مناظرة
الإمام أبي إسحاق ابن شاقلا الحنبلي
المتوفى سنة 369هـ
لأبي سليمان الدمشقي المتكلم
في الصفات الخبرية
إخراج وتعليق
أبي يعلى البيضاوي
عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
رب نعمت فزد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد :
فهذه درة تاسعة من سلسلة ((كشف خبايا الزوايا من تراث السلف وكنوز الخلف )), وهي عبارة عن مناظرة علمية , ومحاورة جدلية درات بين إمام سلفي أثري مثبت , وبين متكلم خلفي جدلي مأول, و موضوعها حول آيات الصفات وأخبارها , ووجوب الإيمان بها من غير تمثيل , ولا تحريف , ولا تعطيل , كما هو معتقد أهل السنة والجماعة أهل الحديث , وقد قام عالمنا الأثري بمحاجة هذا المتكلم , ودمغ باطله بقوي قواطع الحجج النقلية , وسواطع النقول الأثرية , وأظهر فيها مقدرته , وسعة علمه , وطول باعه في علم الحديث الشريف , وتلك سنة الله القدرية حيت قيض في كل عصر من يقيم الحجة على ما بعث به نبيه من دينه القويم , وشرعه المستقيم , فقد قال ربنا جل وعلا : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ , وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (الصف:8) وقال : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } (الأنبياء:18) وقد كانت هذه الدرة اليتيمة مغمورة مخبوءة في ((زوايا)) كتاب ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى الفراء الحنبلي في ترجمة عالمنا الأثري , ولا يعلم بوجودها إلا القلة من طلبة العلم , وكذا أورد جملا منها والده القاضي أبو يعلى في كتابه ((إبطال التأويلات))(1\94)(1/1)
وهذه المناظرة الجليلة العظيمة كانت متداخلة الفقرات, غير مبوبة ولا مرتبة , ولا مخرجة الأحاديث , فقمت بإبرازها , وتصفيفها , وترتتيب فقراتها , وتخريج أحاديثها حسب الطاقة , حتى بدت بهذا المظهر والشكل , كل ذلك حرصا على أن تصل إلى يد القراء فيعرفوا جهود سلفنا في مناظرة أهل البدع والضلال, وما قاموا به من جليل الأعمال في نصر العقيدة الإسلامية , والذوذ عن حياض السنة النبوية , فرحمهم الله وأجزل مثوبتهم, وجزاهم عنا خير الجزاء
أسأل الله أن ينفع بها , قارئها والناظر فيها , والله الموفق
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
هذه درة تاسعة من سلسلة ((كشف خبايا الزوايا من تراث السلف وكنوز الخلف )), وهي عبارة عن مناظرة علمية , ومحاورة جدلية درات بين إمام سلفي أثري مثبت , وبين متكلم خلفي جدلي مأول, و موضوعها حول آيات الصفات وأخبارها , ووجوب الإيمان بها من غير تمثيل , ولا تحريف
وكانت هذه الدرة اليتيمة مغمورة مخبوءة في ((زوايا)) كتاب ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى الفراء الحنبلي في ترجمة عالمنا الأثري , ولا يعلم بوجودها إلا القلة من طلبة العلم , وكذا أورد جملا منها والده القاضي أبو يعلى في كتابه ((إبطال التأويلات))(1\94)
أسال الله أن ينفع بها المسلمين
أبو يعلى البيضاوي
ترجمة
الإمام ابن شاقلا الحنبلي رحمه الله
إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا , أبو إسحاق البزار
جليل القدر , كثير الرواية , حسن الكلام في الأصول والفروع.
سمع من أبي بكر الشافعي , وأبي بكر أحمد بن آدم الوراق , ودعلج بن أحمد , ومحمد بن القاسم المقري , وعبد العزيز بن محمد اللؤلؤي , وابن مالك , وابن الصواف , وأحمد بن القاسم بن دوست , وأبي بكر السلماني , وأبي بكر عبد العزيز , وحاضره , وأبي عبد الله الحسين بن علي بن محمد المخرمي المعروف بابن شاصو.(1/2)
وروى عنه أبو حفص العكبري , وأحمد بن عثمان الكبشي , وعبد العزيز غلام الزجاج.
وكانت لأبي إسحاق بن شاقلا حلقتان , إحداهما بجامع المنصور , والحلقة الثانية بجامع القصر
وحج سنة تسع وأربعين , ومات سنة تسع وستين
قيل في سلخ جمادى الآخرة
وقيل في مستهل رجب , وكان له ابنان علي وحسن
وكان سنه يوم مات أربع وخمسون سنة , وغسله أبو الحسن التميمي.
مصادر ترجمته :
((طبقات الحنابلة)) لابن أبى يعلى ((2 \111) طبعة دار الكتب العلمية
((تاريخ بغداد)) للخطيب (6\ 17)
((تاريخ الإسلام)) للذهبي 1\2735 )
نص المناظرة
[ بسم الله الرحمن الرحيم ]
? ذكر الإمام ابن أبى يعلى في كتابه ((طبقات الحنابلة)) (ج 2 ص 128) في ترجمة الشيخ (( أبي إسحاق إبراهيم بن احمد بن شاقلا البزار) المتوفى سنة 369هـ :
? قرأت بخط الوالد السعيد قال : نقلت من خط (أبي بكر بن شاقلا) , قال أخبرنا أبو إسحاق بن شاقلا قراءة عليه قال :
قلت (لأبي سليمان الدمشقي) : بلغنا أنك حكيت فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج , وقوله في الخبر ((...وضع يده بين كتفي, فوجد بردها )), وذكر الحديث(1)
__________
(1) - هو حديث ابن عباس أخرجه الترمذي في ((جامعه))(3234) قال : أتاني ربي في أحسن صورة, فقال: يا محمد, قلت لبيك ربي وسعديك, قال: فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ , قلت: ربي لا أدري , فوضع يده بين كتفي , فوجدت بردها بين ثديي , فعلمت ما بين المشرق والمغرب , قال: يا محمد ,فقلت: لبيك رب وسعديك , قال: فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ , قلت: في الدرجات والكفارات , وفي نقل الأقدام إلى الجماعات, وإسباغ الوضوء في المكروهات, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, ومن يحافظ عليهن عاش بخير , ومات بخير , وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه , وفي الباب عن معاذ بن جبل , و عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم , وقد روي هذا الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله , وقال : (( إني نعست فاستثقلت نوما فرأيت ربي في أحسن صورة , فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى ...)) اهـ حديث ابن عباس قال عنه الشيخ الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح
قلت: حديث معاذ بن جبل أرجه الترمذي في ((جامعه))(3235) سنن الترمذي [ جزء 5 - صفحة 368 ]
عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي : أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث حسن صحيح , وقال : هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثنا خالد بن اللجلاج حدثني عبد الرحمن بن عائش الخضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث
وهذا غير محفوظ هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وروى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح , و عبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم , قال الشيخ الألباني : صحيح
وورد أيضا من رواية عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , أخرجه أحمد في ((مسنده))(4\66\11738) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد))(7\366): رجاله ثقات اهـ , قال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده ضعيف لاضطرابه اهـ
وفي الباب أيضا عن ثوبان, رواه البزار من طريق أبي يحيى عن أبي أسماء الرحبي , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد))(7 \36 \11742): أبو يحيى لم أعرفه وبقية رجاله ثقاث , وعن ابن عمر رواه البزار, قال في ((مجمع الزوائد))(7\\369: (11743\وفيه سعيد بن سنان وهو ضعيف وقد وثقه بعضهم ولم يلتفت إليه في ذلك , وعن أبي أمامة رواه الطبراني (, قال في ((مجمع الزوائد))(7 \370(\11744\ : فيه ليث بن أبي سليم وهو حسن الحديث على ضعفه, وبقية رجاله ثقات اهـ , وعن أبي رافع , رواه الطبراني في الكبير , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد))(1\543 :(1222\ فيه عبد الله بن إبراهيم بن الحسين عن أبيه ولم أر من ترجمهما اهـ(1/3)
فقال لي : هذا إيمان ونية , لأنه أريد مني روايته , وله عندي معنى غير الظاهر
قال : وأنا لا أقول مسه
فقلت له : وكذا تقول في آدم لما خلقه بيده
قال : كذا أقول : إن الله عز وجل لا يمس الأشياء
فقلت له : سويت بين آدم وسواه , فأسقطت فضيلته , وقد قال الله تعالى : { يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (صّ: من الآية75)
قلت له : هذا رويته لأنه أريد منك على رغمك , وله عندك معنى غير ظاهره , وإلا سلمت الأحاديث التي جاءت في الصفات , ويكون لها معاني غير ظاهرها , أو ترد جميعها
فقال لي : مثل أي شيء ؟
فقلت له : مثل الأصابع , والساق , والرجل , والسمع , والبصر , وجميع الصفات التي جاءت في الأخبار الصحاح , حتى إذا سلمتها كلمناك على ما ادعيته من معانيها التي هي غير ظاهرها
فقال لي منكرا لقولي : من يقول رجل ؟
فقلت : أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : من عن أبي هريرة ؟
فقلت : همام
فقال : من عن همام ؟
فقلت معمر فقال من عن معمر ؟
فقلت: عبد الرزاق
فقال لي : من عن عبد الرزاق ؟
فقلت له : أحمد بن حنبل
فقال لي : عبد الرزاق كان رافضيا
فقلت له : من ذكر هذا عن عبد الرزاق
فقال لي : يحيى بن معين
فقلت له : هذا تخرص على يحيى, إنما قال يحيى : كان يتشيع, ولم يقل رافضيا(1)
فقال لي : الأعرج عن أبي هريرة بخلاف ما قاله همام
قلت له : كيف ؟
قال : لأن الأعرج قال : (( يضع قدمه ))
__________
(1) - نقل الحافظ الذهبي في ((تاريخ الإسلام)): قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي : أكان عبد الرزاق يفرط في التشيع ؟ , فقال : أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا , وقال سلمة بن شبيب سمعت عبد الرزاق يقول : والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر, وقال أحمد بن الأزهر : سمعت عبد الرزاق يقول : أفضل الشيخين بتفضيل علي إياهما على نفسه , ولو لم يفضلهما لم أفضلهما ,وكفى بي إزراء أن أحب عليا , ثم أخالف قوله(1/4)
فقلت له : ليس هذا ضد ما رواه همام, وإنما قال هذا قدم, وقال هذا رجل, وكلاهما واحد(1), ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين , وحدث به أبو هريرة مرتين , فسمع الأعرج منه في إحدى المرتين ذكر القدم , وسمع منه همام ذكر الرجل
فقال لي : همام غلط
فقلت له : هذا قول من لا يدري
ثم قال لي : والأصابع في حديث ابن مسعود(2)
__________
(1) - أي أن هذا من اختلاف التنوع , وليس من اختلاف التضاد والتعارض
(2) - هو حديث صحيح أخرجه البخاري (7415) ومسلم (1336) ولفظه قال " (( جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد , أو يا أبا القاسم , إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع , والأرضين على إصبع , والجبال والشجر على إصبع , والماء والثرى على إصبع , وسائر الخلق على إصبع , ثم يهزهن , فيقول : أنا الملك , أنا الملك , فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر , تصديقا له , ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره , والأرض جميعا قبضته يوم القيامة , والسموات مطويات بيمينه , سبحانه وتعالى عما يشركون } ))
قال شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى))(6\561): الحديث مروى في الصحيح والمسانيد وغيرها , بألفاظ يصدق بعضها بعضا, وفى بعض ألفاظه , قال :قرأ على المنبر: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة }الآية قال: مطوية في كفه ,يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة وفى لفظ يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه , ثم يقول بهما هكذا , كما تقول الصبيان بالكرة : أنا الله الواحد اهـ
وقال أيضا :(5\582) : عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية أحاديث صحيحة , اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها , وتلقيها بالقبول والتصديق , والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في ((تفسيره))(4\80) : قد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة , والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف , وهو إمراراها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف اهـ(1/5)
, تقول به
فقلت له : حديث ابن مسعود صحيح من جهة النقل , رواه الناس , ورواه الأعمش عن إبراهيم , عن علقمة , عن عبد الله
فقال لي : هذا قاله اليهودي
فقلت له : لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله , قد ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقوله(1)
فأنكر أن يكون هذا اللفظ مرويا من أخبار ابن مسعود
فقلت له : بلى , هذا رواه منصور , والأعمش جميعا , عن إبراهيم, عن أبي عبيدة :
((
__________
(1) - وممن أكر التصديق أيضا القرطبي صاحب ((المفهم)), كما نقل عنه الحافظ في ((فتح الباري))(13\399( فقال: قال القرطبي في ((المفهم)) : قوله إن الله يمسك إلى آخر الحديث هذا كله قول اليهودي , وهم يعتقدون التجسيم , وان الله شخص ذو جوارح , كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهودي , ولهذا قرأ عند ذلك : { وما قدروا الله حق قدره } أي ما عرفوه حق معرفته , ولا عظموه حق تعظيمه , فهذه الرواية هي الصحيحة المحققة , و أما من زاد : ((وتصديقا له)) فليست بشيء , فإنها من قول الراوي , وهي باطلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق المحال
وتعقبه الحافظ بقوله : لو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظن , للزم منه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على الباطل, وسكوته عن الإنكار, وحاشا لله من ذلك , وقد اشتد إنكار بن خزيمة على من ادعى أن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار, فقال بعد أن أورد هذا الحديث في كتاب التوحيد من ((صحيحه)) بطريقه: قد أجل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته , فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكا , بل لا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف من يؤمن بنبوته اهـ(1/6)
أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال : يا محمد إن الله عز وجل يمسك السماوات على إصبع, و الأرضين على إصبع, والجبال على إصبع, والخلائق على إصبع, والشجر على إصبع ))
وروى : (( والثرى على إصبع , ثم يقول : أنا الملك , فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم , تصديقا لما قال الحبر )) هكذا رواه الثوري , و فضيل بن عياض.
فقال لي : قد نزل القرآن بالتكذيب , لا بالتصديق, فقال الله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره }
فقلت له : قد نزل القرآن بالتصديق , لا بالتكذيب , بدلالة قوله تعالى في سياق الآية : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } (الزمر: من الآية67) , ثم نزه نفسه عز وجل عما يشرك به من كذب بصفاته , فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
وقوله { وما قدروا الله حق قدره } لا يمنع من إثبات الأصابع صفة له , كما ثبتت صفاته التي لا أختلف أنا وأنت فيها , ومع هذا فما قدروا الله حق قدره , كذلك أيضا نثبت الأصابع صفة لذاته تبارك وتعالى , وما قدروا الله حق قدره
فلما رأى ما لزمه قال : هذا ظن من ابن مسعود أخطأ فيه
فقلت له : هذا قول من يروم هدم الإسلام, والطعن على الشرع , لأن من زعم أن ابن مسعود ظن ولم يستيقن فحكى عن النبي صلى الله عليه وسلم على ظنه فقد جعل إلى هدم الإسلام مقاتله , هذه بأن يتجاهل أهل الزيغ فيتهجموا على كل خبر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يوافق مذهبهم , فيسقطونه بأن يقولوا :
هذا ظن من الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ لا فرق بين ابن مسعود , وسائر الصحابة رضي الله عنهم , وهذا ضد ما أجمع عليه المسلمون , وقد أكذب القرآن مقالة هذا القائل في الآية التي شهد فيها لابن مسعود بالصدق في جملة الصحابة(1/7)
ثم قلت له : والأصابع قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أصحابه, منهم أنس بن مالك في حديث الأعمش عن أبي سفيان عن أنس رضي الله عنه قال :
(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
قال : قلنا : يا رسول الله , آمنا بك , وبما جئت به , فهل تخاف عليها ؟, قال : نعم , إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها ))(1)
[ حديث الصورة ]
__________
(1) - حديث صحيح , أخرجه الترمذي (2140) وابن ماجة (3834) , قال أبو عيسى : وفي الباب عن النواس بن سمعان , وأم سلمة , وعبيد الله بن عمرو , و عائشة , وروى بعضه عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح , قال الألباني رحمه الله في ((صحيح سنن الترمذي)) : صحيح(1/8)
? ثم قال لي : تروي حديث أبي هريرة (( خلق آدم على صورته ))(1), ويومىء إلى أنه مخلوق على صورة آدم , فقلت له : قال أحمد بن حنبل : من قال : إن آدم خلقه عز وجل على صورة آدم فهو جهمي , وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه(2)
فقال لي : قد جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله خلق آدم على صورة آدم ))
فقلت له : هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم
فقال لي : بلى قد جاء في الحديث : (( طوله ستون ذراعا )) [ على ](3)أنه آدم
__________
(1) - حديث صحيح أخرجه البخاري (5873) ومسلم (2841) عن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( خلق الله آدم على صورته , طوله ستون ذراعا , فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس , فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك , وتحية ذريتك , فقال: السلام عليكم , فقالوا: السلام عليك , ورحمة الله , فزادوه ورحمة الله , فكل من يدخل الجنة على صورة آدم , فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن ))
(2) - قول الإمام أحمد رحمه الله أخرجه ابن بطة العكبري في ((الإبانة))(198) , وقال محققه : صحيح , وأورده القاضي أبو يعلى في ((إبطال التأويلات))(ص88) بلفظ آخر فقال : ذكر عبد الرحمن بن منده في كتاب ((الإسلام)) عن كتاب أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فراس المروزي , عن حمدان بن علي, قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : وسأله رجل , فقال : يا أبا عبد الله , الحديث الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أن الله خلق آدم على صورته , على صورة آدم )) فقال أحمد بن حنبل : فأين الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أن الله خلق أدم على صورة الرحمن عز وجل )) ؟, ثم قال أحمد : وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق ؟
قلت : أبو إسحاق المروزي الشافعي تلميذ ابن سريج , وله كتاب في السنة , فلعله المنقول منه
(3) - في ((إبطال التأويلات))(ص95) [ فعلمت أنه آدم ](1/9)
فقلت له : قد [ رد ](1)هذا , وليس هو الذي ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم , لأنك قلت عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله خلق آدم على صورة آدم )) , ثم استدللت بقوله : (( ستون ذراعا )) على أنه آدم , وهذا خبر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله خلق آدم على صورته ))
وروى جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تقبحوا الوجوه , فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن ))(2)
قال أبو إسحاق : وهذا الحديث يذكر عن إسحاق بن راهويه أنه صحيح مرفوع
وأما احمد بن حنبل فذكر أن الثوري أوقفه على ابن عمر , [ فكلاهما الحجة فيه على من خالفه , فإن كان رفعه صحيحا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد سقط العذر , وإن كان ابن عمر القائل له فقد اندحض بقول ابن عمر تأويل من حمل قوله على صورته ](3)
__________
(1) - في ((إبطال التأويلات))(ص95) [ قد روي ]
(2) - أخرجه ابن ابي عاصم في ((السنة))(5 ... 17), وابن خزيمة في ((التوحيد))(ص27), والدراقطني في ((الصفات))(4ض8), والحاكم في ((المستدرك))(2\349\3243) , وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه , وأخرجه أيضا الطبراني في ((الكبير))(13580), والحارث في ((مسنده)(872 بغية الباحث), قال الحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد))(8\198( : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني , وهو ثقة وفيه ضعف اهـ , قال الشيخ الألباني : إسناده ضعيف ورجاله ثقات كذلهم رجال البخاري , وعلته حبيب بن ابي ثابت فإنه كذان يدلس , وكذلك الأعمش اهـ
(3) - في ((إبطال التأويلات))(ص95) [ وكلاهما حجة , لأنه إن كان مرفوعا فقد سقط العذر , وإن كان من قول ابن عمر فهو أولى ](1/10)
قال أبو إسحاق : وهذا لم يجر بيني وبينه , وإنما بينته لأصحابي ليفهموه(1)
ثم قلت له : قوله (( خلق آدم على صورته )) لا يتأول لآدم على صورة آدم , لما قاله أحمد , وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه ؟ , فقد فسد تأويلك من هذا الوجه , وفسد أيضا بقول ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن الله خلق آدم على صورة الرحمن تبارك وتعالى ))(2)
__________
(1) - هذا من أمانة المؤلف رحمه الله , وصدقه في نقله , وضبطه لما جرى بينه وبين مناظره
(2) - أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة))(517), و الطبراني في ((المعجم الكبير))(13580), والحارث بن أبي أسامة في ((مسنده))(872) (بغية الباحث)), والآجري في ((الشريعة))(ص315), وابن خزيمة في ((التوحيد))(ص27), والبيهقي في ((الأسماء والصفات))(ص291) , قال الهيثمي في ((المجمع))(8\198\13220) : رجاله رجال الصحيح , غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني , وهو ثقة وفيه ضعف اهـ , وقال الشيخ الألباني رحمه الله : ضعيف , وهو مخالف للأحاديث الصحيحة بألفاظ متقاربة منها قوله ((خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا )) ((السلسلة الضعيفة))(1176) , والحديث صححه بعض أئمة الحديث , قال الحافظ في ((فتح الباري))(5\183) في آخر كتاب العتق :
قال القرطبي أعاد بعضهم الضمير على الله , متمسكا بما ورد في بعض طرقه : (( أن الله خلق آدم على صورة الرحمن)), قال: وكأن من رواه أورده بالمعنى , متمسكا بما توهمه , فغلط في ذلك , وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة , ثم قال : وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى
قلت :(أي الحافظ): الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في ((السنة)), والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات, وأخرجها بن أبي عاصم أيضا من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول , قال : (( من قاتل فليجتنب الوجه , فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن )), فتعين أجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السنة, من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه , أو من تأويله على ما يليق بالرحمن جل جلاله,
قال حرب الكرماني في كتاب ((السنة)) : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن , وقال إسحاق الكوسج : سمعت أحمد يقول : هو حديث صحيح
وقال الطبراني في كتاب ((السنة)): حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل , قال: قال رجل لأبي: إن رجلا قال: خلق الله آدم على صورته, أي صورة الرجل فقال: كذب هو قول الجهمية انتهى
وقد أخرج البخاري في ((الأدب المفرد)) وأحمد من طريق بن عجلان , عن سعيد , عن أبي هريرة مرفوعا: (( لا تقولن قبح الله وجهك , ووجه من أشبه وجهك, فإن الله خلق آدم على صورته )), وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك , وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم أيضا من طريق أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ : (( إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه , فإن الله خلق آدم على صورة وجهه ))
والحديث ألف في تصحيحه الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله رسالة ((تعريف أهل الإيمان بصحة حديث صورة الرحمن)) , نشرها في مجلة الجامعة السلفية 1396هـ (المجلد8 العدد الرابع) , وأوردها كاملة الشيخ الفقيهي في هامش كتاب ((الصفات)) للدراقطني (ص58\63), وقد تعقبه فيها الشيخ الألباني في ((الضعيفة))(1172)
وكذا للشيخ حمود بن عبد الله التويجري رسالة ((عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن)) طبعت في دار اللواء 1409هـ , وللشيخ عبد الله بن محمد الدويش رسالة ((دفاع أهل السنة الإيمان عن حديث خلق آدم على صورة الرحمن)) طبعت ضمن مجموع مؤلفات الشيخ , رحم الله الأحياء منهم والأموات(1/11)
وأما الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم : (( طوله ستون ذراعا )) فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فكأن قوله : (( خلق آدم على صورته )) فتم الكلام , ثم قال : (( طوله ستون ذراعا )) إخبارا عن آدم بذلك على حديث الثوري , عن أبي الزناد , عن موسى بن أبي عثمان , عن أبي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن الله عز وجل خلق آدم على صورته )) , ذكرت بدلالة حديث ابن عمر رضي الله عنهما, وما ذكرته عن أحمد
[ حديث تقليب القلوب بين أصبعين من أصابع الله ]
فقال لي جوابا عن حديث أنس : (( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها ))(1): إنما هما نعمتان
__________
(1) - حديث صحيح من حديث أنس بن مالك تقدم تخريجه (ص6)(1/12)
فقلت له : هذا الخبر يقول إن الأصبعين نعمتان , واليدين صفة للذات , ولم يتقدمك بهذا أحد إلا عبد الله بن كلاب القطان(1)
__________
(1) - قال الحافظ في ((لسان الميزان))(3\290) : عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب القطان البصري أحد المتكلمين في أيام المأمون , ذكره الخطيب ضياء الدين والد الإمام فخر الدين في كتاب ((غاية المرام في علم الكلام)) وزعم أنه كان أخا يحيى بن سعيد القطان كبير المحديثين , وأنه دمر المعتزلة في مجلس المأمون , وذكره ابن النجار فنقل عن محمد بن إسحاق النديم في ((الفهرست)) فقال: كان من بابة الحشوية , وله مع عباد بن سليمان مناظرات, وكان يقول: أن كلام الله هو الله , فكان عباد يقول: أنه نصراني بهذا القول , قال المصنف (أي الذهبي) في ((تاريخه)) كان بعد الأربعين ومائتين , قلت (أي الحافظ): وقد ذكره العبادي في الفقهاء الشافعية مختصرا , فقال عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان , ونقل الحاكم في ((تاريخه)) عن بن خزيمة, أنه كان يعيب مذهب الكلابية , ويذكر عن أحمد بن حنبل أنه كان أشد الناس على عبد الله بن سعيد وأصحابه , ويقال أنه قيل له بن كلاب لأنه كان يخطف الذي يناظره ,وهو بضم الكاف تشديد اللام , وقول الضياء أنه كان أخا يحيى بن سعيد القطان غلط , وإنما هو من توافق الإسمين , والنسبة , وقول ابن النديم أنه من الحشوية يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات , ويقال لهم المفوضة , وعلى طريقته مشى الأشعري في كتاب ((الإبانه)) اهـ
وما نقله المؤلف رحمه الله عنه هو قول من انتسب إلى مذهبه من متأخري الأشاعرة , وإلا فإن الرجل والحق يقال كان مثبتا لليد صفة خبرية لله تعالى , فقد نقل عنه أبو الحسن الأشعري في ((مقالات الإسلاميين))(1\217) : قال عبد الله بن كلاب : أطلق اليد والعين والوجه خبرا,لأن الله أطلق ذلك ولا أطلق غيره , فأقول هي صفات لله عز وجل كما قال في العلم والقدرة والحياة أنها صفات اهـ(1/13)
, الذي إنتحلت مذهبه , ولا عبرة في التسليم للأصابع , والتأويل لها على ما ذكرت إن القلوب بين نعمتين من نعم الله عز وجل(1)
__________
(1) - العجب أن إمامهم الذي ينتحلونه يقول بخلاف ما ينسبونه إليه , فهذا أبو الحسن الاشعري رحمه الله يقول في آخر كتبه ((الإبانة عن أصول لديانة))(ص 125) : قد سئلنا , أتقولون إن لله يدين ؟
قيل : نقول ذلك بلا كيف , وقد دل عليه قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) من الآية ( 10 / 48 ) وقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) من الآية ( 75 / 38 ) , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته ) ( 1 / 126 ) فثبتت اليد بلا كيف , وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن الله تعالى خلق آدم بيده , وخلق جنة عدن بيده , وكتب التوراة بيده , وغرس شجرة طوبى بيده )), أي بيد قدرته سبحانه, وقال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) من الآية ( 64 / 5 ) , وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( كلتا يديه يمين )) , وقال تعالى : ( لأخذنا منه باليمين ) من الآية ( 45 / 69 )
وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل : عملت كذا بيدي ويعني به النعمة وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل : فعلت بيدي ( 1 / 127 ) ويعني النعمة بطل أن يكون معنى قوله تعالى : ( بيدي ) النعمة وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل : لي عليه يدي بمعنى لي عليه نعمتي ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى : ( بيدي ) نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين وإن روجع إلى ( 1 / 128 ) اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل : بيدي يعني نعمتي وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد له سبيلا
ويقال لأهل البدع : ولم زعمتم أن معنى قوله : ( بيدي ) نعمتي أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة ؟
فلا يجدون ذلك إجماعا ولا في اللغة , وإن قالوا : قلنا ذلك من القياس , قيل لهم : ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى : ( بيدي ) لا يكون معناه إلا نعمتي ؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز الناطق على لسان نبيه الصادق ( 1 / 129 ) : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) من الآية ( 4 / 14 ) وقال تعالى : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) من الآية ( 103 / 16 ) وقال تعالى : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) من الآية ( 3 / 4 ) وقال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله ) من الآية ( 82 / 4 ) ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه فلما كان من لا يحسن لسان العرب لا يحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه على أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل وليس في لسانهم ما ادعوه....وليس يخلو قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين . تعالى الله عن ذلك أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين لا توصفان إلا كما وصف الله تعالى فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل : عملت بيدي وهو نعمتي
ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين .
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله تعالى : ( بيدي ) إثبات يدين ليستا جارحتين , ولا قدرتين , ولا نعمتين , لا يوصفان إلا بأن يقال : إنهما يدان ليستا كالأيدي , خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت اهـ
وقال في كتابه الآخر ((مقالات الإسلاميين))(1\290) عند ذكره لجملة قول أهل الحديث :.. وأن له يدين بلا كيف كما قال : ((خلقت بيدي } وكما قال : { بل يداه مبسوطتان }... , ـ ثم ختمه بقوله : وبكل ما كرنا من قولهم نقول , وإليه نذهب اهـ كلامه رحمه الله , فهؤلاء القوم هداهم الله لا كتاب الله اتبعوا , ولا سنة رسوله اقتفوا , ولا إمامهم الذي ينتحلون مذهبه وافقوا فالله المستعان(1/14)
[ حديث الساق ]
ثم قال لي : وهذا مثل روايتكم عن ابن مسعود في قوله عز وجل { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } (القلم: من الآية42) إن الله عز وجل يكشف عن ساقه يوم القيامة(1)
فقلت له : هذا رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم
فأنكره عن النبي صلى الله عليه وسلم , وقال هذا من كلام ابن مسعود , وقد روى عن ابن عباس أنه قال : الشدة(2)
فقلت له : إنما نذكر ما جاء عن الصحابة إذا لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم
فقال لي : تحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قلت : نعم هذا رواه المنهال ابن عمرو, عن أبي عبيدة بن عبد الله, عن مسروق ابن الأجدع, حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
((
__________
(1) - أخرجه عبد الرزاق, وعبد بن حميد, وابن المنذر, وابن منده, في ((الرد على الجهمية ))(3) موقوفا على ابن مسعود : في قوله: {يوم يكشف عن ساق} قال: عن ساقيه تبارك وتعالى. , قال ابن منده: لعله في قراءة ابن مسعود "يكشف" بفتح الياء وكسر الشين
(2) - ورد عنه من طرق أخرجه ابن جرير في ((التفسير))(29\24), والحاكم (2\499), والبيهقي في ((الأسماء والصفات))(746) والبيهقي في ((الأسماء والصفات))(ص437), وقد أورد طرقه وتكلم عليها الشيخ (عمرو عبد المنعم سليم) في كتابه ((لا دفاعا عن الألباني))(ص14), وصحح منها طريق البيهقي, وهو بلفظ : عن ابن عباس أنه قرأ {يوم يكذشف عن ساق} يريد يوم القيامة والساعة لشدتها , وقال : هذا سند صحيح لا علة فيه إلا أنه ورد في المطبوعة (يكذشف) بالياء وهو تصحيف , وإنما هو (تكذشف) بالتاء(1/15)
يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم, وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام, وذكر الحديث بطوله وقال فيه : ... فيأتيهم الله تبارك وتعالى فيقول لهم : ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس ؟ , فيقولون : لنا إله فيقول : هل تعرفونه إن رأيتموه ؟ , فيقولون : نعم بيننا وبينه علامة, إن رأيناها عرفناه, قال : فيقول : ما هي ؟ فيقولون : يكشف عن ساقه, قال :فعند ذلك يكشف عن ساقه, قال : فيخر من كان بظهره طبق, ويبقى قوم ظهورهم كأنها صياصي البقر, يريدون السجود فلا يستطيعون, وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون )) في حديث فيه طول(1)
__________
(1) - الحديث أخرجه الحاكم (2\376), و(4\590), والدراقطني في ((الرؤية))(177), وابن خزيمة في ((التوحيد))(ص238), وزاد السيوطي في ((الدر المنثور))(8\257) عزوه لإسحاق بن راهويه في ((مسنده)) , وعبد بن حميد , وابن أبي الدنيا, وابن مردويه من حديث عبد الله بن مسعود
قال الحاكم في الموضع الأول : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين , ولم يخرجاه بهذا اللفظ , وقال في الموضع الثاني : هذا حديث الحديث عن آخرهم ثقات غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في ((الصحيحين)) لما ذكر من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة, فأما الأئمة المتقدمون فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان , والحديث صحيح ولم يخرجاه , وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة اهـ , وتعقبه الذهبي بقوله : ما أنكره حديثا على جودة إسناده وأبو خالد شيعي منحرف اهـ
قلت : وقد تابع أبا خالد يزيد بن أبي أنيسة عبد الله بن أحمد في ((السنة))(1203), والطبراني في ((المعجم الكبير))(9\357(9763\ , والدراقطني في ((الرؤية))(178) والبيهقي في ((البعث))(479), قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) : رواه ابن أبي الدنيا , والطبراني من طرق , أحدها صحيح اهـ , وقال الحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد)(10\619) : رواه كله الطبراني من طرق , ورجال أحدها رجال الصحيح , غير أبي خالد الدالاني , وهو ثقة اهـ
وتابعه أيضا عبد الأعلى بن أبي المساور عند الأجري في ((الشريعة))(621) وعبد الأعلى مبروك كذبه ابن معين
والحديث قال العلامة الألباني رحمه الله في ((صحيح الترغيب والترهيب))(3596) : صحيح(1/16)
وقد روى أيضا من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : أبو هارون العبدي(1)عن أبي سعيد الخدري ؟
فقلت له : هذا في ((صحيح البخاري)) فليس من شرطه أبو هارون العبدي , لضعفه عنده , وعند أئمة أهل العلم, و لم يحضرني إسناده في وقت كلامي له
وأخرجته من ((صحيح البخاري)) كما ذكرته أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد ابن زياد المقري , يعرف بالنقاش , قال حدثنا محمد بن يوسف , قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري , قال حدثنا آدم , قال حدثنا الليث, عن خالد ابن يزيد, عن سعيد بن أبي هلال , عن زيد بن أسلم , عن عطاء بن يسار , عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
((
__________
(1) - عمارة بن جوين أبو هارون العبدي يروي عن أبي سعيد الخدري :ال حماد بن زيد: كان كذابا وقال شعبة: لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أحدث عنه . قال أحمد : ليس بشيء , وقال مرة : متروك, وقال يحيى: ضعيف كان عندهم لا يصدق في حديثه, وقال مرة: ليس بثقة وقال السعدي : كذاب مفتر وقال النسائي: متروك الحديث وقال الدارقطني: يتلون خارجي وشيعي يعتبر بما يروي عنه الثوري, وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب اهـ من الضعفاء لابن الجوزي(2\203)(1/17)
يكشف ربنا تبارك وتعالى عن ساقه, فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة, ويبقى من كان يسجد له في الدنيا رياء و سمعة, فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ))(1)
__________
(1) - صحيح البخاري تفسير القرآن سورة الحاقة باب { يوم يكشف عن ساق } حديث رقم (4919) عن أبي سعيد رضي الله عنه , وروي عنه أيضا مطولا أخرجه البخاري (7439) ومسلم (472) قال : قلنا:ّ يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ ,قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا ؟ , قلنا: لا , قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما , ثم قال: ينادي مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون , فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم , وأصحاب الأوثان مع أوثانهم , وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم , حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر , وغبرات من أهل الكتاب , ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب , فيقال لليهود ما كنتم تعبدون ؟ , قالوا:ّ كنا نعبد عزير ابن الله , فيقال:ّ كذبتم ,لم يكن لله صاحبة ولا ولد , فما تريدون ؟ قالوا:ّ نريد أن تسقينا , فيقال:ّ اشربوا , فيتساقطون في جهنم , ثم يقال : للنصارى ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله ,فيقال: كذبتم ,لم يكن لله صاحبة ولا ولد , فما تريدون ؟ فيقولون:ّ نريد أن تسقينا , فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم , حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر , فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس ؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم , وإنا سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون , وإنما ننتظر ربنا , قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة , فيقول: أنا ربكم , فيقولون: أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء , فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه ؟
فيقولون: الساق , فيكشف عن ساقه, فيسجد له كل مؤمن , ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة , فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ,
وأخرجه ابن مندة في ((الرد على الجهمية))(8) من حديث أبي هريرة مختصرا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( {يوم يكشف عن ساق} قال: يكشف الله عز وجل عن ساقه ))(1/18)
[حديث رأيت ربي في أحسن صورة ]
? ثم قال لي : وتقول بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( رأيت ربي...))(1)
__________
(1) - الحديث أخرجه الإمام أحمد في (( مسنده))(1\285 2580\) مختصرا قال : حدثنا عبد الله حدثني أبى ثنا أسود بن عامر ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت ربي تبارك وتعالى وقد سمعت هذا الحديث من أبى أملى على في موضع آخر , قال الهيثمي في (( مجمع الزوائد))(1\250 :(رجاله رجال الصحيح, وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : صحيح موقوفا . وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح ,. ثم ذكر الأرناؤوط , حال حماد بن سلمة كقول ابن سعد في ((الطبقات)) : ثقة كثير الحديث, ربما حدث بالحديث المنكر, وقول البيهقي في((الخلافيات)) : لما طعن في السن ساء حفظه,.فالاحتياط ألا يحتج به فيما يخالف الثقات
ثم قال الأرناؤوط : وفي هذا الحديث عند ابن عدي (2\677), ومن طريقه البيهقي (ص444) ألفاظ منكرة في صفة الرب تعالى عن ذلك علوا كبيرا, تمنع القول بصحته من هذا الطريق , وإنما صححنا هذا الحرف الذي أورده المؤلف لاختلافهم في رفعه ووقفه , ولأنه ثبت عن ابن عباس من قوله من غير طريق أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل اهـ واللفظ المنكر قوله : ((أن محمدا رأى ربه في صورة شاب رأيت ربي في صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراءوإسناده ضعيف جدا فيه النضر بن بن سلمة قال أبو حاتم : كان يفتعل الحديث, وأخرجه ابن عدي (2\677) والدراقطني في ((الرؤية))(300) من طريق آخر, وفيه الحسن بن علي بن زكرياء العدوي يضع الحديث , قال الذهبي في ((السير))(10\113): وهو خبر منكر ,اهـ وانظر كتاب ((لا دفاعا عن الألباني)) للشيخ (عمرو عبد المنعم سليم) فقد فصل القول فيه جدا جزاه الله خيرا , وقال : ما ورد في المتن من نكارة إنما هو من قلة ضبط من روى الحديث عن الأسود بن عامر , وليس هو بمحفوظ بهذا المتن المنكر عن حماد بن سلمة , وإنما المحفوظ عنه من حديثه لفظ : (( رأيت ربي عز وجل )) , وهذا الحديث قد صححه جماعة من الحفاظ , منهم الإمام أحمد بن حنبل , وأبو زرعة الرازي وغيرهما.اهـ(1/19)
فقلت له : رواه حماد بن سلمة, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
فقال لي: حماد بن سلمة ضعيف(1)
فقلت من ضعفه ؟
فقال لي : يحيى القطان
فقلت له : هذا تخرص على يحيى , لم يقل يحيى هذا , وإلا فمن حدثك ؟ , فلم يقل من حدثه
وقال لي: أيما أثبت عندك حماد بن سلمة أو سِمَاك ؟
قلت : حماد بن سلمة أثبت , وسماك مضطرب الحديث
__________
(1) - قال الحافظ الذهبي في ((من تكلم فيه ))(93): حماد بن سلمة م على إمام صدوق له أوهام وحماد ابن زيد أثبت منه قال ابن معين إذا رأيت من يقع في حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام وقال الحاكم قد قيل في سوء حفظه وجمعه بين جماعة في إسناد واحد بلفظ واحد ولم يخرج له مسلم في الأصول إلا عن ثابت البناني وله في صحيحه أحاديث في الشواهد ثابت اهـ
وقال في ((سير أعلام النبلاء))(7\446): وروى إسحاق الكوسج عن ابن معين قال حماد بن سلمة ثقة وقال علي بن المديني هو عندي حجة في رجال وهو أعلم الناس بثابت البناني وعمار بن أبي عمار ومن تكلم في حماد فاتهموه في الدين
وروى أحمد بن زهير عن يحيى قال إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وحماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام
وقال شيخ الإسلام (أبو إسماعيل الانصاري) في ((الفاروق)) له قال أحمد بن حنبل : إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام, فإنه كان شديدا على المبتدعة
وقال ابن حبان : لم ينصف من جانب حديثه واحتج بأبي بكر بن عياش وبابن أخي الزهري وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار فإن كان تركه إياه لما كان يخطىء فغيره من أقرانه مثل الثوري وشعبة ودونهما كانوا يخطئون فإن زعم أن خطأه قد كثر من تغير حفظه فكذلك أبو بكر ولم يكن مثل حماد بالبصرة ولم يكن يثلبه إلا معتزلي أو جهمي لما كان يظهر من السنن الصحيحة وأنى يبلغ أبو بكر بن عياش مبلغ حماد بن سلمة في إتقانه أم في كم أم في علمه أم في ضبطه(1/20)
فنازعني في هذا, والذي أجبته به بأن حماد بن سلمة ثقة , وسماك مضطرب الحديث هو جواب أحمد فيهما(1), ولم أَدْرِ ما أراد بسِمَاك , وخرجنا من ذلك ولم أسأله
ثم قلت له : هذه الأحاديث تلقاها العلماء بالقبول , فليس لأحد أن يمنعها , ولا يتأولها , ولا يسقطها , لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان لها معنى عنده غير ظاهرها لَبَيَّنَهُ , ولكان الصحابة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن معنى غير ظاهرها , فلما سكتوا وجب علينا أن نسكت حيث سكتوا, ونقبل طوعا ما قبلوا
فقال لي : أنتم المشبهة(2)
__________
(1) - ذكره المزي في ((تهذيب الكمال))(3\310) : فقال : قال أبو طالب ، عن أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث .
(2) - سبحان الله , إنها والله السنن, فالمبتدعة في كل عصر ومصر يرمون أهل الحديث بهذه التهمة الشنيعة , وهم منها براء , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الفتوى الحموية)) من ((مجموع الفتاوى))(5\110) : الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها , كذبا منهم وافتراء حتى أن منهم غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك , حتى قال ثمامة بن الأشرس , من رؤساء الجهمية : ثلاثة من الأنبياء مشبهة : موسى حيث قال: { إن هي إلا فتنتك } , وعيسى حيث قال: { تعلم ما في نفسي , ولا أعلم ما في نفسك } , ومحمد حيث قال:
(( ينزل ربنا )) ,وحتى أن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه , والثوري وأصحابه , والأوزاعي وأصحابه , والشافعى وأصحابه , وأحمد وأصحابه , وإسحاق بن راهويه , وأبى عبيد , وغيرهم في قسم المشبهة
وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه : ((تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة)) , ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب , وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه , يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد , كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي - صلى الله عليه وسلم - بألقاب افتروها
فالروافض تسميهم نواصب , والقدرية يسمونهم مجبرة , والمرجئة تسميهم شكاكا , والجهمية تسميهم مشبهة , وأهل الكلام يسمونهم حشوية , ونوابت , وغثاء , وغثرا , إلى أمثال ذلك , كما كانت قريش تسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة مجنونا , وتارة شاعرا , وتارة كاهنا , وتارة مفتريا , قالوا فهذه علامة الإرث الصحيح , والمتابعة التامة , فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتقادا واقتصادا , وقولا وعملا , فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة , وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة , فكذلك التابعون له على بصيرة , الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات , باطنا وظاهرا, وأما الذين وافقوه ببواطنهم , وعجزوا عن إقامة الظواهر , والذين وافقوه بطواهرهم , وعجزوا عن تحقيق البواطن , والذين وافقوه ظاهرا وباطنا , بحسب الإمكان , فلابد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به اهـ وكلام شيخ الإسلام هو كالرد على قول هذا المخالف(1/21)
فقلت : حاشا لله, المشبهة الذي يقول : وجه كوجهي , ويد كيدي , فأما نحن فنقول : له وجه كما أثبت لنفسه وجها , وله يد كما أثبت لنفسه يدا , وليس كمثله شئ , وهو السميع البصير , ومن قال : هذا فقد سلم
ثم قلت له : أنت مذهبك أن كلام الله عز وجل ليس بأمر , ولا نهي ,ولا متشابه , ولا ناسخ , ولا منسوخ , ولا كلامه مسموع , لأن عندك الله عز وجل لا يتكلم بصوت , وأن موسى لم يسمع كلام الله عز وجل بسمعه , وإنما خلق الله عز وجل في موسى فهما فهم به
[ مسألة الإحتجاج بأحاديث الآحاد في لعقيدة ]
فلما رأى ما عليه في هذا من الشناعة قال : فلعلي أخالف ابن الكلاب القطان في هذه المسألة من سائر مذهبه.
ثم قلت له : ومن خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل , موصولة بلا قطع في سندها , ولا جرح في ناقليها, وتجرأ على ردها فقد تهجم على رد الإسلام , لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت
فقال لي : الأخبار لا توجب عندي علما
فقلت له : يلزمك على [ قَوَدِ ](1)مقالتك أنك لو سمعت أبا بكر , وعمر , وعثمان , وعليا , وطلحة , والزبير , وسعدا , وسعيدا , وعبد الرحمن بن عوف , وأبا عبيدة ابن الجراح يقولون : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كذا وكذا , أنك لا تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : من ذلك شيئا لقولهم سمعنا فلم ينكر من ذلك شيئا غير الشناعة
__________
(1) - في المطبوع [ قعود ](1/22)
ثم قال لي : أخبار الآحاد في الصفات اغسلها , وهي عندي والتراب سواء , ولا أقول منها إلا بما قام في العقل تصديقه(1)
قلت له : فلم أتعبت نفسك في كتبها , وسعيت إلى الشيوخ فيها , وأنصبت نفسك وأتعبتها , وأسهرت ليلك بما لا تدين الله عز وجل به , ولا تزداد به علما
فأجابني بأن قال : كتبته حتى أتمم به الأبواب إذا أردت تخريجها
فقلت له : تخرج للمسلمين ما لا تدين به
فقال : نعم لأعرفه
فقلت له : تعني المسلمين على قَوَدِ مقالتك, والحق في غير ما ذكرت
__________
(1) - اعجب أيها السني لجراءة هذا المتكلم , وانظر إلى مكانة السنة المشرفة عنده وعند أمثاله , واحمد ربك على الإسلام والسنة , فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الإسلام وسنة نبيك , وهدي أصحابه , وهذه المسألة مما خالف فيه المبتدعة , ومن اقتفى أثرهم من أصحاب الكلام المذموم منهج السلف الصالح , فمذهبهم رحمهم الله الإحتجاج بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث في العقيدة والأحكام , سواء الآحاد منها والمتواتر , وقد ألف في ذلك الحافظ أبو عمر بن عبد البر القرطبي كتاب ((الشواهد في إثبات خبر الواحد)) نسبه إليه الذهبي في ((السير))(18\1139) , وللحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله فصل ممتع في كتابه العظيم ((مختصر الصواعق المرسلة))(ص506) إلى أخر الكتاب (587) طبعة دار الحديث , نقض فيه شبه المخالفين شبهة شبهة , فراجعه فإنه مهم(1/23)
ثم قلت له : خرقت الإجماع لأن الأمة بأسرها اتفقت على نقلها , ولم يكن نقل ذلك عبثا ولا لعبا , ولو كان نقلهم لها كترك نقلهم لها لكانوا عابثين , وحاشا لله من ذلك , ومن كانت هذه مقالته فقد دخل تحت الوعيد في قوله عز وجل : { وَمَنْ [ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى و ](1)َيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115) ولما كانت أخبار الآحاد في الصفات لا توجب عملا دل على أنها موجبة للعلم , فسقط بهذا ما ادعاه من لم ينتفع بعلمه , وتهجم على إسقاط كلام الرسول صلى الله عليه وسلم , بنقل العدل عن العدل , موصولا إليه برأيه وظنه
[مسألة محاسبة الكفار ]
ثم ذكرت حساب الكفار
فقال لي قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أبي الأحوص , عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الكافر ليحاسب حتى يقول : أرحني ولو إلى النار ))(2)فهل قلت به ؟
__________
(1) - سقط من المطبوع
(2) - أخرجه أبو يعلى (4982) , والطبراني في ((المعجم الكبير))(8779 و10112) وابن حبان في ((صحيحه))(7335) , والخطيب في ((تاريخ بغداد))(12\27) , قال المناوي في ((الفيض))(5\60) : فيه بشر بن الوليد قال الذهبي : صدوق لكنه لا يعقل , كان قد خرف اهـ وفيه أيضا شريك القاضي صدوق يخطىء كثيرا , وعنعنة أبي إسحاق, وقال الألباني في ((ضعيف الجامع))(4295) , و((الضعيفة))(4150): ضعيف(1/24)
فقلت له : ليس يحل ما روى صحيحا , أو سقيما أن نقول به , وإنما تعبدنا بالصحيح دون السقيم , والصحيح معلوم عند أهل النقل بعدالة ناقليه , متصلا إلى المخبر عنه , والسقيم معلوم بجرح ناقليه , وهذا الخبر الذي رويته رواه إبراهيم بن مهاجر بن مسمار(1), يعني وهو متروك الحديث , ضعيف عند أهل العلم , وليس مثل هذا مما تقوم به حجة
فقال لي : فأي شئ معك في أنهم لا يحاسبون ؟
فقلت له : إن شئت من كتاب الله , وإن شئت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإن شئت من قول صحابته رضي الله عنهم
فقال لي منكرا لقولي في الصحابة : من قال هذا ؟
فقلت : نعم قرأت على أبي عيسى يحيى بن محمد بن سهل الخصيب العكبري بعكبرا , قال : حدثنا محمد بن صالح بن ذريح العكبري , قال حدثنا محمد بن هناد ابن السري , قال حدثنا معاوية , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها قالت :
((
__________
(1) - قال الذهبي في ((الميزان)): إبراهيم بن مهاجر بن مسمار المدني , قال البخاري : منكر الحديث, وقال النسائي : ضعيف, وروى عثمان بن سعيد عن يحيى : ليس به بأس, قلت ّ: انفرد عنه بالحديث إبراهيم بن المنذر الحزامي, وله أيضا عن صفوان بن سليم وقال ابن حبان في حديث (( قرأ طه ويس )) هذا متن موضوع اهـ , زاد الحافظ في ((اللسان))(1\114): وقال ابن حبان في ((الضعفاء)): منكر الحديث جدا, لا يعجبني الإحتجاج به إذا انفرد , وكان ابن معين عرض القول فيه اهـ(1/25)
من حوسب دخل الجنة , يقول الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً , وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } (الانشقاق:7-11) , ويقول للآخرين يعني الكفار { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ , يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ } (الرحمن 39-41)(1)
فقال لي : قد سمعت هذا الحديث من أبي علي الصواف , قال حدثنا أبو بكر بن عبد الخالق , قال حدثنا أبو الحسين عبد الوهاب الوراق , عن أبي معاوية الضرير , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة بمثل معناه يعني (( من حوسب دخل الجنة))
فقال لي : هو المسلم [ المحترم ](2)
فقلت له : جمعت بين ما فرق الله عز وجل , لأن الله عز وجل يقول : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ }(القلم:35) قال أبو إسحاق : وكان عندنا أن أبا سليمان يقول : إن الكافر والمؤمن يحاسبان , فعلى قوله إن المؤمن لا يحاسب, وإن الكافر يحاسب , وهذه عصبية للكافر , خرج بها عن جملة أهل العلم(3)
__________
(1) - عزاه في ((الدر المنثور))(8\457) لابن أبي شيبة وابن المنذر
(2) - كذا في المطبوع بالحاء , ولعله [ المجترم ] بالجيم
(3) - تحقيق هذه المسالة ما قرره شيخ الإسلام في ((العقيدة الواسطية)) من ((مجموع الفتاوى))(3\146(: وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته , فإنه لا حسنات لهم , ولكن تعد أعمالهم , وتحصى , فيوقفون عليها , ويقررون بها , ويجزون بها اهـ
وقال في (6\486) : الكلام في مسألة محاسبة الكفار , هل يحاسبون أم لا ؟ , هي مسألة لا يكفر فيها بالاتفاق , والصحيح أيضا أن لا يضيق فيها , ولا يهجر , وقد حكى عن أبى الحسن بن بشار أنه قال: لا يصلى خلف من يقول أنهم يحاسبون , والصواب الذي عليه الجمهور أنه يصلى خلف الفريقين , بل يكاد الخلاف بينهم يرتفع عند التحقيق , مع أنه قد اختلف فيها أصحاب الإمام أحمد , وان كان أكثرهم يقولون : لا يحاسبون , واختلف فيها غيرهم من أهل العلم , وأهل الكلام ,
وذلك أن الحساب قد يراد به الإحاطة بالأعمال , وكتابتها في الصحف , وعرضها على الكفار , وتوبيخهم على ما عملوه , وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه , فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق , وقد يراد بالحساب وزن الحسنات بالسيئات , ليتبين أيهما أرجح , فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته , إذ أعماله كلها حابطة , وإنما توزن لتظهر خفة موازينه , لا ليتبين رجحان حسنات له , وقد يراد بالحساب أن الله هل هو الذي يكلمهم أم لا , فالقرآن والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ وتقريع , وتبكيت , لا تكليم تقريب , وتكريم , ورحمة , وان كان من العلماء من أنكر تكليمهم جملة اهـ(1/26)
قلت له: أنت تتكلم على المسلمين فتحشوا أسماعهم بكلام الكلبي الكذاب(1), فيما يخبر عن مراد الله تعالى عن الأمم الخالية التي لم يشاهدها , فلا يكون عندك هذيان !
ثم تجئ إلى مثل حديث إبراهيم النخعي , عن علقمة , عن عبد الله حديث الخبر فتقول : هذا هذيان
وهذا قولٌ من تقلده خرج عندي من الدين , وسلك غير طريق المسلمين
وهذا ما جرى بيننا , إلا ما أخللت به , فلم أتيقن حفظه
والله سبحانه الموفق لإدراك الصواب
تم والحمد لله رب
العالمين
*
*انتهت المناظرة لأبى إسحاق ابن شاقلا رحمه الله , وأسأل الله أن ينفع بها قارئها والناظر فيها , وذلك على يد*
* أبي يعلى البيضاوي عفا الله عنه , وذلك في .10 ربيع الأول 1426هـ من هجرة النبي*
* المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا*
*والحمد لله رب العالمين *
* تم *
*
تم بحمد الله
__________
(1) - هو محمد بن السائب الكلبي قال في ((الكشف الحثيث))(ص230) : له ترجمة في ((الميزان)) , ولم يصرح فيها الذهبي بأنه وضاع , وقد قال ابن الجوزي الحافظ أبو الفرج في مقدمة ((الموضوعات)) له : وكان من كبار الوضاعين(1/27)