 565.
(5) سبق تخريج هذا الحديث.(1/195)
قال: وأسند أبو داود عن جابر الأنصاري(1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر» قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه(2).
قال: ومن ذلك حديث صالح بن كيسان(3) عن الزهري(4) عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم الذي بدئ به فيه فقال: «ادعى لي أباك وآخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا» ثم قال: «يأبي الله والمسلمون إلا أبا بكر» وفي لفظ: «فلا يطمع في هذا الأمر طامع».
__________
(1) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي، وستأتي ترجمته.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 3/355، وأبو داود في كتاب السنة باب في الخلفاء 5/31، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/71، 72، وقال: إسناده صحيح، ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص صحيح.
(3) صالح بن كيسان المدني أبو محمد أو أبو الحارث مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز ثقة ثبت فقيه ت بعد سنة 140هـ، التقريب /506، الخلاصة 2/457.
(4) سبق تخريجه.(1/196)
وهذا الحديث في الصحيحين... وقال أبو محمد بن حزم في كتابه في الملل والنحل(1) اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت طائفة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف أحدا ثم اختلفوا فقال بعضهم لكن لما استخلف أبا بكر على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر وقال بعضهم لا ولكن كان أبينهم فضلا فقدموه لذلك وقالت طائفة بل نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصا جليا.
قال أبو محمد: وبهذا نقول لبراهين أحدها إطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } (2) فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار ( على أن سموه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى الخليفة في اللغة: هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو لا يجوز غير هذا ألبتة في اللغة بلا خلاف تقول استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفة ومستخلفه فإن قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف.
قال: ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضرورين:
أحدهما: أنه لم يستحق أبو بكر قط هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقينا أن خلافته المسمى بها هي غير خلافته على الصلاة.
__________
(1) الفصل 4/176- 178، تحت عنوان «الإمامة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -».
(2) الحشر / 8.(1/197)
والثاني: أن كل من استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم(1) في غزوة الخندق وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف بين أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة بعده على أمته ومن المحال أن يجمعوا على ذلك وهو لم يستخلفه نصا ولو لم يكن ههنا إلا استخلافه في الصلاة لم يكن أبو بكر أولى بهذه التسمية من سائر من ذكرنا قال وأيضا فإن الرواية قد صحت أن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت إن رجعت فلم أجدك كأنها تعنى الموت قال: «فأتى أبا بكر»(2) قال: وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر قال: وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة في مرضه الذي توفي فيه: «لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك وأكتب كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وروى «ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر» وروى أيضا «ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر»..
__________
(1) هو عمرو بن قيس بن زائدة العامري «ابن أم مكتوم»، وقيل: اسمه عبد الله. قال الذهبي: وعمرو أصح. هاجر إلى المدينة واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة غير مرة، وكان مؤذنه مع بلال رضي الله عنهما، شهد القادسية ومعه اللواء فقتل. تجريد أسماء الصحابة 1/330، 416، الإصابة 7/83، 84.
(2) سبق تخريجه.(1/198)
قال فهذا نص جلي على استخلافه - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على ولاية الأمة بعده قال واحتج من قال لم يستخلف أبا بكر بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر أنه قال إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإلا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني -يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)-.
وبما روى عن عائشة رضي الله عنها إذ سئلت من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف؟(2).
قال ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا عنهم والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما مما لا تقوم به حجة ظاهرة من أن هذا الأثر خفي على عمر كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالاستئذان وغيره أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بعهد مكتوب وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك أيضا.
وقد يخرج كلاهما على سؤال سائل وإنما الحجة في روايتهما لا في قولهما(3).
قلت والكلام في تثبيت خلافة أبي بكر وغيره مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا البيان لكلام الناس في خلافته هل حصل عليها نص جلي أو نص خفي وهل ثبتت بذلك أو بالاختيار من أهل الحل والعقد.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب الاستخلاف 8/126، مسلم في كتاب الأمارة باب الاستخلاف وتركه 3/1454، وغيرهما.
(2) رواه مسلم في فضائل الصحابة باب «من فضائل أبي بكر» 4/1856.
(3) الفصل لابن حزم 4/176- 178.(1/199)
فقد تبين أن كثيرا من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلي أو الخفي وحينئذ فقد بطل قدح الرافضي في أهل السنة بقوله إنهم يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على إمامة أحد وأنه مات من غير وصية وذلك أن هذا القول لم يقله جميعهم فإن كان حقا فقد قاله بعضهم وإن كان الحق هو نقيضه فقد قال بعضهم ذلك فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنة)(1).
وقال: (وأيضا فقد روى ابن بطة بإسناده قال حدثنا أبو الحسن بن أسلم الكاتب(2) حدثنا الزعفراني(3) حدثنا يزيد بن هارون(4) حدثنا المبارك بن فضالة(5) أن عمر بن عبد العزيز(6) بعث محمد بن الزبير الحنظلي(7)إلى الحسن(8)
__________
(1) المنهاج 1/486- 500.
(2) لم أجده فيما بين يدي من المراجع.
(3) هو الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني أبو علي البغدادي صاحب الشافعي، وقد شاركه في الطبقة الثانية من شيوخه، ثقة توفي سنة 260هـ أو قبلها بسنة، روى له البخاري وغيره، السير 12/262- 265، تقريب التهذيب 163، تهذيب الكمال 6/310، 313.
(4) هو يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد ت سنة 206، التقريب 606، الخلاصة 3/178.
(5) هو المبارك بن فضالة أبو فضالة البصري، صدوق يدلس ويسوي ت سنة 166، على الصحيح، التقريب 519، الخلاصة 3/8.
(6) هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد أمير المؤمنين، أشجع بني أمية كان من أئمة الاجتهاد، ومن الخلفاء الراشدين، قال الشافعي: الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز ولد سنة 63 هـ ت سنة 101هـ، السير 5/114- 148، الشذرات 1/119، البداية والنهاية 9/192- 219.
(7) محمد بن الزبير الحنظلي البصري، متروك التقريب/ 478، وقال ابن حبان منكر الحديث جدًا، المجروحين 2/259.
(8) الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته، وقد صحبه وحفظ عنه. مات شهيدًا بالسم سنة 49هـ، وقيل غيرها التقريب 162، الخلاصة 1/216.(1/200)
فقال هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر فقال أو في شك صاحبك نعم والله الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو أتقى من أن يتوثب عليها(1) قال ابن المبارك(2) استخلافه هو أمره أن يصلى بالناس وكان هذا عند الحسن استخلافا.
__________
(1) تاريخ الخلفاء /64- 65 وعزاه إلى ابن عساكر.
(2) عبد الله بن المبارك المروزي مولى بني حنظلة ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير ت سنة 81هـ، التقريب 320، وفي الخلاصة 2/93.(1/201)
قال: «وأنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد(1) حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب(2) حدثنا يحيى بن سليم(3) حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر(4) قال ولينا أبو بكر فخير خليفة أرحمه بنا وأحناه علينا(5) قال وسمعت معاوية بن قرة(6) يقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر»(7).
ثم القائلون بالنص على أبي بكر منهم من قال بالنص الجلي واستدلوا على ذلك باتفاق الصحابة [رضي الله عنهم] على تسميته خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...
__________
(1) أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان بن سابورين شاهنشاه شيخ ابن بطة، الحافظ الإمام الحجة، وقد ذكره ابن عدي في كامله فتكلم فيه، ت سنة 317 هـ السير 4/440، ميزان الاعتدال 2/192- 193، تذكرة الحفاظ 2/737- 740، الشذرات 2/275- 276.
(2) زهير بن حرب بن شداد أبو خيثمة نزيل بغداد، ثقة ثبت روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث ت سنة 234هـ. التقريب 217. الخلاصة 1/339.
(3) يحيى بن سليم القرشي الطائفي الحذاء الخراز نزيل مكة ت سنة 195هـ، وثقه البعض وضعفه آخرون، ميزان الاعتدال 4/383، 384، تهذيب التهذيب 11/226، 227، وفي الخلاصة 3/150.
(4) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي السيد العالم أبو جعفر القرشي الحبشي المولد الجواد بن الجواد ذي الجناحين له صحبة ورواية ت سنة 80هـ، السير 3/456- 462، الشذرات 1/87، 88، العبر 1/67، الجرح والتعديل 5/21، الكنى لمسلم 1/173.
(5) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/162، برواية ونحوها، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1299، المستدرك للحاكم 3/79، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(6) معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني أبو إياس البصري ثقة ت سنة 113هـ التقريب 38، الخلاصة 3/41- 42.
(7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1291.(1/202)
وقالت طائفة: بل ثبتت بالنص المذكور في الأحاديث التي تقدم إيراد بعضها.... [فذكر بعض ما سبق ثم قال]: ومثل قوله: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»(1) وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة فصلى بهم مدة مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من يوم الخميس إلى يوم الخميس إلى يوم الاثنين وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة فصلى بهم جالسا وبقي أبو بكر يصلي بأمره سائر الصلوات وكشف الستارة يوم مات وهم يصلون خلف أبي بكر فسر بذلك)(2)...
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب «حد المريض أن يشهد الجماعة» 1/162، وفي باب «أهل العلم والفضل أحق بالإمامة» 1/165، وفي باب «من أسمع الناس بالتكبير» 1/174، وفي غيرها.
مسلم كتاب باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر 1/313، 314، 316، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/118.
(2) انظر المنهاج 8/557- 570.(1/203)
ومثل قوله في الحديث الصحيح على منبره: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر»(1).... وروى أبو داود.... من حديث حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن(2) عن أبيه، عن أبيه سمرة بن جندب(3)، أن رجلا قال: «يا رسول الله رأيت كأن دلوا أدلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت فانتضح عليه منها شيء»(4).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أشعث بن عبد الرحمن الجرمي وقيل: الأزدي، بصري صدوق، وثقه ابن معين روى عن ابن عبد الرحمن الجرمي وأبي قلابة الجرمي وروى عنه حماد بن سلمة، تهذيب الكمال، 3/276- 277، تقريب التهذيب / 113، وأبوه هو عبد الرحمن الأزدي الجرمي البصري مقبول وذكره ابن حبان في الثقات تهذيب التهذيب 6/303، التقريب 353، الثقات لابن حبان 5/87، والحديث في التاريخ الكبير للبخاري ذكره كاملا 5/296.
(3) سمرة بن جندب بن هلال الفزاري حليف الأنصار صحابي مشهور، له أحاديث ت سنة 58، التقريب 256، الخلاصة 1/422.
(4) المسند 5/ 21، سنن أبي داود كتاب السنة باب في الخلفاء 5/31- 32.(1/204)
وعن سعيد بن جهمان(1) عن سفينة(2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء» أو قال "الملك" قال سعيد قال لي سفينة أمسك مدة أبي بكر سنتان وعمر عشر وعثمان اثنتا عشرة وعلي كذا قال سعيد قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن بخليفة قال كذبت أستاه بني الزرقاء(3) يعني بني مروان وأمثال هذه الأحاديث ونحوها مما يستدل بها من قال إن خلافته ثبتت بالنص.
والمقصود هنا أن كثيرا من أهل السنة يقولون أن خلافته ثبتت بالنص وهم يسندون ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة...
والتحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهدا ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ثم لما حصل لبعضهم شك هل ذلك القول من جهة المرض أو هو قول يجب اتباعه ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -.
__________
(1) سعيد بن جهمان، لعله سعيد بن جهمان الأسلمي أبو حفص البصري، روى عن سفينة، وثقه ابن معين، وأبو داود، وابن حبان ت سنة 136هـ، الخلاصة 1/375، التقريب 234.
(2) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكنى أبا عبد الرحمن يقال كان اسمه مهران أو غير ذلك فلقب سفينة لكونه حمل شيئا كثيرا في السفر، مشهور له أحاديث روى له مسلم وغيره، التقريب 245، الخلاصة 1/439.
(3) رواه الترمذي كتاب الفتن باب ما جاء في الخلافة 4/503، المسند 5/220- 221، أبو داود كتاب السنة باب الخلفاء 5/36- 37، المستدرك مطولا 3/71، وسكت عليه الذهبي، السنة لابن أبي عاصم 2/564، وصححه الألباني في ظلال الجنة تخريج السنة.(1/205)
فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانا قاطعا للعذر لكن لما دلتهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود والأحكام يبينها - صلى الله عليه وسلم - تارة بصيغة عامة وتارة بصيغة خاصة ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: «وليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر» رواه البخاري ومسلم(1)... ولم يقل قط أحد من الصحابة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على غير أبي بكر - رضي الله عنه - لا على العباس(2) ولا على علي ولا على غيرهما ولا ادعى العباس ولا علي ولا أحد ممن يحبهما الخلافة لواحد منهما ولا أنه منصوص عليه بل ولا قال أحد من الصحابة إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر لا من بني هاشم ولا من غير بني هاشم وهذا كله مما يعلمه العلماء العالمون بالآثار والسنن والحديث وهو معلوم عندهم بالاضطرار...
فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختيارا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعا.
ولكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بهذا وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد.
وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ت سنة 32هـ، أو بعدها، التقريب 293، الخلاصة 2/35.(1/206)
ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلا على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة وأن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص)(1).
ثم قال بعد أن ذكر حديث عائشة في الكتابة: (... فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه يريد أن يكتب كتابا خوفا ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه والأمة حديثة عهد بنبيها وهم خير أمة أخرجت للناس وأفضل قرون هذه الأمة فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم أو لسوء القصد وكلا الأمرين منتف فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون ولهذا قال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر الصديق واستحقاقه لهذا الأمر يغنى عن العهد فلا يحتاج إليه فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه وهذا أبلغ من العهد)(2).
__________
(1) المنهاج 1/505- 525، انظر 4/365- 366، 7/341- 342، 8/575- 582.
(2) المنهاج 1/525- 526، انظر المنهاج 8/570- 573.(1/207)
وقال: (فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا وعلما ودينا كما قال فيهم عبدالله بن مسعود: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم»(1) رواه غير واحد منهم ابن بطة عن قتادة(2).
__________
(1) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/97، رواه الطبراني في الكبير 9/66، بنحوه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/180 بعد عزوه للطبراني، ورجاله رجال الصحيح، السنن الكبرى للبيهقي 2/10 بنحوه.
(2) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت يقال ولد أكمها ت سنة مائة وبضعة عشره التقريب /453، الخلاصة 2/350.(1/208)
وروى هو غيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بن حبيش(1) قال: قال عبدالله بن مسعود: «إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ»(2) وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر عن عاصم بن أبي النجود(3) عن زر بن حبيش عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: «وقد رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعا أن يستخلفوا أبا بكر».
وقول عبدالله بن مسعود: «كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا» كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف)(4).
__________
(1) زر بكسر أوله وتشديد الراء بن حبيش مصغرًا بن حباشة الأسدي الكوفي أبو مريم ثقة مخضرم، ت سنة 82، وقيل غيرها، التقريب / 218، الخلاصة 1/358.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 5/211، تحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح، وأبو داود الطيالسي /33، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 1/42- 43، والطبراني في المعجم الكبير 9/118، وقال في مجمع الزوائد 1/177- 178 رجاله موثوقون، والبغوي في شرح السنة 1/214- 215.
(3) عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود الأسدي مولاهم الكوفي أبو بكر المقرئ وثقه الإمام أحمد، حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين ت سنة 128هـ، التقريب 285، الخلاصة 2/16.
(4) المنهاج 2/76- 79، انظر المنهاج 2/50- 54.(1/209)
ثم بين سبب تسميته أبي بكر بخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وأما تسميته بخليفة رسول الله فإن المسلمين سموه بذلك فإن كان الخليفة هو المستخلف كما ادعاه هذا [الرافضي] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استخلفه كما يقول ذلك من يقول من أهل السنة وإن كان الخليفة هو الذي خلف غيره وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور لم يحتج في هذا الاسم إلى الاستخلاف.
والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الاسم يتناول كل من خلف غيره سواء استخلفه أو لم يستخلفه...[ثم ذكر عدة أدلة من القرآن تدل على الاستخلاف ويكون الثاني خليفة الأول وإن لم يستخلفه] وسمي الخليفة خليفة لأنه يخلف من قبله والله تعالى جعله يخلفه كما جعل الليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل ليس المراد أنه خليفة عن الله كما ظنه بعض الناس كما قد بسطناه في موضع آخر والناس يسمون ولاة أمور المسلمين الخلفاء وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»(1).
ومعلوم أن عثمان لم يستخلف عليا وعمر لم يستخلف واحدا معينا وكان يقول إن استخلف فإن أبا بكر استخلف وإن لم أستخلف فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف(2) وكان مع هذا يقول لأبي بكر يا خليفة رسول الله وكذلك خلفاء بني أمية وبني العباس كثير منهم لم يستخلفه من قبله فعلم إن الاسم عام فيمن خلف غيره)(3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) المنهاج 5/523- 525، انظر المنهاج 4/269- 273.(1/210)
ثم وضح المراد بكون بيعة أبي بكر فلتة وأن الله وقى المسلمين شرها فقال: (لفظ عمر ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها ثم «إنه قد بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا» فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلته ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توّفى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث وفيه أن الصديق قال: "وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم" فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فيضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلىّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي شيئا عند الموت لا أجده الآن وقد تقدم الحديث بكماله(1).
ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعينا لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالاجتماع)(2).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) المنهاج 8/277- 278، انظر المنهاج 5/469- 481، 8/564- 565.(1/211)
ثم بين أن الإجماع لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين فقال: (ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة فإن الإمامة أمر معين فقد يتخلف الرجل لهوي لا يُعلم كتخلف سعد(1) فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار فلم يحصل له ذلك فبقي في نفسه بقيه هوي.
ومن ترك الشيء لهوي لم يؤثر تركه بخلاف الإجماع على الأحكام العامة كالإيجاب والتحريم والإباحة فإن هذا لو خالف فيه الواحد أو الاثنان فهل يعتد بخلافهما؟.
فيه قولان للعلماء وذكر عن أحمد في ذلك روايتان:
إحداهما: لا يعتد بخلاف الواحد والاثنين وهو قول طائفة كمحمد بن جرير الطبري والثاني يعتد بخلاف الواحد والاثنين في الأحكام وهو قول الأكثرين والفرق بينه وبين الإمامة أن الحكم أمر عام يتناول هذا وهذا فإن القائل بوجوب الشيء يوجبه على نفسه وعلى غيره والقائل بتحريمه يحرمه على نفسه وعلى غيره فالمنازع فيه ليس متهما...)(2).
وقال: (فنحن نشير إلى ما يدل على أن الإجماع حجة بالدلالة المبسوطة في غير هذا الموضع ولكل مقام مقال.
ونحن لا نحتاج في تقرير إمامة الصديق - رضي الله عنه - ولا غيره إلى هذا الإجماع ولا نشترط في إمامة أحد هذا الإجماع لكن هو لما ذكر أن أهل السنة اعتمدوا على الإجماع تكلمنا على ذلك فنشير إلى بعض ما يدل على صحة الإجماع.
__________
(1) سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي أحد النقباء سيد الخزرج أحد الأجواد، ت سنة 15 هـ، وقيل غير ذلك، التقريب / 231، السير 1/270- 279.
(2) المنهاج 8/235- 336.(1/212)
فنقول أولا ما من حكم اجتمعت الأمة عليه إلا وقد دل عليه النص فالإجماع دليل على نص موجود معلوم عند الأئمة ليس مما درس علمه والناس قد اختلفوا في جواز الإجماع عن اجتهاد ونحن نجوز أن يكون بعض المجمعين قال عن اجتهاد لكن لا يكون النص خافيا على جميع المجتهدين وما من حكم يعلم أن فيه إجماعا إلا وفي الأمة من يعلم أن فيه نصا وحينئذ فالإجماع دليل على النص.
ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } (1) فعلَّق الوعيد بمشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين.... وخلافة الصديق من هذا الباب فإن النصوص الكثيرة دلت على أنها حق وصواب وهذا مما لم يختلف العلماء فيه واختلفوا هل انعقدت بالنص الذي هو العهد كخلافة عمر أو بالإجماع والاختيار؟.
وأما دلالة النصوص على أنها حق وصواب فما علمت أحدا نازع فيه من علماء السنة كلهم يحتج على صحتها بالنصوص إذا كنا نبين أن ما انعقد عليه الإجماع فهو منصوص عليه كان ذكر الإجماع لأنه دليل على النص لا يفارقه ألبتة)(2).
وقد ذكر طرقًا أخرى يمكن سلوكها في بيان صحة إمامة أبي بكر فقال: (وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة, فان كثيرا من الخاصة فضلا عن العامة يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في اكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره وإنما يعرف ذلك علماء الحديث ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها وسلكوا طريقا آخر.
__________
(1) النساء آية / 115.
(2) المنهاج 8/344- 345.(1/213)
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث العالمين بما بعث الله به رسوله ولكن نحن نذكر طريقا آخر فنقول نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد أو لم يعلم أيها الصحيح ونترك الاستدلال بها في الطرفين ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر وما يعلم من العقول والعادات وما دلت عليه النصوص المتفق عليها.
فنقول: من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يطلب الخلافة لا برغبة ولا برهبة لا بذل فيها ما يرغب الناس به ولا شهر عليهم سيفا يرهبهم به ولا كانت له قبيلة ولا موال تنصره وتقيمه في ذلك كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ولا طلبها أيضا بلسانه ولا قال بايعوني بل أمر بمبايعة عمر وأبي عبيدة ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ولا أكرهه على المبايعة ولا منعه حقا له ولا حرك عليهم ساكنا وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة.
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ( ورضوا عنه وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة(1).
وأما علي وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه, لكن تخلف فإنه كان يريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ولم يقاتل مسلمين بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة وأخذ يزيد الإسلام فتوحاً وشرعًا في قتال فارس والروم ومات والمسلمون محاصرو دمشق وخرج منها أزهد مما دخل فيها لم يستأثر عنهم بشيء ولا أمر له قرابة)(2).
__________
(1) سبق ذكره.
(2) المنهاج 7/449- 451.(1/214)
ثم ذكر طريقًا ثانية فقال: (وهناك طريق آخر وهو أن يقال دواعي المسلمين بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت متوجهة إلى اتباع الحق وليس لهم ما يصرفهم عنه وهم قادرون على ذلك فإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب(1) الفعل.
فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق وذلك أنهم خير الأمم وقد أكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة ولم يكن عند الصديق غرض دنيوي يقدمونه لأجله ولا عند علي غرض دنيوي يأخرونه لأجله بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم وكذلك عامة قبائل قريش لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم فإن طاعتهم لمنافي كانت أحب إليهم من طاعة تيمي لو اتبعوا الهوى.... وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ورسوله فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب وأبو بكر كان أتقاهم)(2).
ثم ذكر طريقًا ثالثة فقال: (وهنا طريق آخر وهو أنه تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة هي خير الأمم» كما دل عليها الكتاب والسنة.
وأيضا فإنه من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين علم أن أهل ذلك الزمان كان خيرا وأفضل من أهل هذا الزمان وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم وولوا فاسقا وظالما ومنعوا عادلا عالما مع علمهم بالحق فهؤلاء من شر الخلق وهذه الأمة شر الأمم لأن هذا فعل خيارها فكيف بفعل شرارها؟!)(3).
__________
(1) أي وجد.
(2) المنهاج 7/457- 458.
(3) المنهاج 7/458.(1/215)
ثم ذكر طريقًا رابعة فقال: (وهنا طريق آخر وهو أنه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان ( كان لهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - اختصاص عظيم وكانوا من أعظم الناس اختصاصا به وصحبة له وقربا إليه واتصالا به وقد صاهرهم كلهم وما عرف عنه أنه كان يذمهم ولا يلعنهم بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثني عليهم.
وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهراً وباطنا في حياته وبعد موته, وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته فإن كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب فأحد الأمرين لازم إما عدم علمه بأحوالهم, أو مداهنته لهم, وأيهما كان فهو أعظم القدح في الرسول - صلى الله عليه وسلم -...وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك أين كان عن علم ذلك وأين الاحتياط للامة حتى لا يولي مثل هذا أمرها ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟
فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول كما قال مالك وغيره إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين.
ولهذا قال أهل العلم: أن الرافضة دسيسة الزندقة وإنه وضع عليها)(1).
ثم ذكر طريقًا خامسة: قال بعد ذلك: (لكن لما كان المقتضى مع أبي بكر وهو دين الله قويا والإسلام في جدته وطراوته وإقباله كان أتقى لله إلا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ولو كان لبعضهم هوى مع الغير.
وأما أبو بكر فلم يكن لأحد معه هوى إلا هوى الدين الذي يحبه الله ويرضاه.
__________
(1) المنهاج 7/458- 459.(1/216)
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه, وأن لم يكن ذلك لزم إن يعرفوا ويحرفوا وكلاهما ممتنع عادة ودينا)(1).
* * *
المبحث الثالث
رد المطاعن التي يطعن بها الرافضة على أبي بكر
سأذكر بعض المطاعن التي يطعن بها الرافضة على أبي بكر وأذكر رد شيخ الإسلام عليها فمن ذلك: -
أولاً: قول الرافضي: (ومنع أبو بكر فاطمة(2) إرثها فقالت: يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها وكان هو الغريم لها لأن الصدقة تحل له لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»(3).... إلخ).
قال شيخ الإسلام: (والجواب عن ذلك من وجوه.
__________
(1) المنهاج 7/463- 464.
(2) هي فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - الزهراء، رضي الله عنها أم الحسن سيدة نساء هذه الأمة، تزوجها علي في السنة الثانية من الهجرة وماتت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وقد جاوزت العشرين بقليل، التقريب 751، الخلاصة 3/389.
(3) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب «ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع» 8/146، وقد رواه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن سعد بن أبي وقاص، وفي كتاب الخمس باب «فرض الخمس» 4/42، 43، 44، 45، عن عائشة وأبي بكر وعمر وعلي وعباس وأبي هريرة ومالك، وفي مواضع أخرى، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب «حكم الفرد» 3/1337- 1339، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نورث ما تركناه صدقة» 3/1379، 1380، 1381، 1382، 1383، عن عائشة وأبي بكر، وقد رواه أصحاب السنن.(1/217)
أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة رضي الله عنها أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يعلم صحته عنها وإن صح فليس فيه حجة لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يقاس بأحد من البشر وليس أبو بكر أولى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها ولا هو ممن حرم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها ولا هو أيضا ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال كما جعل أباها كذلك.
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلفوها لورثتهم وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.
الثاني: أن قوله: [والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها] كذب فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا نورث ما تركناه فهو صدقة» رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد(1) وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو هريرة والرواية عن هؤلاء ثابته في الصحاح والمسانيد مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث فقول القائل إن أبا بكر انفرد بالرواية يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.
__________
(1) سعد بن أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أبو إسحاق أحد العشرة، أول من رمي بسهم في سبيل الله ومناقبه كثيرة توفي سنة 55هـ، على المشهور وهو آخر العشرة وفات. التقريب/232، الخلاصة 371.(1/218)
الثالث: قوله: [وكان هو الغريم لها] كذب فإن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته وإنما هو صدقة لمستحقها كما أن المسجد حق للمسلمين والعدل لو شهد على رجل أنه وصى بجعل بيته مسجدا أو بجعل بئره مسبلة أو أرضه مقبرة ونحو ذلك جازت شهادته باتفاق المسلمين وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد ويشرب من تلك البئر ويدفن في تلك المقبرة فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين ومثل هذا لا يكون خصما.... ولو شهد عدل بأن فلانا وقف ماله على الفقراء والمساكين قبلت شهادته وإن كان الشاهد فقيرا.
الرابع: أن الصديق - رضي الله عنه - لم يكن من أهل هذه الصدقة بل كان مستغنيا عنها ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصى بصدقة للفقراء فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق
الخامس: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة والمحدث إذا حدث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قبلت روايته للحديث لأن الرواية تتضمن حكما عاما يدخل فيه الراوي وغيره وهذا من باب الخبر كالشهادة برؤية الهلال فإن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يتناول الراوي وغيره وكذلك ما نهى عنه وكذلك ما أباحه.
وهذا الحديث تضمن رواية بحكم شرعي ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة رضي الله عنها وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتهابه لذلك منهم وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة... إلخ)(1).
ثانيًا: قول الرافضي: (السادس:(2) قول أبي بكر أقيلوني فلست بخيركم ولو كان إماما لم يجز له طلب الإقالة).
__________
(1) المنهاج 4/194- 198.
(2) السادس من الوجوه التي يدعي الروافض أنها تدل على أن من تقدم عليا لم يكن إماما وهو في الفصل الخامس من كتابه.(1/219)
قال شيخ الإسلام: (والجواب أن هذا:
أولاً: كان ينبغي أن يبين صحته وإلا فما كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح.
وثانيًا: إن صح هذا عن أبي بكر لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها فلم لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك؟ بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع علي نقيض ذلك ولا نص فلا يجب(1) الجزم بأنه باطل وإن لم يكن قاله فلا يضر تحريم هذا القول.
وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول.
وقد يقال هذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها)(2).
ثالثًا: قول الرافضي: (الثامن: قوله في مرض موته ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكبسه(3) وليتني كنت في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين وكان هو الأمير وكنت الوزير(4)، وهذا يدل على إقدامه علي بيت فاطمة عند اجتماع أمير المؤمنين والزبير وغيرهما فيه).
قال شيخ الإسلام: (والجواب أن القدح لا يقبل حتى يثبت اللفظ بإسناد صحيح ويكون دالا دلالة ظاهرة على القدح فإذا انتفت إحداهما انتفى القدح فكيف إذا انتفى كل منهما ونحن نعلم يقينا أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولا وآخرا.... وهذا كله دعوى مختلق وإفك مفتر باتفاق أهل الإسلام ولا يروج إلا على من هو من جنس الأنعام.
__________
(1) أي فلا يجوز.
(2) المنهاج 8/228.
(3) الكبس: طمك حفرة بتراب، ومعناه سد منافذة وضغط على الأرض وهم يدعون هذا قاتلهم الله، تهذيب اللغة 1/ 80- 82، معجم مقاييس اللغة 5/ 154، لسان العرب 6/190- 192.
(4) رواه الطبراني 1/62، 63، قال في مجمع الزوائد: 5/202، 203، وفيه علوان بن داود البجلي وهو ضعيف، وهذا الأثر مما أنكر عليه.(1/220)
وأما قوله ليتني كنت ضربت على يد أحد الرجلين فهذا لم يذكر له إسنادا ولم يبين صحته فإن كان قاله فهو يدل على زهده وورعه وخوفه من الله تعالى)(1).
رابعًا: قول الرافضي: (العاشر: أنه لم يوَّل أبا بكر شيئا من الأعمال وولي عليه).
قال شيخ الإسلام: (والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا باطل بل الولاية التي ولاها أبا بكر لم يشركه فيها أحد وهي ولاية الحج وقد ولاَّه غير ذلك.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ولّى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وخالد بن الوليد فعلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصا عن هؤلاء.
الثالث: أن عدم ولايته لا يدل على نقصه بل قد يترك ولايته لأنه عنده أنفع له منه في تلك الولاية وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له يقول كثيرا «دخلت أنا وأبو بكر وعمر» «وخرجت أنا وأبو بكر وعمر»(2) وكان أبو بكر يسمر عنده عامة(3) ليله.... وكان مشاورته لأبي بكر أغلب واجتماعه به أكثر هذا أمر يعلمه من تدبر الأحاديث الصحيحة التي يطول ذكرها)(4).
خامسًا: قول الرافضي: (الحادي عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذه لأداء سورة براءة ثم أنفذ عليا وأمره برده وأن يتولى هو ذلك من لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة؟!).
قال شيخ الإسلام: (والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا كذب باتفاق أهل العلم وبالتواتر العام فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع(5) لم يرده ولا رجع بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام وعلي من جملة رعيته يصلي خلفه ويدفع بدفعه ويأتمر بأمره كسائر من معه.
__________
(1) المنهاج 8/ 290- 291.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) المنهاج 8/ 294، 295.
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 177.(1/221)
وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يقال إنه أمره برده؟!.
ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة(1) قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر أن «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان»(2) وفي رواية ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي وأمره أن يؤذن ببراءة فأذن علي معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة وبأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان(3) قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشرك.
__________
(1) أبو هريرة - رضي الله عنه - الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال جمة أرجحها عبد الرحمن بن صخر الدوسي، اليماني سيد الحفاظ الأثبات، قال الذهبي: وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة، وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، واختلف في وفاته على عدة أقوال والراجح سنة 57 هـ، السير 2/ 578، 362، التقريب / 680، 681، الشذرات 1/63- 64.
(2) بعث النبي لأبي بكر ببراءة، انظر مسند أحمد 1/ 156، تحقيق أحمد شاكر، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح 2/ 32، الترمذي كتاب تفسير القرآن، ومن سورة التوبة 5/ 275، 276.
(3) سبق تخريجه.(1/222)
قال أبو محمد بن حزم(1): وما حصل في حجة الصديق كان من أعظم فضائله لأنه هو الذي خطب بالناس في ذلك الموسم والجمع العظيم والناس منصتون لخطبته يصلون خلفه وعلي من جملتهم وفي السورة فضل أبي بكر وذكر الغار فقرأها علي على الناس فهذا مبالغة في فضل أبي بكر وحجة قاطعة. وتأميره لأبي بكر على علي هذا كان بعد قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟»(2).
ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة ويجيئون إلى ما وقع فيقلبونه ويزيدون فيه وينقصون.
وهذا القدر وإن كان الرافضي لم يفعله فهو فعل شيوخه وسلفه الذين قلدهم ولم يحقق ما قالوه ويراجع ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم المعلوم لعامتهم وخاصتهم.
الثاني: قوله الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة.
__________
(1) هذا الكلام موجود بمعناه في الفصل لابن حزم 4/ 22، والاختلاف يسير ولعل شيخ الإسلام ذكره بالمعنى.
(2) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: «من فضائل علي بن أبي طالب» 4/ 1870، 1871.(1/223)
قول باطل فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض وكان الصديق يعلم عامة الشريعة وإذا خفي عنه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك كما سألهم عن ميراث الجدة(1) فأخبره من أخبره منهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس. ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصا...
الثالث: أن القرآن بلّغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل أحد من المسلمين فيمتنع أن يقال إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه.
الرابع: أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعلي فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد بل لا بد أن يكون منقولا بالتواتر.
الخامس: أن الموسم ذلك العام كان يحج فيه المسلمون والمشركون وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن ينادي في الموسم «أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» كما ثبت في الصحيحين فأي حاجة كانت بالمشركين إلى أن يبلّغوا القرآن)(2).
سادسًا: من المطاعن قول الرافضي: (يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه والجواب أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها.
أحدها: أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته فبطل هذا
__________
(1) سنن سعيد بن منصور 1/54، 55، وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورمز له الذهبي في التلخيص بـ (خ، م) 4/388، 339.
(2) المنهاج 8/295، 300، انظر 5/ 493، 494.(1/224)
الثاني: أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به من أعظم الخلق اختصاصا به....، والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره(1) أو أشد،... وكون أبي بكر كان مواليا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار..... فمن قال إنه كان في الباطن عدوه كان من أعظم أهل الأرض فرية ثم إن قائل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي وقيل له إنه كان في الباطن معاديا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا وكان مراده إهلاك الباقين لكن عجز وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية والاثنى عشرية فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة علي استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر.
فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة والحجة على معاداته باطلة فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة والحجة على معاداته أولى بالبطلان.
الوجه الثالث: أن قوله «استصحبه حذرا من أن يظهر أمره»
__________
(1) كالشك في محبة علي والحسن والحسين أو أشد.(1/225)
كلام من هو من أجهل الناس بما وقع فإن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة وأرسلوا الطلب فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر فأي شيء كان يخاف؟ وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك.
الرابع: أنه إذا كان خرج ليلا كان وقت الخروج لم يعلم به أحد فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه.
فإن قيل فلعله علم خروجه دون غيره؟
قيل أولا قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به كما خرج في وقت لم يشعر به المشركون وكان يمكنه أن لا يعينه.
فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم يأذن له حتى هاجر معه والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بالهجرة في خلوة...(1)
الوجه الخامس: أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك فكان يمكنه أن يعلمهم بخبره.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب «هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة » 4/ 254- 258، وفي كتاب الكفالة باب جوار أبي بكر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -... إلخ 3/58- 59، ومسلم كتاب الزهد والرقائق باب في الهجرة 4/2309- 3211، المسند تحقيق أحمد شاكر 1/152- 156 بمعناه.(1/226)
السادس: أنه إذا كان كذلك والعدو قد جاء إلى الغار ومشوا فوقه كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار وينذر العدو به وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما والقدرة تامة وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي أو انتفاء القدرة والقدرة موجودة فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه)(1).
سابعًا: من المطاعن: قول الرافضي: (الآية تدل على نقصه لقوله تعالى: { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (2) فإنه يدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبقضاء الله وقدره).
قال شيخ الإسلام: (فالجواب أولا: أن هذا يناقض قولكم «إنه استصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره» فإنه إذا كان عدوه وكان مباطنا لعدائه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو... فكلامهم في هذا يبطل قولهم: إنه كان منافقا ويثبت أنه كان مؤمنا به.
__________
(1) المنهاج 8/433- 448.
(2) التوبة آية / 40.(1/227)
واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار(1)؛ لأن أحدا لم يهاجر إلا باختياره والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه وإنما يختارها الذين وصفهم الله تعالى بقوله: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } (2)، وقوله { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } (3).
وأبو بكر أفضل من هؤلاء كلهم.
وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته الذي هو أعظم الأسفار خوفا وهو السفر الذي جعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس ولظهور أمره فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه ووثوقا به.
ويكفي هذا في فضائل الصديق وتمييزه على غيره وهذا من فضائل الصديق التي لم يشركه فيها غيره ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده)(4).
(وأما قوله «إنه يدل على نقصه». فنقول: أولا: النقص نوعان نقص ينافي إيمانه ونقص عمن هو أكمل منه.
فإن أراد الأول فهو باطل فإن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } (5).
__________
(1) المقصود أن النفاق كان في المدينة ولم يكن في مكة.
(2) الحشر آية / 8.
(3) الحج / 39، 40.
(4) المنهاج 8/ 449، 450.
(5) النحل آية / 127.(1/228)
وقال للمؤمنين عامة { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ } (1). وقال: { وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } (2) فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان.
وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه فلا ريب أن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من حال أبي بكر وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرًا وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينًا وطمأنينة وعندما يتأذى منه النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه)(3).
وأما قول الرافضي بأن الأية تدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله.. إلخ: (فهذا كله كذب منه ظاهر ليس في الآية ما يدل على هذا وذلك من وجهين:
أحدهما أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } (4) فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم.
__________
(1) آل عمران / 139.
(2) الحجر آية / 87، 88.
(3) المنهاج 8/451، 452.
(4) الإسراء آية / 22.(1/229)
وكذلك قوله { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ } (1)، { وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ } (2) فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة وقد نهي عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة.
فقوله: { لا تَحْزَنَ } لا يدل على أن الصديق كان قد حزن لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن فكان حزنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقتل فيذهب الإسلام وكان يود أن يفدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال «أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك»(3) رواه أحمد في كتاب مناقب الصحابة(4)... وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفتري عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعيش هو بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } (5).
__________
(1) القصص آية / 88.
(2) الإسراء آية / 1.
(3) ورد بمعناه في فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 62، 63، 178.
(4) هذا الكتاب المقصود به «فضائل الصحابة »، وهو مطبوع في مجلدين تحقيق / وصي الله بن محمد عباس.
(5) الأحزاب آية / 6.(1/230)
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»(1) وحزنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على كمال موالاته ومحبته ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه وهذا من أعظم الإيمان....، وإن قيل أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار قيل فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه وكان استصحبه لئلا يظهر أمره وقيل هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبما أوجبه الله على المؤمنين.
ثم يقال: هب أن حزنه كان عليه وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أفيستحق أن يشتم على ذلك؟ ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه(2) بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك(3) وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب «حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، 1/ 6، ومسلم في كتاب الإيمان باب (وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -... إلخ)» 1/ 67.
(2) كذا في المنهاج وصحة العبارة: فلم يصر عليها.
(3) فدك: بالتحريك، وآخره كاف: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، أفاءها الله تعالى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلحا، سنة سبع.(1/231)
وقد قال تعالى: { لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ } (1) فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين وإن قدر أنه حزن على الدنيا فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها وأبرأ من المذام كلها حقيقيها وخياليها).
(أما قوله: «إنه يدل على قلة صبره» فباطل بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم -:« إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا -يعني اللسان- أو يرحم»(2).
__________
(1) الحديد/ 23.
(2) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا بك لمحزونون» 2/85، وفيه: «إن الله لا يعذب بدمع العين»، وفي كتاب الطلاق باب «الإشارة في الطلاق والأمور» 6/ 175، ومسلم في كتاب الجنائز باب «البكاء على الميت» 2/ 136.(1/232)
وقوله [يعني الرافضي]: إنه يدل على عدم يقينه بالله كذب وبهت فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ابنه إبراهيم قال:« تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون»(1) وقد نهى الله عن الحزن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } (2).
وكذلك قوله: (يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره هو باطل كما تقدم نظائره)(3).
(وقوله «وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة».
والجواب أولا: أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: { إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (4) فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال واختص بصحبته وكان له كمال الصحبة مطلقا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة وكمال محبته ونصره للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإنا بك لمحزونون» 2/ 84، 85.
(2) النحل آية / 127.
(3) المنهاج 8/ 457- 462.
(4) التوبة آية / 40.(1/233)
ويقال ثانيا: هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيه { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } (1) وقوله { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } (2)، وقوله: { خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى } (3).
فيقال: إن كان الخوف طاعة فقد نهي عنه وإن كان معصية فقد عصى، ويقال: إنه أمر أن يطمئن ويثبت لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف فقوله لموسى: { خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى } (4) هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف... وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه { لا تحزن إن الله معنا } نهي عن الحزن مقرون بما يوجب زواله وهو قوله { إن الله معنا } وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره...وكذلك قوله { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } (5) مقرون بقوله { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (6).
وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم...
ويقال ثالثا: ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد وإن وجد فالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت وإن لم يكن المنهي عنه معصية بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهي وقد يكون الحزن من هذا الباب ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك... والنهي عن ذلك ليس لأن المنهي عنه معصية إذا حصل بغير اختياره ولم يكن سببه محظورا.
__________
(1) النحل آية / 127.
(2) الحجر آية / 88.
(3) طه آية / 21.
(4) طه آية / 21.
(5) النحل آية / 127.
(6) النحل آية / 128.(1/234)
ويقال رابعًا: لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنه انتهوا ثم تابوا كما تقدم قال أبو محمد بن حزم وأما حزن أبي بكر - رضي الله عنه - فإنه قبل أن ينهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه كان غاية الرضا لله فإنه كان إشفاقا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كان الله معه والله لا يكون قط مع العصاة بل عليهم.
وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام عيبا... إلخ)(1).
(قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: وقد زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (2) لا يدل على إيمان أبي بكر فإن الصحبة تكون من المؤمن والكافر.
كما قال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا } (3) إلى قوله: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } (4) الآية.
__________
(1) الفصل لابن حزم 4/ 221، المنهاج 8/462- 467.
(2) التوبة آية / 40.
(3) الكهف آية / 32- 35.
(4) الكهف آية / 37.(1/235)
فيقال معلوم أن لفظ الصاحب في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه أو عدوه أو مؤمن أو كافر إلا لما يقترن به وقد قال تعالى: { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ } (1) وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة وليس فيه دلالة على إيمان أو كفر. وكذلك قوله تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } (2) وقوله { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } (3)، المراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - لكونه صحب البشرية فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم } (4)، وقال { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ } (5) فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم وأمكنه أن يخاطبهم بلسانهم فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه فكان ذكر صحبته لهم هنا دلالة على اللطف بهم والإحسان إليهم وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى: { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»(6) وقوله «هل أنتم [تاركوا](7)
__________
(1) النساء آية / 36.
(2) النجم آية / 1، 2.
(3) التكوير آية / 22.
(4) التوبة آية / 128.
(5) إبراهيم آية / 4.
(6) رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب قول النبي: لو كنت متخذا خليلا 4/ 195. ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة 4/ 1967، 1968، وانظر فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 50- 51، 2/909.
(7) في المنهاج 8/ 471، تاركي والتصويب من البخاري.(1/236)
لي صاحبي»(1) وأمثال ذلك فإضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن موالاة له وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به والقرآن يقول فيه { يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (2).
فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه وهذه المعية تتضمن النصر والتأييد وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه وأيضا فقوله { لا تَحْزَنْ } دليل على أنه وليه وأنه حزن خوفا من عدوهما فقال له { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له: { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ؛ لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله { لا تَحْزَنْ } ثم قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } (3).
ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف [لا](4) ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره؟.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن (سورة الأعراف) باب: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا» 5/197، بلفظ تاركوا.
(2) التوبة آية / 40.
(3) التوبة آية / 40.
(4) لعل الصواب بحذفها وهي زيادة من المحقق وليست في الأصل والمعنى: فكيف ينصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الذين كفروا وهم معه في سفره، وقد لزموه ليلا ونهارا وذلك أن الرافضة يعتبرون أبا بكر كافرًا - قاتلهم الله -.(1/237)
وقوله { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } حال من الضمير في { أَخْرَجَهُ } أي أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما وذلك هو الواقع فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (1)، وقال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } (2) وقال { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ } (3).
وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه والكفار إنما أخرجوا أعداءهم لا من كان كافرا منهم فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر)(4).
__________
(1) الحشر / 8.
(2) الحج آية / 39، 40.
(3) الممتحنة آية / 9.
(4) المنهاج 8/ 469- 473.(1/238)
(والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (1) صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما وأنه كان ابن عمه)(2).
* * *
الفصل الثاني
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
المبحث الأول: فضائله:
سأذكر في هذا الفصل -بعون الله تعالى- خصائص أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ثم فضائله ومناقبه وخلافته ووفاته ثم بعد ذلك أذكر بعض المطاعن التي يطعن بها الرافضي عليه مع بيان رد شيخ الإسلام عليها، فأقول وبالله التوفيق.
المطلب الأول: خصائصه:
__________
(1) التوبة آية / 40.
(2) المنهاج 8/ 486، انظر 8/ 488- 493.(1/239)
اختصاصه باعتزاز الإسلام به وأن المسلمين ما زالوا أعزة منذ أسلم: (قال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا يحيى بن سعيد(1) عن إسماعيل بن أبي خالد(2) حدثنا قيس بن أبي حازم(3) قال: قال عبد الله بن مسعود: [ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر](4). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه قال «اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب» قال فغدا عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم يومئذ(5) وفي لفظ: «أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك»(6).
__________
(1) يحيى بن سعيد بن فروخ القطان الإمام الكبير أمير المؤمنين في الحديث أبو سعيد التميمي مولاهم البصري، الحافظ ولد سنة 120 هـ، قال الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطان، ت سنة 198 هـ، السير 9/ 175- 188، تاريخ بغداد 14/ 135- 144، الخلاصة 3/149.
(2) إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم البجلي ثقة ثبت، ت سنة 146هـ، روى له الجماعة، التقريب / 107، تهذيب التهذيب، 1/ 291، 292، الخلاصة 1/86.
(3) قيس بن أبي حازم البجلي الأحمسي، أبو عبد الله، ثقة مخضرم، يقال: «له رؤية» ت سنة 90هـ، وقيل غيرها، وقد جاوز المائة وتغير، التقريب / 456، الخلاصة 2/ 355، وفيه توفي 98هـ.
(4) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «مناقب عمر» 4/199، وفي مناقب الأنصار باب «إسلام عمر» 4/242.
(5) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/249، 250، سنن الترمذي 5/ 618، المستدرك 3/ 83، وصححه الحاكم من طريق آخر بلفظ: «اللهم أيد الدين بعمر بن الخطاب» ووافقه الذهبي.
(6) رواه الإمام أحمد في المسند 2/ 95، وقال أحمد شاكر (8/60)، إسناده صحيح، وفي فضائل الصحابة 1/ 250، والترمذي 5/617، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وابن سعد في الطبقات 3/267، مجمع الزوائد 9/63، في حديث طويل - وابن الجوزي في مناقب عمر / 12.(1/240)
وروى النضر(1) عن عكرمة عن ابن عباس قال: [لما أسلم عمر قال المشركون قد انتصف القوم منا](2) وروى أحمد بن منيع(3) حدثنا ابن عليه(4) حدثنا أيوب(5) عن أبي معشر(6) عن إبراهيم(7) قال: قال ابن مسعود كان عمر حائطا حصينا على الإسلام يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه. فلما قتل عمر انثلم الحائط فالناس اليوم يخرجون منه(8)
__________
(1) أبو عمر النضر بن عبد الرحمن الخزاز متروك، روى له الترمذي. التقريب / 562، الخلاصة 3/94.
(2) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 248، الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح 3/ 85، مجمع الزوائد، 8/65.
(3) أحمد بن منيع بن عبد الرحمن أبو جعفر البغوي الأصم، ثقة، حافظ ت سنة 244 هـ، التقريب / 85، الخلاصة 1/ 32.
(4) إسماعيل بن إبراهيم الأسدي مولاهم أبو بشر البصري المعروف بابن علية، ثقة حافظ ت سنة 193هـ، التقريب / 105 الخلاصة 1/ 83.
(5) أيوب بن أبي تميمة السختياني، وأبو بكر البصري، ثقة ثبت، ت سنة 131هـ، روى له الجماعة، تهذيب الكمال 3/457- 464، السير 6/15- 26، الخلاصة 1/110.
(6) لعله أبو معشر، زياد بن كليب الحنظلي فإنه يروي عن النخعي، ويروي عنه أيوب السختياني وغيره، وثقه العجلي والنسائي وابن حبان، ت سنة 119هـ، الخلاصة 1/346، التقريب / 220، وقال ت سنة 119، 120 هـ، تهذيب الكمال 9/504- 506، ولم أجد أحدًا ممن يروي عن النخعي ويروي عنه أيوب يسمى معشرًَا.
(7) إبراهيم بن يزيد النخعي، الكوفي، الإمام الحافظ، فقيه العراق، أبو عمران أحد الأعلام، قال الذهبي: كان بصيرا بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، روى عنه أبو معشر - زياد بن كليب - ت سنة 96هـ، التقريب / 95، السير 4/520- 529، تهذيب الكمال 2/233- 240.
(8) فضائل الصحابة، للإمام أحمد 1/270- 271، 339، مصنف ابن أبي شيبة 12/23، 24، 34، الطبراني في الكبير 9/176، 177، 178، المستدرك 3/93، معرفة الصحابة 1/219، طبقات ابن سعد 3/371- 372، مجمع الزوائد 9/79، شرح السنة 14/95- 96 بأتم من هذا اللفظ.(1/241)
.
وروى ابن بطة بالإسناد المعروف عن الثوري عن قيس بن مسلم(1) عن طارق بن شهاب(2) عن أم أيمن(3) قالت وهي الإسلام يوم مات عمر(4).
والثوري عن منصور(5) عن ربعي عن حذيفة قال كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا فلما قتل كان كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا(6).
__________
(1) قيس بن مسلم الإمام المحدث، أبو عمرو الجدلي الكوفي، وثقه أحمد وغيره ت سنة 120 هـ، السيرة / 164، التقريب 458.
(2) طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي، أبو عبد الله الكوفي قال أبو داود: «رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه» ت سنة 82 أو 83هـ، التقريب / 281، الخلاصة 2/8.
(3) حاضنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقال: اسمها بركة، وهي والدة أسامة بن زيد توفيت في خلافة عثمان رضي الله عنهما، التقريب / 755، الخلاصة 3/396.
(4) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/245، السير 2/227، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 369، 8/226، مجمع الزوائد 9/ 77.
(5) أبو عتاب، منصور بن المعتمر السلمي، إمام حافظ، قال في التقريب: ثقة، ثبت تذكرة الحفاظ، 1/142، 143، التقريب / 547.
(6) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/331، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/373، المستدرك 3/84، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ورمز له الذهبي بـ (خ، م)، الرياض النضرة في مناقب العشرة 2/420.(1/242)
ومن طريق الماجشون(1) قال أخبرني عبد الواحد بن أبي عون(2) عن القاسم بن محمد(3) كانت عائشة رضي الله عنها تقول: «من رأى عمر بن الخطاب علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذيا(4) نسيج وحده(5) قد أعد للأمور أقرانها»(6).
__________
(1) هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون - بكسر الجيم - المدني نزيل بغداد مولى آل الهديرة، ثقة فقيه، مصنف، ت سنة 164هـ، تذكرة الحفاظ 1/222، 223، التقريب / 357.
(2) عبد الواحد بن أبي عون المدني، صدوق يخطئ، ت سنة 144هـ، التقريب 367، الخلاصة 2/184.
(3) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة قال أيوب: «ما رأيت أفضل منه» ت سنة 106 هـ، على الصحيح. التقريب / 451، الخلاصة 2/ 346.
(4) الأحوذي: المشمر في الأمور القاهر لها، الذي لا يشذ عليه منها شيء. والأحوذي الذي يغلب. لسان العرب 3/487، وقال في النهاية (1/457)، الأحوذي: الجاد المنكش (أي المسرع) في أموره الحسن السياق للأمور.
(5) يضرب مثلا لكل من بولغ في مدحه وهو كقولك: فلان واحد عصره، فنسيج وحده: أي لا نظير له في علم أو غيره، فعائشة أرادت أنه كان منقطع القرين.
(6) معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/212، مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي /249، الرياض النضرة في مناقب العشرة 2/421، النهاية في غريب الحديث 1/457- 459، ولم أجد من حكم عليه من أهل العلم.(1/243)
وقال محمد بن إسحاق(1) في السيرة أسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره، فامتنع به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عزوا وكان عبد الله بن مسعود يقول: [ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه(2)](3).
وكذلك رواه مسندا محمد بن عبيد الطنافسي(4) قال حدثنا إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال: قال عبد الله بن مسعود: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر والله لو رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا»(5))(6).
ب- اختصاصه بتأهله للنبوة لو كان نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني نزيل العراق إمام المغازي، صدوق، يدلس، ورمي بالتشيع والقدر، ت سنة 150 هـ، التقريب /467، الخلاصة 2/379.
(2) السيرة النبوية لابن هشام 1/366، 367.
(3) السيرة النبوية لابن هشام 1/366، 367.
(4) محمد بن عبيد الطنافسي بن أبي أمية، الكوفي الأحدب، ثقة، يحفظ، ت سنة 240 هـ، تذكرة الحفاظ 1/333، التقريب / 495، تهذيب التهذيب 9 / 327.
(5) أصله في البخاري 4/199.
(6) المنهاج 6/60- 62.(1/244)
(وقد روى أحمد والترمذي وغيرهما قال أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن المقري(1) حدثنا حيوة بن شريح(2) حدثنا بكر بن عمرو المعافري(3) عن مشرح بن هاعان(4) عن عقبة بن عامر الجهني(5) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب»(6).
ورواه ابن وهب(7) وغيره عن ابن لهيعة عن مشرح فهو ثابت.
__________
(1) هو عبد الله بن يزيد المخزومي المدني المقري الأعور مولى الأسود بن سفيان من شيوخ مالك، ثقة، ت سنة 148هـ، الخلاصة 2/112، التقريب /330.
(2) هو حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري، ثقة، ثبت، فقيه، زاهد ت سنة 158 هـ، وقيل: 159هـ، التقريب / 185، الخلاصة 1/265.
(3) بكر بن عمرو المعافري المصري صدوق عابد، ت بعد سنة 140هـ، التقريب/ 127، الخلاصة 1/135.
(4) هو مشرح بن هاعان المعافري المصري، أبو مصعب، مقبول، ت سنة 128هـ، التقريب / 532، الخلاصة 3/80.
(5) عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي الجهني أبو حماد، كان فقيها فاضلا، ت قرب الستين، التقريب / 395، التاريخ الكبير للبخاري /6/430، الخلاصة 2/236.
(6) الترمذي في المناقب باب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - 5/619، والحاكم في المستدرك وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» وقال الذهبي: «صحيح» 3/85، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1313، مجمع الزوائد 9/68.
(7) عبد الله بن وهب بن مسلم الإمام شيخ الإسلام أبو محمد الفهري مولاهم، المصري الحافظ توفي سنة 197هـ، التقريب / 328، السير 9/ 223.(1/245)
وروى ابن بطة من حديث عقبة بن مالك الخطى(1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كان غيري نبي لكان عمر بن الخطاب»(2) وفي لفظ «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر»(3). وهذا اللفظ في الترمذي)(4).
جـ- اختصاصه بأنه محدث ملهم:
(أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر، ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر» قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون)(5).
(وقال ابن عيينة: محدثون: أي مفهمون(6))(7). (والمحدث الملهم: يلهمه الله، وهذا قدر زائد على تعليم البشر)(8).
__________
(1) لم أجد صحابيًا بهذا الاسم، وإنما وجدت عقبة بن مالك الجهني، روى عنه عبد الله بن مالك الجهني، وعقبة بن مالك الليثي له صحبة نزل البصرة، روى عنه بشر بن عاصم الليثي، الإصابة 7/26، 27، الاستيعاب 8/104، تجريد أسماء الصحابة 1/385.
(2) لم أجده بهذا اللفظ وإنما ورد في الترمذي (لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن عاهان 5/619.
(3) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/428، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 1/320، ولم أجده في الترمذي، وإنما وجدت فيه الحديث السابق في التعليق قبله.
(4) المنهاج 6/68، 69.
(5) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب «من فضائل عمر - رضي الله عنه -» 4/1864.
(6) رواه مسلم في فضائل الصحابة باب «من فضائل عمر - رضي الله عنه -» 4/1864.
(7) المنهاج 8/69.
(8) المنهاج 7/523.(1/246)
(وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب»(1)، وفي لفظ للبخاري «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر»(2))(3).
د- اختصاصه بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل جعل الحق على لسان عمر وقلبه:
(وقال [- صلى الله عليه وسلم -]:«إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»(4)... وقال ابن عمر: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر(5).
وهذا لكمال نفسه بالعلم والعدل قال الله تعالى { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } (6) فالله تعالى بعث الرسل بالعلم والعدل، فكل من كان أتم علمًا وعدلاً كان أقرب إلى ما جاءت به الرسل)(7).
__________
(1) رواه البخاري في الأنبياء باب «حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب» 4/449، ومسلم في فضائل الصحابة باب «من فضائل عمر - رضي الله عنه -» 4/1864.
(2) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «مناقب عمر - رضي الله عنه -» 4/200.
(3) المنهاج 6/20، 21، انظر 8/64، 65.
(4) رواه أبو داود في كتاب «الخراج والفيء والإمارة » باب «في تدوين العطاء» 3/364، 365/ الرياض النضرة 2/298، عن أبي هريرة. المسند 2/53، 401، 5/ 145، الحلية 1/42، الترمذي في المناقب باب «في مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -» 5/617، وتاريخ الخلفاء 17/10.
(5) لم أجده عن ابن عمر لكن: ورد نحوه عن علي في فضائل الصحابة 1/249، 330، 406، 410، 444، وفي مصنف ابن أبي شيبة 12/23، وحلية الأولياء 1/42، وورد عن طارق بن شهاب في المصنف لابن أبي شيبة 12/35، وفي مجمع الزوائد 9/67، عن علي وابن مسعود وطارق بن شهاب.
(6) الأنعام / 115.
(7) المنهاج 6/56.(1/247)
(قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «ما رأيت عمر قط إلا وأنا يخيل لي أن بين عينيه ملكا يسدده»(1)، وروى الشعبي عن علي قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر(2))(3).
(ثبت هذا عن الشعبي عن علي وهو قد رأى عليا وهو من أخبر الناس بأصحابه وحديثه)(4).
(وقد روى من وجوه ثابتة عن مكحول(5) عن غضيف(6) عن أبي ذر(7) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به»(8) وفي لفظ «جعل الحق على لسان عمر وقلبه أو قلبه ولسانه» وهذا مروى من حديث ابن عمر وأبي هريرة(9))(10).
__________
(1) فضائل الصحابة 1/247، قال المحقق: إسناده ضعيف، شرح السنة 14/86.
(2) شرح السنة 14/86.
(3) المنهاج 6/57، انظر 6/63.
(4) المنهاج 6/63.
(5) أبو عبد الله مكحول بن أبي مسلم الهذلي ثقة فقيه حافظ كثير الإرسال مشهور توفي سنة مائة وبضع عشرة - التقريب /545، تذكرة الحفاظ 1/107، 108.
(6) غضيف - يقال بالضاد ويقال بالطاء - ابن الحارث السكوني ويقال: الثمالي، أبو أسماء، حمصي مختلف في صحبته، وقيل تابعي توفي سنة بضع وستين. التقريب / 443، الخلاصة 2/331.
(7) أبو ذر الغفاري هو جندب بن جنادة على الأصح، صحابي مشهور، تقدم إسلامه، وتأخرت هجرته فلم يشهد بدرًا، مناقبه كثيرة، ت سنة 32هـ، التقريب 638، الخلاصة 3/215.
(8) رواه أبو داود في كتاب الخراج والفيء باب «في تدوين العطاء» 3/365، والإمام أحمد في المسند 5/145، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 7/1312، شرح السنة 14/85، وصححه الحاكم 3/86- 87، ووافقه الذهبي.
(9) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 7/1310، 1312، شرح السنة 14/85، وقال محققه إسناده صحيح.
(10) المنهاج 6/63، انظر 6/56.(1/248)
(وثبت عن قيس عن طارق بن شهاب قال كنا نتحدث أن عمر يتحدث على لسانه ملك(1) وعن مجاهد(2) قال كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن(3))(4).
هـ - من خصائصه موافقته للتنزيل في عدة قضايا:
(وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال عمر «وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر»(5).
وللبخاري عن أنس قال: قال عمر وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (6) وقلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أزواجه فدخلت عليهم فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه فقالت: يا عمر أما في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } (7)(8))(9).
__________
(1) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/264، مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لابن الجوزي / 218.
(2) هو مجاهد بن جبر أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير ت سنة 101هـ، وقيل: بعدها. التقريب /520، الخلاصة 3/10- 11.
(3) تاريخ الخلفاء / 122، فصل في موافقات عمر، الدر المنثور للسيوطي 1/290، شرح السنة 14/86.
(4) المنهاج 6/65.
(5) رواه البخاري في تفسير القرآن باب «تفسير سورة البقرة» 5/149- 150، ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل عمر - رضي الله عنه - 4/1865.
(6) البقرة/ 125.
(7) التحريم / 5.
(8) رواه البخاري في الصلاة باب ما جاء في القبلة 1/105، وتفسير القرآن تفسير سورة البقرة، باب: { َاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } 5/149، 150.
(9) المنهاج 6/22، انظر 6/64.(1/249)
(وفي الصحيحين أنه لما مات عبد الله بن أبي بن سلول(1) دعى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلى عليه قال عمر فلما قام دنوت إليه فقلت يا رسول الله! أتصلي عليه وهو منافق فأنزل الله { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (2) وأنزل الله { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } (3))(4)(5).
و - اختصاصه بالدين في رؤيا رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوب يجره دون سائر الأمة:
(وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما هو دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا! فما أولت ذلك يا رسول الله! قال: "الدين"(6))(7).
ز- اختصاصه بالعلم في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث الخزرجي، أبو الحباب المشهور بابن سلول، من خزاعة، رأس المنافقين ت سنة 9 هـ، الأعلام 4/65.
(2) التوبة / 84.
(3) التوبة / 80.
(4) رواه البخاري في الجنائز باب «ما يكره من الصلاة على المنافقين» 2/100، وفي تفسير القرآن باب قوله: «ولا تصل على أحد منهم... » الآية 5/ 207، ومسلم في كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» 4/2141.
(5) المنهاج 6/64، انظر 8/65، 66.
(6) رواه البخاري في الإيمان باب «تفاضل أهل الإيمان في الأعمال» 1/11، وفي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «مناقب عمر - رضي الله عنه -» 4/201، وغيرها، ومسلم في فضائل الصحابة باب «من فضائل عمر» 4/1859، والنسائي في الإيمان باب زيادة الإيمان 8/113، 114، والدارمي في الرؤيا باب «في القميص والبئر» إلخ 2/52، والمسند 5/373، 374.
(7) المنهاج 6/21، انظر 6/65، 8/65.(1/250)
(ما هو دون ذلك وعرض على عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا! فما أولته يا رسول الله! قال: "الدين".
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا أنا نائم قدحًا أتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى أني لا أرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب».
قالوا: ما أوله يا رسول الله! قال: "العلم"(1))(2).
(قال عبد الله بن أحمد حدثنا الحسن بن حماد(3) حدثنا وكيع(4) عن الأعمش عن شقيق(5) عن عبد الله بن مسعود قال لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان ووضع علم خيار أهل الأرض في كفه لرجح عليهم بعلمه(6).
قال الأعمش: فأنكرت ذلك وذكرته لإبراهيم فقال ما أنكرت من ذلك؟ قد قال ما هو أفضل من ذلك قال: «إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر بن الخطاب»(7).
__________
(1) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب: «مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - 4/198»، وفي العلم باب «فضل العلم» 1/28، 29، وفي التعبير باب «اللبن» 8/71،، و غيرها، ومسلم في فضائل الصحابة باب «من فضائل عمر» 4/1859، 1860، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/254.
(2) المنهاج 6/21.
(3) الحسن بن حماد بن كسيب، مصغرًا، الحضرمي، أبو علي البغدادي - يلقب سجادة- صدوق، ت سنة 241، التقريب / 160، الخلاصة 1/211.
(4) وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة، حافظ، عابد ت سنة 197هـ، التقريب 581، الخلاصة 3/128- 129.
(5) شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي، ثقة، مخضرم مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، التقريب / 268، الخلاصة 1/ 452.
(6) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/270، 271، من حديث طويل بمعناه، مجمع الزوائد 9/ 69، المعجم الكبير للطبراني 9/ 179 بإسناد صحيح.
(7) مجمع الزوائد 9/69، وقال: «رواه الطبراني بأسانيد ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة»، المعجم الكبير للطبراني 9/179.(1/251)
وروى ابن بطة بالإسناد الثابت عن ابن عيينة وحماد بن سلمة وهذا لفظه عن عبد الله بن عمير(1) عن زيد بن وهب(2) أن رجلا أقرأه معقل بن مقرن [أبو عميرة](3) آية وأقرأها عمر بن الخطاب آخر فسألا ابن مسعود عنها فقال لأحدهما من أقرأكها قال أبو عميرة بن معقل بن مقرن وقال للآخر من أقرأكها قال عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى كثرت دموعه ثم قال اقرأها كما أقرأكها عمر فإنه كان أقرأنا لكتاب الله وأعلمنا بدين الله ثم قال كان عمر حصنا حصينا على الإسلام يدخل في الإسلام ولا يخرج منه فلما ذهب عمر انثلم الحصن ثلمة لا يسدها أحد بعده وكان إذا سلك طريقا اتبعناه ووجدناه سهلا فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر(4).
__________
(1) عبد الله بن عمير مولى - أم الفضل - ويقال له مولى ابن عباس أيضا ت سنة 117 هـ، التقريب / 316، الخلاصة 2/85.
(2) زيد بن وهب الجهني، أبو سليمان الكوفي، مخضرم، ثقة، جليل، ت بعد الثمانين التقريب / 225، الخلاصة 1/ 355.
(3) هو معقل بن مقرن المزني أبو عميرة، قال ابن حبان: له صحبة، سكن الكوفة، وروى عن النبي أحاديث، انظر، تجريد أسماء الصحابة، 2/ 88، الإصابة 9/ 258، تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي / 255.
(4) طبقات ابن سعد 3/371- 372، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/338، 339، نحوه بسند مختلف، مجمع الزوائد 9 / 77- 78، وقال الهيثمي رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح، الطبراني 9/176- 178.(1/252)
فحيهلا بعمر فحيهلا بعمر وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا هشيم(1) حدثنا العوام(2) عن مجاهد قال إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به(3))(4).
(وقال [يعني ابن مسعود] أيضا: كان عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأعرفنا بالله والله لهو أبين من طريق الساعين(5) يعنى: أن هذا أمر بين يعرفه الناس)(6). (فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر)(7) رضي الله عنهما.
جـ- اختصاصه بالهيبة ونفران الشيطان منه:
__________
(1) هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية بن أبي حازم، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفي ت سنة 183هـ، التقريب / 574، الخلاصة 3/124.
(2) العوام بن حوشب بن يزيد الشيباني، أبو عيسى الواسطي، ثقة ثبت فاضل ت سنة 148هـ، التقريب / 433، الخلاصة 2/307.
(3) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/226 (رقم 349) بنفس الإسناد، وقال المحقق إسناده صحيح إلى مجاهد وفي صـ 264، رقم 342، بسند صحيح نحوه.
(4) المنهاج 6/66- 67.
(5) طبقات ابن سعد 3/371- 372، ونحوه في فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/330، مجمع الزوائد 9/69، 77- 78، وقال في الموضع الأول «رواه الطبراني في حديث طويل في وفاة عمر» وقال في الموضع الثاني، رواه الطبراني بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح، ومعنى طريق الساعين أي أنه بين معروف كما بين الصفا والمروة.
(6) المنهاج 6/85.
(7) المنهاج 8/301.(1/253)
(وقال عبدالله بن أحمد حدثنا شجاع بن مخلد(1) حدثنا يحيى بن يمان حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد(2) عن سالم بن عبد الله(3) عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر فكلم امرأة في بطنها شيطان فقالت حتى يجيء شيطاني فأسأله فقال رأيت عمر متزرا بكساء يهنأ إبل الصدقة وذلك لا يراه الشيطان إلا خر لمنخرية للملك الذي بين عينيه روح القدس ينطق على لسانه(4).
__________
(1) هو شجاع بن مخلد الفلاس، أبو الفضل البغوي، نزيل بغداد، صدوق، وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف، فذكره بسببه القيلي ت سنة 235 هـ، التقريب / 264، الخلاصة 1/ 443.
(2) لعله عمر بن محمد [فإنه روى عن سالم وروى عنه السفيانان، ولم أجد في ترجمة سالم أنه روى عن عمرو بن محمد] بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني نزيل عسقلان، ذكره ابن حبان في الثقات، ت سنة 150 هـ، تهذيب التهذيب / 495، 496، الخلاصة 2/ 277.
(3) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله المدني الفقيه، قال الذهبي: «الإمام الزاهد الحافظ مفتي المدينة» ت سنة 106هـ، السير 4/457- 467، تهذيب التهذيب 3/436- 438.
(4) فضائل الصحابة 1/246، قال المحقق إسناده ضعيف لضعف يحيى بن يمان.(1/254)
ومثل هذا في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن فلما استأذن عمر قمن فابتدرن الحجاب فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب» فقال عمر: قلت يا رسول الله! أنت أحق أن يهبن ثم قال عمر أي عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلن نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله: «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»(1).
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق، باب «صفة إبليس وجنوده» 4/96، وفي فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «مناقب عمر» 4/198، 199، وغيرها، ومسلم في فضائل الصحابة باب «من فضائل عمر» 4/1863، 1864، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/244، 245، 256، 257.(1/255)
وفي حديث آخر: «أن الشيطان يفر من حس عمر»(1) وقال أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن(2) حدثنا سفيان عن واصل(3) عن مجاهد قال كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر فلما قتل عمر وثبت(4))(5).
المطلب الثاني: بقية الفضائل:
سبق كثير من فضائله في ذكر فضائل أبي بكر رضي الله عنهما وذلك فيما يشتركان فيه مثل إنفاقهما في سبيل الله ومشاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما وشجاعتهما وكون المشركين لم يسألوا عن أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرهما، مما يدل على معرفة الناس بأن منزلتهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظيمة، وأن هذا أمر مشهور، كما سبق بيان ذلك، ومن فضائل الفاروق رضي الله عنه وأرضاه ومناقبه:
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب باب «مناقب عمر» 5/620، 621، 622، بمعناه وفي المسند: «إن الشيطان ليفر منك يا عمر» 5/353، فضائل الصحابة للإمام أحمد موقوفا على ابن مسعود 1/329.
(2) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن الإمام الناقد المجود أبو سيد الحفاظ أبو سعيد العنبري، وقيل الأزدي ت سنة 198 هـ، السير 9/192- 209، تذكرة الحفاظ 1/329- 332، تاريخ بغداد 10/240- 248.
(3) واصل بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي بياع السابري، ثقة ثبت، ت سنة 120 هـ التقريب / 579، الخلاصة 3/ 126.
(4) مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي / 251.
(5) المنهاج 6/69- 71.(1/256)
كونه أفضل هذه الأمة بعد أبي بكر - رضي الله عنه -: (وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة(1) قال سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها ثم من بعد أبي بكر قالت عمر قيل لها ثم من بعد عمر قالت أبو عبيدة عامر بن الجراح(2) ثم انتهت إلى هذا(3))(4).
(وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في بعض مغازيه: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا»(5).
وفي رواية في الصحيح: «كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم» قلنا الله ورسوله أعلم قال: «أليس فيهم أبو بكر وعمر إن يطيعوهما فقد رشدوا ورشدت أمتهم وإن يعصوهما فقد غووا وغوت أمتهم»(6) قالها ثلاثا)(7).
وقد سبق قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر)(8).
وأنه قد روى عنه من طرق كثيرة، وسبق أيضا قوله - رضي الله عنه -: («لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري»(9).
وفي السنن عن [النبي] - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(10).
__________
(1) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة و - بالتصغير - بن عبد الله بن جدعان التيمي المدني، أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقة فقيه ت سنة 117 هـ، روى له الجماعة التقريب / 312، الخلاصة 2/ 76.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) المنهاج 6/ 23، 24.
(5) سبق تخريجه.
(6) رواه مسلم بمعناه في المساجد باب «قضاء الصلاة الفائتة... إلخ» 1/ 472، 473، وفي المسند 5/302.
(7) المنهاج 6/129.
(8) سبق تخريجه.
(9) سبق تخريجه.
(10) سبق تخريجه.(1/257)
ولهذا كان أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها وهذا أظهر القولين كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنتهم)(1).
(وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أكثر اجتماعا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من علي بكثير.
كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وضع عمر - رضي الله عنه - على سريره فتكنفه(2) الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي وترحم عليٌّ على عمر وقال ما خلفت أحدا أحب إلى أن ألقى الله عز وجل بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كثيرا ما كنت اسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» فان كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك(3))(4).
علم عمر: (والمسائل التي تنازع فيها عمر وعلي في الغالب يكون فيها قول عمر أرجح)(5).
__________
(1) المنهاج 6/138.
(2) هكذا في البخاري 4/199.
(3) سبق تخريجه.
(4) المنهاج 7/524، 525، انظر المنهاج 7/390، 391.
(5) المنهاج 7/525.(1/258)
وقد قال عبيدة السلماني(1) لعلي: (رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة(2). وقال ابن مسعود: «كان عمر إذا فتح لنا بابا دخلناه فوجدناه سهلا أتى في زوج وأبوين وامرأة وأبوين فقال للأم ثلث الباقي(3) ثم إن عثمان وعليا وابن مسعود وزيدا اتبعوه».
وسعيد بن المسيب كان من أعلم التابعين باتفاق المسلمين وكان عمدة فقهه قضايا عمر وكان ابن عمر يسأله عنها...
واعلم أن أهل الكوفة وأصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود(4) وشريح(5) والحارث بن قيس(6) وعبيدة السلماني ومسروق وزر بن حبيش وأبي(7) وائل وغيرهم هؤلاء كانوا يفضلون علم عمر وعلم ابن مسعود على علم علي ويقصدون في الغالب قول عمر وابن مسعود دون قول علي)(8).
__________
(1) لعله عبيدة بن عمر السلماني - أبو عمرو تابعي كبير مخضرم، أسلم عام الفتح وبرع في الفقه، فقيه ثبت، كان شريح إذا أشكل عليه شيء يسأله، ت سنة 72هـ، على الصحيح. السير 4/40- 44، التقريب / 379.
(2) السنن الكبرى للبيهقي كتاب عتق أمهات الأولاد /10/348، باختلاف يسير المحلى لابن حزم كتاب العتق 9/ 317، باختلاف يسير، المغني كتاب عتق أمهات الأولاد 9/ 531.
(3) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/267، 268، بلفظ: «إذا سلك طريقًا».
(4) الأسود بن يزيد بن قيس الإمام القدوة، أبو عمرو النخعي الكوفي مخضرم، ت سنة 75هـ، على الراجح، السير 4/50- 53، التقريب / 111.
(5) شريح بن الحارث بن قيس الكندي أبو أمية، قاضي الكوفة، فقيه أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليست له صحبة، ت سنة 80 هـ السير 4/100- 106، التقريب/ 265.
(6) الحارث بن قيس الجعفي، الكوفي، العابد، الفقيه، صحب عليا وابن مسعود وكان كبير القدر ذا عبارة وتأله، ت في زمن معاوية، السير 4/75- 76، التقريب / 147.
(7) الحارث بن حسان البكري، ويقال اسمه حريث، صحابي له وفادة، التقريب / 145، الخلاصة 1/ 182.
(8) انظر المنهاج 7/525، 526.(1/259)
وقد سبق في خصائصه رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أُتي بلبن فشرب منه ثم أعطى فضله عمر وأول ذلك بالعلم(1)، ومع ذلك فهو من أخطب الناس بعد أبي بكر رضي الله عنهما(2).
جـ - فراسته:
(وثبت عن طارق بن شهاب قال إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذب الكذبة فيقول احبس هذه ثم يحدثه الحديث فيقول احبس هذه فيقول كل ما حدثتك به حق إلا ما أمرتني أن أحبسه(3).
وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب(4) عن ابن عجلان(5) عن نافع عن ابن عمر [أن عمر بن الخطاب بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية(6) قال فبينا عمر يخطب في الناس فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! قال فقدم رسول الجيش فسأله فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا فإذا بصائح يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله فقيل لعمر بن الخطاب إنك كنت تصيح بذلك على المنبر(7))(8).
د - عدله:
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر المنهاج 8/ 51.
(3) أخرجه السيوطي في تاريخ الخلفاء /127، عن طارق بن شهاب وعزاه لابن عساكر.
(4) يحيى بن أيوب أبو العباس الغافقي المصري الإمام المحدث العالم الشهير، قال ابن حجر: «صدوق ربما أخطأ» ت سنة 168 هـ، السير 8/ 5- 10، التقريب / 588.
(5) محمد بن عجلان المدني القرشي مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة، أبو عبد الله، أحد العلماء العاملين، وثقه الإمام أحمد وابن عيينة، ت سنة 148 هـ، قال ابن حجر: «صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة». التهذيب 9/ 341، 342، التقريب / 496.
(6) سارية بن زنيم الكناني ذكره ابن سعد وأبو موسى ولم يذكرا له ما يدل على صحبته لكنه أدرك، تجريد أسماء الصحابة 1/203.
(7) مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي باب «ذكر كرامات عمر» /172، 173، الرياض النضرة 2/ 326، 327، سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/101.
(8) المنهاج 6/63، 64.(1/260)
(بعدل عمر يضرب المثل حتى يقال: سيرة العمرين سواء كانا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز كما هو قول أهل العلم والحديث كأحمد وغيره أو كانا أبا بكر وعمر كما تقول طائفة من أهل اللغة كأبي عبيد(1) وغيره فإن عمر بن الخطاب داخل في ذلك على التقديرين.
ومعلوم أن شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه وقد قال تعالى: { أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (2)).
(ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقًا وغربًا... ومع هذا فكلهم يصفون عدله وزهده وسياسته ويعظمونه والأمة قرنا بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته ولا يعرف أن أحدا طعن في ذلك)(3).
__________
(1) هو القاسم بن سلام بن عبد الله -أبو عبيد- الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون ولد سنة 157، هـ، له كتاب الأموال «والغريب» و«الغريب المصنف في علم اللسان» و«الأمثال» وغيرها ت سنة 224هـ، بمكة السير 10/490- 509، التاريخ الكبير 7/ 127.
(2) البقرة/ 143.
(3) المنهاج 6/ 16- 17.(1/261)
(ويكفي الإنسان أن الخوارج الذين هم أشد الناس تعنتا راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما وكذلك الشيعة الأولى أصحاب علي كان يقدمون عليه أبا بكر وعمر وروى ابن بطة ما ذكره الحسن بن عرفة(1) حدثني كثير بن مروان الفلسطيني(2) عن أنس بن سفيان(3) عن غالب بن عبد الله العقيلي(4) قال لما طعن عمر دخل عليه رجال منهم ابن عباس وعمر يجود بنفسه وهو يبكي فقال له ابن عباس ما يبكيك يا أمير المؤمنين فقال له عمر أما والله ما أبكي جزعا على الدنيا ولا شوقا إليها ولكن أخاف هول المطلع قال فقال له ابن عباس فلا تبك يا أمير المؤمنين فوالله لقد أسلمت فكان إسلامك فتحا ولقد أُمرت فكانت إمارتك فتحا ولقد ملأت الأرض عدلا وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتذكر عندهما إلا رضيا بقولك وقنعا به قال فقال عمر أجلسوني فلما جلس قال عمر أعد على كلامك يا ابن عباس قال نعم فأعاده فقال عمر أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس قال نعم يا أمير المؤمنين أنا أشهد لك بهذا عند الله وهذا علي يشهد لك وعلي بن أبي طالب جالس فقال علي بن أبي طالب نعم يا أمير
__________
(1) هو الحسن بن عرفة بن يزيد أبو علي العبدلي البغدادي الإمام المحدث الثقة ولد سنة 150 هـ، وكان رحمه الله صاحب سنة واتباع، ت سنة 257هـ، السير 11/ 5470 551، طبقات الحنابلة 1/ 140، 141.
(2) كثير بن مروان أبو محمد الفهري المقدسي، ضعفوه يروى عنه الحسن بن عرفة وغيره، قال يحيى والدارقطني: ضعيف، وقال يحيى مرة كذاب، قال الفسوي: ليس حديثه بشيء، ميزان الاعتداد 3/409، 410، لسان الميزان 4/483- 484، الجرح والتعديل 7/157.
(3) لم أجده فيما بين يدي من المراجع.
(4) لعله غالب بن عبيد الله العقيلي سمع منه يعلى بن عبيد ومحمد بن يوسف، منكر الحديث، انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي / 195، كتاب التاريخ الكبير 7/101، المجروحين لابن حبان 2/201، لسان الميزان 4/414، 415.(1/262)
المؤمنين(1))(2).
هـ- خوفه - رضي الله عنه -:
وأما خوف عمر ففي صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة(3) قال: (لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس وكأنه يجزعه أي يزيل جزعه يا أمير المؤمنين ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم تفارقنهم وهم عنك راضون فقال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه؛ فإنما ذاك مَنُّ مِنَ الله منَّ به عليَّ وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله من به علي وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه(4))(5). (وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم»(6) اهـ، م (1855) ولم يقتل عمر - رضي الله عنه - رجل من المسلمين لرضا المسلمين عنه وإنما قتله كافر فارسي مجوسى(7). وخشيته من الله لكمال علمه فإن الله تعالى يقول: { إِنَّمَا
__________
(1) رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/247، 248، روى عن ابن مسعود، مناقب عمر لابن الجوزي / 225، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9/25- 27.
(2) المنهاج 6/51- 52.
(3) المسور بن مخرمة بن نوفل الإمام الجليل أبو عبد الرحمن القرشي الزهري، له صحبة ورواية، وكان ممن يلزم عمر ويحفظ عنه، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين وبها توفي سنة 64هـ، السير 3/ 390- 394، الخلاصة 3/30، التقريب / 532.
(4) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «مناقب عمر» 4/201.
(5) المنهاج 6/9- 10.
(6) رواه مسلم في الإمارة باب «خيار الأئمة وشراراهم» 3/1481- 1482.
(7) المنهاج 6/13.(1/263)
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (1) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء(2))(3).
(وفي صحيح مسلم أنه قال لما قتل عثمان بن مظعون(4) قال: ما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم(5))(6).
و - كونه مستجاب الدعوة:
(وقد كان عمر دعا بدعوات أجيب فيها من ذلك أنه لما نازعه بلال وطائفة معه في القسمة قسمة الأرض فقال (اللهم اكفني بلالا وذويه) فما حال الحول ومنهم عين تطرف(7).
وقال: (اللهم قد كبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع)(8) فمات من عامه)(9).
__________
(1) فاطر/ 28.
(2) رواه أبو داود في الصلاة باب «البكاء في الصلاة» 1/557، نحوه، والنسائي في السهو باب «البكاء في الصلاة» 3/13، والإمام أحمد في المسند 4/ 25، 26.
(3) المنهاج 6/13.
(4) هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب الجمحي، أبو السائب، أحد السابقين من سادات المهاجرين، ومن أولياء الله المتقين، وكان أول من دفن بالبقيع - رضي الله عنه - ت سنة 3هـ، السير 153- 160، تجريد أسماء الصحابة 1/375.
(5) رواه البخاري في الجنائز، باب «الدخول على الميت بعد الموت» 2/71، ومناقب الأنصار، باب «مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -... إلخ» 4/265، وتعبير الرؤيا، باب رؤيا النساء 8/73، وباب «العين الجارية في النوم» 8/77، وفي كتاب الشهادات في باب القرعة في المشلات 3/164، ولم أجده في مسلم.
(6) المنهاج 6/14.
(7) في فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/289، وقال المحقق: ضعيف لانقطاعه.
(8) تاريخ الخلفاء / 133، حلية الأولياء 1/54، مناقب عمر لابن الجوزي / 210، فضائل الصحابة 1/289- 290، وقال المحقق: إسناده ضعيف لتدليس الوليد بن مسلم.
(9) المنهاج 8/ 156، 157.(1/264)
(وهذا باب طويل قد صنف الناس فيه مجلدات في مناقب عمر مثل كتاب أبي الفرج بن الجوزي(1) وعمر بن شبه(2) وغيرهما غير ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم مثل ما صنفه خيثمة بن سليمان(3) في "فضائل الصحابة" والدارقطني(4) والبيهقي(5) وغيرهم)(6).
ز- كونه وقافا عند كتاب الله ويقبل من الصغير والكبير:
(وكان من هو دون علي يراجع عمر ويحتج عليه بالكتاب والسنة فيرجع عمر إلى قوله فإن عمر كان وقافا عند كتاب الله تعالى.
__________
(1) هو الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسر جمال الدين، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي «المعروف بابن الجوزي» البغدادي الحنبلي الواعظ صاحب التصانيف ولد سنة 509هـ صنف في التفسير المغني وهو كبير ثم اختصره في زاد المسير، وله مناقب أبي بكر مجلد و مناقب عمر مجلد، وهو مطبوع، و «مناقب علي» مجلد وغيرها كثير ت سنة 597هـ، السير 21/ 365- 384، غاية النهاية 1/ 375.
(2) عمر بن شبه بن عبدة بن زيد العلامة الإخباري الحافظ الحجة صاحب التصانيف النميري البصري ولد سنة 173هـ، له كتاب «أخبار المدينة» و«الأمراء»، و«التاريخ» وغيرها، ت سنة 262هـ، السير 12/ 369- 372، التقريب / 413.
(3) الإمام الثقة محدث الشام أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة بن سليمان القرشي، مصنف «فضائل الصحابة» قال الخطيب: ثقة ثقة، ولد سنة 250 هـ، ت سنة 343 هـ، السير 15/ 412- 416، تذكرة الحفاظ 3/858.
(4) الإمام الحافظ المجود شيخ الإسلام علم الجهابذة أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني المقرئ المحدث ولد سنة 306هـ، وت سنة 385هـ، السير 16/415، 416، غاية النهاية 1/ 558- 559.
(5) سبقت ترجمته.
(6) المنهاج 6/71.(1/265)
روى البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصن(1) على ابن أخيه الحر بن قيس(2) وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فقال سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر فلما دخل عليه قال هيه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (3) وإن هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه(4) وكان عمر وقافا عند كتاب الله تعالى)(5).
__________
(1) عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، الفزاري من المؤلفة، شهد حنينا والطائف وكان أحمقا مطاعا، وقد ارتد وآمن بطليحة ثم أسر فمن عليه الصديق ثم لم يزل مظهرا للإسلام، واسم حذيفة ولقبه عيينة لشتر عينه عاش إلى خلافة عثمان - رضي الله عنه -، الاستيعاب 9/79- 100، تجريد أسماء الصحابة 1/432، الإصابة 7/195- 197.
(2) الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ابن أخي عيينة، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - رضي الله عنه -، الاستيعاب 3/130، تجريد أسماء الصحابة 1/125، الإصابة 2/ 233- 234.
(3) الأعراف / 199.
(4) رواه البخاري في تفسير القرآن سورة الأعراف، 5/ 197، والاعتصام بالكتاب والسنة باب «الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» 8/ 141.
(5) المنهاج 6/ 35، 36.(1/266)
(وعمر إمام عادل فكان قد رأى أن الزائد على المهر الشرعي يكون هكذا فعارضته امرأة وقالت لم تمنعنا شيئا أعطانا الله إياه في كتابه فقال وأين في كتاب الله فقالت في قوله تعالى: { وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (1) وروي أنها قالت له أمنك نسمع أم من كتاب الله تعالى قال بل من كتاب الله فقرأت عليه الآية فقال رجل أخطأ وامرأة أصابت(2))(3).
* * *
المبحث الثاني
خلافته
ذكر شيخ الإسلام الكلام على الاستخلاف وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن أبا بكر أحق بالخلافة من غيره فكان في دلالته الأمة على أنه أحق مع علمه بأنهم يولونه، ما يغنيه عن استخلافه.
ثم قال: (وأما أبو بكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر وخاف أن لا يولوه إذا لم يستخلفه لشدته فولاه هو كان ذلك هو المصلحة للأمة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - علم أن الأمة يولون أبا بكر فاستغنى بذلك عن توليته مع دلالته لهم على أنه أحق الأمة بالتولية وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر فكان ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو اللائق به لفضل علمه وما فعله صديق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم -)(4).
__________
(1) النساء/ 20.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 1/ 276- 277، تحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح، وإن كان ظاهره الانقطاع، 2/ 277، 278، الحاكم في المستدرك 2/ 775- 177، وقال: «فقد تواترت الأسانيد الصحيحة بصحة خطبه أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، وهذا الباب لي مجموع في جزء كبير، ولم يخرجاه»، واقره الذهبي وأورده ابن كثير في تفسير سورة النساء، انظر، عمدة التفسير لأحمد شاكر 3/ 132، 133، مجمع الزوائد 4/ 283، 284.
(3) المنهاج 8/ 63.
(4) المنهاج 7/350.(1/267)
ثم ذكر ما حصل من بعض الصحابة في مراجعتهم لأبي بكمر لما ولي عمر لشدته فقال: (ولهذا لما استخلفه أبو بكر كره خلافته طائفة حتى قال طلحة ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا؟ فقال أبالله تخوفني؟ أقول وليت عليهم خير أهلك(1))(2).
وهذه شهادة من أبي بكر - رضي الله عنه - لعمر - رضي الله عنه - بأنه خيار هذه الأمة (ثم جميع الناس بايعوا عمر إلا سعدا(3) لم يتخلف عن بيعة عمر أحد لا بنو هاشم ولا غيرهم.... وتخلُّف سعد قد عرف سببه فإنه كان يطلب أن يصير أميرا ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا وما طلبه سعد لم يكن سائغا بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين)(4).
ح- مشاورته للصحابة فيما يستجد من أمور أو قضايا:
(كان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة ( في الحوادث يشاور عثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم حتى كان يشاور ابن عباس وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه ولهذا كان من أسد الناس رأيا وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأي هذا)(5).
(فكان يستشير الصحابة فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صوابا وتارة يشير عليه علي وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف وتارة يشير عليه غيرهم وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (6)).
__________
(1) الرياض النضرة 2/ 260، عن جماعة من الصحابة لم يسم أحدًا منهم من رواية عائشة تاريخ الخلفاء / 120، بلفظ قيل لأبي بكر، مناقب عمر لابن الجوزي / 243.
(2) المنهاج 7/ 461.
(3) انظر السير 1/ 276، 277، وذكر عدم مبايعة سعد بن عبادة لأبي بكر الصديق رضي الله عنهم.
(4) المنهاج 8/ 331.
(5) المنهاج 6/87، 88، انظر المنهاج 8/75- 85، 61.
(6) انظر المنهاج 6/93.(1/268)
(ولهذا كان رأي عمر وحكمه وسياسته من أسد الأمور فما رؤي بعده مثله قط ولا ظهر الإسلام وانتشر وعز كظهوره وانتشاره وعزه في زمنه وهو الذي كسر كسرى وقصر قيصر والروم والفرس وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص ولم يكن لأحد -بعد أبي بكر- مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه)(1).
(وإن كان عمر أعلم منهم وكان كثير من القضايا يقول فيها أولا ثم يتعبونه كالعمريتين(2) والعول(3) وغيرهما...)(4).
(وقد أفرد العلماء مناقب عمر فإنه لا يعرف في سير الناس كسيرته)(5).
وقد سبق قول عائشة رضي الله عنها: (كان عمر أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها، وكانت تقول زينوا مجالسكم بذكر عمر)(6).
(وقال ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة ابنة صاحب مدين إذ قالت: { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ } (7) وخديجة في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين استخلف عمر(8))(9).
__________
(1) المنهاج 8/58.
(2) هما أم وأب مع أحد الزوجين فللأم ثلث الباقي، وسميتا بذلك لأن عمر - رضي الله عنه - هو أول من قضى بهما، انظر ص 185، من هذه الرسالة، والرائد للخطراوي / 16، 17، كتاب الفرائض لعبد الصمد الكاتب / 44.
(3) هو زيادة في السهام ونقص في الأنصباء، انظر تفصيل المسألة في كتاب الفرائض للكتاب / 112، الرائد للخطراوي / صـ 46.
(4) المنهاج 8/ 58.
(5) انظر المنهاج 8/ 61.
(6) المنهاج 6/ 54.
(7) القصص/ 26.
(8) مناقب عمر لابن الجوزي / 249.
(9) المستدرك 3/ 90، بلفظ آخر لم يذكر «خديجة» وذكر بدلا منها العزيز، وقوله في يوسف، ثم قال: فرضي الله عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم بهذا الإسناد صحيح وصححه الذهبي في التلخيص.(1/269)
(وقال أيضا إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر كان إسلامه نصرا وإمارته فتحا(1))(2).
(وقال أبو عثمان النهدي(3): [إنما كان عمر ميزانا لا يقول كذا](4).
ولا يقول كذا وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب ليست من أحاديث الكذابين والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة(5)كثيرة جدا)(6).
* * *
المبحث الثالث
بعض مطاعن الرافضة على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتفنيدها
__________
(1) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 263، 268، وغيرها، مصنف عبد الرزاق 11/ 231، مصنف ابن أبي شيبة 22/ 23، 26، السنة للخلال 2/ 314، مجمع الزوائد 9/67، 77/ 78.
(2) المنهاج 6/58.
(3) الإمام الحجة شيخ الوقت عبد الرحمن بن مل، وقيل ابن ملي بن عمرو بن عدي البصري مخضرم معمر ت سنة 100 هـ، قال أبو حاتم: كان ثقة، وكان عريف قومه، السير 4/185- 178، الجرح والتعديل 5/ 283- 284.
(4) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 81، 259.
(5) منها: (1) فضائل الصحابة للإمام أحمد. (2) فضائل الصحابة للإمام خيثمة بن سليمان. (3) مناقب عمر لابن أبي شيبة (4) مناقب عمر لابن الجوزي (5) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة. (6) المصنف لعبد الرزاق الصنعاني. (7) سنن البيهقي. (8) الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري. (9) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد. (10) المستدرك للحاكم. وغيرها كثير.
(6) المنهاج 6/ 59.(1/270)
أولا: (قال الرافضي: وروى أصحاب الصحاح الستة من مسند ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض مرض موته: «ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتابا لا تضلون به من بعدي» فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله فكثر اللغط فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي» فقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...(1)) إلخ(2).
قال شيخ الإسلام: (والجواب: أن يقال أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله مالم يثبت لأحد غير أبي بكر.
ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر» قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون(3))(4).
وهذا قد سبق كما سبق غيره من الأحاديث الدالة على علم عمر ودينه وموافقة عمر لربه: (وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يكتبه فقد جاء مبينا كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه «ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر»(5).
__________
(1) رواه البخاري في العلم باب كتابة العلم 1/36- 37.
(2) المنهاج 6/19.
(3) سبق تخريجه.
(4) المنهاج 6/20.
(5) رواه مسلم في فضائل الصحابة باب (من فضائل أبي بكر الصديق) 4/1857، ونحوه في المسند 6/47.(1/271)
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك» قالت عائشة واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بل أنا وارأساه لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون»(1).
وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها ثم من بعد أبي بكر قالت عمر قيل لها ثم من بعد عمر قالت أبو عبيدة عامر بن الجراح ثم انتهت إلى هذا.
وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال "ماله؟ أهجر"(2) فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما وقد شك بشبهة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مريضا فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله... والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: «ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».
__________
(1) رواه البخاري في الأحكام باب الاستخلاف 8/125- 126.
(2) رواه البخاري في الجزية باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 4/65، 66، مسلم في الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء 3/1257- 1259 وغيرها.(1/272)
وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية(1) في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد)(2).
(ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه.
ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير حتى أنزل فيه: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (3) لكن روُي أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال(4).
__________
(1) أي مصيبة، انظر المنهاج 6/316.
(2) المنهاج 6/23- 25، انظر 6/315- 317.
(3) الحجرات/ 9.
(4) رواه البخاري في الصلح باب (ما جاء في الإصلاح بين الناس) 3/166، ومسلم في الجهاد والسير باب «في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلخ» 4/1424، والحديث كما رواه مسلم - وأخرته لأنه أتم من البخاري - عن أنس بن مالك، قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ قال: فانطلق إليه، وركب حمار وانطلق المسلمون، وهي ارض سبخة، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، قال: فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحا منك. قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه، قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالنعال، قال: فبلغنا أنها نزلت فيهم: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } .(1/273)
ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة علي نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا؟)(1).
ثانيًا: (قال الرافضي:.... قول عمر إن محمدا لم يمت وهذا يدل على قلة علمه)(2).
فأجاب شيخ الإسلام وابتدأ بذكر علم عمر وأنه محدث ملهم، وقد سبق هذا، ثم قال: (فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر.
وأما كونه ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت فهذا كان ساعة ثم تبين له موته ومثل هذا يقع كثيرا قد يشك الإنسان في موت ميت ساعة أو أكثر ثم يتبين له موته)(3).
ثالثًا: (قول الرافضي إن عمر أنكر قتال أهل الردة.
جوابه: فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسليمة وأصحابه ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولا شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبيَّن له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة.
__________
(1) المنهاج 6/317، 318.
(2) المنهاج 8/30.
(3) المنهاج 8/ 301، وانظر 6/323- 324.(1/274)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» قال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها قال عمر "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق"(1).
وعمر احتج بما بلغه أو سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فبين له الصديق أن قوله "بحقها" يتناول الزكاة فإنها حق المال)(2).
رابعًا: (قال الرافضي: ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر بن الخطاب فحرق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة(3) به وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة وكان يعطى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت المال أكثر مما ينبغي وكان يعطى عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم وغير حكم الله في المنفيين وكان قليل المعرفة في الأحكام.
والجواب أن هذا من الكذب الذي لا يستريب فيه عالم ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم ولا يعرف له إسناد وأبو بكر لم يكتب فدكا قط لأحد لا لفاطمة ولا غيرها ولا دعت فاطمة على عمر.
__________
(1) رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 8/ 140، 141، وباب قول الله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } 8/ 162، 163، ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس... إلخ، 1/ 51، 52.
(2) المنهاج 8/ 327، 328.
(3) اسمه فيروز مجوسي الأصل رومي الدار غلام المغيرة بن شعبة، وقال ابن جرير نصراني، البداية والنهاية 7/ 137، تاريخ الطبري 4/ 190.(1/275)
وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر - رضي الله عنه - وهو أعظم(1) مما فعله ابن ملجم بعلي - رضي الله عنه - وما فعله قتلة الحسين - رضي الله عنه - به فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين وقتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد موت فاطمة بمدة خلافة أبي بكر وعمر إلا ستة أشهر فمن أين يعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة.
والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعنا به وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد(2).
ولو قال قائل إن عليا ظلم أهل صفين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا وكذلك لو قال إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فعل به.
__________
(1) أعظم درجة وشهادة.
(2) رواه البخاري في المغازي باب غزوة خيبر 5/ 72، 73، والديات باب «إذا قتل نفسه خطأ فلا دية له» 8/ 41، ومسلم في الجهاد والسير باب «غزوة خيبر» 3/ 1427- 1429، وفي باب «غزوة ذي قرد» وغيرها 3/ 1433- 1441.(1/276)
وذلك أن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى انه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس قالوا نبدأ بك قال لا ابدءوا بأقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعوا عمر حيث وضعه الله(1) فبدأ ببني هاشم وضم إليهم بني المطلب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام»(2) فقدم العباس وعليا والحسن والحسين وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر القبائل وفضل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله في العطاء فغضب ابنه وقال تفضل علي أسامة قال فإنه كان أحب إلى رسول الله منك وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك(3)، وهذا الذي ذكرناه من تقديمه بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير لم يختلف فيه اثنان فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول وعنزته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة وهي مصابة به في يسير من المال وهو يعطى أولادها أضعاف ذلك المال ويعطى من هو أبعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ويعطى عليا؟!
ثم العادة الجارية بأن طلاب الملك والرياسة لا يتعرضون للنساء بل يكرمونهن لأنهن لا يصلحن للملك فكيف يجزل العطاء للرجال والمرأة يحرمها من حقها لا لغرض أصلا لا ديني ولا دنيوي)؟!(4).
__________
(1) طبقات ابن سعد 3/ 295.
(2) رواه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب «في بيان مواضع قسم الخمس» 3/382- 384، والنسائي في «قسم الفيء» 7/ 130، 131، المسند 4/81.
(3) الإصابة 1/45، الاستيعاب 1/145، طبقات ابن سعد 4/70.
(4) المنهاج 6/31- 34.(1/277)
(وأما قول الرافضي «وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة»(1).
فالجواب أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد... والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة ( وأقروه على ذلك وعلي منهم والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد(2) أعاد أبو بكرة القذف وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانيا فقال له علي إن كنت جالده فارجم المغيرة يعني أن هذا القول إن كان هو الأول فقد حد عليه وإن جعلته بمنزلة قول ثان فقد تم النصاب أربعة فيجب رجمة فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولا دون الحد الثاني وإلا كان أنكر حدهم أولا كما أنكر الثاني... وعمر - رضي الله عنه - من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم حتى أنه أقام على ابنه الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو ابن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سرا في البيت وكان الناس يضربون علانية فبعث عمرو إلى عمر يزجره ويتهدده لكونه حابي ابنه ثم طلبه فضربه مرة ثانية(3) فقال له عبد الرحمن ما لك هذا فزجر عبد الرحمن وما روى أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز.
وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر هنا.
وأي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب)(4).
__________
(1) المغيرة بن شعبة بن مسعود بن معتب الثقفي، أبو محمد، صحابي مشهور شهد الحدييبة، أسلم زمن الخندق، ت سنة 50هـ، الخلاصة 3/ 50، التقريب / 543، السير 3/ 21- 32.
(2) السير 3/ 27- 28، تاريخ الطبري 4/ 69- 72.
(3) مناقب عمر لابن الجوزي / 24، 243.
(4) المنهاج 6/ 34- 37.(1/278)
خامسًا: (وأما قوله: «وغير حكم الله في المنفيين»)(1).
قال شيخ الإسلام: (إن التغيير لحكم الله [يكون](2)بما يناقض حكم الله مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيها الضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول النخل والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وقد ثبت في الصحيح عن علي - رضي الله عنه - أنه قال "وكل سنة"(3)... وعلي - رضي الله عنه - كان يضرب في الحد فوق الأربعين وقال ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات لوديته فإن شيء فعلناه برأينا رواه الشافعي وغيره)(4).
سادسًا: قول الرافضة -عن عمر-: (وكان قليل المعرفة بالأحكام أمر برجم حامل فقال له علي إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فأمسك وقال لولا علي لهلك عمر).
__________
(1) يكون هذه الزيادة وردت في ثلاث نسخ كما ذكره المحقق ولم يثبتها، وأرى أن إثباتها أولى وأصوب.
(2) هو العذق قال أبو عبيد: العثكال العذق الذي يسمى الكياسة، وفيه لغتان: عثكال وعثكول، والقنو العثكال أيضا، تهذيب اللغة 3/ 306.
(3) رواه مسلم في الحدود باب «حد الخمر» 3/ 1332.
(4) رواه البخاري في الحدود باب «الضرب بالجريد والنعال» 8/14، مسلم في الحدود باب «حد الخمر» 3/ 1332، المسند تحقيق أحمد شاكر 2/ 222- 223، 224.(1/279)
قال شيخ الإسلام: (والجواب: أن هذه القصة إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل فأخبره علي بحملها ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيبات ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية.
وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكره علي ذكر ذلك ولهذا أمسك ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها ولم يرجع إلي رأي غيره وقد مضت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغامدية(1) لما قالت إني حبلى من الزنا فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اذهبي حتى تضعيه(2) ولو قدر أنه خفى عليه علم هذه المسألة حتى عرفه لم يقدح ذلك فيه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطي الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم وفي زمنه انتشر الإسلام وظهر ظهورا لم يكن قبله مثله وهو دائما يقضي ويفتي ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك)(3).
__________
(1) هي التي رجمت، وقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم صلى عليها، ودفنت » تجريد أسماء الصحابة للذهبي 2/ 345.
(2) رواه مسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا 3/ 1323- 1324، والترمذي في الحدود تربص الرجم بالحبلى حتى تضع 4/ 24، وأبو داود في الحدود باب «المرأة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمها من جهينة» 4/ 587، 588، والمسند 4/ 429- 430، 535، 437، 5/ 348.
(3) المنهاج 6/ 41- 42.(1/280)
سابعًا: قول الرافضي -عن عمر-: (أنه ابتدع التراويح مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة وصلاة الضحى بدعة فإن قليلا في سنة خير من كثير في بدعة ألا وإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار» وخرج عمر في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المساجد فقال ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع فقال: بدعة ونعمت البدعة فاعترف بأنها بدعة).
قال شيخ الإسلام: (فيقال ما رئي في طوائف أهل البدع والضلال أجرأ من هذه الطائفة الرافضة على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقولها عليه ما لم يقله والوقاحة المفرطة في الكذب وإن كان فيهم من لا يعرف أنها كذب فهو مفرط في الجهل... والجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة فيقال ما الدليل على صحة هذا الحديث؟ وأين إسناده؟ وفي أي كتاب من كتب المسلمين روي هذا؟ ومن قال من أهل العلم بالحديث إن هذا صحيح؟.
الثاني: أن جميع أهل المعرفة بالحديث يعلمون علما ضروريا أن هذا من الكذب الموضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنه كذب لم يروه أحد من المسلمين في شئ من كتبه لا كتب الصحيح ولا السنن ولا المساند ولا المعجمات ولا الأجزاء ولا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف بل هو كذب بيَّن.
الثالث: أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثا.(1/281)
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة من جوف الليل فصلى وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى صلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق رجال يقولون الصلاة فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: «أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك وذلك في رمضان)(1).....
(وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغّب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة ويقول: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر)(2).
__________
(1) رواه البخاري في الجمعة باب أما بعد 1/ 222، وصلاة التراويح باب «فضل من قام رمضان» 2/ 252، ومسلم في صلاة المسافر وقصرها باب «الترغيب في قيام رمضان» 1/ 524، وأبو داود في تفريع أبواب شهر رمضان باب «في قيام شهر رمضان» 2/ 104- 105.
(2) رواه البخاري في التراويح باب «فضل من قام رمضان» 2/ 251، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب «الترغيب في قيام رمضان»... إلخ، 1/ 523، وأبو داود في تفريع أبواب شهر رمضان باب «في قيام شهر رمضان» 2/ 1-102، 103، موطأ مالك في الصلاة في رمضان باب «الترغيب في الصلاة في رمضان» 1/ 113- 114.(1/282)
(وخرّج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد [القاري](1) قال: خرجت مع عمر ليلة من رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد بذلك آخر الليل وكان الناس يقومون أوله(2).
وهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فُعل سماه بدعة لأن ما فعل ابتداء يسمى بدعة في اللغة وليس ذلك بدعة شرعية فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة وإلا فلو عمل الإنسان فعلا محرمًا يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة.
الرابع: أن هذا لو كان قبيحا منهيا عنه لكان علي أبطله لما صار أمير المؤمنين وهو بالكوفة فلما كان جاريا في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك بل روي عن علي أنه قال نور الله على عمر قبره كما نوَّر علينا مساجدنا(3).
__________
(1) هو عبد الرحمن بن عبد (القاري) يقال له رؤية وذكره العجلي في ثقات التابعين، واختلف قول الواقدي فيه قال تارة: له صحبة، وتارة تابعي، ت سنة 88هـ، التقريب / 345، الخلاصة 2/ 143، وقال توفي سنة 80 هـ، الثقات لابن حبان 5/ 79.
(2) رواه البخاري في صلاة التراويح باب «فضل من قام رمضان» 2/ 251- 252، والموطأ في الصلاة في رمضان باب «ما جاء في قيام رمضان» 1/ 114، 115.
(3) تاريخ الخلفاء باب «الفاروق عمر» فصل في أولياء عمر - رضي الله عنه - / 137.(1/283)
وعن أبي عبد الرحمن السُّلمي(1) أن عليًّا دعا القراء في رمضان فأمر رجلا منهم يصلي بالناس عشرين ركعة قال: وكان علي يوتر بهم)(2).
(وعن عرفجة الثقفي(3) قال كان علي يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما قال عرفجة فكنت أنا إمام النساء رواهما البيهقي في سننه(4))(5).
(وأما الضحى فليس لعمر فيها اختصاص بل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة [- رضي الله عنه -] قال: «أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام»(6)..... وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»(7))(8).
__________
(1) عبد الله بن حبيب بن ربيعة أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي «المقرئ» مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبت، وتوفي بعد السبعين، التقريب / 298، تهذيب الكمال 4/ 408، تاريخ بغداد 9/ 430.
(2) سنن البيهقي في الصلاة باب «ما روي في عدد ركعات القيام في شهر رمضان» 2/ 496، 497.
(3) عرفجة بن عبد الله الثقفي أو السلمي مقبول، وقال ابن القطان: مجهول وأشار إليه البخاري في أثر خرجه تعليقا، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، التقريب / 389، تهذيب التهذيب 7/ 117، التاريخ الكبير 7/ 65، تاريخ الثقات للعجلي / 331.
(4) سنن البيهقي في الصلاة باب «قيام شهر رمضان» 2/ 494.
(5) المنهاج 8/ 304- 308.
(6) رواه البخاري في الصوم باب: «صيام أيام البيض» 2/ 247، ومسلم في صلاة المسافرين باب «استحباب صلاة الضحى» 1/ 499.
(7) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب «استحباب صلاة الضحى» 1/ 498، 499.
(8) المنهاج 8/ 311، 312.(1/284)
ثامنًا: (وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس ولا نص على إمام بعده... وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا...إلخ).
قال شيخ الإسلام: (والجواب: أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين إما كذب في النقل وإما قدح في الحق فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر - رضي الله عنه - بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله.
ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون كانت ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون هي فساد وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون هي خير وصلاح فليس لهم لا عقل ولا نقل بل لهم نصيب من قوله: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (1) وأما قول الرافضي وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه.
__________
(1) الملك / 10.(1/285)
فالجواب: «أن الخلاف نوعان خلاف تضاد وخلاف تنوع فالأول مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر والنوع الثاني مثل القراءات التي يجوز كل منها وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة كما ثبت في الصحاح بل استفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف»(1))(2).
(ومن هذا الباب أمر الشورى فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة... وعمر - رضي الله عنه - إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم وهو كما رأى فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم وجعل التعيين إليهم خوفا أن يعين واحدا منهم.
__________
(1) رواه البخاري في الخصومات باب «كلام الخصوم بعضها في بعض» 3/ 90، وفي فضائل القرآن باب « أنزل القرآن على سبعة أحرف» 6/ 100، وفي المرتدين باب «ما جاء في المتأولين» 8/53، 54، وفي التوحيد باب «قول الله تعالى: { َاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } » 8/ 215، ومسلم في الصلاة المسافرين باب: «بيان أن القرآن على سبعة أحرف» 1/ 560- 561، والترمذي في القراءات باب «ما جاء أن القرآن أنزل على سبعة أحرف» 2/ 158- 159، والنسائي في افتتاح الصلاة باب «جامع ما جاء في القرآن» 2/ 150- 154، المسند تحقيق أحمد شاكر 1/ 334، 274- 275، 283- 284، وغيرهم.
(2) المنهاج 6/ 121- 122.(1/286)
ويكون غيره أصلح لهم فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين وقال الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له - رضي الله عنه -. وأيضا فقد قال تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (1) وقال: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } (2) فكان ما فعله من الشورى مصلحة)(3).
(وعمر - رضي الله عنه - رأى الأمر في الستة متقاربا فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض فلذلك المفضول مزيه أخرى ليست للآخر... فترك التعيين خوفا من الله تعالى وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير)(4).
(ولا ريب أن الستة الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض الذي عينهم عمر لا يوجد أفضل منهم)(5).
(وأما قول الرافضي: «وجمع بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول».
فيقال له: أولا هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة ولم يكن تقدم بعضهم على بعض ظاهرا كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين،... ثم يقال له ثانيا وإذا كان فيهم فاضل ومفضول فلم قلت إن عليا هو الفاضل وعثمان وغيره هم المفضولون وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة منهم أيوب السختياني وغيره من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار(6).
__________
(1) الشورى / 38.
(2) آل عمران / 195.
(3) المنهاج 6/ 139- 142.
(4) انظر المنهاج 6/ 147- 148.
(5) المنهاج 6/ 150.
(6) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 249.(1/287)
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: «كنا نفاضل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان(1) وفي لفظ ثم ندع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم»(2).
فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره(3).
وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير نكير وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم)(4).
(وأما قول الرافضي: «إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة».
__________
(1) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «فضل أبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -» 4/ 191، أبو داود في السنة باب في التفضيل، 5/ 24- 26، بمعناه، والطبراني في الأوسط، 2/ 414، وفي الكبير 12/ 285، 286.
(2) رواه أبو داود في السنة باب في التفضيل 5/ 24- 26.
(3) رواه الطبراني في الكبير 12/ 285- 86، مجمع الزوائد 9/58، وقال: ورواه أبو يعلى نحو الطبراني في الكبير.
(4) المنهاج 6/ 152، 153.(1/288)
فالجواب: أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم كما نص على ذلك بين عذره المانع له من تعيين واحد منهم وكره أن يتقلد ولاية معين ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة لأنه قد علم أنه لا أحد أحق بالأمر منهم فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلده هو اختيار الستة والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة وهو تعيين واحد منهم تركه وهذا من كمال عقله ودينه - رضي الله عنه - وليس كراهته لتقلده ميتا كما تقلده حيا لطعنه في تقلده حيا فإنه إنما تقلد الأمر حيا باختياره وبأن تقلده كان خيرا له وللأمة وإن كان خائفا من تبعة الحساب.
فقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } (1) قالت عائشة يا رسول الله: أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب؟ قال: «لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه»(2).
فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة)(3).
__________
(1) المؤمنون / 60.
(2) رواه ابن ماجه في الزهد باب «التوقي على العمل» 2/ 1404، المسند 6/ 159، 205، رواه الحاكم في المستدرك 2/ 393- 394، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وصححه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 255، 256، وفي صحيح ابن ماجه 2/409.
(3) المنهاج 6/ 157- 158.(1/289)
(وفي الحديث الثابت عن عمرو بن ميمون أن عمر بن الخطاب لما طعن قال إن الناس يقولون استخلف وإن الأمر إلى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك(1) ويشهدهم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء فإن أصابت الخلافة سعدا ولا فليستعن به من ولي فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ثم قال أوصى الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى وأوصيه بالمهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وغيظ العدو وجباة الأموال لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ منهم من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم وأوصيه بذمه الله ورسوله أن يوفى لهم بعدهم ويقاتل من وراءهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم(2) فقد وصى الخليفة من بعده بجميع أجناس الرعية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأوصاه بسكان الأمصار من المسلمين وأوصاه بأهل البوادي وبأهل الذمة)(3).
(وقوله: «إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه».
__________
(1) هو سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وقد سبقت ترجمته.
(2) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب «قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان» 4/ 204- 207، مصنف عبد الرزاق 11/ 109.
(3) المنهاج 6/ 159- 161.(1/290)
فهذا كذب بين على عمر وعلى أنسابهم فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أميه فإن بني زهرة أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله»(1).
ولم يكن أيضا بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري ولا بين أنصاري وأنصاري وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها(2) يعرفه أهل العلم بذلك ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن(3).
وأما قوله ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام فيقال أولا من قال إن هذا الصحيح وأين النقل الثابت بهذا وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم.
ثم يقال ثانيًا هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فسادا ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلانا وفلانا فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولى بعدهم أحدا؟
__________
(1) رواه الترمذي في مناقب الصحابة باب «مناقب سعد بن أبي وقاص» 5/ 649، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 219- 330.
(2) رواه البخاري في مناقب الأنصار باب إخاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار 4/ 222، وقد ورد بعدة طرق وألفاظ في البخاري حوالي اثني عشر موضعًا، والترمذي في البر والصلة باب «ما جاء في مواساة الأخ 4/ 328، المسند 3/ 190، 204- 205، 271».
(3) المنهاج 6/171- 172.(1/291)
وأيضا فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم؟ ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعا؟ ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم.
ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحد منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل تولى غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائما تعرض عليه الولايات فلا يتولى وما قتله أحد وقد عين للخلافة يوم الحكمين فتغيب عنه وما آذاه أحد قط وما سمع قط أن أحدا امتنع من الولاية فقتل على ذلك.
فهذا من اختلاق مفتر لا يدري ما يكتب لا شرعا ولا عادة(1).
ثم نقول جوابا مركبا لا يخلو إما أن يكون عمر أمر بهذا أو لم يكن أمر به فإن كان الأول بطل إنكاره وإن كان الثاني فليس كون الرجل من أهل الجنة أو كونه وليا لله مما يمنع قتله إذا اقتضى الشرع ذلك.
فإنه قد ثبت في الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم الغامدية وقال: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله»(2) فهذه يشهد لها الرسول بذلك ثم لما كان الحد قد ثبت عليها أمر برجمها... وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه»)(3)..
__________
(1) المنهاج 6/173، 174.
(2) رواه مسلم في الحدود باب «من اعترف على نفسه بالزنا» 3/ 1323- 1324، والترمذي والترمذي في الحد باب تربص الرجم بالحبلى حتى تضع 4/42، وأبو داود في الحدود باب المرأة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمها من جهينة 4/ 587- 588، وفي المسند 4/429 - 430، 435، 437، 5/ 348.
(3) مسلم في الإمارة باب «حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع» 3/ 1480، وأبو داود في السنة باب «قتل الخوارج» 5/ 120 بمعناه.(1/292)
(فلو قدر أن عمر أمر بقتل واحد من المهاجرين الأولين لكان ذلك منه على سبيل الاجتهاد السائغ له ولم يكن ذلك مانعا من كون ذلك الرجل في الجنة ولم يقدح لا في عدل هذا ولا في دخول هذا الجنة فكيف إذا لم يقع شيء من ذلك؟!.
ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم بتقدير صحة هذا النقل يستحقون القتل إلا عليا فإن كان عمر أمر بقتلهم فلماذا ينكرون عليه ذلك؟
ثم يقولون: إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر بقتلهم فهذا جمع بين الضدين.
وإن قلتم كان مقصوده قتل علي.
قيل: لو بايعوا إلا عليا لم يكن ذلك يضر الولاية فإنما يقتل من يخاف وقد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ولم يضربوه ولم يحبسوه فضلا عن القتل.... ولو أراد أبو بكر وعمر في ولايتهما إيذاء علي بطريق من الطرق لكانا أقدر على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه ومنعهما من ظلمه وكانا أعجز عن ظلمه لو أرادا ذلك فهلا ظلماه بعد قوتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدين لظلمه؟....
ففي الجملة دفع المتولى لمن يعرف أنه ينازعه ويقول إنه أحق بالأمر منه أمر لا بد منه وذلك بأنواع من إهانة وإيذاء وحبس وقتل وإبعاد.
وعلي - رضي الله عنه - ما زالا مكرمين له غاية الإكرام بكل طريق مقدمين له بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء مقدمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم كما يفعلان بنظرائه ويفضلانه بما فضله الله عز وجل به على من ليس مثله ولم يعرف عنهم كلمة سوء في علي قط بل ولا في أحد من بني هاشم... وكذلك علي - رضي الله عنه - قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة ما يعلم به حاله في ذلك ولم يعرف عنه قط كلمة سوء في حقهما ولا أنه كان أحق بالأمر منهما.(1/293)
وهذا معروف عند من عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة والمنقولة بأخبار الثقات.
وأما من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير الذي لا يروج إلا على البهائم ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام إما قوم سكان البوادي أو رءوس الجبال أو بلد أهله من أقل الناس علما وأكثرهم كذبا فهذا هو الذي يضل.
وهكذا الرافضة لا يتصور قط أن مذهبهم يروج على أهل مدينة كبيرة من مدائن المسلمين فيها أهل علم ودين وإنما يروج على جهال سكنوا البوادي والجبال أو على محلة في مدينة أو بليدة أو طائفة يظهرون للناس خلاف ما يبطنون لظهور كذبهم حتى أن القاهرة لما كانت مع العبيديين وكانوا يظهرون التشيع لم يتمكنوا من ذلك حتى منعوا من فيها من أهل العلم والدين من إظهار علمهم ومع هذا فكانوا خائفين من سائر مدائن المسلمين يقدم عليهم الغريب من البلد البعيد فيكتمون عنه قولهم ويداهنونه ويتقونه كما يخاف الملك المطاع وهذا لأنهم أهل فرية وكذب وقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } (1) قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة(2))(3).
* * *
الفصل الثالث
عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
المبحث الأول: فضائله:
سأذكر خصائصه ثم فضائله ثم خلافته ثم استشهاده ثم بعد ذلك أذكر أهم المطاعن التي يطعن بها الرافضة عليه مع رد شيخ الإسلام عليها، فأقول:
المطلب الأول: خصائصه:
أ- ذكر اختصاصه بتزوج ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [واحدة بعد الأخرى]:
__________
(1) الأعراف: 152.
(2) جامع البيان للطبري تفسير سورة الأعراف 9/ 70، الدر المنثور 9/564، نحوه، ابن كثير عند تفسير الآية 32/ 248.
(3) المنهاج 6/ 174- 197.(1/294)
(عثمان قد زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنتين من بناته وقال: «لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان»(1) وسمي ذو النورين بذلك إذ لم يعرف أحد جمع بين بنتي نبي غيره(2))(3).
(كذا مصاهرة عثمان له لم يزل فيها حميدا لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتى قال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان.
وهذا يدل على أن مصاهرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل)(4).
ب- تجهيز جيش العسرة:
(وقد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة(5) حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»(6) والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم)(7). من الإنفاق بعد ذلك (فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه)(8).
جـ- مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيعة الرضوان:
__________
(1) فضائل الصحابة 1/481، 508-509، مجمع الزوائد 9/83، الرياض النضرة 3/10-11، أورد عدة روايات بمعناه.
(2) انظر تاريخ الخلفاء/ 149.
(3) المنهاج 8/234، انظر 4/146.
(4) المنهاج 8/235.
(5) في مصنف ابن أبي شيبة 12/43 عن قتادة: "أن عثمان حمل في جيش العسرة على ألف بعير إلا سبعين كلها خيلاً".
(6) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب "فضائل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. 5/625-626 ورواه الإمام أحمد في المسند/ 63 وفي فضائل الصحابة 1/457-258 وقال المحقق إسناده حسن. وابن هاني في مسائل الإمام أحمد 2/172، وابن أبي عاصم في السنة "باب فضل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -" 2/587.
(7) المنهاج 7/22-33.
(8) المنهاج 7/23.(1/295)
وذلك أن بيعة الرضوان كانت بسببه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل عثمان - رضي الله عنه - إلى مكة أشيع أنه قتل فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على القتال، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده عن عثمان ويد النبي - صلى الله عليه وسلم - خير لعثمان من يده (والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعة له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه)(1).
و(كما ثبت في الصحيح أن رجلا أراد أن يطعن في عثمان عند ابن عمر فقال إنه قد فر يوم أحد ولم يشهد بدرا ولم يشهد بيعة الرضوان فقال ابن عمر أما يوم أحد فقد عفا الله عنه وفي لفظ فر يوم أحد فعفا الله عنه وأذنب عندكم ذنبا فلم تعفوا عنه وأما يوم بدر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلفه على ابنته وضرب له بسهمه وأما بيعة الرضوان فإنما كانت بسبب عثمان فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثة إلى مكة وبايع عنه بيده ويد النبي - صلى الله عليه وسلم - خير من يد عثمان(2).
فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيبا ما كان منه عيبا فقد عفا الله عنه والباقي ليس بعيب بل هو من الحسنات وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة هو إما حسنة وإما معفو عنه)(3).
__________
(1) المنهاج 6/268.
(2) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب عثمان 4/202، وسنن الترمذي: كتاب المناقب، باب في مناقب عثمان 5/629، والمسند 2/101.
(3) المنهاج 6/238-239.(1/296)
(وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له، بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه(1))(2).
المطلب الثاني: بقية الفضائل:
أ- صبره وكونه من أكف الناس عن الدماء:
(ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر(3) وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن ألحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف(4).
فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين.
ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين)(5).
__________
(1) البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب عثمان 4/202 وفي الأدب باب نكت العود في الماء والطين 7/122-123 وغيرها ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان 4/1867-1868، والترمذي في المناقب، باب في مناقب عثمان 5/631، والمسند 1/187، 188، 408، 4/393، 406، 407 وغيرهم.
(2) المنهاج 6/197.
(3) مجمع الزوائد 7/132، 9/96 بمعناه.
(4) فضائل الصحابة 1/485، والرياض النضرة 3/69 في أثر طويل وفيه اختلاف يسير. المسند 1/67، وفي المحقق 1/369، وفي التاريخ الكبير 1/163، وانظر مجمع الزوائد 7/229-230.
(5) المنهاج 6/286.(1/297)
ب- توبته وبيان أن ما يدعي له من سيئات فهو مغمور في بحار حسناته: (والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله عنهم بها وقد يكفر عنهم بغير ذلك.
فكل ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وعثمان - رضي الله عنه - قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه، ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه وأنه ابتلى ببلاء عظيم فكفر الله به خطاياه وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما وهذا من أعظم ما يكفر الله به الخطايا)(1).
جـ- اتفاق الناس على بيعته:
(فلما علمنا نقلا صحيحا أنه ما كان اختلاف في ولاية عثمان ولا أن طائفة من الصحابة قالت ولوا عليا أو غيره كما قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولو وجد شيء من ذلك لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله كما نقل نزاع بعض الأنصار في خلافة أبي بكر فالمدعي لذلك مفتر.
ولهذا قال الإمام أحمد: «لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان»(2). وعثمان ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهو مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا وقد أظهرهم الله وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ونصرهم على الكفار وفتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان.
فلم يعدلوا بعثمان غيره كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عوف ولهذا بايعه عبد الرحمن كما ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة)(3).
__________
(1) المنهاج 6/196-197.
(2) السنة للخلال 2/320، 321 وقال المحقق إسناده صحيح.
(3) المنهاج 6/351.(1/298)
وفي الصحيح: (أن عبد الرحمن بقي ثلاثة أيام لم يغتمض في لياليها بكثير نوم في كل ذلك يشاور المسلمين(1) ولم يرهم يعدلون بعثمان غيره بل رأوه أحق وأشبه بالأمر من غيره وأن عبد الرحمن لم يشترط على علي إلا العدل فقال لكل منهما: «الله عليك إن وليتك لتعدلن، وإن وليت عليك لتسمعن ولتطيعن».
فيقول: "نعم"(2). فشرط على المتولي العدل وعلى المتولى عليه السمع والطاعة وهذا حكم الله ورسوله كما دل عليه الكتاب والسنة)(3).
المبحث الثاني
خلافته
لقد كانت خلافة عثمان - رضي الله عنه - بإجماع المسلمين وقد وضح ذلك شيخ الإسلام في رده على قول الرافضي: (ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم).
حيث قال: (عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان ولم يتخلف عن بيعته أحد.
قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي(4): ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم(5) فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما.
__________
(1) البخاري كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس 8/123.
(2) البخاري، فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان 4/204-207، وتاريخ الخلفاء/ 154، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9/32-35.
(3) المنهاج 6/352.
(4) هو محمد بن علي بن عبد الله بن مهران، أبو جعفر الوراق يُعرف بحمدان، وكان من نبلاء أصحاب الإمام أحمد، مشهود له بالصلاح والفضل، توفي سنة اثنين وسبعين ومائتين. تاريخ بغداد 3/61، 62. السير 13/49-50.
(5) السنة للخلال/ 320 وقال المحقق إسناده صحيح.(1/299)
وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولى أحد الرجلين وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ويشاور أمراء الأنصار(1) وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها.
ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد ابن حنبل والدارقطني وغيرهم من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار(2)، وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم)(3).
(ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان - رضي الله عنه - لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة وأقلهما مفسدة)(4).
__________
(1) هكذا في المنهاج ولعل الصواب "الأمصار" بالميم.
(2) السنة للخلال./392، مسائل الإمام أحمد لابن هاني 2/171، وانظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 8/1370 بمعناه عن حماد بن زيد وأبي بكر بن عياش، وانظر شرح السنة للبغوي 1/229.
(3) المنهاج 1/532-534. انظر 8/313-331.
(4) المنهاج 6/148.(1/300)
وقد وضح أن اتفاق الناس على عثمان أمر متواتر، لا يمكن إنكاره فقال: قد علم بالتواتر أن المسلمين كلهم اتفقوا على مبايعة عثمان، لم يتخلف عن بيعته أحد.... (مع كثرة المسلمين وانتشارهم من إفريقية إلى خراسان ومن سواحل الشام إلى أقصى اليمن ومع كونهم كانوا ظاهرين على عدوهم من المشركين وأهل الكتاب يقاتلونهم وهم في زيادة فتح وانتصار ودوام دولة ودوام المسلمين على مبايعته والرضا عنه ست سنين نصف خلافته معظمين له مادحين له لا يظهر من أحد منهم التكلم فيه بسوء. ثم بعد هذا صار يتكلم فيه بعضهم وجمهورهم لا يتكلم فيه إلا بخير وكانت قد طالت عليهم إمارته فإنه بقي اثنتى عشرة سنة لم تدم خلافة أحد من الأربعة ما دامت خلافته.... ونشأ في خلافته من دخل في الإسلام كرها فكان منافقا مثل ابن سبأ وأمثاله وهم الذين سعوا في الفتنة بقتله)(1).
وقد رد شيخ الإسلام على زعم الرافضي أن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان فقال: (وأما قوله إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان.
فجوابه من وجوه:
أحدها: أن يقال: أولا هذا من أظهر الكذب وأبينه فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ولا شاركوا في قتله ولا رضوا بقتله؟
أما أولا: فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان وأهل المدينة بعض المسلمين.
__________
(1) المنهاج 8/314-316.(1/301)
وأما ثانيا: فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن وكان علي - رضي الله عنه - يحلف دائما إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله(1) ويقول اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل(2) وغاية ما يقال: إنهم لم ينصروه حق النصرة وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان حتى تمكن أولئك المفسدون ولهم في ذلك تأويلات وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ولو علموا ذلك لسدوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة ولهذا قال: تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } (3)، فإن الظالم يظلم فيبتلي الناس بفتنة تصيب من لم يظلم فيعجز عن ردها حينئذ بخلاف ما لو منع الظالم ابتداء فإنه كان يزول سبب الفتنة.
__________
(1) المستدرك 3/106 بمعناه، الرياض النضرة 3/78. بمعناه، المطالب العالية 4/293 بمعناه سنن سعيد بن منصور 2/335. بمعناه، السنة للخلال/ 328، بمعناه، ابن سعد في الطبقات 3/68-69، 82 بمعناه.
(2) الرياض النضرة 3/48. بمعناه 3/79، وليس فيه البر والبحر، فضائل الصحابة 1/ 455 بمعناه سنن سعيد بن منصور 2/336 بمعناه.
(3) الأنفال/ 25.(1/302)
الثاني: أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر فيجب أن تكون بيعته حقا لحصول الإجماع عليها وإن لم يجز الاحتجاج به بطلت حجتهم بالإجماع على قتله لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته ويقولون: إنما بايع أهل الحق منهم خوفا وكرها ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله وقال قائل: كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفا وتقية على أنفسهم لكان هذا أقرب إلى الحق لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه بخلاف من يريد مبايعة الأئمة فإنه لا يخيف المخالف كما يخيف من يريد قتله فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة.
فهذا لو قدر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله فكيف وجمهورهم أنكروا قتله ودافع عنه من دافع في بيته كالحسن بن علي وعبد الله بن الزبير(1) وغيرهما.
__________
(1) عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي أبو بكر، ويُقال: أبو خبيب المدني، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق. وهو صحابي جليل قتل سنة ثلاث وسبعين.(1/303)
وأيضا فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة علي وعلى قتل عثمان وعلى غير ذلك فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة وسعد قد علم سبب تخلفه والله يغفر له ويرضى عنه وكان رجلا صالحا من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة كما قالت عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أبي رأس المنافقين قالت: «وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية»(1) وقد قلنا غير مرة إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها أو تمحوها حسناته أو تكفر عنه بالمصائب أو بغير ذلك فإن المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب ثلاثة منه وثلاثة من الناس وأربعة يبتديها الله التوبة والاستغفار والحسنات الماحية ودعاء المؤمنين له وإهداؤهم العمل الصالح له وشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - والمصائب المكفرة في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة ومغفرة الله له بفضل رحمته.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المغازي باب حديث الإفك 5/55-60 وفي كتاب التفسير تفسير سورة النور باب { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً } 6/5-9. ورواه مسلم في كتاب التوبة باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف 4/2129-2138. ورواه الإمام أحمد في المسند 6/194-197.(1/304)
والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم فكيف يدعى الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل هذا الإجماع بل من المعلوم أن الذين تخلفوا عن القتال مع علي من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا على قتل عثمان فإن الناس كانوا في زمن علي على ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه وصنف قاتلوه وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه وأكثر السابقين الأولين كانوا من هذا الصنف ولو لم يكن تخلف عنه إلا من قاتل مع معاوية - رضي الله عنه - فإن معاوية ومن معه لم يبايعوه وهم أضعاف الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع علي فإن كان قول القائل: إن الناس أجمعوا على قتال علي باطلا فقوله إنهم أجمعوا على قتل عثمان أبطل وأبطل.
وإن جاز أن يقال: إنهم أجمعوا على قتل عثمان لكون ذلك وقع في العالم ولم يدفع أيضًا. فقول القائل إنهم أجمعوا على قتال على أيضا والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز فإن هذا وقع في العالم ولم يدفع.
وإن قيل إن الذين كانوا مع علي لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له وجمعهم عليه ولا دفعهم عن قتاله فعجزوا عن ذلك.
قيل والذين كانوا مع عثمان لما حصر لم يمكنهم أيضا دفع القتال عنه.
وإن قيل بل أصحاب على فرطوا وتخاذلوا حتى عجزوا عن دفع القتال أو قهر الذين قاتلوه أو جمع الناس عليه.
قيل: والذين كانوا مع عثمان فرطوا وتخاذلوا حتى تمكن منه أولئك ثم دعوى المدعي الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله أظهر كذبا من دعوى المدعي إجماع الأئمة على قتل الحسين - رضي الله عنه -)(1).
وقد رد شيخ الإسلام على دعوى الرافضي أن عائشة أمرت بقتل عثمان فقال: (وأما قوله إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ولما بلغها قتله فرحت بذلك.
فيقال له أولا: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟
__________
(1) المنهاج 4/322-327.(1/305)
ويقال ثانيا: المنقول الثابت عنها يكذب ذلك ويبيبن أنها أنكرت قتله وذمت من قتله ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك.
ويقال ثالثا: هب أن واحدا من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب لإنكاره بعض ما ينكر فليس قوله حجة ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة ويظن أحدهما جواز قتل الآخر بل يظن كفره وهو مخطئ في هذا الظن.
كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة(1) وكان من أهل بدر والحديبية وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب النار فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كذبت إنه قد شهد بدرا والحديبية»(2) وفي حديث علي أن حاطبا كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك فقال لعلي والزبير: «اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ(3) فإن بها ظعينة معها كتاب» فلما أتيا بالكتاب قال: ما هذا يا حاطب فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادا ولا رضا بالكفر ولكن كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات
__________
(1) هو عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي المكي كان رسول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المقوقس صاحب مصر. توفي سنة 30 هـ. السير 2/43-45، الإصابة 2/192-193، تاريخ خليفة/ 166.
(2) راوه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة 4/1942. وورد نحوه عند البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة على أهل مكة يُخبرهم بغزو النبي - صلى الله عليه وسلم - 5/79.
(3) روضة خاخ موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة، وحمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة. مُعجم البلدان 2/301، 335-336، مراصد الاطلاع 1/424، 444.(1/306)
يحمون بها أهليهم فأحببت إذا فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر - رضي الله عنه -: دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال: «إنه شهد بدرا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»(1) وأنزل الله تعالى أول سورة الممتحنة: { لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } (2)، وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء الحديث وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء...
فإن عثمان وعليا وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب ابن أبي بلتعة وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ومع هذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتله وكذب من قال إنه يدخل النار لأنه شهد بدرا والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر ومع هذا فقد قال عمر - رضي الله عنه -: دعني أضرب عنق هذا المنافق فسماه منافقا واستحل قتله ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة....
__________
(1) البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، 6/60. أبو داود، كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً 3/108-111 الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الممتحنة 5/60-61، أحمد في المسند 2/109.
(2) الممتحنة/ 1.(1/307)
وكذلك في الصحيحين حديث عتبان بن مالك(1) لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - منزله في نفر من أصحابه فقام يصلي وأصحابه يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك إلى مالك بن الدخشم وودوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليه فيهلك فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته وقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ! قالوا: بلى وإنه يقول ذلك وما هو في قلبه فقال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه»(2).
وإذا كان ذلك فإذا ثبت أن شخصا من الصحابة إما عائشة وإما عمار بن ياسر وإما غيرهما كفر آخر من الصحابة عثمان أو غيره أو أباح قتله على وجه التأويل كان هذا من باب التأويل المذكور ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة فإن عثمان وغيره أفضل من حاطب بن أبي بلتعة وعمر أفضل من عمار(3) وعائشة وغيرهما وذنب حاطب أعظم فإذا غفر لحاطب ذنبه فالمغفرة لعثمان أولى وإذا جاز أن يجتهد مثل عمر وأسيد بن حضير(4) في التكفير أو استحلال القتل ولا يكون ذلك مطابقا فصدور مثل ذلك من عائشة وعمار أولى.
__________
(1) عتبان – بكسر أوله – بن مالك بن عمرو الخزرجي الأنصاري، صحابي مات في خلافة معاوية. الخلاصة 2/325، التقريب/ 380.
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً. 1/61-62.
(3) عمار بن ياسر بن عامر بن الحصين العنسي بنون أبو اليقظان مولى بني مخزوم، صحابي جليل شهد بدراً والمشاهد، وكان أحد السابقين الأولين قتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين من الهجرة. الخلاصة 3/261-262، التقريب/ 408.
(4) أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك الأنصاري الأشهلي صحابي جليل أسلم قديماً أحد النقباء الإثنى عشر ليلة العقبة مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين. السير 1/340-343، التقريب/ 112، الشذرات 1/31.(1/308)
ويقال رابعًا: إن هذا المنقول عن عائشة من القدح في عثمان إن كان صحيحا فإما أن يكون صوابا أو خطأ فإن كان صوابا لم يذكر في مساوئ عائشة وإن كان خطأ لم يذكر في مساوئ عثمان والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعا وأيضا فعائشة ظهر منها من التألم لقتل عثمان والذم لقتلته وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافى ذلك كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة علي واعترافها له بالحق فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق وإلا فلا.
وأيضا فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعلي أعظم مما ظهر منهم من الملام لعثمان فإن كان هذا حجة في لوم عثمان فهو حجة في لوم علي وإن لم يكن حجة في لوم علي فليس حجة في لوم عثمان وإن كان المقصود بذلك القدح في عائشة لما لامت عثمان وعليا فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة لكن تختلف درجات الملام)(1).
(وأما قوله إنها سألت من تولى الخلافة فقالوا: علي فخرجت لقتاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعلي في ذلك.
فيقال له أولا: قول القائل: إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب بين بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم لكن القتلة كانوا قد أووا إليه فطلبوا قتل القتلة ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم.
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر ( عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن كما قال تعالى { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } (2) وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله.
وأيضا قوله أي ذنب كان لعلي في قتله تناقض منه فإنه يزعم أن عليا كان ممن يستحل قتله.
__________
(1) المنهاج 4/329-336.
(2) الأنفال/ 25.(1/309)
وقتاله وممن ألب عليه وقام في ذلك فإن عليا - رضي الله عنه - نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعلي وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين على علي.
والرافضة تقول إن عليا كان ممن يستحل قتل عثمان بل وقتل أبي بكر وعمر وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقرابات فكيف يقول من هذا اعتقاده أي ذنب كان لعلي على ذلك وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا)(1).
(وكل ذلك كذب على علي - رضي الله عنه - وقد حلف - رضي الله عنه - وهو الصادق بلا يمين أنه لم يقتل عثمان ولا مالا على قتله بل ولا رضي بقتله وكان يلعن قتلة عثمان، وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله فهو أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان أو يرضى بذلك)(2).
(ومن هؤلاء من يقول إن عليا شارك في دم عثمان فمنهم من يقول إنه أمر علانية ومنهم من يقول إنه أمر سرا ومنهم من يقول بل رضي بقتله وفرح بذلك ومنهم من يقول غير ذلك وهذا كله كذب على علي - رضي الله عنه - وافتراء عليه فعلى - رضي الله عنه - لم يشارك في دم عثمان ولا أمر ولا رضي وقد روي عنه وهو الصادق البار أنه قال: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وروي عنه أنه قال: ما قتلت ولا رضيت(3).
وروى عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان فقال: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل وروى أن أقواما شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم وأنه من قتلة عثمان وأنه آوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتله.
__________
(1) المنهاج 4/ 343- 344.
(2) المنهاج 6/202.
(3) ورد هذا الأثر بنحوه في السنة للخلال/ 328، وفي طبقات ابن سعد 3/82 بنحوه كذلك.(1/310)
وهذا وأمثاله مما يبين شبهة الذين قاتلوه ووجه اجتهادهم في قتاله لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك مبايعته وقتاله وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقا لهم وقد اعتذر بعض الناس عن علي بأنه لم يكن يعرف القتلة بأعيانهم أو بأنه كان لا يرى قتل الجماعة بالواحد أو بأنه لم يدع عنده ولي الدم دعوى توجب الحكم له.
ولا حاجة إلى هذه الأعذار بل لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكنا من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شرا وبلاء ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس لأنهم كانوا عسكرا وكان لهم قبائل تغضب لهم والمباشر منهم للقتل وإن كان قليلا فكان ردؤهم أهل الشوكة ولولا ذلك لم يتمكنوا ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان قام بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق)(1).
(ومن العجب أن دم الهرمزان(2) المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان يجعل لا حرمة له وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبيين!.
__________
(1) المنهاج 4/406.
(2) الهرمزان بضم أوله وثالثه وسكون الراء ثم زاي. مخضرم، أسلم على يد عمر، وقتل يوم قتله. الطبقات الكبرى 5/89-90، التقريب/ 571.(1/311)
ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن ألحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف(1).
فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين.
ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين فإذا كان ما فعله علي مما لا يوجب القدح في علي بل كان دفع الظالمين لعلي من الخوارج وغيرهم من النواصب القادحين في علي واجبا فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى إذ كان بعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد علي عن ذلك بكثير كثير، وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود كان قد طرق من القدح في علي ما هو أعظم من هذا وسوغ لمن أبغض عليا وعاداه وقاتله أن يقول إن عليا عطل الحدود الواجبة على قتلة عثمان وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حد وجب بقتل الهرمزان.
وإذا كان من الواجب الدفع عن علي بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز فلأن يدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأولى)(2).
__________
(1) فضائل الصحابة 1/485، الرياض النضرة 3/69 في أثر طويل وفيه اختلاف يسير. المسند 1/67، وفي المحقق 1/369، وفي التاريخ الكبير 1/163، وانظر مجمع الزوائد 7/229-230.
(2) المنهاج 6/286-287.(1/312)
ثم ذكر شيخ الإسلام الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان مقارنة بالفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين فقال: (ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين، وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل والحسين - رضي الله عنه - لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه أن يستأسر نفسه ليحمل إلى يزيد مأسورا فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل شهيدا مظلوما، فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل وكلاهما مظلوم شهيد)(1).
المبحث الثالث
بعض المطاعن التي يطعن بها الرافضة عليه والرد عليها
أولا: قول الرافضي:
وأما عثمان فإنه ولي أمور المسلمين من لا يصلح للولاية، حتى ظهر من بعضهم الفسوق، ومن بعضهم الخيانة... واستعمل الوليد بن عقبة(2) حتى ظهر منه شرب الخمر... واستعمل سعيد بن العاص(3) على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها... إلخ. قال شيخ الإسلام:
__________
(1) المنهاج 2/67.
(2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي، له صحبة قليلة، ورواية يسيرة أخو عثمان لأمه، عاش إلى خلافة معاوية، ت سنة 61 هـ، السير 3/412-416، التقريب/ 583، البداية والنهاية 8/214.
(3) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، كان عمره عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، ولي إمرة الكوفة لعثمان، قال البخاري: مات سنة سبعٍ أو ثمانٍ وخمسين وقيل غير ذلك. التقريب/ 237، الخلاصة 1/382.(1/313)
(والجواب: أن يقال نواب علي خانوه وعصوه أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه وقد صنف الناس كتبا فيمن ولاه علي فأخذ المال وخانه وفيمن تركه وذهب إلى معاوية(1) وقد ولى علي - رضي الله عنه - زياد بن أبي سفيان أبا عبيدالله بن زياد(2) قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي(3) وولى محمد بن أبي بكر(4) وأمثال هؤلاء.
ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - كان خيرا من هؤلاء كلهم.
ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان فيقولون إن عثمان ولىّ أقاربه من بني أمية.
__________
(1) معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية أمير المؤمنين ملك الإسلام أبو عبد الرحمن القرشي الأموي المكي، صحابي أسلم قبيل الفتح، وكتب الوحي، ت سنة 60 هـ. التقريب/ 537، السير 3/119-262.
(2) زياد بن أبي سفيان هو زياد بن أبيه، وقيل زياد بن عبيد الثقفي بن سمية، يُكنى أبا المغيرة، ولد عام الهجرة واسلم زمن الصديق، وسمع من عمر وغيره، ولي البصرة والكوفة، ت سنة 53 هـ. السير 3/494-497، ميزان الاعتدال 2/86-87، التاريخ الكبير 3/357 وترجمة عبيد الله بن زياد سبقت.
(3) مالك بن الحارث النخعي الملقب بالأشتر، مخضرم، نزيل الكوفة، ولاه على مصر ومات قبل أن يدخلها، ت سنة 37 هـ. السير 4/34-35، التقريب/ 516، التاريخ الكبير 11/311.
(4) محمد بن أبي بكر الصديق ولد في حجة الوداع، في السنة العاشرة من الهجرة، وقد انضم إلى علي فكان من أمرائه فسيره على إمرة مصر، ت سنة 38 هـ. السير 3/481-482، الشذرات 1/48، الجرح والتعديل 7/351، التاريخ الكبير 1/124.(1/314)
ومعلوم أن عليا ولىّ أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله(1) ابني العباس فولى عبيد الله بن عباس على اليمن وولى على مكة والطائف قثم ابن العباس(2) وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف(3) وقيل ثمامة بن العباس(4) وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس وولى على مصر ربيبة محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره. ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة أو على ولده وولده على ولده الآخر وهلم جرا.
ومن المعلوم أنه إن كان تولية الأقربين منكرا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم)(5).
__________
(1) عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، أبو محمد، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، صحابي صغير، ولي إمرة اليمن لابن عمه علي وحج بالناس، ت سنة 87 هـ، السير 3/512-514، الخلاصة 2/193، التقريب/ 371.
(2) قثم بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، صحابي صغير، استعمله عليٌ على مكة فما زال عليها حتى قتل علي. ت في سمرقند على الصحيح سنة 57 هـ. والسير 3/440-442، التقريب/ 454.
(3) سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي، أبو ثابت المدني البدري، ولي فارس لعلي رضي الله عنهما، ت سنة 38 بالكوفة. السير 2/325-329، التقريب/ 257، الخلاصة 1/426.
(4) لعله تمام بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - شقيق كثير بن العباس، له رؤية وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، ولي المدينة في زمان علي. انظر الاستيعاب 2/63-67، السير 3/443، تجريد أسماء الصحابة 8/58، الإصابة 1/309-310، ولم أجد في المراجع التي اطلعت عليها ذكراً لثمامة وإنما ذكروا تماماً وأنه عاشر ولد العباس وآخرهم.
(5) المنهاج 6/184-185.(1/315)
(والمقصود هنا أن ما يعتذر به عن علي فيما أنكر عليه يعتذر بأقوى منه عن عثمان فإن عليا قاتل على الولاية وقتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة خير وقد ولى من أقاربه من ولاه فولاية الأقارب مشتركة ونواب عثمان كانوا أطوع من نواب علي وأبعد عن الشر، وأما الأموال التي تأول فيها عثمان فكما تأول علي في الدماء وأمر الدماء أخطر وأعظم)(1).
(فإن عثمان يقول إن بني أمية كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وعمر - رضي الله عنه - ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بني عبد شمس لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد.... فيقول عثمان: أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان(2) بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية.
وهذا النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه بل متواتر عند أهل العلم ومنه متواتر عند علماء الحديث ومنه ما يعرفه العلماء منهم.
ولا ينكره أحد منهم فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل)(3).
__________
(1) المنهاج 6/191-192.
(2) يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي ابو خالد الأمير من مسلمة الفتح. ولي فتح الشام. ت سنة 18 هـ. الخلاصة 3/170، تجريد أسماء الصحابة 2/137.
(3) المنهاج 6/192-194.(1/316)
(وحينئذ فقول الرافضي: [إن عثمان ولى من لا يصلح للولاية]. إما أن يكون هذا باطلا ولم يول إلا من يصلح وإما أن يكون ولى من لا يصلح في نفس الأمر لكنه كان مجتهدا في ذلك فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه وهذا لا يقدح فيه)(1).
(وقوله: حتى ظهر من بعضهم الفسق ومن بعضهم الخيانة).
فيقال: ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتاً حين الولاية، ولا على أن المولّي علم ذلك. وعثمان - رضي الله عنه - لما علم أن الوليد بن عقبة، شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد. وكان يعزل من يراه مستحقاً للعزل، ويقيم الحد على من يراه مستحقاً لإقامة الحد عليه)(2).
(وأما قوله استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران فيقال لا جرم طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب وقال لعلي قم فاضربه فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين ثم قال: امسك ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي(3) رواه مسلم وغيره.
فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب. وكذلك قوله إنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها.
فيقال مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك فإن القوم كانوا يقومون على كل وال قد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى ولم يتول عليهم نائب مثله وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر... والمغيرة بن شعبة وغيرهم ودعا عليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: [اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم](4).
__________
(1) المنهاج 6/239.
(2) المنهاج 6/241.
(3) مسلم في الحدود، باب حد الخمر 3/1331-1332، وأبو داود في الحدود باب الحد من الخمر 4/622-623، وابن ماجه في الحدود، باب حد السكران 2/858.
(4) لم أجده.(1/317)
وإذا قدر أنه أذنب ذنبا فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضيا بذنبه ونواب علي قد أذنبوا ذنوبا كثيرة بل كان غير واحد من نواب النبي - صلى الله عليه وسلم - يذنبون ذنوبا كثيرة وإنما يكون الإمام مذنبا إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك)(1).
(وأما قوله وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح(2) مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا.
والجواب: أن هذا كذب على عثمان وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئا من ذلك وهو الصادق البار بلا يمين وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز وإن كان قتله واجبا فذاك من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعا فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل)(3).
ثانيًا: قول الرافضي عن عثمان أنه (أمر بقتل محمد بن أبي بكر فهذا من الكذب المعلوم على عثمان وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا الضرب وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم دفعا عن نفسه فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم؟
__________
(1) المنهاج 6/242-244.
(2) عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث، الأمير، قائد الجيوش، أبو يحيى القرشي العامري، له صحبة ورواية. أسلم قبل الفتح وهاجر، وكتب الوحي وهو الذي فتح إفريقية، توفي في خلافة علي على الأصح. السير 3/33-35، التجريد1/314، الشذرات 1/44.
(3) المنهاج 6/244.(1/318)
وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر لم يطعن على عثمان بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان(1) لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بالقتل وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد... وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا واختلف في صحبته، ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس ولم يدرك من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أشهرا قليلة من ذي القعدة إلى أول شهر ربيع الأول فإنه ولد بالشجرة لخمس بقين من ذي القعدة عام حجة الوداع)(2).
ثالثًا: قول الرافضي عن عثمان: («ولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدثه».
فالجواب: أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولاية عثمان وزاده عثمان في الولاية وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة وكانت رعيته يحبونه.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونه ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم»(3).
__________
(1) مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أبو عبد الملك الأموي المدني، ولي الخلافة في آخر سنة 64 هـ وتوفي في سنة 65 هـ. الخلاصة 3/19، السير 3/476-479، التقريب/ 525.
(2) المنهاج 6/244-246.
(3) تقدم الكلام عليه.(1/319)
وإنما ظهر الأحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد عن الشر من كثير منهم ومعاوية كان خيرا من الأشتر النخعي ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيد الله بن عمر بن الخطاب(1) ومن أبي الأعور السلمي(2) ومن هاشم بن هاشم بن هاشم المرقال(3) ومن الأشعث بن قيس الكندي(4) ومن بسر بن أبي أرطاة(5) وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-)(6).
رابعًا: قول الرافضي: («وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه وحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث».
__________
(1) عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي، صحابي، ولد في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم بعد إسلام أبيه شهد صفين مع معاوية وقُتل فيها. الاستيعاب 7/83-89، طبقات ابن سعد 5/15-20.
(2) عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد أبو الأعور السلمي مشهور بكنية صحابي واختلف في صحبته. الكنى لمسلم 1/106، الجرح والتعديل 6/234، الإصابة 7/114-115، الاستيعاب 8/310-311.
(3) هاشم بن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص القرشي الزهري – وهاشم بن عتبة يُعرف بالمرقال – وثقه يحيى بن معين، بقي إلى سنة 147 هـ. السير 6/206، انظر 3/486، الثقات لابن حبان 7/584.
(4) الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي أبو محمد الصحابي ت سنة 40 هـ في الكوفة. السير 2/37-43، التقريب/ 113.
(5) بسر بن أرطاة وقيل ابن أبي أرطاة القرشي العامري "الأمير" نزيل دمشق من صغار الصحابة ت سنة 86 هـ. الخلاصة 1/122، التقريب/ 121، السير 3/409-412.
(6) المنهاج 6/246-247.(1/320)
فالجواب: أن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان وعثمان - رضي الله عنه - كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها فلم يكن آمرا لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمر بإبعادهم وعزلهم فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك... ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أمورا أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه وأنه لا يعطي أحدا من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم ولم يبق لهم طلب ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها [مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه](1).
وقد قيل: إنه زور عليه كتاب بقتلهم وأنهم أخذوه في الطريق فأنكر عثمان الكتاب وهو الصادق وأنهم اتهموا به مروان وطلبوا تسليمه إليهم فلم يسلمه.
وهذا بتقدير أن يكون صحيحا لا يبيح شيئا مما فعلوه بعثمان وغايته أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم ولكن لم يتم غرضه ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله لم يجب قتله فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا نعم ينبغي الاحتراز ممن يفعل مثل هذا وتأخيره وتأديبه ونحو ذلك أما الدم فأمر عظيم)(2).
__________
(1) انظر مصنف ابن أبي شيبة بمعناه 125/51، وطبقات ابن سعد الكبرى بلفظ "مصصتموه موص الإناء ثم قتلتموه" 3/82 نحوه بروايات متعددة.
(2) المنهاج 6/248-249.(1/321)
خامسًا: قول الرافضي: (وطرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم بن أبي العاص(1) عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر فلما ولى عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية(2).
والجواب أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفي رجل ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا: هو ذهب باختياره.
وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ولا لها إسناد يعرف به أمرها...
__________
(1) الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي عم عثمان بن عفان يُكنى أبا مروان، صحابي، يُروى في سبه أحاديث لم تصح ت سنة 31 هـ وقيل غير ذلك. السير 2/107-108، الإصابة 2/271-273، الشذرات 1/38.
(2) المجادلة/ 22.(1/322)
والطرد هو النفي والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين وكانوا يعزرون بالنفي وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيا دائما بل غاية النفي المقدر سنة وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه فإذا تاب سقطت العقوبة عنه وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادي لم يقدر فيه قدر ولم يوقت فيه وقت.
وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر فلما كان عثمان طالت مدته وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان كاتبا للوحي وارتد عن الإسلام وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه فيمن أهدر ثم جاء به عثمان فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعته فيه وبايعه فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم؟.
وقد رووا أن عثمان سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت.
وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه، وقل: إن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان.(1/323)
والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين ( ورضوا عنه فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنبًا بأمر لا يعرف حقيقته بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ الذين يبتغون الفتنة.
ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ولا ينكر ذلك عليه المسلمون وكان عثمان - رضي الله عنه - أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا بل هذا مما يدخله الاجتهاد فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما وطلبه من عثمان فأجابه إلى ذلك أو لعله لم يتبين لهما توبته وتبين ذلك لعثمان وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا)(1) وسيأتي الكلام على ما يدفع العقوبة عن الذنب.
(وأما استكتابه مروان فمروان لم يكن له في ذلك ذنب لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها وكان مسلما باطنا وظاهرا يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشىء يعاب به فلا ذنب لعثمان في استكتابه.
__________
(1) المنهاج 6/265-268.(1/324)
وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن...) إلخ(1).
سادسًا: قول الرافضي: («إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعًا مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حقه: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر»(2)، وقال: «إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم» فقيل له: من هم يا رسول الله قال: «علي سيدهم وسلمان والمقداد وأبو ذر»(3).
__________
(1) المنهاج 6/269.
(2) رواه الترمذي 5/669-670، وقال: هذا حديث حسن، في كتاب المناقب، باب مناقب أبي ذر. وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/299) وفي صحيح ابن ماجه 1/31.
(3) لم أجده فيما بين يدي من المراجع. وقد حكم عليه شيخ الإسلام بالوضع كما سيأتي ص 233.(1/325)
فالجواب: أن أبا ذر(1) سكن الربذة(2) ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس فإن أبا ذر - رضي الله عنه - كان رجلا صالحا زاهدا وكان من مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوي به في النار واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه قال: «يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين»، وأنه قال: «الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا»(4).
ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب ووافق عثمان فضربه أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب.
__________
(1) جندب بن جنادة الغفاري سبقت ترجمته.
(2) الربذة – بفتح أوله وثانيه وذال مُعجمة مفتوحة، من قرى المدينة. قال ياقوت الحموي: "على ثلاثة أيام قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة"، خرجت سنة 319 هـ. بالقرامطة (لعنهم الله) وطريقها الآن من المدينة مع طريق القصيم حتى قرية الشقران ثم يتجه جنوباً بما يُقارب 80 كم مُمهدة وعليه علامات وضعتها جامعة الملك سعود وفيها لجنة التنقيب عن الآثار، وجملة الطريق 210 كم تقريباً. معجم البلدان 3/24-25، مراصد الاطلاع 2/601.
(3) التوبة/ 34.
(4) رواه البخاري في الاستقراض، باب أداء الديون 3/83، والرقاق باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما أحب لو أن لي مثل أحد ذهباً» 7/177-178 والاستئذان باب «من أجاب بلبيك وسعديك» 7/137، ومسلم في الزكاة باب "الترغيب في الصدقة" 2/687-688.(1/326)
وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك كما يذكر عن عبد الواحد بن زيد(1) ونحوه.
ومن الناس من يجعل الشبلي(2) من أرباب هذا القول وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول)(3).
(وقال جمهور الصحابة: «الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه» وقد قسم الله تعالى المواريث في القرآن ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته - رضي الله عنه - كسائر المجتهدين من أمثاله.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه إيجاب إنما قال ما أحب أن يمضي على ثالثة وعندي منه شىء فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه وكذا قوله المكثرون هم المقلون دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله.
__________
(1) عبد الواحد بن زيد الزاهد، أبو عبيدة البصري حدث عن الحسن وعطاء وغيرهم، قال البخاري: "تركوه" وقال النسائي: "متروك" وقال ابن حبان: "كان ممن غلب عليه العبادة حتى غفل عن الإتقان، فكثرت المناكير في حديثه" ت بعد الخمسين ومائة. التاريخ الكبير 6/62، السير 7/178-180، ميزان الاعتدال 2/672-673.
(2) لعله أبو بكر الشبلي شيخ الطائفة البغدادي. اختلف في اسمه فقيل: دلف بن جحدر، وقيل غير ذلك، أصله من "الشبلية" – قرية – ومولده بسامراء، وكان فقيهاً عارفاً بمذهب مالك، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن توفي ببغداد سنة 334 هـ. السير 15/367-369، تاريخ بغداد 14/389-397، البداية والنهاية 11/215-216.
(3) المنهاج 6/272-273.(1/327)
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقوم رعيته تقويما تاما فلا يعتدي لا الأغنياء ولا الفقراء فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات، وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين. فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض.
وأما كون أبي ذر من أصدق الناس فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم»(1).
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير»(2).
وأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي ذر وأمثاله والحديث(3) المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به)(4).
سابعًا: قول الرافضي: («إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة فصار سنة إلى الآن».
__________
(1) مسلم في الإمارة باب "كراهية الإمارة بغير ضرورة" 3/1457-1458، وأحمد 5/180 وأبو داود في الوصايا باب "ما جاء في الدخول في الوصايا" 3/289، 290. والنسائي في الوصايا باب النهي عن "الولاية على مال اليتيم" 6/255.
(2) مسلم في القدر باب في الأمر بالقوة وترك العجز …إلخ 4/2052. وأحمد 2/366، 370 وابن ماجه في المقدمة باب في القدر/ 31 والزهد باب في التوكل واليقين 2/1395.
(3) يعني الحديث الثاني وهو أن الله يحب أربعة من أصحابي … إلخ.
(4) المنهاج 6/273-276.(1/328)
فالجواب: «أن عليا - رضي الله عنه - كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها فكان على إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه.
فإن قيل: كان الناس لا يوافقونه على إزالتها.
قيل: فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر هذا ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان.
وقول القائل: هي بدعة إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك فكذلك قتال أهل القبلة بدعة فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي وأين قتال أهل القبلة من الأذان؟!.
فإن قيل: بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي.
قيل: لهم فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي؟ وأن عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي؟... وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد... ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك في الأذان وهو قولهم وحي على خير العمل)(1).
__________
(1) المنهاج 6/290-294.(1/329)
ثامنًا: قول الرافضي: (وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.
فالجواب: أما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله أو أنهم كلهم أمروا بقتله ورضوا بقتله وأعانوا على قتله فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة. قال ابن الزبير: «لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب»(1). يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه.
وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله أو في كل ما أنكر عليه فهذا أيضا كذب فما من شيء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور وإما في غالبها وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان وبعضه يكون فيه مجتهدا ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا إما مصيبا وإما مخطئا.
وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما.
والذي قال له غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد قليل جدا من المسلمين ولم يعين منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك وقد أجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال وقالوا يوم بدر غاب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخلفه عن ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره.
__________
(1) لم أجده.(1/330)
ويوم الحديبية بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عثمان بيده ويد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير له من يده لنفسه وكانت البيعة بسببه فإنه لما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - رسولا إلى أهل مكة بلغه أنهم قتلوه فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت فكان عثمان شريكا في البيعة مختصا بإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فامتنع من ذلك وقال حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة فهم يحمونه، وأما التولي يوم أحد فقد قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (1) فقد عفا الله عن جميع المتولين يوم أحد فدخل في العفو من هو دون عثمان فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته)(2).
***
المبحث الرابع
في تفضيل الثلاثة على علي رضي الله عنهم
هذا المبحث في بيان تفضيل الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان على علي رضي الله عنهم أجمعين، وفيه رد دعوى الرافضي أن موالاتهم لا تجب
قال شيخ الإسلام: (وأهل السنة لا ينازعون في كمال علي وأنه في الدرجة العليا من الكمال وإنما النزاع في كونه أكمل من الثلاثة وأحق بالإمامة منهم وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك.
وهذا الباب للناس فيه طريقان:
__________
(1) آل عمران/ 155.
(2) المنهاج 6/296-298، انظر المنهاج 8/312-317.(1/331)
منهم من يقول إن تفضيل بعض الأشخاص على بعض عند الله لا يعلم إلا بالتوقيف فإن حقائق ما في القلوب ومراتبها عند الله مما استأثر الله به فلا يعلم ذلك إلا بالخبر الصادق الذي يخبر عن الله ومنهم من يقول قد يعلم ذلك بالاستدلال.
وأهل السنة يقولون إن كلا من الطريقين إذا أعطي حقه من السلوك دل على أن كلا من الثلاثة أكمل من علي ويقولون نحن نقرر ذلك في عثمان فإذا ثبت ذلك في عثمان كان في أبي بكر وعمر بطريق الأولى فإن تفضيل أبي بكر وعمر على عثمان لم ينازع فيه أحد بل وتفضيلهما على عثمان وعلي لم يتنازع فيه من له عند الأمة قدر لا من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة السنة بل إجماع المسلمين على ذلك قرنا بعد قرن أعظم من إجماعهم على إثبات شفاعة نبينا في أهل الكبائر وخروجهم من النار وعلى إثبات الحوض والميزان وعلى قتال الخوارج ومانعي الزكاة وعلى صحة إجارة العقار وتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها.
بل إيمان أبي بكر وعمر وعدالتهما مما وافقت عليه الخوارج مع تعنتهم وهم ينازعون في إيمان علي وعثمان واتفقت الخوارج على تكفير علي وقدحهم فيه أكثر من قدحهم في عثمان والزيدية بالعكس والمعتزلة كان قدماؤهم يميلون إلى الخوارج ومتأخروهم يميلون إلى الزيدية كما أن الرافضة قدماؤهم يصرحون بالتجسيم ومتأخروهم على قول الجهمية والمعتزلة وكانت الشيعة الأولى لا يشكون في تقديم أبي بكر وعمر وأما عثمان فكثير من الناس يفضل عليه عليًّا وهذا قول كثير من الكوفيين وغيرهم وهو القول الأول للثوري ثم رجع عنه وطائفة أخرى لا تفضل أحدهما على صاحبه.
وهو الذي حكاه ابن القاسم عن مالك عمن أدركه من المدنيين لكن قال ما أدركت أحدا ممن يقتدى به يفضل أحدهما على صاحبه وهذا يحتمل السكوت عن الكلام في ذلك فلا يكون قولا وهو الأظهر ويحتمل التسوية بينهما وذكر ابن القاسم عنه أنه لم يدرك أحدا ممن يقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر على عثمان وعلي.(1/332)
وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان وعليه استقر أمر أهل السنة وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وإحدى الروايتين عن مالك وعليها أصحابه.
قال مالك لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها وقال الشافعي وغيره إنه بهذا قصد والي المدينة الهاشمي ضرب مالك وجعل طلاق المكره سببا ظاهرا وهو أيضا مذهب جماهير أهل الكلام الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة.
وقال أيوب السختياني من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار(1) وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما إنهم اتفقوا على تقديم عثمان ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدم عثمان هل يعد مبتدعا على قولين هما روايتان عن أحمد.
فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد.
وأما الطريق التوفيقي فالنص والإجماع أما النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان(2) وأما الإجماع فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شورى في ستة وأن ثلاثة تركوه لثلاثة عثمان وعلي وعبد الرحمن وأن الثلاثة اتفقوا على أن عبد الرحمن يختار واحدا منهما وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم يشاور المسلمين(3).
وقد اجتمع بالمدينة أهل الحل والعقد حتى أمراء الأنصار، وبعد ذلك اتفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا رهبة فيلزم أن يكون عثمان هو الأحق ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل فإن أفضل الخلق من كان أحق أن يقوم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أبو داود في السنة باب في التفضيل 5/26، وابن أبي عاصم في السنة في فضل أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم 2/566، وقال الألباني: إسناده صحيح ورجاله ثقات رجال البخاري.
(3) سبق تخريجه.(1/333)
وإنما قلنا يلزم أن يكون هو الأحق لأنه لو لم يكن ذلك للزم إما جهلهم وإما ظلمهم فإنه إذا لم يكن أحق وكان غيره أحق فإن لم يعلموا ذلك كانوا جهالا وإن علموه وعدلوا عن الأحق إلى غيره كانوا ظلمة فتبين أن عثمان إن لم يكن أحق لزم إما جهلهم وإما ظلمهم وكلاهما منتف لأنهم أعلم بعثمان وعلي منا وأعلم بما قاله الرسول فيهما منا وأعلم بما دل عليه القرآن في ذلك منا ولأنهم خير القرون فيمتنع أن نكون نحن أعلم منهم بمثل هذه المسائل مع أنهم أحوج إلى علمها منا فإنهم لو جهلوا مسائل أصول دينهم وعلمناها نحن لكنا أفضل منهم وذلك ممتنع وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم فإن ذلك قدح في عدالتهم وذلك يمنع أن يكونوا خير القرون بالضرورة ولأن القرآن آثنى عليهم ثناء يقتضي غاية المدح فيمتنع إجماعهم وإصرارهم على الظلم الذي هو ضرر في حق الأمة كلها فإن هذا ليس ظلما للممنوع من الولاية فقط بل هو ظلم لكل من منع نفعه من ولاية الأحق بالولاية فإنه إذا كان راعيان أحدهما هو الذي يصلح للرعاية ويكون أحق بها كان منعه من رعايتها يعود بنقص الغنم حقها من نفعه.
ولأن القرآن والسنة دلا على أن هذه الأمة خير الأمم وأن خيرها أولها فإن كانوا مصرين على ذلك لزم أن تكون هذه الأمة شر الأمم وأن لا يكون أولها خيرها.
ولأنا نحن نعلم أن المتأخرين ليسوا مثل الصحابة فإن كان أولئك ظالمين مصرين على الظلم فالأمة كلها ظالمة فليست خير الأمم.
وقد قيل لابن مسعود لما ذهب إلى الكوفة من وليتم؟ قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وذو الفوق هو السهم يعني أعلانا سهما في الإسلام...(1/334)
وأما الطريق النظرية فقد ذكر ذلك من ذكره من العلماء فقالوا عثمان كان أعلم بالقرآن وعلي أعلم بالسنة وعثمان أعظم جهادا بماله وعلي أعظم جهادا بنفسه وعثمان أزهد في الرياسة وعلي أزهد في المال وعثمان أورع عن الدماء وعلي أورع عن الأموال وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل مالم يحصل مثله لعلي وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله»(1).
وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي فقالوا فثبت أن عثمان أفضل لأن علم القرآن أعظم من علم السنة.
وفي صحيح مسلم وغيره أنه قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة»(2). وعثمان جمع القرآن كله بلا ريب وكان أحيانا يقرؤه في ركعة وعلي قد اختلف فيه هل حفظ القرآن كله؟ أم لا؟.
__________
(1) المسند 6/20-22 نحوه، والترمذي في فضائل الجهاد باب "ما جاء في فضل من مات مرابطاً" 4/165 نحوه عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه وقال الترمذي "حديث حسن صحيح".
(2) مسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب "من أحق بالإمامة" 1/465 وفي المسند 4/118 وأبو داود في "الصلاة باب من أحق بالإمامة" 1/584-585، والترمذي في أبواب الصلاة باب "من أحق بالإمامة" 1/458، والنسائي في الإمامة باب "من أحق بالإمامة" 2/76، وابن ماجه في "إقامة الصلاة والسنة فيها باب "من أحق بالإمامة"1/313-314 وغيرهم.(1/335)
والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس كما في قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) الآية، وقوله: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } (2) وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (3).
وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة لا يوافق أنه يقتل في الجهاد ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ولا يهون عليه إخراج ماله ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم ومنهم من كان جهاده بالنفس أعظم.
وأيضا فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي وله من الهجرة إلى أرض الحبشة مالم يحصل مثله لعلي وله من الذهاب إلى مكة يوم صلح الحديبيية ما لم يحصل مثله لعلي وإنما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان وبايع بإحدى يديه عن عثمان وهذا من أعظم الفضل حيث بايع عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) التوبة/ 41.
(2) التوبة/ 20.
(3) الأنفال/ 72.(1/336)
وأما الزهد والورع في الرياسة والمال فلا ريب أن عثمان تولى ثنتي عشرة سنة ثم قصد الخارجون عليه قتله وحصروه وهو خليفة الأرض والمسلمون كلهم رعيته وهو مع هذا لم يقتل مسلما ولا دفع عن نفسه بقتال بل صبر حتى قُتِل... ولهذا كانت خلافة عثمان هادية مهدية ساكنة والأمة فيها متفقة وكانت ست سنين لا ينكر الناس عليه شيئا ثم أنكروا أشياء في الست الباقية وهي دون ما أنكروه على علي من حين تولى والذين خرجوا على عثمان طائفة من أوباش الناس وأما علي فكثير من السابقين الأولين لم يتبعوه ولم يبايعوه وكثير من الصحابة والتابعين قاتلوه وعثمان في خلافته فتحت الأمصار وقوتلت الكفار وعلي في خلافته لم يقتل كافر ولم تفتح مدينة. فإن كان ما صدر عن الرأي فرأي عثمان أكمل وإن كان عن القصد فقصده أتم)(1).
(وأما قوله: والثلاثة لا تجب موالاتهم فممنوع بل يجب أيضا مودتهم وموالاتهم فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه فإن الحب في الله والبغض في الله واجب وهو أوثق عرى الإيمان وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين وقد أوجب الله موالاتهم بل قد ثبت أن الله رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن وكل من - رضي الله عنه - فإنه يحبه والله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين وهؤلاء أفضل من دخل في هذه النصوص من هذه الأمة بعد نبيها.
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»(2) فهو أخبرنا أن المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتراحمون وأنهم في ذلك كالجسد الواحد.
__________
(1) المنهاج 8/ 223-234.
(2) البخاري في الأدب، باب رحمة الناس بالبهائم 7/77-78، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب "تراحم المؤمنين وتعاطفهم … إلخ" 4/1999-2 …، والمسند 4/270.(1/337)
وهؤلاء قد ثبت إيمانهم بالنصوص والإجماع كما قد ثبت إيمان علي ولا يمكن من قدح في إيمانهم يثبت إيمان علي بل كل طريق دل على إيمان علي فإنها على إيمانهم أدل والطريق التي يقدح بها فيهم يجاب عنها كما يجاب عن القدح في علي وأولى فان الرافضي الذي يقدح فيهم ويتعصب لعلي فهو منقطع الحجة كاليهود والنصارى الذين يريدون إثبات نبوة موسى وعيسى والقدح في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا لا يمكن للرافضي أن يقيم الحجة على النواصب الذين يبغضون عليا أو يقدحون في إيمانه من الخوارج وغيرهم فإنهم إذا قالوا له بأي شيء علمت أن عليا مؤمن أو ولي لله تعالى؟.
فان قال: بالنقل المتواتر بإسلامه وحسناته قيل له هذا النقل موجود في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل النقل المتواتر بحسنات هؤلاء السليمة عن المعارض أعظم من النقل المتواتر في مثل ذلك لعلي وإن قال بالقرآن الدال على إيمان علي قيل له القرآن إنما دل بأسماء عامة كقوله: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } (1) ونحو ذلك وأنت تخرج من ذلك أكابر الصحابة فإخراج واحد أسهل وإن قال بالأحاديث الدالة على فضائله أو نزول القرآن فيه.
قيل أحاديث أولئك أكثر وأصح وقد قدحت فيهم.
وقيل له تلك الأحاديث التي في فضائل علي إنما رواها الصحابة الذين قدحت فيهم فإن كان القدح صحيحا بطل النقل وإن كان النقل صحيحا بطل القدح وإن قال بنقل الشيعة أو تواترهم.
__________
(1) الفتح/ 18.(1/338)
قيل له الصحابة لم يكن فيهم من الرافضة أحد والرافضة تطعن في جميع الصحابة إلا نفرا قليلا بضعة عشر ومثل هذا قد يقال إنهم قد تواطئوا على ما نقلوه فمن قدح في نقل الجمهور كيف يمكنه إثبات نقل نفر قليل... والمقصود أن قوله: "وغير علي من الثلاثة لا تجب مودته" كلام باطل عند الجمهور بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنة من مودة علي لأن وجوب المودة على مقدار الفضل فكل من كان أفضل كانت مودته أكمل وقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } (1) قالوا: يحبهم ويحببهم إلى عباده وهؤلاء أفضل من آمن وعمل صالحا من هذه الأمة بعد نبيها كما قال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (2)....
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه سئل أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قيل: فمن الرجال قال: أبوها»(3).
وفي الصحيح أن عمر قال لأبي بكر رضي الله عنهما يوم السقيفة بل أنت سيدنا وخيرنا واحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4).
__________
(1) مريم/ 96.
(2) الفتح/ 129.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.(1/339)
وتصديق ذلك ما استفاض في الصحاح من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن مودة الإسلام»(1) فهذا يبين أنه ليس في أهل الأرض أحق بمحبته ومودته من أبي بكر وما كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أحب إلى الله وما كان أحب إلى الله ورسوله فهو أحق أن يكون أحب إلى المؤمنين الذين يحبون ما أحبه الله ورسوله كما احب الله ورسوله والدلائل الدالة على أنه أحق بالمودة كثيرة فضلا عن أن يقال إن المفضول تجب مودته وإن الفاضل لا تجب مودته)(2).
***
الفصل الرابع
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
المبحث الأول: فضائله:
من الأحاديث الصحيحة في فضائله (قوله لعلي: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»(3) وحديث الكساء لما قال لعلي وفاطمة وحسن وحسين: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»(4) وأمثال ذلك)(5).
(وليس في الصحابة بعدهم [يعني بعد أبي بكر وعمر وعثمان] من هو أفضل منه ولا يتنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه لم تفضل طائفة معروفة عليه طلحة والزبير فضلا أن يفضل عليه معاوية)(6).
وقد علق على قول الرافضي بأن عليا أحق من خالد بأن يسمى سيف الله فقال: (وأما قوله: عليِّ أحق بهذا الاسم».
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) المنهاج 7/104-107.
(3) البخاري كتاب المغازي، باب "غزوة خيبر" 5/76-77، وكتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب "مناقب علي - رضي الله عنه -" 4/207، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب "من فضائل علي بن أبي طالب" 4/1871-1873.
(4) السنة لابن أبي عاصم 2/603، وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي/ 49 والحديث رواه مسلم، انظر تخريجه.
(5) المنهاج 4/289.
(6) المنهاج 6/330.(1/340)
فيقال أولاً: من الذي نازع في ذلك؟ ومن قال: إن عليا لم يكن سيفا من سيوف الله وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ثبت في الصحيح(1) يدل على أن لله سيوفا متعددة ولا ريب أن عليا من أعظمها وما في المسلمين من يفضل خالدا على علي حتى يقال: إنهم جعلوا هذا مختصا بخالد والتسمية بذلك وقعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح فهو - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «إن خالدا سيف من سيوف الله».
ثم يقال ثانيًا: على أجل قدرا من خالد وأجل من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله فإن عليا له من العلم والبيان والدين والإيمان والسابقة ما هو به أعظم من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله فإن السيف خاصته القتال وعلي كان القتال أحد فضائله بخلاف خالد فإنه كان هو فضيلته التي تميز بها عن غيره لم يتقدم بسابقة ولا كثرة علم ولا عظيم زهد وإنما تقدم بالقتال فلهذا عبر عن خالد بأنه سيف من سيوف الله)(2).
موقف أهل السنة منه:
وقد بين موقف أهل السنة من علي وأنهم يعظمونه ويحبونه ويذبون عنه فقال: (وأيضا فأهل السنة يحبون الذين لم يقاتلوا عليا أعظم مما يحبون من قاتله ويفضلون من لم يقاتله على من قاتله كسعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة(3) وعبد الله بن عمر ( فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا عليا عند أهل السنة والحب لعلي وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته وهم من أشد الناس ذبا عنه وردا على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب لكن لكل مقام مقال.
__________
(1) سيأتي تخريجه ص 324.
(2) المنهاج 4/480.
(3) هو محمد بن مسلمة بن خالد أبو عبد الله، صحابي مشهور، شهد بدراً والمشاهد، مات بعد الأربعين. السير 2/369-373، طبقات ابن سعد 3/443-445، التقريب/ 507.(1/341)
وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق وهم ينكرون علي من سبه وكارهون لذلك وما جرى من التساب والتلاعن بين العسكرين من جنس ما جرى من القتال.
وأهل السنة من أشد الناس بغضا وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدرا وأحق بالإمامة وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيرا منه وعلي أفضل ممن هو أفضل من معاوية - رضي الله عنه - فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم وعلي أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحدا غير الثلاثة بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار)(1).
ثم ذكر أن الرافضة لا تقنع بما صح من فضائل علي حتى تضع عليه من الكذب ما يضع ولا يرفع فقال: (قال أبو الفرج ابن الجوزي: فضائل: "فضائل علي الصحيحة كثيرة غير أن الرافضة لم تقنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطن"(2))(3).
* * *
المبحث الثاني
خلافته
(وأما قوله: «ثم علي بمبايعة الخلق له».
__________
(1) المنهاج 4/395-396.
(2) الموضوعات لابن الجوزي 1/338.
(3) المنهاج 7/442.(1/342)
فتخصيصه عليا بمبايعة الخلق له دون أبي بكر وعمر وعثمان كلام ظاهر البطلان وذلك أنه من المعلوم لكل من عرف سيرة القوم أن اتفاق الخلق ومبايعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي رضي الله عنه، وعنهم أجمعين وكل أحد يعلم أنهم اتفقوا على بيعة عثمان أعظم مما اتفقوا على بيعة علي والذين بايعوا عثمان في أول الأمر أفضل من الذين بايعوا عليا فإنه بايعه علي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب وأبي بن كعب وأمثالهم مع سكينة وطمأنينة بعد مشاورة المسلمين ثلاثة أيام.
وأما علي - رضي الله عنه - فإنه بويع عقيب قتل عثمان - رضي الله عنه - والقلوب مضطربة مختلفة وأكابر الصحابة متفرقون وأحضر طلحة إحضارا حتى قال من قال إنهم جاءوا به مكرها وأنه قال بايعت واللج أي السيف على قفى(1).
وكان لأهل الفتنة بالمدينة شوكة لما قتلوا عثمان وماج الناس لقتله موجا عظيما وكثير من الصحابة لم يبايع عليا كعبد الله بن عمر وأمثاله وكان الناس معه ثلاثة أصناف:
صنف قاتلوا معه. وصنف قاتلوه. وصنف لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه.
فكيف يجوز أن يقال في علي بمبايعة الخلق له ولا يقال مثل ذلك في مبايعة الثلاثة ولم يختلف عليهم أحد بل بايعهم الناس كلهم لا سيما عثمان... ولهذا أضطرب الناس في خلافة علي على أقوال:
فقالت طائفة إنه إمام وإن معاوية إمام وإنه يجوز نصب إمامين في وقت إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم.
__________
(1) تاريخ الطبري 4/431 بمعناه، وكتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم 369.(1/343)
وقالت طائفة لم يكن في ذلك الزمان أمام عام بل كان زمان فتنة وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين وغيرهم ولهذا لما أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة وقال: «من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله أنكر ذلك طائفة من هؤلاء وقالوا قد أنكر خلافته من لا يقال فهو أضل من حمار أهله(1) يريدون من تخلف عنها من الصحابة واحتج أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا(2)»، وهذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 4/438، 479، 35/19 وورد نحوه في السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 2/590.
(2) سبق تخريجه.(1/344)
وقالت طائفة ثالثة بل علي هو الإمام وهو مصيب في قتاله لمن قاتله وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير كلهم مجتهدون مصيبون وهذا قول من يقول كل مجتهد مصيب كقول البصريين من المعتزلة أبي الهذيل(1) وأبي علي(2) وأبي هاشم(3) ومن وافقهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر(4) وأبي حامد(5) وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري(6) وهؤلاء أيضا يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا في قتاله كما أن عليا مصيب وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ذكره أبو عبد الله بن حامد ذكر لأصحاب أحمد في المقتتلين يوم الجمل وصفين ثلاثة أوجه:
أحدها: كلاهما مصيب.
والثاني: المصيب واحد لا بعينه.
والثالث: أن عليا هو المصيب ومن خالفه مخطئ.
والمنصوص عن أحمد وأئمة السلف أنه لا يذم أحدًا منهم وأن عليا أولى بالحق من غيره وأما تصويب القتال فليس هو قول أئمة السنة بل هم يقولون إن تركه كان أولى.
وطائفة رابعة: تجعل عليا هو الإمام وكان مجتهدا مصيبا في القتال ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين وهذا قول كثير من أهل الرأي والكلام من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
__________
(1) هو محمد بن الهذيل البصري العلاف صاحب التصانيف هلك سنة 227 هـ: الشذرات 2/85.
(2) هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي البصري شيخ المعتزلة، له كتاب "الأصول" وكتاب "الأسماء والصفات" وغيرها ت سنة 303 هـ بالبصرة وله ثمانٍ وستين سنة. السير 14/183-184، الملل والنحل 1/78-85.
(3) هو عبد السلام بن الأستاذ أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي المعتزلي له كتاب "الجامع الكبير" وكتاب "العرض" وغيرهما، ت سنة 321 هـ. السير 15/63-64، الملل والنحل 1/78-85.
(4) سبقت ترجمته.
(5) هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي الشافعي، صاحب التصانيف ت سنة 505 هـ. السير 19/322-346، الشذرات 4/10-13.
(6) سبقت ترجمته.(1/345)
وطائفة خامسة تقول: إن عليا مع كونه كان خليفة وهو أقرب إلى الحق من معاوية فكان ترك القتال أولى وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي»(1)... وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أن ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين وعلى هذا جمهور أئمة أهل الحديث والسنة وهذا مذهب مالك والثوري وأحمد وغيرهم... والمقصود أن الخلاف في خلافة علي وحروبه كثير منتشر بين السلف والخلف فكيف تكون مبايعة الخلق له أعظم من مبايعتهم للثلاثة قبله رضي الله عنهم أجمعين فإن قال أردت بقولي أن أهل السنة يقولون إن خلافته انعقدت بمبايعة الخلق له لا بالنص فلا ريب أن أهل السنة وإن كانوا يقولون إن النص على أن عليا من الخلفاء الراشدين لقوله خلافة النبوة ثلاثون سنة فهم يروون النصوص الكثيرة في صحة خلافة غيره وهذا أمر معلوم عند أهل العلم بالحديث يروون في صحة خلافة الثلاثة نصوصا كثيرة بخلاف خلافة علي فإن نصوصها قليلة فإن الثلاثة اجتمعت الأمة عليهم فحصل بهم مقصود الإمامة وقوتل بهم الكفار وفتحت بهم الأمصار.
وخلافة علي لم يقاتل فيها كفار ولا فتح مصر وإنما كان السيف بين أهل القبلة)(2).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة، وفيه "والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي" 4/177، وفي كتاب الفتن، باب ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم 8/92، ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع القطر 4/2211-2212، وغيرهما.
(2) المنهاج 1/534-546. انظر 4/402-403.(1/346)
وقد رد على قول الرافضي عن علي: أنه طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون، وبين أنه (كذب على علي - رضي الله عنه - فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه لم يكن معه الأقلون وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولا بايعه على ذلك أحد.... وكذلك قوله: «بايعه الأقلون» كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي في عهد الخلفاء الثلاثة ولا يمكن لأحد أن يدعي هذا ولكن غاية ما يقول القائل إنه كان فيهم من يختار مبايعته ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية وولاية غيرهما ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره فمثل هذا لا يخلو من الوجود)(1).
وقد رد على قول الرافضي عن علي: "وبايعه الكل بعد عثمان" فقال: (إن لم يكن هذا حجة فلا فائدة فيه وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم وأنتم لا ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافرا بل مؤمنا تقيا)(2).
وبين أن (اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل وأنتم وغيركم تقولون إن عليا تخلف عنها مدة فيلزم على قولكم أن يكون علي مستكبرا عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماما فيلزم حينئذ كفر علي بمقتضى حجتكم أو بطلانها في نفسها وكفر علي باطل فلزم بطلانها)(3).
ووضح أن قوله: "وبايعه الكل بعد عثمان" (من أظهر الكذب فإن كثيرا من المسلمين إما النصف وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما)(4).
__________
(1) المنهاج 2/88-89.
(2) المنهاج 4/515.
(3) المنهاج 4/515.
(4) المنهاج 4/515-516(1/347)
ثم ذكر حال الأمة في بداية ولاية علي في آخر الأمر، فقال: (وتولى علي إثر ذلك، والفتنة قائمة وهو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه المبغضون له، كما نعلم براءته مما نسب إليه الغالون فيه، المبغضون لغيره من الصحابة فإن عليا لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به كما ثبت عنه وهو الصادق أنه قال ذلك فلم تصف له قلوب كثير منهم ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر بل اقتضى رأيه القتال وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة فما زاد الأمر إلا شدة وما جانبه إلا ضعفاً وجانب من حاربه إلا قوة والأمة إلا افتراقا حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف)(1).
(وكذلك علي لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه وإن كان بعض الناس كارها لولاية أحد من الأربعة فهذا لا بد منه فإن من الناس من كان كارها لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء؟... والخلفاء الأربعة لم يكن على عهدهم طائفتان يظهر بينهم النزاع لا في تقديم أبي بكر على من بعده وصحة إمامته ولا في تقديم عمر وصحة إمامته ولا في تقديم عثمان وصحة إمامته ولا في أن عليا مقدم بعد هؤلاء... فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم فلم يكن القتال له لا على أن غيره أفضل منه ولا أنه الإمام دونه ولم يتسم قط طلحة والزبير باسم الإمارة ولا بايعهما أحد على ذلك.
وعلي بايعه كثير من المسلمين وأكثرهم بالمدينة على أنه أمير المؤمنين ولم يبايع طلحة والزبير أحد على ذلك ولا طلب أحد منهما ذلك ولا دعا إلى نفسه فإنهما رضي الله عنهما كانا أفضل وأجل قدرا من أن يفعلا مثل ذلك)(2).
الرد على من زعم أن استخلافه على المدينة يدل على إمامته:
__________
(1) المنهاج 7/452.
(2) المنهاج 6/329-330.(1/348)
ووضح أن استخلافه لعلي على المدينة لا يدل على خلافته مطلقا، وأنه هو الإمام فقال: (وأما استخلافه لعلي على المدينة فذلك ليس من خصائصه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلا من أصحابه كما استخلف ابن أم مكتوم تارة وعثمان بن عفان تارة.
واستخلف ابن ام مكتوم(1) في غزوة بدر وغيرها وعثمان في غزوة ذات الرقاع(2) وغطفان التي يقال لها غزوة أنمار(3) واستخلف في بدر الوعيد بن رواحة(4) وزيد بن حارثة في المريسيع(5) واستخلف أبا لبابة(6)
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) ذات الرقاع هي محل غطفان، وهي موضع قرب النُخيل،بين السعد والشقرة على ثلاثة أيام من المدينة. انظر معجم البلدان 3/56-57، مغازي الواقدي 1/395-397. أما الآن فإنها مسافة ساعتين (تقريباً) بالسيارة.
(3) أنمار اسم لقبيلة من غطفان، اجتمعوا مع بني محارب وثعلبة لحرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة السابعة وعُرفت بالعزوة بهذا الاسم وتُسمى أيضاً "غزوة ذات الرقاع" وغطفان" وفيها صلّى - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، وذات الرقاع هي محلهم. فتح الباري 7/429، طبقات ابن سعد 2/61، الرحيق المختوم/ 426.
(4) لعله حصل في هذه العبارة تصحيف، فكانت "واستخلف في بدر الوعيد بن رواحة" بدلاً من "واستخلف في بدر الموعد ابن رواحة" وتكون العبارة بهذا موافقة لما في السير 1/231 في ترجمة عبد الله بن رواحة، وبدر الموعد هي غزوة بدر الثانية سنة 4 من الهجرة وهي التي تواعد عليها أبو سفيان لما قال يوم أحد "موعدكم بدر" البداية والنهاية 4/91، تاريخ الطبري 2/559-561.
(5) هي اسم ماء في ناحية قديد إلى ساحل سار النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق سنة خمس وقيل ست فوجدهم على المريسيع فقاتلهم وسباهم واصطفى منهم جويرية فتزوجها. معجم البلدان 5/118، مراصد الاطلاع 3/1263.
(6) هو بشير بن عبد المنذر المدني الأنصاري صحابي مشهور، وكان من النقباء عاش إلى خلافة علي رضي الله عنهما. التقريب/ 669، تجريد اسماء الصحابة 2/198.(1/349)
في غزوة بني قينقاع(1) وغزوة السويق(2) وفي غزوة الأبواء(3) سعد بن عبادة(4) وسعد بن معاذ(5) في غزوة بواط(6) وفي غزوة العشيرة(7)
__________
(1) "بني قينقاع" شعب من اليهود كانوا يسكنون بالمدينة وقد غزاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نقضهم للعهد وذلك في سنة 3 هـ وهم أول من نقض العهد من اليهود. معجم البلدان 4/424، مراصد الاطلاع 3/1140، السيرة النبوية لابن هشام 3/50-53 زاد الميعاد 3/190.
(2) وقعت بعد بدر بشهرين وذلك أن أبا سفيان نذر أن لا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إلى المدينة في مائتي راكب وقطع أصواراً من النخل وقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له، ثم كر راجعاً، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبه فبلغ قرقرة الكدر وفاته أبو سفيان وطرح الكفار سويقاً كثيراً من أزوادهم يتخفون به فأخذها المسلمون، فسميت غزوة السويق. السيرة النبوية لابن هشام 3/47-49، زاد الميعاد 3/189-190.
(3) كانت في صفر من السنة الأولى للهجرة ذهب إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ ودان يريد قريشاً وبنو ضمرة فواد عنه فيها بنو ضمرة ثم رجع رسول الله إلى المدينة ولم يلق كيداً. قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها، سيرة ابن هشام 2/241، الكامل في التاريخ 2/111-112.
(4) سعد بن عبادة بن دليم بن حارثه الأنصاري الخزرجي وقد سبقت ترجمته.
(5) سعد بن معاذ بن نعمان الأنصاري الأشهلي أبو عمر سيد الأوس شهد بدراً واستشهد من سهم أصابه بالخندق. السير 1/279-297، التقريب/ 232.
(6) كانت في شهر ربيع الأول من السنة الأولى، غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بواط يريد قريشاً – وبواط جبل من جبال جهينة جهة ينبع على أربعة أبرد من المدينة – ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً. سيرة ابن هشام 2/248 الكامل في التاريخ 2/111.
(7) كانت في السنة الأولى ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة من السنة الأولى ثم رجع إلى المدينة. سيرة ابن هشام 2/248-250.(1/350)
أبا سلمة(1) واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره بل كان يكون في المدينة في كل غزوة من الغزوات من المهاجرين والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد بالتخلف فيها فلم يتخلف فيها إلا منافق أو معذور أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم وإنما كان عظم من تخلف فيها النساء والصبيان ولهذا لما استخلف عليا فيها خرج إليه باكيا وقال: أتدعني مع النساء والصبيان؟ وروى أن بعض المنافين طعنوا في علي، وقالوا: إنما استخلفه لأنه يبغضه وإذا كان قد استخلف غير علي على أكثر وأفضل مما استخلف عليه عليا وكان ذلك استخلافا مقيدا على طائفة معينة في مغيبه ليس هو استخلافا مطلقا بعد موته على أمته لم يطلق على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مع التقييد وإذا سمي علي بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أولى بهذا الاسم فلم يكن هذا من خصائصه، وأيضا: فالذي يخلف المطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه فلا يجب أن يكون أفضل الناس بل العادة جارية بأنه يستصحب في خروجه لحاجته إليه في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه على عياله لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله فهو أعظم ممن يخلفه على العيال فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد)(2).
* * *
المبحث الثالث
بعض ما زعم الرافضي أنها براهين تدل على إمامة علي
المطلب الأول: من الكتاب:
__________
(1) عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر المخزومي أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، شهد بدراً، ومات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة سنة أربع بعد أحد فتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده زوجته أم سلمه. التقريب/ 310.
(2) المنهاج 4/271-273.(1/351)
قال الرافضي: (والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة.
الأول: قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (1) وقد أجمعوا أنها نزلت في علي. قال الثعلبي(2) في إسناده إلى أبي ذر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: "علي قائد البررة وقاتل الكفرة فمنصور من نصره ومخذول من خذله" أما إني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم إنك تشهد أني سألت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعطني أحد شيئا. وكان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى وكان متختما فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم وذلك بعين النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إن موسى سألك وقال: { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } (3) فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا } (4) اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري».
__________
(1) المائدة/ 55.
(2) هو الإمام الحافظ العلامة شيخ التفسير أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري كان أحد أوعية العلم له كتاب التفسير الكبير وكان صادقاً موثقاً ت سنة 427 هـ. السير 17/435-437، شذرات الذهب 3/230-231.
(3) طه/ 25-32.
(4) القصص/ 35.(1/352)
قال أبو ذر: فما استتم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال: يا محمد اقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: اقرأ: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (1).
ونقل الفقيه ابن المغازلي الواسطي الشافعي(2) أن هذه نزلت في علي والولي هو المتصرف وقد أثبت له الولاية في الآية، كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال: ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا بل كل ما ذكره كذب وباطل من جنس السفسطة(3) وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين كقوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (4) وقال تعالى: { أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (5) فالصادق لا بد له من برهان على صدقه والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم.
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها فتسمية هذا براهين من أقبح الكذب.
__________
(1) المائدة/ 55.
(2) انظر ترجمته.
(3) سبق تعريف هذه الكلمة.
(4) البقرة/ 111.
(5) النمل/ 64.(1/353)
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس مع أنه قد يكون كذبا عليه وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس فإن كان قول الواحد الذي لم يعلم صدقه وقد خالفه الأكثرون برهانا فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض والبراهين لا تتناقض.
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق وأن القرآن حق وأن دين الإسلام حق تناقض ما ذكره من البراهين فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول....
ثم نقول: ثانيا: الجواب عن هذه الآية حق من وجوه.
الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل أولاً يذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات الصادقين في نقلها ليس بحجة باتفاق أهل العلم إن لم نعرف ثبوت إسناده.... فالجمهور -أهل السنة- لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته: لا حكما ولا فضيلة ولا غير ذلك وكذلك الشيعة.
وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها، بطل الاحتجاج به، وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاشي(1) أو ابن المغازلي ونحوهم.
الثاني: قوله: قد أجمعوا أنها نزلت في علي. من أعظم الدعاوى الكاذبة بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع.
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن الحسين بن محمد بن زياد الموصلي ثم البغدادي ثم النقاش، العلامة المفسر مؤلف كتاب "شفاء الصدور" في التفسير، ت سنة 351 هـ. السيرة 15/573-576، الشذرات 3/8-9.(1/354)
وأما ما نقله من تفسير الثعلبي فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات...
الوجه الثالث: أن يقال هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم هم -ومن هم أعلم منهم- قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى...
الوجه الرابع: أنا نعفيه من الإجماع ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح....
الوجه الخامس: أن يقال: لو كان المراد بالآية أن يؤتي الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة وأن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده فلا يتولى الحسن ولا الحسين ولا سائر بني هاشم وهذا خلاف إجماع المسلمين.
الوجه السادس: أن قوله "الذين" صيغة جمع فلا يصدق على علي وحده.
الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده: إما واجب وأما مستحب والصدقة والعتق والهدية والهبة والإجارة والنكاح والطلاق وغير ذلك من العقود في الصلاة ليست واجبة ولا مستحبة باتفاق المسلمين... ولو كان هذا مستحبا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله ويحض عليه أصحابه ولكان علي يفعله في غير هذه الواقعة.
فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة وإعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه وأن في الصلاة لشغلا.
الوجه الثامن: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع بل يكون في القيام والقعود أولى منه في الركوع فكيف يقال لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في كل الركوع فلو تصدق المتصدق في حال القيام والقعود أما كان يستحق هذه الموالاة؟....(1/355)
الوجه التاسع: أن يقال قوله: { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (1) على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حالة ركوعه وعلي - رضي الله عنه - لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنه كان فقيرا وزكاة الفضة إنما تجب على من ملك النصاب حولا وعلي لم يكن من هؤلاء.
الوجه العاشر: أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزئ عند كثير من الفقهاء، إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي وقيل: إنه يخرج من جنس الحلي ومن جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلاة متعذر والقيم تختلف باختلاف الأحوال.
الوجه الحادي عشر: أن هذه آية بمنزلة قوله: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } (2) هذا أمر بالركوع.
وكذلك قوله: { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } (3) وهذا أمر بالركوع...
الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين كعبد الله بن أبي(4) يوالي اليهود ويقول: إني أخاف الدوائر. فقال بعض المؤمنين وهو عبادة بن الصامت(5): إني يا رسول الله! أتولى الله ورسوله وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم...
الوجه الثالث عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن عليا ليس قائدًا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا هو أيضا قاتلا لكل الكفرة بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا وهو قاتل لبعض الكفرة.
__________
(1) المائدة/ 55.
(2) البقرة/ 43.
(3) آل عمران/ 43
(4) انظر ترجمته.
(5) انظر ترجمته.(1/356)
وكذلك قوله: «منصور من نصره مخذول من خذله» هو خلاف الواقع والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فإنهم يدعون أن الأمة كلها خذلته إلى قتل عثمان.....
الوجه الرابع عشر: أن يقال غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله ورسوله والمؤمنين فيوالون عليا ولا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن كما يجب على كل مؤمن موالاة أمثاله من المؤمنين....
الوجه الخامس عشر: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله ويكون غالبا فإن أئمة العدل يتولون على المنافقين والكفار كما كان في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت حكمه ذميون ومنافقون وكذلك كان تحت ولاية علي كفار ومنافقون والله تعالى يقول: { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (1) فلو أراد الإمارة لكان المعنى أن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين وليس كذلك وكذلك الكفار والمنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه وقدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم)(2).
الجواب عن قول الرافضي:
__________
(1) المائدة/ 56.
(2) المنهاج/ 7/5-31.(1/357)
(البرهان الثاني: قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } (1) روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس إلى غدير خم(2) وأمر بإزالة ما تحت الشجر من الشوك فقام فدعا عليا فأخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } (3) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي» ثم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».
والجواب من وجوه:
أحدها: أن المستدل عليه بيان صحة الحديث ومجرد عزوه إلى رواية أبي نعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس علماء السنة والشيعة فإن أبا نعيم روى كثيرا من الأحاديث التي هي ضعيفة بل موضوعة باتفاق علماء أهل الحديث السنة والشيعة...
الوجه الثاني: أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات وهذا يعرفه أهل العلم بالحديث والمرجع إليهم في ذلك ولذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها أهل العلم بالحديث.
__________
(1) المائدة/ 3.
(2) غدير خم موضع بين مكة والمدينة قيل بينه وبين الجحفة ميلين وقيل غيره، وقيل بئر قريب من المثب حفرها مُرة بن كعب. معجم البلدان 1/188، 2/389-390، مراصد الاطلاع 1/482، 985.
(3) المائدة/ 3.(1/358)
الوجه الثالث: أنه قد ثبت في الصحاح والمساند والتفسير أن هذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة وقال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال له عمر وأي آية هي؟ قال قوله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } (1) فقال عمر إني لأعلم أي يوم نزلت وفي أي مكان نزلت نزلت يوم عرفة بعرفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة(2) وهذا مستفيض من زيادة ووجوه أخر وهو منقول في كتب المسلمين الصحاح والمساند والجوامع والسير والتفسير وغير ذلك.
وهذا اليوم كان قبل يوم غدير خم بتسعة أيام فإنه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة فكيف يقال إنها نزلت يوم الغدير؟!.
الوجه الرابع: أن هذه الآية ليس فيها دلالة على علي ولا إمامته بوجه من الوجوه بل فيها إخبار الله بإكمال الدين وإتمام النعمة على المؤمنين ورضا الإسلام دينا فدعوى المدعي أن القرآن يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر...
الوجه الخامس: أن هذا اللفظ وهو قوله: «اللهم وال [من] والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث....
الوجه السادس: أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مجاب وهذا الدعاء ليس بمجاب فعلم أنه ليس من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه من المعلوم أنه لما تولى كان الصحابة وسائر المسلمين ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه وصنف قاتلوه وصنف قعدوا عن هذا وهذا وأكثر السابقين الأولين كانوا من القعود)(3).
الجواب عن قول الرافضي:
__________
(1) المائدة/ 3.
(2) البخاري كتاب التفسير باب تفسير سورة النساء 5/186، ومسلم كتاب التفسير 4/2312-2313.
(3) المنهاج 7/50-55.(1/359)
(البرهان [الثالث] قوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } (1) من طريق أبي نعيم عن الشعبي(2) عن ابن عباس قال في قوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } عن ولاية علي(3) وكذا في كتاب الفردوس عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا سئلوا عن الولاية وجب أن تكون ثابتة له ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك فيكون هو الإمام.
والجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة بصحة النقل والعزو إلى "الفردوس" وإلى أبي نعيم لا تقوم به حجة باتفاق أهل العلم.
الثاني: أن هذا كذب موضوع بالاتفاق.
__________
(1) الصافات/ 24.
(2) سبقت ترجمته.
(3) لم أجد هذا الأثر في الحلية ولا في معرفة الصحابة لأبي نعيم، ولا في الفردوس ولعله من موضوعات الرافضة فإنه موجود في تفاسيرهم، انظر مثلاً: البرهان، للبحراني 4/16-18 وغيره.(1/360)
الثالث: أن الله تعالى قال: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الأوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } (1).
__________
(1) الصافات/ 12-37.(1/361)
فهذا خطاب عن المشركين المكذبين بيوم الدين وهؤلاء يسألون عن توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر وأي مدخل لحب علي في سؤال هؤلاء؟ تراهم لو أحبوه مع هذا الكفر والشرك أكان ذلك ينفعهم؟ أو تراهم لو أبغضوه أين كان بغضهم له في بغضهم لأنبياء الله ولكتابه ودينه وما يفسر القرآن بهذا ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فسره بمثل هذا إلا زنديق ملحد متلاعب بالدين قادح في دين الإسلام أو مفرط في الجهل لا يدري ما يقول وأي فرق بين حب علي وطلحة والزبير وسعد وأبي بكر وعمر وعثمان...
الرابع: أن قوله مسئولون لفظ مطلق لم يوصل به ضمير يخصه بشيء وليس في السياق ما يقتضي ذكر حب علي فدعوى المدعي دلالة اللفظ على سؤالهم عن حب علي من أعظم الكذب والبهتان.
الخامس: أنه لو ادعى مدعٍ أنهم مسئولون عن حب أبي بكر وعمر لم يكن إبطال ذلك بوجه إلا وإبطال السؤال عن حب علي أقوى وأظهر)(1).
الرد على قول الرافضي:
(البرهان [الرابع]. قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } (2) من طريق أبي نعيم عن أبي هريرة قال مكتوب على العرش لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي بن أبي طالب(3) وذلك قوله في كتابه { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } (4) يعني بعلي وهذه من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام.
والجواب من وجوه:
__________
(1) المنهاج 7/143-146.
(2) الأنفال/ 62.
(3) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة للكناني 1/401.
(4) الأنفال/ 62.(1/362)
أحدها: المطالبة بصحة النقل وأما مجرد العزو إلى رواية أبي نعيم فليس حجة بالاتفاق وأبو نعيم له كتاب مشهور في فضائل الصحابة(1) وقد ذكر قطعة من الفضائل في أول "الحلية"(2) فإن كانوا يحتجون بما رواه فقد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ما ينقض بنيانهم ويهدم أركانهم وإن كانوا لا يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله ونحن نرجع فيما رواه هو وغيره إلى أهل العلم بهذا الفن والطرق التي بها يعلم صدق الحديث وكذبه من النظر في إسناده ورجاله وهل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا؟ وننظر إلى شواهد الحديث وما يدل عليه على أحد الأمرين لا فرق عندنا بين ما يروى في فضائل علي أو فضائل غيره فما ثبت أنه صدق صدقناه وما كان كذبا كذبناه...
ولهذا نقول في الوجه الثاني: إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث وهذا الحديث وأمثاله مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه كذب موضوع فنحن والله الذي لا اله إلا هو نعلم علما ضروريا في قلوبنا لا سبيل لنا إلى دفعه أن هذا الحديث كذب ما حدث به أبو هريرة وهكذا نظائره مما نقول فيه مثل ذلك وكل من كان عارفا بعلم الحديث وبدين الإسلام يعرف وكل من لم يكن له بذلك علم لا يدخل معنا كما أن أهل الخبرة بالصرف يحلفون على ما يعلمون أنه مغشوش وإن كان من لا خبرة له لا يميز بين المغشوش والصحيح.
الثالث: أن الله تعالى قال: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (3).
__________
(1) لعله معرفة الصحابة وقد طبع منه ثلاثة أجزاء إلى نهاية حرف التاء بتحقيق محمد راضي بن حاج عثمان.
(2) هو كتاب مطبوع في عشرة أجزاء.
(3) الأنفال/ 62-63.(1/363)
وهذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم وعلي واحد منهم ليس له قلوب يؤلف بينها والمؤمنون صيغة جمع فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحدا معينا وكيف يجوز أن يقال المراد بهذا علي وحده؟
الوجه الرابع: أن يقال من المعلوم بالضرورة والتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان قيام دينه بمجرد موافقة علي فإن عليا كان من أول من أسلم فكان الإسلام ضعيفا فلولا أن الله هدى من هداه إلى الإيمان والهجرة والنصرة لم يحصل بعلي وحده شيء من التأييد ولم يكن إيمان الناس وهجرتهم ولا نصرتهم على يد علي ولم يكن علي منتصبا لا بمكة ولا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان كما كان أبو بكر منتصبا لذلك ولم ينقل أنه أسلم على يد علي أحد من السابقين الأولين لا من المهاجرين ولا من الأنصار بل لا نعرف أنه على يد علي أحد من الصحابة لكن لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قد يكون قد أسلم على يديه من أسلم إن كان وقع ذلك وليس أولئك من الصحابة وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر.... فكيف يكون تأييد الرسول بواحد من أصحابه دون سائرهم والحال هذه؟ وأين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة والتابعين لهم بإحسان؟... وكل هؤلاء من المؤمنين الذين أيده الله بهم بل كل من آمن وجاهد إلى يوم القيامة دخل في هذا المعنى)(1).
الرد على قول الرافضي:
__________
(1) المنهاج 7/194-200.(1/364)
(البرهان [الخامس]: قوله تعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي } (1) من طريق أبي نعيم عن ابن عباس قال أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد علي وبيدي ونحن بمكة وصلى أربع ركعات ورفع يده إلى السماء فقال: اللهم موسى بن عمران سألك وأنا محمد نبيك أسألك أن تشرح لي صدري وتحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي علي بن أبي طالب أخي اشدد به أزرى وأشركه في أمري قال ابن عباس سمعت مناديا ينادي يا أحمد قد أوتيت ما سألت(2) وهذا نص في الباب.
والجواب: المطالبة بالصحة كما تقدم أولا.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث بل هم يعلمون أن هذا من أسمج الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة في أكثر الأوقات لم يكن ابن عباس قد ولد وابن عباس ولد وبنو هاشم في الشعب محصورون ولما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ابن عباس بلغ سن التمييز ولا كان ممن يتوضأ ويصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو لم يحتلم بعد وكان له عند الهجرة نحو خمس سنين أو أقل منها وهذا لا يؤمر بوضوء ولا صلاة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع»(3) ومن يكون بهذا السن لا يعقل الصلاة ولا يحفظ مثل هذا الدعاء إلا بتلقين لا يحفظ بمجرد السماع.
__________
(1) طه/ 29.
(2) لم أجده.
(3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة 1/332-333، والترمذي كتاب الصلاة باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة 2/259-260 وقال حديث حسن صحيح، والمسند 2/180، 187، 3/404. والدارمي كتاب الصلاة باب متى يؤمر الصبي بالصلاة 1/273.(1/365)
الرابع: أنهم قد قدموا في قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } (1) وحديث التصدق بالخاتم في الصلاة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بهذا الدعاء وهنا قد ذكروا أنه قد دعا بهذا الدعاء بمكة قبل تلك الواقعة بسنين متعددة فإن تلك كانت في سورة المائدة والمائدة من آخر القرآن نزولا وهذا في مكة فإذا كان قد دعا بهذا في مكة وقد استجيب له فأي حاجة إلى الدعاء به بعد ذلك بالمدينة بسنين متعددة؟!
الخامس: أنا قد بينا فيما تقدم وجوها متعددة في بطلان مثل هذا فإن هذا الكلام كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ولكن هنا قد زادوا فيه زيادات كثيرة لم يذكروها هناك وهي قوله { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } فصرحوا هنا بأن عليا كان شريكه في أمره كما كان هارون شريك موسى وهذا قول من يقول بنبوته وهذا كفر صريح وليس هو قول الإمامية وإنما هو من قول الغالية.
وليس الشريك في الأمر هو الخليفة من بعده فإنهم يدعون إمامته بعده ومشاركته له في أمره في حياته....
وهذا الرافضي الكذاب يقول وهذا نص في الباب.
فيقال له: يا دبير هذا نص في أن عليا شريكه في أمره في حياته كما كان هارون شريكا لموسى فهل تقول بموجب هذا النص أم ترجع عن الاحتجاج بأكاذيب المفترين وترهات إخوانك المبطلين؟!)(2).
الرد على قول الرافضي:
__________
(1) المائدة/ 55.
(2) المنهاج 7/273-276.(1/366)
(البرهان [السادس]: قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (1) في "كتاب الفردوس" لابن شيرويه(2) يرفعه عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } (3) قالت الملائكة بلى فقال تبارك وتعالى أنا ربكم ومحمد نبيكم وعلي أميركم»(4) وهو صريح في الباب.
والجواب من وجوه:
أحدها: منع الصحة والمطالبة بتقريرها وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أن مجرد رواية صاحب الفردوس لا تدل على أن الحديث صحيح فابن شيرويه الديلمي الهمذاني ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث موضوعة....
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
__________
(1) الأعراف/ 172.
(2) صاحب كتاب "الفردوس" هو شيرويه بن شهردار بن شيرويه بن فناخسره بن خسر كان المُحدث العالم الحافظ المؤرخ الهمذاني ولد سنة 445 هـ وتوفي سنة 509 هـ وله 64 سنة قال الذهبي: هو متوسط الحفظ وغيره أبرع منه وأتقن السير 19/294-295، الشذرات 4/23-24.
(3) الأعراف/ 172.
(4) لم أجده.(1/367)
الثالث: أن الذي في القرآن أنه قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } (1) ليس فيه ذكر النبي ولا الأمير وفيه قوله: { أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ } (2) فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ليس فيه ميثاق النبوة فكيف ما دونها؟!
الرابع: أن الأحاديث المعروفة في هذا التي في المسند والسنن والموطأ وكتب التفسير وغيرها ليس فيها شيء من هذا ولو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس وينفرد به من لا يعرف صدقه بل يعرف أنه كذب.
الخامس: أن الميثاق أخذ على جميع الذرية فيلزم أن يكون علي أميرا على الأنبياء كلهم من نوح إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا كلام المجانين فان أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليًّا فكيف يكون أميرا عليهم؟! وغاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه، أما الإمارة على من خلق قبله وعلى من يخلق بعده فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي فيما يقول... وكذلك كون علي أميرا على ذرية آدم كلهم وإنما ولد بعد موت آدم بألوف السنين، وأن يكون أميرا على الأنبياء الذين هم متقدمون عليه في الزمان والمرتبة... ثم إن هذا الحمار الرافضي يقول: "وهو صريح في الباب" فهل يكون هذا حجة عند أحد من أولي الألباب؟! أو يحتج بهذا من يستحق أو يؤهل للخطاب، فضلا عن أن يحتج به في تفسيق خيار هذه الأمة وتضليلهم وتكفيرهم وتجهيلهم؟)(3).
المطلب الثاني: من السنة:
الرد على قول الرافضي:
(في الأدلة المستندة إلى السنة المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -....
__________
(1) الأعراف/ 172.
(2) الأعراف/ 173.
(3) المنهاج 7/288-292.(1/368)
الأول: ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } (1) جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلا وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مدّ من البر ويعد لهم صاعًا من اللبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد ويشرب الفرق(2) من الشراب في ذلك المقام فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا، ولم يتبين ما أكلوه فبهرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وتبين لهم آية نبوته فقال يا بني عبد المطلب إن الله بعثني بالحق إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } (3) وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان تملكون بهما العرب والعجم وتنقاد لكم بهما الأمم وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي، فلم يجبه أحد منهم فقال: أمير المؤمنين أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر.
فقال: اجلس. ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا فقال علي فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى. فقال: اجلس ثم أعاد القول ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر فقال: اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميرا عليك.
والجواب من وجوه:
__________
(1) الشعراء/ 214.
(2) مكيال ضخم لأهل المدينة يسع 16 ستة عشر رطلاً. انظر اللسان (10/305)، مختار الصحاح 40، وقيل ستة عشر مُداً.
(3) الشعراء/ 214.(1/369)
الأول: المطالبة بصحة النقل وما ادعاه من نقل الناس كافة من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث؛ فإن هذا الحديث ليس في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل لا في الصحاح ولا في المساند والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف مثل تفسير الثعلبي والواحدي(1) والبغوي(2)، بل وابن جرير(3) وابن أبي حاتم(4) لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلا على صحته باتفاق أهل العلم؛ فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والسمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة.
__________
(1) هو الإمام العلامة أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري الشافعي ولد بنيسابور ت سنة 468 هـ له كتاب التفسير وكتاب أسباب النزول وغيرهما. السير 18/339-342، الشذرات 3/330، غاية النهاية 1/523.
(2) انظر ترجمته.
(3) سبقت ترجمته.
(4) سبقت ترجمته.(1/370)
مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا، مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية؛ فإنهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة باتفاق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ولكن هؤلاء المفسرون ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة والضعيفة، ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال ليذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات، وترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك كان هذا من أفسد الحجج كمن احتج بشاهد يشهد له ولم تثبت عدالته بل ثبت جرحه وقد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته. أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ويدع روايات كثيرين عدول وقد رووا ما يناقض ذلك.
بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك لوجب النظر في الروايتين أيهما أثبت وأرجح فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضة لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة، بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل.
الثاني: أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين إما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع ولو أنه مسألة فرعية.
وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم...(1/371)
الثالث: أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب وقد رواه ابن جرير والبغوي بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي(1) وهو مجمع على تركه كذبه سماك بن حرب(2) وأبو داود وقال أحمد ليس بثقة عامة أحاديث(3) بواطيل(4) قال يحيى ليس بشيء(5) قال ابن المدينى: كان يضع الحديث(6) وقال النسائي(7) وأبو حاتم: متروك الحديث(8). وقال ابن حبان البستي: كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر، وهو مع ذلك يقلب الأخبار لا يجوز الاحتجاج به وتركه أحمد ويحيى(9) ورواه ابن أبي حاتم وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس(10)
__________
(1) هو عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الأنصاري الكوفي رافضي ليس بثقة لسان الميزان 4/42، الكامل في ضعفاء الرجال 5/1964-1965، المجروحين 2/143، الضعفاء الكبير 3/100-102 الجرح والتعديل 6/53-54.
(2) هو سماك بن حرب بن أوس بن خالد الذهلي الكوفي، صدوق تغير بأخره ت سنة 123هـ، التقريب/ 255، السيرة/ 245-249، وتكذيبه هو وأبو داود لعبد الغفار موجود في الضعفاء الكبير 3/100-101.
(3) هكذا في المنهاج والصواب "أحاديثه".
(4) لسان الميزان 4/42، الضعفاء الكبير 3/102، الجرح والتعديل 6/53.
(5) لسان الميزان 4/42، الضعفاء الكبير 3/102، الكامل في ضعفاء الرجال 5/1964، الجرح والتعديل 6/53-54.
(6) لسان الميزان 4/42، الكامل في ضعفاء الرجال 5/1964.
(7) هو أحمد بن شعيب بن علي النسائي صاحب السنن ولد بنسا في سنة 215 هـ وطلب العلم في صغره ت سنة 303 هـ، [وكان أفقه مشائخ مصر في عصره]، وله 88 سنة. السير 14/25-35، التقريب/ 80.
(8) الجرح والتعديل 6/54، لسان الميزان 4/42.
(9) المجروحين 2/143.
(10) هو عبد الله بن عبد القدوس التيمي الكوفي، صدوق، رُمي بالرفض فكان يُخطئ. التقريب/ 312، الجرح والتعديل 5/104.(1/372)
وهو ليس بثقة. وقال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء رافضي خبيث(1) وقال النسائي: ليس بثقة(2). وقال الدارقطني: (ضعيف)(3) وإسناد الثعلبي أضعف لأن فيه من لا يعرف وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في أقل مسألة.
الرابع: أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية، فإنها نزلت بمكة في أول الأمر. ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن بني عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة: العباس وأبو طالب والحارث(4) وأبو لهب(5) وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة وهم بنو هاشم ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة: العباس وحمزة(6) وأبو طالب وأبو لهب فآمن اثنان وهما حمزة والعباس وكفر اثنان أحدهما نصره وأعانه وهو أبو طالب والآخر عاداه وأعان أعداءه وهو أبو لهب.
__________
(1) الجرح والتعديل 5/104.
(2) الضعفاء والمتروكين للنسائي/ 145، تهذيب التهذيب 5/303-304.
(3) الضعفاء والمتروكين للدارقطني/ 164، تهذيب التهذيب 5/303-304.
(4) هو الحارث بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله عليه وسلم - مات في الجاهلية. الإصابة 3/26-27.
(5) هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشد الناس عداوة للإسلام نزلت فيه وزوجته سورة المسد توفي بعد وقعة بدر سنة 2هـ. الأعلام للزركلي 4/12.
(6) هو أبو عمارة عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه من الرضاعة، ولد قبل النبي بسنتين وقيل بأربع وأسلم في السنة الثانية من البعثة، استشهد في أحد سنة 3 هـ لقبه الرسول أسد الله. الإصابة 2/285، تجريد أسماء الصحابة 1/139.(1/373)
وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين: طالب(1) وعقيل(2) وجعفر(3) وعلي. وطالب لم يدرك الإسلام وأدركه الثلاثة فآمن علي وجعفر في أول الإسلام وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة عام خيبر وكان عقيل قد استولى على رباع بني هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ولهذا لما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته: ننزل غدا في دارك بمكة قال: «وهل ترك لنا عقيل من دار»(4).
__________
(1) هو طالب بن أبي طالب أكبر ولد أبي طالب، أخرج إلى بدر كارهاً وبعد أن انهزم المشركون لم تعلم حاله بينه وبين عقيل عشر سنين طبقات ابن سعد 1/121.
(2) ترجمته ستأتي.
(3) ترجمته ستأتي.
(4) أخرج البخاري نحوه، كتاب المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، وذكر أن هذا القول كان زمن الفتح ثم قال بعد ذلك: قال معمر عن الزهري: أين ننزل غداً في حجته ولم يقل يونس حجته ولا زمن الفتح 5/90، البداية والنهاية 4/296.(1/374)
وأما العباس فبنوه كلهم صغار إذ لم يكن فيهم بمكة رجل وهَبْ أنهم كانوا رجالا فهم: عبد الله وعبيد الله والفضل. وأما قثم فولد بعدهم وأكبرهم الفضل وبه كان يُكَنىَّ. وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } (1) وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين، ولم يولد للعباس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله وأما سائرهم فولدوا بعده وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل والحارث كان له ابنان أبو سفيان(2) وربيعة(3) وكلاهما تأخر إسلامه وكان من مسلمة الفتح. وكذلك بنو أبي لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح وكان له ثلاثة ذكور فأسلم منهم اثنان عتبة(4) ومغيث(5) وشهد(6) الطائف وحنينا وعتبية(7)
__________
(1) الشعراء/ 214.
(2) هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخو النبي من الرضاع لزم النبي بعد إسلامه، وكان من الشعراء، كان يُشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له الرسول بالجنة ت سنة 20 هـ بالمدينة. السيرة 1/202-205.
(3) هو ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له صحبه قيل توفي في أول خلافة عمر وقيل في آخرها. التقريب/ 207، الإصابة 3/259.
(4) هو عُتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد حنيناً وأقام بمكة ومات بها. الإصابة 6/380.
(5) هكذا في المنهاج ولم أجد بهذا الاسم ابناً لأبي لهب وإنما وجدت معتب ولعله تصحيف. ومعتب هو ابن أبي لهب بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم عام الفتح شهد حنيناً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الإصابة 9/251.
(6) كذا في المنهاج ولعل الصواب "وشهدا".
(7) هو عتبية بن أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب الهاشمي القرشي لا عقب له أمه أم جميل بنت حرب بن أمية. مات ولم يُسلم. جمهرة أنساب العرب لابن حزم/ 72.(1/375)
دعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأكله الكلب فقتله السبع بالزرقاء(1) من الشام كافرا فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا فأين الأربعون؟
الخامس: قوله «إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن» فكذب على القوم ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا.
السادس: أن قوله للجماعة: «من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي» كلام مفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز نسبته إليه فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله.... وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة إلا وله من هذا نصيب وافر ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السابع: أن حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث(2) أجابوا إلى ما أجابه علي من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم بن أبي الأرقم(3)....
__________
(1) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني 2/585 بمعناه.
(2) هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القريشي صحابي، شهد بدراً مات بالصفراء على ليلة من بدر وعمره 63 سنة. الاستيعاب 7/114، الإصابة 6/369، الأعلام 4/198.
(3) هو عبد مناف بن أسد بن عبد الله من السابقين شهد بدراً وتوفي في خلافة عثمان سنة 35 هـ وقيل 33 هـ وهو ابن خمس وثمانين سنة وله دار تقع في الصفا كان النبي يجلس فيها في الإسلام باعها أحفاد الأرقم لأبي جعفر المنصور. الإصابة 1/40-41.(1/376)
الثامن: أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة واللفظ له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لما نزلت { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } (1) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا فاجتمعوا فخص وعمَّ فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها»(2).
__________
(1) الشعراء/ 214.
(2) البخاري كتاب تفسير القرآن باب سورة الشعراء 6/17. ومسلم كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } 1/192.(1/377)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضا لما نزلت هذه الآية قال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا سلاني ما شئتما من مالي»(1)... وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله وسلم حتى صعد الصفا فهتف "يا صباحاه" فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد فاجتمعوا إليه فجعل ينادي: «يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب» وفي رواية «يا بني فهر يا بني عدي يا بني فلان». لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو فاجتمعوا فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا فقام فنزلت هذه السورة { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } (2)،(3) وفي رواية «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقوني». قالوا: بلى(4) فإن قيل: فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل كالثعلبي والبغوي وأمثالهما والمغازلي. قيل له: مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث فإن في كتب
__________
(1) البخاري كتاب تفسير القرآن باب سورة الشعراء 6/17. ومسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } 1/193.
(2) المسد/ 1.
(3) البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة المسد 6/94 بمعناه ومسلم كتاب الإيمان، باب قوله تعالى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } 1/93، المسند 3/476، 5/60.
(4) البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة سبأ باب قوله تعالى { إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } 6/29.(1/378)
هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع وفيها شيء كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب)(1).
الرد على قول الرافضي:
(الثاني: قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» أثبت له -عليه السلام- جميع منازل هارون من موسى -عليه السلام- للاستثناء. ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لكان خليفة أيضا وإلا لزم تطرق النقض إليه ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فبعد موته وطول مدة الغيبة أولى بأن يكون خليفته.
والجواب: أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين(2) بلا ريب وغيرهما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ذلك في غزوة تبوك وكان - صلى الله عليه وسلم - كلما سافر في غزوة أو عمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة... وبالجملة فمن المعلوم أنه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف. وقد ذكر المسلمون من كان يستخلفه فقد سافر من المدينة في عمرتين: عمرة الحديبية وعمرة القضاء وفي حجة الوداع وفي مغازيه - أكثر من عشرين غزاة- وفيها كلها استخلف وكان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف عنها وهي آخر مغازيه - صلى الله عليه وسلم - ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق.
__________
(1) المنهاج 7/297-310.
(2) البخاري كتاب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب مناقب علي - رضي الله عنه - 4/208، والمغازي باب غزوة تبوك 5/129، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي - رضي الله عنه - 4/1870-1871.(1/379)
وتخلف الثلاثة الذين تيب عليهم ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم كما كان يستخلف عليهم في كل مرة بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه؛ لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحدا كما كان يبقى في جميع مغازيه... وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك فكان كل استخلاف قبل هذه يكون علي أفضل ممن استخلف عليه عليًّا فلهذا خرج إليه علي - رضي الله عنه - يبكي وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟(1) وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلفه لأنه يبغضه فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي». وأن الاستخلاف ليس بنقص ولا غض فإن موسى استخلف هارون على قومه فكيف يكون نقصا وموسى ليفعله بهارون؟ فطيب بذلك قلب علي وبين أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته لا يقتضي إهانته ولا تخوينه وذلك لأن المستخلف يغيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج معه جميع الصحابة).
(فكان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مبينا أن جنس الاستخلاف ليس نقصا ولا غضًّا إذ لو كان نقصا أو غضًّا لما فعله موسى بهارون ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون لأن العسكر كان مع هارون وإنما ذهب موسى وحده وأما استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجميع العسكر كان معه ولم يخلف بالمدينة غير النساء والصبيان إلا معذور أو عاص...
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة تبوك 5/129، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي - رضي الله عنه - 4/1870-1871.(1/380)
وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق وهو استخلافه في مغيبه كما استخلف موسى هارون وهذا الاستخلاف ليس من خصائص علي بل ولا هو مثل استخلافاته فضلا عن أن يكون أفضل منها وقد استخلف من علي أفضل منه في كثير من الغزوات ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي إذا قعد معه فكيف يكون موجبا لتفضيله على علي؟ بل قد استخلف على المدينة غير واحد وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف علي بل كان ذلك الاستخلاف يكون علي أكثر وأفضل ممن استخلف عليه عام تبوك وكانت الحاجة إلى الاستخلاف أكثر فإنه كان يخاف من الأعداء على المدينة.
فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز وفتحت مكة وظهر الإسلام وعز ولهذا أمر الله نبيه أن يغزو أهل الكتاب بالشام ولم تكن المدينة تحتاج إلى من يقاتل بها العدو ولهذا لم يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند علي أحدا من المقاتلة كما كان يدع بها في سائر الغزوات بل أخذ المقاتلة كلهم معه...
ومن استخلفه سوى علي لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصا لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتض الاختصاص بالحكم فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى كما أنه لما قال للمضروب الذي نهى عن لعنه: «دعه فإنه يحب الله ورسوله» لم يكن هذا دليلا على أن غيره لا يحب الله ورسوله بل ذكر ذلك لأجل الحاجة إليه لينهى بذلك عن لعنه...
وكذلك لما شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى(1)لم يمنع ذلك أن يكون في أمته وأصحابه من يشبه إبراهيم وعيسى وكذلك لما شبه عمر بنوح وموسى(2) لم يمتنع أن يكون في أمته من يشبه نوحا وموسى.
فإن قيل: إن هذين أفضل من يشبههم من أمته.
__________
(1) المسند تحقيق أحمد شاكر 5/228 وقال: إسناده ضعيف لانقطاعه.
(2) المسند تحقيق أحمد شاكر 5/228 وقال: إسناده ضعيف لانقطاعه.(1/381)
قيل: الاختصاص بالكمال لا يمنع المشاركة في أصل التشبيه وكذلك لما قال عن عروة بن مسعود(1): «إنه مثل صاحب ياسين»(2) وكذلك لما قال للأشعريين(3) «هم مني وأنا منهم»(4) لم يختص ذلك بهم بل قال لعلي: «أنت مني وأنا منك»(5) وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا»(6) وذلك لا يختص بزيد بل أسامة أخوهم ومولاهم.
وبالجملة الأمثال والتشبيهات كثيرة جدا وهي لا توجب التماثل من كل وجه بل فيما سيق الكلام له ولا يقتضي اختصاص المشبه بالتشبيه بل يمكن أن يشاركه غيره له في ذلك...
وقول القائل: إنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل؛ فإن قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيب قلبه لما توهم من وهن الاستخلاف ونقص درجته فقال هذا على سبيل الجبر له. وقوله: «بمنزلة هارون من موسى» أي مثل منزلة هارون فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره وإنما يكون له ما يشابهها فصار هذا كقوله هذا مثل هذا وقوله عن أبي بكر مثله مثل إبراهيم وعيسى وعمر مثله مثل نوح وموسى...
__________
(1) هو عروة بن مسعود بن متعب بن مالك الثقفي صحابي قتله قومه مشهور قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استشهد: «مثله في قومه كصاحب ياسين». تجريد أسماء الصحابة 1/380.
(2) تجريد أسماء الصحابة 1/380.
(3) هم قبيلة مشهورة من اليمن نسبة إلى أشعر، والأشعر هو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب السبيء، وإنما قيل له الأشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه، منهم الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري. اللباب في تهذيب الأنساب 1/64.
(4) المسند 4/164.
(5) البخاري في صحيحه مُعلقاً، كتاب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. باب مناقب علي بن أبي طالب 4/206، الترمذي، كتاب المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب 5/632، المسند 4/164.
(6) السنن الكبرى 10/226.(1/382)
ومما يبين ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده لم يكن هذا خطابا بينهما يناجيه به ولا كان أخَّره حتى يخرج إليه علي ويشتكي بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم بلفظ يبين المقصود..
وأما قوله: لأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فبعد موته وطول مدة الغيبة أولى بأن يكون خليفته.
فالجواب: أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير علي استخلافا أعظم من استخلاف علي واستخلف أولئك على أفضل من الذين استخلف عليهم عليًّا وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير علي في حجة الوداع فليس جعل علي هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأولى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه وأعظم مما استخلفه وآخر الاستخلاف كان على المدينة كان عام حجة الوداع وكان علي باليمن وشهد معه الموسم لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير علي فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك.
وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه ولا تدل على الأفضلية ولا على الإمامة بل قد استخلف عددا غيره لكن هؤلاء جهال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي وغيره خاصة بعلي وإن كان غيره أكمل منه فيها كما فعلوا في النصوص والوقائع... وأيضا فالاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بد منه لكل ولي أمر وليس كل من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يستخلف بعد الموت فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف في حياته غير واحد ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته وذلك كبشير بن عبد المنذر(1) وغيره... فليس الاستخلاف في الحياة كالاستخلاف بعد الموت... ولم يقل أحد من العقلاء: إن من استخلف شخصا على بعض الأمور وانقضى ذلك الاستخلاف أنه يكون خليفة بعد موته على شيء ولكن الرافضة من أجهل الناس بالمعقول والمنقول)(2).
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) المنهاج 7/325-341.(1/383)
الرد على قول الرافضي:
([الثالث]: روى أخطب خوارزم(1) بإسناده عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ناصب عليا الخلافة فهو كافر وقد حارب الله ورسوله ومن شك في علي فهو كافر(2) وعن أنس قال كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى عليا مقبلا فقال: أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة(3) وعن معاوية بن حيدة القشيري(4) قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لعلي: «من مات وهو يبغضك مات يهوديا أو نصرانيا»(5).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل وهذا على سبيل التنزيل فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لو لم يعلم ما في الذي جمعه من الأحاديث من الكذب والفرية فأما من تأمل ما في جمع هذا الخطيب فإنه يقول سبحانك هذا بهتان عظيم.
الثاني: أن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواها الصحابة والتابعون فأين ذكرها بينهم ومن الذي نقلها عنهم وفي أي كتاب وجد أنهم رووها؟ ومن كان خبيرا بما جرى بينهم علم بالاضطرار أن هذه الأحاديث مما ولدها الكذابون بعدهم وأنها مما عملت أيديهم.
__________
(1) انظر ترجمته.
(2) لم أجده.
(3) الموضوعات لابن الجوزي 1/383، تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة 1/360.
(4) هو معاوية بن حيدة بن معاوية القشيري، صحابي، نزل البصرة، ومات بخراسان وهو جد بهز بن حكيم. التقريب/ 537 تهذيب التهذيب 10/206 الإصابة 9/230.
(5) الموضوعات لابن الجوزي 1/385 نحوه، تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة 1/360.(1/384)
الوجه الرابع: أن يقال علمنا بأن المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله ورسوله وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبهم ويتولاهم أعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث وأن أبا بكر الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يجوز أن يرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي أقل وأحقر من أن يقال لها أخبار آحاد لا يعلم لها ناقل صادق بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من أعظم المكذوبات ولهذا لا يوجد منها شيء في كتب الأحاديث المعتمدة بل أئمة الحديث كلهم يجزمون بكذبها.
الوجه الخامس: أن القرآن يشهد في غير موضع برضا الله عنهم وثنائه عليهم كقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (1) وقوله: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (2) وقوله: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (3) وقوله: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } (4) وقوله: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (5) وأمثال ذلك فكيف يجوز أن يرد ما علمنا دلالة القران عليه يقينا بمثل هذه الأخبار المفتراة التي رواها من لا يخاف مقام ربه ولا يرجو لله وقارا؟!.
__________
(1) التوبة/ 100.
(2) الحديد/ 10.
(3) الفتح/ 29.
(4) الفتح/ 18.
(5) الحشر/ 8.(1/385)
الوجه السادس: أن هذه الأحاديث تقدح في علي وتوجب أنه كان مكذبا بالله ورسوله فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم هو وغيره. أما الذين ناصبوه الخلافة فإنهم في هذا الحديث المفترى كفار وأما علي فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين وشر من قاتلهم علي هم الخوارج ومع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفار بل حرم أموالهم وسبيهم....
وبالجملة نحن نعلم بالاضطرار من سيرة علي - رضي الله عنه - أنه لم يكن يكفر الذين قاتلوه بل ولا جمهور المسلمين ولا الخلفاء الثلاثة ولا الحسن ولا الحسين كفروا أحدا من هؤلاء ولا علي بن الحسين ولا أبو جعفر؛ فإن كان هؤلاء كفارا فأول من خالف النصوص علي وأهل بيته... فإن كان كل من يشك في خلافة علي كافرا عنده وعند أهل بيته وليس بمؤمن عندهم إلا من اعتقد أنه الإمام المعصوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن لم يعتقد ذلك فهو مرتد عند علي وأهل بيته فعلي أول من بدل الدين ولم يميز المؤمنين من الكافرين ولا المرتدين من المسلمين...(1/386)
وكيف كان يحل للحسن أن يسلم أمر المسلمين إلى من هو عنده من المرتدين شر من اليهود والنصارى كما يدعون في معاوية؟ وهل يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ وقد كان الحسن يمكنه أن يقيم بالكوفة ومعاوية لم يكن بدأه بالقتال وكان قد طلب منه ما أراد فلو قام مقام أبيه لم يقاتله معاوية. وأين قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه في فضل الحسن: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(1) فإن كان علي وأهل بيته -والحسن منهم- يقولون: لم يصلح الله به إلا بين المؤمنين والمرتدين فهذا قدح في الحسن وفي جده الذي أثنى على الحسن إن كان الأمر كما يقوله الرافضة... وكل أحد يعلم أن أهل الدين والجمهور ليس لهم غرض مع علي ولا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماما كانوا أسبق الناس إلى التصديق بذلك وغاية ما يقدر أنهم خفي عليهم هذا الحكم فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود والنصارى؟!)(2).
المطلب الثالث: من العقل:
الرد على قول الرافضي:
(إن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أولى من البعض المختار الآخر ولأدائه إلى التنازع والتشاجر فيؤدي نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع فتعين أن يكون هو الإمام.
__________
(1) البخاري في الصلح باب "ابني هذا سيد" 3/169-170، وفي فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسلم. باب مناقب الحسن والحسين 4/216، والفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. للحسن بن علي إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين 8/98-99.
(2) المنهاج 7/402-411.(1/387)
والجواب عن هذا بمنع المقدمتين أيضا لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأبين فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف من أهل الحديث والفقه والكلام إلى النص على أبي بكر وذهبت طائفة من الرافضة إلى النص على العباس.
وحينئذ فقوله: «غير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع كذب متيقن فإنه لا إجماع على نفي النص عن غير علي وهذا الرافضي المصنف وإن كان من أفضل بني جنسه ومن المبرزين على طائفته فلا ريب أن الطائفة كلها جهال وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدعي مثل هذا الإجماع؟!
ونجيب هنا بجواب ثالث مركب وهو أن نقول لا يخلوا إما أن يعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يعتبر فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية إن قلنا: إن النص ثابت لأبي بكر وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى.
وهنا جواب رابع: وهو أن نقول: الإجماع عندكم ليس بحجة وإنما الحجة قول المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي يدعي له العصمة ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة بل يكون قول القائل «لم يعرف صحة قوله أنا المعصوم وأنا المنصوص على إمامتي حجة وهذا من أبلغ الجهل وهذه الحجة من جنس التي قبلها.
وجواب خامس: وهو أن يقال ما تعنى بقولك: «يجب أن يكون منصوصا عليه»؛ لأنه لا بد من أن يقول هذا هو الخليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا فيكون الخليفة بمجرد هذا النص أم لا يصير هذا إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك؟.
فإن قلت: بالأول: قيل: لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وهم من الشيعة الذين لا يتهمون على علي.
وأما قوله: «إنه إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر».(1/388)
فيقال: «النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتعلم دلالتها بالنظر والاستدلال يحصل بها المقصود في الأحكام فليست كل الأحكام منصوصة نصا جليا يستوي في فهمه العام والخاص فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يكتفي فيها بهذا النص فلأن يكتفي بذلك في القضية الجزئية وهو تولية إمام معين بطريق الأولى والأحرى فإنا قد بينا أن الكليات يمكن نص الأنبياء عليها بخلاف الجزئيات». وأيضا فيه: إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغني بذلك عن استخلافه.
والدلائل الدالة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بينة لم ينازع فيها أحد من الصحابة ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين وإنما طلب أن يولى واحد من الأنصار مع واحد من المهاجرين...
وجواب سادس: أن يقال: النص على الأحكام على وجهين نص كلي عام يتناول أعيانها ونص على الجزئيات...
وجواب سابع: وهو أن يقال أنتم أوجبتم النص لئلا يفضي إلى التشاجر المفضي إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه.
فيقال: الأمر بالعكس فإن أبا بكر - رضي الله عنه - تولى بدون هذا الفساد وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد فإنما عظم هذا الفساد في الإمام الذي ادعيتم أنه منصوص عليه دون غيره فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود وحصل المقصود بدون وسيلتكم فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود.
وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه وأخبروا بما لم يكن فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض.
وجواب ثامن: وهو أن يقال النص الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه أحدها: أن يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بولاية الشخص ويثني عليه في ولايته فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولى كان محمودا مرضيا فيرتفع النزاع وإن لم يقل: ولوه.(1/389)
وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر.
الثاني: أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر.
الثالث: أن يأمر من يأتيه أن يأتي بعد موته شخصا يقوم مقامه فيدل على أنه خليفة من بعده وهذا وقع لأبي بكر.
الرابع: أن يريد كتابة كتاب ثم يقول إن الله والمؤمنين لا يولون إلا فلانا وهذا وقع لأبي بكر.
الخامس: أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص فيكون هو الخليفة بعده.
السادس: أن يأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين المهديين ويجعل خلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون.
السابع: أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقتضي أنه هو المقدم عنده في الاستخلاف وهذا موجود لأبي بكر.
وهنا جواب تاسع: وهو أن يقال: ترك النص على معين أولى بالرسول فإنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعد الرسول وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل مايقول ولا يمكن لأحد بعد موت الرسول أن يراجع الرسول في أمره ليرده أو يعزله فكان أن لا ينص على معين أولى من النص وهذا بخلاف من يوليه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطئه ورد ذنبه وبعد موته لا يمكنه ذلك ولا يمكن للأمة عزله لتولية الرسول إياه فكان عدم النص على معين مع علم المسلمين بدينهم أصلح للأمة وكذلك وقع.
وأيضا لو نص على معين ليؤخذ الدين منه كما تقوله الرافضة بطلت حجة الله فإن ذلك لا يقوم به شخص واحد غير الرسول إذ لا معصوم إلا هو. ومن تدبر هذه الأمور وغيرها علم أن ما اختاره الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته أكمل الأمور.
وجواب عاشر: وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن والكليات قد نص عليها فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات سواء وافقت الكليات أو خالفتها كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متول.(1/390)
وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده إذا لم يكن منصوصا عليه يظن الظان أنه لا تجوز طاعته إذ طاعة الأول إنما وجبت بالنص ولا نص معه)(1).
الرد على قول الرافضي:
(إن الإمام يجب أن يكون حافظًا للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع».
والجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع، وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعصمة حصل المقصود وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا -ولو قيل: إنهم معصومون- فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء.
وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل المقصود فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفره؟
والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم.
الوجه الثاني: أن يقال: أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما أو من يكون معصومًا، فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول وقد كررته وتقدم الجواب عليه وإن اشترطت مجرد الحفظ فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة وأعلم بهما من أبي بكر وعمر بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه فبطل ما ادعاه من الإجماع.
الوجه الثالث: أن يقال أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يعلم صحة شيء من الشرع إلا بنقله؟ أم يمكن أن يعلم صحة شيء من الشرع بدون نقله.
__________
(1) المنهاج 6/433-451.(1/391)
إن قلت: بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته فإنه إذا أمكن حفظ شيء من الشرع بدونه أمكن حفظ الآخر حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه وإن قلت بل معناه أنه لا يمكن معرفة شيء من الشرع إلا بحفظه فيقال حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته.
الوجه الرابع: أن يقال فبماذا تثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - عند من يقر بنبوته؟
فإن قيل بما نقله الإمام من معجزاته.
قيل: من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي - رضي الله عنه - بطريق أولى بل يقدح في هذا وهذا.
وإن قيل: بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته كالقرآن وغيره.
قيل فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته فكيف لا يكون حجة يثبت بها فروع شريعته.
الوجه الخامس: أن الإمام هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام.
فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يمكنه ذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام.
وإن قيل لا يمكنه ذلك.
لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه ما يشاءون ويصير دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله.
الوجه السادس: أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة فإنه إذا كان الذي يدعي العصمة فيه وحفظ من عصبته كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته ويقال إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه وعهد إليهم ما يحفظون به الملك وأن لا يعرف ذلك غيرهم فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء.(1/392)
الوجه السابع: أن يقال الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله وحينئذ فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود حفظ الشرع وتبليغه ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود وإن لم يكونوا هم الأئمة.
الوجه الثامن: أن يقال لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفه بحسب ما حملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم.
الوجه التاسع: أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة(1) لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ولم لا يجوز أن يكون هذا القرآن الذي تقرءونه ليس فيه شيء من كلام الله...
الوجه العاشر: أن يقال قولك: «لانقطاع الوحى وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام» أتريد به قصورها عن بيان جزئي جزئي بعينه أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات؟ فإن ادعيت الأول قيل لك وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك، فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت فإن هذا غير ممكن فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول....
__________
(1) هذا يقوله شيخ الإسلام في عصره، إما الآن فإن له أكثر من 1150 سنة.(1/393)
الوجه الحادي عشر: أن يقال وقد قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (1) وقال تعالى: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (2) وقال تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } (3) وأمثال ذلك.
فيقال: وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسوم أم لا؟
فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر يفتقر الناس إلى بيانه فضلا عن حفظ تبليغه وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير.
وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين من أعظم الإفساد لأصول الدين وهذا لا يقوله وهو يعلم لوازمه إلا زنديق ملحد قاصد لإبطال الدين ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال.
الوجه الثاني عشر: أن يقال قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي فإن عمر - رضي الله عنه - لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما.
وهذا أمر معلوم ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود والنقل عنه ليس متواترا وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة)(4).
الرد على قول الرافضي:
__________
(1) إبراهيم/ 4.
(2) النساء/ 165.
(3) النور/ 54.
(4) المنهاج 6/457-465.(1/394)
(أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته وعلي أفضل أهل زمانه على ما يأتي فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا قال تعالى { أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (1). والجواب من وجوه:
أحدها: منع المقدمة الثانية الكبرى فإنا لا نسلم أن عليا أفضل أهل زمانه بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما ثبت ذلك عن علي وغيره(2)، وسيأتي الجواب عما ذكروه وتقرير ما ذكرناه.
الثاني: أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا يقولون يجب توليه الأفضل مع الإمكان لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة وقد نازعه فيها كثير من العلماء وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له لأن المذكور في الآية من يهدي إلى الحق ومن لا يهدي إلا أن يهدى والمفضول لا يجب أن يهدي إلا أن يهديه الفاضل بل قد يحصل له هدى كثير بدون تعلم من الفاضل وقد يكون الرجل يعلم ممن هو أفضل منه وإن كان ذلك الأفضل قد مات وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله والذي لا يهدي إلا أن يهدى صفة كل مخلوق لا يهدى إلا أن يهديه الله تعالى وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه.
__________
(1) يونس/ 35.
(2) سبق تخريجه.(1/395)
كما قال في سياقها { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى } (1) فافتتح الآيات بقوله { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } (2) إلى قوله { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى } (3).
وأيضا فكثير من الناس يقول ولاية الأفضل واجبة إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة.
وهذه البحوث يبحثها من يرى عليا أفضل من أبي بكر وعمر كالزيدية وبعض المعتزلة أو من يتوقف في ذلك كطائفة من المعتزلة.
وأما أهل السنة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة بل الصديق عندهم أفضل الأمة)(4).
المبحث الرابع
بعض ما يدعي الرافضي أنها فضائل وهي في الحقيقية مطاعن
وبيان ذلك مع الرد عليها
__________
(1) يونس/ 35.
(2) يونس/ 31.
(3) يونس/ 35.
(4) المنهاج 6/747، 476.(1/396)
منها زعمهم أن عليا كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وقد رد عليهم، بقوله: (وأما ما نقله عن علي أنه كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة فهذا يدل على جهله بالفضيلة وجهله بالواقع أما أولا فلأن هذا ليس بفضيلة فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة(1) وثبت عنه في الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم -:« أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه»(2).
وثبت عنه أنه كان يقوم إذا سمع الصارخ(3)... وثبت عنه في الصحيح أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص لما بلغه أنه قال: «لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقًا ولزورك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه»(4).
فالمداومة على قيام جميع الليل ليس بمستحب بل هو مكروه بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه.
__________
(1) البخاري. كتاب التهجد، باب كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ (كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر ركعة 2/45، ومثله في مسلم كتاب صلاة المسافرين. باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل. 1000/510.
(2) البخاري، كتاب الصلاة، باب من نام عند السحر، 2/44. نحوه، ومسلم، كتاب الصوم 2/816 نحوه.
(3) البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل 7/181، مسلم، كتاب صلاة المسافرين 1/511.
(4) البخاري، كتاب الصوم، باب صيام داود/ 246. نحوه ومسلم، كتاب الصيام 2/816. نحوه.(1/397)
وأيضا فالذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة وعلي - رضي الله عنه - أعلم بسنته وأتبع لهديه من أن يخالفه هذه المخالفة لو كان ذلك ممكنا فكيف وصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة مع القيام بسائر الواجبات غير ممكن فإنه لا بد له من أكل ونوم وقضاء حق أهل وقضاء حقوق الرعية وغير ذلك من الأمور التي تستوعب من الزمان إما النصف أو أقل أو أكثر والساعة الواحدة لا تتسع لثمانين ركعة وما يقارب ذلك إلا أن يكون نقرا كنقر الغراب وعلي أجل من أن يصلي صلاة المنافقين كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا»(1) وقد نهى عن نقر كنقر الغراب(2) فنقل مثل هذا عن علي يدل على جهل ناقله ثم إن إحياء الليل بالتهجد وقراءة القرآن في ركعة هو ثابت عن عثمان - رضي الله عنه - فتهجده وتلاوته القرآن أظهر من غيره)(3).
الرد على قول الرافضي عن علي:
__________
(1) مسلم كتاب المساجد 1/434.
(2) أبو داود كتاب الصلاة باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود 1/538-539، والنسائي، كتاب الافتتاح باب النهي عن نقرة الغراب 2/214-215، والمسند 3/428، 444، 5/446-447. والدارمي كتاب الصلة باب النهي عن الافتراش ونقرة الغراب 1/216. وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في توطين المكان في المسجد يُصلى فيه 1/459، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير 6/70.
(3) المنهاج 4/28-32، انظر 7/498.(1/398)
(أنه كان أعبد الناس يصوم النهار ويقوم الليل ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار، وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت وكان يصلي في ليله ونهاره ألف ركعة ولم يخل في صلاة الليل حتى في ليلة الهرير(1) وقال ابن عباس رأيته في حربه وهو يرقب الشمس فقلت يا أمير المؤمنين ماذا تصنع قال انظر إلى الزوال لأصلي فقلت في هذا الوقت فقال إنما نقاتلهم على الصلاة، فلم يغفل عن فعل العبادات في أول وقتها في أصعب الأوقات وكان إذا أريد إخراج الحديد من جسده يترك إلى أن يدخل في الصلاة فيبقى متوجها إلى الله غافلا عما سواه غير مدرك للآلام التي تفعل به.
وجمع بين الصلاة والزكاة وتصدق وهو راكع فأنزل الله تعالى فيه قرآنا يتلى وتصدق بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام حتى أنزل الله فيهم { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ } (2) وتصدق ليلا ونهارا سرا وعلانية وناجى الرسول فقدم بين يدي نجواه صدقة فأنزل الله فيه قرآنا وأعتق ألف عبد من كسب يده وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب وإذا كان أعبد الناس كان أفضل فيكون هو الإمام.
__________
(1) المقصود بها الليلة الشديدة البرد أو الحرب أو غيرهما. انظر: تهذيب اللغة 5/361-362، لسان العرب 5/260-263، القاموس المحيط/ 639-640.
(2) الإنسان/ 1.(1/399)
والجواب: أن يقال هذا الكلام فيه من الأكاذيب المختلفة ما لا يخفى إلا على أجهل الناس بأحوال القوم ومع أنه كذب ولا مدح فيه ولا في عامة الأكاذيب فقوله: «إنه كان يصوم النهار ويقوم الليل» كذب عليه وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»(1).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ألم أخبر أنك تقول: لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت؟» قال: بلى. قال: «فلا تفعل»(2) وفي رواية: «ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟» فقلت: يا نبي الله لم أرد بذلك إلا الخير قال: «فإن حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام» فقلت: يا نبي الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: «فإن لزوجك عليك حقا, ولزورك عليك حقا ولجسدك عليك حقا» قال: «فصم صوم داود نبي الله فإنه كان أعبد الناس كان يصوم يوما ويفطر يوما واقرأ القرآن في كل شهر» قلت: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: «اقرأه في عشرين» إلى أن قال: «في سبع ولا تزد على ذلك» وقال في الصوم: إني أطيق أفضل من ذلك»(3).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح 6/116، ورواه مسلم في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تقات نفسه إليه … 2/1020، ورواه النسائي في كتاب النكاح باب النهي عن التبتل 6/60، ورواه الإمام أحمد في مسنده 3/241، 259، 285.
(2) البخاري كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم 2/245، مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً 200/812.
(3) مسلم، كتاب الصوم، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً 200/813.(1/400)
وفي الصحيحين عن علي قال: «طرقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة فقال: إلا تقومان فتصليان» فقلت: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا بعثنا قال: «فولى وهو يضرب فخذه ويقول: { وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا } (1)»(2) فهذا الحديث دليل على نومه في الليل مع إيقاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجادلته حتى ولى وهو يقول: { وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا } .
وقول القائل: «ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار».
إن أراد أن بذلك أن بعض المسلمين تعلم ذلك منه فكهذا كل من له علم بالصحابة علم بعض الناس وإذا أراد بذلك أن بعض المسلمين تعلموا ذلك منه فهذا من الكذب البارد فأكثر المسلمين ما رأوه وقد كانوا يقومون الليل ويتطوعون بالنهار، فأكثر بلاد المسلمين التي فتحت في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما كالشام ومصر والمغرب وخراسان ما رأوه فكيف يتعلمون منه والصحابة كانوا كذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه تعلموا ذلك، ولا يمكن أن يدعي ذلك إلا في أهل الكوفة.
ومعلوم أنهم كانوا تعلموا ذلك من ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره قبل أن يقدم إليهم وكانوا من أكمل الناس علما ودينا قبل قدوم علي - رضي الله عنه - إليهم، والصحابة كانوا كذلك وأصحاب ابن مسعود كانوا كذلك قبل أن يقدم إليهم العراق.
وأما قوله: «الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت».
فعامتها كذب عليه وهو كان أجل قدرًا من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله وحال الصحابة وليس لشيء من هذه إسناده والأدعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي أفضل ما دعا به أحد وبها يدعو خيار هذه الأمة من الأولين والآخرين.
__________
(1) الكهف/ 54.
(2) البخاري. كتاب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل 2/43. مسلم. كتاب صلاة المسافرين. باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح 1/538.(1/401)
وكذلك قوله: «إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة».
من الكذب الذي لا مدح فيه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مجموع صلاته في اليوم والليلة أربعين ركعة فرضا ونفلا والزمان لا يتسع لألف ركعة لمن ولي أمر المسلمين مع سياسة الناس وأهله إلا أن تكون صلاته نقرا كنقر الغراب وهي صلاة المنافقين التي نزه الله عنها عليا.
وأما ليالي صفين فالذي ثبت في الصحيح أنه قال الذكر الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة قال ما تركته منذ سمعته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل: ولا ليلة صفين قال ولا ليلة صفين ذكرته من السحر فقلته(1).
وما ذكر من إخراج الحديد من جسده فكذب فإن عليا لم يعرف أنه دخل فيه حديد، وما ذكره من جمعه بين الصلاة والزكاة فهذا كذب كما تقدم ولا مدح فيه فإن هذا لو كان مستحبا لشرع للمسلمين ولو كان يستحب للمسلمين أن يتصدقوا وهم في الصلاة لتصدقوا فلما لم يستحب هذا أحد من المسلمين علمنا أنه ليس عبادة بل مكروه.
وكذلك ما ذكره من أمر النذر والدراهم الأربعة قد تقدم أن هذا كله كذب وليس فيه كبير مدح.
وقوله: «أعتق ألف عبد من كسب يده».
من الكذب الذي لا يروج إلا على أجهل الناس فإن عليا لم يعتق ألف عبد بل ولا مائة ولم يكن له كسب بيده يقوم بعشر هذا، فإنه لم تكن له صناعة يعملها وكان مشغولا إما بجهاد وإما بغيره.
وكذلك قوله: «كان يؤجر نفسه وينفق على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشعب».
كذب بين من وجوه:
أحدها: أنهم لم يكونوا يخرجون من الشعب ولم يكن في الشعب من يستأجره.
والثاني: أن أباه أبا طالب كان معهم في الشعب وكان ينفق عليه.
والثالث: أن خديجة كانت موسرة تنفق من مالها.
__________
(1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء 4/2091-2092، أبو داود، كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم 5/309.(1/402)
والرابع: أن عليا لم يؤجر نفسه بمكة قط وكان صغيرا حين كان في الشعب إما مراهقا وإما محتلما فكان علي في الشعب ممن ينفق عليه إما النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما أبوه، لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه فكيف ينفق على غيره.
فإن دخوله في الشعب كان في حياة أبي طالب بالنقل المتواتر وأبو طالب مات قبل ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف باتفاق الناس وكان موته وموت خديجة متقاربين فدخوله في الشعب كان في أول الإسلام.
فإنه قد ثبت أن ابن عباس ولد وهم في الشعب(1) ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن عباس مراهق وعلي عاش بعد الهجرة أربعين سنة باتفاق الناس والمبعث قبل ذلك بثلاث عشرة وأقصى ما قيل في موته إنه كان ابن ثلاث وستين فغايته أن يكون حين الإسلام كان له عشر سنين)(2).
الرد على قول الرافضي:
(قال - صلى الله عليه وسلم -: «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»(3) فتكون علومه -يعني علي- أكثر من علوم غيره لحصول القابل الكامل والفاعل التام».
والجواب: «أن هذا من عدم علم الرافضي بالحديث فإن هذا مثل سائر ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أيدهم الله تعالى تعلموا الإيمان والقرآن والسنن ويسر الله ذلك عليهم وكذلك علي فإن القرآن لم يكمل حتى صار لعلي نحوا من ثلاثين سنة فإنما حفظ أكثر ذلك في كبره لا في صغره وقد اختلف في حفظه لجميع القرآن على قولين.
__________
(1) السير 3/332، جمهرة أنساب العرب لابن حزم/ 18.
(2) المنهاج 7/ 494-500.
(3) الموضوعات لابن الجوزي 1/218، بمعناه. وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تنزيه الشريعة 1/259، كشف الخفاء 2/66.(1/403)
والأنبياء أعلم الخلق ولم يبعث الله نبيا إلا بعد الأربعين إلا عيسى - صلى الله عليه وسلم - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مطلقا لم يكن يخص به أحدًا ولكن بحسب استعداد الطالب ولهذا حفظ عنه أبو هريرة في ثلاث سنين وبعض أخرى ما لم يحفظه غيره وكان اجتماع أبي بكر به أكثر من سائر الصحابة)(1).
الرد على قول الرافضي:
(وأما علم الكلام فهو أصله ومن خطبه تعلم الناس وكل الناس تلاميذه.
__________
(1) المنهاج 7/526-527.(1/404)
والجواب أن هذا الكلام كذب لا مدح فيه فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة باطل وقد نزه الله عليا عنه ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ويبنى ذلك على حوادث لا أول لها بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم(1) والجهم بن صفوان(2) ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد(3) كأبي الهذيل العلاف(4) وأمثاله وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء(5) إنما كانا يظهران الكلام في إنفاذ الوعيد وأن النار لا يخرج منها من دخلها وفي التكذيب بالقدر وهذا كله مما نزه الله عنه عليا.
__________
(1) هو الجعد بن درهم، من الموالي، مبتدع. قال الذهبي: "عداده في التابعين مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، قتله خالد القسري في العراق، الأعلام 2/120، لسان الميزان 2/105، ميزان الاعتدال 1/399.
(2) سبقت ترجمته.
(3) هو أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب البصري كبير المعتزلة، قدري، قال النسائي ليس بثقة مات بطريق مكة سنة 144 هـ، السير 6/104-106، تاريخ بغداد 12/162.
(4) سبقت ترجمته.
(5) هو واصل بن عطاء الغزال من الموالي، رأي المعتزلة ولد بالمدينة سنة ثمانين من الهجرة ونشأ بالبصرة له تصانيف، قتل سنة 131 هـ، السير 5/464-465. الشذرات 1/182-183.(1/405)
وليس في الخطب الثابتة عن علي شيء من أصول المعتزلة الخمسة بل كل ذلك إذا نقل عنه فهو كذب عليه وقدماء المعتزلة لم يكونوا يعظمون عليا بل كان فيهم من يشك في عدالته ويقول: (قد فسق إحدى الطائفتين لا بعينها إما علي وإما طلحة والزبير فإذا شهد أحدهما لم أقبل شهادته) وفي قبول شهادة علي منفردة قولان لهم وهذا معروف عن عمرو بن عبيد وأمثاله من المعتزلة والشيعة القدماء كلهم كالهشاميين(1) وغيرهما يثبتون الصفات ويقرون بالقدر على خلاف قول متأخري الشيعة بل يصرحون بالتجسيم ويحكى عنهم فيه شناعات وهم يدعون أنهم أخذوا ذلك عن أهل البيت وقد ثبت عن جعفر الصادق(2) أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق لكنه كلام الله(3))(4).
الرد على قول الرافضي:
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) سبقت ترجمته.
(3) سبقت ترجمته.
(4) المنهاج 8/5-7.(1/406)
("وفي غزاة بدر وهي أول الغزوات كانت على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة وعمره سبع وعشرون سنة قتل منهم ستة وثلاثين رجلا بانفراده وهم أعظم من نصف المقتولين وشرك في الباقين" والجواب أن هذا من الكذب البين المفترى باتفاق أهل العلم العالمين بالسير والمغازي ولم يذكر هذا أحد يعتمد عليه في النقل وإنما هو من وضع جهال الكذابين بل في الصحيح قتل غير واحد لم يشرك علي في واحد منهم مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط ومثل أحد ابني ربيعة إما عتبة بن ربيعة وإما شيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وغيرهم وذلك أنه لما برز من المشركين ثلاثة عتبة وشيبة والوليد فانتدب لهم ثلاثة من الأنصار فقالوا: من أنتم فسموا أنفسهم فقالوا: أكفاء كرام ولكن نريد بني عمنا فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاربه بالبروز إليهم فقال: «قم يا حمزة قم يا عبيدة قم يا علي» وكان أصغر المشركين هو الوليد وأصغر المسلمين علي فبرز هذا إلى هذا فقتل علي قرنه وقتل حمزة قرنه قيل إنه كان عتبة وقيل كان شيبة وأما عبيدة فجرح قرنه وساعده حمزة على قتل قرنه وحمل عبيدة بن الحارث(1).
__________
(1) البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الحج، باب قوله تعالى: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } 5/242. مسلم، كتاب التفسير، تفسير سورة الحج، باب قوله تعالى: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } 4/2323.(1/407)
وقيل إن عليا لم يقتل ذلك اليوم إلا نفرا دون العشرة أو أقل أو أكثر وغاية ما ذكره ابن هشام(1) وقبله موسى بن عقبة(2) وكذلك الأموي(3) جميع ما ذكروه أحد عشر نفسا واختلف في ستة أنفس هل قتلهم هو أو غيره وشارك في ثلاثة هذا جميع ما نقله هؤلاء الصادقون)(4).
الرد على قول الرافضي:
(العاشر ما رواه أهل السير أن الماء زاد بالكوفة وخافوا الغرق ففزعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فركب بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج الناس معه فنزل على شاطئ الفرات فصلى ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب كان في يده فغاص الماء فسلم عليه كثير من الحيتان ولم ينطق الجري ولا المرماهي فسئل عن ذلك فقال أنطق الله ما طهره من السمك وأسكت ما أنجسه وأبعده(5).
والجواب من وجوه:
أحدها المطالبة بأن يقال أين إسناد هذه الحكاية الذي يدل على صحتها وثبوتها؟ وإلا فمجرد الحكايات المرسلة بلا إسناد يقدر عليه كل أحد لكن لا يفيد شيئا.
الثاني أن بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن عنده.
الثالث: أن هذا لم ينقله أحد من أهل الكتب المعتمد عليهم ومثل هذه القصة لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهذا الناقل لم يذكر لها إسنادا فكيف يقبل ذلك بمجرد حكاية لا إسناد لها.
__________
(1) هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الذهلي السدسي نزل مصر، هذب السيرة النبوية سنة 213 هـ، السير 10/428-429، التقريب/ 363.
(2) هو موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي من الموالي، كان ثقة وكان بصيراً بالمغازي النبوية، ت سنة 141 هـ، السير 6/114.
(3) هو يحيى بن سعيد بن أبان سعيد بن العاص الأموي أبو أيوب الكوفي نزيل بغداد، لقبه "الجمل" صدوق يغرب ت سنة 194 هـ. السير 9/139-140، التقريب/ 590.
(4) المنهاج 8/94-96.
(5) لم أجده.(1/408)
الرابع: أن السمك كله مباح كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "في البحر" «هو الطهور ماؤه الحل ميته»(1) وقد قال تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } (2).
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على حل السمك كله وعلي مع سائر الصحابة يحلون هذه الأنواع فكيف يقولون إن الله أنجسه؟
الخامس: أن يقال نطق السمك ليس مقدورا له في العادة ولكن هو من خوارق العادات فالله تعالى هو الذي أنطق ما أنطق منها وأسكت ما أسكته إن كان قد وقع فأي ذنب لمن أسكته الله حتى يقال هو نجس.
ومن جعل للعجماء ذنبا بأن الله لم ينطقها كان ظالما لها. وإن قال قائل بل الله أقدرها على ذلك فامتنعت منه. فيقال: إقداره لها على ذلك لو وقع إنما كان كرامة لعلي - رضي الله عنه - والكرامة إنما تحصل بالنطق بالسلام عليه لا بمجرد القدرة عليه مع الامتناع منه فإذا لم يسلم عليه لم يكن في إقدارها مع امتناعها كرامة له بل فيه تحريم الطيبات على الناس فإن لحمها طيب وذلك من باب العقوبات. كما قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } (3). وقد قيل إن تحريم ذلك كان من أخلاق اليهود وما هو من إخوانهم الرافضة ببعيد.
__________
(1) النسائي، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر 1/176، أبو داود كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر 1/64، الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر وأنه طهور 1/100-101، وقال هذا حديث حسن صحيح، المستدرك وقال الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي 1/140، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/42.
(2) المائدة/ 95.
(3) النساء/160.(1/409)
السادس: أن يقال المقصود هنا كان حاصلا بنضوب الماء فأما تسليم السمك فلم يكن إليه حاجة ولا كان هناك سبب يقتضي خرق العادة لتقوية الإيمان فإن ذلك يكون حجة وحاجة ولم يكن هناك حجة ولا حاجة. ألا ترى أن انفلاق البحر لموسى كان أعظم من نضوب الماء ولم يسلم السمك على موسى ولما ذهب موسى إلى الخضر وكان معه حوت مالح في مكتل فأحياه الله حتى انساب ونزل في الماء وصار البحر عليه سربا ولم يسلم على موسى ولا على يوشع والبحر دائما يجزر ويمد ولم يعرف أن السمك سلم على أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وعلي أجل قدرا من أن يحتاج إلى إثبات فضائله بمثل هذه الحكايات التي يعلم العقلاء أنها من المكذوبات)(1).
الفصل الخامس
بقية الصحابة رضي الله عنهم
المبحث الأول: معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -:
المطلب الأول: فضائله:
(فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل.
__________
(1) المنهاج 8/198-201.(1/410)
وقد روى أبو بكر الأثرم ورواه ابن بطة من طريقه حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة(1) حدثنا محمد بن مروان(2) عن يونس(3) عن قتادة قال لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي(4).
وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي(5).
ورواه الأثرم حدثنا محمد بن حواش(6) حدثنا أبو هريرة المكتب(7) قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز(8) وعدله فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية قالوا: في حلمه قال لا والله بل في عدله.
__________
(1) محمد بن عمرو بن جبلة بن أبي داود العكي مولاهم، أبو جعفر البصري قال الآجري عن أبي داود: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره ابن أبي عاصم فيمن مات سنة أربع وثلاثين ومائتين، تهذيب التهذيب 9/373.
(2) محمد بن مروان العقيلي أبو بكر البصري المعروف بالعجلي، قال إسحاق بن منصور عن ابن معين/ صالح، وقال النسائي: سأل ابن معين عن محمد العقيلي، فقال: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، ولينه أحمد، تهذيب التهذيب 9/435-436، ميزان الاعتدال 4/33.
(3) يونس بن أبي الفرات القرشي مولاهم، ويُقال: المعولي البصري الإسكاف قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أرجو أن يكون صالح الحديث، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو داود والنسائي ثقة، تهذيب التهذيب 11/446، التقريب/ 614.
(4) السنة للخلال 437-438.
(5) البداية والنهاية 8/135.
(6) هكذا في المنهاج ولم أجد أحد بهذا الاسم ولعله أحمد بن جواس كما أشار إليه المحقق في بعض النسخ، وأحمد بن جواس الحنفي أبو عاصم الكوفي ثقة ت سنة 283 هـ. تهذيب الكمال 1/285-286، التقريب/ 78.
(7) لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع.
(8) سبقت ترجمته.(1/411)
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق(1) قال لما قدم معاوية فرض لناس على أعطية آبائهم حتى انتهى إلي فأعطاني ثلاثمائة درهم(2).
وقال عبد الله أخبرنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة(3) ثنا الثقفي(4) عن أبي إسحاق يعني السبيعي أنه ذكر معاوية فقال لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدي(5).
وروى الأثرم حدثنا محمد بن العلاء(6) عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال ما رأيت بعده مثله(7) يعني معاوية.
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) السنة للخلال 2/440.
(3) حماد بن أسامة بن زيد القرشي، أبو أسامة الكوفي الحافظ الثبت مولى بن هاشم كان من أئمة العلم، قال عنه أحمد: ثقة كان أعلم الناس بأمور الناس، ت سنة 201 هـ، تهذيب الكمال 7/217-224، تذكرة الحافظ 1/321-322، السير 9/277-279.
(4) لعله عمر بن سويد الثقفي الكوفي أبو العجلي، ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، التاريخ الكبير 6/206، التقريب/ 413، الثقات لابن حبان 7/177، تهذيب التهذيب 7/458-459.
(5) مجمع الزوائد 9/357 عن الأعمش.
(6) محمد بن العلاء بن كريب الحافظ الثقة الإمام، شيخ المحدثين، وثقة النسائي وغيره، وقال أبو حاتم: صدوق ت سنة 248 هـ، السير 11/394-398، الشذرات 2/119، التقريب/ 500.
(7) انظر السير 3/152.(1/412)
وقال البغوي(1): حدثنا سويد بن سعيد(2) حدثنا ضمام بن إسماعيل(3) عن أبي قيس(4) قال كان معاوية قد جعل في كل قبيلة رجلاً وكان رجل منا يكنى أبا يحيى يصبح كل يوم فيدور على المجالس هل ولد فيكم الليلة ولد هل حدث الليلة حدث هل نزل اليوم بكم نازل قال فيقولون نعم نزل رجل من أهل اليمن بعياله يسمونه وعياله فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان(5).
__________
(1) هو شيخ الإسلام، محيي السنة، أبو محمد: الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسر، صاحب التصانيف كشرح السنة ومعالم التنزيل، والمصابيح وغيرها، ت 516 هـ، السير 19/439-343. الشذرات 4/48-49.
(2) سويد بن سعيد الإمام المحدث الصدوق شيخ المحدثين، رحال جوال صاحب حديث وعناية بهذا الشأن، ت سنة 240 هـ، تاريخ بغداد 9/228-232، الجرح والتعديل 4/240، السير 11/410-420.
(3) ضمام بن إسماعيل بن مالك المرادي المعافري ثم الناشري، أبو إسماعيل صدوق، وربما أخطأ، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه صالح الحديث، وقال يحيى بن معين: لا بأس به، ت سنة 185 هـ، ميزان الاعتدال 2/329-330، تهذيب الكمال 13/311-314، التقريب/ 280.
(4) لم أجده.
(5) البداية والنهاية 8/134 بنفس المعنى.(1/413)
وروى محمد بن عوف الطائي(1) حدثنا أبو المغيرة(2) حدثنا أبن أبي مريم(3) عن عطية بن قيس(4) قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم وإلا فلا عتبه علي فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم(5).
وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة قال أصاب إنه فقيه(6).
__________
(1) محمد بن عوف الطائي الإمام الحافظ المجود، محدث حمص، أبو جعفر الطائي، قال أبو حاتم: هو صدوق، قال ابن معين: هو أعرف بحديث أهل بلده، قال ابن عدي: هو عالم بحديث الشام صحيحاً وضعيفاً، ت سنة 272 هـ، السير 12/613-616، العِبر 1/393، الشذرات 2/163.
(2) أبو المغيرة الإمام المحدث الصادق، قال العجلي ثقة، وقال أبو حاتم صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، قال البخاري ت سنة 212 هـ، السير 10/223-225، العِبر 1/285، الشذرات 2/28.
(3) ابن أبي مريم الإمام المحدث القدوة الرباني، أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الحمصي، شيخ أهل حمص، ضعفه أحمد بن حنبل وغيره من قبل حفظه، وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة ولا يُحتج به، ت سنة 156 هـ، السير 7/64-65.
(4) عطية بن قيس الإمام القانت مقرئ دمشق مع ابن عامر أبو يحيى الكلبي الدمشقي، ت سنة 121 هـ وقيل غير ذلك، السير 5/324-325، تهذيب التهذيب 7/228-229.
(5) ورد بعضه في السير 3/152.
(6) البخاري في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب ذكر معاوية - رضي الله عنه - 4/219.(1/414)
وروى البغوي في معجمه(1) بإسناده ورواه ابن بطة من وجه آخر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز(2) عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر(3) عن قيس بن الحارث(4) عن الصنابحي(5) عن أبي الدرداء قال ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا(6) يعني معاوية فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة.
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المزربان بن سابور بن شاهنشاه الحافظ الإمام الحُجة أبو القاسم ويُعرف بـ "ابن بنت منيع" ت سنة 317 هـ، وقد جاوز المائة وله كتاب "معجم الصحابة" و"الجعديات" وغيرهما، السير 14/440-457، معجم المؤلفين 6/126، ميزان الاعتدال 2/492-493، لسان الميزان 3/338-341.
(2) سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي الإمام القدوة، مفتي دمشق أبو محمد الدمشقي، ويُقال أبو عبد العزيز، قال ابن معين: إنما الحجة عبيد الله بن عمر ومالك والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ت سنة 167 هـ، وقيل غيرها، السير 8/32-38، تهذيب الكمال 10/539-545، تهذيب التهذيب 4/59-61.
(3) إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الإمام الكبير أبو عبد الحميد الدمشقي مولى بنى مخزوم، من الثقات العلماء، وثقه أحمد العجلي وغيره، ت سنة 182 هـ، السير 5/213، تهذيب التهذيب 1/317-318، تهذيب الكمال 3/143-151.
(4) هو قيس بن الحارث أوحارثة الكندي الحمصي، ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، التقريب/ 456، الثقات 7/326-327، تهذيب التهذيب 8/386.
(5) عبد الرحمن بن عسيلة المرادي ثم الصنابحي، الفقيه: أبو عبد الله، نزيل دمشق، قدم المدينة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بليال، وصلى خلف الصديق، وحدث عن بعض الصحابة ت سنة 71 هـ، السير 3/505-507، البداية والنهاية 8/323.
(6) مجمع الزوائد 9/357. وانظر السير 3/135.(1/415)
هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح وقيل أسلم قبل ذلك وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة وهذه سيرته مع عموم ولايته فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ومن قبرص إلى اليمن.
ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن أبي بكر وعمر فكيف يشبه غير الصحابة بهم وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية - رضي الله عنه -؟)(1).
(وضعفت خلافة النبوة ضعفا أوجب أن تصير ملكا فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم كما في الحديث المأثور «تكون نبوة ورحمة ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم يكون ملك»(2) ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية فهو خير ملوك الإسلام وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده)(3).
(وكذلك معاوية لم يبايعه أحد لما مات عثمان على الإمامة ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة ولا تسمى بأمير المؤمنين ولا سماه أحد بذلك ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين)(4).
المطلب الثاني: رد مطاعن الرافضة عليه:
الرد على قول الرافضي:
(مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن معاوية الطليق بن الطليق اللعين بن اللعين وقال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه وكان من المؤلفة قلوبهم وقاتل عليا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم...
__________
(1) المنهاج 6/232-236.
(2) مجمع الزوائد 5/189-190، سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/8-9، المسند 4/273.
(3) المنهاج 7/452-453.
(4) المنهاج 6/330.(1/416)
والجواب أن يقال: أما ما ذكره من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن معاوية وأمر بقتله إذا رُئي على المنبر فهذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الرافضي الراوي له لم يذكر له إسنادا حتى يُنظر فيه وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات(1).
ومما يبين كذبه أن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صعد عليه بعد معاوية من كان معاوية خيرا منه باتفاق المسلمين فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر وجب قتل هؤلاء كلهم ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم وإن أمر بقتله لكونه تولى الأمر وهو لا يصلح فيجب قتل كل من تولى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم كما تقدم بيانه.
ثم الأمة متفقة على خلاف هذا فإنها لم تقتل كل من تولى أمرها ولا استحلت ذلك ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم فكيف يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء يكون فعله أعظم فسادا من تركه؟!
وأما قوله: "إنه الطليق ابن الطليق". فهذا ليس نعت ذم فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا نحوا من ألفي رجل وفيهم من صار من خيار المسلمين...
ومعاوية ممن حسن إسلامه باتفاق أهل العلم ولهذا ولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس...
__________
(1) الموضوعات لابن الجوزي 2/24-26، وقال: هذا حديث موضوع لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي أحاديث مختارة من موضوعات الجوزقاني وابن الجوزي/90، والسير 3/149.(1/417)
ثم إنه بقي في الشام عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة ورعيته من أشد الناس محبة له وموافقة له وهو من أعظم الناس إحسانا إليهم وتأليفا لقلوبهم حتى أنهم قاتلوا معه علي بن أبي طالب وصابروا عسكره حتى قاوموهم وغلبوهم وعلي أفضل منه وأعلى درجة وهو أولى بالحق منه باتفاق الناس، وعسكر معاوية يعلمون أن عليا أفضل منه وأحق بالأمر ولا ينكر ذلك منهم إلا معاند أو من أعمى الهوى قلبه.
ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدعي الأمر لنفسه ولا يتسمى بأمير المؤمنين بل إنما ادعى ذلك بعد حكم الحكمين وكان غير واحد من عسكر معاوية يقول له: لماذا تقاتل عليا وليس لك سابقته ولا فضله ولا صهره وهو أولى بالأمر منك(1) فيعترف لهم معاوية بذلك.
لكن قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر علي فيه ظلمة يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان وأنهم يقاتلونهم دفعا لصيالهم عليهم وقتال الصائل جائز ولهذا لم يبدءوهم بالقتال حتى بدأهم أولئك ولهذا قال الأشتر النخعي: إنهم ينصرون علينا لأنا نحن بدأناهم بالقتال(2).
وأما قوله: «كان معاوية من المؤلفة قلوبهم».
فنعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم كالحارث بن هشام وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وحكيم بن حزام وهؤلاء من خيار المسلمين والمؤلفة قلوبهم غالبهم حسن إسلامه وكان الرجل منهم يسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس.
وأما قوله: «وقاتل عليا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق وكل من قاتل إمام حق فهو باغ ظالم».
__________
(1) البداية والنهاية 8/129، السير 3/140.
(2) لم أجده فيما بين يدي من المراجع.(1/418)
فيقال له أولا: الباغى قد يكون متأولا معتقدا أنه على حق وقد يكون معتمدا يعلم أنه باغ وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة وهو الغالب وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب فضلا عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد بل يقولون إن الذنوب لها أسباب تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم)(1).
(وأما قوله: «إن سبب قولهم لمعاوية إنه خال المؤمنين دون محمد(2) أن محمدا هذا كان يحب عليا ومعاوية كان يبغضه».
فيقال: هذا كذب أيضا فإن عبد الله بن عمر كان أحق بهذا المعنى من هذا وهذا وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا وكان معظما لعلي محبا له يذكر فضائله ومناقبه وكان مبايعا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه وأخته أفضل من أخت معاوية(3) وأبوه أفضل من أبي معاوية(4) والناس أكثر محبة وتعظيما له من معاوية ومحمد ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين فعلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره)(5).
وأما قول الرافضي:
(وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي. فهذا قول بلا حجة ولا علم، فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي وإنما كان يكتب له رسائل.
وقوله: «إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصم وأقربهم إليه علي».
__________
(1) المنهاج 4/378-385.
(2) يعني محمد بن أبي بكر.
(3) يعني أن حفصة بنت عمر (وستأتي ترجمتها) أفضل من أم حبيبة، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموية، أخت معاوية رضي الله عنهم "أم المؤمنين" ت سنة 44 هـ، تجريد أسماء الصحابة 2/316، الإصابة 12/260-263، 13/192.
(4) يعني أن عمر - رضي الله عنه - أفضل من أبي سفيان.
(5) المنهاج 4/395.(1/419)
فلا ريب أن عليًّا كان ممن يكتب له أيضا كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضا ويكتب له زيد بن ثابت(1) بلا ريب.
ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (2) كتبها له(3). وكتب له أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة وعبد الله بن الأرقم(4) وأبي بن كعب(5) وثابت بن قيس(6) وخالد بن سعيد بن العاص(7) وحنظلة بن الربيع الأسدي(8) وزيد بن ثابت ومعاوية وشرحبيل بن حسنة(9)
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) النساء/ 95.
(3) البخاري في التفسير سورة النساء باب لا يستوي القاعدون من المؤمنين 5/182-183، ومسلم في الإمارة باب سقوط فرض الجهاد عن المضرورين 3/1508-1509.
(4) عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، القرشي الزهري الكاتب، من مسلمة الفتح وهو خال النبي، ت في خلافة عثمان، السير 2/482.
(5) أُبي بن كعب بن قيس بن عبيد الأنصاري أبو المنذر، سيد القراء كان من اصحاب العقبة الثاني، وشهد بدراً، كان عمر يسميه سيد المسلمين، ت في خلافة عثمان على الصحيح، الإصابة 1/26-27، الاستيعاب 1/126-134.
(6) ثابت بن قيس بن شماس بن زهير بن مالك بن امريء القيس الخزرجي أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن خطيب الأنصار، شهد أحد وبيعة الرضوان، استشهد يوم اليمامة، التقريب/ 133، السير 1/308-314.
(7) خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، أحد السابقين الأولين، استعمله الرسول على صنعاء، وقتل يوم أجنادين، الإصابة 3/58-60، السير 1/259-260.
(8) حنظلة بن الربيع الأسدي التميمي، أبو ربعي الكاتب، شهد مع خالد بن الوليد حروب العراق، قال ابن حبان: مات في أيام معاوية، الإصابة 2/269-270، تهذيب الكمال 7/438-443، تهذيب التهذيب 3/60.
(9) شرحبيل بن عبد الله بن المطاع حليف بني زهرة، أبو عبد الله، أسلم مبكراً وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ت سنة 18 هـ، الإصابة 5/60-61، الاستيعاب 5/60-62، التقريب/ 265.(1/420)
(.
وأما قوله: «إن معاوية لم يزل مشركا مدة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا».
فيقال: لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ثلاث سنين فكيف يكون مشركا مدة المبعث ومعاوية - رضي الله عنه - كان حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - صغيرا كانت هند(1) ترقصه ومعاوية - رضي الله عنه - أسلم مع مسلمة الفتح مثل أخيه يزيد وسهيل بن عمرو(2) وصفوان بن أمية(3) وعكرمة بن أبي جهل(4) وأبي سفيان بن حرب وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفرا ومحاربة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من معاوية...
ومعاوية لم يعرف عنه قبل الإسلام أنه آذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا بيد ولا بلسان فإذا كان من هو أعظم معاداة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من معاوية قد حسن إسلامه وصار ممن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فما المانع أن يكون معاوية - رضي الله عنه - كذلك.
__________
(1) هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف صحابية قرشية عالية الشهرة أم معاوية بن أبي سفيان، أهدر النبي دمها يوم الفتح فجاءته مع بعض النسوة في الأبطح فأعلنت إسلامها، الإصابة 13/165-167، الأعلام 8/98.
(2) سهيل بن عمرو، أبو زيد، خطيب قريش وفصيحهم، ومن أشرافهم، تأخر إسلامه ثم حسن إسلامه، استشهد يوم اليرموك، وقيل غير ذلك. السير 1/194-195، الشذرات 1/30، التاريخ الكبير 4/103-104.
(3) صفوان بن أمية، صحابي من المؤلفة قلوبهم، أسلم بعد الفتح، وروى أحاديث، حسن إسلامه. شهد اليرموك، ت سنة 41 هـ، السير 2/562-567، تقريب التهذيب/ 276، تهذيب التهذيب 4/424-425.
(4) عكرمة بن أبي جهل أبو عثمان القرشي المخزومي المكي، أسلم سنة ثمانٍ للفتح وحسن إسلامه، وولي أعمالاً كثيرة وتوفي في الشام مجاهداً في معركة اليرموك وقيل استشهد يوم أجنادين وقيل غير ذلك، السير 1/323-324، الاستيعاب 8/116-122، الإصابة 7/36-37.(1/421)
وكان من أحسن الناس سيرة في ولايته وهو ممن حسن إسلامه ولولا محاربته لعلي - رضي الله عنه - وتوليه الملك لم يذكره أحد إلا بخير كما لم يذكر أمثاله إلا بخير، وهؤلاء مسلمة الفتح معاوية ونحوه قد شهدوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة غزوات كغزاة حنين والطائف وتبوك فله من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ما لأمثاله فكيف يكون هؤلاء كفارا وقد صاروا مؤمنين مجاهدين تمام سنة ثمان وتسع وعشر وبعض سنة إحدى عشرة؟)(1).
الرد على أقوال الرافضي:
(وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيره بإسلامه ويقول أصبوت إلى دين محمد وكتب إليه:
يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا ... بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا
جدي وخالي وعم الأم يا لهم
... ... ... قوما وحنظلة المهدي لنا أرقا
فالموت أهون من قول الوشاة لنا
... ... خلى ابن هند عن العزى لقد فرقا
.... إلخ.
والجواب: أما قوله: «كان باليمن يطعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيره بإسلامه وكتب إليه الأبيات».
__________
(1) المنهاج 4/427-429.(1/422)
هذا من الكذب المعلوم فإن معاوية إنما كان بمكة لم يكن باليمن وأبوه أسلم قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة بمر الظهران(1) ليلة نزل بها وقال له العباس: إن أبا سفيان يحب الشرف فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن»(2) وأبو سفيان كان عنده من دلائل النبوة ما أخبره به هرقل(3) ملك الروم لما سافر إلى الشام في الهدنة التي كانت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينهم وما كان عنده من أمية بن أبي الصلت(4) لكن الحسد منعه من الإيمان حتى أدخله الله عليه وهو كاره بخلاف معاوية فإنه لم يعرف عنه شيء من ذلك ولا عن أخيه يزيد وهذا الشعر كذب على معاوية قطعا فإنه قال فيه:
فالموت أهون من قول الوشاة ... لنا خلى ابن هند عن العزى لقد فرقا
ومعلوم أنه بعد فتح مكة أسلم الناس وأزيلت العزى، بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها خالد بن الوليد فجعل يقول:
__________
(1) موضع على مرحلة من مكة ذكر في الحديث، وقال عرام: مرّ: القرية، والظهران: هو الوادي، بها عيون كثيرة ونخل هو لأسلم وهذيل، قيل بينها وبين مكة خمسة أميال، معجم البلدان 5/104، مراصد الاطلاع 3/1257.
(2) مسلم في الجهاد والسير باب فتح مكة 3/1407-1408، والمسند 2/538، سيرة ابن هشام 4/46، زاد المعاد 3/403 وغيرها.
(3) هرقل اسمه ولقبه قيصر، ملك الروم نحواً من خمس وعشرين سنة وقيل إحدى وثلاثين سنة وفي أيامه كان مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي وقته ملك المسلمون الشام. الكامل في التاريخ 1/334، فتح الباري 1/33.
(4) أمية بن عبد الله بن الصلت، شاعر جاهلي، أراد الإسلام قادماً من الشام فعلم بمقتل ابنا خال له في بدر فامتنع وأقام في الطائف إلى أن مات في السنة الثانية، وقال ابن حجر: المعروف أنه مات في سنة 9 هـ، الإصابة 1/211-214، الأعلام 2/23.(1/423)
يا عز كفرانك لاسبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك(1)
وكانت قريبا من عرفات فلم يبق هناك لا عزى ولا من يلومهم على ترك العزى فعلم أن هذا من وضع بعض الكذابين على لسان معاوية وهو كذاب جاهل لم يعلم كيف وقع الأمر.
وكذلك ما ذكره من حال جده أبي أمية(2) عتبة بن ربيعة(3) وخاله الوليد بن عتبة(4) وعم أمه شيبة بن ربيعة(5) وأخيه حنظلة(6) أمر يشترك فيه هو وجمهور قريش فما منهم من أحد إلا وله أقارب كفار قتلوا كفارا أو ماتوا كفارا فهل كان في إسلامهم فضيحة؟!
__________
(1) الاستيعاب في معرفة الأحباب في ترجمة خالد بن الوليد 3/165.
(2) هكذا في المنهاج "أمية" بالياء المُثناة التحتانية، والصواب حذفها "أمه".
(3) عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد، أحد سادات قريش في الجاهلية، كان موصوفاً بالرأي والحلم والفضل، حضر بدر مُشركاً وقتل بها سنة 2 هـ. البداية والنهاية 3/273، تاريخ الطبري 2/445، الأعلام 4/200.
(4) الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولي لعمه معاوية المدينة، كان ذا جود، وحلم وسؤدد، وديانة، مات سنة 64 هـ، الشذرات 1/72، السير 3/534.
(5) شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، من زعماء قريش في الجاهلية أدرك الإسلام وقتل على الوثنية في غزوة بدر، البداية 3/293، الأعلام 3/181.
(6) حنظلة بن ربيعة لم أجد له ترجمة.(1/424)
وقد أسلم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وكانا من خيار المسلمين وأبواهما قتلا ببدر وكذلك الحارث بن هشام(1) قتل أخوه يوم بدر وفي الجملة الطعن بهذا طعن في عامة أهل الإيمان وهل يحل لأحد أن يطعن في علي بأن عمه أبا لهب(2) كان شديد العداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو يطعن في العباس - رضي الله عنه - بأن أخاه كان معاديا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو يعير عليا بكفر أبي طالب أو يعير بذلك العباس وهل مثل ذلك إلا من كلام من ليس من المسلمين؟
ثم الشعر المذكور ليس من جنس الشعر القديم بل هو شعر رديء)(3).
الرد على قول الرافضي:
(إن معاوية كان مقيما على شركه هاربا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان قد أهدر دمه فهرب إلى مكة فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطرا فأظهر الإسلام وكان إسلامه قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أشهر»
فهذا من أظهر الكذب فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس وقد تقدم قوله: «إنه من المؤلفة قلوبهم» والمؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين من غنائم هوازن(4) وكان معاوية ممن أعطاه منها والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتألف السادة المطاعين في عشائرهم فإن كان معاوية هاربا لم يكن من المؤلفة قلوبهم ولو لم يسلم إلا قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أشهر لم يعط شيئا من غنائم حنين.
__________
(1) الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أبو عبدالرحمن صحابي كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، شهدا بدراً مع المشركين، أسلم يوم فتح مكة، مات في الشام بطاعون عمواس، وقيل غير ذلك، الإصابة 2/182، الأعلام 2/158.
(2) هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم، وقد سبقت ترجمته.
(3) المنهاج 4/431-436.
(4) الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم 3/44-45، وانظر: السير 3/122، تاريخ الأمم والملوك 3/90.(1/425)
ومن كانت غايته أن يؤمن لم يحتج إلى تأليف... فإنه أسلم عند فتح مكة واستكتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لخبرته وأمانته ولا يعرف عنه ولا عن أخيه يزيد بن أبي سفيان أنهما آذيا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يؤذيه بعض المشركين.
وأما يزيد.... فهذا صالح من خيار الصحابة واستعمله الصديق أحد أمراء الشام ومشى في ركابه ومات في خلافة عمر فولى عمر - رضي الله عنه - أخاه معاوية - رضي الله عنه - مكانه أميرا ثم لما ولي عثمان أقره على الإمارة وزاده وبقي أميرا إلى أن قتل عثمان ووقعت الفتنة إلى أن قتل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وبايع أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنهما فأقام ستة أشهر ثم سلم الآمر إلى معاوية تحقيقا لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(1) وبقي معاوية بعد ذلك عشرين سنة ومات سنة ستين.
ومما يبين كذب ما ذكره هذا الرافضي أنه لم يتأخر إسلام أحد من قريش إلى هذه الغاية وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث أبا بكر عام تسع بعد الفتح بأكثر من سنة ليقيمن الحج وينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي تلك السنة نبذت العهود إلى المشركين وأجلوا أربعة أشهر فانقضت المدة في سنة عشر فكان هذا أمانا عاما لكل مشرك من سائر قبائل العرب وغزا النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك سنة تسع لقتال النصارى بالشام وقد ظهر الإسلام بأرض العرب؟!
ولو كان لمعاوية من الذنوب ما كان لكان الإسلام يجب ما قبله فكيف ولم يعرف له ذنب يهرب لأجله؟! أو يهدر دمه لأجله وأهل السير والمغازي متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أهدر دمه عام الفتح...
__________
(1) سبقت ترجمته.(1/426)
فكيف يهدر دم معاوية وهو شاب صغير ليس له ذنب يختص به ولا عرف عنه أنه كان يحض على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أمن رءوس الأحزاب؟ فهل يظن هذا إلا من هو من أجهل الناس بالسيرة؟ وهذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل العلم مذكور في عامة الكتب المصنفة في هذا الشأن.
وقد بسطنا الكلام على هذا في كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -»(1) لما ذكرنا من أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه عام الفتح وذكرناهم واحدا واحدا)(2).
الرد على قول الرافضي:
(وقد روى عبد الله بن عمر قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول: «يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي فطلع معاوية» وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن الله القائد والمقود أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة».
فالجواب أن يقال أولاً: نحن نطالب بصحة هذا الحديث فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته ونحن نقول هذا في مقام المناظرة وإلا فنحن نعلم قطعا أنه كذب.
__________
(1) الصارم المسلول من ص 3 حتى ص 178.
(2) المنهاج 4/436-442.(1/427)
ويقال ثانيًا: هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يرجع إليها في معرفة الحديث وليس له إسناد معروف وهذا المحتج به لم يذكر له إسنادا ثم من جهله أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمر كان من أبعد الناس عن سب الصحابة وأروى الناس لمناقبهم وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه حيث يقول: «ما رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسود من معاوية، قيل له: ولا أبو بكر وعمر فقال: كان أبو بكر وعمر خيرا منه، وما رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسود من معاوية»(1).
قال أحمد بن حنبل: "السيد الحليم"(2) يعني معاوية وكان معاوية كريما حليما.
ثم إن خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن واحدة بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب كما يشهدها المسلمون كلهم أفتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويمكنان من ذلك، هذا قدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي سائر المسلمين إذ يمكنون اثنين دائما يقومان ولا يحضران الخطبة ولا الجمعة وإن كانا يشهدان كل خطبة فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها؟
ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس وأصبرهم على من يؤذيه وأعظم الناس تأليفا لمن يعاديه فكيف ينفر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه أعظم الخلق مرتبة في الدين والدنيا وهو محتاج إليه في كل أموره فكيف لا يصبر على سماع كلامه وهو بعد الملك كان يسمع كلام من يسبه في وجهه فلماذا لا يسمع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف يتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتبا هذه حاله؟
__________
(1) البداية والنهاية 8/35، السير 3/152، 153، الاستيعاب 10/139، العواصم من القواسم تعليق الأستاذ محب الدين الخطيب/ 211.
(2) السنة للخلال 2/441-442.(1/428)
وقوله: «إنه أخذ بيد ابنه زيدا أو يزيد»؛ فمعاوية لم يكن له ابن اسمه زيد وما يزيد ابنه الذي تولى بعده الملك وجرى في خلافته ما جرى فإنما ولد في خلافة عثمان باتفاق أهل العلم ولم يكن لمعاوية ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال الحافظ أبو الفضل بن ناصر(1): خطب معاوية - رضي الله عنه - في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يزوج لأنه كان فقيرا وإنما تزوج في زمن عمر - رضي الله عنه - وولد له يزيد في زمن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - سنة سبع وعشرين من الهجرة(2).
ثم نقول ثالثًا: هذا الحديث يمكن معارضته بمثله من جنسه بما يدل على فضل معاوية - رضي الله عنه - قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات: قد تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضل معاوية - رضي الله عنه - أحاديث ليغيظوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث وكلا الفريقين على الخطأ القبيح)(3)،(4).
ثم رد على افتراء الرافضي على معاوية فقال:
__________
(1) أبو الفضل بن ناصر: الإمام، المُحدث، محمد بن ناصر بن محملي السلامي البغدادي ولد سنة 467 هـ، كان من أئمة اللغة، وقد اعتنق مذهب الإمام أحمد بن حنبل في الأصول والفروع، وهو ثقة ثبت، ت سنة550 هـ، السير 20/265-271، الشذرات 4/155-156، ذيل طبقات الحنابلة 1/225-229.
(2) انظر السير 3/122.
(3) الموضوعات 2/15.
(4) المنهاج 4/433-447.(1/429)
(وأما قوله إن معاوية قتل جمعا كثيرا من خيار الصحابة فيقال: الذين قتلوا من الطائفتين قتل هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليا ولا معاوية وكان علي ومعاوية رضي الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين لكن غُلبا فيما وقع.... ثم قتال أصحاب معاوية معه لم يكن لخصوص معاوية بل كان لأسباب أخرى وقتال الفتنه مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية(1))(2).
الرد على قول الرافضي:
(وقد أحسن بعض الفضلاء في قوله شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعته وجرى معه في ميدان معصيته... ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة طويلة ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين عليه إماما وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه فكان شرا من إبليس.
فيقال: هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج على دين الإسلام وكل دين بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار مالا يخفى عن من تدبره.
أما أولاً: فلأن إبليس أكفر من كل كافر وكل من دخل النار فمن أتباعه كما قال تعالى: { لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } (3)، وهو الآمر لهم بكل قبيح، المزين له فكيف يكون أحد شرا منه؟ لا سيما من المسلمين لا سيما من الصحابة.
__________
(1) السُنة للخلال 151، 152 بلفظه، السنن الكبرى للبيهقي بمعناه 8/175، وصححه الألباني في إرواء الغليل 8/116.
(2) المنهاج 4/467-468.
(3) ص/ 85.(1/430)
وقول هذا القائل «شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان المعصية» يقتضي أن كل من عصى الله فهو شر من إبليس؛ لأنه لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان المعصية وحينئذ فيكون آدم وذريته شرا من إبليس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»(1).
ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر إن من أذنب ذنبا من المسلمين يكون شرا من إبليس أو ليس هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام وقائل هذا كافر كفرا معلوما بالضرورة من الدين وعلى هذا فالشيعة دائما يذنبون فيكون كل منهم شرا من إبليس...
وأما ثانيًا: فهذا الكلام كلام بلا حجة بل هو باطل في نفسه فلم قلت إن شرا من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان معصية وذلك أن أحدا لا يجري مع إبليس في ميدان معصيته؟ كلها فلا يتصور أن يكون في الآدميين من يساوي إبليس في معصيته بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم.
ويقال ثالثا: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة إلخ، فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق وليس في القرآن شيء من ذلك ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين؟!
وما وصف الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته.
ويقال رابعًا: إن إبليس كفر كما أخبر الله تعالى { إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (2) فلو قدر أنه كان له عمل صالح حبط بكفره كذلك غيره إذا كفر حبط عمله فأين تشبيه المؤمنين بهذا؟!
__________
(1) ابن ماجه في الزهد باب ذكر التوبة 2/1420، والمسند 3/198.
(2) ص/ 74.(1/431)
ويقال خامسًا: قوله: «إن معاوية لم يزل في الإشراك إلى أن أسلم»؛ به يظهر الفرق فيما قصد به الجمع فإن معاوية أسلم بعد الكفر وقد قال تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } (1) وتاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة وقد قال تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } (2) وإبليس كفر بعد إيمانه فحبط إيمانه بكفره وذاك حبط كفره بإيمانه فكيف يقاس من آمن بعد الكفر بمن كفر بعد الإيمان؟!
ويقال سادسًا: قد ثبت إسلام معاوية - رضي الله عنه - والإسلام يجب ما قبله فمن ادعى أنه ارتد بعد ذلك كان مدعيا دعوى بلا دليل لو لم يعلم كذب دعواه فكيف إذا علم كذب دعواه وأنه ما زال على الإسلام إلى أن مات كما علم بقاء غيره على الإسلام فالطريق الذي يعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم يعلم به بقاء إسلام معاوية - رضي الله عنه - والمدعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر ( ليس هو أظهر حجة من المدعي لارتداد علي فإن كان المدعي لارتداد علي كاذبا فالمدعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبا لأن الحجة على بقاء إيمان هؤلاء أظهر وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض.
__________
(1) الأنفال/ 38.
(2) التوبة/ 11.(1/432)
ويقال سابعا: هذه الدعوى إن كانت صحيحة ففيها من القدح والغضاضة بعلي والحسن وغيرهما ما لا يخفي وذلك أنه كان مغلوبا مع المرتدين وكان الحسن قد سلم أمر المسلمين إلى المرتدين وخالد بن الوليد قهر المرتدين... بل وكذلك جيوش أبو بكر(1) وعمر وعثمان ونوابهم فإنهم كانوا منصورين على الكفار وعلي عاجز عن مقاومة المرتدين الذين هم من الكفار أيضا.... وعلي - رضي الله عنه - دعا معاوية إلى السلم في آخر الأمر لما عجز عن دفعه عن بلاده وطلب منه أن يبقى كل واحد منهما على ما هو عليه وقد قال تعالى: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (2) فإن كان أصحابه مؤمنين وأولئك مرتدين وجب أن يكونوا الأعلين وهو خلاف الواقع)(3).
ثم رد على قول الرافضي عن معاوية إنه جلس مكانه فقال:
(قولكم إنه جلس مكانه.
__________
(1) هكذا في المنهاج والصواب "أبي".
(2) آل عمران/ 139.
(3) المنهاج 4/506-514.(1/433)
كذب فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء ولا ذهب إلى علي لينزعه عن إمارته ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته وبقي على ما كان عليه واليا على من كان واليا عليه في زمن عمر وعثمان ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متوليا على رعيته فقط فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد فهذا صحيح لكن معاوية - رضي الله عنه - يقول: إني لم أنازعه شيئا هو في يده ولم يثبت عندي ما يوجب علي دخولي في طاعته وهذا الكلام سواء كان حقا أو باطلا لا يوجب كون صاحبه شرا من إبليس ومن جعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرا من إبليس فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } ، والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحد فقد أخرج صاحبه عن ربقة العقل فضلا عن العلم والدين فنسأل الله العافية من كل بلية وإن كان حقًّا على الله أن يذل أصحاب مثل هذا الكلام وينتصر لعباده المؤمنين من أصحاب نبيه وغيرهم من هؤلاء المفترين الظالمين)(1).
* * *
المبحث الثاني
أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
الرد على قول الرافضي:
(وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه مع أنه عليه لسلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد وقالت له عائشة إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيرا منها فقال: «والله ما بدلت بها ما هو خير منها صدقتني إذ كذبني الناس وآوتني إذ طردني الناس وأسعدتني بمالها ورزقني الله الولد منها ولم أرزق من غيرها».
__________
(1) المنهاج 4/ 506- 517.(1/434)
والجواب أولا أن يقال: إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى(1) وعن أنس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»(2) والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم...
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -(3) قال: «قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وسمى رجالا»(4).
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب "فضل عائشة" 4/220، ومسلم في فضائل الصحابة باب "في فضل عائشة" 4/1895، ولم يذكر رواية أبي موسى، وفي المسند 3/156، 264، 4/394، 409، 6/159.
(3) سبقت ترجمته.
(4) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي باب "قول النبي لو كنت متخذاً خليلاً" 4/192، ومسلم في فضائل الصحابة باب "من فضائل أبي بكر" 4/1856، والترمذي في المناقب باب "فضل عائشة" 5/706، ولم يذكر بعد أبي بكر أحداً، والمسند 4/203 وقد سبق.(1/435)
وهؤلاء يقولون قوله لخديجة: «ما أبدلني الله بخير منها»(1) إن صح معناه ما أبدلني بخير لي منها لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة فكانت أفضل بهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها وبلغت من العلم والسنة ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تبلغ عنه شيئا ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمال الإيمان به ما حصل لمن علمه وآمن به بعد كماله ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه ولكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك.
وفي الجملة الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها وأن نساءه أمهات المؤمنين اللاتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعلمهن وأعظمهن حرمة عند المسلمين.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المُسند 6/117-118.(1/436)
وقد ثبت في الصحيح(1) أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة لما يعلمون من حبه إياها حتى أن نساءه غرن من ذلك وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها فقلن له نسألك العدل في ابنة أبي قحافة فقال لفاطمة: «أي بنية ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبى هذه» الحديث وهو في الصحيحين(2).
__________
(1) البخاري في فضائل أصحاب النبي باب "فضل عائشة" 4/221، والهبة، باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض … إلخ 3/132، ومسلم في فضائل الصحابة باب في فضل عائشة 4/1891، والمسند 6/293.
(2) البخاري في الهبة باب من أهدى إلى صاحبه وتحري بعض نسائه دون بعض 3/132-133، ومسلم في فضائل الصحابة باب في فضل عائشة 4/1891-1892، والمسند 6/88، 150-151.(1/437)
وفي الصحيحين أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام. فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا نرى» ولما أراد فراق سودة بنت زمعة(1) وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها بإذنه - صلى الله عليه وسلم -(2) وكان في مرضه الذي مات فيه يقول: أين أنا اليوم؟ استبطاء ليوم عائشة ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فمرض فيه، وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها(3) وجمع الله بين ريقه وريقها(4).
__________
(1) البخاري في فضائل أصحاب النبي، باب "فضل عائشة" 4/219-220، وفي الأدب باب "من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفاً" 7/119، ومسلم في فضائل الصحابة باب في "فضل عائشة" 4/1895-1896.
(2) سودة بن زمعة القرشية العامرية أم المؤمنين أول من تزوج بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة، توفيت في خلافة عمر وقيل غير ذلك، الإصابة 12/323-324، الاستيعاب 13/53-55، تجريد أسماء الصحابة 2/280، السير 2/265-269.
(3) أبو داود في النكاح باب في "القسم بين النساء" 2/602، وابن ماجه في النكاح باب "المرأة تهب يومها لصاحبتها" 1/634، والمسند 6/117.
(4) البخاري في المغازي، باب "مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته" 5/139، وفي الطب باب "حدثنا بشر بن محمد" 7/18، وفي مسلم في الصلاة باب "استخلاف الإمام إذا عرض له عذر … إلخ" 1/312-313، البخاري في المغازي باب "مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته" … إلخ 5/138-139، 141-142، وفي المسند 6/48، 200، 274.(1/438)
وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته حتى قال أسيد بن حضير(1): لما أنزل الله آية التيمم بسببها ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله في للمسلمين بركة(2).
وكان قد نزلت آيات برائتها قبل ذلك لما رماها أهل الإفك فبرأها الله من فوق سبع سماوات(3) وجعلها من الطيبات)(4).
وقد رد على قول الرافضي:
وأذاعت سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وأما قوله وأذاعت سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ريب أن الله تعالى يقول: { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } (5).
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) البخاري باب قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً… } الأية 1/86، وفي مسلم في الحيض باب التيمم 1/279، وفي النسائي في الطهارة باب بدء التيمم 1/163-165، وفي المسند 6/179.
(3) تفسير ابن كثير 3/278، الدر المنثور في التفسير المأثور 6/167-170، وجامع البيان عن تأويل القرآن 10/106-109، عند تفسير قوله تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } الآية من سورة النور/ 26.
(4) المنهاج 4/301-308.
(5) التحريم/ 3.(1/439)
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة(1).(2)
فيقال أولاً: هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاص بينة لمن نصت عنه من المتقدمين يتأولون النصوص بأنواع التأويلات وأهل السنة يقولون بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة وهذه الآية ليست بأولى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات فإن كان تأويل تلك سائغا كان تأويل هذه كذلك وإن كان تأويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل.
ويقال ثانيًا: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة فيكونان قد تابتا منه وهذا ظاهر لقوله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (3) فدعاهما الله تعالى إلى التوبة فلا يظن بهما أنهما لم يتوبا مع ما ثبت من علو درجتهما وأنهما زوجتا نبينا في الجنة وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ولذلك حرم الله عليه أن يتبدل بهن غيرهن وحرم عليه أن يتزوج عليهن واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن ثم قد تقدم أن الذنب يغفر ويعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة.
ويقال ثالثا: المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة)(4).
وقد رد على زعم الرافضي:
__________
(1) هي أن أم المؤمنين حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد انقضاء عدتها من خنيس بن حذيفة السهمي سنة ثلاثة من الهجرة ولها نحو عشرين سنة، توفيت سنة 41 هـ، قيل غير ذلك، السير 2/227-231، الإصابة 12/197-199.
(2) البخاري في تفسير القرآن سورة التحريم باب { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } الآية 6/69-70، ومسلم كتاب الطلاق باب الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن 2/1110-1113.
(3) التحريم/ 4.
(4) المنهاج 4/313-315.(1/440)
(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «إنك تقاتلين عليا وأنت ظالمة له»).
فقال: وأما الحديث الذي رواه وهو قوله: «لها تقاتلين عليا وأنت ظالمة له»(1) فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة بل هو كذب قطعا فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها(2).
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير(3) وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان عليّ غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله(4) وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم فحملوا دفعا عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة رضي الله عنها راكبة: لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال. هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار(5).
ثم رد على زعم الرافضي؛ أنها خالفت أمر الله فقال:
__________
(1) لم أجده.
(2) انظر تفسير القرطبي 14/180-181، السير 2/177.
(3) سبقت ترجمته.
(4) سبقت ترجمته.
(5) المنهاج 4/316-317.(1/441)
وأما قوله: وخالفت أمر الله في قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } (1)، فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى والأمر بالاستقرار في البيوت لا يُنافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفره، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سافر بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن(2) أخيها فأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم(3).
وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كن يحججن معه في خلافة عمر - رضي الله عنه - وغيره وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحةٍ جائزة فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين، فتأولت في ذلك.
__________
(1) الأحزاب/ 33.
(2) عبد الرحمن بن أبي بكر شقيق أم المؤمنين شهد بدراً مع المشركين وأسلم وهاجر قبل الفتح، كان من الرماة الشجعان، ت سنة 53 هـ، وقيل غيرها، الاستيعاب 6/29، تجريد أسماء الصحابة 1/350، السير 2/471-473.
(3) التنعيم: موضع بمكة خارج الحرم هو أدنى الحل إليه على طريق المدينة منه يُحرم المكيون بالعمرة، على ثلاثة أميال من مكة، معجم البلدان 2/49-50، مراصد الاطلاع 1/277، وأما الآن فقد دخل في مكة وهو مشهور.(1/442)
والوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان مخطئاً، فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (1) قال: قد فعلت(2). فقد عفي للمؤمنين عن النسيان والخطأ، والمجتهد المخطئ مغفور له خطؤه وإذا غفر خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين، فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقر في بيتها – إذ كانت مجتهدة – أولى.
وبهذا يُجاب عن خروج عائشة رضي الله عنها، وإذا كان المجتهد مخطئاً فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة(3).
ثم من جهل الرافضة أنهم يُعظمون أنساب الأنبياء: آباءهم وأبناءهم، ويقدحون في أزواجهم، كل ذلك عصبية واتباع هوى حتى يُعظمون فاطمة والحسن والحسين، ويقدحون في عائشة أم المؤمنين(4).
__________
(1) البقرة/ 286.
(2) مسلم في الإيمان باب "بيان أنه سبحانه وتعالى لم يُكلف إلا ما يُطاق" 1/115-116، المسند تحقيق أحمد شاكر 3/341-342، 5/30-31، تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر 6/142-146، 6/103-105.
(3) المنهاج 4/317-321، انظر 6/208.
(4) المنهاج 4/349، انظر 4/344-348.(1/443)
وقد وضح أن قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (1)، يدل على أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته وأن سياق الآيات يدل على ذلك فقال بعد ذكره لقوله تعالى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } (2).
__________
(1) الأحزاب/ 33.
(2) الأحزاب/ 30-34.(1/444)
وهذا السياق يدل … على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته، فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن(1)، وقد تنازع العلماء: هل أزواجه من آله؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد(2) أصحهما أنهم من آله وأهل بيته، كما دل على ذلك ما في الصحيحين من قوله: «اللهم صلي على محمد وعلى أزواجه وذريته»(3) وهذا مبسوط في موضع آخر(4).
* * *
المبحث الثالث
آل البيت
الرد على قول الرافضي: (العاشر: ما رواه الجمهور من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». وقال: أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته، وعلي سيدهم، فيكون واجب الطاعة على الكل، فيكون هو الإمام.
والجواب من وجوه:
__________
(1) المنهاج 3/23.
(2) انظر تفسير القرطبي 14/182.
(3) رواه البخاري في الأنبياء باب حدثنا موسى بن إسماعيل 4000/118، ومسلم في الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد 1/160-306.
(4) المنهاج 4/24.(1/445)
أحدهما: أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم(1): قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً بماء يُدعى خما بين مكة والمدينة، فقال: «أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ربي، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي»(2).
وهذا اللفظ يدل على أن الذي أمرنا بالتمسك به وجعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله.
وهكذا جاء في غير هذا الحديث، كما في صحيح مسلم عن جابر(3) في حجة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال: «قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد" ثلاث مرات»(4).
__________
(1) زيد بن أرقم الأنصاري الخزرجي، نزيل الكوفة، شهد غزوة مؤتة وغيرها، وهو الذي جاء القرآن مُصدقاً له في قصة المنافقين يوم أن أخبر أن عبد الله بن أُبي يقول: ليُخرجن الأعز منها الأذل … ت سنة 66 هـ، وقيل غيرها، الإصابة 4/38-39، الاستيعاب 4/38-40، السير 3/165-168.
(2) رواه مسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه 4/1873، 1874.
(3) جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، الإمام الكبير، المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيعة الرضوان، كان مُفتي المدينة في زمانه، ت سنة 78 هـ، وقيل سنة 77 هـ، الإصابة 2/46-47، الاستيعاب 2/109-110، تجريد أسماء الصحابة 1/73.
(4) مسلم في الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/890.(1/446)
وأما قوله «وعترتي أهل بيتي وأنها(1) لن يفترقا حتى يردا على الحوض(2)» فهذا رواه الترمذي. وقد سُئل عنه أحمد بن حنبل فضعفه، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح. وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة، قالوا: ونحن نقول بذلك، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى(3) وغيره.
لكن أهل البيت لم يتفقوا – ولله الحمد – على شيء من خصائص مذهب الرافضة، بل هم المبرءون المُنزهون عن التدنس بشيءٍ منه.
وأما قوله: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح»(4) فهذا لا يُعرف له إسناد لا صحيح ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يُعتمد عليها، فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا مما يزيده وهنا.
__________
(1) هكذا في المنهاج ولعل الصواب (وأنهما).
(2) الترمذي في المناقب باب مناقب أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - 5/663، والمسند 3/14، 17، 26، 59، 5/181-182، 189-190.
(3) سبقت ترجمته.
(4) رواه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير، تفسير سورة هود 2/343 عن أبي ذر، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يُخرجاه، وأورده السيوطي في الجامع الصغير 2/460، وعزاه إلى البزار عن ابن عباس وابن الزبير وإلى الحاكم عن أبي ذر، ورمز له بالحسن (ح) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع 5/131.(1/447)
الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن عترته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهو الصادق المصدوق، فيدل على أن إجماع العترة حجة، وهذا قول طائفة من أصحابنا، وذكره القاضي في "المعتمد" لكن العترة هم بنو هاشم كلهم: ولد العباس، وولد علي، وولد الحارث بن عبد المطلب، وسائر بني أبي طالب وغيرهم(1)، وعلي وحده ليس هو العترة، وسيد العترة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
يبين ذلك أن علماء العترة – كابن عباس وغيره – لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله، ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في كل ما يُفتي به، ولا أعرف أن أحداً من أئمة السلف – لا من بني هاشم ولا غيرهم – قال: إنه يجب اتباع علي في كل ما يقوله(2).
ثم رد على قول الرافضي: الحادي عشر: ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته، روى أحمد بن حنبل في مُسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد الحسن والحسين، فقال: «من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة»(3).
__________
(1) كما ثبت في صحيح مسلم من قول زيد بن أرقم قال له صحين – بعد ذكره الحديث «أذكركم الله أهل بيتي» السابق – ومَن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟، قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة من بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
(2) المنهاج 7/393-396.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند تحقيق أحمد شاكر 2/25-26، وقال إسناده حسن وقد أطال عليه في التعليق وفي فضائل الصحابة له 2/693-694. والترمذي في سننه في كتاب المناقب باب حدثنا سفيان بن وكيع 5/641-642، وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث جعفر بن محمد إلا من هذا الوجه. وما ورد في "المسند" وفي "فضائل الصحابة" فليس من رواية الإمام أحمد بل هو من رواية ابنه عبد الله حدثني نصر بن علي الجهضمي الأزدي …".(1/448)
والجواب: المطالبة بتصحيح النقل، وهيهات له بذلك. وأما قوله "رواه أحمد" فيُقال: أولاً: أحمد له المُسند المشهور، وله كتاب مشهور في "فضائل الصحابة" روى فيه أحاديث، لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف، لكونها لا تصلح أن تُروى في المُسند، لكونها مراسيل أو ضعافاً بغير الإرسال، ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات، ثم إن القطيعي – الذي رواه عن ابنه عبد الله – زاد عن شيوخه زيادات، وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة.
وبتقدير أن يكون أحمد روى الحديث، فمجرد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحاً يجب العمل به، بل الإمام أحمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناص ضعفها، وهذا في كلامه وأجوبته أظهر وأكبر من أن يحتاج إلى بسط، لا سيما في مثل هذا الأصل العظيم، مع أن هذا من زيادات القطيعي، رواه عن نصر بن علي الجهضمي(1) عن علي بن جعفر(2) عن أخيه موسى بن جعفر(3)(4).
وقد ذكر أن الحسين رضي الله عنه استشهد يوم عاشوراء سنة 61 هـ وأن الرافضة أحدثوا الحزن والنوح واللطم في يوم عاشوراء وقابلهم طائفة اتخذته يوم فرح وعيد فقال (والحسين رضي الله عنه استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وهي أول سنة مُلك يزيد، والحسين استشهد قبل أن يتولى على شيء من البلاد)(5).
__________
(1) نصر بن علي الجهضمي، وثقه ابن حبان، روى عنه ابنه ووكيع وعبيد الله بن موسى ومسلم بن إبراهيم، خلاصة تهذيب الكمال 3/91-92، التقريب/ 561، التاريخ الكبير 8/103، السير 12/136.
(2) علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، هو أخو موسى الكاظم، وهو مقبول، وقد روى عنه الترمذي رواية واحدة، ت سنة 210 هـ، التقريب/ 399، تهذيب التهذيب 7/293.
(3) سبقت ترجمته.
(4) المنهاج 7/397-400.
(5) المنهاج 4/522.(1/449)
وصار الشيطان بسبب قتل الحسين - رضي الله عنه - يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء، من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي، وما يُفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنتهم، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب، حتى يسب السابقون الأولون، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها دخلها الكذب، وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجباً ولا مُستحباً باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله، وكذلك بدعة السرور والفرح(1).
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عن الحسن: «إن بني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(2)، فأثنى على الحسن بالإصلاح، ولو كان القتال واجباً أو مُستحباً لما مدح تاركه(3).
وقد رد على ادعاء الرافضي تحريم ذرية فاطمة على النار(4)، فقال: (والحديث الذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث، أيضا، فإن قوله: "إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار"(5)، يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها على النار وهذا باطل قطعاً، فإن سارة أحصنت فرجها، ولم يُحرم الله جميع ذريتها على النار.
__________
(1) المنهاج 4/554.
(2) البخاري في الصلح "باب ابني هذا سيد" 3/169-170، وفي فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب مناقب الحسن والحسين 4/216، والفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين 8/98-99.
(3) المنهاج 1/539-540.
(4) انظر المنهاج 4/58-59.
(5) الموضوعات لابن الجوزي 1/422، تنزيه الشريعة لابن عراق 1/417-418، والفوائد المجموعة للشوكاني 392-393.(1/450)
وأيضاً ففضيلة فاطمة ومزيتها ليست بمجرد إحصان فرجها، فإن هذا يُشارك فيه فاطمة جمهور نساء المؤمنين، وفاطمة لم تكن سيدة نساء العالمين بهذا الوصف، بل بما هو أخص منه. وأيضاً فليست ذرية فاطمة كلهم مُحرَّمين على النار، بل فيهم البر والفاجر)(1).
* * *
المبحث الرابع
خالد بن الوليد - رضي الله عنه -
رد المطاعن التي يطعن بها الرافضة عليه:
الرد على قول الرافضي:
(وسموا خالد بن الوليد: سيف الله، عناداً لأمير المؤمنين، الذي هو أحق بهذا الاسم، حيث قتل بسيفه الكفار، وثبتت بواسطته قواعد الدين، وقال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليٌ سيف الله وسهم الله، وقال علي على المنبر: أنا سيف الله على أعدائه، ورحمته لأوليائه).
وخالد لم يزل عدواً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُكذباً له، وهو كان السبب في قتل المسلمين يوم أُحد، وفي كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي قتل حمزة عمه، ولما تظاهر بالإسلام بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على بني جذيمة ليأخذ منهم الصدقات، فخانه وخالفه على أمره وقتل المسلمين، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه خطيباً بالإنكار عليه رافعاً يديه إلى السماء حتى شوهد بياض إبطيه، وهو يقول: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ثم أنفذ إليه بأمير المؤمنين لتلافي فارطة، وأمره بأن يسترضي القوم من فعله.
__________
(1) المنهاج 4/62، 94.(1/451)
فيُقال: أما تسمية خالد سيف الله فليس هو مختصاً به، بل هو سيف من سيوف الله سله الله على المشركين، هكذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أول من سماه بهذا الاسم، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أيوب السختياني، عن حميد بن هلال(1)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى زيداً(2) وجعفراً(3) وابن رواحة(4) للناس قبل أن يأتيه خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله خالد، حتى فتح الله عليهم»(5)
__________
(1) هو حميد بن هلال بن سويد بن هبيرة، قيل: إنه مات في ولاية خالد بن عبد الله على العراق، وقيل الظاهر أنه بقي إلى قريب سنة 120 هـ، احتج به الجماعة، السيرة/ 309-311، تهذيب الكمال 7/403-406.
(2) هو زيد بن حارثة بن شراحيل أو شراحبيل بن كعب. الأمير الشهيد المُسمى في سورة الأحزاب، أبو أسامة، سيد الموالي، وأسبقهم إلى الإسلام وحِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو حبّه، استشهد يوم مؤتة سنة 8 هـ، السير 1/220-230، تهذيب التهذيب 3/401-402.
(3) هو جعفر بن أبي طالب السيد الشهيد، الكبير الشأن، علم المجاهدين، أبو عبد الله ابن عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرشي الهاشمي، أخو علي بن أبي طالب وهو أسن من علي بعشر سنين هاجر من الحبشة إلى المدينة، وأقام شهراً ثم أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش غزوة مؤتة فاستشهد سنة 8 هـ، السير 1/206، الشذرات 1/12، تهذيب التهذيب 2/98-99.
(4) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة، الأمير السعيد، الشهيد، أبو عمرو الأنصاري الخزرجي البدري النقيب الشاعر، شهد بدراً، كان من كتاب الأنصار، وكان أحد القواد الثلاثة الذين قتلوا في مؤتة سنة 8 هـ. السير 1/230-240، الشذرات 1/12، تهذيب الكمال 14/506-508.
(5) البخاري فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب خالد بن الوليد 5/27، والمغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام 5/143.(1/452)
.
وهذا لا يمنع أن يكون غيره سيفاً لله تعالى، بل هو يتضمن أن سيوف الله مُتعددة وهو واحد منها، ولا ريب أن خالد قتل من الكفار أكثر مما قتل غيره، وكان سعيداً في حروبه، وهو أسلم قبل فتح مكة بعد الحديبية، هو وعمرو بن العاص وشيبة بن عثمان(1) وغيرهم ومن حين أسلم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمره في الجهاد، وخرج في غزوة مؤتة التي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة»(2) وكان قبل فتح مكة ولهذا لم يشهد هؤلاء فتح مكة، فلما قتل هؤلاء الأمراء أخذ الراية خالد بن الوليد من غير إمرة، ففتح الله على يديه، وانقطع في يده يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت معه إلا صفيحة يمانية، رواه البخاري ومسلم(3).
__________
(1) هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، حاجب الكعبة رضي الله عنه، كان مشاركاً لابن عمه عثمان بن طلحة في سدانة بيت الله تعالى، أسلم بعد الفتح وحسُن إسلامه وقاتل في حنين وثبت مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ت سنة 59 هـ، وقيل 58 هـ. السير 3/12-13، تهذيب الكمال 12/604-607.
(2) البخاري، المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام 5/86-87، المسند 4/90.
(3) البخاري، المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام 5/87 ومسلم.(1/453)
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره يوم فتح مكة، وأرسله إلى هدم العزى(1)، وأرسله على بني جذيمة(2)، وأرسله إلى غير هؤلاء وكان أحياناً يفعل ما ينكره عليه، كما فعل يوم بني جذيمة، وتبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك.
ثم إنه مع هذا لا يعزله، بل يُقره على إمارته، وقد اختصم هو وعبد الرحمن بن عوف يوم بني جذيمة، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»(3).
وأمره أبو بكر على قتال أهل الردة، وفتح العراق، والشام، فكان من أعظم الناس غناء في قتال العدو، وهذا أمر لا يمكن أحد إنكاره، فلا ريب أنه سيف من سيوف الله سله الله على المشركين.
__________
(1) البخاري، المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان 5/91. وفيه عن إمرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالد، تاريخ الأمم والملوك 3/56، وفيه عن إمرة خالد 3/56، وفيه عن هدم العزى، وانظر السير 1/369، وفيه عن هدم العزى.
(2) أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثمانٍ من الهجرة داعياًَ لا مقاتلاً فذهب إليهم وقتل بعضاً منهم فقال رسول الله: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» الكامل في التاريخ 2/255-256.
(3) سبق تخريجه.(1/454)
وأما قوله: (وخالد لم يزل عدواً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُكذباً له) فهذا كان قبل إسلامه، كما كان الصحابة كلهم مُكذبين له قبل الإسلام، من بني هاشم وغير بني هاشم، مثل أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخيه ربيعة، وحمزة عمه، وعقيل(1) وغيرهم، وقوله: "وبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني جذيمة ليأخذ منهم الصدقات، فخانه وخالفه على أمره وقتل المسلمين فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيباً بالإنكار عليه رافعاً يديه إلى السماء حتى شوهد بياض إبطيه، وهو يقول: "اللهم إني أبرأ مما صنع خالد" ثم أنفذ إليه بأمير المؤمنين لتلافي فارطة، وأمره أن يسترضي القوم من فعله.
__________
(1) هو عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أسن من علي بعشرين سنة، أسلم قبل الحديبية، وشهد مؤتة وكان من أنسب قريش، له أحاديث، مات في خلافة معاوية، الخلاصة 2/238، تجريد أسماء الصحابة 386.(1/455)
فيُقال: هذا النقل فيه من الجهل والتحريف ما لا يخفى على من يعلم السيرة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله إليهم بعد فتح مكة ليُسلموا، فلم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلم يقبل ذلك منهم، وقال: إن هذا ليس بإسلام، فقتلهم، فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة، كسالم مولى أبي حذيفة(1)، وعبد الله بن عمر، وغيرهما ولما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"(2)، لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان. وقد قال تعالى: { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (3) ثم أرسل علياً وأرسل معه مالاً، فأعطاهم نصف الديات وضمن لهم ما تلف حتى ميلغة الكلب، ودفع إليهم ما بقي احتياطاً لئلا يكون بقي شيء لم يعلم به.
ومع هذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعزل خالد عن الإمارة، بل ما زال يؤمره ويُقدمه، لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب أمر بالرجوع عن ذلك، وأقر على ولايته ولم يكن خالد مُعانداً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كان مُطيعاً له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية.
وكذلك قوله عن خالد: "إنه خانه وخالف أمره وقتل المسلمين".
__________
(1) هو سالم بن معقل، أصله من اصطخر، من السابقين الأولين البدريين المُقربين وكان من القراء، قُتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر. السير 1/167-170، تجريد أسماء الصحابة 1/203، الإصابة 4/103-106.
(2) البخاري، الجزية، باب إذا قالوا صبأنا ولم يُحسنوا أسلمنا 4/100-101، والمغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني جذيمة، 5/160-161، والدعوات باب رفع الأيدي في الدعاء 8/74، والأحكام، باب إذا قضى الحكام بجور أو بخلاف أهل العلم فهو رد 9/73.
(3) الشعراء/ 216.(1/456)
كذب على خالد، فإن خالداً لم يتعمد خيانة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مخالفة أمره. ولا قتل من هو مسلم معصوم عنده، ولكنه أخطأ كما أخطأ أسامة بن زيد(1) في الذي قتله بعد أن قال: لا إله إلا الله(2)،(3).
* * *
المبحث الخامس
عموم الصحابة – رضي الله عنهم
المطلب الأول – فضائلهم:
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»(4).
وقال تعالى: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (5) فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة.
__________
(1) هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، المولى، الأمير، الكبير، حِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومولاه وابن مولاه، استعمله النبي على جيش لغزوة الشام، ت سنة 54 هـ، السير 2/496-507، الإصابة 1/45، العِبر 1/42.
(2) مسلم، الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/96-97، وأبو داود، الجهاد، باب على ما يُقاتل المشركون 3/61، المُسند 4/438-439.
(3) المنهاج 4/476-488.
(4) مسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل أصحاب الشجرة 4/1942.
(5) التوبة/ 117.(1/457)
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا } (1) إلى قوله: { وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } (2) فأثبت الموالاة بينهم.
وقال للمؤمنين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (3) إلى قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (4).
وقال: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (5) فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم، والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة، وأصل المُعاداة البغض، وهم يبغضونهم ولا يحبونهم(6).
ولما قال السلف: إن الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة، كان هذا كلاماً حقاً. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «لا تسبوا أصحابي»(7) يقتضي تحريم سبهم، مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عامة.
__________
(1) الأنفال/ 72.
(2) الأنفال/ 75.
(3) المائدة/ 51.
(4) المائدة/ 55-56.
(5) التوبة/ 71.
(6) المنهاج 2/28-30 انظر: 2/17-26.
(7) سبق تخريجه.(1/458)
وأما الاستغفار للمؤمنين عموماً فقد قال تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (1)،(2).
وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: أي الناس أكرم؟ فقال: «أتقاهم»، فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: «فيوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله» قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: «أفعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»(3).
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»(4) رواه مسلم.
ولهذا أثنى الله في القرآن على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأخبر أنه رضي عنهم، كما أثنى على المؤمنين عموماً، فكون الرجل مؤمناً وصف استحق به المدح والثواب عند الله، وكذلك كونه ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وصف يستحق به المدح والثواب. ثم هم متفاوتون في الصحبة فأقومهم بما أمر الله به ورسوله في الصحبة، أفضل ممن هو دونه، كفضل السابقين الأولين على من دونهم، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، ومنهم أهل بيعة الرضوان، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وهؤلاء لا يدخل النار منهم أحد كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(5).
__________
(1) محمد/ 19.
(2) المنهاج 5/234-235.
(3) البخاري في الأنبياء باب قوله تعالى: { وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } 4/111. وفي باب قوله تعالى: { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ … } الآية 4/121-122.
(4) مسلم في الذكر والدعاء باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن 400/ 2074، من حديث طويل، وابن ماجه في المقدمة باب فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/82 من حديث طويل.
(5) المنهاج 4/601-602.(1/459)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه»(1).
وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم في أول الإسلام وقلة أهله وكثرة الصوارف عنه، وضعف الداعي إليه لا يمكن لأحد أن يحصل له مثله ممن بعدهم. وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور، وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس، وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة.
وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول، مؤمنين به، مُجاهدين معه، إيمان ويقين لم يُشركهم فيه من بعدهم … وقد ثبت ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة في عدة أحاديث صحيحة، من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين يقول فيها: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»(2)، ويشك بعض الرواة هل ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة، بل لحقائقها التي في القلوب، والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلاً عظيماً. وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم، فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين(3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه البخاري في الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد 3/151، وفي فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه 4/189. وغيرها، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم 4/1962-1965.
(3) المنهاج 6/223-226.(1/460)
وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا خالد لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه»(1)، فنهى خالداً ونحوه، ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، أن يتعرضوا للذين صحبوه قبل ذلك وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وبين أن الواحد من هؤلاء لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه. فإذا كان هذا نهيه لخالد بن الوليد وأمثاله من مسلمة الحديبية، فكيف مسلمة الفتح الذين لم يسلموا إلا بعد فتح مكة؟ مع أن أولئك كانوا مهاجرين، فإن خالد وعمراً، ونحوهما ممن أسلم بعد الحديبية، وقبل فتح مكة، وهاجر إلى المدينة، هو من المهاجرين.
وأما الذين أسلموا بعد فتح مكة فلا هجرة لهم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»(2) رواه البخاري.
ولهذا كان إذا أتى بالواحد من هؤلاء لمبايعة بايعه على الإسلام ولا يُبايعه على الهجرة(3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه البخاري في الجهاد والسير باب فضل الجهاد والسير 3/400، وفي مسلم في الإمارة باب المبايعة بعد فتح مكة 3/1487.
(3) المنهاج 4/397-398.(1/461)
وقد بين مستند من شهد لهم أهل السنة بالجنة وهو النص والإمساك عما شجر بينهم: (بل نشهد أن العشرة في الجنة، وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة، وأن أهل بدر في الجنة، كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، وقد دخل في الفتنة خلق من هؤلاء المشهود لهم بالجنة والذي قتل عمار بن ياسر(1) هو أبو الغادية(2)، وقد قيل: إنه من أهل بيعة الرضوان، ذكر ذلك ابن حزم، فنحن نشهد لعمار بالجنة، ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة … فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب، بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب فإن الله لا يُعذبه في الآخرة، ولا يُدخله النار، بل يُدخله الجنة بلا ريب(3).
وأهل السنة يتولون عثمان وعلياً جميعاً، ويتبرءون من التشيع والتفرق في الدين الذي يوجب موالاة أحدهما ومُعاداة الآخر. وقد استقر أمر أهل السُنة على أن هؤلاء مشهودٌ لهم بالجنة، ولطلحة والزبير، وغيرهما مما شهد له الرسول بالجنة كما قد بسط في موضعه، وكان طائفة من السلف يقولون: لا نشهد(4) بالجنة إلا للرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وهذا قول محمد ابن الحنفية(5) والأوزاعي(6) وطائفة أخرى من أهل الحديث، كعلي بن المديني(7) وغيره، يقولون هم في الجنة، ولا يقولون نشهد له بالجنة.
__________
(1) سبق ترجمته.
(2) هو يسار بن سبع الجهني "قاتل عمار" له صحبة، سكن الشام ونزل في واسط ويُعد في الشاميين، روى عنه كلثوم بن جبر وغيره. الاستيعاب 12/75-76، السير 2/544-545، الإصابة 11/287-289.
(3) المنهاج 6/204-205.
(4) هكذا في المنهاج ولعل الصواب "يشهد" كما في بعض نسخه الخطية.
(5) سبقت ترجمته.
(6) سبقت ترجمته.
(7) علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم، أبو الحسن بن المديني بصري ثقة ثبت إمام، أعلم أهل عصره بالحديث وعلله، ت 234 هـ، على الصحيح. التقريب /403، الخلاصة 2/251-252.(1/462)
والصواب أنا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة، وقد ناظر أحمد بن حنبل لعلي بن المديني في هذه المسألة. وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق وهذه المسألة لبسطها موضع آخر، الكلام هنا فيما يذكر عنهم من أمور يُراد بها الطعن عليهم(1).
أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله، وقولهم حق وعدل لا يتناقض. وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبه إن شاء الله تعالى على بعضه، وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمهات المؤمنين: عائشة وغيرها، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء، وأهل السنة يقولون: إن أهل الجنة ليس من شروطهم سلامتهم عن الخطأ، بل ولا عن الذنب بل يجوز أن يُذنب الرجل منهم ذنباً صغيراً أو كبيراً ويتوب منه. وهذا متفق عليه بين المسلمين، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تُمحى بالحسنات التي هي أعظم منها وبالمصائب المُكفرة وغير ذلك.
__________
(1) المنهاج 6/202-203.(1/463)
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون: ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم، وما قدّر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم! إما بتوبة، وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مُكفرة، وإما بغير ذلك، فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه إنهم من أهل الجنة، فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة، وإذا لم يمت أحد منهم على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة، ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة، ولو لم يعلم أن أولئك المعنيين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة، ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك، فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد منهم باطناً وظاهراً، وحسناته وسيئاته واجتهاداته، أمر يتعذر علينا معرفته؟!، فكان كلامنا في ذلك كلاماً فيما لا نعلمه والكلام بلا علم حرام، فلهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كان كثير من الخوض في ذلك – أو أكثره – كلاماً بلا علم، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومُعارضة الحق المعلوم، فكيف إذا كان كلاماً بهوى يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟!، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار»(1).
__________
(1) رواه أبو داود في الأقضية باب "في القاضي …" 4/5، وابن ماجه في الأحكام باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2/776 صحيح الجامع الصغير للألباني 4/151.(1/464)
فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره، فكيف بالقضاء بين الصحابة في أمور كثيرة؟ فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق كان مستوجباً للوعيد، ولو تكلم بحق لقصد اتباع الهوى لا لوجه الله تعالى، أو يُعارض به حقاً آخر، لكان أيضاً مستوجباً للذم والعقاب.
ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم، ورضا الله عنهم، واستحقاقهم الجنة، وأنهم خير هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس – لم يُعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مُشتبهة: منها ما لا يعلم صحته ومنها ما يتبين كذبه ومنها ما لا يعلم كيف وقع، ومنها ما يُعلم عذر القوم فيه، ومنها ما يُعلم توبتهم منه، ومنها ما يُعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره، فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل وكذب وتناقض كحال هؤلاء الضُلاَّل(1). وما شجر بينهم غايته أن يكون ذنباً، والذنوب مغفورة بأسباب مُتعددة هم أحق بها ممن بعدهم(2).
المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب، وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين:
أحدهما: أن كل ما تنازع فيه الناس: هل يمكن كل أحدٍ اجتهادٌ يُعْرف به الحق؟ أم الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر؟.
والأصل الثاني: المجتهد العاجز عن معرفة الصواب: هل يُعاقبه الله أم لا يُعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب؟
وإذا عرف هذان الأصلان، فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميع ما يطعن به فيهم أكثره كذب. والصدق منه غايته أن يكون ذنباً أو خطأ، والخطأ مغفور والذنب له أسباب مُتعددة توجب المغفرة، ولا يمكن لأحد أن يقطع بأن واحداً منهم فعل من الذنوب ما يوجب النار لا محالة. وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله. فهذا جواب مُجمل(3).
__________
(1) المنهاج 4/309-313.
(2) المنهاج 4/373.
(3) المنهاج 5/460-461.(1/465)
وكذلك الكلام في تفضيل الصحابة يتقى فيه نقص أحد عن رتبته أو الغض من درجته أو دخول الهوى والفرية في ذلك، كما فعلت الرافضة والنواصب الذين يبخسون بعض الصحابة حقوقهم(1).
وقد وضح مسلك الرافضة في الصحابة فقال: (والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق، فوالوا بعضهم وغلوا فيه، وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته. وقد يسلك كثير من الناس ما يُشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم، فيحصل بينهم رفض في غير الصحابة: تجد أحد الحزبين يتولى فلاناً ومحبيه، ويبغض فلاناً ومحبيه، وقد يسب ذلك بغير حق.
وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله. فقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (2)، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } (3)، وقال تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (4).
__________
(1) المنهاج 7/257.
(2) الأنعام/ 159.
(3) آل عمران/ 102-103.
(4) آل عمران/ 105-107.(1/466)
قال ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة(1) ولهذا كان أبو أُمامة الباهلي(2) وغيره يتأولها في الخوارج(3)،(4).
النهي عما شجر بينهم: (ولهذا يُنهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاماً بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مُذنبان أو مُخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة.
لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة، وأجل قدراً، وأنزه أعراضاً، وقد ثبت من فضائلهم خصوصاً وعموماً ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثماً من الكلام في غيرهم)(5).
ثم ذكر أن علم الشريعة محفوظ وخاصةً الكتاب والسنة وأن الله هيأ له من يحفظه ويذب عنه فقال: (وهذا علم أقام الله له من حفظ به على الأمة ما حفظ من دينها وغير هؤلاء تبع فيه: إما مُستدل بهم، وإما مُقلد لهم، كما أن الاجتهاد في الأحكام أقام الله له رجالاً اجتهدوا فيه، حتى حفظ الله بهم على الأمة ما حفظ من الدين، وغيرهم لهم تبع فيه: إما مُستدل بهم، وإما مُقلد لهم.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 1/390، والدر المنثور للسيوطي 2/291 عند تفسير الآية { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } الآية، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/71-72.
(2) هو صدي بن عجلان الباهلي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نزيل حمص، روى علماً كثيراً ت 86 هـ، وقيل 81 هـ، الاستيعاب 11/131-133، السير 3/359-363، الإصابة 5/133-135، التقريب/ 276.
(3) انظر: تفسير الطبري 4/40، وابن كثير 1/390، والدر المنثور للسيوطي 2/292.
(4) المنهاج 5/133-134.
(5) المنهاج 5/146-147، انظر 2/14.(1/467)
مثال ذلك: أن خواص أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أعلم به ممن هو دونهم في الاختصاص، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأُبي بن كعب ومُعاذ بن جبل(1)، وابن مسعود وبلال وعمار بن ياسر وأبي ذرٍ الغفاري وسلمان وأبي الدرداء(2)، وأبي أيوب الأنصاري(3) وعُبادة بن الصامت(4) وحُذيفة وأبي طلحة(5) وأمثال هؤلاء من السابقين، الأولية من المهاجرين والأنصار: هم أكثر اختصاصاً به ممن ليس مثلهم، لكن قد يكون بعض الصحابة أحفظ وأفقه من غيره، وإن كان غيره أطول صحبة، وقد يكون أيضاً أخذ عن بعضهم من العلم أكثر مما أخذ عن غيره لطول عمره، وإن كان غيره أعلم منه، كما أخذ عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس، وعائشة وجابر وأبي سعيد(6)
__________
(1) مُعاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، من أعيان الصحابة، شهد بدراً وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام، سنة 18 هـ، تجريد أسماء الصحابة 2/80، التقريب/ 535.
(2) هو عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري، أبو الدرداء، مختلف في اسم أبيه ومشهور بكنيته، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، حكيم هذه الأمة ت 32 هـ، وقيل ت 31 هـ، السير 2/353، الإصابة 7/182-183، التقريب/ 434.
(3) هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، أبو أيوب، من كبار الصحابة، شهد بدراً، توفي قرب القسطنطينية غازياً الروم سنة 50 هـ وقيل بعدها، تجريد أسماء الصحابة 1/150، التقريب/ 188.
(4) هو عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد المدني، أحد النقباء، بدري مشهور توفي بالرملة سنة 34 هـ، وقيل عاش إلى خلافة معاوية، تجريد أسماء الصحابة 1/394، التقريب/ 292، الخلاصة 2/32.
(5) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شهد بدراً وما بعدها، ت 34 هـ، تجريد أسماء الصحابة 1/199، التقريب/223.
(6) هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، وقد سبقت ترجمته.(1/468)
من الحديث أكثر مما أخذ عمن هو أفضل منهم، كطلحة والزبير ونحوهم.
وأما الخلفاء الأربعة فلهم في تبليغ كليات الدين، ونشر أصوله، وأخذ الناس ذلك عنهم، ما ليس لغيرهم، وإن كان يروى عن صغار الصحابة من الأحاديث المُفردة أكثر مما يُروى عن بعض الخلفاء، فالخلفاء لهم عموم التبليغ وقوته التي لم يشركهم فيها غيرهم، ثم لما قاموا بتبليغ ذلك شاركهم فيه غيرهم، فصار متواتراً كجمع أبي بكر وعمر القرآن في الصحف ثم جمع عثمان له في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار، فكان الاهتمام بجمع القرآن وتبليغه أهم مما سواه.
وكذلك تبليغ شرائع الإسلام إلى أهل الأمصار، ومقاتلتهم على ذلك، واستنابتهم في ذلك الأمراء والعلماء، وتصديقهم لهم فيما بلغوه عن الرسول، فبلغ من أقاموه من أهل العلم، حتى صار الدين منقولاً نقلاً عاماً متواتراً ظاهراً معلوماً قامت به الحجة، ووضحت به المحجة، وتبين به أن هؤلاء كانوا خلفاءه المهديين الراشدين، الذين خلفوه في أمته علماً وعملاً.
وهو - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى في حقه: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } (1) فهو ما ضل وما غوى، وكذلك خلفاؤه الراشدون، الذين قال فيهم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»(2) فإنهم خلفوه في ذلك، فانتفى عنهم بالهُدى الضلال، وبالرُشد الغي.
وهذا هو الكمال في العلم والعمل، فإن الضلال عدم العلم، والغي اتباع الهوى. ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } (3).
__________
(1) النجم/ 1-4
(2) سبق تخريجه.
(3) الفاتحة/ 6-7.(1/469)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون»(1) فالمهتدي الراشد الذي هداه الله الصراط المستقيم، فلم يكن من أهل الضلال الجُهال ولا من أهل الغي المغضوب عليهم، والمقصود هنا أن بعض الصحابة أعلم بالرسول من بعض، وبعضهم أكثر تبليغاً لما علمه من بعض، ثم قد يكون عند المفضول علم قضية معينة لم يعلمها الأفضل، فيستفيدها منه، ولا يوجب ذلك أن هذا أعلم منه مُطلقاً، ولا أن هذا الأعلم يتعلم من ذلك المفضول ما امتاز به(2).
المطلب الثاني: الرد على ادعائهم ردة الصحابة:
(وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً، فإن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه؟!.
وأما الشهوة: فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حباً لله ورسوله، طوعاً غير إكراه، كيف يعادون الله ورسوله طلباً للشرف والمال؟!.
ثم هي في حال قدرتهم على المعاداة، وقيام المقتضي للمعاداة، لم يكونوا معادين لله ورسوله، بل موالين لله ورسوله، معادين لمن عادى الله ورسوله، فحين قوي المقتضي للموالاة، وضعفت القدرة على المعاداة، يفعلون نقيض هذا؟!
__________
(1) رواه الترمذي في تفسير القرآن باب "سورة فاتحة الكتاب" 5/201-204، والمسند 4/378-379.
(2) المنهاج 7/422-425.(1/470)
هل يظن هذا إلا من هو أعظم الناس ضلالاً؟ وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه، وكمال الإرادة له، وجب وجوده. وهم في أول الإسلام كان المقتضي لإرادة معاداة الرسول أقوى، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذٍ أقوى، حتى كان يُعاديه آحاد الناس، ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن.
ولما ظهر الإسلام وانتشر، كان المُقتضي للمعاداة أضعف. والقدرة عليها أضعف، ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولاً، ثم عاداه ثانياً لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته، ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى، والموجب لإرادة المعاداة كان يقيناً أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف، كأصحاب مُسيلمة وأهل نجد.
أما المهاجرون الذي أسلموا طوعاً فلم يرتد منهم -ولله الحمد- أحد، وأهل مكة لما أسلموا بعد الفتح همَّ طائفة منهم بالردة، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو.
وأهل الطائف لما حاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة، ثم رأوا ظهور الإسلام، فأسلموا مغلوبين، فهمُّوا بالردة، فثبتهم الله بعثمان بن أبي العاص(1).
__________
(1) هو عثمان بن أبي العاص الثقفي صحابي جليل "عامل الطائف والبحرين وعُمان" نزيل البصرة وتوفي فيها في خلافة معاوية سنة 51 هـ. التقريب/ 384، الخلاصة 2/216-217.(1/471)
فأما أهل مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما أسلموا طوعاً، والمهاجرون منهم والأنصار، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد بل ضعف غالبهم بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين، وجهاد الكافرين، فالحمد لله الذي منَّ على الإسلام وأهله بصديق الأمة، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله وحفظه به بعد وفاته، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء(1).
ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقاً على الهدى والرشد، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك، إذ يقول تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (2)، كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعًا على الهدى، وأبعد عن التفرق والاختلاف، من هذه الأمة، لأنهم أكمل اعتصاماً بحبل الله الذي هو كتابه المُنزل، وما جاء به نبيه المُرسل. وكل من كان أقرب على الاعتصام بحبل الله وهو اتباع الكتاب والسنة كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح، وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة(3).
المطلب الثالث: كيفية رد المطاعن التي توجه للصحابة:
قال الرافضي: "وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور منها أشياء كثيرة: حتى صنف الكلبي كتاباً "في مثالب الصحابة" ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل البيت.
__________
(1) المنهاج 7/477-479.
(2) آل عمران/ 110.
(3) المنهاج 6/364-365.(1/472)
والجواب: أن يُقال: قبل الأجوبة المُفصلة عما يُذكر من المطاعن أن ما يُنقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان: أحدهما: ما هو كذب: إما كذب كله، وإما مُحرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى(1) ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي(2) وأمثالهما من الكذابين.
__________
(1) لوط بن يحيى بن سعيد أبو مخنف الأزدي الغامدي، عالم بالسير والأخبار من أهل الكوفة، قال الدارقطني: "ضعيف" وقال ابن عدي "شيعي مُحترق صاحب أخبارهم" وقال يحيى "ليس بثقة" ت سنة 157 هـ، لسان الميزان 4/492، الضعفاء الكبير 4/18-19، الأعلام 5/245.
(2) هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أبو المنذر الإخباري النسابة العلامة، قال أحمد: "إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يُحدث عنه، وقال الدارقطني وغيره: "متروك" وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة، ت سنة 204 هـ، وقيل غير ذلك. السير 1/101-103، ميزان الاعتدال 4/304-305، لسان الميزان 6/196-197.(1/473)
ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك، وهو من أكذب الناس، وهو شيعي يروي عن أبيه(1)، وعن أبي مخنف، وكلاهما متروك كذاب. وقال الإمام أحمد في هذا: "الكلبي ما ظننت أن أحداً يُحدث عنه، إنما هو صاحب سمر وشبه(2)، وقال الدارقطني: "هو متروك"(3)، وقال ابن عدي(4): "هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار، ولا أعرف له في المُسند شيئاً وأبوه أيضاً كذاب(5)، وقال زائدة(6) والليث(7) وسليمان التيمي(8): "هو كذاب". وقال يحيى(9): "ليس بشيء كذاب
__________
(1) محمود بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي أبو النضر الكوفي، قال ابن عدي: "رضوه في التفسير" وقال أبو حاتم: "أجمعوا على ترك حديثه"، واتهمه جماعة بالوضع، ت سنة 140 هـ، التقريب/ 479، الخلاصة 2/405، المجروحين 2/253.
(2) الضعفاء الكبير 4/339، لسان الميزان 6/196، تاريخ بغداد 14/45، 46.
(3) انظر الضعفاء والمتروكون/ 287، لسان الميزان6/196.
(4) هو عبد الله بن عدي بن عبد الله الجرجاني، ولد سنة 277 هـ، له كتاب الكامل في الجرح والتعديل، قال ابن عساكر: "كان ثقة على لحن فيه"، ت سنة 365 هـ، السير 16/154-156، الشذرات 3/51.
(5) انظر الكامل في ضعفاء الرجال 7/2568.
(6) هو أبو الصلت زائدة بن قُدامة الثقفي الكوفي، قال أحمد بن حنبل: "إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تُبال أن لا تسمعه عن غيرهما" قال النسائي "ثقة"، ت سنة 160 هـ، وقيل 161 هـ، وقيل 162 هـ، السير 7/375-378، والخلاصة 1/332.
(7) سبقت ترجمته.
(8) سليمان بن بلال التيمي مولاهم أبو محمد المدني أحد العلماء، وثقه أحمد وابن معين، قال البخاري: مات سنة 277 هـ، وقيل غير ذلك. الخلاصة 1/409، التقريب/ 250.
(9) هو يحيى بن معين بن عون الغطفاني البغدادي، أبو زكريا، ولد سنة 158 هـ، قال النسائي: "أبو زكريا أحد الأئمة في الحديث ثقة مأمون". ت سنة233 هـ بالمدينة، السير 11/71-96، التاريخ الكبير 8/307، الطبقات 7/354.(1/474)
ساقط(1)، وقال ابن حبان: "وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه"(2).
النوع الثاني: ما هو صدق. وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر. وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنباً مُحققاً فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة، لأن الذنب المُحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب مُتعددة.
منها: التوبة الماحية. وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم.
ومنها: الحسنات الماحية للذنوب، فإن الحسنات يُذهبن السيئات، وقد قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (3).
ومنها: المصائب المُكفرة، ومنها: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم، فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح، ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة(4)،(5).
* * *
الباب الثالث
الرافضة والإمامة
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: الوصية.
الفصل الثاني: الإمامة عند الرافضة.
الفصل الثالث: الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم.
الفصل الرابع: المهدي المُنتظر.
الفصل الأول:
الوصية
حديث الوصي والرد عليه:
__________
(1) انظر: يحيى بن معين وكتابه التاريخ 3/280، 281.
(2) المجروحين 3/91.
(3) النساء/ 31.
(4) وبقية الأسباب من الاستغفار، وما يُفعل بعد الموت من عمل صالح يُهدى له، وما يُبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين. وما يحصل في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة، وأخيراً المقاصة يوم القيامة بين المؤمنين بعد عبور الصراط. انظر المنهاج 6/205-238.
(5) المنهاج 5/81-83.(1/475)
(قال الرافضي: "ومنها ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك، قال: قلنا لسلمان: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - من وصيه، فقال له سلمان: من وصيك؟ فقال: يا سلمان من كان وصي موسى؟ قال: يوشع بن نون. قال: فإن وصيي ووارثي يقضي ديني ويُنجز موعدي علي بن أبي طالب"(1).
والجواب: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ليس هو في مُسند الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد قد صنف كتاباً في "فضائل الصحابة" ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة من الصحابة، وذكر فيها ما روي في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك، وليس كل ما رواه يكون صحيحاً. ثم إن في هذا الكتاب زيادات من روايات ابنه عبد الله، وزيادات من رواية القطيعي(2) عن شيوخه.
وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب، كما سيأتي ذكر بعضها – إن شاء الله – وشيوخ القطيعي يروون عمن في طبقة أحمد، وهؤلاء الرافضة جُهال إذا رأوا فيه حديثاً ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل، ويكون القائل لذلك هو القطيعي، وذاك الرجل من شيوخ القطيعي الذين يروون عمن في طبقة أحمد، وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله، لا سيما في مُسند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فإنه زاد زيادات كثيرة)(3).
وقد ادعى كثير من الرافضة أن ما ورد في "غد يرخم" يكون دليلاً على أن علياً قد خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء فيكون هو الوصي قال شيخ الإسلام في الوجه الثالث من وجوه الرد على الرافضي باستدلاله بحديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» في "غد يرخم" … قال:
__________
(1) هذا الحديث موضوع، انظر الموضوعات لابن الجوزي 1/374-377، وقد ذكر عدة طرق وروايات كلها موضوعة.
(2) أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان البغدادي القطيعي الحنبلي، العالم المُحدث راوي "مُسند الإمام أحمد" و"الزهد" و"الفضائل" له. كان مولده سنة 274هـ، وتوفي سنة 368 هـ، وله خمسٌ وتسعون سنة.
(3) المنهاج 5/22-23.(1/476)
(الوجه الثالث: أن يُقال: أنتم ادعيتم أنكم أثبتم إمامته بالقرآن، والقرآن ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلاً، فإنه قال: { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } (1). وهذا اللفظ عام في جميع ما أنزل إليه من ربه، لا يدل على شيء مُعين، فدعوى المدعي أن إمامة علي هي مما بلغها، أو مما أمر بتبليغها، لا تثبت بمجرد القرآن، فإن القرآن ليس فيه دلالة على شيء مُعين، فإن ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتاً بالخبر لا بالقرآن، فمن ادعى أن القرآن يدل على أن إمامة علي مما أمر بتبليغه، فقد افترى على القرآن، فالقرآن لا يدل على ذلك عموماً ولا خصوصاً.
الوجه الرابع: أن يُقال: هذه الآية، مع ما علم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، تدل على نقيض ما ذكروه، وهو أن الله لم ينزلها عليه، ولم يأمره بها، فإنها لو كانت بما أمره الله بتبليغه، لبلغه فإنه لا يعصي الله في ذلك ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد كذب والله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } (2)،(3).
لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُبلغ شيئاً من إمامة علي، ولهم على هذا طرق كثيرة يُثبتون بها هذا العلم.
__________
(1) المائدة/ 67.
(2) المائدة/ 67.
(3) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ } 5/188، وفي كتاب التوحيد باب قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ } 8/209-210، ومسلم في كتاب الإيمان باب { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } … إلخ 1/159، والإمام أحمد في المسند 6/49-50.(1/477)
منها: أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان له أصل لنقل … ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه.
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات، وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فأنكر ذلك عليه، وقالوا: الإمارة لا تكون إلا في قريش، وروى الصحابة – في مواطن متفرقة – الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن: "الإمامة في قريش"(1)، ولم يرو واحد منهم لا في ذلك المجلس ولا غيره، ما يدل على إمامة علي … وأهل العلم بالحديث والسنة الذين يتولون علياً ويحبونه، ويقولون: إنه كان الخليفة بعد عثمان، كأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة، قد نازعهم في ذلك طوائف من أهل العلم وغيرهم، وقالوا: كان زمانه زمان فتنة واختلاف بين الأمة، لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره)(2).
فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا قديما ولا حديثا ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل كما يعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة، وقد جرى تحكيم الحكمين، ومعه أكثر الناس، فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم من ذكر هذا النص، مع كثرة شيعته ولا فيهم من احتج به، في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النص.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 3/129، 183، 4/421، وأبو داود الطيالسي في مُسنده/ 125، والبغوي في شرح السنة تعليقاً جازماً 1/206.
(2) المنهاج 7/47-49.(1/478)
ومعلوم أنه لو كان النص معروفا عند شيعة علي - فضلا عن غيرهم - لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم: هذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خلافته، فيجب تقديمه على معاوية، وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين لو علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص عليه لم يستحل عزله، ولو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول: كيف تعزل مَنْ نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافته؟(1).
وقد احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تقتل عمارا الفئة الباغية»(2)، وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم، وليس هذا متواترا، والنص عند القائلين به متواتر، فبالله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث؟، ولم يحتج أحد منهم بالنص؟(3).
وأما قوله: «إن عليا ادعاها، وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا».
فجوابه من وجوه:
أحدها: إنا لا نسلم أن عليا ادعاها، بل نحن نعلم بالضرورة علما متيقنا أن عليا ما ادعاها قط حتى قتل عثمان، وإن كان قد يميل بقلبه إلى أن يولى، لكن ما قال: إني أنا الإمام، ولا: إنى معصوم، ولا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلني الإمام بعده، ولا أنه أوجب على الناس متابعتي، ولا نحو هذه الألفاظ، بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا ونحوه عنه فهو كاذب عليه، ونحن نعلم أن عليا كان اتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر، الذي تعلم الصحابة كلهم أنه كذب(4). وقد بين أن نفي الرجس لا يوجب العصمة فقال:
__________
(1) المنهاج 7/50-51.
(2) رواه البخاري في قصة بناء المسجد وفيه "ويح عمار تقتله الفئة الباغية" في كتاب الجهاد والسير باب "مسح الغبار عن الناس في السبيل" 3/207، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل … إلخ" 4/2236، والإمام أحمد في مسنده 4/199.
(3) المنهاج 7/51.
(4) المنهاج 7/85-86.(1/479)
(ونفي الرجس لا يوجب أن يكون معصوماً من الخطأ بالاتفاق، بدليل أن الله لم يرد من أهل البيت أن يذهب عنهم الخطأ، فإن ذلك غير مقدور عليه عندهم والخطأ مغفور، فلا يضر وجوده.
وأيضاً فالخطأ لا يدخل فيه عموم الرجس، وأيضاً فإنه لا معصوم من أن يقر على خطأ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يخصون ذلك بالأئمة بعده، وإذهاب الرجس قد اشترك فيه علي وفاطمة وغيرهما من أهل البيت)(1).
الرد على قول الرافضة: "الخامس: ما رواه الجمهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأمير المؤمنين: أنت أخي ووصيي وخليفتي وقاضي ديني(2)، وهو نص في الباب".
والجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة بصحة هذا الحديث، فإن هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها، ولا صححه إمام من أئمة الحديث.
__________
(1) المنهاج 7/88.
(2) انظر الموضوعات لابن الجوزي 1/347، 378، وقال: "هذا حديث لا يصح"، وانظر تعليق رقم 2 صفحة 518.(1/480)
وقوله: "رواه الجمهور": إن أراد بذلك أن علماء الحديث رووه في الكتب التي يحتج بما فيها – مثل كتاب البخاري ومسلم ونحوهما، وقالوا: إنه صحيح فهذا كذب عليهم. وإن أراد بذلك أن هذا يرويه مثل أبي نعيم(1) في "الفضائل" والمغازلي(2) وخطيب خوارزم(3) ونحوهم، أو يروى في كتب الفضائل، فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع، فكيف في مسألة الإمامة، التي قد أقمتم عليها القيامة؟!.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم والحديث … فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث وضعيفه، ليعلم أن هذا الحديث ومثله ضعيف بل كذب موضوع …
__________
(1) هو الإمام الحافظ أحمد بن عبد الله بن أحمد المهراني الأصبهاني صاحب كتاب "الحلية" و"معرفة الصحابة" وغيرهما، ولد سنة 336 هـ وكان حافظاً مبرزاً عالي الإسناد، توفي سنة 430 هـ، السير 17/453-463، شذرات الذهب 3/245.
(2) هو الإمام أبو بكر بن المنذر المغازلي، اسمه بدر وقيل أحمد، البغدادي العابد صاحب الإمام أحمد، وكان ثقة زبانيا، ت 282 هـ، السير 13/490-491، حلية الأولياء 10/305-306، طبقات الحنابلة 1/77-78، وفيه "أحمد بن أبي المنذر بن بدر بن النضر أبو بكر المغازلي".
(3) هو الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي أبو المؤيد، فقيه أديب خطيب شاعر وقد تولى الخطابة في جامع خوارزم، وله كتاب "مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" توفي سنة 568 هـ، انظر الأعلام 7/33، معجم المؤلفين 13/52.(1/481)
قال أبو الفرج ابن الجوزي(1) في كتاب "الموضوعات"(2)، لما روى هذا الحديث من طريق أبي حاتم البستي(3): حدثنا محمد بن سهل بن أيوب(4)، حدثنا عمار بن رجاء(5)، حدثنا عبيد الله بن موسى(6)، حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف(7)، عن أنس(8)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أخي ووزيري وخليفتي من أهلي، وخير من أترك بعدي، يقضي ديني، وينجز موعدي: علي بن أبي طالب» قال: "هذا حديث موضوع". قال ابن حبان(9): "مطر بن ميمون يروي الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه" …
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) الموضوعات 1/347، 378، انظر الأثر في كتاب المجروحين 3/5، في ترجمة مطر بن ميمون.
(3) سبقت ترجمته.
(4) لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع.
(5) عمار بن رجاء بن سعد الاستربادي أبو ياسر، كان فاضلاً ديناً، كثير العبادة والزهد، ت 267 هـ، الجرح والتعديل 6/395، طبقات الحنابلة 1/247، السير 13/35.
(6) عبيد الله بن موسى بن باذام العبسي مولاهم، أبو محمد الكوفي، ثقة كان يتشيع، ت 213 هـ، التاريخ الكبير 5/401، الجرح والتعديل 5/334-335، الثقات 7/152، التقريب/ 375.
(7) مطر بن ميمون الإسكاف المحاربي، أبو خالد الكوفي، متروك، قال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه. كتاب المجروحين 3/5، الضعفاء والمتروكون للدارقطني/ 372، التقريب/ 534.
(8) سبقت ترجمته.
(9) هو الإمام الحافظ شيخ خراسان أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي البستي ولد سنة بضع وسبعين ومائتين وله كتاب "الصحيح" و"الثقات" وكتاب "المجروحين" وغيرها، توفي سنة 354، السير 16/92-104، لسان الميزان 5/112-115.(1/482)
ولا ريب أن مطراً هذا كذاب، لم يرو عنه أحد من علماء الكوفة، مع روايته عن أنس فلم يرو عنه يحيى بن سعيد القطان، ولا وكيع، ولا أبو معاوية، ولا أبو نعيم، ولا يحيى بن آدم(1)، ولا أمثالهم، مع كثرة من بالكوفة من الشيعة، ومع أن كثيراً من عوامها يُفضل علياً على عثمان …
الوجه الثالث: أن دين النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقضه علي بل في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله(2). فهذا الدين الذي كان عليه، يُقضى من الرهن الذي رهنه، ولم يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دين آخر.
وفي الصحيح أنه قال: «لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما ترك بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة»(3) فلو كان عليه دين قُضي مما تركه، وكان ذلك مُقدماً على الصدقة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح(4).
__________
(1) هو يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقة حافظ فاضل، توفي سنة 203 هـ. تذكرة الحافظ 1/359-360، التقريب/ 587، الخلاصة 3/142.
(2) رواه البخاري في المغازي، باب "وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" 5/145، وفيه "صاعاً" بدل "وسقا". مسلم في المساقاة باب "الرهن وجوازه في الحضر والسفر" بمعناه 3/1226.
(3) رواه البخاري بدن "ولا درهماً" في كتاب الخمس باب "نفقة نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته" 4/44-45، وفي كتاب الوصايا، باب "نفقة القيم للوقف" 3/197. ورواه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب "لا نورث ما تركناه فهو صدقة" 3/1382، ولم يذكر "ولا درهماً" كذلك.
(4) المنهاج 7/353-358.(1/483)
قال الرافضي عن علي "- رضي الله عنه -": (لما توجه إلى صفين لحق أصحابه عطش شديد فعدل بهم قليلاً، فلاح لهم دير، فصاحوا بساكنه، فسألوه عن الماء فقال: "بيني وبينه أكثر من فرسخين، ولولا أني أوتي ما يكفيني كل شهر على التقتير لتلفت عطشاً، فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير، وأمر بكشفه فوجدوا صخرة عظيمة، فعجزوا عن إزالتها، فقلعها وحده ثم شربوا الماء فنزل إليهم الراهب، فقال: أنت نبيٌ مُرسل، أو ملك مُقرب؟ فقال: لا، ولكني وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم على يده، وقال: إن هذا الدير بُني على طالب هذه الصخرة، ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى جماعة قبلي لم يُدركوه …)(1) إلخ.
قال شيخ الإسلام: (والجواب أن هذا من جنس أمثاله من الأكاذيب التي يظنها الجُهال من أعظم مناقب علي، وليست كذلك … [إلى أن قال] (وما فيه من قول علي: "ولكني وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" هو مما يبين أنه كذب على علي، وأن علياً لم يدّْع هذا قط لا في خلافة الثلاثة ولا ليالي صفين(2). وقد كانت له مع منازعيه مناظرات ومقامات ما ادعى هذا قط ولا ادعاه أحد له. وقد حكم الحكمين، وأرسل ابن عباس لمناظرة الخوارج فذكروا فضائله وسوابقه ومناقبه، ولم يذكر أحد منهم قط أنه وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومعلوم أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بدون هذه الأسباب الموجبة لنقله لو كان حقاً، فكيف مع هذه الأسباب؟!.
__________
(1) المنهاج 8/157-158.
(2) صفين موقع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من غربيها، بين الرقة وبالس، وبها كانت الوقعة بين علي ومعاوية – رضي الله عنهما – انظر معجم البلدان 3/414، مراصد الاطلاع 2/846.(1/484)
فلما رووا فضائله ومناقبه، كقوله عليه السلام: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»(1)، وكقوله عام تبوك: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(2).
وقوله: «أنت مني وأنا منك»(3) وغير ذلك من فضائله، ولم يرووا هذا مع مسيس الحاجة إلى ذكره – علم أنه من جملة ما افتراه الكذابون(4). (ونص الرافضة مما نحن نعلم كذبه بالاضطرار، وعلى كذبه أدلة كثيرة)(5).
(وأما النص على علي فليس في شيء من كتب أهل الحديث المُعتمدة، وأجمع أهل الحديث على بطلانه، حتى قال أبو محمد بن حزم: "ما وجدنا قط رواية عن أحد في هذا النص المُدعى إلا رواية واهية عن مجهول إلى مجهول يُكنى أبا الحمراء، لا نعرف من هو في الخلق(6))(7).
__________
(1) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب "مناقب علي بن أبي طالب" 4/207. مسلم في فضائل الصحابة، باب "من فضائل علي بن أبي طالب" 4/1871، 1872، 1873 وغيرهم.
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب "غزوة تبوك" 5/129، ورواه أيضاً بدون "إلا أنه لا نبي بعدي" في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب "مناقب علي بن أبي طالب" 4/208، ورواه مسلم في فضائل الصحابة، باب "من فضائل علي بن أبي طالب" 4/1870، 1871.
(3) رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب "مناقب علي بن أبي طالب" 4/207.
(4) المنهاج 8/159-160.
(5) المنهاج 8/360.
(6) الفصل لابن حزم 4/161.
(7) المنهاج 8/362.(1/485)
وقد ادعى بعض الرافضة أن الكتاب الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبه كان كتاباً بالوصية لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فرد شيخ الإسلام هذا الادعاء مبيناً قصة الكتاب وأنه في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، فقال: (وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى مُتمنٍ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون، إلا أبا بكر»(1).
ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة. أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه. وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة، فيقولون: إنه قد نصّ على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذٍ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور، فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المرضى، باب "قول المريض إني وجع …" 7/8 وفي كتاب الأحكام باب "الاستخلاف" 8/126، كلها بمعناه ورواه مسلم في فضائل الصحابة، باب "من فضائل أبي بكر الصديق" 4/1857، وقد سبق.(1/486)
وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبينه ويكتبه، ولا يلتفت إلى قول أحد، فإنه أطوع الخلق له، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ، إذ لو وجب لفعله، ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر، ثم تبين له أو شك في بعض الأمور، فليس هو أعظم ممن يُفتي ويقضي بأمور ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حكم بخلافها، مُجتهداً في ذلك، ولا يكون قد علم حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه(1).
ثم وضح (أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها، وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه الناس من بعدي» ثم قال: «يأبى الله والمؤمنون، إلا أبا بكر» فلما كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً، فقال عمر: ما له أهجر؟"(2)، فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمى، أو هو مما يقول على عادته، فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى، فكان هذا مما خفي على عمر، كما خفي عليه موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أنكره.
ثم قال بعضهم: هاتوا كتاباً. وقال بعضهم: لا تأتوا بكتاب، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة، لأنهم يشكون: هل أملاه مع تغيره بالمرض؟ أم مع سلامته من ذلك؟ فلا يرفع النزاع. فتركه. ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع.
__________
(1) المنهاج 6/23-26.
(2) سيأتي توضيحه.(1/487)
وقد سأل ربه لأمته ثلاثاً، فأعطاه اثنين ومنعه واحدة، سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة، فأعطاه إياها وسأله أن لا يُسلط عليهم عدواً من غيرهم، فأعطاه إياها، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها.
وهذا ثبت في الصحيح(1)، وقال ابن عباس: "الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب الكتاب(2)، فإنها رزية، أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - وطعنوا فيها.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب "هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض" 4/2216، وفيه "الفرق" بدلاً من "عدوا من غير أنفسهم" 5/445.
(2) رواه البخاري في كتاب العلم، باب "كتابة العلم" 1/36-37، وفي المغازي باب "مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته" 5/137-138، ورواه مسلم في الوصية، باب "ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه" 3/1259.(1/488)
وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله، فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبما أفتى أبو بكر وعمر، وهذا ثابت من حديث ابن عيينة(1) عن عبد الله بن أبي يزيد(2) عن ابن عباس(3).
ومن عرف حال ابن عباس علم أنه كان يُفضل أبا بكر وعمر على علي - رضي الله عنه -. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك كتابة الكتاب باختياره، فلم يكن في ذلك نزاع، ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه.
ومثل هذا النوع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه، والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير، حتى أنزل فيه: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (4)، لكن روي أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال(5).
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) هكذا في المنهاج عبد الله ولعل الصواب عبيد الله وهو: عبيد الله بن أبي يزيد المكي مولى بني كنانة حدث عن ابن عباس وجماعة وروى عنه ابن عيينة وعدة وهو ثقة كثير الحديث، ت 126 هـ. السير 5/242، الشذرات 1/171، التقريب/ 375.
(3) رواه الدارمي في سننه في باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/55، والحاكم في المستدرك في كتاب العلم 1/127، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وفيه توقيف ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبي في "التلخيص" ورواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب آداب القاضي، باب "ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي … إلخ" 10/115، وهو في المطالب العالية، كتاب القضاء والشهادات، باب "ما يُخشى على من قضى بغير حق" 2/248، ونسبه لأبي عمر العدني.
(4) الحجرات/ 9.
(5) انظر تخريجه.(1/489)
ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابة بخلافة علي، وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه، ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل علياً خليفة، كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر، ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة علي نصاً جلياً قاطعاً للعذر، فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب، وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضاً لا يُطيعون الكتاب. فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا؟(1).
* * *
الفصل الثاني
الإمامة عند الرافضة
الرد على زعم الرافضي أن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين، وهي التي يحل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة وأنها أحد أركان الإيمان … إلخ، فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يُقال أولاً: إن قول القائل: "إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين" كذب بإجمال المسلمين سنيهم وشيعيهم بل هذا كفر.
فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فالكافر لا يصير مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكفار أولاً، كما استفاض عنه في الصحاح وغيرها أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» وفي رواية: «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها»(2).
__________
(1) المنهاج 6/315-318.
(2) البخاري، كتاب الإيمان وشرائعه، باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة 1/11-12، وكتاب الزكاة، باب "وجوب الزكاة" 2/109-110، مسلم كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله … إلخ 1/51-52.(1/490)
وقد قال تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } (1) فأمر بتخلية سبيلهم إذا تابوا من الشرك وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. وكذلك قال لعلي لما بعثه إلى خيبر.
وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسير في الكفار، فيحقن دمائهم بالتوبة من الكفر، لا يذكر لهم الإمامة بحال. وقد قال تعالى بعد هذا: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } (2)، فجعلهم إخواناً في الدين بالتوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولم يذكر الإمامة بحال.
ومن المتواتر أن الكفار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الإسلام ولم يذكر لهم الإمامة بحال، ولا نقل هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد من أهل العلم: لا نقلاً خاصاً ولا عاماً. بل نحن نعلم بالاضطرار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يذكر للناس إذا أرادوا الدخول في دينه الإمامة لا مُطلقاً ولا معيناً، فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين(3).
__________
(1) التوبة/ 5.
(2) التوبة/ 11.
(3) المنهاج 1/75-77.(1/491)
والمقصود بالإمام إنما هو طاعة أمره، فإذا كان العلم بأمره ممتنعاً، كانت طاعته ممتنعة، فكان المقصود به ممتنعاً، وإذا كان المقصود به ممتنعاً لم يكن في إثبات الوسيلة فائدة أصلاً، بل كان إثبات الوسيلة التي لا يحصل بها مقصودها من باب السفه، والعبث والعذاب القبيح(1) باتفاق أهل الشرع، وباتفاق العقلاء القائلين بتحسين العقول وتقبيحها، بل باتفاق العقلاء مُطلقاً، فإنهم إذا فسروا القبح بما يضر على أن معرفة الضار يعلم بالعقل، والإيمان بهذا الإمام الذي ليس فيه منفعة –بل مضرة في العقل والنفس والبدن والمال وغير ذلك– قبيح شرعاً وعقلاً.
ولهذا كان المتبعون له من أبعد الناس عن مصلحة الدين والدنيا، لا تنتظم لهم مصلحة دينهم ولا دنياهم إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم كاليهود الذين لا تنتظم لهم مصلحة إلا بالدخول في طاعة من هو خارج عن دينهم فهم يوجبون وجود الإمام المنتظر المعصوم، لأن مصلحة الدين والدنيا لا تحصل إلا به عندهم، وهم لم يحصل لهم بهذا المنتظر مصلحة في الدين ولا في الدنيا، والذين كذبوا به لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا، بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه. فعلم بذلك أن قولهم في الإمامة لا ينال به إلا ما يورث الخزي والندامة، وأنه ليس فيه شيء من الكرامة، وأن ذلك إذا كان أعظم مطالب الدين، فهم أبعد الناس عن الحق والهدى في أعظم مطالب الدين، وإن لم يكن أعظم مطالب الدين، ظهر بطلان ما ادعوه من ذلك، فثبت بطلان قولهم على التقديرين، وهو المطلوب(2).
__________
(1) هو تعذيب النفس بطاعة من لا يعرف له أمر ولا نهي، من ذلك الوقوف عند باب السرداب وانتظار خروجه ومناداته و … إلخ، وسيأتي كلام شيخ الإسلام في الصفحة التالية لتوضيح ذلك.
(2) المنهاج 1/90-91.(1/492)
وأيضاً: فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين، وأهم المطالب في الدين، ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها، وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها، والقرآن مملوء بذكر توحيد الله، وذكر أسمائه وصفاته وآياته، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقصص والأمر والنهي، والحدود والفرائض، بخلاف الإمامة فكيف يكون القرآن مملوءاً بغير الأهم الأشرف؟.
وأيضاً: فإن الله تعالى قد علق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة فقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (1)، وقال: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } (2). فقد بين الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيداً في الآخرة، ومن عصى الله ورسوله وتعدى حدوده كان مُعذباً، فهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء، ولم يذكر الإمامة.
فإن قال قائل: إن الإمامة داخلة في طاعة الله ورسوله، قيل: غايتها أن تكون كبعض الواجبات: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وغير ذلك مما يدخل في طاعة الله ورسوله، فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين وأهم مطالب الدين؟.
فإن قيل: لا يمكننا طاعة الرسول إلا بطاعة إمام، فإنه هو الذي يعرف الشرع قيل: هذا هو دعوى المذهب ولا حجة فيه، ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كما دل على سائر أصول الدين …
__________
(1) النساء/69.
(2) النساء 13/ 14.(1/493)
الوجه الثاني: أن يُقال: أصول الدين عن الإمامية أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة. فالإمامة هي آخر المراتب، والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك، وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر، وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يقدر أن يضل من يشاء، وأنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وغير ذلك فلا يقولون: إنه خالق كل شيء، ولا إنه على كل شيء قدير، ولا إنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لكن التوحيد والعدل والنبوة مُقدم على الإمامة، فكيف تكون الإمامة أشرف وأهم؟.
وأيضاً: فإن الإمامة إنما أوجبوها لكونها لطفاً في الواجبات فهي واجبة وجوب الوسائل فكيف تكون الوسيلة أهم وأشرف من المقصود؟.
الوجه الثالث: أن يُقال: إن كانت الإمامة أهم مطالب الدين، وأشرف مسائل المسلمين، فأبعد الناس عن هذا الأهم الأشرف هم الرافضة، فإنهم قد قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين، ويكفيك أن مطلوبهم بالإمامة أن يكون لهم رئيس معصوم يكون لطفاً في مصالح دينهم ودنياهم، وليس في الطوائف أبعد عن مصلحة اللطف والإمامة منهم، فإنهم يحتالون على مجهول ومعدوم لا يرى له عين ولا أثر، ولا يُسمع له حس ولا خبر، فلم يحصل لهم من الأمر المقصود بإمامته شيء(1).
__________
(1) المنهاج 1/98-100.(1/494)
الوجه الرابع: أن يُقال: قوله: "التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة" كلام باطل. فإن مجرد معرفة الإنسان إمام وقته وإدراكه بعينه، لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره ونهيه. وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن عرف أن محمداً رسول الله فلم يؤمن به ولم يُطع أمره لم يحصل له شيء من الكرامة، ولو آمن بالنبي وعصاه فضيع الفرائض وتعدى الحدود، كان مُستحقاً للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين، فكيف بمن عرف الإمام وهو مُضيع للفرائض متعدٍ للحدود؟.
وكثير من هؤلاء يقول: حب على حسنة لا يضر معها سيئة، وإن كانت السيئات لا تضر مع حب علي، فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف، فإنه إذا لم يوجد، إنما توجد سيئات ومعاصٍ. فإن كان حب علي كافياً، فسواء وجد الإمام أو لم يوجد.
الوجه الخامس: قوله: "وهي أحد أركان الإيمان، المستحق لسببه الخلود في الجنان"، فيُقال له: من جعل هذا من الإيمان، إلا أهل الجهل والبهتان؟ … والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد فسر الإيمان وذكر شُعبه، ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة في أركان الإيمان … وأيضاً فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أن الناس كانوا إذا أسلموا لم يجعل إيمانهم موقوفاً على معرفة الإمامة، ولم يذكر لهم شيئاً من ذلك. وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم به الإيمان، فإذا علم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان، علم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال أهل البهتان.
الوجه السادس: قوله: فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
يُقال له أولاً: من روى هذا الحديث بهذا اللفظ وأين إسناده؟.(1/495)
وكيف يجوز أن يحتج بنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله؟ وهذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث، فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يُعرف؟!.
إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة: فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله. سمعته يقول: «من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حُجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية»(1).
وهذا حدث به عبد الله بن عمر لعبد الله بن مطيع بن الأسود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد، مع أنه كان فيه من الظلم ما كان. ثم إنه اقتتل هو وهم وفعل بأهل الحرة أموراً مُنكرة، فعلم أن هذا الحديث دل على ما دل عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف، وإن من لم يكن مطيعاً لولاة الأمور مات ميتة جاهلية، وهذا ضد قول الرافضة، فإنهم أعظم الناس مخالفةً لولاة الأمور، وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرهاً.
ونحن نطالبهم أولاً بصحة النقل، ثم بتقدير أن يكون ناقله واحداً، فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بخبر مثل هذا الذي لا يعرف له ناقل؟!، وإن عرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه، وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي؟!.
__________
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3/1478.(1/496)
الوجه السابع: أن يُقال: إن كان هذا الحديث من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس فيه حجة لهذا القائل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «من مات ميتة جاهلية» في أمور ليست من أركان الإيمان التي من تركها كان كافراً. كما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية»(1)، وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية والرافضة رءوس هؤلاء. ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، فكيف يكفر بما هو دون ذلك ؟!.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية»(2) وهذا حال الرافضة، فإنهم يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإن من فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية»، وفي لفظ: «فإن من خرج من السلطان شبراً، مات ميتة جاهلية»(3).
وهذه النصوص مع كونها صريحة في حالة الرافضة، فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم، لا بذلك اللفظ الذي نقله.
__________
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3/1476-1478، وابن ماجه كتاب الفتن باب العصبية 2/1302.
(2) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 2/1477.
(3) البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ستكون بعدي أمورا تُنكرونها … 8/87، مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3/1477-1478.(1/497)
الوجه الثامن: أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم … فإن معرفة الإمام الذي يخرج الإنسان من الجاهلية، هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة، خلال ما كان عليه أهل الجاهلية، فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ولا جماعة تعصمهم(1).
الوجه التاسع: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم أو مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته، وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين.
ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معصيته الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة»(2).
__________
(1) المنهاج: 1/105-114.
(2) سبق تخريجه.(1/498)
وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يكره وينكر ما يأتون من معصيته الله، ولا تنزع اليد من طاعتهم، بل يُطاعون في طاعة الله، وأن منهم خياراً وشراراً، من يحب ويدعى له ويحب الناس ويدعو لهم ومن يبغض ويدعو على الناس ويبغضونه ويدعون عليه، وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمر؟ قال: فو بيعة الأول، فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم»(1).
فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين، وأمر أن يوفى ببيعة الأول فالأول وأن يعطوهم حقهم … وفي الصحيحين عن ابن عمر: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يُؤمر بمعصية، فإذ أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»(2)، فإن قال: أنا أردت بقولي: "إنها أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين" المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه هي مسألة الإمامة.
قيل له: فلا لفظ فصيح، ولا معنى صحيح. فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مُطلقاً، وأشرف مسائل المسلمين مُطلقاً.
__________
(1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4/144، مسلم كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول 3/1471-1472.
(2) البخاري، كتاب الجهاد والسير باب السمع والطاعة للإمام 4/7 بمعناه، وكتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية 8/105-106، مسلم كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية 3/1469.(1/499)
وبتقدير أن يكون هذا مُرادك فهو معنى باطل، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسائل أشرف من هذه. وبتقدير أن تكون هي الأشرف فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب، وأفسد المطالب.
وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي - رضي الله عنه -، وأما على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة، وما انفصلوا حتى اتفقوا، ومثل هذا لا يُعد نزاعاً. ولو قدر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته - صلى الله عليه وسلم -، يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهرٍ طويل.
ثم بعد هذا كله، فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم، وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا، فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل، ويكثر القال والقيل، ويُفارق جماعة المسلمين، ويلعن السابقين والتابعين، ويعاون الكفار والمنافقين، ويحتال بأنواع الحيل، ويسلك ما أمكنه من السبل، ويعتضد بشهود الزور، ويُدلي أتباعه بحبل الغرور، ويفعل ما يطول وصفه، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه، ويعرفه ما يقربه إلى الله تعالى؟!.(1).
أن قوله: إنه نصب أولياء معصومين لئلا يخلي الله العالم من لطفه ورحمته.
__________
(1) المنهاج 1/115-121.(1/500)
إن أراد بقوله: إنه نصب أولياء، أنه مكنهم وأعطاهم القدرة على سياسة الناس حتى ينتفع الناس بسياستهم، فهذا كذب واضح. وهم لا يقولون ذلك، بل يقولون: إن الأئمة مقهورون مظلومون عاجزون ليس لهم سلطان ولا قدرة ولا مكنة، ويعلمون أن الله لم يمكنهم ولم يملكهم، فلم يؤتهم ولاية ولا ملكاً، كما آتى المؤمنين والصالحين، ولا كما آتى الكفار والفُجار … فإن قيل: المراد بنصبهم أنه أوجب على الخلق طاعتهم، فإذا أطاعوهم هدوهم، لكن الخلق عصوهم.
فيُقال: فلم يحصل بمجرد ذلك في العالم لا لطف ولا رحمة، بل إنما حصل تكذيب الناس لهم ومعصيتهم إياهم وأيضاً، فالمؤمنون بالمنتظر لم ينتفعوا به ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة، مع كونهم يحبونه ويوالونه، فعلم أنه لم يحصل به لطف ولا مصلحة، لا لمن أقر بإمامته، ولا لمن جحدها، وهذا المنتظر لم ينتفع به لا مؤمن به ولا كافر به. وأما سائر الاثنى عشر سوى علي فكانت المنفعة بأحدهم كالمنفعة بأمثاله من أهل العلم والدين، من جنس تعليم العلم والتحديث والإفتاء ونحو ذلك، وأما المنفعة المطلوبة من الأئمة ذوي السلطان والسيف، فلم تحصل لواحد منهم، فتبين أن ما ذكره من اللطف والمصلحة بالأئمة تلبيس محض وكذب(1).
فلم يكن لهم قدرة ولا سلطان الإمامة، بل كان لأهل العلم والدين منهم إمامة أمثالهم من جنس الحديث والفتيا ونحو ذلك، لم يكن لهم سلطان الشوكة، فكانوا عاجزين عن الإمامة، سواء كانوا أولى بالإمامة أو لم يكونوا أولى.
__________
(1) المنهاج 1/131-133(2/1)
فبكل حال ما مكنوا ولا ولوا ولا كان يحصل لهم المطلوب من الولاية لعدم القدرة والسلطان ولو أطاعهم المؤمن لم يحصل له بطاعتهم المصالح التي تحصل بطاعة الأئمة: من جهاد الأعداء، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها أو بعضهم، وإقامة الحدود، فإن قال القائل: إن الواحد من هؤلاء أو من غيرهم إمام، أي ذو سلطان وقدرة يحصل بهما مقاصد الإمامة، كان هذا مكابرة للحس. ولو كان ذلك كذلك لم يكن هناك متول يزاحمهم ولا يستبد بالأمر دونهم، وهذا لا يقوله أحد.
وإن قال: إنهم أئمة بمعنى أنهم هم الذين كانوا يجب أن يُولوا، وإن الناس عصوا بترك توليتهم، فهذا بمنزلة أن يُقال: فلان كان يستحق أن يُولى إمامة الصلاة وأن يُولى القضاء، ولكن لم يولَّ ظلماً وعدواناً(1).
وهم يقولون: إن الإمام وجب نصبه لأنه لطف ومصلحة للعباد، فإذا كان الله ورسوله يعلم أن الناس لا يولون هذا المعين إذا أمروا بولايته، كان أمرهم بولاية من يولونه وينتفعون بولايته، أولى من أمرهم من لا يولونه ولا ينتفعون بولايته، كما قيل في إمامة الصلاة والقضاء وغير ذلك، فكيف إذا كان ما يدعونه من النص من أعظم الكذب والافتراء؟.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أمته بما سيكون وما يقع بعده من التفرق فإذا نص لأمته على إمامة شخص يعلم أنهم لا يولونه، بل يعدلون عنه ويولون غيره يحصل لهم بولايته مقاصد الولاية وأنه إذا أفضت النوبة إلى المنصوص حصل من سفك دماء الأمة ما لم يحصل قبل ذلك ولم يحصل من مقاصد الولاية كما حصل بغير المنصوص، كان الواجب العدول عن المنصوص(2). وهذا ونحوه مما يعلم به بطلان النص بتقدير أن يكون علي هو الأفضل الأحق بالأمر، لكن لا يحصل بولايته إلا ما حصل وغيره طالما يحصل به ما حصل من المصالح، فكيف إذا لم يكن الأمر كذلك لا في هذا ولا في هذا؟(3).
بيان مخالفة الرافضة لمن يدعون فيهم الإمامة:
__________
(1) المنهاج 1/54.
(2) المنهاج 1/553.
(3) المنهاج 1/555.(2/2)
(لا نُسلم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت: لا الاثنا عشرية ولا غيرهم بل هم مخالفون لعلي - رضي الله عنه - وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة: توحيدهم، وعدلهم، وإمامتهم، فإن الثابت عن علي - رضي الله عنه - وأئمة أهل البيت من إثبات الصفات لله وإثبات القدر، وإثبات خلافة الخلفاء الثلاثة، وإثبات فضيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وغير ذلك من المسائل كله يُناقض مذهب الرافضة، والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم، بحيث إن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علماً ضرورياً بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم(1).
وقد علم أن الشيعة مختلفون اختلافاً كثيراً في مسائل الإمامة والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول دينهم، فأي قول لهم هو المأخوذ عن الأئمة المعصومين حتى مسائل الإمامة، قد عرف اضطرابهم فيها(2).
بيان أن مذهبهم ليس مأخوذاً عن علي - رضي الله عنه -:
وبتقدير ثبوت عصمة علي - رضي الله عنه - فمذهبهم ليس مأخوذاً عنه، فنفس دعواهم العصمة في علي مثل دعوى النصارى الإلهية في المسيح، مع أن ما هم عليه مأخوذ عن المسيح(3). ثم بين أنهم في مذهبهم محتاجون إلى مقدمتين:
إحداهما: عصمة من يضيفون المذهب إليه من الأئمة.
والثانية: ثبوت ذلك النقل عن الإمام، وكلتا المقدمتين باطلة(4). وأيضاً فقوله: إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوى مُجردة، ينازعه فيها جمهور المسلمين من الأولين والآخرين.
__________
(1) المنهاج 4/16-17.
(2) المنهاج 4/17.
(3) المنهاج 4/19.
(4) المنهاج 4/19.(2/3)
وقوله: جعله الله نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } (1) وآخاه فيقال: أما حديث المؤاخاة فباطل موضوع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ أحداً، ولا آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، ولا بين الأنصار بعضهم مع بعض، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار(2).
وأما علي بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، أخذ عن أبيه وابن عباس، والمسور بن مخرمة(3)، وغيرهم، قال يحيى بن سعيد: "هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة"(4)، وقال محمد بن سعد(5) في "الطبقات" كان ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً"(6).
__________
(1) آل عمران/ 16.
(2) المنهاج 4/32-33.
(3) المنهاج 4/48.
(4) السير 4/389، طبقات ابن سعد 5/214.
(5) هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البغدادي صاحب الطبقات ولد بعد الستين ومائة، وطلب العلم في صباه ولحق الكبار، وتوفي بعد الثلاثين ومائتين. السير 10/664-667، الجرح والتعديل 7/262.
(6) طبقات ابن سعد 5/222، السير 4/387.(2/4)
(وروى عن حماد بن زيد(1) عن يحيى بن سعيد الأنصاري(2) قال: سمعت علي بن الحسين وكان أفضل هاشمي أدركته يقول يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام فما برح بنا حبكم حتى صار عارا علينا(3)، وعن شيبة بن نعامة(4) قال: كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة في السر(5) وله من الخشوع وصدقة السر وغير ذلك من الفضائل ما هو معروف حتى إنه كان من صلاحه ودينه يتخطى مجالس أكابر الناس ويجالس زيد بن أسلم(6) مولى عمر بن الخطاب وكان من خيار أهل العلم والدين من التابعين فيقال: له تدع مجالس قومك وتجالس هذا فيقول إنما يجلس الرجل حيث يجد صلاح قلبه(7))(8).
(وكذلك أبو جعفر محمد بن علي من خيار أهل العلم والدين وقيل إنما سمي الباقر لأنه بقر العلم لا لأجل بقر السجود جبهته وأما كونه أعلم أهل زمانه فهذا يحتاج إلى دليل والزهري من أقرانه وهو عند الناس أعلم منه ونقل تسميته بالباقر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أصل له عند أهل العلم بل هو من الأحاديث الموضوعة... وأخذ العلم عن جابر وأنس بن مالك وروى أيضا عن ابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة)(9).
__________
(1) ستأتي ترجمته.
(2) هو يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، ت سنة 144 هـ، وقيل 143 هـ، التقريب/ 591، السير 5/468-481.
(3) السير 4/389، طبقات ابن سعد 5/214.
(4) هو شيبة بن نعامة الضبي الكوفي، قال يحيى بن معين: شيبة بن نعامة ضعيف الحديث. طبقات ابن سعد 6/329، التاريخ الكبير 4/242، الجرح والتعديل 4/335-336.
(5) السير 4/394، طبقات ابن سعد 5/222.
(6) هو زيد بن أسلم – وأسلم مولى عمر بن الخطاب – أبو عبد الله العدوي العمري المدني، الإمام الحجة القدوة، حدث عن والده وعن ابن عمر وغيرهما. السير 5/316، شذرات الذهب 1/194.
(7) السير 4/388. نحوه، طبقات ابن سعد 5/216 نحوه.
(8) المنهاج 4/49.
(9) المنهاج 4/50-51.(2/5)
(وجعفر الصادق - رضي الله عنه - من خيار أهل العلم والدين أخذ العلم عن جده أبي أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر(1) الصديق وعن محمد بن المنكدر(2) ونافع مولى ابن عمر(3) والزهري وعطاء بن أبي رباح(4) وغيرهم وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك بن أنس وسفيان الثوري(5) وسفيان بن عيينة(6))(7) وغيرهم.
(وقال عمرو بن أبي المقدام(8): كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين(9))(10).
(وأما قوله إنه هو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقية والعقائد اليقينية فهذا الكلام يستلزم أحد أمرين إما أنه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله وإما أن يكون الذين قبله قصروا فيما يجب عليهم من نشر العلم وهل يشك عاقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لأمته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان وأن أصحابه تلقوا ذلك عنه وبلغوه إلى المسلمين.
__________
(1) هي أم فروة بنت محمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق، أم جعفر بن محمد وأمها هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، السير 6/255، طبقات ابن سعد 5/187-320.
(2) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير، الإمام الحافظ القدوة ولد سنة بضع وثلاثين، ت سنة 130 هـ، وقيل 131 هـ، السير 5/353، تهذيب التهذيب 9/473.
(3) سبقت ترجمته.
(4) هو عطاء بن أبي رباح، الإمام ومفتي الحرم، أبو محمد القرشي مولاهم المكي، ولد في أثناء خلافة عثمان، ت سنة 114 هـ، وقيل 115 هـ، السير 5/78-88، الجرح والتعديل 6/330، الشذرات 1/147.
(5) سبقت ترجمته.
(6) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم أخو الضحاك بن مزاحم، سبقت ترجمته.
(7) المنهاج 4/52.
(8) هو عمرو بن ثابت مولى بكر بن وائل ضعيف رُمي بالرفض، ت سنة 172 هـ، التقريب ص 419.
(9) السير 6/257.
(10) المنهاج 4/52-53، انظر: 7/534، 8/11.(2/6)
وهذا يقتضي القدح إما فيه وإما فيهم بل كذب على جعفر الصادق أكثر مما كذب على من قبله فالآفة وقعت من الكذابين عليه لا منه ولهذا نسب إليه أنواع من الأكاذيب)(1).
(وأما من بعد جعفر فموسى بن جعفر قال فيه أبو حاتم الرازي: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين(2) قلت موسى ولد بالمدينة سنة بضع وعشرين ومائة وأقدمه المهدي إلى بغداد ثم رده إلى المدينة وأقام بها إلى أيام الرشيد فقدم هارون منصرفا من عمرة فحمل موسى معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفي في محبسه قال ابن سعد: فتوفى سنة ثلاث وثمانين ومائة وليس له كثير رواية روى عن أبيه جعفر وروى عنه أخوه علي وروى له الترمذي وابن ماجه(3).
__________
(1) المنهاج 4/53-54.
(2) السير 6/270، تهذيب التهذيب 10/340.
(3) السير 6/270 من كلام الذهبي، ولم أجده عند ابن سعد في الطبقات.(2/7)
وأما من بعد موسى فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم فإن أولئك الثلاثة توجد أحاديثهم في الصحاح والسنن والمسانيد وتوجد فتاويهم في الكتب المصنفة في فتاوى السلف مثل كتب ابن المبارك وسعيد بن منصور(1) وعبد الرزاق(2) وأبي بكر بن أبي شيبة(3) وغير هؤلاء وأما من بعدهم فليس لهم رواية في الكتب الأمهات من كتب الحديث ولا فتاوي في الكتب المعروفة التي نقل فيها فتاوى السلف ولا لهم في التفسير وغيره أقوال معروفة ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له أهل رضي الله عنهم أجمعين وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك)(4).
ثم وضح أن انتساب الرافضة إلى آل البيت من المصائب فقال:
(من المصائب التي ابتلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم وتعظيمهم ومدحهم لهم فإنهم يمدحونهم بما ليس بمدح ويدعون لهم دعاوي لا حجة لها ويذكرون من الكلام ما لو لم يعرف فضلهم من غير كلام الرافضة لكان ما تذكره الرافضة بالقدح أشبه منه بالمدح)(5).
(والرافضة تشهد على كثير منهم بالكفر والفسوق وهم أهل السنة منهم المتولون لأبي بكر وعمر كزيد بن علي بن الحسين وأمثاله من ذرية فاطمة رضي الله عنها فإن الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه وشهدوا عليهم بالكفر والفسق بل الرافضة أشد الناس عداوة إما بالجهل وإما بالعناد لأولاد فاطمة رضي الله عنها)(6).
__________
(1) هو سعيد بن منصور بن شعبة الحافظ الإمام، أبو عثمان الخراساني المروزي له كتاب السنن، ت سنة 227 هـ، وقيل 226 هـ بمكة، السير 10/586-590.
(2) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري أبو بكر الصنعاني، ولد سنة 126 هـ من حفاظ الحديث، صاحب المصنف في الحديث ارتحل إلى الشام والعراق والحجاز، ت سنة 211 هـ، السير 9/564، الأعلام 3/353.
(3) هو عبد الله بن محمد القاضي، أبي شيبة، وقد سبقت ترجمته.
(4) المنهاج 4/55-57.
(5) المنهاج 4/60.
(6) المنهاج 4/64.(2/8)
(ووضح أن محمد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم وهو معروف بالسخاء والسؤدد ولهذا سمي الجواد ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة ولد سنة خمس وتسعين ومات سنة عشرين أو سنة تسع عشرة ومائة وكان المأمون(1) زوجه بابنته وكان يرسل إليه في السنة ألف ألف درهم واستقدمه المعتصم(2) إلى بغداد ومات بها)(3).
(وقد ذكر محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ أن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب)(4).
(ومن طالع أخبار الناس علم أن الفضائل العلمية والدينية المتواترة عن غير واحد من الأئمة أكثر مما ينقل عن العسكريين وأمثالها من الكذب دع الصدق)(5).
(وهذه كانت سيرة أئمة أهل البيت مع غيرهم فمن اتبعهم في ذلك فهو المقتدى بهم دون من تبرأ من السابقين الأولين وجمهور أهل العلم والدين وظاهر على عداوتهم الكفار والمنافقين كما يفعله من يفعله من الرافضة الضالين)(6).
(فإن زعم زاعم أنه كان عندهم من العلم المخزون ما ليس عند أولئك لكن كانوا يكتمونه فأي فائدة للناس في علم يكتمونه فعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه وكيف يأتم الناس بمن لا يبين لهم العلم المكتوم...
__________
(1) هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور، كان إماماً عالماً ولكنه مع ذلك نصر فتنة القول بخلق القرآن، وعذب الإمام أحمد بن حنبل، كانت مدة خلافته اثنين وعشرين سنة، مات غازياً ببلاد الروم سنة 218 هـ، تاريخ الخلفاء/ 306-333، الجوهر الثمين/ 105-110.
(2) هو أبو إسحاق بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور من خلفاء بني العباس. بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه المأمون سنة 227 هـ، وله 47 سنة، تاريخ الخلفاء/ 133، الجوهر الثمين/ 111-114.
(3) المنهاج 4/68-69.
(4) المنهاج 4/87.
(5) المنهاج 4/104.
(6) المنهاج 4/114.(2/9)
ثم من ظن بهؤلاء السادة أنهم يكتمون علمهم عن مثل هؤلاء ويخصون به قوما مجهولين ليس لهم في الأمة لسان صدق فقد أساء الظن بهم فإن في هؤلاء من المحبة لله ولرسوله والطاعة له والرغبة في حفظ دينه وتبليغه وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه وصيانته عن الزيادة والنقصان ما لا يوجد قريب منه لأحد من شيوخ الشيعة)(1).
(وأعظم من ذلك إنكار هؤلاء الإمامية الذين ينكرون ذكر الخلفاء الراشدين ويذكرون الاثنى عشر رجلا كل واحد من الثلاثة خير من أفضل الاثنى عشر وأكمل خلافة وإمامة وأما سائر الاثنى عشر فهم أصناف منهم من هو من الصحابة المشهود لهم بالجنة كالحسن والحسين وقد شركهم في ذلك من الصحابة المشهود لهم بالجنة خلق كثير وفي السابقين الأولين من هو أفضل منهما مثل أهل بدر وهما رضي الله عنهما وإن كانا سيدا شباب أهل الجنة فأبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة وهذا الصنف أكمل من ذلك الصنف).
(وفي الاثنى عشر من هو مشهور بالعلم والدين كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابنه جعفر بن محمد وهؤلاء لهم حكم أمثالهم... وأما سائرهم ففي بني هاشم من العلويين والعباسيين جماعات مثلهم في العلم والدين ومن هو أعلم وأدين منهم فكيف يجوز أن يعيب ذكر الخلفاء الراشدين الذين ليس في الإسلام أفضل منهم من يعوض بذكر قوم في المسلمين خلق كثير أفضل منهم؟
وقد انتفع المسلمون في دينهم ودنياهم بخلق كثير أضعاف أضعاف ما انتفعوا بهؤلاء مع أن الذين يذكرونهم قصدهم معاداة سائر المسلمين والاستعانة على ذلك بالكفار والمنافقين وإطفاء ما بعث الله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله وفتح باب الزندقة والنفاق لمن يريد إفساد الملة)(2).
__________
(1) المنهاج 4/126-127.
(2) المنهاج 4/168-170.(2/10)
(وذلك لأن هؤلاء من جهلهم يجعلون مجرد الدعوى العظيمة موجبة لتفضيل المدعي ولا يعلمون أن تلك غايتها أن تكون من الخطأ المغفور لا من السعي المشكور، وكل من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض)(1).
(وكذلك الحسن كان دائما يشير على أبيه وأخيه بترك القتال ولما صار الأمر إليه ترك القتال وأصلح الله به بين الطائفتين المقتتلتين(2) وعلي - رضي الله عنه - في آخر الأمر تبين له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله.
وكذلك الحسين - رضي الله عنه - لم يقتل إلا مظلوما شهيدا تاركا لطلب الإمارة طالبا للرجوع إما إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى المتولي على الناس يزيد.
وإذا قال القائل: إن عليا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز لأنه لم يكن لهما أنصار فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة.
قيل له وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الخروج على الأمراء وندب إلى ترك القتال في الفتنة وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالذين خرجوا بالحرة(3) وبدير الجماجم(4) على يزيد والحجاج(5) وغيرهما.
__________
(1) المنهاج 4/342.
(2) انظر المنهاج 8/145-146.
(3) هي حرة واقم: إحدى حرتي المدينة وهي الحرة الشرقية، وفيها كانت وقعة الحرة المشهورة سنة 63 هـ، معجم البلدان 2/249، مراصد الاطلاع 1/396.
(4) هي بظاهر الكوفة على سبع فراسخ منها على طرف البر للسالك إلى البصرة والجمجمة القدح من الخشب. كانت تعمل فيه فسمي بذلك. معجم البلدان 2/159، 503-504، مراصد الاطلاع 2/556.
(5) هو الحجاج بن يوسف بن الحاكم الثقفي ولد سنة 40 هـ، ونشأ في الطائف وكان ظلوماً جباراً سفاكاً للدماء ذا شجاعة وإقدام ودهاء، ولاه عبد الملك مكة والمدينة والطائف ثم أضاف إليه العراق، وثبتت له الإمارة عشرين سنة، ت سنة 95 هـ، السير 4/343، الأعلام 2/168.(2/11)
لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرا وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرا)(1).
(والذي نقله غير واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين ولا كان له غرض في ذلك بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه كما أمره بذلك معاوية - رضي الله عنه - ولكن كان يختار أن يمتنع من الولاية والخروج عليه فلما قدم الحسين وعلم أن أهل العراق يخذلونه ويسلمونه طلب أن يرجع إلى يزيد أو يرجع إلى وطنه أو يذهب إلى الثغر فمنعوه من ذلك حتى يستأسر فقاتلوه حتى قتل مظلوما شهيدا - رضي الله عنه - وأن خبر قتله لما بلغ يزيد وأهله ساءهم ذلك وبكوا على قتله وقال يزيد: لعن الله ابن مرجانة يعني عبيد الله بن زياد(2) أما والله لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله(3) وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين(4) وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز وأرسلهم إلى المدينة لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين ولا أمر بقتل قاتله ولا أخذ بثأره)(5).
(وقاتل عثمان أعظم إثما من قاتل الحسين فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة الذين يزعمون أن الحسين كان خارجيا وأنه كان يجوز قتله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان»(6) رواه مسلم.
__________
(1) المنهاج 4/535-536.
(2) سبقت ترجمته.
(3) البداية والنهاية 8/194 ونحوه.
(4) تاريخ الطبري 5/460.
(5) المنهاج 4/557-558.
(6) مسلم، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع 3/ 1480.(2/12)
وأهل السنة والجماعة يردون غلو هؤلاء وهؤلاء ويقولون إن الحسين قتل مظلوما شهيدا وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله فإنه - رضي الله عنه - لم يفرق الجماعة ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى يزيد داخلا في الجماعة معرضا عن تفريق الأمة ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك؟! فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه فضلا عن أسره وقتله)(1).
(وأما تنزيه الأئمة فمن الفضائح التي يستحيا من ذكرها لا سيما الإمام المعدوم الذي لا ينتفع به لا في دين ولا دنيا. وأما تنزيه الشرع عن المسائل الردية فقد تقدم أن أهل السنة لم يتفقوا على مسألة ردية بخلاف الرافضة فإن لهم من المسائل الردية ما لا يوجد لغيرهم)(2).
(وأما قوله: «الخلاف الرابع في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان».
__________
(1) المنهاج 4/585-586.
(2) المنهاج 4/590-591.(2/13)
فالجواب: أن هذا من أعظم الغلط فإنه ولله الحمد لم يسل سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة فضلا عن السيف ولا كان بينهم سيف مسلول علىشىء من الدين والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم أفاضلهم كأسيد بن حضير(1) وعباد بن بشر(2) وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسا وبيتا... وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر(3) وطائفة قليلة ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة وسعد وإن كان رجلا صالحا فليس هو معصوما بل له ذنوب يغفرها الله وقد عرف المسلمون بعضها وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم)(4).
(فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال: إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة ولا قال أحد منهم إن عثمان وعليا وكل من والاهما كافر.
فدعوى المدعي أن أول سيف سل بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرة الكذب يعرف كذبها بأدنى تأمل مع العلم بما وقع.
وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العذل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية.
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) هو عباد بن بشر بن وقش الأنصاري، من قدماء الصحابة، أسلم قبل الهجرة وشهد بدراً، وأبلى يوم اليمامة فاستشهد بها، السير 1/337-340، التقريب/ 289، الإصابة 5/311.
(3) سبقت ترجمته.
(4) هو الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد الأنصاري الخزرجي السلمي شهد بدراً وهو الذي كان له موقف من منزل رسول الله في بدر والقصة مشهورة مات في خلافة عمر. الإصابة 2/196-197.(2/14)
ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم لكان قتالهم من جنس قتال علي وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية.
ولكن أول سيف سل على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج(1) وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»(2) وعلي - رضي الله عنه - لم يقاتل أحدا على إمامة من قاتله ولا قاتله أحد على إمامته نفسه ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه لا عائشة ولا طلحة ولا الزبير ولا معاوية وأصحابه ولا الخوارج بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل علي وسابقته بعد قتل عثمان وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته كما كان عثمان كذلك لم ينازع قط أحد من المسلمين في إمامته وخلافته ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه فضلا عن القتال على ذلك وكذلك أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-.
وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة فضلا عن قتال...
__________
(1) سموا بهذا الاسم لخروجهم على عليٍ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهم فرق كثيرة لا زالوا موجودين الآن ويجمعون على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات وأجمعوا على أن الله سبحانه وتعالى يُعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات. مقالات الإسلاميين 1/167، الفرق بين الفرق/ 72، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان/ 17.
(2) مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/745- 746. وقد تقدم في المقدمة.(2/15)
فتبين أن عليا لم يقاتله أحد على أن يكون غيره إماما وهو مطيع له فإن الذين كانوا يستحقون الإمامة أبو بكر وعمر وعثمان وكان هو أتقى لله من أن يخرج عليهم بقول أو فعل بل عثمان كان علي هو أول من بايعه قبل جمهور الناس....
والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ولم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام ولا مسائل الإمامة لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال فضلا عن الاقتتال بالسيف... ولا كان في الصحابة من يقول إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ولا من يقول: إن خلافتهم ثابتة بالنص ولا من يقول: إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ولا أحق منه بالإمامة.
فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات فضلا عن السيف ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك....
فهذه -وأمثالها- الملاحم والفتن التي كانت في الإسلام ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ومعه من يقاتل فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي والأمصار الصغار من الرافضة وهم طائفة قليلة مقموعون مع جمهور المسلمين ليس لهم سيف مسلول على الجمهور حتى يقول القائل: أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل على الإمامة في كل زمان)(1).
(ثم قالوا والإمامة واجبة وهي أوجب عندهم من النبوة لأن بها لطفا في التكاليف)(2).
(وأما قوله: «إن مخالفته تنافي المودة وامتثال أوامره هو مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة».
فجوابه من وجوه:
__________
(1) المنهاج 6/324-343.
(2) المنهاج 6/388.(2/16)
أحدها: إن كانت المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوي القربى فتجب طاعتهم فيجب أن تكون فاطمة أيضا إماما وان كان هذا باطلا فهذا مثله.
الثاني: أن المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة فليس من وجبت مودته كان إماما حينئذ بدليل أن الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين وعلي تجب مودته في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن إماما بل تجب وإن تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان.
الثالث: أن وجوب المودة إن كان ملزوم الإمامة وانتفاء الملزوم يقتضي انتفاء اللازم فلا تجب مودة إلا من يكون إماما معصوما فحينئذ لا يود أحدًا من المؤمنين ولا يحبهم فلا تجب مودة أحد من المؤمنين ولا محبته إذا لم يكونوا أئمة: لا شيعة علي ولا غيرهم وهذا خلاف الإجماع وخلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام)(1).
(إن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية... والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة)(2).
(وكل أحد يعلم أن أهل الدين والجمهور ليس لهم غرض مع علي ولا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماما كانوا أسبق الناس إلى التصديق بذلك)(3).
__________
(1) المنهاج 7/107-108.
(2) المنهاج 7/396.
(3) المنهاج 7/410.(2/17)
(وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش»(2) ولفظ البخاري: «اثنى عشر أميرا»(3) وفي لفظ: «لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم اثنا عشر رجلا»(4) وفي لفظ: «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش»(5).
__________
(1) هو جابر بن سمرة بن جنادة، صحابي ابن صحابي نزل الكوفة ومات بها سنة 76 هـ، التقريب/ 136، السير 186-188.
(2) البخاري، كتاب الأحكام باب الاستخلاف 8/127، مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش 3/ 1403.
(3) البخاري: كتاب الأحكام، باب الاستخلاف 8/ 127.
(4) مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش 3/1452-1453.
(5) مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش 3/1453.(2/18)
وهكذا كان فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد(1) ثم عبد الملك(2) وأولاده الأربعة(3) وبينهم عمر بن عبد العزيز(4) وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام وكانت الدولة في زمنهم عزيزة والخليفة يدعى باسمه: عبد الملك وسليمان(5)، لا يعرفون عضد الدولة ولا عز الدين وبهاء الدين وفلان الدين وكان أحدهم هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس وفي المسجد يعقد الرايات ويؤمر الأمراء وإنما يسكن داره لا يسكنون الحصون ولا يحتجبون عن الرعية)(6).
__________
(1) هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، الخليفة وليَّ الخلافة سنة 60 هـ، توفي سنة 64هـ، كان أمير الجيش الذي غزا القسطنطينية، السير 4/35-40، الشذرات 1/71-72.
(2) هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، كان قبل الخلافة عابداً ناسكاً طالباً للعلم ثم اشتغل بالخلافة فتغير حاله ملك ثلاث عشرة سنة استقلالاً، وقبلها منازعاً لابن الزبير تسع سنين، ت سنة 86 هـ. السير 4/246-249، التقريب/ 365، تاريخ الخلفاء/ 214-222.
(3) أولاد عبد الملك الأربعة الذين تولوا الخلافة هم: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، تاريخ الخلفاء 233-238، 246-250، جمهرة أنساب العرب/ 89.
(4) سبقت ترجمته.
(5) هو سليمان بن عبد الملك بن مروان الأموي، أبو أيوب، من خيار ملوك بني أمية، قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لمواقيتها واختتمها بالخلافة لعمر بن عبد العزيز، ت سنة 99 هـ، تاريخ الخلفاء 225-228.
(6) المنهاج 8/ 238.(2/19)
(ومن ظن أن هؤلاء الاثنى عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم فهو في غاية الجهل فإن هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلا علي بن أبي طالب ومع هذا فلم يتمكن في خلافته من غزو الكفار ولا فتح مدينة ولا قتل كافرا بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض حتى طمع فيهم الكفار بالشرق والشام من المشركين وأهل الكتاب حتى يقال إنهم أخذوا بعض بلاد المسلمين وإن بعض الكفار كان يحمل إليه كلام حتى يكف عن المسلمين فأي عز للإسلام في هذا والسيف يعمل في المسلمين وعدوهم قد طمع فيهم ونال منهم.
وأما سائر الأئمة غير علي فلم يكن لأحد منهم سيف)(1).
حديث الكساء ليس فيه دلالة على الإمامة ولا العصمة:
(وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة(2) ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة(3) قالت: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة وعليه مرط مرحل(4) من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (5).
__________
(1) المنهاج 8/ 241، انظر 8/ 252-254.
(2) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - 5/699، وكتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأحزاب 5/331، المسند 5/25-27، تحقيق أحمد شاكر وقال صحيح الإسناد.
(3) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - 4/1883.
(4) المرط هو كساء من صوف أو خز أو كتان وجمعه مروط، ومرط مرحل هو برد فيه تصاوير رحل – لسان العرب 7/401-402، 11/278، ترتيب القاموس المحيط 2/316، 4/229، القاموس المحيط/ 887.
(5) الأحزاب/ 33.(2/20)
وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين ( فليس هو من خصائصه ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة فعلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة بل يشركهم فيها غيرهم ثم إن مضمون هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم واجتناب الرجس واجب على المؤمنين والطهارة مأمور بها كل مؤمن)(1).
(ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير دعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب ولينالوا المدح والثواب)(2).
(وبالجملة فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس هو العصمة بالاتفاق فإن أهل السنة عندهم لا معصوم ألا النبي - صلى الله عليه وسلم - والشيعة يقولون: لا معصوم غير النبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام. فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء.
وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة متضمنا للعصمة التي يختص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام عندهم فلا يكون من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه العصمة لا لعلي ولا لغيره فإنه دعا بالطهارة لأربعة مشتركين لم يختص بعضهم بدعوة)(3).
__________
(1) المنهاج 5/13-14.
(2) المنهاج 5/15.
(3) المنهاج 7/83-84.(2/21)
حديث المباهلة ليس فيه دلالة على الإمامة ولا العصمة: (كذلك حديث المباهلة(1) شركة فيه فاطمة وحسن وحسين كما شركوه في حديث الكساء فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة بل يشركه فيه المرأة والصبي فإن الحسن والحسين كانا صغيرين عند المباهلة فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة تسع أو عشر والنبي - صلى الله عليه وسلم - مات ولم يكمل الحسين سبع سنين والحسن أكبر منه بنحو سنة وإنما دعا هؤلاء لأنه أمر أن يدعو كل واحد من الأقربين الأبناء والنساء والأنفس فيدعو الواحد من أولئك أبناءه ونساءه وأخص الرجال به نسبًا)(2).
فلو كان هذا دليلا على الإمامة لكان من يتصف به يستحقها، والمرأة لا تكون إمامًا بالنص والإجماع(3).
الرد على قول الرافضي:
(الثالث الفضائل التي اشتمل كل واحد منهم عليها الموجبة لكونه إماما.
والجواب من وجوه:
أحدها أن تلك الفضائل غايتها أن يكون صاحبها أهلا أن تعقد له الإمامة لكنه لا يصير إماما بمجرد كونه أهلا كما أنه لا يصير الرجل قاضيا بمجرد كونه أهلا لذلك.
الثاني أن أهلية الإمامة ثابتة لآخرين من قريش كثبوتها لهؤلاء وهم أهل أن يتولوا الإمامة فلا موجب التخصيص ولم يصيروا بذلك أئمة.
الثالث: أن الثاني عشر منهم معدوم عند جمهور العقلاء فامتنع أن يكون إماما.
الرابع أن العسكريين ونحوهما من طبقة أمثالهما لم يعلم لهما تبريز في علم أو دين كما عرف لعلي بن الحسين وأبي جعفر وجعفر بن محمد)(4).
__________
(1) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن سعيد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في حديث طويل 4/1871.
(2) المنهاج 5/45، انظر 7/123، 126-127.
(3) المنهاج 7/132.
(4) المنهاج 8/263.(2/22)
(وحينئذ فيقال: كون علي إماما ومعصوما وغير ذلك من الأصول الإمامية أثبتوه بالإجماع إذ عمدتهم في أصول دينهم على ما يذكرونه من العقليات وعلى الإجماع وعلى ما ينقلونه فهم يقولون علم بالعقل لأنه لا بد للناس من إمام معصوم وإمام منصوص عليه وغير علي ليس معصوما ولا منصوصا عليه بالإجماع فيكون المعصوم هو عليا وغير ذلك من مقدمات حججهم.
فيقال لهم: إن لم يكن الإجماع حجة فقد بطلت تلك الحجج فبطل ما بنوه على الإجماع من أصولهم فبطل قولهم: وإذا بطل ثبت مذهب أهل السنة وإن كان الإجماع حقا فقد ثبت أيضا مذهب أهل السنة. فقد تبين بطلان قولهم سواء قالوا الإجماع حجة أم لم يقولوا وإذا بطل قولهم ثبت مذهب أهل السنة وهو المطلوب. وإن قالوا نحن ندع الإجماع ولا نحتج به في شيء من أصولنا وإنما عمدتنا العقل والنقل عن الأئمة المعصومين.
قيل لهم إذا لم تحتجوا بالإجماع لم يبق معكم حجة سمعية غير النقل المعلوم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ما ينقلونه عن علي وغيره من الأئمة لا يكون حجة حتى نعلم عصمة الواحد من هؤلاء وعصمة الواحد من هؤلاء لا تثبت إلا بنقل عمن علم عصمته والمعلوم عصمته هو الرسول فما لم يثبت نقل معلوم عن الرسول بما يقولونه لم يكن معهم حجة سمعية أصلا لا في أصول الدين ولا في فروعه وحينئذ فيرجع الأمر إلى دعوى خلافة علي بالنص فإن أثبتم النص بالإجماع فهو باطل لنفيكم كون الإجماع حجة وإن لم تثبتوه إلا بالنقل الخاص الذي يذكره بعضكم فقد تبين بطلانه من وجوه وتبين أن ما ينقله الجمهور وأكثر الشيعة مما يناقض هذا القول يوجب علما يقينيًا بأن هذا كذب)(1).
__________
(1) المنهاج 8/341-343.(2/23)
أما الإجماع على الإمامة: (فإن أريد به الإجماع الذي ينعقد به الإمامة فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة بحيث يكون متمكنا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة حتى إذا كان رءوس الشوكة عددا قليلا ومن سواهم موافق لهم حصلت الإمامة بمبايعتهم له هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة وهو مذهب الأئمة كأحمد وغيره)(1).
الفصل الثالث
الغلو في الأئمة وادعاؤهم العصمة لهم
دعواهم عصمة الأئمة ومساواتهم لهم بالأنبياء:
وأما قوله: ("وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك" فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة ولا سائر طوائف المسلمين إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية... والكلام في أن هؤلاء أئمة فرض الله الإيمان بهم وتلقي الدين منهم دون غيرهم ثم في عصمتهم عن الخطأ فإن كلا من هذين القولين مما لا يقوله إلا مفرط في الجهل أو مفرط في اتباع الهوى أو في كليهما فمن عرف دين الإسلام وعرف حال هؤلاء كان عالما بالاضطرار من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - بطلان هذا القول لكن الجهل لا حد له)(2).
وأما قوله: (وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) إلى آخره فيقال:
__________
(1) المنهاج 8/356.
(2) المنهاج 2/452-454.(2/24)
أولاً: القوم المذكورون إنما كانوا يتعلمون حديث جدهم من العلماء به كما يتعلم سائر المسلمين وهذا متواتر عنهم فعلي بن الحسين يروي تارة عن أبان بن عثمان(1) بن عفان عن أسامة بن زيد... وسمع من أبي هريرة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه" أخرجاه في الصحيحين(2) ويروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن رجال من الأنصار: "رمي بنجم فاستنار" رواه مسلم(3).
وأبو جعفر محمد بن علي يروي عن جابر بن عبدالله حديث مناسك الحج الطويل(4) وهو أحسن ما روي في هذا الباب ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه).
(وأما ثانيًا: فليس في هؤلاء من أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مميز إلا علي - رضي الله عنه - وهو الثقة الصدوق فيما يخبر به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أن أمثاله من الصحابة ثقات صادقون فيما يخبرون به أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - -ولله الحمد- من أصدق الناس حديثا عنه لا يعرف فيهم من تعمد عليه كذبا... ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه).
__________
(1) هو أبان بن عثمان بن عفان الإمام الفقيه أبو سعد بن أمير المؤمنين أبي عمرو الأموي المدني، ت سنة 105 هـ، السير 4/351-353.
(2) البخاري، كتاب كفارات الإيمان، باب قوله تعالى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وأي الرقاب أزكى 7/237، مسلم، كتاب العتق، باب فضل العتق 2/1147.
(3) مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان 4/1750-1751.
(4) مسلم، كتاب المناسك، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/886-892.(2/25)
(وأما الحسن والحسين فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهما صغيران في سن التمييز فروايتهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلة وأما سائر الاثنى عشر فلم يدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقول القائل: إنهم نقلوا عن جدهم إن أراد بذلك أنه أوحي إليهم ما قاله جدهم فهذه نبوة كما كان يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاله غيره من الأنبياء وإن أراد أنهم سمعوا ذلك من غيرهم فيمكن أن يسمع من ذلك الغير الذي سمعوه منهم سواء كان ذلك من بني هاشم أو غيرهم فأي مزية لهم في النقل عن جدهم إلا بكمال العناية والاهتمام.
فإنه كل من كان أعظم اهتماما وعناية بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقيها من مظانها كان أعلم بها وليس هذا من خصائص هؤلاء... فالزهري(1) أعلم بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحواله وأقواله وأفعاله باتفاق أهل العلم من أبي جعفر محمد بن علي وكان معاصرا له.
وأما موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي فلا يستريب من له من العلم نصيب أن مالك بن أنس وحماد بن زيد(2) وحماد بن سلمة(3) والليث بن سعد والأوزاعي ويحيى بن سعيد ووكيع بن الجراح(4) وعبد الله بن المبارك(5) والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهم أعلم بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء وهذا أمر تشهد به الآثار التي تعاين وتسمع)(6).
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، قيل إنه كان ضرير، ولعله طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب، ت سنة 179 هـ، التقريب/ 178، الخلاصة 1/251.
(3) هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، وقد سبقت ترجمته.
(4) هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي، وقد سبقت ترجمته.
(5) هو عبد الله بن المبارك المروزي، وقد سبقت ترجمته.
(6) المنهاج 2/454-462، انظر 5/464.(2/26)
(وأما دعوى المدعي أن كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا كذب على القوم رضي الله عنهم أجمعين فإنهم كانوا يميزون بين ما يروونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين ما يقولونه من غير ذلك وكان علي - رضي الله عنه - يقول: (إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إليَّ من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة)(1)، ولهذا كان يقول القول ويرجع عنه ولهذا كانوا يتنازعون في المسائل كما يتنازع غيرهم وينقل عنهم الأقوال المختلفة كما ينقل عن غيرهم وكتب السنة والشيعة مملوءة بالروايات المختلفة عنهم(2).
وأما قوله: "إن الإمامية يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين"... ويقال ثانيا: متى ثبت النقل عن أحد هؤلاء كان غايته أن يكون كما لو سمع منه وحينئذ فله حكم أمثاله ويقال ثالثا الكذب على هؤلاء في الرافضة أعظم الأمور لا سيما على جعفر بن محمد الصادق فإنه ما كذب على أحد ما كذب عليه)(3).
(وكذلك الغلاة في العصمة يعرضون عما أمروا به من طاعة أمرهم والاقتداء بأفعالهم إلى ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم فيتخذونهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم ويدخلون فيما حرمه الله تعالى ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصارى وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عند موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوه قالت عائشة رضي الله عنها: «ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا»(4))(5).
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد 2/586.
(2) المنهاج 2/462-463.
(3) المنهاج 2/463-464.
(4) انظر تخريجه ص 113.
(5) المنهاج 2/435، انظر 3/374.(2/27)
(بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء [يعني الرافضة] أكثر فإنهم يدعون الدعوة إلى إمام معصوم ولا يوجد لهم أئمة ذوو سيف يستعينون بهم إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل لا تخرج رءوسهم عن هذه الأقسام... فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم بل إلى سلطان كفور أو ظلوم وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } (1) فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ولو كان للناس معصوم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمرهم بالرد إليه فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -)(2).
(وقول هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي - رضي الله عنه - أنه تجب طاعة غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقا في كل ما أمر به أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان - رضي الله عنه - من أهل الشام من أنه يجب طاعة ولي الأمر مطلقا فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود)(3).
(ثم إن هذا ادعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف... ولم يحصل بعده [يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -] أحد له سلطان تدعى له العصمة إلا علي - رضي الله عنه - زمن خلافته.
__________
(1) النساء/ 59.
(2) المنهاج 3/380-381.
(3) المنهاج 3/389.(2/28)
ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له سلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا علي وحده وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة علم بالضرورة أن ما يدعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعًا)(1).
الرد على دعوى الرافضة أن حب علي حسنة لا تضر معها سيئة وأن بغضه سيئة لا تنفع منها حسنة وبيان أن هذا من أظهر الكذب:
قال في الرد على قول الرافضي:
(قال الرافضي ومنها ما نقله صاحب الفردوس(2) في كتابه عن معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حب علي حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة»(3).
__________
(1) المنهاج 3/378-379.
(2) هو ابن شيرويه وقد سبق التعريف به.
(3) تفسير منهج الصادقين 8/110، نقلاً عن كتاب الشيعة وأهل البيت/ 237 لإحسان إلى ظهير.(2/29)
والجواب: أن كتاب الفردوس فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله... وهذا الحديث مما يشهد المسلم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقوله فإن حب الله ورسوله أعظم من حب علي والسيئات تضر مع ذلك وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب عبد الله بن حمار(1) في الخمر وقال: «إنه يحب الله ورسوله»(2) وكل مؤمن فلا بد أن يحب الله ورسوله والسيئات تضره وقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشرك يضر صاحبه ولا يغفره الله لصاحبه ولو أحب علي بن أبي طالب فإن أباه أبا طالب كان يحبه وقد ضره الشرك حتى دخل النار(3) والغالية يقولون إنهم يحبونه وهم كفار من أهل النار... وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من حب علي ولو ترك رجل الصلاة والزكاة وفعل الكبائر لضره ذلك مع حب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف لا يضره ذلك مع حب علي؟)(4).
(وكذلك الحديث الذي ذكره عن ابن مسعود(5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حب آل محمد يوما خير من عبادة سنة ومن مات عليه دخل الجنة»(6) وقوله عن علي: «أنا وهذا حجة الله على خلقه»(7) هما حديثان موضوعان عند أهل العلم بالحديث وعبادة سنة فيها الإيمان والصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان.
__________
(1) هو عبد الله بن حمار، وحمار لقبه قال البخاري: كان رجل يُسمى عبد الله ويُلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أنه قال لرجل لعنه لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، الإصابة 2/282-283، تجريد أسماء الصحابة 1/306.
(2) البخاري، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة 8/14، وقد سبق تخريجه.
(3) البخاري، كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار 7/203، مسلم، كتاب الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت … والدليل على أن من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم 1/54.
(4) المنهاج 5/72-74.
(5) لم أجده.
(6) لم أجده.
(7) المنهاج 5/75-76.(2/30)
وقد أجمع المسلمون على أن هذا لا يقوم مقامه حب آل محمد شهرا فضلا عن حبهم يوما... وكذلك قوله لو اجتمع الناس على حب علي لم يخلق الله النار من أبين الكذب باتفاق أهل العلم والإيمان ولو اجتمعوا على حب علي لم ينفعهم ذلك حتى يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعملوا صالحا وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنة وإن لم يعرفوا عليا بالكلية ولم يخطر بقلوبهم لا حبه ولا بغضه)(1).
الرد على من يبطل الصلاة بترك الصلاة على الأئمة:
(وأما قوله ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ويذكر أئمة غيرهم فإما أن يكون المراد بذلك أنه تجب الصلاة على الأئمة الاثنى عشر أو على واحد معين غير النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أو من غيرهم وإما أن يكون المراد وجوب الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أراد الأول فهذا من أعظم ضلالهم وخروجهم عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنا نحن وهم نعلم بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المسلمين أن يصلوا على الاثنى عشر لا في الصلاة ولا في غير الصلاة ولا كان أحد من المسلمين يفعل شيئا من ذلك على عهده ولا نقل هذا أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا كان يجب على أحد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ أحدا من الاثنى عشر إماما فضلا عن أن تجب الصلاة عليه في الصلاة.
وكانت صلاة المسلمين صحيحة في عهده بالضرورة والإجماع فمن أوجب الصلاة على هؤلاء في الصلاة وأبطل الصلاة بإهمال الصلاة عليهم فقد غير دين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبدله كما بدلت اليهود والنصارى دين الأنبياء.
__________
(1) المنهاج 4/591-592.(2/31)
وإن قيل: المراد أن يصلي على آل محمد وهم منهم قيل آل محمد يدخل فيهم بنو هاشم وأزواجه وكذلك بنو المطلب على أحد القولين وأكثر هؤلاء تذمهم الإمامية فإنهم يذمون ولد العباس لا سيما خلفاؤهم وهم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويذمون من يتولى أبا بكر وعمر وجمهور بني هاشم يتولون أبا بكر وعمر ولا يتبرأ منهم صحيح النسب من بني هاشم إلا نفر قليل بالنسبة إلى كثرة بني هاشم وأهل العلم والدين منهم يتولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
ومن العجب من هؤلاء الرافضة أنهم يدعون تعظيم آل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام [كما سبق] وهم سعوا في مجيء التتر الكفار إلى بغداد دار الخلافة حتى قتلت الكفار من المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم)(1).
(فعلم أنه لا يشترط في الولاية من العلم والعدالة أكثر مما يشترط في الشهادة، يبين ذلك أن الإمامية وجميع الناس يجوزون أن يكون نواب الإمام غير معصومين وأن لا يكون الإمام عالما بعصمتهم بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط(2) ثم أخبره بمحاربة الذين أرسله إليهم فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (3).
__________
(1) المنهاج 4/591-592.
(2) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي، له صحبة قليلة، ورواية يسيرة، وهو أخو أمير المؤمنين عثمان لأمه، من مسلمة الفتح، ولي الكوفي لعثمان، قيل مات في أيام معاوية. السير 3/412-416، طبقات ابن سعد 6/24، 7/476.
(3) الحجرات/ 6.(2/32)
وعلي - رضي الله عنه - كان كثير من نوابه يخونه وفيهم من هرب عنه وله مع نوابه سير معلومة فعلم أنه ليس في كون الإمام معصوما ما يمنع اعتبار الظاهر ووجود مثل هذه المفاسد وأن اشتراط العصمة في الأئمة شرط ليس بمقدور ولا مأمور ولم يحصل به منفعة لا في الدين ولا في الدنيا)(1).
وهم يقولون: (المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة)(2).
الرافضة تقبل قول الإمام بأصول ثلاثة:
(وقد أصلت لها ثلاثة أصول:
أحدها: أن كل واحد من هؤلاء إمام معصوم بمنزلة النبي لا يقول إلا حقا ولا يجوز لأحد أن يخالفه ولا يرد ما ينازعه فيه غيره إلى الله والرسول فيقولون عنه ما كان هو وأهل بيته يتبرءون منه(3).
والثاني: أن كل ما يقوله واحد من هؤلاء فإنه قد علم منه أنه قال أنا أنقل كل ما أقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويا ليتهم قنعوا بمراسيل التابعين كعلي بن الحسين بل يأتون إلى من تأخر زمانه كالعسكريين فيقولون كل ما قاله واحد من أولئك فالنبي قد قاله.
__________
(1) المنهاج 3/398-399.
(2) المنهاج 5/467.
(3) أي فيقولون عن الإمام من الافتراء والكذب ما كان يتبرأ منه ذلك الإمام وأهل بيته.(2/33)
وكل من له عقل يعلم أن العسكريين بمنزلة أمثالهما ممن كان في زمانهما من الهاشميين ليس عندهم من العلم ما يمتازون به عن غيرهم ويحتاج إليهم فيه أهل العلم ولا كان أهل العلم يأخذون عنهم كما يأخذون عن علماء زمانهم وكما كان أهل العلم في زمن علي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابن ابنه جعفر بن محمد فإن هؤلاء الثلاثة ( قد أخذ أهل العلم عنهم كما كانوا يأخذون عن أمثالهم بخلاف العسكريين ونحوهما فإنه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئا فيريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع العالمين بمنزلة القرآن والمتواتر من السنن وهذا مما لا يبني عليه دينه إلا من كان من أبعد الناس عن طريقة أهل العلم والإيمان.
وأصلوا أصلا ثالثا: وهو أن إجماع الرافضة هو إجماع العترة وإجماع العترة معصوم، والمقدمة الأولى كاذبة بيقين والثانية فيها نزاع فصارت الأقوال التي فيها صدق وكذب على أولئك بمنزلة القرآن لهم وبمنزلة السنة المسموعة من الرسول وبمنزلة إجماع الأمة وحدها.
وكل عاقل يعرف دين الإسلام وتصور هذا فإنه يمجه أعظم مما يمج الملح الأجاج والعلقم لا سيما من كان له خبرة بطرق أهل العلم لا سيما مذاهب أهل الحديث وما عندهم من الروايات الصادقة التي لا ريب فيها عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى فإن هؤلاء جعلوا الرسول الذي بعثه الله إلى الخلق هو إمامهم المعصوم عنه يأخذون دينهم فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه وكل قول يخالف قوله فهو مردود عندهم... إلخ)(1).
ادعاؤهم العصمة لأئمتهم وتناقضهم في ذلك:
__________
(1) المنهاج 5/164-165.(2/34)
(فإن الأئمة الذين يدّعي فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة(1)، وعند آخرين هو معدوم لم يوجد والذين يطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة أو كتب صنفها بعض شيوخ الرافضة وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين وهؤلاء الشيوخ المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق ولا مقطوعا لهم النجاة.
فإذا الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي وهم أئمتهم حقا)(2).
(فتبين أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة)(3).
(وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة كما تقدم ولو قدر ثبوت العصمة فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة ولا إجماع على انتفاء العصمة في غيرهم وحينئذ فتبطل حجتهم بكل طريق)(4).
(ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام وهذا حال المعلم الأول للرافضة أول من ابتدع الرفض وحال أئمه الباطنية، وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى وهو الغالب على عامة الشيعة إذا كانوا مسلمين في الباطن.
وإذا قال الرافضي: «علي كان معصوما لا يقول برأيه بل كل ما قاله فهو مثل نص الرسول وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول.
قيل له: نظيرك في البدعة الخوارج كلهم يكفرون عليا مع أنهم أعلم وأصدق وأدين من الرافضة لا يسترتب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء.
__________
(1) وهو الآن غائب أكثر من 1150 سنة.
(2) المنهاج 3/488-489.
(3) المنهاج 7/85.
(4) المنهاج 7/85.(2/35)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيهم: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قرائتهم»(1).
وقد قاتلوه في حياته وقتله واحد منهم ولهم جيوش وعلماء ومدائن، وأهل السنة ولله الحمد متفقون على أنهم مبتدعة ضالون وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة وأن أمير المؤمنين عليا - رضي الله عنه - كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج)(2).
(وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ومخالفه يستحق الوعيد والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (3)، وقال: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } (4) فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار وبين الأبرار والفجار وبين الحق والباطل وبين الغي والرشاد والهدى والضلال وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد فمن اتبعه فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقي وليست هذه المرتبة لغيره.
__________
(1) البخاري، كتاب المناقب، باب "علامات النبوة في الإسلام" 4/179، مسلم، كتاب الزكاة، باب "ذكر الخوارج وصفاتهم" 2/743-744.
(2) المنهاج 6/115-116.
(3) النساء/ 69.
(4) الجن/ 23.(2/36)
ولهذا اتفق أهل العلم -أهل الكتاب والسنة- على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } (1))(2).
الرافضة يوجبون عصمة علي والرد على ذلك:
الرد على قول الرافضي:
(الرابع أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه وغير علي لم يكن كذلك إجماعا فتعين أن يكون الإمام هو علي... إلخ.
والجواب: أن هذا... من العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدعيه من النص والإجماع وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات والاستدلال بها بخلاف السنة والجماعة فإن السنة تتضمن النص والجماعة تتضمن الإجماع فأهل السنة والجماعة هم المتبعون للنص والإجماع ونحن نتكلم على هذا التقرير ببيان فساده وذلك من وجوه.
أحدها: أن يقال: لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة.
الثاني: إن أريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نواب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وليس كل ما تقدره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله ولا يجب عليه فعله...
الثالث: أن قوله: «أن الله قادر على نصب إمام معصوم» أتريد به معصوما يفعل الطاعات باختياره والمعاصي باختياره، والله تعالى لم يخلق اختياره كما هو قولهم؟ أم تريد به أنه معصوم يفعل الطاعات بغير اختيار يخلقه الله فيه؟
__________
(1) الأعراف/ 6.
(2) المنهاج/ 190-191.(2/37)
فإن قالوا بالأول كان باطلا على أصلهم فإن الله عندهم لا يقدر على خلق مؤمن معصوم بهذا التفسير كما لا يقدر على خلق مؤمن وكافر عندهم بهذا التفسير فإن الله عندهم لا يقدر على فعل الحي المختار ولا يخلق إرادته المختصة بالطاعة دون المعصية.
وإن قالوا بهذا الثاني لم يكن لهذا المعصوم ثواب على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية وحينئذ فسائر الناس يثابون على طاعتهم وترك معاصيهم أفضل منه فكيف يكون الإمام المعصوم الذي لا ثواب له أفضل من أهل الثواب؟
فتبين انتقاض مذهبهم حيث جمعوا بين متناقضين بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولهم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي.
الوجه الرابع: أن يقال المعصوم الذي تدعو الحاجة إليه أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو عاجز عن ذلك؟ الثاني ممنوع فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة بل القدرة شرط في ذلك فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى الصلاح لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب)(1).
(ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد مالا يزول إلا بعدمه فقولهم الحاجة داعية إليه ممنوع وقولهم المفسدة فيه معدومة ممنوع.
بل الأمر بالعكس فالمفسدة معه موجودة والمصلحة معه منتفية وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب فما الظن بتحقق وجوده؟)(2).
(وأيضا فإن كان الإجماع قد يكون خطأ لم يثبت أن عليا معصوم فإنه إنما علمت عصمته بالإجماع على أنه لا معصوم سواه فإذا جاز كون الإجماع أخطأ أمكن أن يكون في الأمة معصوم غيره وحينئذ فلا يعلم أنه هو المعصوم.
__________
(1) المنهاج 6/ 465-472.
(2) المنهاج 6/474.(2/38)
فتبين أن قدحهم في الإجماع يبطل الأصل الذي اعتمدوا عليه في إمامة المعصوم وإذا بطل أنه معصوم بطل أصل مذهب الرافضة فتبين أنهم إن قدحوا في الإجماع بطل أصل مذهبهم وإن سلموا أنه حجة بطل مذهبهم فتبين بطلان مذهبهم على التقديرين)(1).
ثم وضح أن عليا لا يعلم المستقبل وأنه يصيب ويخطئ فقال:
(ومما يبين أن عليا لم يكن يعلم المستقبل أنه ندم على أشياء مما فعلها.... وكان يقول ليالي صفين: (يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ هذا لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير(2) وهذا رواه المصنفون وتواتر عنه أنه كان يتضجر ويتململ من اختلاف رعيته عليه وأنه ما كان يظن أن الأمر يبلغ ما بلغ)(3).
ومما يبين تناقضهم في دعوى العصمة لعلي أو غيره ما أوضحه شيخ الإسلام بقوله: (وهؤلاء الرافضة في احتجاجهم على أن عليا معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيره احتجاجا لقولهم بقولهم وإثبات الجهل بالجهل.
ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين وكان أحد القولين يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله فالصواب عندهم القول الذى لا يعرف قائله قالوا: لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل؟ ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم؟
ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف أنه قاله كما لم يعرف أنه قاله الآخر ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعرف وأن غيره قاله كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس؟.
__________
(1) المنهاج 8/359.
(2) لم أقف عليه.
(3) المنهاج 5/ 145.(2/39)
فهم يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته كما قالوا هنا عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته وكما جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم وهذا حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله فإنه يقع في ظلمات البدع ظلمات بعضها فوق بعض)(1).
وبين أنهم لا يجاهدون الأعداء مدعين أن الجهاد لا يكون إلا مع المعصوم، فقال: (فإن الرافضة لا ترى الجهاد إلا مع إمام معصوم ولا معصوم عندهم من الصحابة إلا علي فهذه الآية(2) حجة عليهم في وجوب غزو الكفار مع جميع الأمراء)(3).
* * *
الفصل الرابع
المهدي المنتظر
الأدلة على خروج المهدي عند أهل السنة:
(وأما الحديث الذي رواه عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذلك هو المهدي».
فالجواب أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود(4) والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره.
__________
(1) المنهاج 6/ 442.
(2) يعني آية براءة، قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ … } الآية (التوبة/ 5).
(3) المنهاج 8/ 518-519.
(4) هو سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر السجستاني، ولد سنة اثنين ومائتين، ت سنة 275 هـ بالبصرة، السير 13/203، تاريخ بغداد 9/55-59.(2/40)
كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن مسعود «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما»(1) ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة(2).
وأيضا فيه «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»(3) ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه «يملك الأرض سبع سنين»(4).
ورواه عن علي - رضي الله عنه - أنه نظر إلى الحسن وقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطا(5).
المهدي ادعاه كثير من الطوائف:
الثاني: أن الاثنى عشرية الذين ادعوا أن هذا هو مهديهم، مهديهم اسمه محمد بن الحسن والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمه محمد بن عبد الله.... وأيضا فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين كما تقدم لفظ حديث علي.
__________
(1) رواه أبو داود من رواية ابن مسعود وعلي 4/472-474، ورواه الترمذي من رواية ابن مسعود. وقال: وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة 4/505.
(2) هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، بنت عم خالد بن الوليد، دخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أربعة من الهجرة، وهي آخر من مات من أمهات المؤمنين، ت سنة 61 هـ، ودفنت بالبقيع. السير 2/201-210، الطبقات الكبرى 8/86-96.
(3) رواه أبو داود، كتاب المهدي 4/474، وروى نحوه في المسند 1/84، 99، 376، 377، 3/17، 26 وغيرها والترمذي، كتاب المهدي 4/ 505 نحوه وابن ماجه في الفتن باب خروج المهدي 2/ 1367، 1368 نحوه.
(4) أبو داود، كتاب المهدي 4/474-475.
(5) أبو داود، كتاب المهدي 4/477، قال محققه: هذا منقطع … إلخ.(2/41)
الثالث: أن طوائف ادعى كل منهم أن المهدي المبشر به مثل مهدي القرامطة الباطنية(1) الذي أقام دعوتهم بالمغرب وهو من ولد ميمون القداح(2) وادعوا أن ميمونا هذا هو من ولد محمد بن إسماعيل... وممن ادعى أنه المهدي ابن التومرت(3) الذي خرج أيضا بالمغرب، وسمي أصحابه الموحدين.. ومثل عدة آخرين ادعوا ذلك منهم: من قتل ومنهم من ادعى ذلك فيه أصحابه وهؤلاء كثيرون لا يحصي عددهم إلا الله... ومع هذا فهؤلاء مع ما وقع لهم من الجهل والغلط كانوا خيرا من منتظر الرافضة ويحصل بهم من النفع ما لا يحصل بمنتظر الرافضة ولم يحصل بهم من الضرر ما حصل بمنتظر الرافضة بل ما حصل
__________
(1) ينتسب القرامطة إلى حمدان بن الأشعث الأهوازي المُلقب (قرمط) ويعود في أصله إلى (خوزستان) وقد عرف في سواد الكوفة حوالي عام 358 هـ، وكان أحد دعاتهم في الابتداء، وقيل هم أصحاب أبي سعيد بن بهرام الجنابي القائم بالبحرين صاحب مذهب القرامطة الذين يقيمون بالأحساء وكانوا يقولون بنبوة عبد الله بن الحارث الكندي ويعبدونه، والمختار بن أبي عبيد منهم وقد ادعى النبوة والقرامطة جماعة من الإسماعيلية، القرامطة، لمحمود شاكر 5-7، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان/ 80-81، ذكر مذاهب الفرق الثنتين وسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين/ 92.
(2) هو المُلحد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان جده يهودياً من بيتٍ مجوسي، وادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم ملوك القرامطة الباطنية أعداء الدين، ولد سنة 259هـ، وت سنة 322 هـ في سلمية (بسورية) وهو رأس الفرقة الميمونية من الإسماعيلية. المنار المنيف/ 153-154، الأعلام 7/341.
(3) محمد بن عبد الله بن تومرت، رجل كذاب ظالم، مُتغلب بالباطل، وسمى أصحابه الجهمية: "الموحدين" ادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، هلك سنة 524 هـ. المنار المنيف/ 153، السير 19/ 539-552، تذكرة الحفاظ 4/ 1274.(2/42)
بمنتظر الرافضة من الضرر أكثر منه)(1).
المنتظر عند الرافضة:
(فإنهم يدعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامراء(2) سنة ستين ومائتين أو نحوها ولم يميز بعد بل كان عمره إما سنتين أو ثلاثا أو خمسا أو نحو ذلك وله الآن على قولهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة(3) ولم ير له عين ولا أثر ولا سمع له حس ولا خبر.
فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ولا صفته لكن يقولون إن هذا الشخص الذي لم يره أحد ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام)(4).
(وهم يقولون بإمام منتظر موجود غائب لا يعرف له عين ولا أثر ولا يعلم بحس ولا خبر لا يتم الإيمان إلا به.
ويقولون أصول الدين أربعة: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وهذا منتهى الإمام عندهم: الإيمان بأنه معصوم غائب عن الأبصار كائن في الأمصار سيخرج الدينار من قعر البحار يطبع الحصى ويورق العصا دخل سرداب سامراء سنة ستين ومائتين وله من العمر إما سنتان وإما ثلاث وإما خمس أو نحو ذلك فإنهم مختلفون في قدر عمره ثم إلى الآن لم يعرف له خبر ودين الخلق مسلم إليه فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ولم ينتفع به أحد من عباد الله)(5).
__________
(1) المنهاج 8/254-260، انظر 4/94-97.
(2) قال الفيروزآبادي: السرداب بالكسر، بناء تحت الأرض للصيف، مُعرب "القاموس المحيط"/ 124.
(3) وله الآن على زعمهم 1150 سنة.
(4) المنهاج 1/113-114، انظر 1/120-121، 8/161، 7/409.
(5) المنهاج 5/176.(2/43)
الحسن العسكري ليس له عقب وبيان أنه لا يمكن بقاء مهدي الرافضة إلى الآن، (قد ذكر محمد بن جرير الطبري(1) وعبد الباقي بن قانع(2)، وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ أن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب والإمامية الذين يزعمون أنه كان له ولد يدعون أنه دخل السرداب بسامراء وهو صغير منهم من قال: عمره سنتان ومنهم من قال ثلاث ومنهم من قال: خمس سنين وهذا لو كان موجودا معلوما لكان الواجب في حكم الله الثابت بنص القرآن والسنة والإجماع أن يكون محضونا عند من يحضنه في بدنه كأمه وأم أمه ونحوهما من أهل الحضانة وأن يكون ماله عند من يحفظه إما وصي أبيه إن كان له وصي وإما غير الوصي إما قريب وإما نائب لدى السلطان فإنه يتيم لموت أبيه....
فكيف يكون من يستحق الحجر عليه في بدنه وماله إماما لجميع المسلمين معصوما لا يكون أحد مؤمنا إلا بالإيمان به؟
ثم إن هذا باتفاق منهم سواء قدر وجوده أو عدمه لا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا ولا علم أحدا شيئا ولا يعرف له صفة من صفات الخير ولا الشر فلم يحصل به شيء من مقاصد الإمامة ولا مصالحها لا الخاصة ولا العامة بل إن قدر وجوده فهو ضرر على أهل الأرض بلا نفع أصلا فإن المؤمنين به لم ينتفعوا به ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة والمكذبون به يعذبون عندهم على تكذبيهم به فهو شر محض لا خير فيه وخلق مثل هذا ليس من فعل الحكيم العادل...
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) هوالإمام الحافظ القاضي أبو الحسين عبد الباقي بن قانع بن مرزوق بن واثق الأموي مولاهم، البغدادي، صاحب كتاب "معجم الصحابة" ولد سنة 265 هـ، وت سنة 351 هـ، السير 15/526، تاريخ بغداد 11/88،89.(2/44)
وهذا المنتظر لم يحصل به لطائفته إلا الانتظار لمن لا يأتي ودوام الحسرة والألم ومعاداة العالم والدعاء الذي لا يستجيبه الله لأنهم يدعون له بالخروج والظهور من مدة أكثر من أربعمائة وخمسين سنة(1)) لم يحصل شيء من هذا.
(ثم إن عمر واحد من المسلمين هذه المدة أمر يعرف كذبه بالعادة المطردة في أمة محمد فلا يعرف أحد ولد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة فضلا عن هذا العمر وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في آخر عمره: « أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد»(2).
فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش أكثر من مائة سنة قطعا وإذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتجاوز هذا الحد فما بعده من الأعصار أولى بذلك في العادة الغالبة العامة فإن أعمار بني آدم في الغالب كلما تأخر الزمان قصرت ولم تطل فإن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وآدم عليه السلام عاش ألف سنة كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه الترمذي وصححه(3) فكان العمر في ذلك الزمان طويلا ثم أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح(4))(5).
__________
(1) والآن مر عليه أكثر من 1150 سنة.
(2) رواه البخاري في مواقيت الصلاة باب السمر في الفقه … إلخ 1/149، وفي العلم باب السمر في العلم 1/37، وغيرها، وفي مسلم في فضائل الصحابة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تأتي مائة سنة» … إلخ 4/1965-1967.
(3) الترمذي في تفسير القرآن باب قبل الباب الأخير فيه 5/453-454.
(4) الترمذي في الزهد باب ما جاء في فنايا أعمار هذه الأمة … إلخ 4/556، وابن ماجه في الزهد باب الأمل والأجل 2/1415.
(5) المنهاج 4/87-93، انظر 1/122.(2/45)
ثم رد على احتجاجهم على بقاء المهدي بحياة الخضر فقال: (واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل على باطل فمن الذي يسلم لهم بقاء الخضر(1) والذي عليه سائر العلماء المحققون(2) أنه مات وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأمة.
ولهذا يوجد كثير من الكذابين من الجن والأنس ممن يدعي أنه الخضر ويظن من رآه أنه الخضر وفي ذلك من الحكايات الصحيحة التي نعرفها ما يطول وصفها هنا.
وكذلك المنتظر محمد بن الحسن فإن عددا كثيرا من الناس يدعي كل واحد منهم أنه محمد بن الحسن منهم من يظهر ذلك لطائفة من الناس ومنهم من يكتم ذلك ولا يظهره إلا للواحد أو الاثنين وما من هؤلاء إلا من يظهر كذبه كما يظهر كذب من يدعى أنه الخضر)(3).
بيان أن ما يدعيه الصوفية ونحوهم في شيوخهم -مع ضلالهم- أقر بإلى الحق ما تدعيه الرافضة في مهديهم: (وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يدعى في رجال الغيب بجبل لبنان .... ونحو ذلك من الجبال والغيران فإن هذه المواضع يسكنها الجن ويكون بها الشياطين ويتراءون أحيانا لبعض الناس ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس وإنما هم رجال من الجن كما قال تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } (4) .
__________
(1) هو بليان بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أفخشذ بن سالم بن نوح عليه السلام "صاحب موسى" قيل يُكنى بأبي العباس، وقيل: إنه نبياً، وقيل: إنه من أبناء الملوك، قيل أنه مُخلد وهو قول ضعيف، والأرجح إن شاء الله أنه قد مات. تفسير ابن كثير 3/99-100، المعارف لابن قتيبة/ 42.
(2) هكذا في المنهاج والصواب: المحققين.
(3) المنهاج 4/93-94، انظر 3/389-390، 400، 402، 489، 490.
(4) الجن/ 6.(2/46)
وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدعون الإمام المعصوم بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر فإنهم يدعون الدعوة إلى إمام معصوم ولا يوجد لهم أئمة ذوو سيف يستعينون بهم إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل لا تخرج رءوسهم عن هذه الأقسام... فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم بل إلى سلطان كفور أو ظلوم وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم.
وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } (1).
فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ولو كان للناس معصوم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمرهم بالرد إليه فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -)(2).
(ومعلوم أن هؤلاء مع أن قولهم معلوم البطلان ضرورة فقول الإمامية أبطل من قولهم فإن هؤلاء ادعوا بقاء من كان موجودا حيا معروفا وأولئك ادعوا بقاء من لم يوجد بحال)(3).
بيان أن كل من تولى -وإن كان ظالمًا- فهو خير من منتظر الرافضة:
__________
(1) النساء/ 59.
(2) المنهاج 3/379-381.
(3) أي الذين يقولون بأن الإمام هو محمد بن الحنفية وإنه حي بجبال رضوى.(2/47)
(وكل من تولى كان خيرا من المعدوم المنتظر الذي تقول الرافضة إنه الخلف الحجة فإن هذا لم يحصل بإمامته شيء من المصلحة لا في الدنيا ولا في الدين أصلا فلا فائدة في إمامته إلا الاعتقادات الفاسدة والأماني الكاذبة والفتن بين الأمة وانتظار من لا يجيء فتطوى الأعمار ولم يحصل من فائدة هذه الإمامة شيء والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور بل كانت تفسد أمورهم فكيف تصلح أمورهم إذا لم يكن لهم إمام إلا من لا يعرف ولا يدري ما يقول ولا يقدر على شيء من أمور الإمامة بل هو معدوم)(1).
بيان أن مهدي الرافضة لا منفعة فيه لأحد:
(وهذا الذي تدعيه الرافضة إما مفقود عندهم وإما معدوم عند العقلاء وعلى التقديرين فلا منفعة لأحد به لا في دين ولا في دنيا فمن علق دينه بالمجهولات التي لا يعلم ثبوتها كان ضالا في دينه لأن ما علق به دينه لم يعلم صحته ولم يحصل له به منفعة فهل يفعل مثل هذا إلا جاهل؟)(2).
ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف، سواء كان ميتاً، كما يقوله الجمهور، أو كان حياً، كما تظنه الإمامية(3).
بيان فساد احتجاجهم بأنه يجب على الله أن يجعل للناس إمامًا معصومًا ليكون لطفا ومصلحة في التكيف: (وقد تبين فساد هذه الحجة من وجوه أدناها أن هذا مفقود لا موجود فإنه لم يوجد إمام معصوم حصل به لطف ولا مصلحة ولو لم يكن في الدليل على انتفاء ذلك إلا المنتظر الذي قد علم بصريح العقل أنه لم ينتفع به أحد لا في دين ولا دنيا ولا حصل لأحد من المكلفين به مصلحة ولا لطف لكان هذا دليل على بطلان قولهم فكيف مع كثرة الدلائل على ذلك؟)(4).
* * *
الخاتمة
الحمد لله الذي منَّ عليَّ بإكمال هذا البحث، ويسر إتمامه، والذي أسأل الله أن ينفعني به والمسلمين، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
__________
(1) المنهاج 1/548.
(2) المنهاج 8/262.
(3) المنهاج 3/378.
(4) المنهاج 4/104.(2/48)
وفي نهاية هذا البحث أذكر أهم النتائج التي توصلت إليها من خلاله وهي:
أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين فكلما افترى المفترون هيأ الله من يقمعهم ويبين للمسلمين بطلان قولهم، ومن هؤلاء العلماء الذين جاهدوا في هذا الميدان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أن دفع الباطل ودحض الحجج لا يكون بالظلم والتعسف وإنما يكون بالإنصاف والإقناع والبراهين، كما فعل شيخ الإسلام مع هؤلاء الروافض.
أهمية كتاب منهاج السنة وأنه كما دحض باطلهم في زمن شيخ الإسلام فإنه صالح لدحض باطلهم في هذا الزمن.
أن الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح، بل قلبوا الحقائق وبدلوا المفاهيم الصحيحة للإسلام واعتمدوا على الكذب والبهت.
أن الرافضة لجهلهم وقلة عقلهم وشدة حقدهم على الإسلام وأهله صاروا نافذة يدخل منها كل زنديق ومُلحد يريد هدم الإسلام.
أن عدواتهم لأهل السنة مستمرة من عصر الصحابة وحتى قيام الساعة.
كثرة النفاق فيهم بل إنهم يجعلون ذلك من أصول دينهم ويسمونه "التقية".
انحرافهم في عقيدتهم في الله حيث أن متقدميهم مُجسمة وأما متأخروهم فمُعطلة.
يكثرون من الأباطيل المستقبلية فإذا لم تحصل في عالم الواقع نسبوا الجهل إلى الله حيث يقولون بدا لله بداء.
الرافضة مخالفون لأهل البيت في الاعتقاد مع ادعائهم محبتهم زوراً وبهتاناً.
يدعون أن القرآن الكريم فيه تحريف وزيادة ونقصان ويفسرونه تفسيراً باطلاً حسب أهوائهم كقولهم: إن البقرة عائشة. وقد بين شيخ الإسلام بطلان قولهم، وذكر أقوال أهل العلم الموثوقين من أهل البيت وغيرهم من أهل السنة والجماعة.
خطأ الرافضة ومن نحا نحوهم حيث جعلوا النبوة ثمرة لعمل متقدم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة.(2/49)
تبين لي من خلال البحث أن الرافضة منهم من يُعظم الأنبياء ويغلو في ذلك حتى جعلوهم في مرتبة الإله، ومنهم من غلوا في انتقاص الأنبياء وجوزوا عليهم العصيان ونفوا عنهم العصمة.
تطاولوا على مقام النبوة حتى جعلوا الأئمة أعلى مرتبة من الأنبياء.
أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لهم من الفضائل والخصائص ما يجعلهم أفضل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أن الرافضة طعنوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بأمور لا حقيقة لها وما صح منها فليس فيها طعن. ومدحوا علياً - رضي الله عنه - بأمور هي في الحقيقة ذم وقدح وذلك لخبث طويتهم وفساد رأيهم.
أن الطعن في الصحابة طعن في هذا الدين بل وطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ذكرت أهم ما ذكرت من مطاعن وذكرت الرد عليها كل ذلك من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله – فهو كلام رصين وشاف كاف لا مزيد عليه.
بيان مذهب أهل السنة في ترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ورد على خرافة الرافضة في إمامة علي - رضي الله عنه - زمن الخلفاء الثلاثة، مبيناً بطلانها من الكتاب والسنة والعقل.
بغضهم الشديد لجميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وخالد بن الوليد وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم مما جعلهم يكثرون الطعن عليهم.
أذيتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث طعنوا في زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ولو كانوا يُحبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعلوا ذلك.
تعظيم الرافضة لأعداء الإسلام كأبي لؤلؤة المجوسي "قاتل عمر" وعبد الله بن سبأ قائد فتنة مقتل عثمان، وغيرهم.
زعمهم ردة الصحابة – رضي الله عنهم – بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيان بطلان هذا الزعم.
بيان كيفية رد المطاعن التي توجه للصحابة على وجه العموم.(2/50)
من عقائدهم الفاسدة "الوصية" وزعمهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى لعلي، وبيان أن حديث الكساء والمباهلة لا يدلان على ذلك.
بطلان اعتقادهم أن الإمامة أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين وأن هذا القول من أفسد المفاسد.
غلوهم في الأئمة حتى ادعوا أنهم يعلمون الغيب وأنهم معصومون من الخطأ، وأن حب علي حسنة لا تضر معها سيئة.
بطلان اعتقادهم في المهدي الذين يزعمون أنه مولود وأنه موجود من قبل 1150 سنة وحتى الآن، وبيان أن هذا لا حقيقة له.
صحة خروج المهدي الذي يعتقده أهل السنة، وبيان أنه غير مهدي الرافضة وأنه من نسل الحسن بن علي - رضي الله عنه -.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة: تأليف: الإمام أبو عبد الله بن بطة العكبري، تحقيق ودراسة: رضا بن نعسان معطي، نشر: دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى سنة 1409 هـ.
ابن تيمية السلفي. تاليف: د. محمد خليل هرّاس، ط. دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
ابن تيمية مُحدثاً. تأليف د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، (رسالة دكتوراه) على الآلة الكاتبة.
الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي المتوفى سنة 739 هـ، قدم له وضبط نصه: كمال يوسف الحوت، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى 1407 هـ- 1987م.
أحمد بن تيمية. تأليف: أبي الحسن علي الحسني الندوي، تعريف: سعيد الأعظمي الندوي، ط: مطبعة الفيصل، نشر: دار القلم – الكويت، الطبعة الرابعة 1407 هـ.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. تأليف: المُحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ط: المكتب الإسلامي، بيروت – دمشق، الطبعة الأولى سنة 1399 هـ.(2/51)
الاستقامة: تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق/ د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض.
الاستيعاب في معرفة الأصحاب. تأليف: أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، حققه: د. طه محمد الزيني، سنة 1396 هـ، ط: مكتبة الكليات الأزهرية – مصر – القاهرة، الطبعة الأولى.
الأسماء والصفات. تأليف: الإمام البيهقي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
الإصابة في تمييز الصحابة. تأليف: الحافظ ابن حجر العسقلاني، حققه: د. طه محمد الزيني سنة 1396 هـ، ط: مكتبة الكليات الأزهرية – مصر – القاهرة – الطبعة الأولى.
اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. تأليف: فخر الدين الرازي، مراجعة: علي سامي النشار، نشر: دار الكتب العلمية – بيروت، سنة 1402 هـ.
الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد. تأليف: أبي بكر أحمد بن الحسن البيهقي، صححه وعلق عليه: كمال يوسف الحوت سنة 1403 هـ، ط: عالم الكتاب – بيروت – الطبعة الأولى.
الأعلام. تأليف: خير الدين الزركلي، طبع دار العلم للملايين – بيروت – لبنان، الطبعة السادسة، نوفمبر 1984م.
الأعلام العلمية في مناقب ابن تيمية. تاليف: الحافظ عمر بن علي البزار، تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الثانية 1396 هـ - بيروت.
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان. تأليف: ابن القيم، تحقيق: محمد عفيفي، طبع: المكتب الإسلامي سنة 1407 هـ - بيروت.
الإمامة والرد على الرافضة. تأليف: الحافظ أبي نعيم الأصبهاني، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه: د. علي بن ناصر الفقيهي، الناشر: مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة – الطبعة الأولى 1407 هـ.
الأمثال. تأليف: الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: د. عبد المجيد قطامش سنة 1400 هـ، بيروت – دار المأمون للتراث، نشر جامعة الملك عبد العزيز – الطبعة الأولى.(2/52)
الإيمان. تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية، ط: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1401 هـ.
الإيمان. تأليف: الحافظ محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده، تحقيق: د. علي بن محمد ناصر الفقيهي، سنة 1406 هـ، ط: مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية.
البداية والنهاية. تأليف: أبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، نشر مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الأولى سنة 1388 هـ.
البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريق الشاطبية والدرة، تأليف: عبد الفتاح بن عبد الغني القاضي، ت سنة 1403 هـ، نشر: مكتبة الدار – المدينة المنورة – الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان. تأليف: أبي الفضل عباس بن منصور التريني السكيكي الحنبلي، تحقيق: د. بسام علي سلامة العموشي، ط. مكتبة المنار –الأردن– الطبعة الأولى سنة 1408 هـ.
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية أو نقض تأسيس الجهمية. تأليف: أبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تصحيح وتكميل وتعليق: الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط: مطبعة الحكومة – الطبعة الأولى سنة 1391 هـ وبقية الكتاب لا يزال مخطوطاً.
تاريخ الطبري. تأليف: أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. نشر: دار سويدان – بيروت.
تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ت 463 هـ، ط: دار الكتب العلمية – بيروت.
تاريخ الثقات للعجلي. للإمام أحمد بن عبد الله العجلي، ت 261هـ، ترتيب: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ت 807 هـ، وتضمينات: الحافظ ابن حجر، تخريج وتعليق د. عبد المعطي قلعجي، نشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
تاريخ الخلفاء. تأليف: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق د. أكرم ضياء العمري، ط. دار طيبة – الرياض، الطبعة الثانية سنة 1405 هـ.(2/53)
كتاب التاريخ الكبير لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري، ط. مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت، مراقبة د. محمد عبد المعيد خان.
كتاب تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء أهل الحديث لابن قتيبة الدينوري، تعليق: الكوثري، ط. مطبعة العلوم – لبنان، نشر: دار الكتاب العربي – بيروت.
التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين. تأليف: أبي المظفر الإسفراييني، تحقيق: كمال يوسف الحوت، ط. عالم الكتب – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ.
تجريد أسماء الصحابة. تأليف الإمام الحافظ أبي عبد الله الذهبي، ط. دار المعرفة – بيروت – لبنان.
التحفة المهدية شرح التدمرية تأليف الشيخ فالح بن مهدي آل مهدي، تصحيح وتعليق الشيخ: عبد الرحمن بن صالح المحمود، نشر: دار الحرمين – الرياض – والطبعة الثانية سنة 1405 هـ.
التدمرية: تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد بن عودة السعودي، الطبعة الأولى: سنة 1405 هـ، ط. شركة العبيكان، الرياض.
تذكرة الحفاظ، تأليف: الإمام الذهبي، ط. دار إحياء التراث العربي.
ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة للأستاذ: الطاهر أحمد الزاي، نشر دار المعرفة، دار الكتب العلمية، بيروت سنة 1399 هـ.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك. للقاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي، ط. المغرب.
التسعينية لابن تيمية، مطبوع في أول الجزء الخامس من الفتاوى الكبرى "المصرية" من صـ1 – 296 وسيأتي الكلام على الفتاوى الكبرى في حرف الفاء.
التعريفات. تأليف: علي بن محمد الجرجاني ت 816 هـ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ.
تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ط. دار إحياء الكتب العربية.
تفسير القرطبي المُسمى الجامع لأحكام القرآن، ط. دار الكتب – نشر دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1387 هـ.(2/54)
تقريب التهذيب لشهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، تحقيق: محمد عوامة، ط. دار الرشيد، سوريا، حلب، الطبعة الأولى 1406 هـ.
تلخيص المستدرك على الصحيحين للذهبي مطبوع في ذيل المستدرك للحاكم، ط. دار الكتاب العربي، بيروت.
تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير للإمام أبي الفرج ابن الجوزي، نشر: إدارة إحياء السنة.
تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، تحقيق: عبد الوهاب العبد اللطيف، وعبد الله محمد الصديق، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية سنة 1401 هـ.
تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، الطبعة الأولى سنة 1327هـ، ط. الهند.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1408 هـ.
مراجعة: النجار والبجاوي وعبد السلام هارون وآخرون، نشر: الدار المصرية للتأليف والترجمة، الطبعة الأولى سنة 1396 هـ.
نشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية سنة 1404 هـ.
كتاب الثقافات.
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ط. دار الفكر، بيروت – لبنان سنة 1405 هـ.
جامع الرسائل والمسائل لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، ط. دار المدني – جدة، الطبعة الثانية سنة 1405 هـ.
الجامع الصغير للسيوطي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر: مكتبة الحلبوني، دمشق.
كتاب الجرح والتعديل "لابن أبي حاتم" عبدالرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، الطبعة الأولى سنة 1372 هـ - الهند، تصوير دار الفكر، بيروت.
جمهرة أنساب العرب لابن حزم، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. مطابع المجد التجارية.(2/55)
الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين. تأليف: إبراهيم بن محمد العلائي المعروف بابن دقماق، تحقيق: د. سعيد عبد الفتاح عاشور، مراجعة: د. أحمد السيد دراج، ط. جامعة أم القرى – مكة المكرمة.
حجة القراءات. تأليف: أبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة، تحقيق: سعيد الأفغاني، ط. مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الثالثة سنة 1402 هـ.
الحجة للقراء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام. تأليف: أبي علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي. تحقيق: بدر الدين قهوجي وغيره، نشر: دار المأمون للتراث – دمشق، الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، ت سنة 430 هـ، الطبعة الأولى، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت سنة 1409 هـ.
حياة شيخ الإسلام ابن تيمية للبيطار، ط. المكتب الإسلامي.
خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، تأليف: أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: أحمد ميرين البلوشي، ط. مطبعة الفيصل، نشر: مكتبة العلا – الكويت، الطبعة الأولى سنة 1406 هـ.
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تأليف: صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي، تحقيق: محمود عبد الوهاب فايد، نشر: مكتبة القاهرة، ط. مطبعة الفجالة الجديدة، سنة 1392 هـ.
خلق أفعال العبار. تأليف: الإمام/ محمد بن إسماعيل البخاري، تخريج وتعليق: بدر البدر، ط. الدار السلفية، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية. تحقيق: د. محمد رشاد سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية –الرياض، الطبعة الأولى سنة 1399 هـ.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. تأليف: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد سيد جاد الحق. الطبعة الثانية سنة 1385 هـ، ط. المدني – مصر.(2/56)
الدر المنثور في التفسير بالمأثور. للإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ط. دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1403 هـ.
دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم الأصبهاني ت 430 هـ، تحقيق: محمد رواس قلعة جي، تخريج: عبد البر عباس، نشر: المكتبة العربية – حلب، الطبعة الأولى سنة 1390 هـ.
ذكر مذاهب الفرق الثنتين وسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين، تصنيف الشيخ: عبد الله بن أسعد اليافعي، تحقيق: د. موسى بن سليمان الدويش، ط. شركة الصفحات الذهبية. الطبعة الأولى سنة 1410هـ، نشر: دار البخاري – بريدة.
الذيل على طبقات الحنابلة. تأليف ابن رجب الحنبلي، نشر: دار المعرفة، بيروت – لبنان. صورة الطبعة الأولى سنة 1372 هـ.
ذيول العبر في خبر من غبر. تأليف الحافظ الذهبي، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، ط. دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
الرحيق المختوم. تأليف: صفي الدين المباركفوري، الطبعة الرابعة سنة 1408 هـ، ط. دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن – بيروت.
رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد علي بشر المريسي العنيد، صححه: محمد حامد الفقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1358 هـ.
الرد على الأخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية. تحقيق: الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، طبع ونشر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، سنة 1404 هـ.
الرد على أهل وحدة الوجود: حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية لشيخ الإسلام ابن تيمية، تعليق: محمد رشيد رضا. نشر: إدارة الترجمة والتأليف فيصل آباد – باكستان.
الرد على البكري – تلخيص كتاب الاستغاثة تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، الطبعة الثانية سنة 1405 هـ، نشر: الدار العلمية. دلهي – الهند.(2/57)
الرد على الجهمية. تأليف: الإمام عثمان بن سعيد الدارمي. تخريج: بدر البدر الطبعة الأولى سنة 1405 هـ، نشر: الدار السلفية.
الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله. تأليف: الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، تعليق: إسماعيل الأنصاري. نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – الرياض، ويليه كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل.
كتاب الرد على المنطقيين. تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الطبعة الرابعة سنة 1402 هـ، نشر: دار ترجمان الأمة، لاهور – باكستان.
الرد الوافر على من زعم بأن من سمي ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر. تأليف: ابن ناصر الدين الدمشقي، ت: 842 هـ، تحقيق: زهير الشاويش، ط. المكتب الإسلامي – بيروت، دمشق، الطبعة الأولى سنة 1400 هـ.
الرسالة المدنية، تأليف: أبي العباس أحمد بن تيمية، تحقيق: الوليد بن عبد الرحمن الفريان، الطبعة الأولى سنة 1408 هـ، ط. دار طيبة للنشر والتوزيع – الرياض.
الرياض النضرة في مناقب العشرة. تأليف: محب الدين أبي العباس أحمد بن عبد الواحد بن محمد الطبري شيخ الحرم، ت: 694 هـ في جمادى الآخرة، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
زاد المعاد في هدي خير العباد. تأليف: ابن القيم الجوزية، حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثامنة سنة 1405 هـ، ط. مؤسسة الرسالة – بيروت – مكتبة المنار الإسلامية – الكويت.
السبعينية ويُسمى: بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطية والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلو والاتحاد. تأليف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مطبوع في الجزء السادس من الفتاوى الكبرى "المصرية"، تحقيق: الدكتور موسى بن سليمان الدويش، ط. دار العلوم والحكم، الطبعة الأولى سنة 1408 هـ.(2/58)
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها. تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، نشر: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة – بيروت، سنة 1403 هـ.
سنن ابن ماجه. تاليف: الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار الفكر.
سنن أبي داود. تأليف: الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تعليق: عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، ط. دار الحديث، حمص – سوريا – الطبعة الأولى سنة 1394 هـ.
السنن الكبرى. تأليف: أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، وفي ذيله الجوهر النقي ويليه فهرس الأحاديث ليوسف المرعشلي، دار المعرفة – بيروت – لبنان، توزيع: مكتبة دار المعارف – السعودية.
سنن الترمذي. تأليف: أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة، ط. شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده – مصر، الطبعة الثانية سنة 1395 هـ.
سنن الدارقطني. تأليف: الإمام الدارقطني، وبذيله التعليق المُغني على الدارقطني لأبي الطيب العظيم آبادي، ط. دار المحاسن للطباعة – القاهرة.
سنن الدارمي. تأليف: الإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، ت: 255 هـ، عناية أحمد محمد دهمان، ط. دار الكتب العلمية – بيروت، نشر: دار إحياء السنة النبوية.
سنن سعيد بن منصور. تأليف: الإمام سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني المكي. حققه وعلق عليه: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي، ترقيم: عبد الفتاح أبو غدة، ط. دار البشائر الإسلامية، الطبعة الثانية، سنة 1406 هـ.
السنة. تأليف: الحافظ أبي بكر وعمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مُخلد الشيباني، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت – لبنان – الطبعة الأولى سنة 1400 هـ.(2/59)
السنة. تأليف: الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - رواية أحمد بن جعفر بن يعقوب الاصطخري عنه. (وهو الرسالة على مسدد) صححها وعلق عليها الشيخ: إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – السعودية، وهو مطبوع مع كتاب الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد.
السنة. تأليف: أبي بكر احمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال، دراسة وتحقيق: د. عطية الزهراني، ط. دار الراية – الرياض، الطبعة الأولى سنة 1410 هـ.
السنة. تأليف: الإمام عبد الله بن الإمام أحمد، تحقيق: د. محمد سعيد القحطاني، ط. دار ابن القيم – الدمام، الطبعة الأولى سنة 1406هـ.
سير أعلام النبلاء. تأليف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748 هـ، ط. مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ، تحقيق وتخريج: شعيب الأرناؤوط وآخرين.
السيرة النبوية. تأليف: أبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، تحقيق: مصطفى السقا وغيره، ط. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده – مصر، سنة 1355 هـ، نشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب. تأليف: أبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، ط. دار الفكر – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1399 هـ.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم. تأليف: أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، تحقيق: الدكتور أحمد سعد حمدان، نشر: دار طيبة للنشر والتوزيع – الرياض.
الشرح والإبانة على أصول الديانة ومجانبة المخالفين ومباينة أهل الأهواء المارقين. تاليف: عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري، تحقيق وتعليق ودراسة: د. رضا بن نعسان مُعطي، نشر: المكتبة الفيصلية – مكة المكرمة، ط. دار التوفيق النموذجية.(2/60)
شرح السنة. تأليف: أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية سنة 1403 هـ.
شرح العقيدة الأصفهانية. تأليف: أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، قدم له وعرف به: حسنين محمد مخلوف، ط. مطبعة الاعتصام – القاهرة، نشر: دار الكتب الإسلامية – مصر.
الشريعة. تأليف: الإمام أبي بكر محمد بن الحسن الآجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ.
الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية. تأليف: مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق: نجم عبد الرحمن خلف، ط. مؤسسة الرسالة – الطبعة الثانية سنة 1405 هـ.
الشيعة والسنة (فرق وتاريخ). تأليف: الأستاذ: إحسان إلهي ظهير (رحمه الله) الطبعة الأولى سنة 1404 هـ، نشر: إدارة ترجمان السنة – باكستان.
الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. عالم الكتب سنة 1402 هـ.
صحيح البخاري. ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط. المكتب الإسلامي – تركيا سنة 1979م.
صحيح الجامع الصغير وزيادته للعلامة الألباني، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثالثة سنة 1402 هـ.
صحيح سنن ابن ماجه للألباني، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1407 هـ.
صحيح مسلم. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط: دار إحياء التراث – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1375 هـ.
صريح السنة لابن جرير الطبري، تحقيق: بدر بن يوسف المعتوق، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ، نشر: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي.
كتاب الصفدية لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الطبعة الثانية، نشر: مكتبة ابن تيمية – القاهرة.
صفة الصفوة لأبي الفرج ابن الجوزي، تحقيق وتعليق: محمود فاخوري، تخريج د. محمد رواس جي، الطبعة الثانية سنة 1399 هـ، نشر: دار المعرفة – بيروت.(2/61)
الضعفاء الكبير. تأليف محمد بن عمرو بن موسى العقيلي، تحقيق: د. عبد المُعطي أمين قلعجي، ط. دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
الضعفاء والمتروكون للدارقطني، تحقيق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر، ط: مكتبة المعارف – الرياض، الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي. تحقيق: كما يوسف الحوت وغيره، ط. مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
ضعيف الجامع الصغير وزيادته للألباني، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثالثة سنة 1402 هـ.
طبقات الحنابلة للقاضي محمد بن أبي يعلي، ط. دار المعرفة – بيروت.
طبقات الشافعية للآسنوي. تأليف: عبد الرحيم الآسنوي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الطبعة الأولى سنة 1407 هـ، ط. دار الكتب العلمية – بيروت.
طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة. تعليق الحافظ: عبد العليم خان، ترتيب: د. عبد الله أنيس الطباع، ط. عالم الكتب، الطبعة الأولى سنة 1407 هـ.
طبقات الشافعية الكبرى. تأليف: عبد الوهاب بن علي السبكي، ط. دار المعرفة – بيروت، الطبعة الثانية.
طبقات الفقهاء للشيرازي، تصحيح: خليل الميس، ط. دار القلم – بيروت.
الطبقات الكبرى لابن سعد، ط. دار بيروت سنة 1405 هـ.
ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1400 هـ (وهو مطبوع مع كتاب السنة لابن أبي عاصم).
العبر في خبر من غبر للحافظ الذهبي، تحقيق: محمد السعيد زغلول، ط: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. تأليف: محمد بن أحمد بن عبد الهادي، ط: المدني – مصر.
العلو للعلي الغفار، لشمس الدين الذهبي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، ط: دار الفكر – بيروت، الطبعة الثانية سنة 1388 هـ.
عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، اختصار وتحقيق: أحمد محمد شاكر، ط- مصر.(2/62)
العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقاضي أبي بكر بن العربي، تحقيق: العلامة محب الدين الخطيب، تخريج: محمود مهدي الإستانبولي، ط: دار الكتب السلفية، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
غاية النهاية في طبقات القراء للجزري، ت: 833 هـ، نشر: برجستراسر، ط. دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثالثة سنة 1402 هـ.
الفتاوى الكبرى لابن تيمية "الفتاوى المصرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، سنة 1403 هـ.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري. تأليف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، تصحيح: محب الدين الخطيب، ط. المكتبة السلفية.
فتح رب البرية بتلخيص الحموية. تأليف: فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض، الطبعة الأولى سنة 1402 هـ.
الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، تقديم: محمد عبد الرازق حمزة، ط: مطبعة المدني – مصر، سنة 1403 هـ.
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية رحمه الله، تحقيق: زهير الشاويش، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1405 هـ.
الفرق بين الفرق. تأليف: عبد القاهر بن طاهر البغدادي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر: دار المعرفة – بيروت – لبنان، الفرق الكلامية الإسلامية، د. علي عبد الفتاح المغربي، الطبعة الأولى، نشر مكتبة وهبة – مصر.
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر، و د. عبد الرحمن عميرة، ط: دار الجيل، بيروت سنة 1405هـ.
كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: د. وصي الله بن محمد عباس، ط: جامعة أم القرى – مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1403 هـ.(2/63)
الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. تأليف: محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المُعلمي، تصحيح: عبد الوهاب عبد اللطيف، ط. مطبعة السنة المحمدية – مصر، سنة 1398هـ.
القاعدة المراكشية لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. ناصر بن سعد الرشيد، والأستاذ: رضا بن نعسان مُعطي، ط. دار طيبة – الرياض.
القاموس المحيط للفيروزابادي، طبع وتحقيق: مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1406 هـ.
القرامطة. تأليف: محمود شاكر، طبع ونشر: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثانية سنة 1404 هـ.
الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: للإمام الذهبي، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ، دار الكتب العلمية – بيروت.
الكافي: للكليني، ط: دار الكتب الإسلامية – طهران – إيران، الطبعة الثالثة سنة 1388 هـ.
الكامل في التاريخ لابن الأثير، ط: دار صادر – بيروت – لبنان، 1402 هـ.
الكامل في ضعفاء الرجال للإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، ط. دار الفكر – بيروت – الطبعة الثانية سنة 1405 هـ.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني، ط: الثالثة سنة 1351 هـ، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، تأليف: مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: د. محيي الدين رمضان، نشر: مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثالثة سنة 1404 هـ.
الكنى والأسماء للإمام مسلم بن الحجاج القشيري. تحقيق: د. عبد الرحيم القشيري، ط: الجامعة الإسلامية – المدينة، الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
الكواكب الدُرية في مناقب المجتهد ابن تيمية. تأليف: الإمام مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق: نجم عبد الرحمن خلف، ط: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1406 هـ.
اللباب في تهذيب الأنساب. تأليف: عز الدين ابن الأثير الجزري، ط: دار صادر – بيروت، سنة 1400 هـ.(2/64)
لسان العرب لابن منظور، ط: دار صادر – بيروت.
لسان الميزان لابن حجر العسقلاني، الطبعة الثانية سنة 1390 هـ، "صورة للطبعة الأولى بالهند سنة 1330 هـ"، نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت – لبنان.
الماتريدية وموقفهم من الأسماء والصفات، شمس الدين محمد أشرف، رسالة ماجستير سنة 1409 هـ.
متن القصيدتين النونية والميمية، تأليف: ابن القيم، نشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة سنة 1407 هـ.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تأليف: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي بتحرير العراقي وابن حجر، ط: دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة سنة 1402 هـ.
مجمل اللغة، تأليف: أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي، دراسة وتحقيق: زهير بن عبد المحسن سلطان، ط: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي وساعده ابنه محمد، نشر: مكتبة ابن تيمية – مصر.
كتاب المجروحين من المُحدثين والضعفاء والمتروكين، تأليف: محمد بن حبان بن أحمد بن حاتم التميمي البستي، تحقيق: محمود بن إبراهيم زايد، ط: دار المعرفة – بيروت.
مختار الصحاح، تأليف: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ط: مؤسسة علوم القرآن، دمشق سنة 1403 هـ.
مختصر العلو للعلي الغفار، تأليف: شمس الدين الذهبي، اختصار الألباني، ط: المكتب الإسلامي – بيروت – الطبعة الأولى سنة 1401 هـ.
مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع "وهو مختصر معجم البلدان لياقوت". تأليف: صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي، تحقيق: علي بن محمد البجاوي، ط: دار المعرفة – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1374 هـ.
مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، تحقيق: زهير الشاويش، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى 1400 هـ.(2/65)
مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ط: دار المعرفة – بيروت، نشر: محمد رشيد رضا.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله، تحقيق: زهير الشاويش، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى سنة 1401 هـ.
المستدرك على الصحيحين، تأليف: الإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، نشر: دار الكتاب العربي – بيروت.
المستدرك على معجم المؤلفين، تأليف: عمر رضا كحالة، ط: مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الأولى سنة 1406 هـ.
مسند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تصنيف: أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد الأموري المروزي، تحقيق وتعليق: شعيب الأرناؤوط، ط: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، سنة 1399 هـ.
مسند الإمام أحمد بن حنبل وبهامشه منتخب كنز العمال. ط: دار صادر – بيروت – لبنان.
المسند. تحقيق أحمد شاكر، ط: دار المعارف – مصر – الطبعة الرابعة سنة 1373 هـ.
المُسند. لعبد الله بن الزبير الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط: عالم الكتب – بيروت.
مسند أبي داود الطيالسي للحافظ الكبير سليمان بن داود الجارود، ط: دار المعرفة – بيروت.
كتاب مشاهير علماء الأمصار، تأليف: محمد بن حبان البستي، ط: دار الكتب العلمية، نشر: م. فلايشهمر.
مصابيح السنة، تأليف: الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي، تحقيق: د. يوسف بن عبد الرحمن المرعشلي ومحمد سليم سمارة وجمال حمدي الذهبي، ط: دار المعرفة – بيروت – الطبعة الأولى سنة 1407هـ.
الكتاب المُصنف في الأحاديث والآثار للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة، حققه وصححه: عامر العمري الأعظمي، ط: الدار السلفية – الهند سنة 1390 هـ.
المصنف. لأبي بكر عبد الرازق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، نشر: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية سنة 1403هـ.(2/66)
المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تأليف: الحافظ بن حجر بن أحمد بن علي العسقلاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط: دار المعرفة – بيروت.
المعارف. لابن قتيبة. تحقيق: د. ثروت عكاشة، ط. دار المعارف – مصر، الطبعة الرابعة.
معجم البلدان، تأليف: ياقوت الحموي البغدادي، ط: دار صادر – بيروت سنة 1404 هـ.
المعجم الكبير، تأليف سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط: مطبعة الوطن العربي – العراق، الطبعة الأولى سنة 1400 هـ.
المعجم المشتمل على ذكر أسماء شيوخ الأئمة النبل، تأليف: علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي المعروف بابن عساكر، تحقيق: سكينة الشهابي، ط: دار الفكر – دمشق، سنة 1401 هـ.
معجم مقاييس اللغة، تأليف: أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون، ط: مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة الثانية سنة 1389 هـ.
معجم المؤلفين، تأليف عمر رضا كحالة، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
معرفة الصحابة، تأليف: أبي نعيم الأصبهاني، تحقيق ودراسة: د. محمد راضي بن حاج عثمان، ط: مكتبة الحرمين – الرياض.
معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، تأليف: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، حققه وقيد نصه وعلق عليه: بشار عواد معروف، وشعيب الأرناؤوط، وصالح مهدي عباس، ط: مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.
مقالات الإسلاميين واختلاف المُصلين، تأليف: الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الشعري، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط: مكتبة النهضة المصرية – الطبعة الثانية سنة 1389 هـ.
الملل والنحل، تأليف: أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، نشر: دار المعرفة – بيروت، طبع سنة 1400 هـ.(2/67)
المنار المنيف في الصحيح والضعيف، تأليف: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، حققه وخرج نصوصه وعلق عليه عبد الفتاح أبو غدة، نشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية – حلب – الطبعة الثانية سنة 1402 هـ.
مناظرة ابن تيمية في عقيدته الواسطية، تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية، رواية الشيخ علم الدين عن لسان شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: زهير الشاويش، ط: المكتب الإسلامي – بيروت – الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.
مناقب الشافعي، تأليف: أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: أحمد صقر، ط: دار التراث – القاهرة.
مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، تأليف: أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: الدكتورة/ زينب إبراهيم القاروط، نشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثانية سنة 1402 هـ.
منهاج السنة النبوية لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم 1 – 2، الطبعة الأولى دار العروبة سنة 1382 هـ، وطبعة جامعة الإمام سنة 1406 هـ له كاملاً.
منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، تأليف: ابن المطهر الحلي الرافضي في مقدمة المُحقق للدكتور: محمد رشاد سالم في نفس الطبعة المُحققة، ط: دار العروبة سنة 1382 هـ.
منهج الأشاعرة في العقيدة (تعقيب على مقالات الصابوني)، تأليف: د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي، ط: الدار السلفية – الكويت، الطبعة الأولى سنة 1407 هـ.
المنهج لأحمد في تراجم أصحاب أحمد، تأليف: أبي اليمن مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط: عالم الكتب – بيروت – الطبعة الثانية سنة 1404 هـ.
موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، تأليف: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: محمد عبدالرازق حمزة، ط: دار الكتب العلمية – بيروت.(2/68)
الموضوعات، تأليف: الإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي القرشي، ضبط وتحقيق وتقديم: عبد الرحمن محمد عثمان، ط: المكتبة السلفية – المدينة المنورة – الطبعة الأولى سنة 1386 هـ.
كتاب النبوات، تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية، نشر: دار الكتب العلمية – بيروت، سنة 1402 هـ.
نزهة الألباب في الألقاب، تأليف: أحمد بن علي بن محمد المشهور بابن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد العزيز محمد بن صالح السديري، ط: مكتبة الرشد – الرياض، الطبعة الأولى سنة 1409 هـ.
نقض المنطق، تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية، حقق الأصل المخطوط وصححه: محمد بن عبد الرازق حمزة، وسليمان بن عبد الرحمن الصنيع، صححه محمد حامد الفقي، نشر: مكتبة السنة المحمدية – القاهرة، ط: مطبعة السنة المحمدية.
النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف: مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، ط: المكتبة العلمية – بيروت.
النونية لابن القيم وهي التي سماها الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، نشر: دار المعرفة – بيروت، ط: مطبعة التقدم العلمية – مصر.
هدي الساري مقدمة فتح الباري، تأليف: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، صححه: محب الدين الخطيب، ط: المكتبة السلفية – مصر.
يحيى بن معين وكتابة التاريخ، دراسة وترتيب وتحقيق: د. أحمد محمد نور سيف، الناشر: مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز – مكة، الطبعة الأولى سنة 1399 هـ.
اليهودية والمسيحية، تأليف: د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، ط: هجر للطباعة والنشر والإعلان، الناشر: مكتبة الدار – المدينة المنورة، الطبعة الأولى سنة 1409 هـ.
البرهان في تفسير القرآن: هاشم بن سليمان البحراني، ط. المطبعة العلمية/ قم، الطبعة الثالثة.
التبيان في تفسير القرآن تأليف: أبي جعفر الطوسي ( ت 460 هـ) ، ط: مكتبة القصير سنة 1379 هـ - النجف.(2/69)
كتاب التفسير لأبي نصر العياشي، ط: المكتبة العلمية الإسلامية – طهران.
الرائد في علم الفرائض: د. الخطراوي، الطبعة الرابعة، 1403 هـ، ط: مؤسسة علوم القرآن – دمشق – سوريا.
صحيح سنن الترمذي للألباني، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.
كتاب الفرائض للشيح عبد الصمد الكاتب، الطبعة الأولى 1408هـ.
فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي، تحقيق: عبدالرحمن بدوي، نشر مؤسسة دار الكتب الثقافية – الكويت.
مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي (من أعيان القرن السادس).
* * *
فهرس الموضوعات
المقدمة ... 5
مدخل: ... 15
المبحث الأول ... 16
لمحات من حياة شيخ الإسلام وشيء من ثناء العلماء عليه (661هـ - 728هـ) ... 16
المبحث الثاني ... 29
أسباب تأليف المنهاج وأسلوب شيخ الإسلام في المناقشة ... 29
المبحث الثالث ... 39
ابن المطهر ولمن ألف كتابه منهاج الكرامة ... 39
المبحث الرابع ... 51
تعريف الشيعة والرافضة ... 51
المبحث الخامس ... 58
بيان حال الرافضة وصفاتهم ... 58
الباب الأول ... 93
عقيدة الرافضة ... 93
الفصل الأول ... 94
عقيدتهم في الله ... 94
المبحث الثاني ... 99
التجسيم ... 99
المبحث الثالث ... 106
البداء ... 106
المبحث الرابع ... 108
رؤية الله عز وجل ... 108
المبحث الخامس ... 113
القدر ... 113
المبحث السادس ... 121
في بيان مخالفتهم لأهل البيت في الاعتقاد ... 121
الفصل الثاني ... 122
عقيدتهم في القرآن ... 123
المبحث الثاني ... 132
مذهب الرافضة في القرآن، ونماذج من تأويلاتهم الفاسدة ... 132
المبحث الثالث ... 138
بيان مذهب أهل السنة في القرآن ... 138
الفصل الثالث ... 146
عقيدتهم في النبوة ... 146
المبحث الثاني ... 151
عصمة الأنبياء وتنازع الرافضة في ذلك ... 151
المبحث الثالث ... 160
تطاولهم على مقام النبوة ... 160
الباب الثاني ... 164(2/70)
موقفهم من الصحابة ... 164
الفصل الأول ... 165
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ... 165
المبحث الثاني ... 198
خلافته ... 198
المبحث الثالث ... 220
رد المطاعن التي يطعن بها الرافضة على أبي بكر ... 220
الفصل الثاني ... 242
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ... 242
المبحث الثاني ... 269
خلافته ... 269
المبحث الثالث ... 273
بعض مطاعن الرافضة على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتفنيدها ... 273
الفصل الثالث ... 296
عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ... 296
المبحث الأول: فضائله: ... 296
المبحث الثاني ... 301
خلافته ... 301
المبحث الثالث ... 314
بعض المطاعن التي يطعن بها الرافضة عليه والرد عليها ... 314
المبحث الرابع ... 332
في تفضيل الثلاثة على علي رضي الله عنهم ... 332
الفصل الرابع ... 341
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ... 341
المبحث الثاني ... 344
خلافته ... 344
المبحث الثالث ... 353
بعض ما زعم الرافضي أنها براهين تدل على إمامة علي ... 353
المبحث الرابع ... 397
بعض ما يدعي الرافضي أنها فضائل وهي في الحقيقية مطاعن ... 397
وبيان ذلك مع الرد عليها ... 397
الفصل الخامس ... 409
بقية الصحابة رضي الله عنهم ... 409
المبحث الثاني ... 432
أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ... 432
المبحث الثالث ... 441
آل البيت ... 441
المبحث الرابع ... 447
خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ... 447
المبحث الخامس ... 452
عموم الصحابة – رضي الله عنهم ... 452
الباب الثالث ... 470
الرافضة والإمامة ... 470
الفصل الأول: ... 471
الوصية ... 471
الفصل الثاني ... 484
الإمامة عند الرافضة ... 484
الفصل الثالث ... 517
الغلو في الأئمة وادعاؤهم العصمة لهم ... 517
الفصل الرابع ... 534
المهدي المنتظر ... 534
الخاتمة ... 543
فهرس المصادر والمراجع ... 546
فهرس الموضوعات ... 572
* * *(2/71)