مفهوم الفناء عند ابن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى الدين
أما بعد :
فهذا كتاب عن مفهوم الفناء عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استخرجته من مجموع الفتاوى وهو في الأصل صار مصطلحا صوفيا
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن جميع أنواع الفناء وهي :
بمعنى الموت قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (26) سورة الرحمن
وتكلم عن الفناء أي الباحة الواسعة للأرض
ثم تكلم عن الفناء عند الصوفية (( وهو المقصود بكتابنا هذا)) فقال رحمه الله :
[ الفناء ] الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور :
أحدها : فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب، والتوكل عليه وعبادته، وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو في الحقيقة عبادة القلب، وتوكله، واستعانته، وتألهه وإنابته، وتوجهه إلى اللّه وحده لا شريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال . وليس لأحد خروج عن هذا .
وهذا هو القلب السليم الذي قال اللّه فيه : { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة، وما يتبع ذلك .
/وهذا [ الفناء ] لا ينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيًا عن إرادة ما سواه، وإن كان شاعرًا باللّه وبالسوى، وترجمته قول : لا إله إلا اللّه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ) لا إله إلا اللّه، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن ) وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره .(1/1)
الأمر الثاني : فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهادة، ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرًا العبادة، آمرًا بشرائعه، أكمل من شهود وجوده، أو صفة من صفاته، أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك .
ولهذا كان الصحابة أكمل شهودًا من أن ينقصهم شهود للحق مجملًا عن شهوده مفصلًا، ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة . كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح والاضطراب، وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه، وعن شهود التفرقة في الجمع،والكثرة في الوحدة، حتى اختلفوا في إمكان ذلك، وكثير منهم يرى أنه لا يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو الأمر اشتغل عن الخالق الآمر . وإذا عورض بالنبي / صلى الله عليه وسلم وخلفائه ادعى الاختصاص، أو أعرض عن الجواب أو تحير في الأمر . 0000
الثالث : فناء عن وجود السوى : بمعنى أنه يرى أن اللّه هو الوجود، وأنه لا وجود لسواه، لا به ولا بغيره، وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين الموجودات وحقيقة الكائنات، وأنه / لا وجود لغيره، لا بمعنى أن قيام الأشياء به ووجودها به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل**(1/2)
وكما قيل في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح، لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات، فهذا كفر وضلال . ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلام بعض المشايخ، كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح، ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد . فتدبر هذا التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم .
***************
وفي هذا الكتاب تفصيل لذلك ورد على المبتدعين و والاتحاديين والحلوليين
***********
أسال الله تعالى أن يجعلنا من المتفانين في خدمة دينه آمين
أبو حمزة الشامي
29 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق 17/7/2004 م
************************
وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
فصل
ثم إن المنحرفين المشابهين للصابئة : إما مجردة، وإما منحرفة إلى يهودية أو نصرانية، من أهل المنطق والقياس، الطالبين للعلم والكلام، ومن أهل العمل والوجد، الطالبين للمعرفة، والحال، أهل الحروف، وأهل الأصوات سلكوا في أصل العلم الإلهي طريقين : كل منهم سلك طريقا . وقد يسلك بعضهم هذا في وقت، وهذا في وقت، وربما جمع بعضهم بين الطريقين .(1/3)
وأكثرهم لا يعلمون أن الله إليه طريق إلا أحد هذين، كما يذكره جماعات : مثل ابن الخطيب، ومن نحا نحوه، بل مثل أبي حامد، لما حصر الطرق في الكلام، والفلسفة، الذي هو النظر، والقياس، أو في التصوف والعبادة، الذي هو العمل والوجد، ولم يذكر غير هؤلاء الأصناف الثلاثة . بل أبو حامد لما ذكر في المنقذ من الضلال، والمفصح بالأحوال، أحواله في طرق العلم، وأحوال العالم، وذكر أن أول ما عرض له ما يعترض طريقهم- وهو السفسطة بشبهها المعروفة- وذكر أنه أعضل به هذا الداء قريباً من شهرين، هو فيهما على مذهب السفسطة، بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى/ الله عنه ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها، على أمن وتبين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكبر المعارف قال : فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة . ثم قال : انحصرت طرق الطالبين عندي في أربع فرق :
المتكلمون : وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر .
والباطنية : وهم يدعون أنهم أصحاب التعلم، والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم .
والفلاسفة : وهم يدعون أنهم أصحاب المنطق والبرهان .
والصوفية : ويدعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المكاشفة، والمشاهدة .
فقلت في نفسي : الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم السالكون سبل طريق الحق، فإن سد الحق عنهم فلا يبقي في درك الحق مطمع . ثم ذكر أن مقصود الكلام وفائدته : الذب عن السنة بالجدل، لا تحقيق الحقائق، وأن ما عليه الباطنية باطل، وأن الفلسفة بعضها حق، وبعضها كفر، والحق منها لا يفي بالمقصود .(1/4)
ثم ذكر أنه أقبل بهمته على طريق الصوفية، وعلم أنها لا تحصل إلا بعلم/ وعمل، فابتدأ بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد، حتى طلع على كنه مقاصدهم العلمية .
ثم إنه علم يقينا أنهم أصحاب أحوال، لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصله، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالتعلم والسماع، بل بالذوق والسلوك .
قال : وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها،والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية، والعقلية إيمان يقيني بالله، وبالنبوة وباليوم الآخر .
وهذه الأصول الثلاثة - من الإيمان - كانت قد رسخت في نفسي بالله لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجارب، لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى . وذكر أنه تخلى عشر سنين . إلى أن قال : انكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به : أني علمت يقينا، أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم، وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا .
/فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من مشكاة نور النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به .
وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريق طهارتها ؟ وهي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب بذكر الله .(1/5)
قلت : يستفاد من كلامه أن أساس الطريق : هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما قررته غير مرة . وهذا أول الإسلام، الذي جعله هو النهاية، وبينت الفرق بين طريق الأنبياء، وطريق الفلاسفة والمتكلمين، لكن هو لم يعرف طريقة أهل السنة والحديث، من العارفين، فلهذا لم يذكرها، وهي الطريقة المحمدية المحضة، الشاهدة على جميع الطرق .
والسهروردي الحلبي، المقتول، سلك النظر والتأله جميعا، لكن هذا صابئي محض، فيلسوف لا يأخذ من النبوة إلا ما وافق فلسفته، بخلاف ذينك وأمثالهما .
ثم منهم من لا يعرف إلا طريقة النظر والقياس ابتداء، كجمهور المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، والأشعرية، وبعض الحنبلية .
ومنهم من لا يعرف ابتداء إلا طريقة الرياضة، والتجرد والتصوف، ككثير من الصوفية والفقراء الذين وقعوا في الاتحاد، والتأله المطلق، مثل : عبد الله الفارسي، والعفيف التلمساني ونحوهما . ومنهم من قد يجمع كالصدر القوْنَوِي ونحوه .
/والغالب عليهم عالم التوهم . فتارة يتوهمون ما له حقيقة، وتارة يتوهمون ما لا حقيقة له، كتوهم إلهية البشر، وتوهم النصاري، وتوهم المنتظر، وتوهم الغوث المقيم بمكة أنه بواسطته يدبر أمر السماء والأرض، ولهذا يقول التلمساني : ثبت عندنا بطريق الكشف ما يناقض صريح العقل .
ولهذا أصيب صاحب الخلوة بثلاث توهمات :
أحدها : أن يعتقد في نفسه أنه أكمل الناس استعداداً .
والثاني : أن يتوهم في شيخه أنه أكمل من على وجه الأرض .
والثالث : أنه يتوهم أنه يصل إلى مطلوبه بدون سبب، وأكثر اعتماده على القوة الوهمية، فقد تعمل الأوهام أعمالا لكنها باطلة، كالمشيخة الذين لم يسلكوا الطرق الشرعية النبوية، نظراً أو عملاً، بل سلكوا الصابئية .(1/6)
ويشبه هؤلاء من بعض الوجوه : أكثر الأحمدية، واليونسية، والحريرية، وكثير من العدوية، وأصحاب الأوحد الكرماني، وخلق كثير من المتصوفة والمتفقرة بأرض المشرق؛ ولهذا تغلب عليهم الإباحة، فلا يؤمنون بواجبات الشريعة ومحرماتها . وهم إذا تألهوا في تألهٍ مطلقٍ، لا يعرفون من هو إلههم بالمعرفة القلبية، وإن حققه عارفوهم الزنادقة، جعلوه الوجود المطلق .
ومنهم من يتأله الصالحين من البشر، وقبورهم ونحو ذلك .
فتارة يضاهئون المشركين، وتارة يضاهئون النصارى، وتارة يضاهئون/ الصابئين، وتارة يضاهئون المعطلة الفرعونية، ونحوهم من الدهرية، وهم من الصابئين، لكن كفار في الأصل . والخالص منهم يعبد الله وحده، لكن أكثر ما يعبده بغير الشريعة القرآنية المحمدية، فهم منحرفون، إما عن شهادة أن لا إله إلا الله، وإما عن شهادة أن محمداً رسول الله، وقد كتبته في غير هذا .
وكل واحد من طريقي النظر والتجرد طريق فيه منفعة عظيمة، وفائدة جسيمة، بل كل منهما واجب لابد منه، ولا تتم السعادة إلا به، والقرآن كله يدعو إلى النظر والاعتبار والتفكر، وإلى التزكية والزهد والعبادة .(1/7)
وقد ذكر القرآن صلاح القوة النظرية العلمية، والقوة الإرادية العملية في غير موضع، كقوله : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، فالهدى كمال العلم، ودين الحق كمال العمل، كقوله : { أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] ،وقوله : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ِِِِ } [ المجادلة : 22 ] وقوله : { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ التين : 6 ] ، وقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } [ فاطر : 10 ] ، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدى محمد ) ، لكن النظر النافع أن يكون في دليل، فإن النظر في غير دليل لا يفيد العلم بالمدلول عليه، والدليل هو الموصل إلى المطلوب، والمرشد إلى المقصود، والدليل التام هو الرسالة، والصنائع .
وكذلك العبادة التامة فعل ما أمر به العبد وما جاءت به الرسل، وقد وقع/ الخطأ في الطريقين، من حيث : أخذ كل منهما أو مجموعهما، مجرداً في الابتداء عن الإيمان بالله، وبرسول . .
بل اقتصر فيهما على مجرد ما يحصله نظر القلب، وذوقه الموافق لما جاءت به الرسل تارة، والمخالف لما جاءت به أخرى، في مجرد النظر العقلي، ومجرد العبادات العقلية، أو الصعود عن ذلك إلى النظر الملي، والعبادات الملية، والواجب أنه لابد في كل واحد من النظر والعمل، من أن يوجد فيه العقلي، والملي، والشرعي، فلما قصروا وقع كل من الفريقين، إما في الضلال، وإما في الغواية، وإما فيهما .
وحاصلهم : إما الجهل البسيط، أو الكفر البسيط، أو الجهل المركب، أو الكفر المركب، مع الجهل والظلم .(1/8)
وذلك أن طريقة أهل النظر والقياس : مدارها على مقدمة لابد منها في كل قياس يسلكه الآدميون، وهي مقدمة كلية جامعة، تتناول المطلوب، وتتناول غيره، بمعنى أنها لا تمنع غيره من الدخول، وإن لم يكن له وجود في الخارج، فهي لا تتناول المطلوب لخاصيته، بل بالقدر المشترك بينه وبين غيره، والمطلوب بها هو الله ـ تعالى ـ فلم يصلوا إليه إلا بجامع ما يشترك فيه هو وغيره، من القضايا الإيجابية، والسلبية .
والمشترك بينه وبين غيره لا يعرف بخصوصه أصلا، فلم يعرفوا الله،/ بل لما اعتقدوا فيه القدر المشترك صاروا مشركين به، وحكموا على القدر المشترك بأحكام سلبية، أو إيجابية، فإنها تصح في الجملة ؛ لأن ما انتفى عن المعنى العام المشترك انتفى عن الخاص المميز، وليس ما انتفى عن الخاص المميز انتفى عن العام، فما نفيته عن الحيوان أو عن النبي، انتفى عن الإنسان والرسول . وليس ما نفيته عن الإنسان أو الرسول انتفى عن الحيوان أو النبي .
ولهذا كان قوله : ( لا نبي بعدي ) ينفي الرسول،وكذلك ما ثبت للمعنى المشترك بصفة العموم ثبت للخاص، وما ثبت له بصفة الإطلاق لم يجب أن يثبت للخاص، فإذا ثبت حكم لكل نبي دخل فيه الرسول . وأما إذا ثبت للنبي مطلقًا لم يجب أن يثبت للرسول، وقد تتألف من مجموع القضايا السلبية والإيجابية أمور لا تصدق إلا عليه، ولا يصح أن يوصف بها غيره، كما إذا وصف نبي بمجموع صفات، لا توجد في غيره .
لكن هذا القدر يعرف انتفاء غيره أن يكون إياه، وأما عينه فلا يعرف بمجموع تلك القضايا الكلية، فلا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب، والعدم، إذا كان القياس صحيحا .(1/9)
ولهذا جاءت الأمثال المضروبة في القرآن ـ وهي المقاييس العقلية ـ دالة على النفي في مثل قوله : { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } الآية [ الروم : 28 ] ، ومثل قوله : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ } الآيات [ النحل : 76 ] ، وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } الآية [ الحج : 73 ] ، وقوله : { قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونََ } الآية [ الإسراء : 42 ] ، وقوله : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، وأمثال ذلك من الأمثال ـ وهي القياسات ـ التي مضمونها نفي الملزوم لانتفاء لازمه، أو نحو ذلك .
ولهذا كان الغالب على أهل القياس، من أهل الفلسفة، و الكلام، في جانب الربوبية إنما هي المعارف السلبية . ثم لم يقتصروا على مقدار ما يعلمه العقل من القياس، بل تعدوا ذلك، فنفوا أشياء مشبهة القياس الفاسد، مثل نفي الصفات النبوية، الخبرية، بل ونفى الفلاسفة والمعتزلة للصفات التي يثبتها متكلمو أهل الإثبات، ويسمونها الصفات العقلية؛ لإثباتهم إياها بالقياس العقلي .
ومعلوم أن العقل لا ينفي بالقياس إلا القدر المشترك، الذي هو مدلول القضية الكلية التي لابد منها في القياس، مثل أن ينفي الإرادة أو الرحمة أو العلم المشترك بين مسميات هذا الاسم، والقدر المشترك في المخلوقين تلحقه صفات لا تثبت لله تعالى، فينفون المعنى المشترك المطلق، على صفات الحق وصفات الخلق ـ تبعاً لانتفاء ما يختص به الخلق ـ فيعطلون، كما أن أهل التمثيل يثبتون ما يختص به الخلق ـ تبعاً للقدر المشترك ـ وكلاهما قياس خطأ .(1/10)
ففي هذه الصفات، بل وفي الذوات ثلاث اعتبارات :
أحدها : ما تختص به ذات الرب وصفاته .
والثاني : ما يختص به المخلوق وصفاته .
/والثالث : المعنى المطلق الجامع .
فاستعمال القياس الجامع في نفي الأول خطأ، وكذلك استعماله في إثبات الثاني . وأما استعماله في إثبات الثالث، فيحتاج إلى إدراك العقل لثبوت المعنى الجامع الكلي، وهذا أصل القياس والدليل، فإن لم يعرف العقل بنفسه - أو بواسطة قياس آخر- ثبوت هذا، وإلا لم يستقم القياس .
وكذلك في معارفهم الثبوتية لا يأتون إلا بمعانٍ مطلقة مجملة . مثل ثبوت الوجود، ووجوب الوجود، أو كونه رباً أو صانعاً أو أوَّلاً، أو مبدأ أو قديما، ونحو ذلك من المعاني الكلية، التي لا يعلم بها خصوص الرب تعالى، إذ القياس لا يدل على الخصوص، فإنه إذا استدل بأن كل ممكن فلابد له من موجب وبأن كل محدَث فلابد له من محدِث، كان مدلول هذا القياس أمراً عاماً، وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع .
وكذلك أصحاب الرياضة والتجرد، فإن صفوتهم الذين يشتغلون بذكر بسيط مثل لا إله إلا الله إن لم يغلوا فيقتصروا على مجرد [ الله، الله ] ويعتقدون أن ذلك أفضل وأكمل، كما فعله كثير منهم، وربما اقتصر بعضهم على [ هُوْ، هُوْ ] أو على قوله : [ لا هو إلا هو ] ؛ لأن هذا الذكر المبتدع الذي هو لا يفيد بنفسه إلا أنه مطلقاً، ليس فيه بنفسه ذكر لله إلا بقصد المتكلم .(1/11)
فقد ينضم إلى ذلك اعتقاد صاحبه أنه لا وجود إلا هو، كما يصرح به بعضهم ويقول : لا هو إلا هو، أو لا موجود إلا هو، وهذا عند الاتحادية/ أجود من قول : [ لاإله إلا الله ] ؛ لأنه مصرح بحقيقة مذهبهم الفرعوني القرمطي، حتى يقول بعضهم : [ لا إله إلا الله ] ذكر العابدين، و [ الله، الله ] ذكر العارفين، و [ هو ] ذكر المحققين، ويجعل ذكره [ يا من لا هو إلا هو ] ، وإذا قال : الله، الله إنما يفيد مجرد ثبوته، فقد ينضم إلى ذلك نفي غيره لا نفي إلهية غيره، فيقع صاحبه في وحدة الوجود وربما انتفى شهود القلب للسوي إذا كان في مقام الفناء فهذا قريب، أما اعتقاد أن وجود الكائنات هي هو، فهذا هو الضلال .
ويضمون إلى ذلك نوعا من التصفية، مثل ترك الشهوات البدنية من الطعام والشراب والرياسة والخلوة، وغير ذلك من أنواع الزهادة المطلقة، والعبادة المطلقة، فيصلون أيضا إلى تأله مطلق، ومعرفة مطلقة بثبوت الرب ووجوده ونحو ذلك، من نحو ما يصل إليه أرباب القياس .
ثم قد تتوارى هذه المعرفة والعلم بملابسة الأمور الطبيعية، من الطعام، والاجتماع بالناس، فإن سببها إنما هو ذلك التجرد، فإذا زال زال، ولهذا قيل : كل حال أعطاكه الجوع فإنه يذهب بالشبع، كما قد تتوارى معرفة الأولى المطلقة بغفلة القلب عن تلك المقاييس النظرية، ولا ريب أن القياس يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه، وأن الرياضة والتأله يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه، لكن معرفة مطلقة بسبب قد يثبت وقد يزول، وكثيراً ما يفضي إلى الاتحاد والحلول والإباحة، وذلك لأنهم يجردون التأله عما لابد منه من صالح البشر، فإذا احتاجوا إليها أعرضوا عن التأله .
فهم إما آلهة عند نفوسهم، وإما زنادقة أو فساق، ولهذا حدثني الشيخ/ الصالح يوسف من أصحابنا أنه رآني في المنام وأنا أخاطبهم(1/12)
والمعرفة الحاصلة بذلك هي المعرفة التي تصلح حال العبد وتجب عليه،لكن قد يحصل مع صدق الطلب ـ بواسطة القياس، أو بواسطة الوجد ـ وصول إلى الرسالة فيتلقى حينئذ من الرسالة ما يصلح حاله،ويعرفه المعرفة التامة والعلم النافع الواجب عليه ـ وهي الطريق الشرعية النبوية التي ذكرناها أولا ـ وقد لا يحصل ذلك فيقع كثير منهم في الاستغناء عن النبوة، اعتقادا أو حالا بالإعراض عما جاءت به، فيفوته من الإيمان والعلم والمعرفة ـ التي جاء بها الرسول ـ ما يضل بفواته في الدنيا عن الهدى، ويشقى به الشقاء الأكبر، كحال الكافرين بالرسول وإن آمنوا بوجود الرب، من اليهود والنصارى والصابئين، فإن في المسلمين من ينافق في الرسول، كما كفر هؤلاء به ظاهراً، وهذا النفاق كثير جداً، قديما وحديثا .
وقد تنعقد في قلبه مقاييس فاسدة، ومواجيد فاسدة، يحكم بمقتضاها في الربوبية أحكاماً فاسدة مثل : أحكام المنحرفة إلى صابئية، أو يهودية أو نصرانية، من الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة، الذين انحرفوا إما إلى تعطيل للصفات وتكذيب بها، وإما إلى تمثيل لها وتشبيه، وإما إلى اعتقاد أن الرب هو الوجود المطلق الذي لا يتميز، وأن عين / الوجود هو عين الخالق،وأنه ليس وراء السموات والأرض شيء آخر، وإنما هذه الأشياء كلها مراتب للصفات، وأن الربوبية والإلهية مراتب ذهنية شكوكية . وأما في الحقيقة : فليس إلا عين ذاته، فالمحجوبون يرون المراتب والمكاشف ما ترى إلا عين الحق .
ويحسبون ـ ويحسب كثير بسببهم ـ أن هذا التوحيد هو توحيد الصديقين، الذين عرفوا الله، وقالوا :
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل **
كما يحسب المتكلم الزائغ أن توحيده - الذي هو نفي الصفات - هو توحيد الأنبياء، والصديقين، الذين عرفوا الله ؛ ولهذا يقع في هؤلاء الشركُ كثيرا، حتى يسجد بعضهم لبعض، كما يقع في القسم الآخر تحريم الحلال من العقود، والعبادات المباحة .(1/13)
فاقتسم الفريقان : ما ذم الله به المشركين، من الشرك، وتحريم الحلال . . . وهكذا يوجد كثيراً في هؤلاء المشبهة للنصارى . وظهر في الآخرين من الآصار، والأغلال، وجحود الحق، وقسوة القلوب ما يوجد كثيرا في هؤلاء المشبهة لليهود .
هذا في غير الغالية منهم، وأما الغالية من الصنفين، فعندهم أن معرفتهم وحالهم فوق معرفة الأنبياء وحالهم . كما يقول التلمساني : القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله .
/وكما يزعم الفارابي : أن الفيلسوف أكمل من النبي،وإنما خاصة النبي جودة التخييل للحقائق، إلي أنواع من الزندقة والكفر، يلتحقون فيها بالإسماعيلية، والنصيرية، والقرامطة، والباطنية، ويتبعون فرعون، والنمروذ وأمثالهما من الكافرين بالنبوات، أو النبوة والربوبية .
وهذا كثير جداً في هؤلاء وهؤلاء، وسبب ذلك عدم أصل في قلوبهم، وهو الإيمان بالله، والرسول . فإن هذا الأصل إن لم يصحب الناظر، والمريد، والطالب، في كل مقام، وإلا خسر خسرانا مبينا، وحاجته إليه كحاجة البدن إلى الغذاء، أو الحياة إلى الروح .
فالإنسان بدون الحياة والغذاء لا يتقوم أبداً، ولا يمكنه أن يَعلم، ولا أن يُعلم .
كذلك الإنسان بدون الإيمان بالله ورسوله لا يمكنه أن ينال معرفة الله، ولا الهداية إليه، وبدون اهتدائه إلى ربه لا يكون إلا شقيا معذباً، وهو حال الكافرين بالله ورسوله، ومع الإيمان بالله ورسوله إذا نظر، واستدل، كان نظره في دليل وبرهان - وهو ثبوت الربوبية، والنبوة - وإذا تجرد وتصفى، كان معه من الإيمان ما يذوقه بذلك ويجده .
ثم هذا النظر، وهذا الذوق يجتلب له ما وراء ذلك من أنواع المعالم الربانية، والمواجيد الإلهية . والعلم والوجد متلازمان .
وذلك، أن الأنبياء والمرسلين عرفوا الله بالوحي المعرفة التي هي معرفة، وعبدوه العبادة التي هي حق له بحسب ما منحهم الله تعالى .(1/14)
وهم درجات في ذلك، لكن عرفوا من خصوص الربوبية ما لا يقوم به/ مجرد القياس النظري، ولا يناله مجرد الذوق الإرادي، ثم أخبروا عن ذلك .
ولابد في الوصف والإخبار من أن يذكر المسمى الموصوف بالأسماء والأوصاف المتواطئة التي فيها اشتراك وتمييز عن المخلوقات بما يقطع الشركة؛ لأن القصد بالإخبار، والوصف، تعريف المخاطبين، والمخاطبون لا يعرفون الخصوصيات، التي هي خصوص ذات الله، و صفاته .
فلو أخبروا بذلك وحده مجرداً لم يعرفوا شيئا، بل ربما أنكروا ذلك . فإذا خوطبوا بالمعاني المشتركة، وأزيل مفسدة الاشتراك بما يقطع التماثل، كقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ،ونحو ذلك كانوا أحد رجلين :
إما رجل مؤمن، آمن بمعاني تلك الصفات على الوجه المطلق الجملي وأثبتها لله على وجه يليق به، ويختص به، لا يشركه فيه مخلوق، فهذا غاية الممكن في حال هؤلاء .
وإما رجل قذف اللّه في قلبه من نوره وهدايته الخاصة ما أشهده شيئا من الخصوصيات، التي هي أعيان تلك الأسماء والصفات، فيعلم ذلك لا بمجرد القياس، ولا بمجرد الوجد بل بشهود علمي مطابق لما أخبرت به الرسل، وتدله على صحة شهوده موافقته لما أنبأت به الرسل، ويحصل له نصيب من النبوة، فإن النبوة انقطعت بكمالها، وأما وجود بعض أجزائها فلم ينقطع . ولابد أن يكون في بعض الأمور محجوبا عن أن يشهد ما شهده النبي، فيصدقه فيه، لشهوده بعض ما أخبر به النبي، ويبقى ما شهده محققا عنده لثبوت ما لم يشهده، وهذه حال الصديقين مع الأنبياء .(1/15)
/وذلك نظير من وصف له ملك مدينة، بأنواع من الصفات، فقدم حتى رأى بعض شؤونه التي دلته على صدق المخبر فيما لم يشهد . ولست أجعل مجرد هذه الشهادة مصدقة، فإن المخبر قد يصدق في بعض، ويخطئ في بعض،وإنما ذلك بواسطة إخبار المخبر - أي رسول الله - وشهوده منه ما يوجب له امتناع الكذب عليه، كما يذكر في غير هذا الموضع .
فإن قلت : فمن أين له ابتداء صحة الإيمان بالله ورسوله، حتى يصير ذلك أصلا يبني عليه، وينتقل معه إلى ما بعده ؟ فأهل القياس والوجد إنما تعبوا التعب الطويل ـ في تقرير هذا الأصل ـ في نفوسهم، ولهذا يسمي المتكلمون كل ما يقرر الربوبية والنبوة : العقليات والنظريات، ويسميها أولئك : الذوقيات، والوجديات، ورأوا أن ما لا يتم معرفة الله ورسوله إلا به فمعرفته متقدمة على ذلك، وإلا لزم الدور . فسموا تلك عقليات، والعقليات لا تنال إلا بالقياس العقلي المنطقي .
قلت : جواب هذا من وجوه :
أحدها : المعارضة بالمثل، فإن سالك سبيل النظر القياسي، أو الإرادة الذوقية، من أين له ابتداء أن سلوك هذا الطريق يحصل له علما، ومعرفة، ليس معه ابتداء إلا مجرد إخبار مخبر بأنه سلك هذا الطريق فوصل، أو خاطر يقع في قلبه سلوك هذا الطريق، إما مجوزا للوصول أو متحريا أو غير ذلك، أو سلوكا ابتداء بلا انتهاء، وليس ذلك مختصا بالعلم الإلهي، بل كل العلوم لابد للسالك فيها ابتداء من مصادرات يأخذها مسلمة إلى أن تتبرهن فيما بعد .
/إذا لو كان كل طالب العلم حين يطلبه قد نال ذلك العلم، لم يكن طالبا له، والطريق التي يسلكها قد يعلم أنها تفضي به إلى العلم .
لكن الكلام في أول الأوائل، ودليل الأدلة، وأصل الأصول . فإنه لو كان حين ينظر فيه يعلم أنه دليل مفض لم يمكن ذلك حتى يعلم ارتباطه بالمدلول، فإن الدليل إن لم يستلزم المدلول لم يكن دليلاً .(1/16)
والعلم بالاستلزام موقوف على العلم بالملزوم واللازم،فلا يعلم أنه دليل على المدلول المعين،حتى يعلم ثبوت المدلول المعين، ويعلم أنه ملزوم له، وإذا علم ذلك استغنى عن الاستدلال به على ثبوته، وإنما يفيده التذكير به، لا ابتداء العلم به، وإنما يقع الاشتباه هنا؛ لأنه كثيراً ما يعرف الإنسان ثبوت شيء، ثم يطلب الطريق إلى معرفة صفاته، ومشاهدة ذاته، إما بالحس، وإما بالقلب، فيسلك طريقا يعلم أنها موصلة إلى ذلك المطلوب ؛ لأنه قد علم أن تلك الطريق مستلزم لذلك المطلوب الذي علم ثبوته قبل ذلك .
كمن طلب أن يحج إلى الكعبة، التي قد علم وجودها، فيسلك الطريق التي يعلم أنها تفضي إلى الكعبة، لإخبار الناس له بذلك، أو يستدل بمن يعلم أنه عارف بتلك الطريق، فسلوكه للطريق بنفسه بعد علمه أنها طريق ـ المقصود ـ بإخبار الواصلين، أو سلوكه بدليل خريت ـ يهديه في كل منزلة ـ لا يكون إلا بعد العلم بثبوت المطلوب، وثبوت أن هذا طريق ودليل .
وهكذا حال الطالبين لمعرفة الله، والمريدين له، والسائرين إليه، قد عرفوا /وجوده أولا وهم يطلبون معرفة صفاته، أو مشاهدة قلوبهم له في الدنيا . فيسلكون الطريق الموصلة إلى ذلك بالإيمان والقرآن .
فالإيمان : نظير سلوك الرجل الطريق التي وصفها له السالكون، فإنهم متفقون على ذلك .
والقرآن : تصديق الرسل فيما تخبر به، وهو نظير اتباع الدليل منزلة منزلة، ولابد في طريق الله منهما .
وأما الشيء الذي لم يعلم العقل ثبوته أولا، إذا سلك طريقا يفضي إلى العلم به - فلا يسلكها ابتداء إلا بطريق التقليد والمصادرة - كسائر مبادئ العلوم - فإذا كان لابد في الطريقة القياسية، والعملية، من تقليد في الأول ـ في سلوكه فيما لم يعلم أنه طريق، وأنه مفض إلى المطلوب ـ أو أن المطلوب موجود، فالطريقة الإيمانية ـ إذا فرض أنها كذلك ـ لم يقدح ذلك فيها، بل تكون هي أحق، لوجوه كثيرة .
ونذكر بعضها إن شاء الله .(1/17)
بل لا طريق إلا هي أو ما يفضي إليها، أو يقترن بها فهي شرط قطعاً في درك المطلوب، وما سواها ليس بشرط، بل يحصل المطلوب دونه وقد يضر بحصول المطلوب فلا يحصل، أو يحصل نقيضه وهو الشقاء الأعظم على التقديرين، فتلك الطريق مفضية قطعاً ولا فساد فيها، وما سواها يعتريه الفساد كثيراً، وهو لا يوصل وحده، بل لابد من الطريقة الإيمانية .
/الوجه الثاني في الجواب : أن الطريقة القياسية، والرياضية، إذا سلكها الرجل وأفضت به إلى المعرفة - إن أفضت - علم حينئذ أنه سلك طريقا صحيحا وأن مطلوبه قد حصل، وأما قبل ذلك فهو لا يعرف، فأدني أحوال الإيمانية - ولا دناءة فيها - أن تكون كذلك . فإنه إذا أخذ الإيمان بالله ورسله مسلما، ونظر في موجبه،وعمل بمقتضاه، حصل له بأدني سعي مطلوبه من معرفة الله، وأن الطريق التي سلكها صحيحة، فإن نفس تصديق الرسول فيما أخبر به عن ربه وطاعته، يقرر عنده علماً يقينياً بصحة ذلك أبلغ بكثير مما ذكر أولا .
الوجه الثالث : أن الإقرار بالله قسمان : فطري، وإيماني . فالفطري : ـ وهو الاعتراف بوجود الصانع - ثابت في الفطرة . كما قرره الله في كتابه في مواضع وقد بسطت القول فيه في غير هذا الموضع . فلا يحتاج هذا إلى دليل، بل هو أرسخ المعارف، وأثبت العلوم، وأصل الأصول .
وأما الإقرار بالرسول، فبأدني نظر فيما جاء به، أو في حاله، أو في آياته، أو نحو ذلك من شؤونه يحصل العلم بالنبوة، أقوى بكثير مما يحصل المطالب القياسية، والوجدية، في الأمور الإلهية . ثم إذا قوي النظر في أحواله حصل من اليقين الضروري الذي لا يمكن دفعه ما يكون أصلا راسخا . وبسط هذا مذكور في غير هذا الموضع؛ إذ المقصود هنا بيان خطأ من سلك طريق القياس، أو الرياضة، دون الإيمان ابتداء . وأما تقرير طريقة الإيمان فشأنه عظيم، أعظم مما كتبته هنا .(1/18)
الوجه الرابع : أنا نخاطب المسلمين المتسمين بالإيمان، الذين غرض أحدهم/ معرفة الله الخاصة، التي يمتاز بها العلماء والعارفون عن العامة، فيسلك بعضهم طريقة أهل القياس المبتدع، والفلاسفة والمتكلمين، وبعضهم طريقة أهل الرياضة والإرادة المبتدعة، من المتفلسفة والمتصوفه، معرضا عما جاء به الرسول في تفاصيل هذه الأمور، فإن هؤلاء إذا كانوا عالمين بصدق الرسول - المبلغ عن ربه، الهادي إليه، الداعي إليه، الذي أكمل له الدين، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء - كيف يدعون الاستدلال بما جاء به، والاقتداء به، إلى ما ذكر من الطريقين ؟
الوجه الخامس : أن أكثر من سلك الطريقين المنحرفين، لم يعتقد أن هناك طريقا ثالثا- كما يذكره رجال من فضلاء العالم الغالطين في القواعد الكبار - فهم ينتقلون من مادة فلسفية صابئية، إلى مادة إرادية نصرانية، إلى مادة كلامية يهودية .
وأهل فلسفتهم يوما مع ذوي إرادتهم، ويوما مع ذوي كلامهم، وهم متهوكون في هذه المجارات .
والطريقة الإيمانية النبوية المحمدية، الدينية السنية الأثرية، لا يهتدون إليها، ولا يعرفونها ولا يظنون أنها طريقة إلى مطلوبهم، ولا تفضي إلى مقصودهم، وذلك لعدم وجود من يسلكها في اعتقادهم، أو كبتوا نفوسهم عنها ظلما، فلضلالهم عنها أو غوايتهم وجهلهم بها، أو ظلمهم أنفسهم، أعرضوا عنها .
فإن قلت : فالقرآن يأمر بالنظر في الآيات .
/قلت : النظر لا ريب في صحته في الجملة، وأنه إذا كان في دليل أفضى إلى العلم بالمدلول، وإذا كان في آيات الله أفضى إلى الإيمان به، الذي هو رأس العبادة، كما أن العبادة والإرادة لا ريب في صحتها في الجملة، وأنها إذا كانت على منهاج الأنبياء أفضت إلى رضوان الله، لكن عليك أن تفرق بين الآيات وبين القياس، كما قد بيناه في غير هذا الموضع .(1/19)
فإن الآية هي العلامة . وهي ما تستلزم بنفسها لما هي آية عليه، من غير توسط حد أوسط، ينتظم به قياس مشتمل على مقدمة كلية، كالشعاع فإنه آية الشمس، وكذلك النبات للمطر في الأرض القفر، والدخان للنار، وإن لم ينعقد في النفس قياس، بل العقل يعلم تلازمهما بنفسه، فيعلم من ثبوت الآية ثبوت لازمها، والعلم بالتلازم قد يكون فطريا، وقد لا يكون .
الوجه السادس : أن تينك الطريقين ليستا باطلا محضا، بل يفضي كل منهما إلى حق ما، لكن ليس هو الحق الواجب، وكثيراً ما يقترن معه الباطل فلا يحصل بكل منهما بمجرده أداء الواجب ولا اجتناب المحرم، و لا تحصلان المقصود الذي فيه سعادة العبد من نجاته ونعيمه، بعد مبعث الرسول .
أما الطريقة النظرية القياسية، فإنه لابد فيها من الاستدلال بالممكن على الواجب، أو المحدَث على المحدِث، أو بالحركة على المحرِّك، وذلك يعطي فاعلا عظيما من حيث الجملة .
وكذلك الطريقة الرياضية الذوقية تعطي انقياد القلب وخضوعه إلى الصانع/ المطلق، وكل منهما لابد فيها من علم اضطراري يضطر القلب إليه؛ إذ القلب لا يحصل له علم إلا من جنس الاضطراري ابتداء بتوسط الضروري، فإن النظر يبنى على مقدمات تنتهي إلى ما هو من جنس الضروري، إما بتوسط الحس أو مجرداً عن الحس .
فالطريق القياسية تفيد العلم بتوسط مقدمات ضرورية، مثل أن يقال : الوجود المعلوم إما ممكن، وإما واجب، والممكن لا يوجد إلا بواجب . فثبت وجود الواجب على التقديرين .
ومثل أن يقال : العالم محدَث أو كثير منه محدث . والثاني ضروري، والأول يستدل عليه . ثم يقال : وكل محدَث فله محدِث .
أو يقال : لا شك أن ثم وجودًا، وهو إما قديم، وإما محدَث، والمحدث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين .
كما يقال : لا ريب أن ثم وجودًا، وهو إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب فثبت وجود الواجب على التقديرين .(1/20)
وقد يقال أيضا : لا ريب أن ثم وجودا، وهو إما مصنوع، أو غير مصنوع، أو مخلوق أو غير مخلوق، أو مفطور أو غير مفطور، والمصنوع أو المخلوق أو المفطور، لابد له من صانع وخالق وفاطر، فثبت وجود ما ليس بمصنوع ولا مفطور ولا مخلوق على التقديرين .
/فهذه الوجوه وما يشبهها تدل على وجود واجب قديم ليس بمصنوع، لكن الشأن في تعيينه، فإن عامة الدهرية يقولون : هذا هو العالم أو شيء قائم به . ثم إن افتقار الممكن إلى الواجب، والمحدث إلى القديم، والمصنوع إلى الصانع، مقدمة ضرورية؛ وإن كان طائفة من النظار يستدلون على هذه المقدمة، وعلى أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، والجمهور على الاكتفاء بالضرورة فيهما .
والطريق العبادية تفيد العلم بتوسط الرياضة وصفاء النفس، فإنه حينئذ يحصل للقلب علم ضروري،كما قال الشيخ إسماعيل الكوراني لعز الدين بن عبد السلام لما جاء إليه يطلب علم المعرفة ـ وقد سلك الطريقة الكلامية ـ فقال : أنتم تقولون : إن الله يعرف بالدليل، ونحن نقول : عرَّفنا نفسه فعرفناه . وكما قال نجم الدين الكبرى لابن الخطيب، ورفيقه المعتزلي وقد سألاه عن علم اليقين، فقال : هو واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها . فأجابهما : بأن علم اليقين عندنا هو موجود بالضرورة لا بالنظر، وهو جواب حسن .
فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه الانفكاك عنه . فالقائس إن لم يحصل له العلم الضروري ابتداء، وإلا فلابد أن يبني نظره وقياسه على مقدمات ضرورية، ثم حينئذ يحصل له العلم .
ولهذا قال طائفة منهم ـ أبو المعالي الجويني إن جميع العلوم ضرورية /باعتباراتها بعد وجود النظر الصحيح في الدليل تحصل العلم ضرورة، لكن منها ما هو ضروري عند تصور طرفي القضية، ومنها ما هو ضروري بعد تأمل ونظر، ومنها ما هو ضروري بعد النظر في دليل ذي مقدمتين، أو مقدمات .(1/21)
فقال الشيخ العارف : نحن نجد العلم وجدا ضرورياً بالطريق التي نسلكها من تزكية النفس، وإصلاح القلب الذي هو حامل العلم وداعيه فكل منهما يفيض الله العلم على قلبه، وينزله على فؤاده، ولكن أحدهما بتحصيل العلم المقارن للعلم المطلوب،الذي هو المقدمات، والآخر بإصلاح طالب العلم الذي يريد أن يكون عالماً ـ وهو القلب ـ بمنزلة من يخطب امرأة، فتارة تجمَّل لها وتَعَرَّض حتى رأته فرغبت فيه وخطبته، وتارة بأن أرسل إليها من تأنس إليه وتطيعه، فخطبها له فأجابت، فكان سعي الأول وعمله في إصلاح نفسه وتعرضه لها حتى ترغب، وكان سعي الثاني في تحصيل الرسول المطاع حتى تجيب . وبمنزلة من يصيد صيدًا .
لكن مجرد النظر والعمل مجتمعين ومنفردين، لا يحصلان إلا أمراً مجملاً، كما هو الواقع، وذلك صحيح . فإن ثبوت الأمر المجمل حق، فإن ضما إلى ذلك ما يعلم بنور الرسالة من الأمر المفصل حصل الإيمان النافع، وزال ما يخاف من سوء عاقبة ذينك الطريقين .
وهذه حال من تحيز من أهل النظر الكلامي، والعمل العبادي إلى اتباع الرسول والإيمان به، فقبل منه وأخذ عنه .
/وإن لم يضم أحدهما إلى ذلك ما جاء به الرسول، فإما أن يضم ضده، أو لا يضم شيئاً، فإن ضم إلى ذلك ضد ما جاء به الرسول وقع في التكذيب، وهو الكفر المركب، وإن لم يضم إليه شيء بقى في الكفر البسيط، سواء كان في ريب، أو في إعراض وغفلة .(1/22)
فإن حال الكافر لا تخلو من أن يتصور الرسالة أولا، فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها، وعدم إيمان بها، كما قال : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [ الكهف : 28 ] ، وقال : { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 136 ] ، لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة، والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة . فلهذا قرن التكذيب بالغفلة وإن تصور ما جاء به الرسول وانصرف فهو معرض عنه، كما قال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ طه : 123،124 ] ، وكما قال : { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } [ النساء : 61 ] ،وكما قال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } [ البقرة : 170 ](1/23)
وإن كان مع ذلك لا حظ له، لا مصدق ولا مكذب، ولا محب ولا مبغض، فهو في ريب منه، كما أخبر بذلك عن حال كثير من الكفار، منافق وغيره، كما قال : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونََ } [ التوبة : 45 ] ، وكما قال موسى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ . قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ إبراهيم : 9 : 11 ] .(1/24)
فأخبر ـ سبحانه ـ عن مناظرة الكفار للرسل في الربوبية أولا،فإنهم في شك من الله الذي يدعونهم إليه،وفي النبوة ثانيا بقولهم : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ إبراهيم : 10 ] ،وهذا بحث كفار الفلاسفة بعينه،وإن كان مكذباً له فهو التكذيب،والتكذيب أخص من الكفر، فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر . وليس كل كافر مكذباً، بل قد يكون مرتابا، إن كان ناظراً فيه أو معرضاً عنه بعد أن لم يكن ناظرا فيه، وقد يكون غافلا عنه لم يتصوره بحال، لكن عقوبة هذا موقوفة على تبليغ المرسل إليه .
وكل واحد من الأمرين في أن يضم إلى المعرفة المجملة، إما تكذيب، وإما كفر بلا تكذيب واقع كثيراً في سالكي الطريقين، النظر في القياس المجرد، والعمل بالعبادة المجردة .
مثال ذلك : أن كثيراً من النظار أثبت واجب الوجود، أو صانع العالم، وذهبوا في تعيينه وصفاته مذاهب يضيق هذا الموضع عن تفصيلها ـ معروفة/ في كتب المقالات، من أهل ملتنا، وغير أهل ملتنا ـ مقالات الإسلاميين المصلين، ومقالات غيرهم . وكثير من العباد المتأخرين أثبت أيضا ذلك إثباتا مجملا، وتوهموا فيه أنواعا من التوهمات الكفرية، الذي يصفها عارفوهم .
فمنهم من توهمه الوجود المطلق، المشترك بين الموجودات، كالإنسان المطلق مع أعيانه وأفراده، فإذا تعين الوجود لم يكن إياه؛ إذ المطلق ليس هو المعين، كما يقوله الصدر القونوي .
ومنهم من توهم أن وجود الممكنات هو عين وجوده الفائض عليها . كما يذكره صاحب الفصوص(1/25)
ومنهم يتوهمه جملة الوجود، وكل معين فهو جزء منه، كالبحر مع أمواجه، وأعضاء الإنسان مع الإنسان . فليس هو ما يختص بكل معين، لكنه مجموع الكائنات، كالعفيف التلمساني، وعبد الله الفارسي البلياني، ويقولون : إن كل موجود فهو مرتبة من مراتب الوجود، أو مظهر من مظاهره، بمنزلة أمواج البحر معه، وأعضاء الإنسان معه، وأجزاء الهوى مع الهواء، أو بمنزلة هذا الإنسان وهذا الحيوان مع الحيوان المطلق والإنسان المطلق .
ويقول شاعرهم ابن إسرائيل :
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ** ويفهم هذا السر من هو ذائق
وقال :
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ** لأني في التحقيق لست سواكم
/ولهذا ليس عندهم للإنسان غاية وراء نفسه، وإنما غايته أن ينكشف الغطاء عن نفسه، فيري أن نفسه هي الحق، وكان قبل ذلك محجوبا عنها، فلما شاهد الحقيقة رأى أنه هو كما قال ابن إسرائيل :
ما بال عيسك لا يقر قرارها ** إلا في ظلك لا تني منتقلا
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ** إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وكما يقول بعضهم :
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه عينه
والله يقول : { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } [ العلق : 8 ] ، ويقول : { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [ الانشقاق : 6 ] ،ويقول : { ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } [ الأنعام62 ] ، ويقول : { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ البقرة : 156 ] ، ونحو ذلك . وقال التلمساني ـ وكان راسخ القدم في هذه الزندقة التي أسموا بها التوحيد والحقيقة- :
توهمت قدما أن ليلى تبرقعت ** وأن حجاباً دونها يمنع اللثما
فلاحت،فلا والله ما كان حجبها ** سوى أن طرفي كان عن حبها أعمى
وله شعر كثير في هذا الفن :
هي الجوهر الصرف القديم وإن بدا ** لها خبث أتيت به فهو حادث
/حلفت لهم ما كان منها غير ذاتها ** فقالوا اتئد فيها فإنك حانث
وله :(1/26)
وقل لحبيبك مت وجداً وذب طربا ** فيها وقل لزوال العقل لا تزل
واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة ** فإن وجدت لسانا قائلا فقل
ولهذا يصلون إلى مقام لا يعتقدون فيه إيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإنما يرون الإيجاب والتحريم للمحجوبين عندهم، الذين لم يشهدوا أنه هو حقيقة الكون، فمن العابد ومن المعبود ومن الآمر ومن المأمور ؟ كما قال صاحب الفتوحات في أولها :
الرب حق والعبد حق ** يا ليت شعري من المكلف ؟
إن قلت عبد فذاك ميت ** أو قلت رب أني يكلف ؟
وعندهم أن التكليف هو في مرتبة من مراتب الأسماء والصفات وهو مرتبة الممتحن .
قال بعضهم :
ما الأمر إلا نسق واحد ** ما فيه من مدح ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت ** والطبع والشارع بالحكم
/ومنشأ هذين عن الصابئة ـ كما يبين ذلك عند التأمل ـ فإن الصابئة الخارجين عن التوحيد لله وحده لا شريك له ـ كالمشركين، والمجوس ـ مثل فرعون موسى، ونمروذ إبراهيم، وغيرهم من البشر، معترفون بالوجود المطلق .
ولهذا كان أفضل علوم الفلاسفة هو علم ما بعد الطبيعة، أعني بهم الفلاسفة المشائين الذين يتبعون [ أرسطو ] ، فإنه عندهم المعلم الأول الذي صنف في أنواع التعاليم من أجزاء المنطق، والعلم الطبيعي كالحيوان، والمكان والسماء، والعالم، والآثار العلوية، وصنف فيما بعد الطبيعة ـ وهو عندهم غاية حكمتهم، ونهاية فلسفتهم ـ وهو العلم الذي يسميه متأخرو الفلاسفة ـ كابن سينا : [ العلم الإلهي ] .
وموضوع هذا العلم عند أصحابه : هو الوجود المطلق ولواحقه، مثل الكلام في الموجود، والمعدوم، ثم في تقسيم الموجود إلى واجب وممكن، وقديم، ومحدث، وعلة ومعلول، وجوهر وعَرَض، ونحو ذلك .(1/27)
ثم الكلام في أنواع هذه الأقسام وأحكامها، مثل : تقسيم العلل إلى الأنواع الأربعة، وهي : الفاعل والغاية، اللذان هما سببان لوجود الشيء، والمادة والصورة، اللذان هما سببان لحقيقة المركب، وتقسيم الأعراض إلى الأجناس المقالية التسعة،وهي : الكيف، والكم، والوضع، والأين، ومتى، والإضافة، والملك، وأن يفعل، وأن ينفعل، أو جعلها خمسة على ما بينهم من الاختلاف .
/وفي آخر علم ما بعد الطبيعة حرف اللام ـ كأنه هو العلة الغائية، الذي إليه الحركة، كما أثبت المعلم الأول وجوده بطريق الاستدلال بالحركة ـ الذي تكلم فيه المعلم الأول على واجب الوجود لذاته، بكلام مختصر ذكر فيه قدراً يسيراً من أحكامه ـ وهو الذي كان يقول فيه ابن سينا فهذا ما عند المعلم الأول من معرفة الله .
وأما النبوات والرسل، فليس لهؤلاء فيها كلام معروف، لا نفيا ولا إثباتا . وأما المتأخرون فهم لما ظهرت الملة الحنيفية ـ الإبراهيمية، التوحيدية ـ تارة بنبوة عيسى ـ لما ظهرت النصارى على مملكة الصابئين بأرض الشام، ومصر، والروم، وغيرها ـ ثم بنبوة خاتم المرسلين، وأظهر الله من نور النبوة شمساً طمست ضوء الكواكب، وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم خفى بعض نور النبوة، فعرب بعض كتب الأعاجم الفلاسفة، من الروم، والفرس والهند، في أثناء الدولة العباسية .
ثم طلبت كتبهم في دولة المأمون من بلاد الروم، فعربت، ودرسها الناس، وظهر بسبب ذلك من البدع ما ظهر، وكان أكثر ما ظهر من علومهم الرياضية كالحساب والهيئة، أو الطبيعية كالطب، أو المنطقية، فأما الإلهية،فكلامهم فيها نزر وهو مع نزارته ليس غالبه عندهم يقينا، وعند المسلمين من العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نوراً وهدى، /بل متكلموهم الذين ينسبون إلى البدع عندهم من العلم الإلهي بمقاييسهم المستخرجة أضعاف أضعاف أضعاف ما عند حذاق المتفلسفة .(1/28)
ثم بعد ذلك لما صار فيهم من يتحذق على طريقتهم في علم ما بعد الطبيعة، كالفارابي، وابن سينا ونحوهم، وصنف ابن سينا كتباً زاد فيها بمقتضى الأصول المشتركة، أشياء لم يذكرها المتقدمون، وسمى ذلك العلم الإلهي، وتكلم في النبوات، والكرامات، ومقامات العارفين، بكلام فيه شرف ورفعة، بالنسبة إلى كلام المتقدمين .
وإن كان عند العلوم الإلهية النبوية فيه من القصور والتقصير والنفاق والجهل، والضلال والكفر، ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة بالعلم والإيمان، وإنما راج على من سلك طريق المتفلسفة؛ لأنه قرب إليهم معرفة الله، والنبوات، والمعجزات، والولاية، بحسب أصول الصابئة الفلاسفة ـ لا بحسب الحق في نفسه ـ بما أشرق على جهالاتهم من نور الرسالة، وبرهان النبوة .
كما فعله نسطور النصراني، الذي كان في زمن المأمون، الذي تنسب إليه النسطورية في التثليث والاتحاد، لكنه بما أضاء عليه من نور المسلمين أزال كثيراً من فساد عقيدة النصراني، وبقى عليه منها بقايا عظيمة . وكذلك يحيى بن عدي النصراني، لما تفلسف قرب مذهب النصارى في التثليث إلى أصول الفلاسفة في العقل، والعاقل، والمعقول .
/ولهذا الفلاسفة المحضة ـ الباقون على محض كلام المشائين ـ يرون أن ابن سينا صانع المليين،لما رأوا من تقريبه،وجهلوا فيما قالوا، وكذبوا،لم يصانع،ولكن قال ـ بموجب الحق وبموافقة أصولهم العقلية ـ ما قاله من الحق الذي أقر به، كما أن الفلاسفة الإلهيين المشائين وغيرهم متفقون على الإقرار بواجب الوجود، وببقاء الروح بعد الموت، وبأن الأعمال الصالحة تنفع بعد الموت، ويخالفهم في ذلك فلاسفة كثيرون من الطبيعيين وغيرهم، بل وبين الإلهيين من الفلاسفة خلاف في بعض ذلك حتى الفارابي، وهو عندهم المعلم الثاني يقال : إنه اختلف كلامه في ذلك .(1/29)
فقال تارة ببقاء الأنفس كلها، وتارة ببقاء النفوس العالمة دون الجاهلة . كما قاله في آراء المدينة الفاضلة، وتارة كذب بالأمرين، وزعم الضال الكافر أن النبوة خاصتها جودة تخييل الحقائق الروحانية، وكلامهم المضطرب في هذا الباب كثير، ليس الغرض هنا ذكره .
وإنما الغرض أن العلم الأعلى عندهم والفلسفة الأولى علم ما بعد الطبيعة وهو الوجود المطلق ولواحقه، حتى أن من له مادة فلسفية من متكلمة المسلمين - كابن الخطيب وغيره - يتكلمون في أصول الفقه، الذي هو علم إسلامي محض، فيبنونه على تلك الأصول الفلسفية .
كقول ابن الخطيب وغيره في أول أصول الفقه ـ موافقة لابن سينا ومن قبله : العلوم الجزئية لا تقرر مبادئها فيها؛ لئلا يلزم الدور، فإن مبدأ العلم أصوله، /وهو لا يعرف إلا بعدها . فلو عرفت أصوله بمسائله المتوقفة على أصوله، للزم الدور بل توجد أصوله مسلمة، ويقدر في علم أعلى منه، حتى ينتهي إلى العلم الأعلى الناظر في الوجود ولواحقه، وهذا قالوه في مثل الطب والحساب : إن الطببب إنما هو طبيب ينظر في بدن الحيوان، وأخلاطه وأعضائه ليحفظه صحته إن كانت موجودة، ويعيدها إليه إن كانت مفقودة، وبدن الحيوان جزء من المولدات في الأرض، وكذلك أخلاطه .
فأعم منه النظر في المولدات من الأركان الأربعة، الماء، والهواء، والنار، والأرض .
وأعم من ذلك : النظر في الجسم المستحيل، ثم في الجسم المطلق، فما من علم يتعلق بموضوع ببعض الموجودات العينية، أو العلمية إلا وأعم منه ما يشترك هو وغيره فيه . فأما إدخال العلم بالله الذي هو أعلى العلوم، وأشرفها في هذا، وجعله جزءاً من أجزاء العلم الأعلى ـ عندهم ـ الناظر في الوجود ولواحقه وكذلك ما يتبع ذلك من العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر- فهذا منشأ الضلال القياسي .
ويتبين ذلك من وجوه :(1/30)
أحدها : أن الله ـ سبحانه ـ هو الأعلى وهو الأكبر؛ ولهذا كان شعار أكمل الملل هو : الله أكبر في صلواتهم وأذانهم وأعيادهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : ( يا عدي، ما يُفِرُّك ! أيفرك أن يقال لا إله إلا الله ؟ / يا عدي،فهل تعلم من إله إلا الله ؟ يا عدي، ما يفرك ؟ أيفرك أن يقال : الله أكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله ) ؟ وبهذا : تبين صواب من قال من الفقهاء أنه لا يجوز إبدال هذه الكلمة بقولنا : الله الكبير، مع أن كشف هذا له موضع آخر .
وقال : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اجعلوها في سجودكم ) ، فالله هو الأعلى، وهو الأكبر . والعلم مطابق للمعلوم فيجب أن تكون معرفته وعلمه : أكبر العلوم وأعلاها .
الثاني : أن الله ـ سبحانه ـ هو الحق الموجود بنفسه، وسائر ما سواه خلق من خلقه، مربوب مقهور تحت قدرته، وهو خالق الأشياء مسبب أسبابها، فالعلم به أصل للعلم بما سواه وسبب، كما أن ذاته كذلك، والعلم بالسبب يفيد العلم بالمسبب .
الثالث : معرفة أن الوجود المطلق هو المعرفة بالقدر المشترك بينه وبين ما سواه، وهو علم بالحد الأوسط في قياسه على خليقته، ومعلوم أن ذلك ليس فيه علم بحقيقته، ولا بحقيقة ما سواه، وإنما هو علم بوصف مشترك بينهما، فكيف يكون العلم بوصف مشترك أعلا من العلم بحقيقة كل منهما، وسائر ما يختص به عن غيره من الأنواع، والأعيان ؟
وكذلك معرفة الذات المطلقة، وما هو كل من الأمور المشتركة، هو من هذا الباب .(1/31)
/الرابع : أن الوجود المطلق، والذات المطلقة ونحو ذلك : إما أن يراد به الإطلاق الخاص، وهو الذي لا يدخل فيه المقيد، كما يقال : الماء المطلق، فهذا لا وجود له في الخارج عن العقل والذهن، كما أن الوجود الكلي العام، والذات الكلية العامة، لا وجود لها في الخارج، وإنما يعرض للحقائق هذا العموم، وهذا الإطلاق من حيث هي معقولة في الأذهان، لا من حيث هي ثابتة في الأعيان .
فكيف يكون أعلى العلوم وأشرفها معلومه هو المثل الذهنية لا الحقائق الوجودية، والمثل إنما هي تابعة لتلك، وإلا لكانت جهلا لا علما، وإما أن يراد به الإطلاق العام، وهو ما لا يمنع شيئا من الدخول فيه وهو المطلق من كل قيد، حتى عن الإطلاق . فالمطلق بهذا الاعتبار له وجود في الخارج على القول الصحيح .
لكن لا يوجد مطلقا لا يوجد إلا معينا،فإما موجود مطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له،وهو المطلق الخاص، فالمطلق العام لما كان يدخل فيه المقيد صح أن يوجد في الخارج، فإذا كان الوجود المطلق ولواحقه ليس بموجود في الخارج مطلقًا، ولا يوجد في الخارج إلا معين امتنع أن يكون أعلى العلوم، إنما وجود معلومه في الأذهان لا في الأعيان .
ولو جاز ترجيح العلم بالمثل الذهنية على الحقائق الخارجية، لجاز ترجيح المثل على الحقائق، ولكان العلم بالرب والملائكة والنبيين أفضل من ذات الرب، والملائكة والنبيين، وهذا لا يقوله عاقل .
/الخامس : أن القوم إنما أتوا من جهة أنهم بنوا أمرهم في علومهم جميعاً على القياس، ولابد في القياس من قضية كلية، وَحَدٍّ أوسط يكون أعم من الموصوف المحكوم عليه المبتدأ الموضوع .
وما من حد وقضية إلا وثمَّ ما هو أعم منه، مثل أن يقول : الإنسان، فأعم منه الحيوان، فأعم منه الجسم النامي، فأعم منه الجسم السفلي، فأعم منه الجسم، فأعم منه الجوهر، فأعم منه الموجود، سواء كان جنساً ذاتيا كما يقوله بعضهم، أو وصفاً عرضيا كما يقوله الحذاق .(1/32)
فلو قيل : أعلى العلوم القياسية العلوم بالموجود ولواحقه، لكون معلومه أعم الموضوعات لكان له مساغ، ولعل هذا مرادهم .
لكن العلم القياسي لا يفيد بنفسه معرفة حقيقة شيء من الأشياء الموجودة، إلا إذا كان له نظير مماثل، فيعرف أحد المثلين بنفسه، والآخر بقياسه على نظيره، وهذا القدر منتف في العلم بالله، لا يوجد مثله ونظيره، ثم قد عارضهم المتكلمون بما هو أعلى من الوجود وهو المعلوم والمذكور فقالوا : أعلا المعلوم وأعم الأسماء والحدود : المعلوم والمذكور؛ لأنه يدخل فيه الموجود والمعدوم، بنوعي الوجود : واجبه وممكنه، ونوعي المعدوم ممكنه وممتنعه، فكان يجب أن يقال : العلم الأعلى الناظر في المعلوم ولواحقه، وهذا أعم وأوسع .
وكون الشيء معلوماً أمر يعرض له، لاصفة ذاتية وكذلك كونه موجوداً، إذ هو في الحقيقة، كونه بحيث يجده الواجد، هذا مقتضي الاسم،/وإن عنى به بعضهم كونه حقاً في نفسه، فهذا ليس هو حقيقته التي هي هو، كما قد قرر هذا في غير هذا الموضع .
وإن من قال من المتفلسفة أو المتكلمة : إن حقيقة الرب هي وجوده أو وجوب وجوده، أو أنهم علموا حقيقته فقد أخطأ في ذلك خطأ قبيحاً، وأن هذا بمنزلة من قال : حقيقة سائر الكائنات كونها ممكنة، وهؤلاء بعداء عن الله محجوبون عن معرفته، لم يعرفوا منه إلا صفة كلية من صفاته فظنوا أنهم عرفوا حقيقته .
وبهذا يتبين لك أن من قال : العلم الأعلى هو علم ما بعد الطبيعة، وهو الناظر في الوجود ولواحقه، فإنما حقيقة ذلك أنه أعلى في ذهن الطالب لمعرفة الله بالقياس علي خلقه، لا أنه أعلى في نفسه، ولا أن معلومه أعلى، ولا أعلى عند من عرف حقائق الموجودات، ولا أعلى عند من عرف الله بالفطرة، فضلا عمن عرفه بالشرعة، فضلا عمن عرفه بالولاية، فضلا عمن عرفه بالوحي والنبوة، فضلا عمن عرفه بالرسالة، فضلا عمن عرفه بالكلام، فضلا عمن عرفه بالرَّوية .(1/33)
فلما كان منتهى الفلاسفة الصابئية، وأعلى علمهم هو الوجود المطلق، وكان أصل التجهم، وتعطيل صفات الرب إنما هو مأخوذ عن الصابئة، وكان هؤلاء الاتحادية في الأصل جهمية، وأنه بما فيهم من النصرانية - المشاركة للصابئة صار بينهم وبين الصابئة نسب - صار معبودهم وإلههم هو/ الوجود المطلق، وزعموا أن ذلك هو الله، مضاهاة لما عليه خلق من قدماء الفلاسفة، من تعطيل الصانع وإثبات الوجود المطلق، حتى يصح قول فرعون : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] .
وإن كان الفلاسفة المسلمون لا يوافقون على ذلك، بل يقرون بالرب الذي صدر عنه العالم، لكنهم بتعظيمهم للوجود المطلق صاروا متفقين متقاربين، ومن تأمل كلام النصير الطوسي الصابئي الفيلسوف، وكلام الصدر القونوي النصراني الاتحادي الفيلسوف، وكلام الإسماعيلية في البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم - الذي يقول فيه : أقرب الناس إلينا الفلاسفة، ليس بيننا وبينهم خلاف إلا في واجب الوجود، فإنهم يقرون به، ونحن ننكره ـ عرف ما بين هؤلاء من المناسبة .
وكذلك المراسلة التي بين الصدر والنصير، في إثبات النصير لواجب الوجود، على طريقة الصابئة الفلاسفة، وجعل الصدر ذلك هو الوجود المطلق، لا المعين، وأنه هو الله، علم حقيقة ما قلته، وعلم وجه اتفاقهم على الضلال والكفر، وأن النصير أقرب من حيث اعترافه بالرب الصانع المتميز عن الخلق، لكنه أكفر من جهة بعده عن النبوة، والشرائع، والعبادات . وأن الصدر أقرب من جهة تعظيمه للعبادات، والنبوات، والتأله، على طريقة النصارى، لكنه أكفر من حيث إن معبوده لا حقيقة له، وإنما يعبد الوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الخارج .(1/34)
/ولهذا كان الصدر أكفر قولا، وأقل كفراً في عمله،والنصير أكفر عملا، وأقل كفراً في قوله،وكلاهما كافر في قوله وعمله،ولهذا يظهر للعقلاء من عموم المسلمين من كلام الصدر أنه إفك وزور وغرور، مخالف لما جاء به الرسول، كما يظهر لهم من أفعال النصير أنه مروق وإعراض عما جاء به الرسول؛ ولهذا : كان النصير أقرب إلى العلماء؛ لأن في كلامه ما هوحق، كما أن الصدر أقرب إلى العباد؛ لأن في فعاله ما هو عبادة .
فالمطلوب من السادة العلماء :
أن يبينوا هذه الأقوال، وهل هي حق أو باطل ؟ وما يعرف به معناها ؟ وما يبين أنها حق أو باطل ؟ وهل الواجب إنكارها، أو إقرارها، أو التسليم لمن قالها ؟ وهل لها وجه سائغ ؟ وما الحكم فيمن اعتقد معناها، إما مع المعرفة بحقيقتها ؟ وإما مع التسليم المجمل لمن قالها ؟
/ والمتكلمون بها، هل أرادوا معنى صحيحا يوافق العقل والنقل ؟ وهل يمكن تأويل ما يشكل منها وحمله على ذلك المعنى ؟ وهل الواجب بيان معناها، وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها، ولا يعرفون حقيقتها ؟ أم ينبغي السكوت عن ذلك وترك الناس يعظمونها، ويؤمنون بها . مع عدم العلم بمعناها ؟ بينوا ذلك مأجورين .
/ فأجاب ـ رضي الله عنه :
الحمد لله رب العالمين، هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين، مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى، مع مخالفتهما للمنقول والمعقول .(1/35)
أحدهما : الحلول والاتحاد، وما يقارب ذلك، كالقول بوحدة الوجود، كالذين يقولون : إن الوجود واحد، فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة، كابن عربي، وصاحبه القونوي، وابن سبعين، وابن الفارض صاحب القصيدة التائية ـ نظم السلوك ـ وعامر البصري السيواسي، الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض . والتلمساني الذي شرح [ مواقف النفري ] وله شرح الأسماء الحسنى، على طريقة هؤلاء، وسعيد الفرغاني، الذي شرح قصيدة ابن الفارض، والششتري صاحب الأزجال، الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلياني، وابن أبي المنصور المتصوف المصري، صاحب [ فك الأزرار عن أعناق الأسرار ] وأمثالهم .
ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت ـ كما يقوله ابن عربي ـ ويزعم/ أن الأعيان ثابتة في العدم، غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان، في ظهور وجوده بها، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها، الذي هو نفس وجوده . وقوله مركب من قول من قال : المعدوم شيء، وقول من يقول : وجود الخالق هو وجود المخلوق، ويقول : فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في موضع آخر .
ومنهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين، كما يقول القونوي ونحوه، فيقولون : إن الواجب هو الوجود المطلق لا بشرط، وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينا، وإن قيل : إن المطلق جزء من المعين لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوق، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا .(1/36)
ومنهم من قال : إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، كما يقول ابن سينا وأتباعه، فقوله أشد فسادًا، فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان؛ فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء ـ الذين يلزمهم التعطيل ـ شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول والاتحاد .
وآخرون يجعلون الوجود الواجب، والوجود الممكن بمنزلة المادة / والصورة، التي تقولها المتفلسفة، أو قريب من ذلك، كما يقوله ابن سبعين وأمثاله .
وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود، والحلول أو الاتحاد، وهم يقولون بالحلول المطلق، والوحدة المطلقة، والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعين، كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون بإلهية علىّ، أو الحاكم، أو الحلاج، أو يونس القنيني، أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية .
فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم .
ولهذا يقولون : إن النصارى إنما كان خطؤهم في التخصيص، وكذلك يقولون في المشركين عباد الأصنام، إنما كان خطؤهم لأنهم اقتصروا على بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقا، على وجه الإطلاق والعموم .
ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال، ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى .
وهذا المذهب شائع في كثير من المتأخرىن، وكان طوائف من الجهمية يقولون به، وكلام ابن عربي، في فصوص الحكم وغيره، وكلام ابن سعبين / وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض نظم السلوك وقصيدة عامر البصري، وكلام العفيف التلمساني، وعبد الله البلياني، والصدر القونوي وكثير من شعر ابن إسرائيل، وما ينقل من ذلك عن شيخه الحريري، وكذلك نحو منه يوجد في كلام كثير من الناس غير هؤلاء هو مبني على هذا المذهب ـ مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود .(1/37)
وكثير من أهل السلوك، الذين لا يعتقدون هذا المذهب، يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال .
وأصل ضلال هؤلاء : أنهم لم يعرفوا مباينة الله لمخلوقاته، وعلوه عليها، وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها .
ولما ظهرت الجهمية ـ المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه ـ افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال :
فالسلف والأئمة يقولون : إن الله فوق سمواته، مستو على عرشه، بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى .
/ والقول الثاني : قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون : لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين، اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من غيرهم .
والقول الثالث : قول حلولية الجهمية، الذين يقولون : إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية ـ أتباع حسين النجار ـ وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية، وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل : متكملة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء .
وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودًا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه .(1/38)
وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي ـ التي لا يوصف بها إلا المعدوم ـ لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود .
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء ـ عند نظره وبحثه ـ يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له : هذا ينافي ذلك، قال : هذا مقتضى / عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما .
والقول الرابع : قول من يقول : إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف، كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية ـ كأبي طالب المكي وأتباعه، كأبي الحكم بن برجان وأمثاله ـ ما يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا .
وفي الجملة، فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخرى الصوفية؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد ـ لما سئل عن التوحيد ـ فقال : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث .
وقد أنكر ذلك عليه ابن عربي ـ صاحب الفصوص ـ وادعى أن الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين الرب والعبد، بناء على دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم والمحدث إلا من ليس بقديم ولا محدث وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس ذاك، والتمييز بين هذا وذاك لا يفتقر إلى أن يكون العارف المميز بين الشيئين ليس هو أحد الشيئين، بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذلك الإنسان الآخر، مع أنه أحدهما، فكيف لا يعلم أنه غير ربه، وإن كان هو أحدهما ؟(1/39)
/ الأصل الثاني : الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وعلى ترك المأمور وفعل المحظور، فإن القدر يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده .
والناس ـ الذين ضلوا في القدر ـ على ثلاثة أصناف :
قوم آمنوا بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر، وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة ونحوهم .
وقوم آمنوا بالقضاء والقدر، ووافقوا أهل السنة والجماعة، على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وربه ومليكه، لكن عارضوا هذا بالأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضا للشريعة .
وفيهم من يقول : إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وإن العارف يستوى عنده هذا وهذا .
وهم في ذلك متناقضون، مخالفون للشرع والعقل، والذوق والوجد، فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم، وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل، والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث، ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون بينهما، ويفرقون أيضا بموجب أهوائهم وأغراضهم، لا بموجب الأمر والنهي، ولا يقفون لا مع القدر، ولا مع الأمر، بل كما/ قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب يوافق هواك تمذهبت به .
ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته .(1/40)
إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد .
فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد، وإلى ما يضرهم، والله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه تبع ضده من الأهواء والبدع، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد عليه، ولزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير .
/ وإن قال : أنا أعذر بالقدر من شهده، وعلم أن الله خالق فعله ومحركه، لا من غاب عن هذا الشهود، أو كان من أهل الجحود . قيل له : فيقال لك : وشهود هذا، وجحود هذا من القدر ؟ فالقدر متناول لشهود هذا، وجحود هذا ؟ فإن كان هذا موجبا للفرق مع شمول القدر لهما، فقد جعلت بعض الناس محمودا، وبعضهم مذموما مع شمول القدر لهما ؟ وهذا رجوع إلى الفرق واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك، وتناقضت فيه، وهذا لازم لكل من دخل معك فيه .
ثم مع فساد هذا الأصل وتناقضه، فهو قول باطل وبدعة مضلة .(1/41)
فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات، وفعل المحظورات، بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله، وكذب رسوله ناظرًا إلى أن ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، سواء كان المشرك مقرًا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلًا عنه، فقد قال إبليس : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] ، فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببا لمزيد عذابه .
وأما آدم عليه السلام فإنه قال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، قال تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 37 ] . فمن استغفر وتاب كان آدميا سعيدا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا شقيا، وقد قال تعالى لإبليس : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] . وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعا من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر، فيضاهئون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينا لم يشرعه الله، ويحتجون بالقدر على مخالفة أمر الله .
والصنف الثالث : من الضالين في القدر : من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر، والأمر والنهي ـ كما يذكرون ذلك على لسان إبليس ـ وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه .(1/42)
وأما أهل الإيمان : فيؤمنون بالقضاء والقدر، والأمر والنهي، ويفعلون المأمور، ويتركون المحظور، ويصبرون على المقدور، كما قال تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، فالتقوى تتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور .
وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم به .
وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى/الطاعات، ويدعون ربهم رغبا ورهبا، ويجتنبون محارمه ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علما منهم بأن التوبة فرض على العباد دائما، واقتداء بنبيهم، حيث يقول في الحديث الصحيح : ( أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ) ، وفي رواية : ( أكثر من سبعين مرة ) ، وآخر سورة نزلت عليه : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] . وإذا عرف هذان الأصلان، فعليهما ينبني جواب ما في هذا السؤال من الكلمات، ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات .
فقول القائل : إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا، هو من أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد، وهو باطل؛ فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف، وإن كان اللطيف غير الكثيف فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق، وحينئذ فالحق لا يكون خلقا، فلا يتصور أن ذات الحق تكون خلقا بوجه من الوجوه، كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه .(1/43)
وكذلك قول الآخر : [ ظهر فيها حقيقة، واحتجب عنها مجازًا ] فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر، فلا يتصور ظهور ولا احتجاب .
/ ثم قوله : [ فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستورًا وحجبا ] كلام ينقض بعضه بعضا، فإنه إن كان الوجود واحدًا لم يكن أحد الشاهدين غير الآخر، ولم يكن الشاهد غير المشهود . ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء : من قال : إن في الكون سوى الله فقد كذب . فقال له آخر : فمن الذي كذب ؟ فأفحمه . وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه، كان هو الذي يكذب ويظلم، ويأكل ويشرب، وهذا يصرح به أئمة هؤلاء، كما يقول صاحب الفصوص وغيره : إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب وتصيبه الآفات، ويوصف بالمعايب والنقائص، كما أنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم .
قال : فالعلى بنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الثبوتية والسلبية، سواء كانت محمودة عقلا وشرعًا وعرفا، أو مذمومة عقلا وشرعًا وعرفًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة .
وقال : ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وقد أخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم ؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق وكلها حق له، كما أن صفات المخلوق حق للخالق .
وقول القائل :
لقد حق لي عشق الوجود وأهله
يقتضي أنه يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب/ والخنازير، والبول والعذرة، وكل خبيث، مع أنه باطل عقلا وشرعًا، فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذ وآلمه ألما شديدًا لأبغضه وعاداه، بل اعتدى في أذاه، فعشق الرجل لكل موجود محال عقلا، محرم شرعا .
وما ذكر عن بعضهم من قوله : [ عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى ] هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الشرك والإلحاد، والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة .(1/44)
وقول ابن عربي : [ ظاهره خلقه، وباطنه حقه ] هو قول أهل الحلول، وهو متناقض في ذلك، فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان، أحدهما باطن والآخر ظاهر، والتفريق بين الوجود والعين تفريق لا حقيقة له، بل هو من أقوال أهل الكذب والمين .
وقول ابن سبعين : [ رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط، والكثرة وهم ] هو موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال : وأنتم ذلك . فإنه جعل العبد هالكا أي : لا وجود له، فلم يبق إلا وجود الرب، فقال : وأنتم ذلك، وكذلك قال : الله فقط، والكثرة وهم، فإنه على قوله لا موجود إلا الله .
ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم : ليس إلا الله، بدل قول المسلمين : لا إله إلا الله .
/ وكان الشيخ قطب الدين ابن القسطلاني يسميهم [ الليسية ] ويقول : احذروا هؤلاء الليسية، ولهذا قال : والكثرة وهم وهذا تناقض، فإن قوله : [ وهم ] يقتضي متوهما، فإن كان المتوهم هو الوهم فيكون الله هو الوهم، وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود، وكذلك إن كان المتوهم هو الله فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا ـ مع أنه كفر ـ فهو يناقض قوله : الوجود واحد، وإن كان المتوهم غيره، فقد أثبت غير الله، وهذا يناقض أصله، ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة وهمًا، بل تكون حقا .
والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما ـ مبنيان على هذا الأصل، فإن قوله :
يا صورة أنس سرها معنائي **
خطاب على لسان الحق، يقول لصورة الإنسان : يا صورة أنس سرها معنائي، أي هي الصورة وأنا معناها، وهذا يقتضي أن المعنى غير الصورة، وهو يقتضي التعدد، والتفريق بين المعنى والصورة، فإن كان وجود المعنى هو وجود الصورة ـ كما يصرح به ـ فلا تعدد، وإن كان وجود هذا غير وجود هذا فهو متناقض في قوله .
وقوله :
ما خلقك للأمر ترى لولائي **(1/45)
/ كلام مجمل يمكن أن يريد به معنى صحيحا، أي لولا الخالق لما وجد المكلفون ولا خلق لأمر الله، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا، وأن مراده الوحدة والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال :
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا ** كي تشهدنا في أكمل الأشياء
فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية، وهذا يشير إلى الحلول ـ وهو حلول الحق في الخلق ـ لكنه متناقض في كلامه، فإنه لا يرضي بالحلول، ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده، وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا، لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه .
وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب فقال : طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره .
وقوله : [ ما فارقه الله طرفة عين قط ] إن أراد به الحلول المطلق العام فهو مع بطلانه متناقض، فإنه لا فرق حينئذ بين الطائف والمطوف به، فلم يكن طواف/ هذا بهذا أولى من العكس، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب، والخنازير، والكفار، والنجاسات، والأقذار، وكل خبيث وكل ملعون، لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا كله .(1/46)
وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني، وقد مر بكلب أجرب ميت : هذا أيضًا من ذات الله ؟ فقال : وثمَّ خارج عنه ؟ ومر التلمساني ومعه شخص بكلب، فركضه الآخر برجله، فقال : لا تركضه فإنه منه، وهذا ـ مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين ـ فإنه متناقض، فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد، وإذا قيل : مظاهر ومجالى، قيل : إن كان لها وجود غير وجود الظاهر والمتجلى، فقد ثبت التعدد وبطلت الوحدة، وإن كان وجود هذا هو وجود هذا لم يبق بين الظاهر، والمظهر، والمتجلي فيه فرق .
وإن أراد بقوله : [ ما فارقه الله طرفة عين ] الحلول الخاص ـ كما تقوله النصارى في المسيح ـ لزم أن يكون هذا الحلول ثابتا له من حين خلق ـ كما تقوله النصارى في المسيح ـ فلا يكون ذلك حاصلا له بمعرفته وعبادته وتحقيقه وعرفانه .
وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين، فلماذا يكون الحلول ثابتا له دون غيره ؟ وهذا شر من قول النصارى، فإن النصارى ادعوا ذلك في المسيح لكونه خلق من غير أب، وهؤلاء الشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق، وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة، والتحقيق والتوحيد .
/ وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن لهم، فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثا لا مقارنا لخلقهم، وحينئذ فقولهم : إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط، كلام باطل كيفما قدر .
وأما ما ذكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت : إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به، والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها : والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلام باطل عليها .(1/47)
وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا المعني، فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت ؟
وقول القائل : ما ولج الله فيه كلام صحيح . وأما قوله : ما خلا منه فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى، فهو باطل وهو مناقض لقوله : ما ولج فيه، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ولم يزل غير حال فيه، فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب ألا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت إذ الموجودات كلها عندهم كذلك .
/ وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج :
سبحان من أظهر ناسوته ** سر سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا فى خلقه ظاهرا ** في صورة الآكل والشارب
فهذه قد بين بها الحلول الخاص ـ كما تقول النصارى في المسيح ـ وكان أبو عبد الله ابن خفيف الشيرازي ـ قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج ـ يذب عنه، فلما أنشد هذين البيتين قال : لعن الله من قال هذا .
وقوله : وله :
عقد الخلائق في الإله عقائدا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
فهذا البيت يعرف لابن عربي، فإن كان قد سبقه إليه الحلاج وقد تمثل هو به، فإضافته إلى الحلاج صحيحة، وهو كلام متناقض باطل .
فإن الجمع بين النقيضين في الاعتقاد في غاية الفساد . والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما .
وهؤلاء يزعمون أنه يثبت عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل، وإنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين، وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول، ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة .(1/48)
/ ومعلوم أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أعظم من الأولىاء، والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح .
ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام، يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها، فيظنونها ثابتة في الخارج، وإنما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له .
ولهذا يقولون : أرض الحقيقة هي أرض الخيال، كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض، وكان من شيوخهم .
وأما قوله :
بيني وبينك إني تزاحمني ** فارفع بحقك إنيي من البين
فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة، يقوله الملحد، ويقوله الزنديق، ويقوله الصديق .
فالأول : مراده به طلب رفع ثبوت إنيته حتى يقال : إن وجوده هو وجود الحق، وإنيته هي إنية الحق، فلا يقال : إنه غير الله ولا سواه .
/ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة : إن الحلاج نصف رجل، وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى، فرفعت له صورة . يقولون : إنه لما لم ترفع إنيته في الثبوت في حقيقة شهوده رفعت صورة فقتل، وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد، فهو متناقض ينقض بعضه بعضا فإن قوله :
بيني وبينك إني تزاحمني
خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه، وهذا إثبات أمور ثلاثة ولذلك يقول :
فارفع بحقك إنيي من البين **
طلب من غيره أن يرفع إنيته، وهذا إثبات لأمور ثلاثة .
وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد، وهو الفناء عن وجود السوى، فإن هذا فيه طلب رفع الإنية ـ وهو طلب الفناء ـ والفناء ثلاثة أقسام :
فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن عبادة السوى .(1/49)
فالأول : هو فناء أهل الوحدة الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج ـ وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا .
وأما الثاني ـ وهو الفناء عن شهود السوى : فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين، كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله وهو مقام الاصطلام، وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن / رجلا كان يحب آخر، فألقى المحبوب نفسه في الماء، فألقى المحب نفسه خلفه فقال : أنا وقعت فلم وقعت أنت ؟ فقال : غبت بك عني، فظننت أنك أني . فهذا حال من عجز عن شهود شىء من المخلوقات إذا شهد قلبه وجود الخالق، وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين .
ومن الناس من يجعل هذا من السلوك، ومنهم من يجعله غاية السلوك، حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه .
وهذا غلط عظيم، غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي، وعبادة الله وحده وطاعة رسوله، فمن طلب رفع إنيته بهذا الاعتبار، لم يكن محمودًا على هذا ولكن قد يكون معذورًا .
وأما النوع الثالث ـ وهو الفناء عن عبادة السوى : فهذا حال النبيين وأتباعهم، وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له، وهو الحنيفية ملة إبراهيم .
ويدخل في هذا : أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه .
/ ومن قال :
فارفع بحقك إنيي من البين **(1/50)
بمعنى أن يرفع هو نفسه فلا يتبع هواه، ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته، بل يكون عمله لله لا لهواه، وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته، كما قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فهذا حق محمود .
وهذا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال : رأيت رب العزة في المنام فقلت : خدايي كيف الطريق إليك ؟ قال : اترك نفسك وتعال ـ أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك ـ فيكون عملك لله واستعانتك بالله، كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } [ هود : 123 ]
والقول المحكي عن ابن عربي :
وبي حلفت وإن المقسم الله
هو أيضا من إلحادهم وإفكهم جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله، فهو الحالف والمحلوف به، كما يقولون : أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه، فهو المرسِل والمرسَل إليه والرسول . وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك :
لها صلواتي بالمقام أقيمها ** وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ** حقيقته بالجمع في كل سجدة
/وما كان بي صلى سواي ولم تكن ** صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال :
وما زلت إياها وإياي لم تزل ** ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ** وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ** منادى أجابت من دعاني ولبت
إلى رسولا كنت مني مرسلا ** وذاتي بآياتي على استدلت(1/51)
وأما المنقول عن عيسى ابن مريم ـ صلوات الله عليه ـ فهو كذب عليه، وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح، وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى، فإن قوله : إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم، وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة، فهذا الكلام ـ مع ما فيه من الكفر والإلحاد ـ متناقض، وذلك أن الله ـ سبحانه ـ يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو عبد مخلوق لله ـ قال لأصحابه : ( إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من بين يدي ) . فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلفه ـ وهو أبلغ من رؤية نفسه ـ فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه ؟ وأيضا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم، يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم .
/ثم ذلك الشوق إن كان قديما، كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل، وإن كان محدثا فلابد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال : الشوق أيضا صفة نقص، ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى، وقد روى : ( طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق ) وهو حديث ضعيف .
وقوله : ( فخلق من نوره آدم وجعله كالمرآة، وأنا ذلك النور وآدم هو المرآة ) يقتضي أن يكون آدم مخلوقا من المسيح، وهذا نقيض الواقع، فإن آدم خلق قبل المسيح، والمسيح خلق من مريم، ومريم من ذرية آدم فكيف يكون آدم مخلوقاً من ذريته ؟ .
وإن قيل : المسيح هو نور الله فهذا القول ـ وإن كان من جنس قول النصارى ـ فهو شر من قول النصارى، فإن النصارى يقولون : إن المسيح؛ هو الناسوت، واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن . وهم يقولون : اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون : إن آدم خلق من المسيح، إذ المسيح عندهم اسم اللاهوت والناسوت جميعا، وذلك يمتنع أن يخلق منه آدم، وأيضا فهم لا يقولون : إن آدم خلق من لاهوت المسيح .(1/52)
وأيضا، فقول القائل : إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح : إن أراد به نوره الذي هو صفة لله، فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه، إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه، فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئا موجودا منفصلا قبل خلق آدم، فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقا من نور الله الذي هو المسيح .
/وأيضا فإذا كان آدم كالمرآة، وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته، لا أن آدم هو ذاته، ولا مثال ذاته، ولا كذاته .
وحينئذ، فإن كان المراد بذلك أن آدم يعرف الله تعالى، فيرى مثال ذاته العلمي في آدم، فالرب ـ تعالى ـ يعرف نفسه، فكان المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدم نفسه مثال لله، فلا يكون آدم هو المرآة، بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة .
وأيضا، فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور، هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله أو ابن الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد، حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح .
وأما قول ابن الفارض :
وشاهدْ إذا استجليت ذاتك من ترى ** بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ** إلىك بها عند انعكاس الأشعة ؟
فهذا تمثيل فاسد، وذلك أن الناظر في المرآة يرى مثال نفسه، فيرى نفسه بواسطة المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة، فقولهم بوحدة الوجود باطل، وبتقدير صحته ليس هذا مطابقا له .
/وأيضا،فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شىء،فتخصيصهم بعد هذا آدم أو نحو المسيح يناقض قولهم بالعموم، وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص، كالنصارى والغالية من الشيعة، وجهال النساك ونحوهم .(1/53)
وأيضا، فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة، فالمرآة خارجة عن نفسه، فيرى نفسه أو مثال نفسه في غيره، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى، فليس هناك مظهر مغاير للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي .
وهم يقولون : إن الكون مظاهر الحق، فإن قالوا : المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا : المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شىء في شىء، ولا تجلى شىء في شىء، ولا ظهر شىء لشىء، ولا تجلى شىء لشىء، وكان قوله :
وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى
كلاما متناقضا؛ لأن هنا مخاطِبا ومخاطَبا ومرآة تستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثة أعيان، فإن كان الوجود واحداً بالعين بطل هذا الكلام، وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم .
ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أنه لابد من تمييز المحدث عن القديم .
ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل الرب رب، والعبد عبد : { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 93 : 95 ](1/54)
وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي ـ وهو أن يحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضى الله،ويغضب لما يغضب الله،ويأمر بما يأمر الله به،،وينهى عما ينهى الله عنه،ويوالي من يواليه الله،ويعادي من يعاديه الله، ويحب لله ويبغض لله، ويعطي لله ويمنع لله، بحيث يكون موافقا لربه تعالى ـ فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله،كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله تعالى : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء / أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) .
وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة :
منها : أنه قال : ( من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه، وهؤلاء ثلاثة، ثم قال : ( وما تقرب إلىّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ) فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل، وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه، فإذا أحبه كان العبد يسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به .
وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل، وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه، لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث، فالحديث مخصوص بحال مقيد، وهم يقولون بالإطلاق والتعميم، فأين هذا من هذا ؟(1/55)
وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح : ( إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه . ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا ) فيجعلون هذا حجة لقولهم : إنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة .
/وهذا الحديث حجة عليهم في هذا أيضا، فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم ـ في الآخرة ـ المنكرون الذين قالوا : نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا .
وهؤلاء الملاحدة يقولون : إن العارف يعرفه في كل صورة، فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم . وهذا جهل منهم، فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون، وكان إنكارهم مما حمدهم ـ سبحانه وتعالى ـ عليه، فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه؛ فلهذا قال في الحديث : ( وهو يسألهم ويثبتهم وقد نادى المنادي : ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون )
ثم يقال لهؤلاء الملاحدة : إذا كان عندكم هو الظاهر في كل صورة، فهو المنكر وهو المنكر، كما قال بعض هؤلاء لآخر : من قال لك : إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر : فمن هو الذي كذب ؟
وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال : ما أبصر غيره أبول عليه ؟ فقال له شيخه : فالذي يخرج من بطنك من أين هو ؟ قال : فرجت عني .
ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت، فقال الشيرازي للتلمساني : هذا أيضا من ذاته ؟ فقال التلمساني : هل ثم شيء خارج عنها ؟(1/56)
/وكان التلمساني قد أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له : أبو يعقوب المغربي المبتلى، حتى كان يقول : الوجود واحد، وهو الله ولا أرى الواحد، ولا أرى الله، ويقول : نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه، ويجعل هذا الكلام له تسبيحا، يتلوه كما يتلو التسبيح
وأما قول الشاعر :
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ** وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
فشاهد حقا حين يشهده الهوى ** بأن صلاة العارفين من الكفر
فهذا الكلام ـ مع أنه كفر ـ هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب : هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة، حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان .
وأما النوع الثالث من الفناء ـ وهو الفناء عن وجود السوي بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ـ فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة .
/والمقصود هنا أن قوله : يغيب عن المذكور، كلام جاهل، فإن هذا لا يحمد أصلا، بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر، لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر، اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق، وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدًا، ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة، فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين، ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر .
وأما قول القائل :
الكون يناديك أما تسمعني ** من ألف أشتاتي ومن فرقني ؟
انظر لتراني منظرًا معتبرًا ** ما فيَّ سوى وجود من أوجدني(1/57)
فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة، وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين، فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده، كان ذلك الوجود هو الكون المنادي، وهو المخاطب المنادي، وهو الأشتات المؤلفة المفرقة، وهو المخاطب الذي قيل له : انظر .
وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي، قد أوجد نفسه وفرقها وألفها . فهذا جمع بين النقيضين، فإن الواجب بنفسه لا يكون مفعولا مصنوعا، والشيء الواحد لا يكون خالقا مخلوقا، قديما محدثا، واجبا بنفسه واجبا بغيره، فإن هذا جمع بين النقيضين .
/فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم، والممكن هو الذي تقبل ذاته العدم، فيمتنع أن يكون الشيء الواحد قابلا للعدم غير قابل للعدم، والقديم هو الذي لا أول لوجوده، والمحدث هو الذي له أول، فيمتنع كون الشيء الواحد قديما محدثا .
ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول، لأمكن أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني، وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك، لكن قد علم أنه لم يرد هذا؛ ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى، وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته، وهكذا قول القائل :
ذات وجود الـ ** ـكون للخلق شهود
أن ليس لموجو ** د سوى الحق وجود
مراده به أن وجود الكون هو نفس وجود الحق، وهذا هو قول أهل الوحدة، وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى ـ فليس لشيء وجود من نفسه، وإنما وجوده من ربه، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم، وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها، فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة، لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ لكان قد أراد معنى صحيحا وهو الذي عليه أهل العقل والدين، من الأولىن والأخرىن .(1/58)
وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض؛ ولهذا يقولون : الشيء / ونقيضه، وإلا فقوله : منه وإلا علاه يبدي ويعيد، يناقض الوحدة، فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحدًا . وقوله :
وما أنا في طراز الكون شيء ** لأني مثل ظل مستحيل
يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل، فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين، كما إذا شبهه بالشعاع، فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس، وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره .
والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا .
وقلت لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا : فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار، والخالق بالنار والشمس، فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره، فإن كل ما سوى الله ـ على هذا ـ هو بمنزلة الشعاع والضوء، فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى ؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا ؟
وجعلت أردد عليه هذا الكلام، وكان في المجلس جماعة حتى فهمه فهما جيدًا، وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له، وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره، وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل .
وذكرت له : أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم/ منها، فإن المسيح عليه السلام وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر، كالذين قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } ثم بعثهم الله بعد موتهم . كما قال : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البقرة : 55، 65 ] ، وكالذي ضرب ببعض البقرة، وغير ذلك .
وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء والنصارى يصدقون بذلك .(1/59)
وأما جعل العصا حَيّة، فهذا أعظم من إحياء الميت، فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيوانا تبتلع العِصِيّ والحبال، فهذا أبلغ في القدرة، وأنذر، فإن الله يحيي الموتي، ولا يجعل الخشب حيات .
وأما إنزال المائدة من السماء، فقد كان ينزل على قوم موسى كل يوم من المن والسلوى، وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك، فإن الحلوى أو اللحم دائما هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة، من الزيتون والسمك وغيرهما .
وذكرت له نحوا من ذلك، مما يبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من المخلوقات، وإما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى، قد يكون أكمل في ذلك منه، وأما / خلقه من امرأة بلا رجل، فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك، فإنه خلق من بطن امرأة، وهذا معتاد، بخلاف الخلق من ضلع رجل، فإن هذا ليس بمعتاد .
فما من أمر يذكر في المسيح عليه السلام إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم، فعلم قطعا أن تخصيص المسيح باطل، وأن ما يدعونه له إن كان ممكنا فلا اختصاص له به، وإن كان ممتنعا فلا وجود له فيه ولا في غيره .
ولهذا قال هؤلاء الاتحادية : إن النصارى إنما كفروا بالتخصيص، وهذا أيضا باطل، فإن في الاتحاد عمومًا وخصوصا .
والمقصود هنا : أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة، وكذلك قول الآخر :
أحن إليه وهو قلبي وهل يرى ** سواي أخو وجد يحن لقلبه ؟
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ** وما بعده إلا لإفراط قربه
هو ـ مع ما قصده به من الكفر والاتحاد ـ كلام متناقض، فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض؛ ولهذا قال : وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه ؟(1/60)
وقوله : وما بعده إلا لإفراط قربه . متناقض، فإنه لا قرب ولا بعد عند/ أهل الوحدة، فإنها تقتضي اثنين يقرب أحدهما من الآخر، والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته .
وسئل :
ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين، و هداة المسلمين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في الكلام الذي تضمنه كتاب [ فصوص الحكم ] وما شاكله من الكلام الظاهر في اعتقاد قائله : أن الرب والعبد شيء واحد، ليس بينهما فرق، وأن ما ثمَّ غير، كمن قال في شعره :
أنا وهو واحد ما معنا شيء **
ومثل :
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا **
ومثل :
إذا كنت ليلى وليلى أنا **
وكقول من قال :
لو عرف الناس الحق ما ** رأوا عابدًا ولا معبودًا .
وحقيقة هذه الأقوال لم تكن في كتاب الله عز وجل، ولا في السنة، ولا في كلام الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين .
ويدعي القائل لذلك : أنه يحب الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، والله سبحانه وتعالى ذكر خير /خلقه بالعبودية في غير موضع، فقال تعالى عن خاتم رسله صلى الله عليه وسلم : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ، وكذلك قال في حق عيسى عليه السلام : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عليه } [ الزخرف : 59 ] ، وقال تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } الآية [ النساء : 172 ] .
فالنصارى كفار بقولهم مثل هذا القول في عيسى بمفرده، فكيف بمن يعتقد هذا الاعتقاد : تارة في نفسه، وتارة في الصور الحسنة من النسوان والمردان ؟ !
ويقولون : إن هذا الاعتقاد له سر خفي، وباطن حق، وإنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق .(1/61)
فهل في هذه الأقوال سر خفي يجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله أن يجتهد على التمسك بها والوصول إلى حقائقها ـ كما زعم هؤلاء ـ أم باطنها كظاهرها ؟ وهذا الاعتقاد المذكور هو حقيقة الإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به، أم هو الكفر بعينه ؟
وهل يجب على المسلم أن يتبع في ذلك قول علماء المسلمين، ورثة الأنبياء والمرسلين، أم يقف مع قول هؤلاء الضالين المضلين ؟ وإن ترك ما أجمع عليه أئمة المسلمين، ووافق هؤلاء المذكورين، فماذا يكون من أمر الله له يوم الدين ؟
أفتونا مأجورين، أثابكم الله الكريم .
/فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تيمية ـ رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ما تضمنه كتاب فصوص الحكم وما شاكله من الكلام : فإنه كفر باطنا وظاهرًا، وباطنه أقبح من ظاهره . وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة، وأهل الحلول، وأهل الاتحاد . وهم يسمون أنفسهم المحققين .
وهؤلاء نوعان : نوع يقول بذلك مطلقًا، كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله : مثل ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي، والششتري، والتلمساني، وأمثالهم ممن يقول : إن الوجود واحد، ويقولون : إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون : الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق .
/ويقولون : إن وجود الأصنام هو وجود الله، وإن عبَّاد الأصنام ما عبدوا شيئا إلا الله .
ويقولون : إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم .
ويقولون : إن عبّاد العجل ما عبدوا إلا الله، وإن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل، وإن موسى كان ـ بزعمهم ـ من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء، بل يرونه عين كل شيء، وأن فرعون كان صادقًا في قوله : { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، بل هو عين الحق، ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص .(1/62)
ويقول أعظم محققيهم : إن القرآن كله شرك؛ لأنه فرق بين الرب والعبد، وليس التوحيد إلا في كلامنا .
فقيل له : فإذا كان الوجود واحدًا، فلم كانت الزوجة حلالا والأم حرامًا ؟ فقال : الكل عندنا واحد، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام . فقلنا : حرام عليكم .
وكذلك ما في شعر ابن الفارض في قصيدته التي سماها نظم السلوك كقوله :
لها صلواتي بالمقام أقيمها ** وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ** حقيقته بالجمع في كل سجدة
/وما كان لي صلى سواي، ولم تكن ** صلاتي لغيري في أدا كل سجدة
وقوله :
وما زلت إياها، وإياي لم تزل ** ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت
وقوله :
إلىَّ رسولا، كنت مني مرسلا ** وذاتي بآياتي علىّ استدلت
فأقوال هؤلاء ونحوها باطنها أعظم كفرًا وإلحادًا من ظاهرها، فإنه قد يظن أن ظاهرها من جنس كلام الشيوخ العارفين، أهل التحقيق والتوحيد، وأما باطنها فإنه أعظم كفرًا وكذبًا وجهلًا من كلام اليهود والنصارى وعبّاد الأصنام .
ولهذا فإن كل من كان منهم أعرف بباطن المذهب وحقيقته، كان أعظم كفرًا وفسقا، كالتلمساني، فإنه كان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب، وأخبرهم بحقيقته، فأخرجه ذلك إلى الفعل فكان يعظم اليهود والنصارى والمشركين، ويستحل المحرمات ويصنف للنصيرية كتبًا على مذهبهم، يقرهم فيها على عقيدتهم الشركية .
وكذلك ابن سبعين كان من أئمة هؤلاء، وكان له من الكفر والسحرـ / الذي يسمى السيميا ـ والموافقة للنصارى، والقرامطة والرافضة، ما يناسب أصوله .
فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب، ووافقهم عليه، كان أظهر كفرًا وإلحادًا .(1/63)
وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين، الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانًا، ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم، وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال .
وهؤلاء من جنس الجهمية الذين يقولون : إن الله بذاته حال في كل مكان، ولكن أهل وحدة الوجود حققوا هذا المذهب أعظم من تحقيق غيرهم من الجهمية .
وأما النوع الثاني : فهو قول من يقول بالحلول والاتحاد في معين، كالنصارى الذين قالوا بذلك في المسيح عيسى، والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته، والحاكمية الذين يقولون بذلك في الحاكم، والحلاَّجية الذين يقولون بذلك في الحلاج، واليونسية الذين يقولون/ بذلك في يونس، وأمثال هؤلاء ممن يقول بإلهية بعض البشر، وبالحلول والاتحاد فيه، ولا يجعل ذلك مطلقا في كل شيء .
ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان والمردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم .
وأما الأولون : فيقولون بالإطلاق . ويقولون : النصارى إنما كفروا بالتخصيص .
وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يُلَبِّسون على من لم يفهمه .
فهذا كله كفر باطنا وظاهرًا بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين .(1/64)
ولكن هؤلاء يشبهون بشيء آخر، وهو ما يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر، فإنه قد يعرض لأحدهم ـ لقوة استيلاء الوجد والذكر عليه ـ من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره، فيغيب بمعبوده عن عبادته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده .
/ومثل هذا قد يعرض لبعض المحبين لبعض المخلوقين، كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في اليم، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال له : أنا وقعت، فما الذي أوقعك ؟ فقال : غبت بك عني، فظننت أنك أني .
وينشدون :
رق الزجاج، وراقت الخمر ** وتشاكلا، فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ** وكأنما قدح ولا خمر
وهذه الحال تعرض لكثير من السالكين، وليست حالا لازمة لكل سالك، ولا هي أيضا غاية محمودة، بل ثبوت العقل والفهم والعلم مع التوحيد باطنا وظاهرًا كحال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكمل من هذا وأتم .
والمعنى الذي يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام : فناء عن عبادة السوي، وفناء عن شهود السوي، وفناء عن وجود السوي .
فالأول : أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو تحقيق [ لا إله إلا الله ] فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله، ولا يبقى في قلبه تأله لغير الله، وكل من كان أكمل في هذا التوحيد كان أفضل عند الله .
/ والثاني : أن يفنى عن شهود ما سوى الله، وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع، ونحو ذلك .(1/65)
وهذا فيه فضيلة من جهة إقبال القلب على الله، وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه، فإنه إذا شهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه المعبود لا إله إلا هو، الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقا وأمرًا ـ كان أتم معرفة وشهودًا، وإيمانًا وتحقيقا، من أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر، وشهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، وهو الشهود الصحيح المطابق . لكن إذا كان قد ورد على الإنسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا، كان معذورًا للعجز، لا محمودًا على النقص والجهل .
والثالث : الفناء عن وجود السوى، وهو قول الملاحدة أهل الوحدة كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون : وجود الخالق هو وجود المخلوق، وما ثم غير ولا سوى في نفس الأمر .
فهؤلاء قولهم أعظم كفرًا من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام .
وأيضا، فإن ولاية الله هي موافقته بالمحبة لما يحب، والبغض لما يبغض والرضا بما يرضي، والسخط بما يسخط، والأمر بما يأمر به، والنهي عما ينهى عنه، والموالاة لأولىائه، والمعاداة لأعدائه، كما في صحيح البخاري / عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله تعالى : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يسعى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) ، فهذا أصح حديث روى في الأولياء .(1/66)
فالملاحدة والاتحادية يحتجون به على قولهم، لقوله ( كنت سمعه وبصره ويده ورجله ) والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة :
منها قوله : ( من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) فأثبت معاديا محاربًا ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه ـ سبحانه ـ هذا وهذا .
ومنها قوله : ( وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ) فأثبت عبدًا متقربًا إلى ربه، وربا افترض عليه فرائض .
ومنها قوله : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ) فأثبت متقرِِّبًا ومتقرَّبًا إليه، ومحبا ومحبوبًا غيره . وهذا كله ينقض قولهم : الوجود واحد .
ومنها قوله : ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ) إلى آخره، فإنه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور، وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد، وهو عندهم هذه الأعضاء : بطنه، وفرجه، وشعره، وكل شيء، لا تعدد عندهم، ولا كثرة في الوجود، ولكن يثبتون مراتب ومجالي ومظاهر، فإن جعلوها موجودة نقضوا قولهم .
وإن جعلوها ثابتة في العدم ـ كما يقوله ابن عربي ـ أو جعلوها المعينات، والمطلق هو الحق، كانوا قد بنوا ذلك على قول من يقول : المعدوم شيء، وقول من جعل الكليات ثابتة في الخارج زائدة على المعينات .
والأول : قول طائفة من المعتزلة، وهو قول ابن عربي .
والثاني : قول طائفة من الفلاسفة، وهو قول القونوي صاحب ابن عربي، وكلا القولين باطلان عند العقلاء، ولهذا كان التلمساني أحذق منهما فلم يثبت شيئا وراء الوجود .
كما قيل :
وما البحر إلا الموج، لا شيء غيره ** وإن فرقته كثرة المتعدد
لكن هؤلاء الضلال من الفلاسفة والمعتزلة ما قالوا : وجود المخلوق هو وجود الخالق، وهؤلاء الملاحدة قالوا : هذا هو هذا، ولهذا صاروا يقولون بالحلول من وجه، لكون الوجود في كل الذوات، أو بالعكس، وبالاتحاد من وجه لاتحادهما، وحقيقة قولهم هي وحدة الوجود .
/في الحديث وجوه أخرى تدل على فساد قولهم .(1/67)
والحديث حق، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ولي الله لكمال محبته لله وطاعته لله يبقى إدراكه لله وبالله، وعمله لله وبالله، فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه، وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه، وما يراه مما يحبه الحق أحبه، وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه، ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : ( اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا )
فولي الله فيه من الموافقة لله ما يتحد به المحبوب والمكروه، والمأمور والمنهي ونحو ذلك، فيبقى محبوب الحق محبوبه، ومكروه الحق مكروهه، ومأمور الحق مأموره، وولي الحق وليه، وعدو الحق عدوه، بل المخلوق إذا أحب المخلوق محبة تامة حصل بينهما نحو من هذا، حتى قد يتألم أحدهما بتألم الآخر، ويلتذ بلذته .
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ؛ ولهذا كان المؤمن يسره ما يسر المؤمنين، ويسوؤه ما يسوؤهم، ومن لم يكن كذلك لم يكن منهم .
/فهذا الاتحاد الذي بين المؤمنين ليس هو أن ذات أحدهما هي بعينها ذات الآخر، ولا حلت فيه، بل هو توافقهما واتحادهما في الإيمان بالله ورسوله وشعب ذلك مثل محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله .
فإذا كان هذا معقولا بين المؤمنين فالعبد إذا كان موافقا لربه تعالى فيما يحبه ويبغضه، ويأمر به وينهى عنه، ونحو ذلك مما يحبه الرب من عبده : كيف تكون ذات أحدهما هي الأخرى أو حالة فيها ؟(1/68)
فإذا عرفت هذه الأصول من الحلول والاتحاد المطلق والمعين، الذي هو باطل، ومما هو من أحوال أهل الإيمان، ومن ولاية الله تعالى وموافقته فيما يحبه ويرضاه وتوابع ذلك، تبين لك جواب مسائل السائل .
وهؤلاء قد يجدون من كلام بعض المشايخ كلمات مشتبهة مجملة، فيحملونها على المعاني الفاسدة، كما فعلت النصارى فيما نقل لهم عن الأنبياء، فيدعون المحكم، ويتبعون المتشابه
فقول القائل : إن الرب والعبد شيء واحد، ليس بينهما فرق : كفر صريح، لا سيما إذا دخل في ذلك كل عبد مخلوق، وأما إذا أراد بذلك عباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين، فهؤلاء يحبهم ويحبونه ويوافقونه فيما يحبه ويرضاه ويأمر به، فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه .
ولما رضوا ما يرضي وسخطوا ما يسخط، كان الحق يرضي لرضاهم ويغضب لغضبهم، إذ ذلك متلازم من الطرفين .
/ ولا يقال في أفضل هؤلاء : إن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق، لكن يقال لأفضل الخلق كما قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] ، وقال : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [ النساء : 80 ] ، وقال : { وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } [ الأحزاب : 57 ] وأمثال ذلك . وأما سائر العباد، فإن الله خالقهم ومالكهم وربهم، وخالق قدرتهم وأفعالهم، ثم ما كان من أفعالهم موافقا لمحبته ورضاه، كان محبا لأهله مكرمًا لهم، وما كان منها مما يسخطه ويكرهه، كان مبغضا لأهله مهينا لهم .
وأفعال العباد مفعولة مخلوقة للّه، ليست صفة له ولا فعلًا قائما بذاته .(1/69)
وقوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] ، فمعناه : وما أوصلت إذ حذفت، ولكن الله أوصل المرمى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب، وقال : ( شاهت الوجوه ) فأوصلها الله إلى وجوه المشركين وعيونهم، وكانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم عاجزة عن إيصالها إليهم، والرمي له مبدأ، وهو الحذف، ومنتهي وهو الوصول، فأثبت الله لنبيه المبدأ بقوله : { إِذْ رَمَيْتَ } ونفى عنه المنتهي، وأثبته لنفسه بقوله : { وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } وإلا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفي، فإن هذا تناقض .
/ والله تعالى ـ مع أنه هو خالق أفعال العباد ـ فإنه لا يصف نفسه بصفة من قامت به تلك الأفعال، فلا يسمي نفسه مصليا ولا صائما، ولا آكلا ولا شاربا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .(1/70)
وقول القائل : ما ثم غير إذا أراد به ما يريده أهل الوحدة، أي ما ثم غير موجود سوى الله : فهذا كفر صريح . ولو لم يكن ثم غير لم يقل : { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } [ الأنعام : 14 ] ولم يقل : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] فإنهم كانوا يأمرونه بعبادة الأوثان، فلو لم يكن غير الله لم يصح قوله : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } ولم يقل : { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا َ } [ الأنعام : 114 ] ولم يقل الخليل : { قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75، 77 ] ولم يقل : فّطّرّنٌي { إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 26، 27 ] فإن إبراهيم لم يعاد ربه، ولم يتبرأ من ربه، فإن لم تكن تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم الأقدمون غير الله، لكان إبراهيم قد تبرأ من الله وعادى الله، وحاشا إبراهيم من ذلك .
وهؤلاء الملاحدة في أول أمرهم ينفون الصفات، ويقولون : القرآن هو الله، أو غير الله . فإذا قيل لهم : غير الله . قالوا : فغير الله مخلوق .
وفي آخر أمرهم يقولون : ما ثم موجود غير الله، أو يقولون : العالم لا هو الله ولا هو غيره .
ويقولون :
/وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه
فينكرون على أهل السنة إذا أثبتوا الصفات، ولم يطلقوا عليها اسم الغير، وهم لا يطلقون على المخلوقات اسم الغير، وقد سمعت هذا التناقض من مشايخهم، فإنهم في ضلال مبين .
وأما قول الشاعر في شعره :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ؟ **
وقوله :
إذا كنت ليلى وليلى أنا **(1/71)
فهذا إنما أراد به هذا الشاعر الاتحاد الوضعي، كاتحاد أحد المتحابين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغض، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، وهو تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إذ كان قد استغرق في محبوبه حتى فنى به عن رؤية نفسه، كقول الآخر :
غبت بك عني ** فظننت أنك أني
فإما أن يكون غالطًا مستغرقًا بالفناء، أو يكون عني التماثل والتشابه، واتحاد المطلوب والمرهوب، لا الاتحاد الذاتي . فإن أراد الاتحاد الذاتي ـ مع عقله لما يقول ـ فهو كاذب مفتر، مستحق لعقوبة المفترين .
وأما قول القائل : لو رأى الناس الحق لما رأوا عابدًا ولا معبودًا، فهذا من جنس قول الملاحدة الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الرب والعبد، / وقد تقدم بيان قول هؤلاء، وهؤلاء يجمعون بين الضلال والغي، بين شهوات الغي في بطونهم وفروجهم، وبين مضلات الفتن .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغَيِّ في بطونكم وفروجكم ) ، حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون : هو الراهب في الصومعة، وهذه مظاهر الجمال، ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول : أنت الله .
ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السموات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه : أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك .
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوؤها الذي تفترشه، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صَرْفا ولا عَدْلا .(1/72)
ومن قال : إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حقٍ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق، فهو أحد رجلين : إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال . فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرَّف حقيقة الأمر، فإن أصرَّ على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله .
/ ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق . وهذا السر هو أشد كفرًا وإلحادا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء، قد لا يفهمه كثير من الناس .
ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض، ويتواجد عليها ويعظمها، ظانا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة، وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته، فإما أن يتوقفوا عنه أو يعبروا عن مذهبهم بعبارة من لم يفهم حقيقته، وإما أن ينكروه إنكارًا مجملا من غير معرفة بحقيقته، ونحو ذلك، وهذا حال أكثر الخلق معهم .
وأئمتهم إذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه، وقالوا : هذا من علماء الرسوم، وأهل الظاهر، وأهل القشر، وقالوا : علمنا هذا لا يعرف إلا بالكشف والمشاهدة، وهذا يحتاج إلى شروط، وقالوا : ليس هذا عشك فادرج عنه، ونحو ذلك مما فيه تعظيم له وتشويق إليه، وتجهيل لمن لم يصل إليه .
وإن رأوه عارفا بقولهم نسبوه إلى أنه منهم، وقالوا : هو من كبار العارفين .
/ وإذا أظهر الإنكار عليهم والتكفير قالوا : هذا قام بوصف الإنكار لتكميل المراتب والمجالي
وهكذا يقولون في الأنبياء ونهيهم عن عبادة الأصنام .
وهذا كله وأمثاله مما رأيته وسمعته منهم .
فضَلالُهم عظيم، وإفكُهم كبير، وتلْبيسُهم شديد، والله ـ تعالى ـ يظهر ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، والله أعلم .
فصل(1/73)
فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين، مما يشبه الاتحاد والحلول الباطل وهو حق ـ وإن سمي حلولا أو اتحادًا ـ وهو ما عليه أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة واليقين من جميع الطوائف بدلالة الكتاب والسنة .
أما الحلول : فلا ريب أن من علم شيئا فلابد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول . فإن المستعلى إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول، بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه، كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان .
فإذا ذكره بلسانه، كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه، كان ذلك أعظم وأعظم .
وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرِك ومُدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة، كعبادة الله / وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة، كمحب الإخوان والولدان، والنسوان والأوطان، وغير ذلك من الأكوان .
فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه : تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلابد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله .
والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه؛ إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحا .(1/74)
قال عمر بن عبد العزيز : [ من عَبَدَ اللهَ بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلح ] ، فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم؛ ولهذا أمر الله ورسوله بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعا : علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان وعمل الجوارح أيضا، فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول، وهذا ظاهر، ليس الغرض هنا بسطه، وإنما الغرض .
/ http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=42 - TOP#TOPفصل
وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته .
قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } الآية [ النور : 35 ] ، قال أُبَيّ بن كعب : مثل نوره في قلب المؤمن فهذه هي الأنوار التي تحصل في قلوب المؤمنين .
وقد قيل في قوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُ } [ المائدة : 5 ] إنه الكفر بذلك، فإن من كفر بالإقرار الذي هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله والإسلام له، المتضمن للاعتقاد والانقياد لإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، فهو كافر، إذ المقصود لنا من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو حصول الإيمان لنا، فمن كفر بهذا فهو كافر بذاك، وهذا قد يسمى المثل والمثال؛ لأنه قد يقال : إن العلم مثال المعلوم في العالم، وكذلك الحب يكون فيه تمثيل المحبوب في المحب .
ثم من الناس من يدعي أن كل علم وكل حب ففيه هذا المثال، كما يقوله قوم من المتفلسفة، ومنهم من ينكر حصول شيء من هذا المثال في شيء من العلم والحب .(1/75)
والتحقيق : أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى/ يتخيل صورة المحبوب، وقد لا يحصل تخيل حسي، وليس هذا المثل من جنس الحقيقة أصلا، وإنما لما كان العلم مطابقا للمعلوم وموافقا له، غير مخالف له، كان بين المطابِق والمطَابَق، والموافِق والموافَق نوع تناسب وتشابه، ونوع ما من أنواع التمثيل، فإن المثل يضرب للشيء لمشاركته إياه من بعض الوجوه، وهنا قطعا اشتراك ما واشتباه ما .
وقد قيل في قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، وقوله : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الروم : 27 ] أنه هذا، وفي حديث مأثور : ( ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين ) ، ويقال : القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم، وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال : إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه .
وروى مرفوعا من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان، عن جابر بن عبد الله، رواه أبو يعلى الموصلي، وابن أبي الدنيا في كتاب الذكر، ولهذا قال أبناء يعقوب : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } [ البقرة : 133 ] ، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتًا لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين : ( هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ) . فصار واحد/ من الآدميين خيرًا من ملء الأرض من بني جنسه، وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان .(1/76)
وإلى هذا المعنى أشار من قال : ( ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه ) ، وهو اليقين والإيمان ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( وزنتُ بالأمة فرجَحْتُ، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان ) ، وقال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه الصديق : ( أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيرًا من العافية ) رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه . وقال رقبة بن مصقلة للشعبي : رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه .
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن [ سيار، وحدثنا جعفر عن عمران القصير ] قال : قال موسى : ( يارب، أين أجدك ؟ قال : يا موسي، عند المُنْكَسِرةِ قلوبُهُم من أجلي، أقترب إليها كل يوم شبرًا، ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم )
وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى، حتى يقال : ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله عز وجل : ( أما علمت أن عبدي فلانا مرض ؟ فلو عُدْتَه لوجدتني عنده ) ويقال :
ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره
ويقال :
/مثالك في عيني، وذكراك في فمي ** ومثواك في قلبي، فأين تغيب ؟
وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) ، وقال الله ـ تعالى ـ في الحديث القدسي : ( من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعا )(1/77)
لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى اللّه أو إلى بعض الأماكن ؟ اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته، كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] .
وأما حركة روحه إلى مثل السموات وغيرها من الأمكنة، فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاؤون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقرَّ بها أهل الفطرة، وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام .
وأما القرب من الله إلى عبده : هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب ؟
هذا فيه كلام ليس هذا موضعه .
/ومن لم يثبت إلا الأول، فهم في قرب الرب على قولين :
أحدهما : أنه تجليه وظهوره له .
والثاني : أنه مع ذلك دنو العبد منه، واقترابه الذي هو بعمله وحركته . وللقرب معنى آخر : وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال : هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه .
فصل :
في الغلط في ذلك
ثم إن كثيرًا من أهل التوجه إلى الله إذا أقبلوا على ذكره وعبادته والإنابة إليه، شهدوا بقلوبهم هذه الربوبية الجامعة، وهذه الإحاطة العامة، فإنه بكل شيء محيط، وهو ـ سبحانه ـ الحق الذي خلق السموات والأرض، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وهو ـ سبحانه ـ نور السموات والأرض { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } الآية [ النور : 35 ](1/78)
وهو ـ سبحانه ـ ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه . هكذا قال عبدالله بن مسعود : ( لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، أو النار، لو كشفها لأحرقت سبُحَات وجهه ما أدركه بصره من خلقه ) ، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى .
/ فقد يشهد العبد القدر المشترك بين المصنوعات، وهو الحق الموجود فيها، الذي هو شامل لها، فيظن أنه الخالق، لمطابقته له في نوع من العموم، وإنما هو صنعه وخلقه، ثم قد يرتقي إلى حجاب من حجبه النورية أو النارية، فيظن أنه هو، ثم يرتقي إلى نوره، وما يظهر من أثر صفاته، فقد يقع بعض هؤلاء في نحو من مذهب أهل الاتحاد المطلق العام، فإن تداركهم الله برحمته فاعتصموا بحبل الله واتبعوا هدى الله، علموا أن هذا كله مخلوق لله، وأن الخالق ليس هو المخلوق، وأن جميعهم عباد لله، وربما قد يقع هذا في نوع من الفناء أو السكر، فيكون مخطئا غالطا، وإن كان ذلك مغفورا له، إذا كان بسبب غير محظور، كما ذكرنا نظيره في الاتحاد المعين .
وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة، السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته .(1/79)
أما بعد، فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين ـ الذين لا يريدون عُلُوًا في الأرض ولا فسادا ـ منزلة علىة، ومودة إلهية؛ لما منحه / الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى والعبادة .
وقد بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله ـ التي هي أصل الأعمال ـ المحبة التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] .
ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني، والوجد الديني، كما في الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار ) ، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله، وبكراهة ضد الإيمان .(1/80)
وفي صحيح مسلم عن العباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذاق طعمَ الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا ) ، /فجعل ذوق طعم الإيمان معلقا بالرضي بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقا بالمحبة؛ ليفرق صلى الله عليه وسلم بين الذوق والوجد، الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله وبين غيره كما قال سهل بن عبد الله التستري : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، إذ كان كل من أحب شيئا فله ذوق بحسب محبته .
ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، قال الحسن البصري : ادعى قوم على عهد رسول الله صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله، فطالبهم بهذه الآية، فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده .
وقد ذكر نعت المحبين في قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 ] ، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال، الذي نعت الله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال، المفرق في الملتين قبلنا، وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله، ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق، كما قال فيه كبير من كبرائهم :
مشرد عن الوطن**مبعد عن السكن
/يبكي الطول والدمن**يهوى ولا يدري لمن(1/81)
فالشيخ ـ أحسن الله إليه ـ قد جعل الله فيه من النور والمعرفة ـ الذي هو أصل المحبة والإرادة ـ ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة، عن المجملة المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضا في التوحيد، قال الله تعالى في أم الكتاب، التي هي مفروضة على العبد ـ وواجبة في كل صلاة ـ أن يقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ]
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله : حمدني عبدي، وإذا قال : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } قال الله : أثني علىَّ عبدي، وإذ قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال : مجدني عبدي أو قال : فوض إلى عبدي، وإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال : فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) ولهذا روى أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في القرآن، ومعاني القرآن في المفصل، ومعاني المفصل في أم الكتاب، ومعاني/ أم الكتاب، في هاتين الكلمتين : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهذا المعنى قد ثناه الله في مثل قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } [ هود : 123 ] ، وفي مثل قوله : { عليه تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] ، وقوله : { عليه تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في نسكه : ( اللهم هذا منك ولك )(1/82)
فهو ـ سبحانه ـ مستحق التوحيد، الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له : دعاء العبادة بالمحبة والإنابة، والطاعة والإجلال، والإكرام والخشية، والرجاء، ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل ـ سبحانه ـ بمقتضى ربوبيته، وهو ـ سبحانه ـ الأول والآخر، والباطن والظاهر .
ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله، وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر : الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان : الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك .
وفي السؤال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] ، { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ نوح : 28 ] ، { رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ على فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ } [ القصص : 17 ] ، { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [ القصص : 16 ] ، { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [ آل عمران : 147 ] ، { رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [ المؤمنون : 118 ] ، ونحو ذلك .
/ وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية، والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق، من الأعيان والصفات .
وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها فيقول : ( أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ) .(1/83)
فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضا ومطلوب منه، وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي، الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، والحب فيه، والبغض فيه، ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول، فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] .
ومن أخذ بالثاني دون الأول، فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاء جميع الكائنات، كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في كلام كثير من المتكلمة والمتفقهة .
والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي، وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة / الخارجين عن الشريعة خفو العدووغيرهم، فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به، فيفيدهم أحوالا فيها ما هو فاسد، يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود .
ولهذا قال الشيخ عبد القادر ـ قدس الله روحه : كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه رَوْزَنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا له .
وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية، أي أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به، ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع قدر الله بقدر الله، كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض ) ، وفي الترمذي قيل : يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : ( هن من قدر الله ) .(1/84)
وإلى هذين المعنين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله : يابن آدم، إنما هي أربع : واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي . فأما التي / لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلى الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فائت إلى الناس بما تحب أن يأتوه إليك )
ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية، أو توحيد أحدهما، للعبد فيه ثلاثة مقامات :
أحدها : مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات .
والثاني : مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى وهو فناء القاصرين .
وأما الفناء الكامل المحمدي، فهو الفناء عن عبادة السوى، والاستعانة بالسوى، وإرادة وجه السوى، وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته .
ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره ولا نافع ولا ضار، ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضا / فعل المأمورات مع كثرتها، وترك الشبهات مع كثرتها لله وحده لا شريك له .(1/85)
وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، والإسلام العام والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وصينَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] ، وبقوله : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وبقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ؛ ولهذا ترجم البخاري عليه [ باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد ] .
وقد قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] ، فجمع في الملل الأربع : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } وذلك قبل النسخ والتبديل .
وخص في أول الآية المؤمنين، وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] ، والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة، والدين الجامع هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية، هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين .(1/86)
/ فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم : { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وبها أنزلت السور المدنية؛ إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع، وسنت السنن، ونزلت الأحكام والفرائض والحدود .
فهذا التوحيد، هو الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز .
فقد يقول في تلك الحال : سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء، وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى، إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه .
فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات .
وفي مثل هذا الحال، غَلَطَ من غَلَطَ بدعوى الاتحاد والحلول العيني، في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في عَلِىٍّ وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي .
/ فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله : عبدي، مرضت فلم تعدني، فيقول : كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أنه مرض عبدي فلان، فلو عدته لوجدتني عنده ؟ ، عبدي، جعت فلم تطعمني، فيقول : رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ )(1/87)
ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أنه جوع عبده ومحبوبه لقوله : ( لوجدت ذلك عندي ) ولم يقل : لوجدتني قد أكلته، ولقوله : ( لوجدتني عنده ) ، ولم يقل : لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضي أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهي عنه .
وهؤلاء هم الذين يرضي الحق لرضاهم، ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم .
ولهذا قال تعالى فيه : إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وقال : { وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، وقال { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [ النساء : 80 ]
وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة ـ إن صح أن المسيح قالها ـ فهذا معناها، كقوله : ( أنا وأبي واحد . من رإني فقد رأى أبي ) ونحو ذلك / وبها ضلت النصارى، حيث اتبعوا المتشابه، كما ذكر الله عنهم في القرآن، لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في المسيح .
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ) ، فأخبر في هذا الحديث أن الحق ـ سبحانه ـ إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه .(1/88)
وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل، وأن قرب الفرائض أن يكون هو إياه، فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل، فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية، أتباع الأنبياء والمرسلين .
وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية، وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتابًا اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد به ـ والله ـ واحدًا بعينه، وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين، فعلىنا أن نعينه في الدين والدنيا، بما هو اللائق به، وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إليَّ الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم .(1/89)
/ وقد كتبت في ذلك كتابًا ربما يرسل إلى الشيخ، وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل، والله ـ تعالى ـ يعلم ـ وكفى به عليما ـ لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى، السالكين إليه من أعظم الواجبات ـ وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين ـ لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق، وتهتك أستارها، ولكن الشيخ ـ أحسن الله تعالى إليه ـ يعلم أن مقصود الدعوة النبوية، بل المقصود بخلق الخلق، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل : أن يكون الدين كله لله، هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } [ الأحزاب : 45، 46 ] ، وقال سبحانه : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [ الشورى : 52، 53 ] . وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد ـ الذيأنزل اللّه تعالى به الكتب، وبعث به الرسل ـ بالاتحاد الذي سموه توحيدًا، وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق .
وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من [ الفتوحات ] ، والكنة، والمحكم المربوط والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك . ولم نكن بَعْدُ اطلعنا على / حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علىنا .
فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية، والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء، وجب البيان .(1/90)
وكذلك كتب إلينا ـ من أطراف الشام ـ رجال سالكون أهل صدق وطلب، أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم .
والشيخ ـ أيده الله تعالى بنور قلبه، وذكاء نفسه وحقق قصده من نصحه للإسلام وأهله، ولإخوانه السالكين ـ يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه ومغفرته في الدنيا والآخرة .
وهؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر، لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين، وذلك أن القسمة رباعية، فإن كل واحد من الاتحاد والحلول، إما معين في شخص وإما مطلق .
أما الاتحاد والحلول المعين، كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشائخ من جهال الفقراء والصوفية، فإنهم يقولون به في معين، إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن، وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط، وإما بالحلول وهو قول النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية .
/ وأما الحلول المطلق وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء، فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك .
وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام، فما علمت أحدا سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل فرعون والقرامطة ـ وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين، ولا أنه غني، وما سواه فقير .
لكن تفرقوا على ثلاثة طرق، وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم؛ لأنه أمر مبهم .
الأول : أن يقولوا : إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية، حتى ذوات الحيوان، والنبات والمعادن، والحركات والسكنات، وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات، فوجودها وجود الحق، وذواتها ليست ذوات الحق، ويفرقون بين الوجود والثبوت، فما كنت به فى ثبوتك ظهرت به في وجودك .(1/91)
ويقولون : إن الله ـ سبحانه ـ لم يعط أحدًا شيئا، ولا أغنى أحدًا، ولا أسعده ولا أشقاه، وإنما وجوده فاض على الذوات، فلا تحمد إلا نفسك، و لا تذم إلا نفسك .
/ ويقولون : إن هذا هو سر القدر، وأن الله ـ تعالى ـ إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجًا عن نفسه المقدسة .
ويقولون : إن الله ـ تعالى ـ لا يقدر أن يغير ذرة من العالم، وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله ـ سبحانه ـ فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد، وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه؛ لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به الرسل .
ويقولون : إنهم لم يعبدوا غير الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى، وأن عبّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه، وأن قوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] معنى حكم، لا معنى أمر، فما عبد غير الله في كل معبود، فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع .
ويقولون : إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، وإن قوم نوح قالوا : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا } [ نوح : 23 ] ؛ لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم؛ لأن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه، وينكره من أنكره، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، وأن العارف منهم يعرف من عبدَ وفي أي صورة ظهر حتى عبد .
فإن الجاهل يقول : هذا حجر وشجر، والعارف يقول : هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا؛ لأنهم خصصوا، وإن / عبّاد الأصنام ما أخطؤوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء .(1/92)
والله يعبد ـ أيضا ـ كل شيء لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام، وهو غذاؤها بالوجود، وهو فقير إليها وهي فقيرة إليه، وهو خليل كل شيء بهذا المعنى، ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة، وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أمورًا عدمية .
ويقولون : من أسمائه الحسنى : العلى، عن ماذا وما ثم إلا هو ؟ وعلى ماذا وما ثم غيره ؟ فالمسمى محدثات وهي العلىة لذاتها وليست إلا هو، وما نكح سوى نفسه، وما ذبح سوى نفسه، والمتكلم هو عين المستمع .
وأن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيقه وعدم اتساعه وأن موسى كان أوسع في العلم، فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وأن أعلى ما عبد الهوى، وأن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله، وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين، وقد صدقه السحرة في قوله : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وفي قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] .
وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول : إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون، المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون، ويقولون : نحن على قول فرعون .
/ وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ](1/93)
والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص، المضاف إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه جاء به : وهو ما إذا فهمه المسلم علم بالاضطرار أن جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصالحين، بل جميع عوام أهل الملل، من اليهود والنصارى والصابئين : يبرؤون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه كله ؟
ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور، الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ربهم ورب آبائهم الأولين، رب المشرق والمغرب .
ولا يقول أحد منهم : إنه عين المخلوقات، ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى إنهم يقولون : لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين :
أحدهما : أن المعدوم شيء ثابت في العدم ـ كما يقوله كثير من المعتزلة والرافضة ـ وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب السنة والإجماع . وكثير من متكلمة أهل الإثبات ـ كالقاضي أبي بكر ـ كفر من يقول بهذا .
/وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها ـ وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ ـ وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله تعالى . فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة : أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها، فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي .
ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سورة : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1 : 5 ] فذكر المراتب الأربع : وهي الوجود العيني الذي خلقه، والوجود الرسمي المطابق للفظي الدال على العلمي، وبين أن الله تعالى علمه، ولهذا ذكر التعليم بالقلم، فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة .(1/94)
وهذا القول ـ أعني قول من يقول : إن المعدوم شيء ثابت في نفسه، خارج عن علم الله ـ تعالى ـ وإن كان باطلا ودلالته واضحة لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة، وابن عربي وافق أصحابه، وهو أحد أصلى مذهبه الذي في الفصوص .
والأصل الثاني : أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق، ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن عربي أقربهم إلى الإسلام، وأحسن كلاما في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر / والمظاهر، فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشائخ من الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم، فينتفعون بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله .
وأما صاحبه ـ الصدر الرومي ـ فإنه كان متفلسفا، فهو أبعد عن الشريعة والإسلام؛ ولهذا كان الفاجر التلمساني ـ الملقب بالعفيف ـ يقول : كان شيخي القديم متروحنًا متفلسفًا، والآخر فيلسوفا متروحنا ـ يعني الصدر الرومي ـ فإنه كان قد أخذ عنه، ولم يدرك ابن عربي في كتاب مفتاح غيب الجمع والوجود، وغيره يقول : إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين، كما يفرق بين الحيوان المطلق والحيوان المعين، والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في الخارج مطلقا، لا يوجد المطلق إلا في الأعيان الخارجة .
فحقيقة قوله : إنه ليس لله ـ سبحانه ـ وجود أصلا، ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات؛ ولهذا يقول هو وشيخه : إن الله تعالى لا يرى أصلا، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير، والبول والعذرة، عين وجوده ـ تعالى الله عما يقولون .(1/95)
وأما الفاجر التلمساني، فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر، فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين / كما يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وإن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوبا، فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر .
ولهذا كان يستحل جميع المحرمات، حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول : البنت والأم والأجنبية شيء واحد، ليس في ذلك حرام علىنا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام، فقلنا : حرام عليكم .
وكان يقول : القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، وإنما التوحيد في كلامنا .
وكان يقول : أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول : القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشرح الأسماء الحسنى على هذا الأصل الذي له .
وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء، وشعره في صناعة الشعر جيد، ولكنه كما قيل : ( لَحْمُ خِنْزِير في طَبَق صيني ) وصنف للنصيرية عقيدة، وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر، وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه .
وأما ابن سبعين، فإنه في البدو والإحاطة يقول أيضا بوحدة الوجود، وأنه ما ثم غير، وكذلك ابن الفارض في آخر نظم السلوك، لكن لم يصرح : هل يقول بمثل قول التلمساني، أو قول الرومي، أو قول ابن عربي ؟ وهو إلى كلام التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي / ما كفره أحد قط مثل التلمساني، وآخر يقال له : البلياني من مشايخ شيراز . ومن شعره :
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه عينه
وأيضا :
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ** ويفهم هذا السر من هو ذائقه
وأيضا :
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ** لأني في التحقيق لست سواكم
وأيضا :
ما بال عيسك لا يقر قرارها ** وإلام ظلك لا يني متنقلا ؟
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ** إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وأيضا :
ما الأمر إلا نسق واحد ** ما فيه من حمد ولا ذم(1/96)
وإنما العادة قد خصصت ** والطبع والشارع في الحكم
وأيضا :
يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني ** والوجد أصدق نهاء وأمار
فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي ** عن العيان إلى أوهام أخبار
/ فعين ما أنت تدعوني إليه إذا ** حققته تره المنهي يا جاري
وأيضا :
وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ** وإن فرقته كثرة المتعدد
إلى أمثال هذه الأشعار، وفي النثر ما لا يحصى، ويوهمون الجهال أنهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة، مثل سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، والشافعي، وأبي سليمان، وأحمد بن حنبل، وبشر الحافي، وعبد الله بن المبارك، وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة .
إلى مثل المتأخرين، مثل الجنيد بن محمد القواريري، وسهل بن عبد الله التستري، وعمر بن عثمان المكي، ومن بعدهم، إلى أبي طالب المكي، إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي مدين، والشيخ عقيل، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ رسلان، والشيخ عبد الرحيم، والشيخ عبد الله اليونيني، والشيخ القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق، ومصر والمغرب وخراسان، من الأولين والأخرىن .
كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء ومن هو أرجح منهم، وإن الله / ـ سبحانه ـ ليس هو خلقه ولا جزءًا من خلقه ولا صفة لخلقه، بل هو ـ سبحانه وتعالى ـ متميز بنفسه المقدسة، بائن بذاته المعظمة عن مخلوقاته، وبذلك جاءت الكتب الأربعة الإلهية، من التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، وعليه فطر الله تعالى عباده، وعلى ذلك دلت العقول .
وكثيرا ما كنت أظن أن ظهور مثل هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار، واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب، الذي يزعم أنه هو الله .(1/97)
فإن هؤلاء عندهم كل شيء هو الله، ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض وأعظم .
وأما على رأي صاحب الفصوص، فإن بعض المظاهر والمستجليات يكون أعظم لعظم ذاته الثابتة في العدم، وأما على رأي الرومي فإن بعض المتعينات يكون أكبر، فإن بعض جزئيات الكلي أكبر من بعض، وأما على البقية فالكل أجزاء منه، وبعض الجزء أكبر من بعض .
فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من كبار العارفين، وأكبر من الرسل بعد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وإبراهيم وموسى، وعيسى ـ عليهم السلام ـ فموسى قاتل فرعون الذي يدعي الربوبية، ويسلط الله تعالى مسيح الهدى ـ الذي قيل فيه : إنه الله تعالى وهو بريء من ذلك ـ على مسيح الضلالة الذي قال : إنه الله .
/ ولهذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( إنه أعور ) ، وكونه قال : ( واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت ) . وابن الخطيب أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا؛ لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال، أبين من أن يستدل عليه بأنه أعور .
فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية، وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى والحلولية، ظهر سبب دلالة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بهذه العلامة، فإنه بعث رحمة للعالمين، فإذا كان كثير من الخلق يجوز ظهور الرب في البشر، أو يقول : إنه هو البشر، كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلا على انتفاء الإلهية عنه .
وقد خاطبني قديما شخص من خيار أصحابنا ـ كان يميل إلى الاتحاد ثم تاب منه ـ وذكر هذا الحديث فبينت له وجهه .(1/98)
وجاء إلينا شخص كان يقول : إنه خاتم الأولياء، فزعم أن الحلاج لما قال : أنا الحق كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كان من هذا الباب، فبينت له فساد هذا، وأنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة موسى بن عمران، وكان من خاطبه هؤلاء أعظم من موسى، لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة وهؤلاء يسمعون من الجن الناطق .
/ وهذا يقوله قوم من الاتحادية، لكن أكثرهم جهال لا يفرقون بين الاتحاد العام المطلق الذي يذهب إليه الفاجر التلمساني وذووه، وبين الاتحاد المعين الذي يذهب إليه النصارى والغالية .
وقد كان سلف الأمة، وسادات الأئمة، يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود، كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحًا، وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان .
وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، ولكن السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه، فإن كثيرًا من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة، حتى يتدبرها ويرزق نور الهدى، فلما اطلع السلف على سر القول نفروا منه .
وهذا كما قال بعض الناس : متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شىء ؛ وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه تأله ولا تعبد، فهو يصف ربه بصفات العدم والموات .
وأما المتعبد ففي قلبه تأله وتعبد، والقلب لا يقصد إلا موجودًا لا معدوما فيحتاج أن يعبد المخلوقات، إما الوجود المطلق وإما بعض المظاهر، كالشمس والقمر، والبشر والأوثان وغير ذلك، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم، وهم لا يوحدون الله ـ سبحانه وتعالى ـ وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات، فهم بربهم يعدلون .(1/99)
/ ولهذا حدثني الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند، وقال : إن أرض الإسلام لا تسعه؛ لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان .
وهذا حقيقة قول الاتحادية، وأعرف ناسا لهم اشتغال بالفلسفة والكلام وقد تَألَّهوا على طريق هؤلاء الاتحادية، فإذا أخذوا يصفون الرب ـ سبحانه ـ بالكلام قالوا : ليس بكذا، ليس بكذا، ووصفوه بأنه ليس هو رب المخلوقات كما يقوله المسلمون، لكن يجحدون صفات الخالق التي جاءت بها الرسل ـ عليهم السلام .
وإذا صار لأحدهم ذوق ووجد، تأله وسلك طريق الاتحادية، وقال : إنه هو الموجودات كلها، فإذا قيل له : أين ذلك النفي من هذا الإثبات ؟ قال : ذلك وجدي، وهذا ذوقي . فيقال لهذا الضال : كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد فأحدهما أو كلاهما باطل، وإنما الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات، فإن علم القلب وحاله متلازمان، فعلى قدر العلم والمعرفة يكون الوجد والمحبة والحال .(1/100)
ولو سلك هؤلاء طريق الأنبياء والمرسلين ـ عليهم السلام ـ الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله ـ واتبعوا طريق السابقين الأولين، لسلكوا طريق الهدى، ووجدوا بَرْد اليقين وقُرَّة العين، فإن الأمر كما قال بعض الناس : إن الرسل / جاؤوا بإثبات مُفَصَّل ونفي مجمل، والصابئة المعطلة جاؤوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فالقرآن مملوء من قوله تعالى في الإثبات : { إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ } [ التوبة : 115 ] و { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فاطر : 1 ] ، و { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ لقمان : 28 ] ، { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ] ، وفي النفي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] ، { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [ الصافات 180، 181 ] .
وهذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ ـ أيَّد الله تعالى به الإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه، وحسن مقاصده ونور قلبه ـ فإن ما فيه نكت مختصرة، فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب، ولكن ذكرت للشيخ ـ أحسن الله تعالى إليه ـ ما اقتضى الحال أن أذكره ـ وحامل الكتاب مستوفز عجلان، وأنا أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ويهديهم إلى ما يقربهم، وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير، الذين قال الله سبحانه فيهم : وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 ] .
فصل
وإذا ثبت هذا، فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره، بقضائه وشرعه .(1/101)
وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق : مجوسية، ومشركية، وإبليسية .
فالمجوسية : الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب . ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته،وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم .
والفرقة الثانية : المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعى الحقيقة من المتصوفة .
والفرقة الثالثة : وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضًا من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وطعنوا في حكمته وعدله، كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب .
والمقصود أن هذا مما يقوله أهل الضلال، وأما أهل الهدى والفلاح، فيؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء أحصاه في إمام مبين .
ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته ومشيئته، ووحدانيته وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، ما هو من أصول الإيمان .
ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى : { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] وقال تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } [ المائدة : 16 ] ، وقال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] ، فأخبر أنه يفعل بالأسباب .(1/102)
ومن قال : إنه يفعل عندها لا بها فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها، مثل قدرة العبد، كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره .
وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولابد من مانع يمنع مقتضاه، إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده، قال تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] أي : فتعلمون أن خالق الأزواج واحد .
ولهذا من قال : إن الله لا يصدر عنه إلا واحد ـ لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ـ كان جاهلا، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء ـ لا واحد ولا اثنان ـ إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون .
فالنار التي خلق الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها، وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السَّمَنّدَل [ السَّمَنْدَلُ : طائر بالهند لا يحترق بالنار . انظر : القاموس المحيط، مادة ـ سمندل ] والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه .
والشمس التي يكون عنها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف، لم يحصل الشعاع تحته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أنه لابد من [ الإيمان بالقدر ] ، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس : هو نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض توحيده .
ولابد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه .(1/103)
والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه .
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) ، وهو معنى قولهم : متحرك بالإرادات، فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها، ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار ؟ وهل يصلحه أو يفسده ؟
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضهم يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم لهم .
وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنها وقبيحها بالعقل، أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل ؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه .
فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سببًا لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسببًا لما يبغضه ويؤذيه، وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعا أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال ـ من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة ـ لا تعرف إلا بالشرع .
فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك .(1/104)
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب، هو ما دل عليه قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 25 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [ سبأ : 50 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ } [ الأنبياء : 45 ] .
ولكن توهمت طائفة أن للحسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا، فكلا الطائفتين، اللتين أثبتتا الحسن والقبح والعقليين أو الشرعيين، وأخرجتاه عن هذا القسم، غلطت .
ثم إن كلتا [ في المطبوعة : كلتي . والصواب ما أثبتناه ] الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا، والسخط والفرح، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية ودلت عليه الشواهد العقلية، تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح، وأنه ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك، لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه ؟ على قولين .
والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محمودًا على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، وما تركه من التعذيب والنقمة .
والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه .(1/105)
فمن نظر إلى القدر فقط، وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار .
وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله، ودينه وشرائعه، فهممخالفون ـ أيضًا ـ لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لابد أن يلتذ ب شيء ويتألم ب شيء فيميز بين ما يأكل ويشرب، وما لا يأكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية .
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوى عنده الأمران دائمًا، فقد افترى وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض، كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه، فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة، وما يسره أخرى .
فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك، إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها ـ لضعف تمييزه ـ لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا، ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية : قدرًا وشرعًا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا، لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز : العقل والمعرفة .
وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول : أريد ألا أريد، أو أن العارف لا حظ له، وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك، فهذا إنما يمدحمنه سقوط إرادته التي يؤمر بها وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه .(1/106)
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل .
ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل .
والفناء يراد به ثلاثة أمور :
أحدها : هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به، فيفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ماسواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] ، فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله .
وأما الفناء الثاني : وهو الذي يذكره بعض الصوفية، وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله ـ تعالى ـ فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله .
ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وللسابقين الأولين، ومن جعل هذا نهاية السالكين، فهو ضال ضلالا مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك .(1/107)
وأما الثالث : فهو الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهو قول أهل الإلحاد والاتحاد، الذين هم من أضل العباد .
وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله، فإنه إذا كان مشاهدًا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور فعومل بموجب ذلك، مثل أن يضرب ويجاع، حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع، فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له : هذا الذي فعله مقضى مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله وهو يعمكما، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له .
فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر، ويعرض عن الأمر والنهي . والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، كما قال تعالى : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] .
وقال في قصة يوسف : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، فالتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه؛ ولهذا قال الله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] .
فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لابد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( يأيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) ، وقال : ( إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ) .(1/108)
وكان يقول : ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر ) .
وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربه وتاب إليه، فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه، وعن إبليس أبي الجن ـ لعنه الله ـ أنه أصر متعلقًا بالقدر فلعنه وأقصاه، فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه، ومن أشبه أباه فما ظلم،قال الله ـ تعالى ـ : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 72، 73 ]
ولهذا قرن الله ـ سبحانه ـ بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وقال تعالى : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } [ فصلت : 6 ] ، وقال تعالى : { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [ هود : 1-3 ] .
وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره : ( يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ) .(1/109)
وقد ذكر ـ سبحانه ـ عن ذي النون أنه نادى في الظلمات : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، قال تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه ) .
وجماع ذلك : أنه لابد له في الأمر من أصلين، ولابد له في القدر من أصلين .
ففي الأمر عليه الاجتهاد في الامتثال علما وعملا، فلا تزال تجتهد في العلم بما أمر الله به والعمل بذلك .
ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه الحدود .
ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقد قال الله تعالى : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] ، فقاموا بالليل وختموه بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قول الله تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] . وفي الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : في ركوعه وسجوده : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفرلي ) يتأول القرآن .
وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، ويكون مفتقرًا إليه في طلب الخير وترك الشر .
وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه .(1/110)
ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى لما قال : يا آدم، أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه فبكم وجدت مكتوبًا على من قبل أن أخلق : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ؟ قال : بكذا وكذا، فحج آدم موسى .
وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب، فإن آدم قد كان تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك .
وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] .
فمن راعى الأمر والقدر كما ذكر، كان عابدًا لله مطيعًا له، مستعينًا به، متوكلا عليه، من الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا .
وقد جمع الله ـ سبحانه ـ بين هذين الأصلين في مواضع، كقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] ، وقوله : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 2، 3 ] .
فالعبادة لله والاستعانة به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية : ( اللهم منك ولك ) ، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم .
ولابد في عبادته من أصلين :
أحدهما : إخلاص الدين له .
والثاني : موافقة أمره الذي بعث به رسله .(1/111)
ولهذا كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول في دعائه : اللّهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا . وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } [ الملك : 2 ] . قال : أخلصه وأصوبه . قالوا : يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إذا كان العمل خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنَّة .
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين ما لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدين، كما قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله .
والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه .
ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام :
فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه .
وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحريًا للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع .
وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر، من غير استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة، فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنًا وظاهرًا، ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى، فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق، إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر واتبع فيه السنة .
وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فهو لا يشهد أن علمه لله، ولا أنه بالله .(1/112)
فالمعتزلة ونحوهم ـ من القدرية الذين أنكروا القدر ـ هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية، الذين يعرضون عن الشرع، والأمر والنهي .
والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية، خير من المعتزلة، ولكن فيهم من فيه نوع بدع، مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد، حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك، ويصيرون ـ أيضًا ـ معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم، فهم معتزلة من هذا الوجه .
وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرًا من بدعة أولئك المعتزلة، وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة .
وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه وهو الصراط المستقيم، وهو طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير القرون وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين، قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] فرضي عن السابقين الأولين رضا مطلقًا، ورضى عن التابعين لهم بإحسان .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة : ( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) .
وكان عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول : من كان منكم مُسْتنّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .
وقال حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما ـ : يا معشر القراء، استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولأن أخذتُم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالا بعيدًا .(1/113)
وقد قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط حوله خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال : ( هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) ، ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقد أمرنا ـ سبحانه ـ أن نقول في صلاتنا : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون ) ؛ وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه، والنصارى عبدوا الله بغير علم .
ولهذا كان يقال : تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وقال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ طه : 123، 124 ] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وقرأ هذه الآية .
وكذلك قوله تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 1-5 ] فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم و الضالين .(1/114)
فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
فصل
وقول القائل : إن الضحك خفة روح، ليس بصحيح، وإن كان ذلك قد يقارنه .
ثم قول القائل : [ خفة الروح ] : إن أراد به وصفًا مذمومًا فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه، وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان؛ أحدهما : يضْحَك مما يُضْحَك منه،والآخر : لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ينظر إليكم الرب قَنِطِين، فيظل يضحك، يعلم أن فَرَجَكُم قريب ) ، فقال له أبو رَزِين العُقَيْلِي : يا رسول الله، أو يضحك الرب ؟ ! قال : ( نعم ) قال : لن نعدم من رب يضحك خيرًا . فجعل الأعرابي العاقل ـ بصحة فطرته ـ ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العَبُوس الذي لا يضحك فط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب : إنه { يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } [ الإنسان : 10 ] .
وقد روى : أن الملائكة قالت لآدم : ( حَيَّاك الله وبَيَّاك ) أي : أضحكك .
والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال، فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزمًا لشىء من النقص فالله منزه عن ذلك، وذلك الأكثر مختص لا عام، فليس حقيقة الضحك مطلقًا مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم أن يكون الرب موجدًا وألا تكون له ذات .(1/115)
ومن هنا ضلت القرامطة الغلاة كصاحب الإقليد وأمثاله، فأرادوا أن ينفوا عنه كل ما يعلمه القلب، وينطق به اللسان، من نفي وإثبات، فقالوا : لا نقول : موجود ولا لا موجود، ولا موصوف ولا لا موصوف؛ لما في ذلك ـ على زعمهم ـ من التشبيه، وهذا يستلزم أن يكون ممتنعًا، وهو مقتضي التشبيه بالممتنع، والتشبيه الممتنع على الله أن يشارك المخلوقات في شىء من خصائصها، وأن يكون مماثلاً لها في شىء من صفاته، كالحياة والعلم والقدرة، فإنه وإن وصف بها فلا تماثل صفة الخالق صفة المخلوق، كالحدوث والموت، والفناء والإمكان .
سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ عن حسن إرادة الله ـ تعالى ـ لخلق الخلق وإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أو لغير علة ؟ فإن قيل : لا لعلة فهو عبث ـ تعالى الله عنه ـ وإن قيل : لعلة ،فإن قلتم : إنها لم تزل، لزم أن يكون المعلول لم يزل، وإن قلتم : إنها محدثة، لزم أن يكون لها علة، والتسلسل محال .
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة كبيرة من أجَلِّ المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعوبا وفروعًا، وأكثرها شبهًا ومحارات، فإن لها تعلقًا بصفات الله ـ تعالى ـ وبأسمائه وأفعاله، وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق ـ سبحانه ـ وكذلك الشرائع كلها ـ الأمر والنهي والوعد والوعيد ـ متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، وبمسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس، فعلم الفقه الذي هو الأمر والنهي متعلق بها .(1/116)
/وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي، كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش، هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك ؟ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة ؟ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث أو بمعنى الأمارة والعلامة ؟ وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل، ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا ؟
وتكلم الناس في تنزيه الله ـ تعالى ـ عن الظلم، هل هو منزه عنه مع قدرته عليه ؟ أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه ؟
وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه، هل هي بمعنى إرادته ؟ أو هي الثواب والعقاب المخلوق ؟ أم هذه صفات أخص من الإرادة ؟
وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان، هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث ؟ أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته، وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتديًا ؟ أم هو واقع بقدرته ومشيئته ؟ ولا يكون في ملكه ما لا يريد، وله في جميع خلقه حكمة بالغة، وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه، وإن إرادة الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه . وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها .
/ولأجل تجاذب هذا الأصل ووقوع الاشتباه فيه،صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل، وكل تقدير قال به طوائف من بني آدم من المسلمين وغير المسلمين .(1/117)
فالتقدير الأول : هو قول من يقول : خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة، وهذا قول كثير ممن يثبت القدر، وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول الأشعري، وأصحابه، وقول كثير من نفاة القياس في الفقه ـ الظاهرية كابن حزم وأمثاله .
ومن حجة هؤلاء : أنه لو خلق الخلق لعلة، لكان ناقصًا بدونها مستكملاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكملاً بها، فيكون قبلها ناقصًا .
ومن حجتهم : ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد ـ كما يقال : أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك، ويقال : إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلا ـ فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عنه، فمن فعل فعلاً /لمطلوب يطلبه بذلك الفعل، كان حصول المطلوب بعد الفعل، فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديمًا، كان الفعل قديمًا بطريق الأولى .
فلو قيل : إنه يفعل لعلة قديمة، لزم ألا يحدث شىء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة، وإن قيل : إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران :
أحدهما : أن يكون محلاً للحوادث، فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه، فإن لم يعد إليه منها حكم، امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم، كان ذلك حادثًا فتقوم به الحوادث .(1/118)
المحذور الثاني : أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين : أحدهما : أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي ـ أيضًا ـ مما يحدثه الله ـ تعالى ـ بقدرته ومشيئته، فإن كانت لغير علة، لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه أحدثه لعله والعلة مما أحدثه، لزم تسلسل الحوادث . الثاني : أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها؛ لأن ما أراده الله ـ تعالى ـ لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها، فالقول في ذلك الغير كالقول فيها، ويلزم التسلسل، فهذا ونحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه .
والتقدير الثاني : قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية/ قديمة، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه، وكما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم، وهؤلاء أصل قولهم : إن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها، لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها، وأعظم حججهم قولهم : إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل، لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها، فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل، فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول، فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة، وإن لم تكن العلة التامة ـ التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضى التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل، إن لم يكن جميعها في الأزل ـ فلابد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث، وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإذا كان هناك سبب حادث، فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول، ويلزم التسلسل، قالوا : فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح .(1/119)
ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلية، ولكنهم متناقضون، فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية، ويقولون مع هذا : ليس له إرادة بل هو موجب بالذات، لا فاعل بالاختيار، وقولهم باطل من وجوه كثيرة :
/منها : أن يقال : هذا القول يستلزم ألا يحدث شىء، وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث، ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل، وبطلان الترجيح بلا مرجح، وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها، ولا يجوز أن يتأخر عنها شىء من معلولها، فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة، وليس هناك ما تصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة، فإذا امتنع صدور الحوادث عنه، وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن تحدث بلا محدث .
وأيضًا، فلو قدر أن غيره أحدثها، فإن كان واجبًا بنفسه، كان القول فيه كالقول في الواجب الأول، وأصل قولهم : إن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له، فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث، لا بواسطة ولا بغير واسطة؛ لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه،فامتنع صدور الحوادث عنها، وإن كانت حادثة، كان القول فيها كالقول في غيرها .
وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه، كان ممكنًا مفتقرًا إلى موجب يوجب به، ثم إن قيل : إنه محدث، كان من الحوادث، وإن قيل : إنه قديم، كان له علة تامة مستلزمة له، وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه، فإن الممكن لا يوجد هو ولا شىء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه، فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة، قيل : هل حدث فيه سبب/ يقتضى الحدوث أم لا ؟ فإن قيل : لم يحدث سبب، لزم الترجيح بلا مرجح، وإن قيل : حدث سبب، لزم التسلسل كما تقدم .(1/120)
الوجه الثاني : الذي يبين بطلان قولهم أن يقال : مضمون الحجة : أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة، لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح، والتسلسل عندكم جائز، فإن أصل قولهم : إن هذه الحوادث متسلسلة شيئًا بعد شىء، وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم : هي العقل الفعال، أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول،أو غير ذلك من الوسائط، وإذا كان التسلسل جائزًا عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث من غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل، بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم ،وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه أهل الملل ـ المسلمون واليهود والنصارى ـ فإن قيل : إنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك، كان خيرًا من قولكم : إنها قديمة أزلية معه في الشرع، وكان أولى في العقل؛ لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع، وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شىء إلا بسبب حادث، فإذا قيل : إن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك، لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا .
الوجه الثالث : أن يقال : حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية، إما أن يكون ممكنًا في العقل أو ممتنعًا، فإن كان ممتنعًا في العقل، لزم أن الحوادث جميعها / لها أول، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام، وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك، وإن كان ممكنًا، أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفًا على حوادث قبل ذلك، كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك، فيلزم فساد حجتكم على التقديرين .(1/121)
ثم يقال : إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة، وإما ألا تثبتوا، فإن لم تثبتوا؛ بطل قولكم بإثبات العلة الغائية، وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري ـ تعالى ـ في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات، وأيضًا، فالوجود يبطل هذا القول؛ فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء، كإحداثه ـ سبحانه ـ لما يحدثه من نعمته ورحمته ووقت حاجة الخلق إليه، كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة، وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، وإن أثبتم له حكمة مطلوبة ـ وهي باصطلاحكم العلة الغائية ـ لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة، فإن القول : بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريدا لتلك الحكمة المطلوبة جمع بين النقيضين، وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضًا؛ ولهذا يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو الإرادة، والإرادة هي القدرة، وأمثال ذلك، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع .
وأما التقدير الثالث : وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة/ محمودة، فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين، وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكَرَّامِيَّة والمرجئة وغيرهم، وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وقول أكثر قدماء الفلاسفة، وكثير من متأخريهم؛ كأبي البركات وأمثاله؛ لكن هؤلاء على أقوال :
منهم من قال : إن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه ـ أيضًا ـ كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم، وقالوا : الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق، والحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب، وقالوا : إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل، فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم، ولا قام به فعل ولا نعت .(1/122)
فقال لهم الناس : أنتم متناقضون في هذا القول؛ لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك،وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمده لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء،لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثًا في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة/ ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة، كان عابثًا ولم يكن محمودًا على هذا، وأنتم عللتم أفعاله فرارًا من العبث، فوقعتم في العبث، فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل؛ ولهذا لم يأمر الله ـ تعالى ـ ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحدًا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك، إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة، وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لافي العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر .(1/123)
ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسألة التحسين والتقبيح العقلي، فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم، وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، ونفي ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له، ولكونه ضارًا للفاعل منافرًا له، أنه يمكن معرفته بالعقل، كما يعرف بالشرع، وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا، وهذا ليس كذلك، بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم، والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له، والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له .
/والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله ـ تعالى ـ لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله، ومنازعوهم لما اعتقدوا ألا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك، وقالوا : القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته، وكل ما يقدر ممكنا من الأفعال فهو حسن؛ إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول، وأولئك أثبتوا حسنًا وقبحًا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته، إذ عندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل ولا غير ذلك، وإن كانوا قد يتناقضون .(1/124)
ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله ـ سبحانه ـ ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله ولا يثبتون له مشيئة عامة، ولا قدرة تامة، فلا يجعلونه على كل شىء قدير، ولا يقولون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يقرون بأنه خالق كل شىء، ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه، فإنه قال : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [ طه : 112 ] ، أي : لا يخاف أن يظلم، فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته، وقال تعالى : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في حديث البطاقة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما ـ : ( يجاء برجل من أمتي يوم القيامة، فتنشر له تسعة وتسعون سِجِلاً كل سجل مد البصر، فيقال له : هل تنكر من هذا شيئًا ؟ فيقول : لا يارب، فيقال له : ألك عذر ؟ ألك حسنة ؟ فيقول : لا يارب، فيقول : بلي/ إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم ) قال : ( فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم، بل يثاب على ما أتي به من التوحيد، كما قال تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [ الزلزلة : 7، 8 ] .(1/125)
وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم [ عدلية ] يقولون : من فعل كبيرة واحدة أحبطت جميع حسناته، وخلد في نار جهنم، فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلمًا يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم، ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلما، والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام .
وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله ـ سبحانه ـ أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه، وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه، ومذهبهم : أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل، ولا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتديًا .
وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام، كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة ـ أيضًا ـ فلا يوافقونهم على/هذا، بل يقولون : إنه يفعل ما يفعل ـ سبحانه ـ لحكمة يعلمها ـ سبحانه وتعالى ـ وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك، والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة، كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق، وفيه أعظم حكمة(1/126)
للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] ، وقال : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [ آل عمران : 144 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } [ إبراهيم : 28 ] قالوا : هو محمد صلى الله عليه وسلم .
فإذا قال قائل : فقد تضرر برسالته طائفة من الناس، كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب، كان عن هذا جوابان :
أحدهما : أنه نفعهم بحسب الإمكان، فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم، وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم، ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره، فكان ذلك تقليلاً لشره، والرسل ـ صلوات الله عليهم ـ/بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان .(1/127)
والجواب الثاني : أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع، كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت، أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقَصَّارين ونحوهم، وما كان نفعه ومصلحته عامة، كان خيرًا مقصودًا ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس، وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية، وهو جواب كثير من المتفلسفة .
وقال هؤلاء : جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر، فلابد فيه من حكمة، قال الله تعالى : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] ، وقال : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] ، و الضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شرًا مطلقًا، وإن كان شرًا بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجىء في كلام الله ـ تعالي ـ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا علي أحد وجوه ثلاثة : إما أن يدخل في عموم المخلوقات، فإنه إذا دخل في العموم؛ أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق، وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم، وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل، وإما أن يحذف فاعله .(1/128)
فالأول، كقوله تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ونحو ذلك، ومن هذا الباب : أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع، والضار النافع، المعز المذل، الخافض الرافع، / فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه، ولا الضار عن قرينه؛ لأن اقترانهما يدل على العموم، وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله ـ تعالى ـ وما في الوجود من غير ذلك، فهو من عدله، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يمين الله ملأى لا يُغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى القِسْط يخفض ويرفع ) ، فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله .
وأما حذف الفاعل، فمثل قول الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [ الجن : 10 ] ، وقوله تعالى في سورة الفاتحة : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 7 ] ونحو ذلك .(1/129)
وإضافته إلى السبب، كقوله : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } [ الفلق : 2 ] ، وقوله : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } [ الكهف : 79 ] ، مع قوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } [ الكهف : 82 ] ، وقوله تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، وقوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] ، وقوله تعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 165 ] وأمثال ذلك .
/ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر، و إنما يذكر الشر في مفعولاته، كقوله : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } [ الحجر : 49، 50 ] ، وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأعراف : 167 ] ، وقوله : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 98 ] ، وقوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ . وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } [ البروج : 12-14 ] ، فبين ـ سبحانه ـ أن بطشه شديد، وأنه هو الغفور الودود .(1/130)
واسم [ المنتقم ] ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء في القرآن مقيدًا كقوله تعالى : { إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } [ السجدة : 22 ] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } [ إبراهيم : 47 ] ، والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم فذكر في سياقه : ( البر التواب المنتقم العفو الرؤوف ) ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أو عن بعض شيوخه؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي، رواه عن طريق الوليد بن مسلم بسياق، ورواه غيره باختلاف في الأسماء، وفي ترتيبها يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر من روي هذا الحديث أنه عن أبي هريرة، ثم عن الأعرج، ثم عن أبي الزناد، لم يذكروا أعيان الأسماء؛ بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة ) . وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهم، ولكن روى عدد الأسماء من/ طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة، ورواه ابن ماجة، وإسناده ضعيف، يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في عدد الأسماء الحسنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة، وهذا مبسوط في موضعه .
والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسألة، فإن نفوس بني آدم لا يزال يحوك فيها من هذه المسألة أمر عظيم .(1/131)
وإذا علم العبد ـ من حيث الجملة ـ : أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علمًا وإيمانًا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه، حيث قال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح : ( لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ) ( 4 ) ، وفي الصحيحين عنه أنه قال : ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة، واحتبس عنده تسعًا وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده ) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/132)
ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمته فلا ينفونها، كما نفاها الأشعرية ونحوهم/ الذين لم يثبتوا إلا إرادة بلا حكمة، ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضى . وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة إليه سواء، لا يفرقون بالإرادة والمحبة والرضى، بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا : إنه يحبه ويرضاه كما يريده، وإذا قالوا : لا يحبه ولا يرضاه دينا قالوا : إنه لا يريده دينًا وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده . وقد قال تعالى : { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } [ النساء : 108 ] فأخبر أنه لا يرضاه، مع أنه قدره وقضاه ـ لا يوافقون المعتزلة على إنكار قدرة الله ـ تعالى ـ وعموم خلقه ومشيئته وقدرته، ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم، كما فعل هؤلاء، ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله، بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال، ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال، وقالوا : إن الله خالق كل شيء ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير . وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله .(1/133)
وقالوا : مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات، أعيانها وأفعالها، كما قال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] وكما قال : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] . وقال تعالى : / { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } [ فاطر : 19-22 ] وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات . وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد، كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] وقال تعالى : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ } [ الأعراف : 30 ] وقال تعالى : { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الإنسان : 31 ] وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [ الروم : 14-16 ] ونظائر هذا في القرآن كثيرة .(1/134)
وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف، وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله، ويأمر بالمعروف وينهون عن المنكر، لكن ضلوا في القدر، واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقًا متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته، وغلطوا في ذلك .
فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهذا حسن وصواب، لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى خرج غلاتهم إلى الإلحاد، فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] . فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث إنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شرًا غير الله ـ سبحانه ـ فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } ، فالمشركون شر من المجوس، فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين، وقد ذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم وطعامهم، ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية، وجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون الجزية وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من أحد من المشركين؛ بل قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول لله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل ) .(1/135)
والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل بين جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور والمحظور، والمؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء، وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون وكفار مكة سواء .
وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة، لا سيما/إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة و البغض والرضى والسخط، الذين يقولون : التوحيد هو توحيد الربوبية، و الإلهية عندهم هي القدرة على الاختراع، ولا يعرفون توحيد الإلهية، ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود . وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيدًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] ، قال عكرمة : تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون : الله، وهم يعبدون غيره، وهؤلاء يدعون التحقيق والفناء في التوحيد، ويقولون : إن هذا نهاية المعرفة، وإن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة . وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله .(1/136)
وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، الذين قال الله عنهم : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84-89 ] ، وقال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ . اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ العنكبوت : 61، 63 ] ، وقال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ لقمان : 25 ] ، وقال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ .(1/137)
فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ . كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ . قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ يونس : 31-35 ] ، وقال تعالى : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ . أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 60-64 ] .(1/138)
/فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم، وبيده ملكوت كل شيء، بل كانوا مقرين بالقدر أيضًا فإن العرب كانوا يثبتون القدر في الجاهلية، وهو معروف عنهم في النظم والنثر، ومع هذا فلما لم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له، بل عبدوا غيره كانوا مشركين شرًا من اليهود والنصارى . فمن كان غاية توحيده وتحقيقه هو هذا التوحيد كان غاية توحيده توحيد المشركين .
وهذا المقام مقام وأي مقام ! زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وبدل فيه دين المسلمين، والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام، على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام .
ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة القدرية المثبتين للأمر والنهي، والوعد والوعيد خير ممن يسوى بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبئ الكاذب، وأولياء الله وأعدائه . ويجعل هذا غاية التحقيق، ونهاية التوحيد، وهؤلاء يدخلون في مسمى [ القدرية ] الذين ذمهم السلف، بل هم أحق بالذم من المعتزلة ونحوهم، كما قال أبو بكر الخلال في [ كتاب السنة ] : الرد على القدرية، وقولهم إن الله أجبر العباد على المعاصي، وذكر عن المروذي قال : قلت لأبي عبد الله : رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال : هكذا لا تقول، وأنكر ذلك، وقال : { يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ المدثر : 31 ] . وذكر عن المروذي رجلاً قال : إن الله لم يجبر العباد على المعاصي . /فرد عليه آخر فقال : إن الله جبر العباد ـ أراد بذلك إثبات القدر ـ فسألوا عن ذلك أحمد ابن حنبل، فأنكر عليهما جميعًا؛ على الذي قال : جبر، وعلى الذي قال : لم يجبر حتى تاب، وأمر أن يقال : { يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ المدثر : 31 ] .(1/139)
وذكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال : أنكر سفيان الثوري [ جبر ] وقال : إن الله جبل العباد . قال المروذى : أراد قول النبى صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس ـ يعنى قوله ـ : [ إن فيك لخلقين يحبهما الله : الحلم والأناءة ] . فقال : أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : [ بل خلقين جبلت عليهما ] . فقال : الحمد لله الذي جبلنى على خلقين يحبهما .
وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال : قال الأوزاعي : أتانى رجلان فسألانى عن القدر، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما، قلت : رحمك الله، أنت أولى بالجواب، قال : فأتانى الأوزاعي ومعه الرجلان، فقال : تكلما، فقالا : قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا فى القدر ونازعناهم فيه، حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا : إن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقلت : يا هؤلاء، إن الذين آتوكم بما آتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثًا، وإنى أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه، فقال : أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق .
وذكر عن بقية بن الوليد قال : سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، / فقال الزبيدي : أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحب . وقال الأوزاعي : ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القران والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد قال مطرف بن الشخير : لم نوكل إلى القدر، وإليه نصير . وقال ضمرة بن ربيعة : لم نؤمر أن نتكل على القدر، وإليه نصير .
وقد ثبت في الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار ) . قالوا : يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : ( لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) . وهذا باب واسع .(1/140)
والمقصود هنا أن الخلال وغيره من أهل العلم أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى " القدرية " ، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي، فكيف بمن يحتج به على المعاصي ؟ ! ومعلوم أنه يدخل فى ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له، فإن ضلال هذا أعظم؛ ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة فى كلام غير واحد من السلف . وروي فى ذلك حديث مرفوع؛ لأن كلا من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد، فإلارجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم/ والقدري إن احتج به كان عونًا للمرجئ، وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى .
ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصدق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ النساء : 64 ] ، وقال تعالى : { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، والإيمان بالقدر من تمام ذلك . فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضًا للأمر فقد أذهب الأصل .(1/141)
ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل هؤلاء قولهم متناقض لا يمكن أحدًا منهم أن يعيش به، ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق، ولا يتعاشر عليه اثنان؛ فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد، وإلا فليس حجة لأحد . فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك، فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر . ومن ادعى أن العارف إذا شهد القدر سقط عنه الأمر كان هذا الكلام من الكفر الذي لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع؛ فإن الجائع يفرق بين الخبز والتراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب، فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه، والجميع مخلوق لله تعالى، فالحي ـ وإن/ كان من كان ـ لابد أن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره، وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه . وهذا حقيقة الأمر والنهي، فإن الله ـ تعالى ـ أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم .(1/142)
والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع؛ فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره، يستند إليه في الذنوب والمعائب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعائب، كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 22، 23 ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ، قال بعض السلف : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم . قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 135 ] .(1/143)
وقد ذكر الله تعالى عن آدم ـ عليه السلام ـ أنه لما فعل ما فعل قال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وعن إبليس أنه قال : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] ، فمن تاب أشبه/ أباه آدم، ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس، والحديث الذي في الصحيحين في احتجاج آدم وموسى ـ عليهما السلام ـ لما قال له موسى : ( أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وعلمك أسماء كل شيء، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبًا علي قبل أن أُخلق { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، قال : بكذا وكذا سنة . قال : فحج آدم موسى ) . وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبى هريرة، وقد روى بإسناد جيد من حديث عمرـ رضي الله عنه .(1/144)
فآدم ـ عليه السلام ـ إنما حج موسى؛ لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه له لأجل حق الله في الذنب، فإن آدم كان قد تاب من الذنب، كما قال تعالي : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ طه : 122 ] ، وموسى ـ ومن هو دون موسى ـ عليه السلام ـ يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب . وموسى ـ عليه السلام ـ أعلم بالله ـ تعالى ـ من أن يقبل هذه الحجة، فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر وفاجر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم على موسى؛ لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك، وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه .(1/145)
/وقد قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ، وقال أنس : خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته، لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته ؟ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول : ( دعوه، فلو قضى شيء لكان ) ، وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا ولا امرأة ولا دابة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) ، ففي أمر الله ونهيه يسارع إلى الطاعة، ويقيم الحدود على من تعدى حدود الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا آذاه مؤذٍ أو قصر مقصر في حقه، عفا عنه، ولم يؤاخذه نظرًا إلى القدر .
فهذا سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وهذا واجب فيما قدر من المصائب بغير فعل آدمي كالمصائب السماوية، أو بفعل لا سبيل فيه إلى العقوبة كفعل آدم ـ عليه السلام ـ فإنه لا سبيل إلى لومه شرعًا ـ لأجل التوبة ـ ولا قدرًا؛ لأجل القضاء والقدر، وأما إذا ظلم رجل رجلاً، فله أن يستوفى مظلمته على وجه العدل، وإن عفا عنه كان أفضل له، كما قال تعالى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [ المائدة : 45 ] .(1/146)
/وأما الصنف الثالث، فهم الذين لا ينظرون إلى القدر، لا في المعائب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد، بل يضيفون ذلك كله إلى العبد، وإذا أساؤوا استغفروا، وهذا حسن، لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى به عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم : دعوه، فلو قضى شيء لكان، لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم فلا ينظرون إليها وقد قال تعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 165 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ } [ الشورى : 48 ] .
ومن هذا قوله تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا . مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 78، 79 ] . فإن هذه الآية تنازع فيها كثير من مثبتي القدر ونفاته، هؤلاء يقولون : الأفعال كلها من الله؛ لقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } . وهؤلاء يقولون : الحسنة من الله والسيئة من نفسك؛ لقوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } .(1/147)
وقد يجيبهم الأولون بقراءة مكذوبة : [ فمن نفسك ؟ ] بالفتح على معنى الاستفهام، وربما قدر بعضهم تقديرًا : أي أفمن نفسك ؟ وربما قدر بعضهم القول في قوله تعالى : { مَا أَصَابَكَ } فيقولون : تقدير الآية : { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } يقولون فيحرفون لفظ القرآن ومعناه، ويجعلون ما هو من قول الله ـ قول الصدق ـ من قول المنافقين الذين أنكر الله قولهم، ويضمرون في القرآن ما لا دليل على ثبوته بل سياق الكلام ينفيه؛ فكل من هاتين الطائفتين جاهلة بمعنى القرآن وبحقيقة المذهب الذي تنصره .
وأما القرآن، فالمراد منه هنا بالحسنات والسيئات : النعم والمصائب، ليس المراد الطاعات والمعاصي، وهذا كقوله تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 210 ] ، وكقوله : { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ . قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا } الآية [ التوبة : 50، 51 ] ، ومنه قوله تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] كما قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] أي : بالنعم والمصائب .(1/148)
وهذا بخلاف قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] وأمثال ذلك، فإن المراد بها : الطاعة والمعصية، وفي كل موضع ما يبين المراد باللفظ، فليس في القرآن العزيز بحمد الله تعالى إشكال، بل هو مبين . وذلك أنه إذا قال : { مَا أَصَابَكَ } وما ( مسك ) ونحو ذلك، كان من فعل غيرك بك كما قال : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وكما قال تعالى : { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } وقال تعالى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } .
/وإذا قال : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ } [ الأنعام : 160، النمل : 89، والقصص : 84 ] ، كانت من فعله؛ لأنه هو الجائي بها، فهذا يكون فيما فعله العبد لا فيما فعل به، وسياق الآية يبين ذلك، فإنه ذكر هذا في سياق الحض على الجهاد وذم المتخلفين عنه فقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا . وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا . وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ النساء : 71-73 ] .(1/149)
فأمر ـ سبحانه ـ بالجهاد وذم المثبطين، وذكر ما يصيب المؤمنين تارة من المصيبة فيه، وتارة من فضل الله فيه، كما أصابهم يوم أحد مصيبة فقال : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 165 ] ، وأصابهم يوم بدر فضل من الله بنصره لهم وتأييده، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] ، ثم إنه ـ سبحانه ـ قال : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا . وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } إلى قوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } [ النساء : 74-78 ] ، فهذا من كلام الكفار والمنافقين، إذا أصابهم نصر وغيره من النعم قالوا : هذا من عند الله، وإن أصابهم ذل وخوف وغير ذلك من المصائب قالوا : / هذا من عند محمد بسبب الدين الذي جاء به، فإن الكفار يضيفون ما أصابهم من المصائب إلى فعل أهل الإيمان .(1/150)
وقد ذكر نظير ذلك في قصة موسى وفرعون، قال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [ الأعراف : 130، 131 ] ، ونظيره قوله تعالى في سورة يس : { قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ يس : 16-18 ] ، فأخبر الله ـ تعالى ـ أن الكفار كانوا يتطيرون بالمؤمنين فإذا أصابهم بلاء جعلوه بسبب أهل الإيمان، وما أصابهم من الخير جعلوه لهم من الله ـ عز وجل ـ فقال تعالى : { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [ النساء : 78 ] ، والله ـ تعالى ـ نزل أحسن الحديث، فلو فهموا القرآن لعلموا أن الله أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أمر بالخير ونهى عن الشر، فليس فيما بعث الله به رسله ما يكون سببًا للشر، بل الشر حصل بذنوب العباد، فقال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } [ النساء : 79 ] ، أي : ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله نعمة أنعم بها عليك، وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة، فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى، ومن عليك بالإيمان وزينه في قلبك وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان .(1/151)
وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي ـ حديث أبي ذر ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : ( ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم/ ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) وفي الحديث الصحيح ـ سيد الاستغفار ـ أن يقول العبد : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت . أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي . فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه ذلك دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
ثم قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } [ النساء : 79 ] من ذل وخوف وهزيمة كما أصابهم يوم أحد : { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنوبك وخطاياك، وإن كان ذلك مكتوبًا مقدرًا عليك، فإن القدر ليس حجة لأحد، لا على الله ولا على خلقه، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقب ظالم، ولم يقاتل مشرك، ولم يقم حد، ولم يكف أحد عن ظلم أحد . وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرورة فساده للعالم بصريح المعقول . المطابق لما جاء به الرسول .
فالقدر يؤمن به ولا يحتج به، فمن لم يؤمن بالقدر ضارع المجوس، ومن احتج به ضارع المشركين، ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهًا بإبليس، فإن الله ذكر عنه : أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه وهواه، وأنه قال : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } [ الحجر : 39 ] .(1/152)
وقد ذكر طائفة من أهل الكتاب وبعض المصنفين في المقالات كالشهرستاني/ أنه ناظر الملائكة في ذلك معارضًا لله تعالى في خلقه وأمره، لكن هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات، ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه، ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبونه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقونه ) .
ويشبه ـ والله أعلم ـ أن تكون تلك المناظرة من وضع بعض المكذبين بالقدر إما من أهل الكتاب وإما من المسلمين، والشهرستاني نقلها من كتب المقالات، والمصنفون في المقالات ينقلون كثيرًا من المقالات من كتب المعتزلة كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة، فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفًا في هذا الباب؛ ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم فوضعوا هذه المناظرة على لسان إبليس، كما رأينا كثيرًا منهم يضع كتابًا أو قصيدة على لسان بعض اليهود أو غيرهم، ومقصودهم بذلك الرد على المثبتين للقدر، يقولون : إن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بالتكذيب بالقدر، كما وضعوا في مثالب ابن كلاب أنه كان نصرانيًا؛ لأنه أثبت الصفات، وعندهم من أثبت الصفات فقد أشبه النصارى وتتلقى أمثال هذه الحكايات بالقبول من المنتسبين إلى السنة ممن لم يعرف حقيقة أمرها .
والمقصود هنا، أن الآية الكريمة حجة على هؤلاء . وهؤلاء حجة على من يحتج بالقدر، فإن الله تعالى أخبر أنه عذبهم بذنوبهم، فلو كانت حجتهم مقبولة/ لم يعذبهم بذنوبهم، وحجة على من كذب بالقدر، فإنه ـ سبحانه ـ أخبر أن الحسنة من الله، وأن السيئة من نفس العبد، والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية كما هو المحدث للطاعة، والله عندهم ما أحدث لا هذا ولا هذا، بل أمر بهذا ونهى عن هذا .(1/153)
وليس عندهم لله نعمة أنعمها على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار، فعندهم أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية؛ إذ كل منهما أرسل إليه الرسول، وأقدر على الفعل، وأزيحت علته، لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها، وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذلك المؤمن ولا خصه بنعمة آمن لأجلها، وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله، كما حببه إلى المؤمنين كعلي ـ رضي الله عنه ـ وأمثاله، وزينه في قلوب الطائفتين، وكرَّه الكفر والفسوق والعصيان إلى الطائفتين سواء، لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها، وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم .
ومن توهم عنهم أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد، فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله، فإن أصل قولهم : إن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية، كلاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه الله بإرادة خلقها فيه، ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم وكانت الآية حجة عليهم/ لا لهم؛ لأنه تعالى قال : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [ النساء : 78 ] ، وعندهم ليس الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند الله بل كلاهما من العبد، وقوله تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، مخالف لقولهم؛ فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله ـ سبحانه .(1/154)
وكذلك من احتج من مثبتة القدر بالآية على إثباته إذا احتج بقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [ النساء : 78 ] كان مخطئًا، فإن الله ذكر هذه الآية ردًا على من يقول : الحسنة من الله والسيئة من العبد، ولم يقل أحد من طوائف الناس : إن الحسنة المفعولة من الله، والسيئة المفعولة من العبد .
وأيضًا، فإن نفس فعل العبد وإن قال أهل الإثبات : إن الله خلقه، وهو مخلوق له ومفعول له؛ فإنهم لا ينكرون أن العبد هو المتحرك بالأفعال، وبه قامت، ومنه نشأت، وإن كان الله خلقها .
وأيضًا، فإن قوله بعد هذا : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] يمتنع أن يفسر بالطاعة والمعصية، فإن أهل الإثبات لا يقولون : إن الله خالق إحداهما دون الأخرى، بل يقولون : إن الله خالق لجميع الأفعال وكل الحوادث .
ومما ينبغي أن يعلم : أن مذهب سلف الأمة ـ مع قولهم : الله خالق كل/ شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير وأنه هو الذي خلق العبد هلوعًا . إذا مسه الشر جزوعًا . وإذا مسه الخير منوعًا ونحو ذلك ـ إن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة . قال تعالى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 28، 29 ] وقال تعالى : { هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [ الإنسان : 29، 30 ] وقال تعالى : { كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [ المدثر : 54-56 ] .(1/155)
وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر . فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة : الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة . والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا تكون فعلا له .
وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر : بل هي فعله وليست أفعالا للعباد، بل هي كسب للعبد . وقالوا : إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها . وأن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارنًا لها . فيكون الفعل خلقًا من الله إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد لوقوعه مقارنًا لقدرته، وقالوا : إن العبد ليس محدثًا لأفعاله ولا موجدًا لها . ومع هذا فقد يقولون : إنا لا نقول بالجبر المحض، بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة .
/وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق، فقالوا : الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة . وقالوا ـ أيضًا ـ : الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه .
فقال لهم الناس : هذا لا يوجب فرقًا بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وأحدث وصنع وعمل ونحو ذلك؛ فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضًا مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة .
وأيضًا، فهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجًا عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين : أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك .
والثاني : أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها ولا يكون شيء من مقدورها خارجًا عن محلها . وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه .
وأيضا، فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجًا عن المحل .(1/156)
وأيضًا، قال لهم المنازعون : من المستقر في فطر الناس أن من فعل/ العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك؛ لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم، قالوا : وهذا كما قلتم أنتم وسائر الصفاتية، من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم، ومن قامت به القدرة فهو قادر، ومن قامت به الحركة فهو متحرك، ومن قام به التكلم فهو متكلم، ومن قامت به الإرادة فهو مريد، وقلتم : إذا كان الكلام مخلوقًا، كان كلامًا للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات، فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها ـ أيضًا ـ من فعل الأفعال .
وقالوا ـ أيضًا ـ : القرآن مملوء بذكر إضافة هذه الأفعال إلى العباد كقوله تعالي : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17، والواقعة : 24 ] ، وقوله : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ، وقوله : { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ } [ التوبة : 105 ] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ البقرة : 277، يونس : 9، هود : 32 ] وأمثال ذلك .
وقالوا ـ أيضًا ـ : إن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنة له أو سيئة، فلو لم يكن إلا فعل غيره، لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها .
وفي المسألة كلام ليس هذا موضع بسطه، لكن ننبه على نكت نافعة في هذا الموضع المشكل، فنقول :(1/157)
/قول القائل : هذا فعل هذا، وفعل هذا، لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، و تارة يراد به مسمي المصدر، فيقول : فعلت هذا أفعله فعلًا، وعملت هذا أعمله عملًا، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمي المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمي المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالي : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } [ سبأ : 13 ] ، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالي : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96 ] ، فإنه في أصح القولين ( ما ) بمعني الذي، والمراد به : ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالي : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95، 96 ] أي : والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خالق كل صانع وصنعته ) ، لكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال : إذا كان خالقًا لما يعملونه من المنحوتات، لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثانًا بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم، وإذا كان خالقًا للتأليف، كان خالقًا لأفعالهم .
والمقصود أن لفظ [ الفعل ] و [ العمل ] و [ الصنع ] أنواع، وذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة تقع على نفس مسمي/ المصدر، وعلي المفعول، وكذلك لفظ : [ التلاوة ] و [ القراءة ] و [ الكلام ] و [ القول ] يقع على نفس مسمي المصدر وعلي ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء المتلو، كما يراد بها مسمي المصدر .(1/158)
والمقصود هنا أن القائل إذا قال : هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد؛ فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعني المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق .
ثم من هؤلاء من قال : إنه ليس لله فعل يقوم به، فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه .
وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا فيقولون : هذه مخلوقة لله مفعولة لله ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهي فعله القائم به، وهي أيضًا مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول، فمن لم يفرق في حق الرب تعالي بين الفعل والمفعول إذا قال : إنها فعل الله تعالي وليس لمسمي فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلًا للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولي، وبعض هؤلاء قال : هي فعل للرب وللعبد فأثبت مفعولًا بين فاعلين .
قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى :
في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس، وقوله : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] ، و قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } إلى قوله : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ، فإنه ينفي التحريم عن غيرها، ويثبته لها، لكن هل أثبتها للجنس أو لكل واحد من العلماء كما يقال : إنما يحج المسلمون، وذلك أن المستثنى هل هو مقتضى، أو شرط ؟
ففي الآية وأمثالها هو مقتضى فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل ليس بتام العلم، تبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم .(1/159)
وإذا كان كذلك فعدم العلم ليس شيئًا موجودًا، بل هو مثل عدم القدرة وعدم السمع وعدم البصر، والعدم ليس شيئًا، وإنما الشىء الموجود ـ والله خالق كل شىء ـ فلا يضاف العدم المحض إلى الله تعالى، لكن قد /يقترن به موجود، فإذا لم يكن عالمًا، والنفس بطبعها تحركه فإنها حية، والحركة الإرادية من لوازم الحياة، ولهذا أصدق الأسماء : الحارث والهمام، وفي الحديث : ( مثل القلب مثل ريشة ملقاة ) إلخ، وفيه : ( القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا ) ، فإذا كان كذلك، فإن هداها الله علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها وتركت ما يضرها، والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين؛ هما أصل السعادة :
أحدهما : أن كل مولود يولد على الفطرة، كما في الصحيحين، ولمسلم عن عياض ابن حمار مرفوعًا : ( إني خلقت عبادي حنفاء ) الحديث، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها من يزين لها من شياطين الإنس والجن، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية [ الأعراف : 172 ] ، وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع .(1/160)
الثاني : أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة، بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلى قوله : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1-5 ] ، وقال تعالى : { الرَّحْمنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1-4 ] ، وقال تعالى : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1-3 ] ، وقال : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك .
/لكن قد يعرض الإنسان عن طلب علم ما ينفعه وذلك الإعراض أمر عدمي، لكن النفس من لوازمها الإرادة والحركة فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها أن تحيا الحياة النافعة فتعبد الله، ومتى لم تحى هذه الحياة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبًا لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة،ولا ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى : { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } [ الأعلى : 13 ] ، فالجزاء من جنس العمل لما كان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة ولا ميتًا عديم الإحساس، كان في الآخرة كذلك، والنفس إن علمت الحق وأرادته، فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة؛ فهذا تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده وهذا عدم .(1/161)
والقدرية يعترفون بهذا، وبأن الله خلق الإنسان مريدًا، لكن يجعلونه مريدًا بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريدًا لهذا المعين وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقا لله، وغلطوا بل الله خالق هذا كله، وهو الذي ألهم النفس فجورها وتقواها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم آت نفسي تقواها ) إلخ، والله ـ سبحانه ـ جعل إبراهيم وأهل بيته أئمة يدعون بأمره، وجعل آل فرعون أئمة يدعون إلى النار، ولكن هذا إلى الله لوجهين من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه :
/أما العلة الغائية، فإنه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير، وإن كان شرًا إضافيًا، فإذا أضيف مفردًا توهم المتوهم مذهب جهم بن صفوان : أن الله خلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد، لا لحكمة ولا لرحمة، والكتاب والسنة والاعتبار يبطل هذا، كما إذا قيل : محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض؛ كان هذا ذما لهم، وكان باطلاً، وإذا قيل : يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ويقتلون من منعهم من ذلك؛ كان هذا مدحًا لهم وكان حقًا .
فإذا قيل : إن الرب ـ تعالى ـ حكيم رحيم أحسن كل شىء خلقه وهو أرحم الراحمين، والخير بيديه والشر ليس إليه، لا يفعل إلا خيرًا، وما خلقه من ألم لبعض الحيوان، ومن أعماله المذمومة، فله فيه حكمة عظيمة ونعمة جسيمة، كان هذا حقًا وهو مدح للرب .
وأما إذا قيل : يخلق الشر الذي لا خير فيه، ولا منفعة لأحد، ولا له فيه حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب، لم يكن مدحًا له بل العكس، وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة وما لم نعلم أعظم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقا .(1/162)
وقد ذكرنا في غير هذا أن ما خلقه فهو نعمة يستحق عليها الشكر، وهو من آلائه؛ ولهذا قال في آخر سورة النجم : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ،/ وفي سورة الرحمن يذكر : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ونحو ذلك، ويقول عقبه : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال طائفةـ واللفظ للبغوي ـ ثم ذكر قوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] قال : كل ما ذكر الله عز وجل من قوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، فإنه مواعظ وهو نعمة؛ لأنه يزجر عن المعاصي، وقال آخرون منهم : الزجاج، وابن الجوزي، في الآيات، أي : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } بهذه الأشياء؛ لأنها كلها نعم في دلالتها إياكم على توحيده ورزقه إياكم ما به قوامكم، هذا قالوه في سورة الرحمن، وقالوا في قوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ، فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تشكك، وقيل : تشك وتجادل، وقال ابن عباس : تكذب .(1/163)
قلت : ضمن تتمارى معنى تكذِّب؛ ولهذا عداه بالتاء، فإنه تفاعل من المراء، يقال : تمارينا في الهلال، ومراء في القرآن كفر، وهو يكون لتكذيب وتشكيك، ويقال : لما كان الخطاب لهم، قال : تتمارى، أي يتمارون، ولم يقل : تمتري؛ لأن التفاعل يكون بين اثنين . قالوا : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] ، قيل : الوليد بن المغيرة، فإنه قال : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى . أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ النجم : 36-38 ] ، ثم التفت إليه فقال : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } كما قال : { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 14-16 ] .
ففي كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه/ يستحق أن يحمد عليها لذاته، فجميع المخلوقات فيها إنعام إلى عباده كالثقلين المخاطبين بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } من جهة أنها آيات يحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه؛ ولهذا قال عقيبه : { هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى } [ النجم : 56 ] قيل : محمد، وقيل : القرآن، وهما متلازمان، يقول : هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل، والكتب الأولى . وقوله : { مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى } ، أي : من جنسها، فأفضل النعم نعمة الإيمان، وكل مخلوق فهو من الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] ، وقال : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ ق : 8 ] .(1/164)
وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ لأنه يكفر خطاياه ويثاب عليه بالصبر، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد، { وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } الآية [ البقرة : 216 ] ، وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر؛ فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لما كان في السراء اللذة، وفي الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء، قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } إلى قوله : { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآية [ هود : 9-11 ] .
/وأيضًا، صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، وأما صبر السراء فقد يكون مستحبًا، وصاحب الضراء قد يكون الشكر في حقه مستحبًا، واجتماع الشكر والصبر يكون مع تألم النفس وتلذذها، وهذا حال يعسر على كثير وبسطه له موضع آخر .(1/165)
والمقصود أن الله ـ تعالى ـ منعم بهذا كله؛ وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون،وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة،وهي نعمة على غيره لما يحصل له بها من الاعتبار، ومن هذا قوله : " اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل غيري أسعد بما علمتني مني " ، وفي دعاء القرآن : { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ يونس : 85 ] ، وكما فيه : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . واجعلنا أئمة لمن يقتدى بنا، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا، والآلاء في اللغة هي النعم، وهي تتضمن القدرة .
والله ـ تعالى ـ في القرآن يذكر آياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر آياته التي فيها نعمه إلى عباده، ويذكر آياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة، لكن نعمة الانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا استدل بها في [ سورة النحل ] ، وتسمى [ سورة النعم ] ، كما قاله قتادة وغيره . وعلى هذا فكثير من الناس يقول : الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وغيرها، والشكر أعم من جهة أنواعه، فإنه يكون /بالقلب واللسان واليد، فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة، لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال .
لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم، والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا، وكذلك القدرية الذين يقولون : لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق، فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة، والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، وحقيقة مذهبهم : أنه لا يستحق الحمد؛ فله ملك بلا حمد، كما أن عند المعتزلة له نوع من الحمد بلا ملك، وعند السلف له الملك والحمد تامين .(1/166)
قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] ، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل وله العزة والحكمة، وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة نقص الرب بعض حقه .
والجهمي الجبري لا يثبت عدلاً ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته، والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلا ولا عزة ولا حكمة، وإن قال : إنه يثبت حكمة ما، معناها يعود إلى غيره، فتلك لا تكون حكمة، فمن فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره، فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم، وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر والحمد،/ وإن كان على نعمة وعلى حكمة، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر .
ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجردًا إذ كان نوعًا من الشكر، وشرع الحمد الذي هوالشكر مقولا أمام كل خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر مع التوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد . والباقيات الصالحات نوعان : فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وقد قال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ غافر : 14 ] ، { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ، وهل الحمد على الأمور الاختيارية كما قيل في العزم، أم عام ؟ فيه نظر ليس هذا موضعه .(1/167)
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول : [ ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولامعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) هذا لفظ الحديث . و [ أحق ] أفعل التفضيل، وقد غلط فيه طائفة فقالوا : حق ما قال العبد، وهذا ليس بسديد، فإن العبد يقول الحق والباطل؛ بل حق ما يقوله الرب، كما قال : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ ص : 84 ] ، ولكن أحق خبر مبتدأ محذوف، أي : الحمد أحق ما قال العبد، ففيه أن الحمد أحق ما قاله العبد، ولهذا وجب في كل صلاة .
/وإذا قيل : يخلق ما هو شر محض، لم يكن هذا موجبًا لمحبة العباد له، وحمدهم، بل العكس؛ ولهذا كثير من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم نظمًا ونثرًا، وكثير من شيوخهم وعلمائهم يذكر ذلك، وإن لم يقله بلسانه، فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة، أو يخاف من المسلمين، وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا، ويقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله، وهو خلاف ما وصف به نفسه في قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، فقوله : أحق ما قال العبد، يقتضى أن حمده أحق ما قاله العبد؛ لأنه سبحانه لا يفعل إلا الخير وهو سبحانه .
ونفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر حكمة بالغة ونعمة سابغة .
فإذا قيل : فلم لا خلقها على غير هذا الوجه ؟(1/168)
قيل : كان يكون ذلك خلقًا غير الإنسان، وكانت الحكمة بخلقه لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } إلى قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ، فعلم من الحكمة في خلق هذا مالم تعلمه الملائكة، فكيف يعلمه آحاد الناس، ونفس الإنسان خلقت، كما قال تعالى : / { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19-21 ] ، وقال : { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] ، فقد خلق خلقة تستلزم وجود ما خلق منها، لحكمة عظيمة ورحمة عميمة فهذا من جهة الغاية مع أن الشر لا يضاف إليه سبحانه .
وأما الوجه الثاني : من جهة السبب فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته، وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه؛ لكن النفس المدينة لما حصل لها من زين لها السيئات من شياطين الإنس والجن مالت إلى ذلك، وكان ذلك مركبًا من عدم ما ينفع، وهذا الأصل ووجود هذا العدم لا يضاف إلى الله ـ تعالى ـ وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها، خلقهم لحكمة، فلما كان عدم ما تصلح به هو أحد السببين، والشر المحض هو العدم المحض، وهو ليس شيئًا، والله خالق كل شىء فكانت السيئات منها باعتبار أنها مستلزمة للحركة الإرادية .
والعبد إذا اعترف أن الله خالق أفعاله، فإن اعترف إقرارًا بخلق الله لكل شىء وبكلماته التامات، واعترافًا بفقره إليه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، فخضع لعزته وحكمته، فهذا حال المؤمنين، وإن اعترف احتجاجًا بالقدر، فهذا الذنب أعظم من الأول، وهذا من أتباع الشيطان .
وهنا سؤال سأله طائفة : وهو أنه لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا /له، وقد قضى عليه السيئات، وعنه جوابان :(1/169)
أحدهما : أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث؛ ولكن ما يصيبه من النعم والمصائب؛ ولهذا قال : ( إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له ) إلخ . وهذا ظاهر اللفظ فلا إشكال .
والثاني : إن قدر دخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن ) ، فإذا قضى له بأن يحسن فهو مما يسره، فإذا قضى له بسيئة، فهو إما يستحق العقوبة إذا لم يتب،فإن تاب أبدلت حسنة فيشكر عليها،وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فيصبرعليها فيكون ذلك خيرًا له وهو قال : لا يقضى الله للمؤمن، والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب؛ بل يتوب منه فيكون حينئذ كما جاء في عدة آثار : إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة،يعمله فلا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه واستغفاره وشهوده لفقره، وفاقته إليه سبحانه .
وفي قوله : { فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] من الفوائد : أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له الخير ويدفع عنه الشر؛ ولهذا كان أنفع/ الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .(1/170)
فإنه إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه؛ ولهذا أمر به في كل صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن المأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فيها من الجهل والظلم الذي يقتضى شقاءها في الدنيا، والآخرة، فيعلم أن الله تعالى بفضله ورحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر .
ومما يبين ذلك أن الله ـ تعالى ـ لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى والحكم، فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل ـ فرعون ومن قبله ـ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ لكن الأمر كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] ، وقال : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، وقال تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] ، وقال : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } [ التوبة : 30 ] ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : / ( لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) ، قالوا : يارسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) ،وقال : ( لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر،وذراعًا بذراع ) . قالوا : يا رسول الله، فارس والروم ؟ قال : ( فمن ؟ ) ، وكلا الحديثين في الصحيحين .(1/171)
ولما كان في غزوة حنين، كان للمشركين سدرة يعلقون عليها أسلحتهم، فقال بعض الناس : يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قال أصحاب موسى : { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 38 ] ، إنها سنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) .
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله فأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة له سبحانه، أو إلها من دونه، وكل هذين وقع، فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا، وهذا إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان، قال بعض العارفين : ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، إلا أنه قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر .
/وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] ، والناس عنده كما هم عند ملوك الكفار من الترك وغيرهم : [ يال، ياغي ] ، أي صديقي وعدوي، فمن وافق هواهم، كان وليًا وإن كان كافرًا، وإن لم يوافقه، كان عدوا وإن كان من المتقين، وهذه حال فرعون .(1/172)
والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية وجحود الصانع، وهؤلاء وإن أقروا بالصانع، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه، كما عادى فرعون موسى ـ عليه السلام ـ وكثير من الناس عنده عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد، بل تطلب نفسه ما هو عنده، فإذا كان مطاعًا مسلمًا طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل .
وإن كان عالمًا أو شيخًا أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسدًا وبغيًا، كما فعلت اليهود لما بعث الله تعالى من يدعو إلى مثل ما دعى إليه /موسى قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } الآية [ البقرة : 91 ] ، وقال : ّ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وقال : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [ الشورى : 14 ] ؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ } الآية [ القصص : 4 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 38 ] .(1/173)
والله ـ سبحانه ـ إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقد أمر الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه فقال : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية [ المؤمنون : 51، 52 ] .
قال قتادة : أي : دينكم واحد، وربكم واحد، والشريعة مختلفة، وكذلك قال الضحاك . وعن ابن عباس : أي دينكم دين واحد، قال ابن أبي حاتم، وروى عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن نحو ذلك . قال الحسن : بين لهم ما يتقون، وما يأتون، ثم قال : إن هذه سنتكم سنة واحدة، وهكذا قال/ جمهور المفسرين، والأمة : الملة والطريقة، كما قال : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] ، كما تسمى الطريق إمامًا، لأن السالك فيها يؤتم به، فكذلك السالك يؤمه ويقصده، والأمة أيضًا : معلم الخير الذي يأتم به الناس، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ جعله الله إمامًا، وأخبر أنه كان أمة .(1/174)
وأمر الله ـ تعالى ـ الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحدًا، لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين : ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد ) ، وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } الآية [ الشورى : 13 ] ؛ ولهذا كان يصدق بعضهم بعضا لا يختلفون مع تنوع شرائعهم،فمن كان من المطاعين من الأمراء والعلماء والمشايخ متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بما أمر به ودعا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه، فإن الله يحب ذلك، فيحب ما يحبه الله؛ لأن قصده عبادة الله وحده، وأن يكون الدين لله، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك؛ فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون وأشباهه، فمن طلب أن يطاع دون الله فهذا حال فرعون، ومن طلب أن يطاع مع الله فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والله ـ سبحانه ـ أمر ألا يعبد إلا إياه ولا يكون الدين إلا له، وتكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به .
فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل؛ ليكون الدين لله لا له، /فإذا أمر غيره بمثل ذلك، أحبه وأعانه وسر به؛ وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسنًا فيرى أن عمله لله وبالله، وهذا مذكور في الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا، ولا يمن عليه بذلك، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، فعليه أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك أن يشكر الله إذ يسر له ما ينفعه، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو ليجزيه بطاعته له وتعظيمه إياه أو نفع آخر، وقد يمن عليه فيقول : أنا فعلت وفعلت بفلان فلم يشكر ونحو ذلك، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، فلا عمل لله ولا عمل به، فهو كالمرائي .(1/175)
وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي، فقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 264، 265 ] . قال قتادة : تثبيتًا من أنفسهم : احتسابًا من عند أنفسهم . وقال الشعبي : يقينًا وتصديقًا من أنفسهم . وقيل : يخرجونها طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه . قلت : إذا كان المعطي محتسبًا للأجر من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه .(1/176)
/الفرق السادس : أن ما يبتلى به من الذنوب وإن كان خلقًا لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله له وفطره عليه، فإنه خلقه لعبادته وحده، ودل عليه الفطرة، فلما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه، عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، قال تعالى : { اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا } إلى قوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الإسراء : 63-65 ] ، وقال تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 99، 100 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } [ الأعراف : 201، 202 ] .(1/177)
فتبين أن الإخلاص يمنع من تسلط الشيطان، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فكان إلهامه لفجوره عقوبة له وعدم فعل الحسنات ليس أمرًا موجودًا حتى يقال : إن الله خلقه، ومن تدبر القرآن، تبين له أن عامة ما يذكر الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل، كقوله تعالى : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية [ الأنعام : 125 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وقال : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 8-10 ] ، وهذا وأمثاله يذكر فيه أعمالاً عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور، ولابد لهم من حركة وإرادة، فلما لم يتحركوا بالحسنات، حركوا/ بالسيئات عدلاً من الله، كما قيل : نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل .
وهذا الوجه إذا حقق يقطع مادة كلام طائفتي القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون : خلقها لذلك، والتعذيب لهم ظلم، يقال لهم : إنما أوقعهم فيها وطبع على قلوبهم عقوبة لهم، فما ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم، يقال : ظلمته، إذا نقصته حقه، قال تعالى : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } [ الكهف : 33 ] .(1/178)
وكثير منهم يسلمون أن الله خلق من الأعمال ما يكون جزاء على عمل متقدم، ويقولون : خلق طاعة المطيع لكن ما خلق شيئًا من الذنوب ابتداء، بل جزاءً ،فيقولون : أول ما يفعل العبد لم يحدثه الله، وما ذكرنا يوجب أن يكون الله خالق كل شىء، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له، والعدم لا يضاف إلى الله، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركًا والشيطان مسلط عليه .
ثم تخصيصه ـ سبحانه ـ لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل؛ ولهذا يقول تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 105 ] ، وكذلك الفضل هو أعلم به، كما خص بعض الأبدان/ بقوى لا توجد في غيرها، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية، وغير ذلك من حكمته، وتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب .
ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] هذا من تمام قوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] ، فذكر أن هذا التقليب يكون لمن لم يؤمنوا به أول مرة، وهذا عدم الإيمان، لكن يقال : هذا بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وقد كذبوا وتركوا الإيمان، وهذه أمور وجودية؛ لكن الموجب هو عدم الإيمان، وما ذكر شرط في التعذيب، كإرسال الرسول، فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح لا يستحق به العقوبة، إلا لأنه شغله عن الإيمان، ومن الناس من يقول ضد الإيمان هو تركه، وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك .(1/179)
الفرق السابع : أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إلا ذنبه الذي من نفسه، وما يصير من الخير لا تنحصر أسبابه؛ لأنه من فضل الله يحصل بعمله وبغيره عمله، وعمله من إنعام الله عليه، وهو ـ سبحانه ـ لا يجزيه بقدر العمل، بل يضاعفه، فلا يتوكل إلا على الله ولا يرجع إلا إليه، فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، وإنما يستحق غيره من الشكر ما يكون جزاء على ما يسره الله على يديه من الخير، كشكر الوالدين، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ لكن لا يبلغ من قول أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية الله أو يطاع بمعصيته، فإنه هو/ المنعم، قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] ، وقال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [ الجاثية : 31 ] ، وجزاؤه على الطاعة والشكر وعلى المعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله؛ فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } الآية [ العنكبوت : 8 ] ، وفي الآية الأخرى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [ لقمان : 15 ] .
والمقصود أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، صار توكله ورجاؤه له سبحانه، وإذا علم ما يستحقه من الشكر الذي لا يستحقه غيره .(1/180)
والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يأتي، فاستغفر واستعان بالله واستعاذ به مما لم يعمل بعد؛ كما قال من قال من السلف : لا يرجْوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وهذا خلاف قول الجهمية الذين يقولون : يعذب بلا ذنب، ويخافونه ولو لم يذنبوا، فإذا صدق بقوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، علم بطلان هذا القول، وقد تقدم قول ابن عباس وغيره : إن ما أصابهم يوم أحد كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحدا، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص .
/الفرق الثامن : أن السيئة إذا كانت من النفس،والسيئة خبيثة مذمومة،ووصفها بالخبث في مثل قوله : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } [ النور : 26 ] ، قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثة للخبيثين، وقال بعضهم : الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً } إلى قوله : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } [ إبراهيم : 24-26 ] ، وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل، فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث، لم يكن محلها إلا ما يناسبها، فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح، ومن أراد أن يجعل الكذاب شاهدا لم يصلح، وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلمًا، أو الأحمق سائسًا، فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة، بل إذا كان في النفس خبث طهرت، وهذبت، كما في الصحيح : ( إن المؤمنين إذا نجوا من النار وقفوا على قنطرة ) الحديث .(1/181)
وإذا علم أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [ الزلزلة : 7، 8 ] ، وعلم أن الرب جارية أفعاله على قانون العدل والإحسان، وفي الصحيح : ( يمين الله ملأى ) الحديث، وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة، وهو ـ سبحانه ـ قد شهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط، وهم قصدوا مناقضة/المعتزلة في القدر والوعيد؛ فلهذا سلك مسلك جهم من ينتسب إلى السنة والحديث وأتباع السلف، وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد، مسلك المرجئة الغلاة،جهم وأتباعه، وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة :
نوع في الأسماء والصفات، فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم، والمعتزلة في الصفات دون الأسماء، والكلابية ومن وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث في نفي الصفات الاختيارية، والكَرَّامية ونحوهم وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا إذا شاء، وفعّالاً إذا يشاء لامتناع حوادث لا أول لها، وعن هذا الأصل نفي وجود ما لا يتناهي في المستقبل، وقال بفناء الجنة والنار، ووافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال تتناهى الحركات .(1/182)
فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات . وكذلك الأشعرية، ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري : الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة، ومن الناس من يقول : المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، والشهرستاني يذكر أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأنه إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية معهم بخلاف أئمة السنة، فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند/ السلف بنفي الصفات، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف .
وأما المعتزلة، فامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدثه عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن .
وبدعة القدرية حدثت قبل ذلك بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين، فبقى الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق والبصرة، وأقله كان بالحجاز فلما حدثت المعتزلة وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين، وقالوا : بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها ضموا إلى ذلك القدر فإنه به يتم .
ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئًا من نفي الصفات، إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما ـ تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ـ ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق .(1/183)
/ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأى جهم؛ ولهذا كان علماء السنة بالمشرق أكثر كلامًا في رد مذهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله بن المبارك، وأمثالهم ،وقد تكلم في ذمهم مالك وابن الماجشون وغيرهما، وكذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد وغيرهم، وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه قد كان بخراسان مدة واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمانية عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة وخافوا فأطلقوه، وكان ابن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات من جميع الطوائف . وعلماء السنة : كابن المبارك وأحمد وإسحاق والبخاري يسمون هؤلاء جميعهم جهمية، وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة، وليس كذلك، بل المعتزلة نوع منهم .
والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه بدعتان : إحداهما : نفي الصفات . والثانية : الغلو في القدر والإرجاء . فجعل/ الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة، وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما، وأما الأشعري فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية .(1/184)
وجهم لا يثبت شيئًا من الصفات، لا الإرادة ولا غيرها، فإذا قال : إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي، فمعناه الثواب والعقاب، والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها هل هي المحبة أم لا ؟ فقال : المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها، وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وأهل السنة قبله على أن الله لا يحب المعاصي .
وشاع هذا القول في كثير من الصوفية فوافقوا جهما في مسائل الأفعال والقدر، وخالفوه في الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية في نفي الصفات، وله كتاب في تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة، وربما كان يلعنهم، وقال بعض الناس بحضرة نظام الملك : أتلعن الأشعرية ؟ فقال : ألعن من يقول ليس في السموات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضبًا، وهو مع هذا في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغ من الأشعرية، لا يثبت سببًا ولا حكمة، بل يقول : إن مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأن العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء، والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد/ لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه، والالتفات إلى هذا من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق .
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا من جهة المخلوق كان أعقل منهم، فإنهم يدعون أن العارف لا يفرق، وغلطوا في حق العبد وحق الرب، أما العبد فيلزمهم أن يستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعًا، فعزلوا الفرق الرحماني، وفرقوا بالطبعي الهوائي الشيطاني، ومن هنا وقع خلق منهم في المعاصي، وآخرون في الفسوق، وآخرون في الكفر حتى جوزوا عبادة الأصنام، ثم كثير منهم ينتقل إلى الوحدة ويصرحون بعبادة كل موجود .(1/185)
والمقصود الكلام على من نفى الحكم والأسباب والعدل في القدر موافقة لجهم ـ وهي بدعته الثانية بخلاف الإرجاء، فإنه منسوب إلى طوائف غيره ـ فهؤلاء يقولون : إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه؛ ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد، بل ينحل عنه أو عن بعضه، ويتكلف لما يعتقده، فإنهم إذا وافقوا جهما والأشعري في أن الحسن والقبيح كونه مأمورًا أو محظورًا، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، وهم يدعون الفناء عن الحظوظ، فتارة يقولون في امتثال الأمر والنهي : إنه من مقام التلبيس، وتارة يقولون : يفعل هذا لأجل أهل المارستان، أي العامة، كما يقوله الشيخ المغربي، إلى أنواع أخر .
/ومن سلك مسلكهم إذا عظم الأمر والنهي غايته أن يقول كما نقل عن الشاذلي : يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي؛ مثل دعوى أن الله يعطيه على المعصية أعظم مما يعطيه على الطاعة، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات أو أفضل، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي .(1/186)
وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكبر الأولياء من يكون فاجرًا، بل كافرًا، ويقولون : هذه موهبة وعطية، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان، قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 101-103 ] .
/وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضَبّ لدخلتموه ) الحديث .(1/187)
والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره، واتبع ماتتلوه الشياطين، فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته، ويعادى من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين لهم، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين .
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين، ولكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [ النساء : 51، 52 ] ، وهؤلاء ضاهوا الذين قال الله تعالى فيهم : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } إلى قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } [ البقرة : 101، 102 ]
ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام والعلم، وأهل العبادة والتصوف، حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم والفواحش ،فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به وبكتابه إذا/ نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس وتعظيمهم له لرئاسة أو مال ينالونه، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ،واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم .(1/188)
فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له . وقال رحمه الله تعالى: فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السماوات ، وأنه خلق السماوات والأرض ليس شيئ منها خلق الناس ، كما قال موسى لفرعون لما قال له :{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23، 24] وقال {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49، 50].
قال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا .
فصل
في قوله صلى الله عليه وسلم : ( فحج آدم موسى ) لما احتج عليه بالقدر .
وبيان أن ذلك في المصائب لا في الذنوب، وأن الله أمر بالصبر والتقوى فهذا في الصبر لا في التقوى، وقال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] ، فأمر بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب .
وذلك أن بني آدم اضطربوا في هذا المقام ـ مقام تعارض الأمر والقدر ـ وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع .(1/189)
والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحيحين حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : ( احتج آدم وموسى، فقال موسى : يا آدم ؟ أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي كلمك الله تكليمًا وكتب لك التوراة . فبكم تجد فيها مكتوبًا : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، قبل أن أخلق، قال : بأربعين سنة، قال فحج آدم موسى ) .
وهو مروي ـ أيضًا ـ من طريق عمر بن الخطاب بإسناد حسن، وقد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب :
فريق كذبوا بهذا الحديث : كأبي على الجبائي وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله .
/ وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد : كقول بعضهم : إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم : لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى، وقول بعضهم : لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم : لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة .
وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، ثم لم يمكنهم طرد ذلك، فلا بد في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضر نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتج بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره كما قيل في مثل هؤلاء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء ظالمون معتدون .(1/190)
ومنهم من يقول : هذا في حق أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبية وفنوا عما سوي الله، فيرون ألا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلاً، بل لا يرون فاعلاً إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلاً فإنه يذم ويعاقب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفية المدعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم .
/قال أبو المظفر السمعاني : وأما الكلام فيما جرى بين آدم وموسى من المحاجة في هذا الشأن، فإنما ساغ لهما الحجاج في ذلك؛ لأنهما نبيان جليلان خصا بعلم الحقائق، وأذن لهما في استكشاف السرائر، وليس سبيل الخلق الذين أمروا بالوقوف عند ما حد لهم والسكوت عما طوي عنهم سبيلها، وليس قوله : ( فحج آدم موسى ) إبطال حكم الطاعة، ولا إسقاط العمل الواجب، ولكن معناه ترجيح أحد الأمرين، وتقديم رتبة العلة على السبب، فقد تقع الحكمة بترجيح معني أحد الأمرين، فسبيل قوله : ( فحج آدم موسى ) ، هذا السبيل، وقد ظهر هذا في قضية آدم، قال الله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
إلى أن قال : فجاء من هذا أن آدم لم يتهيأ له أن يستديم سكنى الجنة إلا بألا يقرب الشجرة؛ لسابق القضاء المكتوب عليه في الخروج منها، وبهذا صال على موسى عند المحاجة، وبهذا المعنى قضى له على موسى فقال : فحج آدم موسى .(1/191)
قلت : ولهذا يقول الشيخ عبد القادر ـ قدس الله روحه ـ : كثير من الرجال إذا وصلوا إلي القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعًا للقدر لا موافقًا له، وهو ـ رضي الله عنه ـ كان يعظم الأمر والنهي، ويوصي باتباع ذلك، وينهي عن الاحتجاج بالقدر، وكذلك شيخه حماد الدباس وذلك لما رأوه في/ كثير من السالكين من الوقوف عند القدر المعارض للأمر والنهي، والعبد مأمور بأن يجاهد في سبيل الله ويدفع ما قدر من المعاصي بما يقدر من الطاعة، فهو منازع للمقدور المحظور بالمقدور المأمور لله ـ تعالى ـ وهذا هو دين الله الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين .
وممن يشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة : كقول ابن سينا بأن يشهد سر القدر، والرازي يقرر ذلك؛ لأنه كان جبريًا محضًا .
وفي الجملة، فهذا المعني دائر في نفوس كثير من الخاصة من أهل العلم والعبادة فضلاً عن العامة، وهو مناقض لدين الإسلام .
ومن هؤلاء من يقول : الخضر إنما سقط عنه الملام؛ لأنه كان مشاهدًا لحقيقة القدر، ومن شيوخ هؤلاء من كان يقول : لو قتلت سبعين نبيًا لما كنت مخطئًا، ومنهم من يقول بطرد قوله بحسب الإمكان فيقول : كل من قدر على فعل شيء وفعله فلا ملام عليه، فإن قدر أنه خالف غرض غيره فذلك ينازعه، والأقوى منهما يقمر الآخر، فأيهما أعانه القدر فهو المصيب، باعتبار أنه غالب وإلا فما ثم خطأ .(1/192)
ومن هؤلاء الاتحادية الذين يقولون : الوجود واحد، ثم يقولون : / بعضه أفضل من بعض والأفضل يستحق أن يكون ربًا للمفضول، ويقولون : إن فرعون كان صادقًا في قوله : { أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وهذا قول طائفة من ملاحدة المتصوفة المتفلسفة الاتحادية، كالتلمساني، والقول بالاتحاد العام المسمى وحدة الوجود، هو قول ابن عربي الطائي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم، لكن لهم في المعاد والجزاء نزاع، كما أن لهم نزاعًا في أن الوجود هل هو شيء غير الذوات أم لا ؟ وهؤلاء ضلوا من وجوه : منها جهة عدم الفرق بين الوجود الخالق والمخلوق .
وأما شهود القدر فيقال : لا ريب أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء ومليكه، والقدر هو قدرة الله، كما قال الإمام أحمد : وهو المقدر لكل ما هو كائن، لكن هذا لا ينفي حقيقة الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من الأفعال ما ينفع صاحبه،فيحصل له به نعيم، ومنها ما يضر صاحبه فيحصل له به عذاب، فنحن لا ننكر اشتراك الجميع من جهة المشيئة والربوبية وابتداء الأمور، لكن نثبت فرقًا آخر من جهة الحكمة والأوامر الإلهية ونهاية الأمور، فإن العاقبة للتقوى، لا لغير المتقين، وقد قال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] .(1/193)
وإذا كان كذلك فحقيقة الفرق : أن من الأمور ما هو ملائم للإنسان نافع له فيحصل له به اللذة، ومنها ما هو مضاد له ضار له يحصل به الألم، فرجع/ الفرق إلى الفرق بين اللذة والألم، وأسباب هذا وهذا، وهذا الفرق معلوم بالحس والعقل، والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم، بل هذا موجود في جميع المخلوقات، وإذا أثبتنا الفرق بين الحسنات والسيئات، وهو الفرق بين الحسن والقبيح، فالفرق يرجع إلى هذا .
والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائمًا للإنسان، وبعضها منافيًا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء . وتنازعوا في الحسن والقبح، بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب، هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول، وليس هذا خارجًا عنه، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي، والمدح والثواب ملائم، والذم والعقاب مناف، فهذا نوع من الملائم والمنافي .
يبقى الكلام في بعض أنواع الحسن والقبيح لا في جميعه، ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك .
والنزاع في أمور :
منها : هل للفعل صفة صار بها حسنًا وقبيحًا، وأن الحسن العقلي هو كونه موافقا لمصلحة العالم، والقبح العقلي بخلافه، فهل في الشرع زيادة على/ ذلك ؟ وفي أن العقاب في الدنيا والآخرة هل يعلم بمجرد العقل ؟ وبسط هذا له موضع آخر .
ومن الناس من أثبت قسمًا ثالثا للحسن والقبح، وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين : كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة .(1/194)
والتحقيق : أن هذا القسم لا يخالف الأول، فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة أو الألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص فيعود الكمال،والنقص إلى الملائم والمنافي، وهذا مبسوط في موضع آخر .
والمقصود هنا أن الفرق بين الأفعال الحسنة التي يحصل لصاحبها بها لذة، وبين السيئة التي يحصل له بها ألم أمر حسي يعرفه جميع الحيوان، فمن قال من المدعين للحقيقة القدرية، والفناء في توحيد الربوبية، والاصطلام : إنه يبقي في عين الجمع بحيث لا يفرق بين ما يؤلم أو ما يلذ،، كان هذا مما يعلم كذبه فيه، إن كان يفهم ما يقول، وإلا كان ضالا يتكلم بما لايعرف حقيقته، وهو الغالب على من يتكلم في هذا .
فإن القوم قد يحصل لأحدهم هذا المشهد ـ مشهد الفناء في توحيد/ الربوبية ـ فلا يشهد فرقًا ما دام فى هذا المشهد، وقد يغيب عنه الإحساس بما يوجب الفرق مدة من الزمان، فيظن هذا الفناء مقامًا محمودًا، ويجعله إما غاية، وإما لازمًا للسالكين، وهذا غلط، فإن عدم الفرق بين ما ينعم ويعذب أحيانًا هو مثل عدم الفرق بين النوم والنسيان، والغفلة والاشتغال بشيء عن آخر وهو لا يزيل الفرق الثابت في نفس الأمر، ولا يزيل الإحساس به إذا وجد سببه .
والواحد من هؤلاء لابد أن يجوع أو يعطش، فلا يسوى بين الخبز والشراب، وبين الملح الأجاج، والعذب الفرات، بل لابد أن يفرق بينهما ويقول : هذا طيب وهذا ليس بطيب، وهذا هو الفرق بين كل ما أمر الله ورسوله به ونهى عنه، فإنه أمر بالطيب من القول والعمل، ونهى عن الخبيث .(1/195)
وإذا عرف أن المراد بالفرق هو أن من الأمور ما ينفع، ويوجب اللذة والنعيم، ومنها ما يضر ويوجب الألم والعذاب، فبعض هذه الأمور تدرك بالحس، وبعضها يدركه الناس بعقولهم لأمور الدنيا، فيعرفون ما يجلب لهم منفعة في الدنيا وما يجلب لهم مضرة، وهذا من العقل الذي ميز به الإنسان، فإنه يدرك من عواقب الأفعال مالا يدركه الحس، ولفظ العقل في القرآن يتضمن ما يجلب به المنفعة وما يدفع به المضرة .
/والله ـ تعالى ـ بعث الرسل بتكميل الفطرة، فدلوهم على ما ينالون به النعيم في الآخرة وينجون من عذاب الآخرة، فالفرق بين المأمور والمحظور هو كالفرق بين الجنة والنار، واللذة والألم، والنعيم والعذاب، ومن لم يدرك هذا الفرق، فإن كان لسبب أزال عقله هو به معذور، وإلا كان مطالبًا بما فعله من الشر وتركه من الخير .
ولا ريب أن في الناس من قد يزول عقله في بعض الأحوال، ومن الناس من يتعاطى ما يزيل العقل؛ كالخمر وكسماع الأصوات المطربة، فإن ذلك قد يقوى حتى يسكر أصحابها، ويقترن بهم شياطين، فيقتل بعضهم بعضًا في السماع المسكر، كما يقتل شراب الخمر بعضهم بعضا إذا سكروا، وهذا مما يعرفه كثير من أهل الأحوال، لكن منهم من يقول : المقتول شهيد، والتحقيق : أن المقتول يشبه المقتول في شرب الخمر، فإنهم سكروا سكرًا غير مشروع، لكن غالبهم يظن أن هذا من أحوال أولياء الله المتقين، فيبقى القتيل فيهم كالقتيل في الفتنة، وليس هو كالذي تعمد قتله،ولا هو كالمقتول ظلمًا من كل وجه .
فإن قيل : فهل هذا الفناء يزول به التكليف ؟
قيل : إن حصل للإنسان سبب يعذر فيه، زال به عقله الذي يميز به، فكان بمنزلة النائم والمغمي عليه، والسكران سكرًا لا يأثم به، كمن سكر قبل التحريم أو أوجر الخمر، أو أكره على شربها عند الجمهور، وأما إن كان السكر لسبب محرم، فهذا فيه نزاع معروف بين العلماء .(1/196)
/والذين يذكرون عن أبي يزيد وغيره كلمات من الاتحاد الخاص، ونفي الفرق ويعذرونه في ذلك يقولون : إنه غاب عقله حتى قال : أنا الحق وسبحاني وما في الجبة إلا الله، ويقولون : إن الحب إذا قوى على صاحبه وكان قلبه ضعيفًا يغيب بمحبوبه عن حبه وبموجوده عن وجده، وبمذكوره عن ذكره حتي يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ويحكون أن شخصًا ألقى بنفسه في الماء فألقى محبة نفسه خلفه، فقال : أنا وقعت، فلم وقعت أنت ؟ فقال : غبت بك عني فظننت أنك أني . فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور ليست علمًا ولا حقًا، بل غايته أنه نقص عقله الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يكون قوله تحقيقًا .
وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقًا وتوحيدًا، كما فعله صاحب منازل السائرين، وابن العريف وغيرهما، كما أن الاتحاد العام جعله طائفة تحقيقًا وتوحيدًا، كابن عربي الطائي .
وقد ظن طائفة أن الحلاج كان من هؤلاء ثم صاروا حزبين :
حزب يقول : وقع في ذلك الفناء فكان معذورًا في الباطن، ولكن قتله واجب في الظاهر، ويقولون : القاتل مجاهد، والمقتول شهيد، ويحكون عن بعض الشيوخ أنه قال : عثر عثرة لو كنت في زمنه لأخذت بيده، ويجعلون حاله من جنس حال أهل الاصطلام والفناء .
/وحزب ثان : وهم الذين يصوبون حال أهل الفناء في توحيد الربوبية، ويقولون : هو الغاية، يقولون : بل الحلاج كان في غاية التحقيق والتوحيد .
ثم هؤلاء في قتله فريقان :(1/197)
فريق يقول : قتل مظلومًا وما كان يجوز قتله، ويعادون الشرع وأهل الشرع لقتلهم الحلاج، ومنهم من يعادي جنس الفقهاء وأهل العلم، ويقولون : هم قتلوا الحلاج، وهؤلاء من جنس الذين يقولون : لنا شريعة ولنا حقيقة تخالف الشريعة، والذين يتكلمون بهذا الكلام لا يميزون ما المراد بلفظ الشريعة في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، ولا المراد بلفظ الحقيقة أو الحق أو الذوق أو الوجد أو التوحيد في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، بل فيهم من يظن الشرع عبارة عما يحكم به القاضي .
ومن هؤلاء من لا يميز بين القاضي العالم العادل والقاضي الجاهل والقاضي الظالم، بل ما حكم به حاكم سماه شريعة، ولا ريب أنه قد تكون الحقيقة في نفس الأمر التي يحبها الله ورسوله خلاف ماحكم به الحاكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه/ شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) . فالحاكم يحكم بما يسمعه من البينة والإقرار، و قد يكون للآخر حجج لم يبينها، وأمثال هذا .
فالشريعة في نفس الأمر هي الأمر الباطن، وما قضى به القاضي ينفذ ظاهرًا، وكثير من الأمور قد يكون باطنها بخلاف ما يظهر لبعض الناس، ومن هذا قصة موسى والخضر فإنه كان الذي فعله مصلحة، وهو شريعة أمره الله بها، ولم يكن مخالفًا لشرع الله، لكن لما لم يعرف موسى الباطن، كان في الظاهر عنده أن هذا لا يجوز، فلما بين له الخضر الأمور وافقه، فلم يكن ذلك مخالفًا للشرع .
وهذا الباب يقال فيه : قد يكون الأمر في الباطن بخلاف ما يظهر، وهذا صحيح، لكن تسمية الباطن حقيقة، والظاهر شريعة، أمر اصطلاحي .
ومن الناس من يجعل الحقيقة هي الأمر الباطن مطلقا، والشريعة الأمور الظاهرة .(1/198)
وهذا كما أن لفظ الإسلام إذا قرن بالإيمان أريد به الأعمال الظاهرة، ولفظ الإيمان يراد به الإيمان الذي في القلب، كما في حديث جبريل، فإذا جمع بينهما فقيل : شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، كان هذا كلامًا صحيحًا، لكن متى/أفرد أحدهما تناول الآخر، فكل شريعة ليس لها حقيقة باطنة، فليس صاحبها من المؤمنين حقًا، وكل حقيقة لا توافق الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم فصاحبها ليس بمسلم، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين .
وقد يراد بلفظ الشريعة ما يقوله فقهاء الشريعة باجتهادهم، وبالحقيقة ما يذوقه ويجده الصوفية بقلوبهم، ولا ريب أن كلا من هؤلاء مجتهدون : تارة مصيبون، وتارة مخطئون، وليس لواحد منهما تعمد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن اتفق اجتهاد الطائفتين، وإلا فليس على واحدة أن تقلد الأخرى إلا أن تأتي بحجة شرعية توجب موافقتها .
فمن الناس من يظهر أن الحلاج قتل باجتهاد فقهى يخالف الحقيقة الذوقية التي عليها هؤلاء، وهذا ظن كثير من الناس، وليس كذلك، بل الذي قتل عليه إنما هو الكفر، وقتل باتفاق الطائفتين، مثل دعواه أنه يقدر أن يعارض القرآن بخير منه، ودعواه أنه من فاته الحج أنه يبني بيتًا يطوف به، ويتصدق بشيء قدره، وذلك يسقط الحج عنه، إلى أمور أخرى توجب الكفر باتفاق المسلمين الذين يشهدون أن محمدًا رسول الله، علماؤهم وعبادهم وفقهاؤهم وفقراؤهم وصوفيتهم .
وفريق يقولون : قتل لأنه باح بسر التوحيد والتحقيق الذي ما/ كان ينبغي أن يبوح به، فإن هذا من الأسرار التي لا يتكلم بها إلا مع خواص الناس، وهي مما تطوى ولا تروى وينشدون :
من باح بالسر كان القتل شيمته ** من الرجال ولم يأخذ له ثار
باحوا بالسر تباح دماؤهم ** وكذا دماء البائحين تباح(1/199)
وحقيقة قول هؤلاء يشبه قول قائل : إن ما قاله النصارى في المسيح حق، وهو موجود لغيره من الأنبياء والأولياء، لكن ما يمكن التصريح به؛ لأن صاحب الشرع لم يأذن في ذلك، وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا، وتوحيده الذي قال فيه :
ما وحد الواحد من واحد ** إذ كل من وحده جاحد
توحيد من يخبر عن نعته ** عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ** ونعت من ينعته لا حد
فإن حقيقة قول هؤلاء : أن الموحد هو الموحد، وأن الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأنه لا يوحده إلا نفسه فلا يكون الموحد إلا الموحد، ويفرقون بين قول فرعون : { أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وبين قول الحلاج : أنا الحق وسبحاني، فإن فرعون قال ذلك وهو يشهد نفسه، فقال عن نفسه، وأما أهل الفناء فغابوا عن نفوسهم، وكان الناطق على لسانهم غيرهم .
/وهذا مما وقع فيه كثير من المتصوفة المتأخرين، ولهذا رد الجنيد ـ رحمه الله ـ على هؤلاء لما سئل عن التوحيد فقال : هو الفرق بين القديم والمحدث، فبين الجنيد ـ سيد الطائفة ـ أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرق بين الرب القديم، والعبد المحدث، لا كما يقوله هؤلاء الذين يجعلون هذا هو هذا، وهؤلاء أهل الاتحاد والحلول الخاص والمقيد، وأما القائلون بالحلول والاتحاد العام المطلق، فأولئك هم الذين يقولون : إنه بذاته في كل مكان، أو أنه وجود المخلوقات، وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضوع .
والمقصود هنا أن الحلاج لم يكن مقيدًا بصنف من هذه الأصناف، بل كان قد قال من الأقوال التي توجب الكفر والقتل باتفاق طوائف المسلمين ما قد ذكر في غير هذا الموضع، وكذلك أنكره أكثر المشايخ، وذموه : كالجنيد، وعمر بن عثمان المكي، وأبي يعقوب النهرجوري .(1/200)
ومن التبس عليه حاله منهم فلم يعرف حقيقة ما قاله ـ إلا من كان يقول بالحلول والاتحاد مطلقًا أو معينًا ـ فإنه يظن أن هذا كان قول الحلاج وينصر ذلك؛ ولهذا كانت فرقة ابن سبعين فيها من رجال الظلم جماعة منهم الحلاج، وعند جماهير المشايخ الصوفية، وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين،بل كان زنديقًا وزهده لأسباب متعددة يطول وصفها، ولم يكن من أهل الفناء في توحيد الربوبية، بل كان قد/ تعلم السحر وكان له شياطين تخدمه إلى أمور أخرى مبسوطة في غير هذا الموضع .
وبكل حال آدم لما أكل هو وحواء من الشجرة، لم يكن زائل العقل ولا فانيا في شهود القدر العام، ولا احتج على موسى بذلك، بل قال : لم تلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق ؟ فاحتج بالقدر السابق لا بعدم تمييزه بين المأمور والمحظور .
فصل
وكلا الطائفتين ، الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو والقرب منه من غير اعتبار بالأمر والنهي المنزلين من عند الله، الذين ينتهون إلى الفناء في توحيد الربوبية، يقولون بالجمع والاصطلام في توحيد الربوبية، ولا يصلون إلى الفرق الثاني، ويقولون : إن صاحب الفناء لا يستحسن حسنة، ولا يستقبح سيئة، ويجعلون هذا غاية السلوك .
والذين يفرقون بين ما يستحسنونه، ويستقبحونه ويحبونه ويكرهونه، ويأمرون به وينهون عنه، لكن بإرادتهم ومحبتهم وهواهم لا بالكتاب المنزل من عند الله، كلا الطائفتين متبع لهواه بغير هدى من الله، وكلا الطائفتين لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي ألا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما أبغضه، ويأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه، وإنك لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تسأل إلا الله، هذا ملة إبراهيم، وهذا الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين .(1/201)
/والفناء في هذا هو الفناء المأمور به، الذي جاءت به الرسل، وهو أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبرجائه وخوفه عن رجاء ما سواه وخوفه، فيكون مع الحق بلا خلق، كما قال الشيخ عبد القادر : كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس .
وتحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله، يوجب أن تكون طاعته طاعة الله وإرضاؤه إرضاء الله، ودين الله ما أمر به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ولهذا طالب الله المدعين لمحبته بمتابعته، فقال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] وضمن لمن اتبعه أن الله يحبه بقوله : { يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } وصاحب هذه المتابعة لا يبقى مريدًا إلا ما أحبه الله ورسوله، ولا كارهًا إلا لما كرهه الله ورسوله، وهذا هو الذي يحبه الحق كما قال : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه ) .(1/202)
/فهذا محبوب الحق، ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل، ومعلوم أن من كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله، ويبغض معصية الله ورسوله، فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله، ليس فيها كفر ولا فسوق، والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق، فإن الجزاء من جنس العمل، فلما لم يزل متقربًا إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الحق فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق، فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها من هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته، حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق، فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي .
وأما الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فهذا لم تبق عنده الأمور نوعان محبوب للحق، ومكروه، بل كل مخلوق فهو عنده محبوب للحق، كما أنه مراد، فإن هؤلاء أصل قولهم : هو قول جهم بن صفوان من القدرية، فهم من غلاة الجهمية الجبرية في القدر، وإن كانوا في الصفات يكفرون الجهمية نفاة الصفات، كحال أبي إسماعيل الأنصاري صاحب منازل السائرين، وذم الكلام، والفاروق وتكفير الجهمية وغير ذلك، فإنه في باب إثبات الصفات في غاية المقابلة للجهمية والنفاة، وفي باب الأفعال والقدر قوله يوافق الجهم ومن اتبعه من غلاة الجبرية، وهو قول الأشعري وأتباعه، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث والصوفية .(1/203)
/فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة، وهم مصيبون في ذلك، وخالفوا القدرية من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر، ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم ابن صفوان وأتباعه فزعموا : أن الأمور كلها لم تصدر إلا عن إرادة تخصيص أحد المتماثلين بلا سبب . وقالوا : الإرادة والمحبة والرضا سواء، فوافقوا في ذلك القدرية، فإن الجهمية والمعتزلة كلاهما يقول : إن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح، وكلاهما يقول : لا فرق بين الإرادة والمحبة والرضا .
ثم قالت القدرية : وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، قالوا : فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي واقعًا بدون مشيئته وإرادته كما هو واقع على خلاف أمره، وخلاف محبته ورضاه وقالوا : إن محبته ورضاه لأعمال عباده هو بمعنى أمره بها، فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها، فلا يكون قط عندهم مريدًا لغير ما أمر به، وأخذ هؤلاء يتأولون ما في القرآن من إرادته لكل ما يحدث ومن خلقه لأفعال العباد بتأويلات محرفة .
وقالت الجهمية ومن اتبعها من الأشعرية وأمثالهم : قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شىء وربه ومليكه، ولا يكون خالقًا إلا بقدرته ومشيئته؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما في الوجود فهو/بمشيئته وقدرته، وهو خالقه، سواء في ذلك أفعال العباد وغيرها، ثم قالوا : وإذا كان مريدًا لكل حادث والإرادة هي المحبة والرضا، فهو محب راض لكل حادث، وقالوا : كل مافي الوجود من كفر وفسوق وعصيان فإن الله راض به محب له، كما هو مريد له .
فقيل لهم : فقد قال تعالى : { لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] . فقالوا : هذا بمنزلة أن يقال : لا يريد الفساد، ولا يريد لعباده الكفر، وهذا يصح علي وجهين :(1/204)
وإما أن يكون خاصًا بمن لم يقع منه الكفر والفساد، ولا ريب أن الله لا يريد ولا يحب مالم يقع عندهم، فقالوا : معناه لا يحب الفساد لعباده المؤمنين، ولا يرضاه لهم .
وحقيقة قولهم : أن الله ـ أيضًا ـ لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار . فالمحبة والرضا عندهم كالإرادة عندهم متعلقة بما وقع دون مالم يقع، سواء كان مأمورًا به أو منهيًا عنه . وسواء كان من أسباب سعادة العباد أو شقاوتهم، وعندهم أن الله يحب ما وجد من الكفر والفسوق والعصيان، ولا يحب ما لم يوجد من الإيمان والطاعة، كما أراد هذا دون هذا .
والوجه الثاني : قالوا : لا يحب الفساد دينا، ولا يرضاه دينا، وحقيقة هذا القول أنه لا يريده دينا، فإنه إذا أراد وقوع الشيء على صفة لم يكن مريدًا له علي خلاف تلك الصفة، وهو إذا أراد وقوع شىء مع شىء/ لم يرد وقوعه وحده فإنه إذا أراد أن يخلق زيدًا من عمرو لم يرد أن يخلقه من غيره . وإذا أراد أن ينزل مطرًا فتنبت الأرض به، فإنه أراد إنزاله على تلك الصفة، وإذا أراد أن يركب البحر قوم فيغرق بعضهم، ، ويسلم بعضهم، ويربح بعضهم، فإنما أراده على تلك الصفة، فكذلك الإيمان والكفر، قرن بالإيمان نعيم أصحابه، و بالكفر عذاب أصحابه، وإن لم يكن عندهم جعل شىء لشىء سببًا، ولا خلق شىء لحكمة، لكن جعل هذا مع هذا .
وعندهم جعل السعادة مع الإيمان، لا به كما يقولون : أنه خلق الشبع عند الأكل، لا به، فالدين الذي أمر به هو ما قرن به سعادة صاحبه في الآخرة، والكفر والفسوق والعصيان عندهم أحبه ورضيه كما أراده، لكن لم يحبه مع سعادة صاحبه، فلم يحبه دينا، كما أنه لم يرده مع سعادة صاحبه دينا .
وهذا المشهد الذي شهده أهل الفناء في توحيد الربوبية، فإنهم رأوا الرب تعالي خلق كل شىء بإرادته وعلم أن سيكون ما أراد، ولا سبب عندهم لشىء ولا حكمة، بل كل الحوادث تحدث بالإرادة .(1/205)
ثم الجهم بن صفوان ونفاة الصفات من المعتزلة ونحوهم لا يثبتون إرادة قائمة بذاته، بل إما أن ينفوها، وإما أن يجعلوها بمعنى الخلق والأمر، وإما أن يقولوا : أحدث إرادة لا في محل .
وأما مثبتة الصفات، كابن كلاب والأشعري وغيرهما ـ ممن يثبت/ الصفات، ولا يثبت إلا واحدًا معينًا ـ فلا يثبت إلا إرادة واحدة تتعلق بكل حادث، وسمعًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مسموع، وبصرًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مرئي، وكلامًا واحدًا بالعين يجمع جميع أنواع الكلام، كما قد عرف من مذهب هؤلاء، فهؤلاء يقولون : جميع الحادثات صادرة عن تلك الإرادة الواحدة العين المفردة التي ترجح أحد المتماثلين لا بمرجح، وهي المحبة والرضا وغير ذلك .
وهؤلاء إذا شهدوا هذا لم يبق عندهم فرق بين جميع الحوادث في الحسن والقبح إلا من حيث موافقتها للإنسان، ومخالفة بعضها له، فما وافق مراده ومحبوبه كان حسنًا عنده، وما خالف ذلك كان قبيحًا عنده، فلا يكون في نفس الأمر حسنة يحبها الله ولا سيئة يكرهها إلا بمعنى أن الحسنة هي ما قرن بها لذة صاحبها، والسيئة ما قرن بها ألم صاحبها من غير فرق يعود إليه . ولا إلى الأفعال أصلاً؛ ولهذا كان هؤلاء لا يثبتون حسنًا ولا قبيحًا . لا بمعنى الملائم للطبع والمنافى له، والحسن والقبح الشرعي هو ما دل صاحبه على أنه قد يحصل لمن فعله لذة، أو حصول ألم له .
ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شىء حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شىء حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكل ما نهى عنه، ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شر، ولا حسن ولا قبيح، إلا بهذا الاعتبار، فما في الوجود ضر ولا نفع، والنفع والضر/أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضر هذا . كما يقال : مصائب قوم عند قوم فوائد .
فلما كان هذا حقيقة قولهم الذي يعتقدونه ويشهدونه صاروا حزبين :(1/206)
حزبًا من أهل الكلام والرأي أقروا بالفرق الطبيعي، وقالوا : ما ثم فرق إلا الفرق الطبيعي، ليس هنا فرق يرجع إلى الله بأنه يحب هذا ويبغض هذا .
ثم منهم من يضعف عنده الوعد والوعيد، إما لقوله بالإرجاء، وإما لظنه أن ذلك لمصالح الناس في الدنيا إقامة للعدل، كما يقول : ذلك من يقوله من المتفلسفة، فلا يبقى عنده فرق بين فعل وفعل إلا ما يحبه هو ويبغضه، فما أحبه هو كان الحسن الذي ينبغي فعله، وما أبغضه كان القبيح الذي ينبغي تركه، وهذا حال كثير من أهل الكلام والرأي؛ الذين يرون رأي جهم والأشعري ونحوهما في القدر، تجدهم لا ينتهون في المحبة والبغضة والموالاة والمعاداة إلا إلى محض أهوائهم وإرادتهم، وهو الفرق الطبيعي .
ومن كان منهم مؤمنًا بالوعد فإنه قد يفعل الواجبات، ويترك المحرمات لكن لأجل ما قرن بهما من الأمور الطبيعية في الآخرة من أكل وشرب ، ونكاح، وهؤلاء ينكرون محبة الله، والتلذذ بالنظر إليه، وعندهم إذا قيل : إن/ العباد يتلذذون بالنظر إليه فمعناه أنهم عند النظر يخلق لهم من اللذات بالمخلوقات ما يتلذذون به، لا أن نفس النظر إلى الله يوجب لذة، وقد ذكر هذا غير واحد منهم أبو المعالي في الرسالة النظامية . وجعل هذا من أسرار التوحيد وهو من إشراك التوحيد، الذي يسميه هؤلاء النفاة توحيدًا، لا من أسرار التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فإن المحبة لا تكون إلا لمعنى في المحبوب يحبه المحب، وليس عندهم في الموجودات شىء يحبه الرب إلا بمعنى يريده، وهو مريد لكل الحوادث، ولا في الرب عندهم معني يحبه العبد، وإنما يحب العبد ما يشتهيه، وإنما يشتهي الأمور الطبعية الموافقة لطبعه، ولا يوافق طبعه عندهم إلا اللذات البدنية كالأكل والشرب والنكاح .(1/207)
والحزب الثاني : من الصوفية الذي كان هذا المشهد هو منتهي سلوكهم، عرفوا الفرق الطبيعي، وهم قد سلكوا على ترك هذا الفرق الطبيعي، وإنهم يزهدون في حظوظ النفس وأهوائها لا يريدون شيئًا لأنفسهم، وعندهم أن من طلب شيئًا للأكل والشرب في الجنة، فإنما طلب هواه وحظه، وهذا كله نقص عندهم ينافي حقيقة الفناء في توحيد الربوبية وهو بقاء مع النفس وحظوظها .
والمقامات كلها عندهم ـ التوكل والمحبة، وغير ذلك ـ إنما هي منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شهدوا توحيد الربوبية كان ذلك عندهم عللا في الحقيقة، إما لنقص المعرفة والشهود، وإما لأنه ذب عن /النفس وطلب حظوظها، فإنه من شهد أن كل مافي الوجود فالرب يحبه ويرضاه ويريده، لا فرق عنده بين شىء وشىء، إلا أن من الأمور ما معه حظ لبعض الناس من لذة يصيبها، ومنها ما معه ألم لبعض الناس، فمن كان هذا مشهده فإنه قطعًا يرى أن كل من فرق بين شىء وشىء لم يفرق إلا لنقص معرفته، وشهوده أن الله رب كل شىء ومريد لكل شىء ومحب ـ على قولهم ـ لكل شىء، وإنما لفرق يرجع إلى حظه وهواه، فيكون طالبًا لحظه ذابًا عن نفسه، وهذا علة وعيب عندهم .
فصار عندهم كل من فرق، إما ناقص المعرفة والشهادة، وإما ناقص القصد والإرادة . وكلاهما علة، لخلاف صاحب الفناء في مشهد الربوبية، فإنه يشهد كل مافي الوجود بإرادته ومحبته ورضاه عندهم، لا فرق بين شىء وشىء، فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، كما قاله صاحب منازل السائرين .(1/208)
ولهذا في الكلام المنقول عن الذبيلي، وأبي يزيد أنه قال : إذا رأيت أهل الجنة يتنعمون في الجنة، وأهل النار يعذبون في النار، فوقع في قلبك فرق، خرجت عن حقيقة التوكل، أو قال : عن التوحيد الذي هو أصل التوكل، ومعلوم أن هذا الفرق لا يعدم من الحيوان دائمًا بل لابد له منه يميل إلى ما لا بد له منه من أكل وشرب، لكنه في حال الفناء قد يكون مستغرقًا في ذلك المشهد، ولكن لابد أن يميل إلى أمور يحتاج إليها فيريدها، وأمور تضره فيكرهها وهذا فرق طبيعي لا يخلو منه بشر .
/لكن قد يقولون بالفرق في الأمور الضرورية التي لا يقوم الإنسان إلا بها من طعام ولباس ونحو ذلك، فيكتفون في الدنيا والآخرة بما لابد منه من طعام ولباس، ويرون هذا الزهد هو الغاية، فيزهدون في كل شىء، بمعنى أنهم لا يريدونه ولا يكرهونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه، ويكون زهدهم في المساجد كزهدهم في الحانات، ولهذا إذا قدم الشيخ الكبير منهم بلدًا يبدأ بالبغايا في الحانات ويقول : كيف أنتم في قدر الله، فإنه لا فرق عنده في هذا المشهد بين المساجد والكنائس والحانات، وبين أهل الصلاة والإحرام وقراءة القرآن وأهل الكفر وقطاع الطريق والمشركين بالرحمن .
ولا ريب أن فناءهم وغيبتهم عن شهود الإلهية والنبوة، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما تضمنه من الفرق يرجع إلى نقص العلم والشهود والإيمان والتوحيد، فشهدوا نعتًا من نعوت الرب، وغابوا عن آخر وهذا نقص .(1/209)
وقد يرون أن شهود الذات مجردة عن الصفات أكمل، ويقولون : شهود الأفعال، ثم شهود الصفات، ثم شهود الذات المجردة، وربما جعلوا الأول للنفس، والثاني للقلب، والثالث للروح، ويجعلون هذا النقص من إيمانهم ومعرفتهم وشهودهم هو الغاية، فيكونون مضاهين للجهمية نفاة الصفات، حيث أثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات، وقالوا : هذا هو الكمال، لكن أولئك يقولون : بانتفائها في الخارج، فيقولون : إنهم يشهدون أنها منتفية وهؤلاء يثبتونها في/ الخارج علمًا واعتقادًا، ولكن يقولون : الكمال في أن يغيب عن شهودها ولا يشهدون نفيها، لكن لا يشهدون ثبوتها، وهذا نقص عظيم وجهل عظيم .
أما أولاً، فلأنهم شهدوا الأمر على خلاف ما هو عليه، فذات مجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج .
وأما الثاني، فهو مطلوب الشيطان من التجهم ونفي الصفات، فإن عدم العلم والشهود لثبوتها يوافق فيه الجهمي المعتقد لانتفائها، ومن قال : أعتقد أن محمدا ليس برسول، وقال الآخر : وإن كنت أعلم رسالته فأنا أفنى عنها فلا أذكرها ولا أشهدها، فهذا كافر كالأول . فالكفر عدم تصديق الرسول، سواء كان معه اعتقاد تكذيب أم لا، بل وعدم الإقرار بما جاء به والمحبة له، فمن ألزم قلبه أن يغيب عن معرفة صفات الله كما يعرف ذاته، وألزم قلبه أن يشهد ذاتًا مجردة عن الصفات، فقد ألزم قلبه أن لا يحصل له مقصود الإيمان بالصفات وهذا من أعظم الضلال .
وأهل الفناء في توحيد الربوبية قد يظن أحدهم أنه إذا لم يشهد إلا فعل الرب فيه فلا إثم عليه، وهم في ذلك بمنزلة من أكل السموم القاتلة، وقال : أنا أشهد أن الله هو الذي أطعمني، فلا يضرني، وهذا جهل عظيم، فإن الذنوب والسيئات تضر الإنسان أعظم مما تضره السموم، وشهوده أن الله فاعل ذلك /لا يدفع ضررها، ولو كان هذا دافعًا لضررها لكان أنبياء الله، وأولياؤه المتقون أقدر على هذا الشهود الذي يدفعون به عن أنفسهم ضرر الذنوب .(1/210)
ومن هؤلاء من يظن أن الحق، إذا وهبه حالاً يتصرف به وكشفا لم يحاسبه على تصرفه به، وهذا بمنزلة من يظن أنه إذا أعطاه ملكًا لم يحاسبه على تصرفه فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ، فبين أنه مع أنه المعطي المانع، فلا ينفع المجدود جده، إنما ينفعه الإيمان و العمل الصالح .
فهذا أصل عظيم ضل بالخطأ فيه خلق كثير، حتى آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى أن جعلوا أولياء الله المتقين يقاتلون أنبياءه، ويعاونون أعداءه، وأنهم مأمورون بذلك، وهو أمر شيطاني قدري، ولهذا يقول من يقول منهم : أن الكفار لهم خفراء من أولياء الله، كما للمسلمين خفراء من أولياء الله، ويظن كثير منهم أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي فقال : ( يا أصحابي، تخلوني وتذهبون عني ) ؟ ! فقالوا : نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه .
ويجوزون قتال الأنبياء وقتلهم ـ كما قال شيخ مشهور منهم ـ كان بالشام ـ : لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئًا فإنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما وقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، ومالم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، / والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه؛ لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم، وإذا كان الرسول منصورًا كانوا معه، وإذا غلب أصحابه كانوا مع الكفار الذين غلبوهم .(1/211)
وهؤلاء الذين يصلون إلى هذا الحد غالبهم لا يعرف وعيد الآخرة، فإن من أقر بوعيد الآخرة وأنه للكفار لم يمكنه أن يكون معاونًا للكفار مواليا لهم على ما يوجب وعيد الآخرة، لكن قد يقولون بسقوطه مطلقًا، وقد يقولون : بسقوطه عمن شهد توحيد الربوبية، وكان في هذه الحقيقة القدرية، وهذا يقوله طائفة من شيوخهم، كالشيخ المذكور وغيره .
فلهذا يوجد هؤلاء الذين يشهدون القدر المحض، وليس عندهم غيره إلا ما هو قدر أيضًا ـ من نعيم أهل الطاعة، وعقوبة أهل المعصية ـ لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل ولا يدعون الله بنصر المؤمنين على الكفار، بل إذا رأى أحدهم من يدعو، قال الفقير أو المحقق أو العارف : ما له ؟ ! يفعل الله ما يشاء، وينصر من يريد، فإن عنده أن الجميع واحد بالنسبة إلى الله، و بالنسبة إليه أيضًا، فإنه ليس له غرض في نصر إحدى الطائفتين لا من جهة ربه، فإنه لا فرق على رأيه عند الله ـ تعالى ـ بينهما، ولا من جهة نفسه، فإن حظوظه لا تنقص باستيلاء الكفار، بل كثير منهم تكون/ حظوظه الدنيوية مع استيلاء الكفار والمنافقين والظالمين أعظم، فيكون هواه أعظم .
وعامة من معهم من الخفراء هم من هذا الضرب، فإن لهم حظوظًا ينالونها باستيلائهم، لا تحصل لهم باستيلاء المؤمنين . وشياطينهم تحب تلك الحظوظ المذمومة، وتغريهم بطلبهم، وتخاطبهم الشياطين بأمر ونهي وكشف يظنونه من جهة الله، وإن الله هو أمرهم ونهاهم، وأنه حصل لهم من المكاشفة، ما حصل لأولياء الله المتقين، ويكون ذلك كله من الشياطين، وهم لا يفرقون بين الأحوال الرحمانية، والشيطانية؛ لأن الفرق مبني على شهود الفرق من جهة الرب ـ تعالى ـ وعندهم لا فرق بين الأمور الحادثة كلها من جهة الله ـ تعالى ـ إنما هو مشيئة محضة تناولت الأشياء تناولاً واحدًا، فلا يحب شيئًا ولا يبغض شيئًا .(1/212)
ولهذا يشترك هؤلاء في جنس السماع الذي يثير مافي النفوس، من الحب والوجد والذوق، فيثير من قلب كل أحد حبه وهواه، وأهواؤهم متفرقة، فإنهم لم يجتمعوا على محبة ما يحبه الله ورسوله، إذ كان محبوب الحق ـ على أصل قولهم ـ هو ما قدره فوقع، وإذا اختلفت أهواؤهم في الوجد، اختلفت أهواء شياطينهم، فقد يقتل بعضهم بعضا بشياطينه؛ لأنها أقوى من شياطين ذاك وقد يسلبه ما معه من الحال الذي هو التصرف والمكاشفة الحاصلة له بسبب شياطينهم، فتكون شياطينه هربت من شياطين ذلك . فيضعف أمره، ويسلب حاله، كمن كان ملكًا له أعوان فأخذت أعوانه، فيبقى ذليلاً لا ملك له،
/فكثير من هؤلاء كالملوك الظلمة الذين يعادي بعضهم بعضًا، إما مقتول وإما مأسور، وإما مهزوم . فإن منهم من يأسر غيره فيبقى تحت تصرفه، ومنهم من يسلبه غيره، فيبقى لا حال له، كالملك المهزوم، فهذا كله من تفريع أصل الجهمية الغلاة في الجبر في القدر .
وإنما يخلص من هذا كله من أثبت لله محبته لبعض الأمور وبغضه لبعضها، وغضبًا من بعضها، وفرحًا ببعضها، وسخطًا لبعضها، كما أخبرت به الرسل، ونطقت به الكتب، وهذا هو الذي يشهد، أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويعلم أن التوحيد الذي بعثت به الرسل أن يعبد الله وحده لا شريك له، فيعبد الله دون ما سواه .
وعبادته تجمع كمال محبته وكمال الذل له ، كما قال تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } [ الزمر : 54 ] ، فينيب قلبه إلى الله ويسلم له، ويتبع ملة إبراهيم حنيفًا { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، ويعلم أن ما أمر الله ورسوله به فإن الله يحبه ويرضاه، وما نهى عنه فإنه يبغضه وينهى عنه ويمقت عليه ويسخط على فاعله، فصار يشهد الفرق من جهة الحق تعالى .(1/213)
ويعلم أن الله ـ تعالى ـ يحب أن يعبد وحده لا شريك له، ويبغض من يجعل له أندادًا يحبونهم كحب الله، وإن كانوا مقرين بتوحيد الربوبية كمشركي/ العرب وغيرهم، وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية، حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] قال الله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ . قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 148، 149 ] .
فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شىء، ما بقى عندهم من فرق من جهة الله ـ تعالى ـ بين مأمور ومحظور، فقالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وهذا حق، فإن الله لو شاء ألا يكون هذا لم يكن، لكن أي فائدة لهم في هذا، هذا غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر، ولا يلزم إذا كان مقدورًا أن يكون محبوبًا مرضيًا لله، ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص .
فإن احتجوا بالقدر، فالقدر عام لا يختص بحالهم .(1/214)
وإن قالوا : نحن نحب هذا، ونسخط هذا، فنحن نفرق الفرق الطبيعي؛ لانتفاء الفرق من جهة الحق، قال تعالى : لا علم عندكم بانتفاء الفرق من جهة الله تعالى، والجهمية المثبتة للشرع تقول : بأن الفرق الثابت هو أن التوحيد/ قرن به النعيم، والشرك قرن به العذاب وهو الفرق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم يرجع إلي علم الله بما سيكون وإخباره، بل هؤلاء لا يرجع الفرق عندهم إلى محبة منه، لهذا وبغض لهذا .
وهؤلاء يوافقون المشركين في بعض قولهم لا في كله، كما أن القدرية من الأمة ـ الذين هم مجوس الأمة ـ يوافقون المجوس المحضة في بعض قولهم لا في كله، وإلا فالرسول قد دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى محبة الله دون ما سواه، وإلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والمحبة تتبع الحقيقة فإن لم يكن المحبوب في نفسه مستحقًا أن يحب لم يجز الأمر بمحبته فضلاً عن أن يكون أحب إلينا من كل ما سواه .
وإذا قيل : محبته، محبة عبادته وطاعته، قيل : محبة العبادة والطاعة فرع على محبة المعبود المطاع، وكل من لم يحب في نفسه لم تحب عبادته وطاعته؛ ولهذا كان الناس يبغضون طاعة الشخص الذي يبغضونه، ولا يمكنهم مع بغضه محبة طاعته، إلا لغرض آخر محبوب، مثل عوض يعطيهم على طاعته، فيكون المحبوب في الحقيقة هو ذلك العوض، فلا يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، إلا بمعنى أن العوض الذي يحصل من المخلوقات أحب إليهم من كل شىء .(1/215)
ومحبة ذلك العوض مشروط بالشعور به، فما لا يشعر به تمتنع محبته، فإذا قيل : هم قد وعدوا على محبة الله ورسوله بأن يعطوا أفضل محبوباتهم المخلوقة، / قيل : لامعنى لمحبة الله ورسوله عندكم إلا محبة ذلك العوض، والعوض غير مشعور به حتي يحب، وإذا قيل : بل إذا قال : من قال : لا يحب غيره إلا لذاته . المعنى : أنك إذا أطعتني أعطيتك أعظم ما تحبه صار محبًا لذلك الآمر له، قيل : ليس الأمر كذلك بل يكون قلبه فارغًا من محبة ذلك الآمر، وإنما هو معلق بما وعده من العوض على عمله كالفعلة الذين يعملون من البناء والخياطة والنساجة وغير ذلك ما يطلبون به أجورهم، فهم قد لا يعرفون صاحب العمل أو لا يحبونه ولا لهم غرض فيه، إنما غرضهم في العوض الذي يحبونه .
وهذا أصل قول الجهمية القدرية والمعتزلة الذي ينكرون محبة الله ـ تعالى ـ ولهذا قالت المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة : إن معرفة الله وجبت لكونها لطفًا في أداء الواجبات العقلية فجعلوا أعظم المعارف تبعًا لما ظنوه واجبًا بالعقل، وهم ينكرون محبة الله والنظر إليه فضلاً عن لذة النظر .(1/216)
وابن عقيل لما كان في كثير من كلامه طائفة من كلام المعتزلة سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال : يا هذا ! هب أن له وجهًا أفتتلذذ بالنظر إليه ؟ ! وهذا اللفظ مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدعاء : ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك/ الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) .
وقد روى هذا اللفظ من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أظنه من رواية زيد بن ثابت ـ ومعناه في الصحيح من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة ) يعني قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] .
فقد أخبر أنه ليس فيما أعطوه من النعيم أحب إليهم من النظر، وإذا كان النظر إليه أحب الأشياء إليهم علم أنه نفسه أحب الأشياء إليهم، وإلا لم يكن النظر أحب أنواع النعيم إليهم، فإن محبة الرؤية تتبع محبة المرئي، وما لا يحب ولا يبغض في نفسه لا تكون رؤيته أحب إلى الإنسان من جميع أنواع النعيم .(1/217)
وفي الجملة، فإنكار الرؤية والمحبة والكلام ـ أيضًا ـ معروف من كلام الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، والأشعرية ومن تابعهم يوافقونهم على/ نفي المحبة ويخالفونهم في إثبات الرؤية ولكن الرؤية التي يثبتونها لا حقيقة لها .
وأول من عرف عنه في الإسلام أنه أنكر أن الله يتكلم، وأن الله يحب عباده : الجعد ابن درهم، ولهذا أنكر أن يكون اتخذ الله إبراهيم خليلاً، أو كلم موسى تكليمًا، فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسري، وقال : ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقوله الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه .
وأما الصوفية، فهم يثبتون المحبة بل هذا أظهر عندهم من جميع الأمور، وأصل طريقتهم إنما هي الإرادة والمحبة، وإثبات محبة الله مشهور في كلام أوليهم وآخريهم، كما هو ثابت بالكتاب والسنة واتفاق السلف .
والمحبة جنس تحته أنواع كثيرة فكل عابد محب لمعبوده، فالمشركون يحبون آلهتهم، كما قال الله تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وفيه قولان :
أحدهما : يحبونهم كحب المؤمنين لله، والثاني : يحبونهم كما/ يحبون الله؛ لأنه قد قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فلم يمكن أن يقال : إن المشركين يعبدون آلهتهم كما يعبد الموحدون الله، بل كما يحبون ـ هم ـ الله، فإنهم يعدلون آلهتهم برب العالمين، كما قال : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، وقال : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97، 98 ] .(1/218)
وقد قال : بعض من نصر القول الأول في الجواب عن حجة القول الثاني قال المفسرون : قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ، أي : أشد حبًا لله من المشركين لآلهتهم . فيقال له : ما قاله هؤلاء المفسرون مناقض لقولك، فإنك تقول : إنهم يحبون الأنداد كحب المؤمنين لله، وهذا يناقض أن يكون المؤمنون أشد حبًا لله من المشركين لأربابهم، فتبين ضعف هذا القول وثبت أن المؤمنين يحبون الله أكثر من محبة المشركين لله ولآلهتهم، لأن أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلها لله .
وأيضًا، فقوله : { كَحُبِّ اللَّهِ } أضيف فيه المصدر إلى المحبوب المفعول، وحذف فاعل الحب، فإما أن يراد كما يحب الله ـ من غير تعيين فاعل ـ فيبقى عامًا في حق الطائفتين، وهذا يناقض قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ، وإما أن يراد كحبهم لله، ولا يجوز أن يراد كما يحب غيرهم لله، إذ ليس في الكلام ما يدل على هذا بخلاف حبهم، فإنه قد دل عليه قوله : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فأضاف الحب المشبه إليهم/ فكذلك الحب المشبه لهم إذ كان سياق الكلام يدل عليه إذا قال : يحب زيدًا كحب عمرو، أو يحب عليا كحب أبي بكر، أو يحب الصالحين من غير أهله كحب الصالحين من أهله، أو قيل : يحب الباطل كحب الحق، أو يحب سماع المكاء والتصدية كحب سماع القرآن، وأمثال ذلك لم يكن المفهوم إلا أنه هو المحب للمشبه والمشبه به، وأنه يحب هذا كما يحب هذا، لا يفهم منه أنه يحب هذا كما يحب غيره هذا . إذ ليس في الكلام ما يدل على محبة غيره أصلا .(1/219)
والمقصود أن المحبة تكون لما يتخذ إلها من دون الله، وقد قال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [ الجاثية : 23 ] ، فمن كان يعبد ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، فما هويه هوية إلهه، فهو لا يتأله من يستحق التأله، بل يتأله ما يهواه وهذا المتخذ إلهه هواه له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، و محبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله، وهذه محبة أهل الشرك .
والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله، وقد يخفى الهوى على النفس فإن حبك الشىء يعمي ويصم .
وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان ، أنه يعملها لله، وفي نفسه شرك قد خفى / عليه، وهو يعمله، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة، ولهذا قالوا : يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) .
فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة، ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة، دخل فيها نوع من الشرك، واتباع الأهواء والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله . فقال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ؛ وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شىء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شىء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات .(1/220)
فكل من ادعى أنه يحب الله، ولم يتبع الرسول فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوي اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين .
وهكذا أهل البدع، فمن قال : إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد/ اتباع الرسول والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر .(1/221)
وأيضًا، فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله، والجهاد في سبيله، لقوله تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 80، 81 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] .
فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم، ومن معه، حيث أبدوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده، فأين هذا من حال من لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ؟ !(1/222)
/وهؤلاء سلكوا طريق الإرادة والمحبة، مجملا من غير اعتصام بالكتاب والسنة، كما سلك أهل الكلام والرأي طريق النظر والبحث، من غير اعتصام بالكتاب والسنة، فوقع هؤلاء في ضلالات وهؤلاء في ضلالات، كما قال تعالي : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 123- 126 ] ، وقال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، وقال : { قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [ يونس : 108 ] . ومثل هذا كثير في القرآن .
وقد بسط الكلام على هذا الأصل في غير هذا الموضع .(1/223)
فإن قيل : صاحب الفناء في توحيد الربوبية قد شهد أن الرب خلق كل شىء، وقد يكون ممن يثبت الحكمة، فيقول : إنما خلق المخلوقات لحكمة، وهو يحب تلك الحكمة ويرضاها، وإنما خلق ما يكرهه لما يحبه، والذين فرقوا بين المحبة والإرادة، قالوا : المريض يريد الدواء ولا يحبه، وإنما يحب ما يحصل به وهو العافية وزوال المرض، فالرب تعالي خلق الأشياء كلها بمشيئته فهو مريد لكل ما خلق، ولما أحبه من الحكمة، وإن كان لا يحب بعض المخلوقات من الأعيان والأفعال، لكنه يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فالعارف إذا شهد /هذا أحب أيضًا أن يخلق لتلك الحكمة وتكون الأشياء مرادة محبوبة له كما هي للحق فهو وإن كره الكفر والفسوق والعصيان، لكن ما خلقه الله منه خلقه لحكمة، وإرادة، فهو مراد محبوب باعتبار غايته لا باعتباره في نفسه .
قيل : من شهد هذا المشهد، فهو يستحسن ما حسنه الله وأحبه ورضيه، ويستقبح ما كرهه الله وسخطه، ولكن إذا كان الله خلق هذا المكروه لحكمة يحبها، فالعارف هو أيضًا يكرهه ويبغضه كما كرهه الله، ولكن يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فيكون حبه وعلمه موافقًا لعلم الله وحبه، لا مخالفًا . والله عليم حكيم، فهو يعلم الأشياء على ما هي عليه، وهو حكيم فيما يحبه ويريده، ويتكلم به وما يأمر به ويفعله، فإن كان يعلم أن الفعل الفلاني والشىء الفلاني متصف بما هو مذموم لأجله، مستحق للبغض والكراهة كان من حكمته أن يبغضه ويكرهه، وإذا كان يعلم أن في وجوده حصول حكمة محبوبة محمودة، كان من حكمته أنه يخلقه ويريده؛ لأجل تلك الحكمة المحبوبة التي هي وسيلة إلى حصوله .
وإذا قيل : إن هذا الوسط يحب باعتبار أنه وسيلة إلى محبوب لذاته، ويبغض باعتبار ما اتصف به من الصفات المذمومة كان هذا حسنا كما تقول : إن الإنسان قد يبغض الدواء من وجه ويحبه من وجه، وكذلك أمور كثيرة تحب من وجه وتبغض من وجه .(1/224)
/وأيضًا يجب الفرق بين أن يكون مضرًا بالشخص مكروهًا له بكل اعتبار، وبين أن يكون الله خلقه لحكمة في ذلك .
وإذا كان الله خلق كل شىء لحكمة له في ذلك، فإذا شهد العبد أن له حكمة ورأي هذا مع الجمع الذي يشترك فيه المخلوقات، فلا يمنعه ذلك أن يشهد ما بينهما من الفرق الذي فرق الله به بين أهل الجنة، وأهل النار، بل لابد من شهود هذا الفرق في ذلك الجمع وهذا الشهود مطابق لعلم الله وحكمته . والله أعلم .
وقد قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] ، فأخبر أن من كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، فهو من أهل الوعيد، وقال في الذين يحبهم ويحبونه : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [ المائدة : 54 ] .
فلابد لمحب الله من متابعة الرسول، والمجاهدة في سبيل الله، بل هذا لازم لكل مؤمن . قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، فهذا حب المؤمن لله .
وأما المحبة الشركية، فليس فيها متابعة للرسول، ولا بغض لعدوه ومجاهدة له، كما يوجد في اليهود والنصارى والمشركين يدعون محبة الله، ولا يتابعون الرسول، ولا يجاهدون عدوه .(1/225)
وكذلك أهل البدع المدعون للمحبة لهم، من الإعراض عن اتباع الرسول بحسب بدعتهم، وهذا من حبهم لغير الله، وتجدهم من أبعد الناس عن موالاة أولياء الرسول، ومعاداة أعدائه، والجهاد في سبيله لما فيهم من البدع التي هي شعبة من الشرك .
والذين ادعوا المحبة من الصوفية وكان قولهم في القدر من جنس قول الجهمية المجبرة هم في آخر الأمر، لا يشهدون للرب محبوبًا إلا ما وقع وقدر، وكل ما وقع من كفر وفسوق وعصيان فهو محبوبه عندهم، فلا يبقى في هذا الشهود فرق بين موسى، وفرعون، ولا بين محمد، وأبى جهل، ولا بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين عبادة الله وحده، وعبادة الأوثان، بل هذا كله عند الفاني في توحيد الربوبية سواء، ولا يفرق بين حادث وحادث إلا من جهة ما يهواه ويحبه، وهذا هو الذي اتخذ إلهه هواه، إنما يأله ويحب ما يهواه وهو وإن كان عنده محبة لله، فقد اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله، وهم /من يهواه، هذا ما دام فيه محبة لله، وقد ينسلخ منها حتي يصير إلى التعطيل، كفرعون وأمثاله الذي هو أسوء حالاً من مشركي العرب ونحوهم .
ولهذا هؤلاء يحبون بلا علم، ويبغضون بلا علم، والعلم ما جاء به الرسول، كما قال : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ } [ آل عمران : 61 ] ، وهوالشرع المنزل؛ ولهذا كان الشيوخ العارفون كثيرًا ما يوصون المريدين باتباع العلم والشرع، كما قد ذكرنا قطعة من كلامهم في غير هذا الموضع، لأن الإرادة والمحبة إذا كانت بغير علم وشرع، كانت من جنس محبة الكفار وإرادتهم، فهؤلاء السالكون المريدون الصوفية والفقراء الزاهدون العابدون، الذين سلكوا طريق المحبة والإرادة إن لم يتبعوا الشرع المنزل، والعلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحبون ما أحب الله ورسوله، ويبغضون ما أبغض الله ورسوله، وإلا أفضى بهم الأمر إلى شعب من شعب الكفر والنفاق .(1/226)
ولا يتم الإيمان والمحبة لله، إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر .
ومن الإيمان بما أخبر، الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فمن نفى الصفات فقد كذب خبره .
ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر وترك ما حظر، ومحبة الحسنات وبغض/ السيئات، ولزوم هذا الفرق إلى الممات، فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السيئ المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شىء، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) . وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) . رواه مسلم .
فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله، لم يكن معه من الإيمان شىء؛ ولهذا يوجد المبتدعون الذين يدعون المحبة المجملة المشتركة التي تضاهى محبة المشركين، يكرهون من ينكر عليهم شيئًا من أحوالهم، ويقولون : فلان ينكر، وفلان ينكر، وقد يبتلون كثيرًا بمن ينكر ما معهم من حق وباطل، فيصير هذا يشبه النصراني الذي يصدق بالحق والباطل، ويحب الحق والباطل، كالمشرك الذي يحب الله ويحب الأنداد، وهذا كاليهودي الذي يكذب بالحق والباطل، ويبغض الحق والباطل، فلا يحب الله، ولا يحب الأنداد، بل يستكبر عن عبادة الله، كما استكبر فرعون وأمثاله .(1/227)
/وهذا موجود كثيرا في أهل البدع من أهل الإرادة، والبدع من أهل الكلام، هؤلاء يقرون بالحق والباطل مضاهاة للنصارى، وهؤلاء يكذبون بالحق والباطل مضاهاة لليهود، وإنما دين الإسلام وطريق أهل القرآن والإيمان إنكار ما يبغضه الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله والتصديق بالحق، والتكذيب بالباطل، فهم في تصديقهم ومحبتهم معتدلون يصدقون بالحق، ويكذبون بالباطل، ويحبون الحق ويبغضون الباطل، يصدقون بالحق الموجود ويكذبون بالباطل المفقود، ويحبون الحق الذي يحبه الله ورسوله، وهو المعروف الذي أمر الله ورسوله به، ويبغضون المنكر الذي نهى الله ورسوله عنه، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا طريق المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق، فلا يصدقون به ولا يحبونه، ولا الضالين الذين يعتقدون ويحبون مالم ينزل الله به سلطانًا .
والمقصود هنا : أن المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى ألا يستحسنوا حسنة، ولا يستقبحوا سيئة؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورًا ولا يبغض محظورًا، فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شىئًا، كما هو قول الجهمية نفاة الصفات، وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتًا لمحبة الله ورضاه، وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات، لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئًا غير الإرادة الشاملة، وهذا وقع فيه /طوائف من مثبتة الصفات، تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية، فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات، كحال صحاب [ منازل السائرين ] وغيره .(1/228)
وأما أئمة الصوفية، والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزومًا للأمر والنهي، وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرًا من المشي مع القدر، كما مشى أصحابهم أولئك، وهذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقًا تخالف ذلك أصلا لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين، ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي، الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه، ويثبت أنه لا إله إلا هو .
وهذا من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك، فإن كثيرًا من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل، وإنما يعرف هذا من توجه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور، وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة، فإن لم يكن معه نور الإيمان والقرآن الذي يحصل به الفرقان، حتى يشهد الإلهية التي تميز بين أهل التوحيد والشرك، وبين ما يحبه الله وما يبغضه، وبين /ما أمر به الرسول، وبين ما نهى عنه، وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا، فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال فيهم : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] .(1/229)
وإنما يصير الرجل مسلمًا حنيفًا موحدًا إذا شهد أن لا إله إلا الله . فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحدًا في تألهه، ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه، وإسلامه له، ودعائه له، والتوكل عليه، وموالاته فيه، ومعاداته فيه، ومحبته ما يحب؛ وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك، وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقًا لقوله : لا إله إلا الله، فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه، ويثبت، ويبقى في قلبه تأله الله وحده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح ـ : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وفي الحديث الآخر : ( من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وقال في الصحيح : " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) ، فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلمًا .
والله ـ تعالى ـ قد أمرنا ألا نموت إلا على الإسلام في غير موضع . كقوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] ، وقال الصديق : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ، والصحيح من القولين أنه لم يسأل الموت، ولم يتمنه، وإنما سأل أنه إذا مات يموت على الإسلام، فسأل الصفة لا الموصوف كما أمر الله بذلك، وأمر به خليله إبراهيم وإسرائيل، وهكذا قال غير واحد من العلماء، منهم ابن عقيل وغيره، والله تعالى أعلم .
فَصل (محبة الله ورسوله من أعظم الواجبات )
محبة اللّه؛ بل محبة اللّه ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن / التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة : إما عن محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة، كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد الكبار .(1/230)
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة . وأصل المحبة المحمودة هي محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند اللّه لا يكون عملًا صالحًا، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة اللّه، فإن اللّه ـ تعالى ـ لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك ) ، وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار : القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي .
بل إخلاص الدين للّه هو الدين الذي لا يقبل اللّه سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه .(1/231)
قال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 1ـ3 ] ، والسورة كلها عامتها في هذا المعنى، كقوله : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [ الزمر : 11، 12 ] إلى قوله : / { قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } [ الزمر : 14 ] ، إلى قوله : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 36 ] إلى قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الآية [ الزمر : 38 ] إلى قوله : { أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ . قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 43 ـ 45 ] إلى قوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] إلى قوله : { بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ } [ الزمر : 66 ] .(1/232)
وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قال : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99، 100 ] ، فبين أن سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وأتباع الشيطان هم أصحاب النار، كما قال تعالى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] .
وقد قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] وهذه الآية في حق من لم يتب؛ ولهذا خصص الشرك، وقيد ما / سواه بالمشيئة، فأخبر أنه لا يغفر الشرك لمن لم يتب منه، وما دونه يغفره لمن يشاء . وأما قوله : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق، وسياق الآية يبين ذلك مع سبب نزولها .(1/233)
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن الأولين والآخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أُبَيِّ لما أمره اللّه ـ تعالى ـ أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } الآية [ البينة : 4، 5 ] .
وهذا حقيقة قول لا إله إلا اللّه، وبذلك بعث جميع الرسل . قال اللّه تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .(1/234)
وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال نوح ـ عليه السلام : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 ] ، وكذلك هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلام ـ وغيرهم كل يقول : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } لا سيما أفضل / الرسل الذين اتخذ اللّه كلاهما خليلًا : إبراهيم ومحمدًا ـ عليهما السلام ـ فإن هذا الأصل بينه اللّه بهما وأيدهما فيه ونشره بهما، فإبراهيم هو الإمام الذي قال اللّه فيه : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] ، وفي ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل، فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك اللّه عليهم، قال سبحانه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 26 - 28 ] .(1/235)
فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص للّه وهي البراءة من كل معبود إلا من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس : { وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [ يس : 22ـ24 ] ، وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من اتخذ بعض الكواكب ربًا يعبده من دون اللّه، قال : { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } [ الأنعام : 78-81 ] ، وقال إبراهيم الخليل ـ عليه السلام : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 75-81 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } الآية [ الممتحنة : 4 ] .(1/236)
ونبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أقام اللّه به الدين الخالص للّه دين التوحيد، وقمع به المشركين من كان مشركًا في الأصل، ومن الذين كفروا من أهل الكتب، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وغيره : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) ، وقد تقدم بعض ما أنزل اللّه عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد .
وقال تعالى أيضًا : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } إلى قوله : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } إلى قوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ . وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ُ . بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ . فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ } إلى ما ذكره من قصص الأنبياء في التوحيد وإخلاص الدين للّه، إلى قوله : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 159 ـ160 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 145، 146 ] .(1/237)
وفي الجملة فهذا الأصل في سورة الأنعام، والأعراف، والنور، وآل طسم، / وآل حم، وآل الر، وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر، فهو أصل الأصول وقاعدة الدين حتى في سورتي الكافرون والإخلاص : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وهاتان السورتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف، وسنة الفجر، وهما متضمنتان للتوحيد .
فأما { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ } : فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وهو إخلاص الدين للّه بالقصد والإرادة، وهو الذي يتكلم به مشائخ التصوف غالبًا، وأما سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } : فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رجلًا كان يقرأ : قل هو اللّه أحد في صلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سلوه لم يفعل ذلك ؟ ) فقال : لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال : ( أخبروه أن اللّه يحبه ) .
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع . وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد، كما جاء تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وما دل على ذلك من الدلائل .(1/238)
لكن المقصود هنا هو : التوحيد العملي، وهو إخلاص الدين للّه وإن / كان أحد النوعين مرتبطًا بالآخر . فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين اللّه وبين خلقه، أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي لا تستلزم مدحًا ولا ثبوت كمال، أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص، وكما يسوون إذا أثبتوا هم ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم، ويجعلون له أندادًا ويسوون المخلوقات برب العالمين .
واليهود كثيرًا ما يعدلون الخالق بالمخلوق، ويمثلونه به حتى يصفوا اللّه بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه، والنصارى كثيرًا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية، وصفات الإلهية، ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .
واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غيرالمغضوب عليهم ولا الضالين . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون ) . وفي هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القُذَّة بالقذة، حتى لو / دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه ) ، قالوا : يا رسول اللّه، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) والحديث في الصحيحين .(1/239)
فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين للّّه، وهو إرادة اللّّه وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقوله : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] وأمثال هذا، والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودًا، والمعظم الذي لا يحب، لا يكون معبودًا؛ ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] فبين ـ سبحانه ـ أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون اللّّه أندادًا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون اللّه، فالذين آمنوا أشد حبًا للّه منهم للّه ولأوثانهم، لأن المؤمنين أعلم باللّه، والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم للّّه وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل . قال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] .
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب اللّه ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة اللّه، وإن كانت المحبة التي للّه / لا يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ مذكورة بما يختص به ـ سبحانه ـ من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك . فكل هذه الأسماء تتضمن محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى .(1/240)
ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل اللّه ) . فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه . وقد قال تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } إلى قوله : {أَجْرٌ عَظِيمٌٌ } [ التوبة : 19ـ22 ] ، والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة .
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة . قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } الآية [ التوبة : 24 ] ، وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [ المائدة : 54 ] فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وإنهم يجاهدون في سبيل اللّه، ولا يخافون لومة لائم .(1/241)
/فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك . وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال : ( لعلك أغضبتهم لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ) . فقال لهم : يا إخوتي، هل أغضبتكم ؟ قالوا : لا، يغفر اللّه لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا : ما أخذت السيوف من عدو اللّه مأخذها، فقال لهم أبو بكر : أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا للّه؛ لكمال ما عندهم من الموالاة للّه ورسوله، والمعاداة لأعداء اللّه ورسوله .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه : ( لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه ) فبين ـ سبحانه ـ أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين، وهو ـ سبحانه ـ يحب ما يحب عبده / ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال : ( وأنا أكره مساءته ) ، وهو ـ سبحانه ـ قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت . فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك .(1/242)
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه . وقد يقال له : اتحاد نوعي وصفي، وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع، والقائل به كافر، وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم، وهو الاتحاد المقيد في شيء بعينه .
وأما الاتحاد المطلق ـ الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ـ فهذا تعطيل للصانع وجحود له، وهو جامع لكل شرك، فكما أن الاتحاد نوعان، فكذلك الحلول نوعان : قوم يقولون : بالحلول المقيد في بعض الأشخاص، وقوم يقولون : بحلوله في كل شيء، وهم الجهمية الذين يقولون : إن ذات اللّه في كل مكان .
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه، ويغيب بمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، وبموجوده عن وجوده، حتى لا يشهد إلا محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه . كما قيل : إن محبوبًا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال : / أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟ فقال، غبت بك عني، فظننت أنك أني، فلا ريب أن هذا خطأ وضلال .
لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورًا في زوال عقله، فلا يكون مؤاخذًا بما يصدر منه من الكلام في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور، كما قيل في عقلاء المجانين : إنهم قوم آتاهم اللّه عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب .
وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا، وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين، كما لا يقع طلاقه في أصح القولين، وإن كان النزاع في الحكم مشهورًا . وقد بسطنا الكلام في هذا، وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم في قاعدة ذلك .(1/243)
وبكل حال، فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص، وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الرسل، وإن كان لهؤلاء في صعق موسى نوع تعلق، وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الإلهية على بعض التابعين ومن بعدهم، وإن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، فمن المعلوم أن من/ أحب اللّه المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] .
والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة، كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب اللّه ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير . وأما الملام على فعل ما يكرهه اللّه أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . وبهذا يحصل الفرق بين [ الملامية ] الذين يفعلون ما يحبه اللّه ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين [ الملامية ] الذين يفعلون ما يبغضه اللّه ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك .
فَصْل(1/244)
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه . والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب . قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } الآية [ الإسراء : 57 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } [ البقرة : 218 ] .
ورحمته اسم جامع لكل خير . وعذابه اسم جامع لكل شر . ودار الرحمة الخالصة هي الجنة، ودار العذاب الخالص هي النار، وأما الدنيا فدار امتزاج، فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم، وأعلاه النظر إلى وجه اللّه، كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند اللّه موعدًا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار ؟ ) قال : ( فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ) وهو الزيادة .(1/245)
ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قال : ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك، فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة لايدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية اللّه من الجهمية، أو من يقربها ويزعم أنه لا تمتع بنفس رؤية اللّه، كما يقوله طائفة من المتفقهة . فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة / لا يدخل فيه إلا التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] قال فأين من يريد اللّه، وقال آخر في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] قال : إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه، وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخل فيها النظر .
والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها النظر إلى وجه اللّه، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة، كما أخبرت به النصوص . وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم، ويدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفًا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق نارًا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق .(1/246)
وأما عمل الحي بغير حب ولا إرادة أصلا، فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك، وظن أن كمال العبد ألا تبقى له إرادة أصلا؛ فذاك لأنه تكلم في حال الفناء والفاني ـ الذي يشتغل بمحبوبه ـ له إرادة ومحبة ولكن لا يشعر بها، فوجود المحبة شيء، والإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر . فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط، فالعبد لا يتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) . فكل إنسان له حرث وهو العمل، وله هم وهو أصل /الإرادة، ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة اللّه ما يدعوه إلى طاعته، ومن إجلاله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته، كما قال عمر ـ رضي اللّه عنه : نعم العبد صهيب، لو لم يخف اللّه لم يعصه أي : هو لم يعصه ولو لم يخفه، فكيف إذا خافه، فإن إجلاله وإكرامه للّه يمنعه من معصيته .
فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه، والتنعم بتجليه له، فمعلوم أن هذا من توابع محبته له، فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الاحتجاب، وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به، فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة اللّه المستلزمة محبته، ثم إذا وجد حلاوة محبة اللّه وجدها أحلى من كل محبة؛ ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء، كما في الحديث : ( إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النَّفَس ) وهو يبين غاية تنعمهم بذكر اللّه ومحبته . فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة اللّه التي هي الأصل .(1/247)
وهذا كله ينبني على أصل المحبة، فيقال : قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين، كما في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [ التوبة : 24 ] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقى في النار ) .
/بل محبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة اللّه كما في قوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) ، وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : واللّه يا رسول اللّه لأنت أحب إلىَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال : ( لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك ) ، فقال : واللّه لأنت أحب إلىَّ من نفسي، قال : ( الآن يا عمر ) .
وكذلك محبة صحابته وقرابته، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار ) ، وقال : ( لا يبغض الأنصار رجل يؤمن باللّه واليوم الآخر ) ، وقال على ـ رضي اللّه عنه : إنه لعهد النبي الأمي إلىَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق . وفي السنن أنه قال للعباس : ( والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم للّه ولقرابتي ) يعني : بني هاشم، وقد روى حديث عن ابن عباس مرفوعًا أنه قال : ( أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب اللّه، وأحبوا أهل بيتي لأجلي ) .(1/248)
وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، وقال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] ، { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] ، { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 4 ] ، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 7 ] ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] ، { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 76 ] .
وأما الأعمال التي يحبها اللّه من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة، وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء اللّه المتقون .
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف إن اللّه ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية .(1/249)
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين، زعمًا منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري أمير العراق والمشرق بواسط . خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس، ضَحُّوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم / موسي تكليمًا، ثم نزل فذبحه، وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك .
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلًا، وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها، وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلًا، وموسى كليما، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل :
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبذا سمى الخليل خليلًا(1/250)
ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه ) يعني : نفسه، وفي رواية : ( إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ) ، وفي رواية : ( إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم /خليلًا ) ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلًا، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه . مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصًا كما قال لمعاذ : ( واللّه إني لأحبك ) وكذلك قوله للأنصار . وكان زيد بن حارثة حب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك . وقال له عمرو بن العاص : أي الناس أحب إليك ؟ قال : ( عائشة ) . قال : فمن الرجال ؟ قال : ( أبوها ) ، وقال لفاطمة ابنته ـ رضي اللّه عنها : ( ألا تحبين ما أحب ؟ ) قالت : بلى، قال : ( فأحبي عائشة ) . وقال للحسن : ( اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه ) وأمثال هذا كثير .
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال : ( إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا ) ، فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوبًا لذاته لا لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب .(1/251)
فالخلة تنافى المزاحمة، وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبًا لذاته / محبة لا يزاحمه فيها غيره، وهذه محبة لا تصلح إلا للّّه، فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة، وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره ـ إذا كان محبوبًا بحق ـ فإنما يحب لأجله، وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان للّه تعالى . وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون اللّه محبوبًا لذاته ينكر مخاللته . وكذلك أيضًا إن أنكر محبته لأحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلًا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد .
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعال، فكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم، فهذا حقيقة قولهم . { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] .
لكن لما كان الإسلام ظاهرًا والقرآن متلوا، لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام، أخذوا يلحدون في أسماء اللّه ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه، وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه، فمن لا يحب الشيء لا يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة، ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود، فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود بالوسيلة .(1/252)
/وكذلك العبادة والطاعة، إذا قيل في المطاع المعبود : إن هذا يحب طاعته وعبادته، فإن محبته ذلك تبع لمحبته، وإلا فمن لا يحب لا يحب طاعته وعبادته، ومن كان لا يعمل لغيره إلا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضًا له أو مفتديًا منه لا يكون محبًا له . ولا يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته، فإن محبة المقصود وإن استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة، فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين : محبة العوض والسلامة عن محبة العمل . أما محبة اللّه فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض، ألا ترى أن من استأجر أجيرًا بعوض لا يقال : إن الأجير يحبه بمجرد ذلك . بل قد يستأجر الرجل من لا يحبه بحال بل من يبغضه، وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال : إنه يحبه بل يكون مبغضًا له . فعلم أن ما وصف اللّه به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع ألا يكون معناه إلا مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الأغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصلا .
وأيضًا، فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات :
أحدها : العلاقة : وهو تعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة : وهو انصباب القلب إليه، ثم الغرام : وهو الحب اللازم، ثم العشق وآخر / المراتب هو التتيم : وهو التعبد للمحبوب، والمتيم المعبود، وتيم اللّه عبد اللّه فإن المحب يبقى ذاكرًا معبدًا مذللًا لمحبوبه .
وأيضًا، فاسم الإنابة إليه يقتضى المحبة أيضًا، وما أشبه ذلك من الأسماء، كما تقدم .(1/253)
وأيضًا، فلو كان هذا الذي قالوه حقًا من كون ذلك مجازًا لما فيه من الحذف والإضمار، فالمجاز لا يطلق إلا بقرينة تبين المراد . ومعلوم أن ليس في كتاب اللّه وسنة رسوله ما ينفي أن يكون اللّه محبوبًا، وألا يكون المحبوب إلا الأعمال لا في الدلالة المتصلة ولا المنفصلة بل ولا في العقل أيضًا . وأيضًا : فمن علامات المجاز صحة إطلاق نفيه، فيجب أن يصح إطلاق القول بأن اللّه لا يُحِبّ ولا يُحَبّ، كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين، فعلم دلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازًا، بل هي حقيقة .
و أيضًا، فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [ التوبة : 24 ] ، كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فلو كان المراد بمحبته ليس إلا محبة العمل لكان هذا تكريرًا، أو من باب عطف الخاص على العام، وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام الذي لا يجوز المصير إليه إلا بدلالة تبين المراد . وكما أن / محبته لا يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله، فكذلك لا يجوز تفسيرها بمجرد محبة العمل له، وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له .
وأيضًا، فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازًا، فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضا . وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه لا يجوز أن يكون غير اللّه محبوبًا مرادًا لذاته كما لا يجوز أن يكون غير اللّه موجودًا بذاته، بل لا رب إلا اللّه، ولا إله إلا هو المعبود، الذي يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته، كمال المحبة والتعظيم .(1/254)
وكل مولود يولد على الفطرة فإنه ـ سبحانه ـ فطر القلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه وتنتهى إليه إلا اللّه وحده، وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه أن قلبه يطلب شيئًا سواه، ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الأجناس؛ ولهذا قال اللّه تعالى في كتابه : { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] ، وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى قال : ( إني خلقت عبادي حنفاءَ فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج / البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ) ، ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ الروم : 30 ] .
وأيضًا، فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فاللّه هو المستحق له على الكمال، وكل ما في غيره من محبوب فهو منه ـ سبحانه وتعالى ـ فهو المستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال . وإنكار محبة العبد لربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلهًا معبودًا، كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه ربًا خالقًا فصار إنكارها مستلزمًا لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين . وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود .(1/255)
ولهذا اتفقت الأمتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى ـ صلوات اللّه عليهما وسلامه ـ أن أعظم الوصايا أن تحب اللّه بكل قلبك وعقلك وقصدك، وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة والإنجيل والقرآن، وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل، ومن وافقهم على ذلك من متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلاء، وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من الإسماعيلية؛ ولهذا قال الخليل إمام الحنفاء ـ صلوات اللّه وسلامه عليه : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75ـ77 ] ، وقال أيضًا : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [ الأنعام : 76 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88، 89 ] وهو السليم من الشرك .
وأما قولهم : إنه لا مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه . فهذا الكلام مجمل، فإن أرادوا بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق، وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول أو نحو ذلك فهذا أيضًا حق، وإن أرادوا أنه لا مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبًا عابدًا والآخر معبودًا محبوبًا فهذا هو رأس المسألة، فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب، ويكفي في ذلك المنع .(1/256)
ثم يقال : بل لا مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إلا المناسبة التي بين المخلوق والخالق، الذي لا إله غيره، الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، وله المثل الأعلى في السموات والأرض . وحقيقة قول هؤلاء جحد كون اللّه معبودًا في الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون اللّه محبًا في الحقيقة، فأقروا بكونه محبوبًا ومنعوا كونه محبًا؛ لأنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة، فأخذوا عن الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه، وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكارًا . ومنكروها قسمان :
/قسم يتأولونها بنفس المفعولات التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه .
وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولات . وقد بسطنا الكلام في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها .
ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على أن اللّه يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب ومستحب، وإن لم يكن ذلك موجودًا، وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من الأعيان والأفعال كالفسق والكفر، وقد قال اللّه تعالى : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، وقال تعالى : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] .
والمقصود هنا إنما هو ذكر محبة العباد لإلههم .
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال الإيمان، ولم يتبين بين أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع في ذلك، وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع اللّه أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية، كالعرفان الإيماني والسماع الفرقاني، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } إلى آخر السورة [ الشورى : 52، 53 ] .(1/257)
/ثم إنه لما طال الأمد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة .
وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير، وسماع المكاء والتصدية، فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والإخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن، ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والإمكان والخلان، وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان، ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي، بل إلى أنواع من الفسوق، بل خرج فيه طوائف إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد، مما هو من أعظم أنواع الفساد، وينتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه، كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها .(1/258)
والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد ـ رحمه اللّه : من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به، ومعنى ذلك أنه لا يشرع الاجتماع لهذا السماع المحدث، ولا يؤمر به، ولا يتخذ ذلك دينًا، وقربة، فإن القرب والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم ـ فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه اللّه ولا دين إلا ما شرعه اللّه . قال اللّه تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، فجعل محبتهم للّه موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة اللّه لهم، قال أبي بن كعب ـ رضي اللّه عنه : عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه فاقشعر جلده من مخافة اللّه إلا تحاتت عنه خطاياه، كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه من خشية اللّه إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .(1/259)
فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب، لكان ذلك مما دلت الأدلة الشرعية عليه . ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في العراق، ولا في مصر، ولا في خُرَاسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلاح القلوب؛ ولهذا كرهه الأئمة كالإمام أحمد وغيره، حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال : خلفت ببغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن .
/وأما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع، فلا يترتب عليه لا نهي ولا ذم باتفاق الأئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا على السماع، فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة لا يثاب على ذلك؛إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملاهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك، فلو سمع السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه، وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها اللّه ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه اللّه وترك ما يكرهه اللّه، كالذي اجتاز بيتًا فسمع قائلًا يقول :
كل يوم تتلون ** غير هذا بك أجمل
فأخذ منه إشارة تناسب حاله، فإن الإشارات من باب القياس والاعتبار وضرب الأمثال .
ومسألة [ السماع ] كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع .(1/260)
والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع الإيماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين . قال اللّه تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ } إلى قوله : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى قوله : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107ــ 109 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } الآية [ الزمر : 23 ] .(1/261)
وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قوله : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } إلى قوله : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ لقمان : 6، 7 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [ الفرقان : 73 ] ، وقال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 ـ 51 ] .
وقال تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } الآية [ الأنفال : 22، 23 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، وقال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 ـ 51 ] ومثل هذا كثير في القرآن .
وهذا كان سماع سلف الأمة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وأمثال هؤلاء .(1/262)
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول لأبي موسى الأشعري : يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون . وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون، وقد ثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته وقال : ( لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود ) ، وقال : ( مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك ) ، فقال : لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، أي : لحسنته لك تحسينًا، وقال صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) ، وقال : ( للّه أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ) ـ أذنا أي : استماعًا ـ كقوله : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] أي : استمعت، وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به ) ، وقال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) .
/ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة ما لا يتسع له خطاب، ولا يحويه كتاب، كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان ما لا يحيط به بيان .(1/263)
ومما ينبغي التفطن له أن اللّه ـ سبحانه ـ قال في كتابه : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، قال طائفة من السلف : ادعي قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون اللّه فأنزل اللّه هذه الآية : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } الآية ، فبين ـ سبحانه ـ أن محبته توجب اتباع الرسول، وأن اتباع الرسول يوجب محبة اللّه للعبد، وهذه محبة امتحن اللّه بها أهل دعوى محبة اللّه، فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والاشتباه؛ ولهذا يروي عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده فقال : اسكتوا عن هذه المسألة لئلا تسمعها النفوس فتدعيها .
وقال بعضهم : من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد اللّه بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، وذلك؛ لأن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها، إذا لم يزعها وازع الخشية للّه حتى قالت اليهود والنصارى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله : / { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ . ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } [ ق : 32ـ34 ] .
وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة، وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد، والأعمال أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية، حتى صار المنحرفون صنفين :
صنف يقر بحقها وباطلها .(1/264)
وصنف ينكر حقها وباطلها، كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه .
والصواب إنما هو الإقرار بما فيها ، وفي غيرها من موافقة الكتاب، والسنة ، والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة .
وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ، فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعته باطنًا وظاهرًا هي موجب محبة اللّه، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه هو حقيقتها، كما في الحديث : ( أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه، والبغض في اللّه ) ، / وفي الحديث : ( من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان ) .
وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة للّه ليس فيه غيره، ولا غضب للّه، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور، يقول اللّه ـ تعالى ـ يوم القيامة : ( أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) ، فقوله : أين المتحابون بجلال اللّه تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال اللّه وتعظيمه مع التحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم، وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث : ( حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في ) ، والأحاديث في المتحابين في اللّه كثيرة .(1/265)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه : ( سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللّه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا وتفرقا عليه . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة / ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ) .
وأصل المحبة : هو معرفة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ ولها أصلان :
أحدهما : وهو الذي يقال له : محبة العامة؛ لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، واللّه ـ سبحانه ـ هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة، فإنه المتفضل بجميع النعم، وإن جرت بواسطة، إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب الأسباب، ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة اللّه نفسه، فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسه، وكذلك كل من أحب شيئًا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه . وهذا ليس بمذموم بل محمود .
وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم : ( أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب اللّه، وأحبوا أهلي بحبي ) ، والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة اللّه ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه، وهذا كما قالوا : إن الحمد للّه على نوعين :
حمد هو شكر، وذلك لا يكون إلا على نعمته .(1/266)
وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه ـ سبحانه ـ / فكذلك الحب، فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من اللّه ما يستحق أن يحب لأجله، وما من وجه من الوجوه التي يعرف اللّه بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال، ويستحق أن يحمد على السراء، والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حب الخاصة .
وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون، وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بجبل يقال له : جمدان، فقال : ( سيروا هذا جمدان، سبق المفردون ) ، قالوا : يا رسول اللّه، من المفردون ؟ قال : ( الذاكرون اللّه كثيرًا والذاكرات ) ، وفي رواية أخرى قال : ( المستهترون بذكر اللّه يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون الله يوم القيامة خفافًا ) والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه .
وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : قال موسى : يا رب، أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني، قال : أي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على / هدى أو ترده عن ردى، قال أي عبادك أحكم ؟ قال : الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه ( 3 ) . فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير .(1/267)
ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجوز أن يظن في باب محبة اللّه ـ تعالى ـ ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس التجني، والهجر، والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك، مما قد يغلط فيه طوائف من الناس، حتى يتمثلون في حبه بجنس ما يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب، أو يبعد من يتقرب إليه، وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على اللّه، بل للّه الحجة البالغة .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) . وفي بعض الآثار يقول اللّه تعالى : ( أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، وإن تابوا فأنا حبيبهم ـ لأن اللّه يحب التوابين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب ) .(1/268)
/وقد قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [ طه : 112 ] ، قالوا : الظلم : أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم : أن ينقص من حسنات نفسه . وقال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] ، وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول اللّه تعالى : يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) .(1/269)
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال : قال / رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا اللّه أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات في يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
فالعبد دائما بين نعمة من اللّه يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم اللّه وآلائه، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار .
ولهذا كان سيد ولد آدم، وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر في جميع الأحوال . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري : ( أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني لأستغفر اللّه، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) ، وفي صحيح مسلم أنه قال : ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرة ) ، وقال عبد اللّه بن عمر : كنا نعد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : ( رب اغفر لي وتب على، إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة ) .(1/270)
/ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال . قال تعالى : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] ، وقال بعضهم : أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر، أمروا بالاستغفار، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال : ( اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام ) ، وقال تعالى : {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } إلى قوله : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 198، 199 ] ، وقد أمر اللّه نبيه بعد أن بلغ الرسالة، وجاهد في اللّه حق جهاده، وأتى بما أمر اللّه به مما لم يصل إليه أحد غيره ، فقال تعالى : { جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] .
ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار، كما قال اللّه تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } الآية [ هود : 1ـ3 ] ، وقال تعالى : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } [ فصلت : 6 ] ، وقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] .(1/271)
ولهذا جاء في الحديث : ( يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا اللّه والاستغفار ) وقد قال يونس : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد اللّه ثم يكبر ثلاثا ويقول : ( لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي ) ، وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس : ( سبحانك اللّهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) . واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وسلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=193 - TOP#TOPوكثيرًا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق / محبتها للّه وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس : يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية . قيل لأبي داود السجستاني : وما الشهوة الخفية ؟ قال : حب الرئاسة، وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه ) قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
فبين صلى الله عليه وسلم أن الحرص على المال، والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته للّه، ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص للّه السوء والفحشاء، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 42 ] .(1/272)
فإن المخلص للّه ذاق من حلاوة عبوديته للّه ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته للّه ما يمنعه عن محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب لا أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته للّه، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى اللّه فيصير القلب منيبًا إلى اللّه خائفًا منه راغبًا راهبًا، كما قال تعالى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ ق : 33 ] ، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول / مرغوبه، فلا يكون عبد اللّه ومحبه إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 57 ] .
وإذا كان العبد مخلصًا له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص للّه، فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله . فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيرًا عبدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له، لكان ذلك عيبًا ونقصًا وذمًا . وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق، وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من اللّه .(1/273)
ومن لم يكن خالصًا للّه عبدًا له قد صار قلبه معبدًا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون اللّه أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلًا له خاضعًا وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا اللّه، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفًا مقبلًا على اللّه معرضًا عما / سواه وإلا كان مشركًا، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إلى قوله : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 30ـ32 ] .
وقد جعل اللّه ـ سبحانه ـ إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة اللّه وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم . قال تعالى في إبراهيم : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 72، 73 ] ، وقال في فرعون وقومه : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ . وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ } [ القصص : 41، 42 ] .(1/274)
ولهذا يصير أتباع فرعون أولًا إلى ألا يميزوا بين ما يحبه اللّه ويرضاه، وبين ما قدر اللّه وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا، ويقول محققوهم : الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية، وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي .
/وأما إبراهيم، وآل إبراهيم الحنفاء، والأنبياء فهم يعلمون أنه لابد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولابد من الفرق بين الطاعة والمعصية . وأن العبد كلما ازداد تحقيقًا ازدادت محبته للّه وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره . وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين اللّه وبين خلقه . والخليل يقول : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75-77 ] ، ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشائخ كما فعلت النصارى .
مثال ذلك اسم الفناء، فإن الفناء ثلاثة أنواع : نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء، ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين، ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين .(1/275)
فأما الأول : فهو الفناء عن إرادة ما سوى اللّه، بحيث لا يحب إلا اللّه، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال : أريد ألا أريد إلا ما يريد . أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده اللّه ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه اللّه كالملائكة والأنبياء والصالحين . وهذا معنى قولهم في قوله : { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] قالوا : هو السليم مما سوى اللّه، أو مما سوى عبادة اللّه، أو مما سوى / إرادة اللّه، أو مما سوى محبة اللّه، فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم ، هو أول الإسلام وآخره . وباطن الدين وظاهره .
وأما النوع الثاني : فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر اللّه وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير اللّه، بل ولايشعرون، كما قيل في قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] ، قالوا : فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف . وإما رجاء يبقى قلبه منصرفًا عن كل شيء إلا عما قد أحبه، أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره .(1/276)
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها . وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر : أن رجلًا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال : أنا وقعت فما أوقعك خلفي ؟ قال : غبت بك عني، فظننت أنك أني .
/وهذا الموضع زل فيه أقوام، وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر، ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا . ويبغض هذا ما يبغض هذا، ويرضى ما يرضى، ويسخط ما يسخط، ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، وهذا الفناء كله فيه نقص .(1/277)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=193 - TOP#TOPوأكابر الأولياء، كأبي بكر وعمر، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة . وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز، لما يرد على القلب من أحوال الإيمان، فإن الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم . أو يحصل لهم غشى، أو صعق، أو سكر، أو فناء، أو وَلَهٌ، أو جنون . وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن . ومنهم من يموت : كأبي جهير الضرير . وزرارة بن أوفى قاضي البصرة .
وكذلك صار في شيوخ الصوفية، من يعرض له من الفناء والسكر، ما / يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك، عن مثل أبى يزيد، وأبي الحسين النوري، وأبى بكر الشبلي وأمثالهم .
بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي ، والفضيل بن عياض، بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم، ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة اللّه وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر اللّه مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدًا، وممدًا لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له .(1/278)
وهذه الحقيقة، التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان . ونبينا صلى الله عليه وسلم إمام هؤلاء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات، وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولاظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي ـ صلى اللّه عليهم وسلم أجمعين .
/وأما النوع الثالث : مماقد يسمى فناء ـ فهو أن يشهد أن لا موجود إلا اللّه، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد .
والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم : ما أرى غير اللّه، أولا أنظر إلى غير اللّه، ونحو ذلك، فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره، ولا خالقًا غيره، ولا مدبرًا غيره، ولا إلها غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له، أو خوفًا منه، أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئًا، أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له، ولا رجاء له، ولا خوف منه، ولا بغض له، ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وإن رآه اتفاقًا، رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطًا، ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به .(1/279)
والمشائخ الصالحون ـ رضي اللّه عنهم ـ يذكرون شيئًا من تجريد التوحيد، وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتًا إلى غير اللّه ولا ناظرًا إلى ما سواه : لاحبًا له، ولا خوفًا منه، ولا رجاء له بل يكون القلب فارغًا من المخلوقات خاليًا منها لا ينظر إليها إلا بنور اللّه، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه اللّه، ويبغض منها ما يبغضه اللّه، ويوالي منها ما والاه اللّه، ويعادي منها ما عاداه / اللّه، ويخاف اللّه فيها، ولا يخافها في اللّه، ويرجو اللّه فيها، ولا يرجوها في اللّه، فهذا هو القلب السليم، الحنيف، الموحد، المسلم، المؤمن، العارف، المحقق، الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم .
وأما النوع الثالث : وهو الفناء في الموجود، فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم .
وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء هو الفناء المحمود، الذي يكون صاحبه به ممن أثنى اللّه عليهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين .
وليس مراد المشائخ، والصالحين، بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات، هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل، وإما فساد الاعتقاد . فهو متردد بين الجنون والإلحاد .
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شىء من ذاته، ولا في ذاته شىء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق . وهذا في كلامهم / أكثر من أن يمكن ذكره هنا . وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات، فيظنه خالق الأرض والسموات، لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس، فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء .(1/280)
وهم قد يتكلمون في الفرق، والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقًا بها، متشتتًا ناظرًا إليها متعلقًا بها، إما محبة، وإما خوفًا، وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد اللّه وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى اللّه بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق . فقد يكون مجتمعًا على الحق معرضًا عن الخلق نظرًا وقصدًا وهو نظير النوع الثاني من الفناء .
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو : أن يشهد أن المخلوقات قائمة باللّه، مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه ـ سبحانه ـ رب المصنوعات، وإلهها وخالقها، ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على اللّه ـ إخلاصًا له ومحبة وخوفًا ورجاء واستعانة وتوكلا على اللّه وموالاة فيه، ومعاداة فيه وأمثال ذلك ـ ناظرًا إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزًا / بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات، وكثرتها مع شهادته أن اللّه رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأنه هو اللّه لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب، في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، في حال القلب، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته .(1/281)
وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافيًا لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتًا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على اللّه، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقًا في علمه وقصده في شهادته، وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا باللّه ـ تعالى ـ ذاكرًا له عارفًا به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محبًا للّه، معظمًا له، عابدًا له، راجيًا له خائفًا منه، مواليًا فيه، معاديًا فيه، مستعينًا به، متوكلًا عليه، ممتنعًا عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية اللّه ـ سبحانه وتعالى .
وإقراره بألوهية اللّه ـ تعالى ـ دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، فحينئذ يكون موحدًا للّه .
ويبين ذلك أن أفضل الذكر : لا إله إلا اللّه، كما رواه الترمذي وابن أبي / الدنيا، وغيرهما مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الذكر : لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء : الحمد للّه ) ، وفي الموطأ ـ وغيره ـ عن طلحة بن عبد اللّه بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) .(1/282)
ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة، هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون . واحتجاج بعضهم على ذلك، بقوله : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنعام : 91 ] ، من أبين غلط هؤلاء، فإن الاسم هومذكور في الأمر بجواب الاستفهام . وهو قوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } [ الأنعام : 91 ] أي : اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى،فالاسم مبتدأ، وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك تقول : من جاره، فيقول زيد .
وأما الاسم المفرد، مظهرًا، أو مضمرًا، فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان، ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالًا نافعًا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه / وإلا لم يكن فيه فائدة . والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره .
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع .(1/283)
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال : أخاف أن أموت بين النفي والإثبات . حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به . إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا اللّه، وقال : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد .
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة،وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان،فإن من قال : يا هو يا هو، أو : هو هو . ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إِلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل،وقد صنف صاحب [ الفصوص ] كتابًا سماه كتاب [ الهو ] وزعم بعضهم أن قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] ، معناه : وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو [ الهو ] ، وقيل : هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل /العقلاء على أنه من أبين الباطل،فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت : [ وما يعلم تأويل هو ] منفصلة .(1/284)
ثم كثيرًا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل : [ اللّه ] بقوله : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } ويظن أن اللّه أمر نبيه بأن يقول : الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله : { قٍلٌ بلَّهٍ } معناه : اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهو جواب لقوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } [ الأنعام : 91 ] ، أي : اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال : ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال : { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } ثم قال : { قُلْ اللَّهُ } أنزله { ثُمَّ ذَرْهُمْ } هؤلاء المكذبين { فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } .
ومما يبين ما تقدم : ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلامًا، لا يحكون به ما كان قولًا، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، واللّه ـ تعالى ـ لا يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسمًا مفردًا مجردًا، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان / باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات .
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول : [ أشهد أن محمدًا رسول اللّه ] بالنصب فقال : ماذا يقول هذا ؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام ؟(1/285)
وما في القرآن من قوله : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا } [ المزمل : 8 ] ، وقوله : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] ، وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14، 15 ] ، وقوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 96 ] ، ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردًا، بل في السنن أنه لما نزل قوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 96 ] ، قال : ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزل قوله : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال : ( اجعلوها في سجودكم ) . فشرع لهم أن يقولوا في الركوع : سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه : ( سبحان ربي العظيم ) وفي سجوده : ( سبحان ربي الأعلى ) وهذا هو معنى قوله : ( اجعلوها في ركوعكم ) و ( سجودكم ) باتفاق المسلمين .(1/286)
فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه، ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ : سبحان /اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر ) ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان اللّه وبحمده، سبحان اللّه العظيم ) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قال في يومه مائة مرة : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب اللّه له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه . ومن قال في يومه مائة مرة : سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ) ، وفي الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) . وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمد للّه ) .
ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء .
وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ، وقوله : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] ، إنما هو قوله : بسم اللّه . وهذا جملة تامة إما اسمية، على أظهر / قولي النحاة، أو فعلىة، والتقدير ذبحي باسم اللّه، أو أذبح باسم الله، وكذلك قول القارئ : { بِِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فتقديره : قراءتي بسم اللّه، أو أقرأ بسم اللّه .(1/287)
ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم اللّه، أو ابتدأت بسم اللّه . والأول أحسن؛ لأن الفعل كله مفعول بسم اللّه، ليس مجرد ابتدائه، كما أظهر المضمر في قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] ، وفي قوله : { بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى . ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم اللّه ) . ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة : ( بسم اللّه، وكل بيمينك، وكل مما يليك ) فالمراد أن يقول بسم اللّه . ليس المراد أن يذكر الاسم مجردًا . وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه فكل ) ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم اللّه عند دخوله، وعند خروجه . وعند طعامه، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء ) وأمثال ذلك كثير .(1/288)
وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وأذانهم، وحجهم وأعيادهم من ذكر اللّه تعالى إنما هو بالجملة التامة . كقول المؤذن : اللّه أكبر، اللّه / أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمدًا رسول اللّه، وقول المصلي : الله أكبر، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سمع اللّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد، التحيات للّه، وقول الملبي : لبيك اللّهم لبيك، وأمثال ذلك، فجميع ما شرعه اللّه من الذكر إنما هو كلام تام، لا اسم مفرد لا مظهر ولا مضمر، وهذا هو الذي يسمى في اللغة كلمة، كقوله : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم ) ، وقوله : ( أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ماخلا اللّه باطل ) ، ومنه قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } الآية [ الكهف : 5 ] ، وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [ الأنعام : 115 ] ، وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة،بل وسائر كلام العرب فإنما يراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون : هذا حرف غريب . أي : لفظ الاسم غريب .
وقسم سيبويه الكلام إلى اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، ليس باسم وفعل، وكل من هذه الأقسام يسمى حرفًا، لكن خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء، ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف/ عشر حسنات : أما أني لا أقول : { الم } حرف، ولكن ألف حرف،ولام حرف، وميم حرف ) ، وقد سأل الخليل أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا : زاي، فقال : جئتم بالاسم، وإنما الحرف [ ز ] .(1/289)
ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة، وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، كحروف الجر ونحوها، وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف، ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب، ومنهم من يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظًا مشتركًا بين الاسم مثلا وبين الجملة، ولا يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إلا الجملة التامة .
والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الّله ـ سبحانه ـ هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقرب إلى اللّه ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له . فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد، وأهل الاتحاد، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع .
/وجماع الدين أصلان : ألا نعبد إلا اللّه، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وذلك تحقيق الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا رسول اللّه . ففي الأولى : ألا نعبد إلا إياه، وفي الثانية : أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه، فعلىنا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد اللّه به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] .(1/290)
كما أنا مأمورون ألا نخاف إلا اللّه ولا نتوكل إلا على اللّه، ولا نرغب إلا إلى اللّه، ولا نستعين إلا باللّه، وألا تكون عبادتنا إلا للّه، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، فجعل الإيتاء للّه والرسول، كما قال : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، وجعل التوكل على اللّه وحده بقوله : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } ولم يقل ورسوله، كما قال في الآية الأخرى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، ومثله قوله : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينََ } [ الأنفال : 64 ] ، أي : / حسبك وحسب المؤمنين كما قال : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] .
ثم قال : { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } ، فجعل الإيتاء للّه والرسول، وقدم ذكر الفضل، لأن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم، وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين، وقال : { إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فجعل الرغبة إلى اللّه وحده كما في قوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه ) . والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع .(1/291)
فجعل العبادة والخشية والتقوى للّه، وجعل الطاعة والمحبة للّه ورسوله، كما في قول نوح ـ عليه السلام ـ : { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } [ نوح : 3 ] ، وقوله : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، وأمثال ذلك .
فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه،والطاعة لهم، فأضل الشيطان النصارى، وأشباههم فأشركوا باللّه، وعصوا الرسول، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم، مع معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسنتهم، وهدى اللّه المؤمنين المخلصين للّه أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه، / فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين، فأخلصوا دينهم للّه، وأسلموا وجوههم للّه، وأنابوا إلى ربهم، وأحبوه ورجوه وخافوه،وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه، وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم، واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم .
وذلك هو دين الإسلام الذي بعث اللّه به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل اللّه من أحد دينًا إلا إياه، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين .
فنسأل اللّه العظيم أن يثبتنا عليه، ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين .
والحمد للّه وحده، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
قال شيخُ الإِسْلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=198 - TOP#TOPفَصْل
[ الفناء ] الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور :(1/292)
أحدها : فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب، والتوكل عليه وعبادته، وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو في الحقيقة عبادة القلب، وتوكله، واستعانته، وتألهه وإنابته، وتوجهه إلى اللّه وحده لا شريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال . وليس لأحد خروج عن هذا .
وهذا هو القلب السليم الذي قال اللّه فيه : { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة، وما يتبع ذلك .
/وهذا [ الفناء ] لا ينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيًا عن إرادة ما سواه، وإن كان شاعرًا باللّه وبالسوى، وترجمته قول : لا إله إلا اللّه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ) لا إله إلا اللّه، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن ) وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره .
الأمر الثاني : فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهادة، ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرًا العبادة، آمرًا بشرائعه، أكمل من شهود وجوده، أو صفة من صفاته، أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك .(1/293)
ولهذا كان الصحابة أكمل شهودًا من أن ينقصهم شهود للحق مجملًا عن شهوده مفصلًا، ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة . كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح والاضطراب، وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه، وعن شهود التفرقة في الجمع،والكثرة في الوحدة، حتى اختلفوا في إمكان ذلك، وكثير منهم يرى أنه لا يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو الأمر اشتغل عن الخالق الآمر . وإذا عورض بالنبي / صلى الله عليه وسلم وخلفائه ادعى الاختصاص، أو أعرض عن الجواب أو تحير في الأمر .
وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلاء : إنه لا يمكن حين تجلى الحق سماع كلامه، ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع الأمرين . قال : نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات، والصواب مع شهاب الدين . فإنه كان صحيح الاعتقاد في امتياز الرب عن العبد . وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على الممكنات، ومعلوم أن شهود هذا لا يقع فيه خطاب، وإنما الخطاب في مقام العقل .
وفي هذا الفناء قد يقول : أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا اللّه، إذا فنى بمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه . كما يحكون أن رجلًا كان مستغرقًا في محبة آخر، فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال ما الذي أوقعك خلفي ؟ فقال : غبت بك عني فظننت أنك أني .(1/294)
وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود / حلاوة الإيمان، كما يحصل بسكر الخمر، وسكر عشيق الصور . وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء، كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ، كقول بعضهم : أنصب خيمتي على جهنم، ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع، وقد يكون صاحبها غير مأثوم، وإن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو ومن يعين كافرًا أو ظالمًا بحال ويزعم أنه مغلوب عليه . ويحكم على هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة بخلاف ما إذا كان سبب زوال العقل والغلبة أمرًا محرمًا .
وهذا كما قلنا في عقلاء المجانين والمولهين، الذين صار ذلك لهم مقامًا دائمًا، كما أنه يعرض لهؤلاء في بعض الأوقات، كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيئًا من الواجبات : إن كان زواله بسبب غير محرم مثل الإغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيئًا يزيل عقله فلا إثم عليه، وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الأحوال المحرمة أثم بترك الواجب، وكذلك الأمر في فعل المحرم .
وكما أنه لا جناح عليهم فلا يجوز الاقتداء بهم ولا حمل كلامهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل والمجنون في التكاليف / الظاهرة، وقال فيهم بعض العلماء : هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا فسلب عقولهم وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب .(1/295)
ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك، وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق، كما قال اللّه ـ تعالى ـ فيما روى عنه رسوله : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه . فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي " وفي رواية : " وبي ينطق، وبي يعقل ) . فإذا سمع بالحق ورأى به سمع الأمر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه .
وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ الإسلام ومن قبله من الفناء هو هذا، مع أنه قد يغلط بعضهم في بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع .
وفي الجملة، فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية، وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛ ولهذا يقع كثير من هؤلاء في نوع ضلال؛ لأن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود . وهو وصف نقص لا وصف كمال، وإنما يمدح من جهة / عدم إرادة ما سواه؛ لأن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به .
ولهذا غالب عباد [ العيسوية ] في عدم العلم بالسوي، وإرادته والفتنة به، ويوصفون بسلامة القلوب . وغالب علماء [ الموسوية ] في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به، ويوصفون بالعلم، لكن الأولون موصوفون بالجهل والعدل . والآخرون موصوفون بالظلم . . . وكلاهما صحيح .
فأما العلم بالحق والخلق، وإرادة اللّه وحده لا شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والإرادة، وسلامة القلب المحمودة، هي سلامة . . . إذ الجهل لا يكون بنفسه صفة مدح . إلا أنه قد يمدح لسلامته به عن الشرور، فإن أكثر النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها .(1/296)
الثالث : فناء عن وجود السوى : بمعنى أنه يرى أن اللّه هو الوجود، وأنه لا وجود لسواه، لا به ولا بغيره، وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين الموجودات وحقيقة الكائنات، وأنه / لا وجود لغيره، لا بمعنى أن قيام الأشياء به ووجودها به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل**
وكما قيل في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح، لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات، فهذا كفر وضلال . ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلام بعض المشايخ، كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح، ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد . فتدبر هذا التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم .
فَصْل
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الأدلة والأسباب هي الموجبة للعلم، كتدبر القرآن والحديث، فالطريقة العملية بصحة الإرادة والأسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك : المريد، كما يسميه أولئك : الطالب، و النظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم، وكذلك : الإرادة .
فكما أن طريق العلم لابد فيه من العلم النبوي الشرعي، بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية، ويكون علمك بها مطابقًا لما أخبرت به الرسل، وإلا فلا ينفعك أي معلوم علمته، ولا أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل، بل لابد من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فكذلك [ الإرادة ] لابد فيها من تعيين المراد، وهو اللّه والطريق إليه، وهو ما أمرت به الرسل . فلا بد أن تعبد اللّه وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله، إذ لابد من تصديق الرسول فيما أخبر علمًا، ولابد من طاعته فيما أمر عملًا .(1/297)
/ولهذا كان الإيمان قولًا وعملًا مع موافقة السنة، فعلم الحق ما وافق علم اللّه، والإرادة الصالحة ما وافقت محبة اللّه ورضاه، وهو حكمه الشرعي، واللّه عليم حكيم .
فالأمور الخبرية لابد أن تطابق علم اللّه وخبره؛ والأمور العملية لابد أن تطابق حب اللّه وأمره، فهذا حكمه، وذاك علمه .
وأما من جعل حكمه مجرد القدر، كما فعل صاحب [ منازل السائرين ] وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة ـ فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع . فلا ينفع المريد القاصد أن يعبد أي معبود كان، ولا أن يعبد اللّه بأي عبادة كانت، بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به اللّه، كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير اللّه بغير أمر اللّه، وأما أهل الإسلام والسنة فهم يعبدون اللّه وحده، ويعبدونه بما شرع . لا يعبدونه بالبدع إلا ما يقع من أحدهم خطأ .
فالسالكون طريق الإرادة قد يغلطون تارة في المراد، وتارة في الطريق إليه، وتارة يألهون غير اللّه بالخوف منه والرجاء له، والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه، فهذا حقيقة الشرك المحرم، فإن حقيقة / التوحيد ألا يعبد إلا اللّه .
والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال التعظيم، وكمال الرجاء، والخشية، والإجلال والإكرام . والفناء في هذا التوحيد فناء المرسلين واتباعهم، وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ماسواه، وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه .(1/298)
وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون اللّه، لكن لا يتبعون الأمر الشرعي في إرادته، لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه يرضيه، ولا يكون كذلك، وتارة ينظرون القدر لكونه مراده، فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض، وأما الفناء المطلق فيه فممتنع . وهؤلاء يفني أحدهم متبعًا لذوقه ووجده المخالف للأمر الشرعي، أو ناظرًا إلى القدر . وهذا يبتلى به كثير من خواصهم .
والشيخ عبد القادر، ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية . فإن الخطأ في الإرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه الجهة؛ فهو يأمر السالك / ألا تكون له إرادة من جهة هواه أصلًا، بل يريد ما يريده الرب ـ عز وجل ـ : إما إرادة شرعية أن تبين له ذلك، وإلا جرى مع الإرادة القدرية، فهو إما مع أمر الرب، وإما مع خلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر .
وهذه طريقة شرعية صحيحة، إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية لا يعلم أنها شرعية، أو من تقديم إرادة قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها، وقد يريد ضدها، فيكون ترك مأمورًا أو فعل محظورًا وهو لا يعلم . فإن طريقة الإرادة : يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل، والوقوع في الضلال، كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل، وضعف العلم الذي يقترن بالعمل، لكن لا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها من هذا، وهذا . قال تعالى : javascript:openquran(63,16,16){ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، فإذا تفقه السالك، وتعلم الأمر والنهي بحسب اجتهاده، وكان علمه وإرادته بحسب ذاك، فهذا مستطاعه . وإذا أدى الطالب ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وكان علمه مطابقًا لعمله، فهذا مستطاعه .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=204 - TOP#TOPفَصْل(1/299)
قال الشيخ عبد القادر ـ قدس اللّه روحه ـ : ( افن عن الخلق بحكم اللّه، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله، فحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم اللّه ) .
قلت : فحكمه يتناول خلقه وأمره، أي : افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة اللّه والتوكل عليه، فلا تطعهم في معصية اللّه تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعه ولا دفع مضرة . وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقًا للأمر الشرعي لا لهواه، وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل اللّه لا لإرادة نفسه، فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات .
فالأول : يكون بالأمر، والثاني : لا تكون له إرادة . ولا بد في هذا أن يقيد بألا تكون له إرادة لم يؤمر بها، وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئًا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته، سواء كان موافقًا للقدر أم لا . وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين . /والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور .
قال الشيخ : ( فعلامة فنائك عن خلق اللّه انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم ) .
وهو كما قال .
فإذا كان القلب لا يرجوهم، ولا يخافهم، لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورًا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر اللّه به، ونهيهم عما نهاهم اللّه عنه، كذهاب الرسل، واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات اللّه، فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد . ليكون عابدًا للّه متوكلًا عليه، وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل، أو مثله أو دونه، كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب، بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه .(1/300)
قال الشيخ : ( وعلامة فنائك عنك وعن هواك : ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر، فلا تتحرك فيك بك ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك، ولا تذب عنك، لكن تكل ذلك كله / إلى من تولاه أولًا فيتولاه آخرًا . كما كان ذلك موكولًا إليه في حال كونك مغيبًا في الرحم، وكونك رضيعًا طفلا في مهدك ) .
قلت : وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها، فإذا فنى عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه اللّه وترك ما يبغضه اللّه فاعتاض بفعل محبوب اللّه عن محبوبه وبترك ما يبغضه اللّه عما يبغضه وحينئذ فالنفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فيكون في ذلك متوكلًا على اللّه .
والشيخ ـ رحمه اللّه ـ ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن لم تكن متوكلة على اللّه في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقًا، بل لابد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة للّه وطاعة أمره بدون التوكل عليه، كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته، قال تعالى : javascript:openquran(10,123,123){ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(64,2,2){ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2، 3 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(72,8,8){ وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [ المزمل : 8، 9 ] .(1/301)
والمقصود أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون / التوكل والاستعانة، ومن كان واثقًا باللّه أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره، وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول : إنه محتاج فيه إلى غيره .
قال الشيخ ـ رضي اللّه عنه ـ : وعلامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط، فلا يكن لك غرض، ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة اللّه سواها، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة اللّه تعالي وفعله، ساكن الجوارح مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها، تقلبك يد القدرة ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورًا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الأول، فتكون منكسرًا أبدًا .
فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة : كالإناء المتثلم الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر فتفنوا عن أخلاق البشرية، فلن يقبل باطنك ساكنًا غير إرادة اللّه، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم وهو فعل اللّه تبارك وتعالى حقًا في العلم فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية، وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلى من / دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا لما أشرت إليه وتقدم، قال اللّه تعالى : ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) وساق كلامه . وفيه : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل ) الحديث .(1/302)
قلت : هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر ـ رضي اللّه عنه ـ وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورًا بإرادته . فقوله : علامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط . أي لا تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته، فأما ما أمرك اللّه ورسوله بإرادتك إياه، فإرادته إما واجب وإما مستحب، وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص .
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلًا، وإن قول أبي يزيد : أريد ألا أريد ـ لما قيل له : ماذا تريد ؟ ـ نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشائخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقًا، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين، وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا، فإن هذا غلط ممن قاله، فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور .
/فإن الحي لابد له من إرادة، فلا يمكن حيًا ألا تكون له إرادة، فإن الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركًا لما هو خير له .(1/303)
واللّه ـ تعالى ـ قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه الإرادة، فقال تعالى : javascript:openquran(5,52,52){ وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(91,19,19){ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } [ الليل : 19، 20 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(75,9,9){ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } [ الإنسان : 9 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(32,29,29){ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 29 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(16,19,19){ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(38,2,2){ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ّ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 2، 3 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(38,14,14){ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } [ الزمر : 14 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(3,36,36){ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ النساء : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .(1/304)
ولا عبادة إلا بإرادة اللّه، ولما أمر به، وقال تعالى : javascript:openquran(1,112,112){ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ البقرة : 112 ] ، أي أخلص قصده للّه . وقال تعالى : javascript:openquran(97,5,5){ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ البينة : 5 ] ، وإخلاص الدين له / هو إرادته وحده بالعبادة . وقال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(1,165,165){ ِوَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(2,31,31){ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، وكل محب فهو مريد، وقال الخليل ـ عليه السلام ـ : javascript:openquran(5,76,76){ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينََ } [ الأنعام : 76 ] ، ثم قال : javascript:openquran(5,79,79){ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [ الأنعام : 79 ] .
ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر اللّه بإرادته، وإرادة ما يأمر به، وينهى عن إرادة غيره، وإرادة ما نهى عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، فهما إرادتان : إرادة يحبها اللّه ويرضاها، وإرادة لا يحبها اللّه ولا يرضاها، بل إما نهي عنها، وإما لم يأمر بها، ولا ينهي عنها والناس في الإرادة ثلاثة أقسام :
قوم يريدون ما يهوونه، فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان .(1/305)
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقًا، ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب، وإن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة، وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه / شهد القيومية العامة، ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والاصطلام، ونحو ذلك . وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الموضع .
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية، وأن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو شهود القدر، وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق الأول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا، ورؤية فعل هذا وترك هذا، فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلًا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعًا لهواه فيما يريده، فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع، ثم شهد أنه خالق كل شيء، فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق، فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني، وهو بعد هذا الجمع، وهو الفرق الشرعي . ألا تري أنك تريد ما أمرت به، ولا تريد ما نهيت عنه ؟ ! وتشهد أن اللّه يستحق العبادة دون ما سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله، فتفرق بين المأمور والمحظور، وبين أوليائه وأعدائه، وتشهد توحيد الألوهية، فنازعوه في هذا الفرق .
منهم من أنكره .
/ومنهم من لم يفهمه .
ومنهم من ادعي أن المتكلم فيه لم يصل إليه .
ثم إنك تجد كثيرًا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع، وهو : توحيد الربوبية، والفناء فيه . كما في كلام صاحب [ منازل السائرين ] مع جلالة قدره، مع أنه قطعًا كان قائمًا بالأمر والنهي المعروفين، لكن قد يدعون أن هذا لأجل العامة .
ومنهم من يتناقض .
ومنهم من يقول : الوقوف مع الأمر لأجل مصلحة العامة، وقد يعبر عنهم بأهل المارستان .(1/306)
ومنهم من يسمى ذلك مقام التلبيس .
ومنهم من يقول : التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، فيشهد بقلبه استواء المأمور والمحظور مع تفريقه بينهما .
ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك / العارفين، وغاية منازل الأولياء الصديقين .
و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهي يكون في السلوك والبداية، وأما في النهاية فلاتبقى إلا إرادة القدر . وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة، فإن العبادة للّه والطاعة له ولرسوله إنما تكون في امتثال الأمر الشرعي لا في الجري مع المقدور، وإن كان كفرًا أو فسوقًا أو عصيانًا، ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان الكفار والفجار وخفرائهم، حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا الأمر والنهي الشرعيين .
ومن هؤلاء من يقول : من شهد القدر سقط عنه الملام، ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملام لما شهد القدر .
وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملكًا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف، فيظن ذلك كمالا في الولاية، وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية، وأهواء نفسانية، وإنما الكمال في الولاية أن يستعمل خرق العادات في إقامة الأمر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور، فإذاحصلت بغير الأسباب الشرعية فهي مذمومة، وإن حصلت بالأسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة، وإن توصل بها إلى مباح / لا يستعان بها على طاعة كانت للأبرار دون المقربين .
وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل الأمر الشرعي، فهذه خوارق المقربين السابقين .(1/307)
فلابد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها : من أين حصلت، وإلى ماذا أوصلت ـ كما ينظر في الأموال في مستخرجها ومصروفها ـ ومن استعملها ـ أعني الخوارق ـ في إرادته الطبيعية كان مذمومًا، ومن كان خاليًا عن الإرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه، لكونه لم يعرف الإرادة الشرعية .
وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذمومًا مستحقًا للعقاب إن لم يعف عنه، وهو يمدح بكون إرادته ليست بهواه، لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لأمر اللّه تعالى ورسوله، لا يكفيه أن تكون لا من هذا ولامن هذا، مع أنه لا يمكن خلوه عن الإرادة مطلقًا؛ بل لابد له من إرادة، فإن لم يرد ما يحبه اللّه ورسوله، أراد مالا يحبه اللّه ورسوله، لكن إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريدًا لما يظن أنه مأمور به، فيكون ضالًا .
فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى . وقد قال تعالى : javascript:openquran(0,6,6){ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ) .
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها . كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون . وهم يعرفون الحق ولا يعملون به، فلهم علم، لكن ليس لهم عمل بالعلم، وهم في الإرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الإرادة المحمودة المأمور بها، وهي إرادة ما يحبه اللّه ورسوله .(1/308)
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلال، يعملون بغير علم، فلا يعرفون الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله، بل غاية أحدهم تجريد نفسه عن الإرادات، فلا يبقى مريدًا لما أمر اللّه به ورسوله، كما لا يريد كثيرًا مما نهى اللّه عنه ورسوله، وهؤلاء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة اللّه ورسوله، ولهذا كانوا ملعونين : أي بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة اللّه عز وجل .
والعالم الفاجر يشبه اليهود . والعابد الجاهل يشبه النصارى . ومن أهل العلم من فيه شيء من الأول، ومن أهل العبادة من فيه شيء من الثاني .
/وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم، وتباينوا تباينًا عظيمًا، لا يحيط به إلا اللّه . ففيهم من لم يخلق اللّه خلقًا أكرم عليه منه، وهو خير البرية . ومنهم من هو شر البرية، وأفضل الأحوال فيه حال الخليلين : إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، وهو المعروج به إلى ما فوق الأنبياء كلهم ـ إبراهيم و موسى وغيرهما .
وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن إبراهيم خير البرية ) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول في خطبة الجمعة : ( خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم ) . وكذلك كان عبد اللّه بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس، كما رواه البخاري في صحيحه .
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أنها قالت : ما ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خادمًا له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل اللّه، وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم اللّه، فإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم للّه .(1/309)
/وقال أنس : خدمت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي : أف قط، وما قال لي لشىء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته ؟ . وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال : ( دعوه، فلو قضى شيء لكان ) .
ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلائق، وسيد ولد آدم، وله الوسيلة في المقامات كلها، ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئًا، ولاأنه يريد كل واقع، كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى، بل هو منزه عن هذا وهذا، قال اللّه تعالى : javascript:openquran(52,3,3){ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 3، 4 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(71,19,19){ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] وقال تعالى : javascript:openquran(1,23,23){ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] ، وقال : javascript:openquran(16,1,1){ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } [ الإسراء : 1 ] . والمراد بعبده عابده المطيع لأمره، وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون .(1/310)
وقد قال اللّه لنبيه : javascript:openquran(14,99,99){ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . قال الحسن البصري : لم يجعل اللّه لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، وقد قال اللّه تعالى له : javascript:openquran(67,4,4){ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] . قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن حنبل : على دين عظيم . والدين : فعل ما أمر به . وقالت عائشة : كان خلقه القرآن . رواه مسلم . وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه، ولا ينتقم لنفسه، لكن يعاقب للّه / وينتقم للّه، وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه، وأما حدود اللّه فقد قال : ( والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) أخرجاه في الصحيحين .
وهذا هو كمال الإرادة؛ فإنه أراد ما يحبه اللّه ويرضاه من الإيمان و العمل الصالح، وأمر بذلك وكره ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان، ونهى عن ذلك، كما وصفه اللّه تعالى بقوله : javascript:openquran(6,156,156){ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156، 157 ] .(1/311)
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم، بل يستوفى حق ربه، ويعفو عن حظ نفسه، وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر، فيقول : ( لو قضى شيء لكان ) ، وفي حق اللّه يقوم بالأمر فيفعل ما أمر اللّه به، ويجاهد في سبيل اللّه أكمل الجهاد الممكن، فجاهدهم أولًا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه، كما قال تعالى : javascript:openquran(24,51,51){ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا . فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الفرقان : 51، 52 ] . ثم لما / هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال، جاهدهم بيده .
وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، وهو معروف أيضًا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى، لما لام موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب الذي فعله، فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبًا علىَّ قبل أن أخلق بمدة طويلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فحج آدم موسى ) .
وذلك لأن ملام موسى لآدم لم يكن لحق اللّه، وإنما كان لما لحقه وغيره من الآدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل، فذكر له آدم أن هذا كان أمرًا مقدرًا لابد من كونه، والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو الذي ينفعهم، وأما لومهم لمن كان سببًا فيها فلا فائدة لهم في ذلك، وكذلك ما فاتهم من الأمور التي تنفعهم يؤمرون في ذلك بالنظر إلى القدر، وأما التأسف والحزن فلا فائدة فيه، فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم، أو حصول مضرة لهم، فلينظروا في ذلك إلى القدر، وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي، والإصلاح في المستقبل . فإن هذا الأمر ينفعهم، وهو مقدور لهم بمعونة اللّه لهم .(1/312)
/وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن . وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل : قدر اللّه وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه، والاستعانة باللّه، ونهاه عن العجز، وأنفع ما للعبد طاعة اللّه ورسوله، وهي عبادة اللّه تعالى . وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى : javascript:openquran(0,5,5){ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ونهاه عن العجز وهو الإضاعة والتفريط والتواني . كما قال في الحديث الآخر : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على اللّه الأماني ) رواه الترمذي .
وفي سنن أبي داود : أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه : حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي اللّه ونعم الوكيل ) فالكيس ضد العجز . وفي الحديث : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ) رواه مسلم . وليس المراد بالعجز في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يضاد / القدرة؛ فإن من لا قدرة له بحال لا يلام، ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال .
ثم لما أمره بالاجتهاد والاستعانة باللّه ونهاه عن العجز، أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول : قدر اللّه وما شاء فعل، ولا يتحسر ويتلهف ويحزن . ويقول : ( لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/313)
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى : الأمر أمران : أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه؛ فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه . وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين . كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره . فإنه لابد من فعل المأمور وترك المحظور، والرضا والصبر على المقدور . وقد قال تعالى حكاية عن يوسف : javascript:openquran(11,90,90){ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .
فالتقوى : تتضمن فعل المأمور وترك المحظور . والصبر : يتضمن الصبر على المقدور . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلى قوله : javascript:openquran(2,120,120){ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 118-120 ] ، فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر / المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين، وقال تعالى : javascript:openquran(2,125,125){ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة، وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم .(1/314)
وقال تعالى : javascript:openquran(2,186,186){ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لابد أن يؤذوهم بألسنتهم، وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم الأمور . فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة، المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم، وشر العدو المبطن للعداوة، وهم المنافقون . وهذا الذي كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه هو أكمل الأمور .
فأما من أراد ما يحبه اللّه تارة وما لا يحبه تارة، أو لم يرد لا هذا ولا هذا، فكلاهما دون خلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم، كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين، فهو وإن كان جائزًا لا إثم فيه، فخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكمل منه .
/وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب، ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام للّه أرضى للّه . كما هو أيضًا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزًا لا إثم فيه فخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكمل منه .
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع اللّه له .(1/315)
لكن قد فضل اللّه بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الرسل على بعض، والشريعة التي بعث اللّه بها محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وأمته خير أمة أخرجت للناس . قال أبو هريرة في قوله تعالى : javascript:openquran(2,110,110){ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] : كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس، فهم خير الأمم للخلق . والخلق عيال اللّه، فأحبهم إلى اللّه أنفعهم لعياله، وأما غير الأنبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لاتباعه لذلك النبي، وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبًا عليه وما فعله محرمًا عليه كان مستحقًا للذم والعقاب، إلا أن يكون متأولًا مخطئًا فاللّه قد وضع عن هذه الأمة / الخطأ والنسيان وذنب أحدهم قد يعفو اللّه عنه بأسباب متعددة .
ومن أسباب هذا الانحراف : أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه، فيزهد في موجب الشهوة والغضب، كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين، وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم، وهؤلاء يرون الجهاد نقصًا لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، ويرون أن اللّه لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لأنه جرى علي يديه سفك الدماء .
ومنهم من لا يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة، ومنهم من لا يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى اللّه بأنه لا يذبح حيوانًا ولا يأكل لحمه ولا ينكح النساء، ويقول مادحه : فلان ما نكح، ولا ذبح .(1/316)
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء كما في الصحيحين عن أنس : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم : لا أتزوج النساء، وقال بعضهم : لا آكل اللحم، وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه وأثني عليه وقال : ( ما بال أقوام قالوا : كذا وكذا ؟ ! لكني أصلي وأنام، / وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] نزلت في عثمان ابن مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل، ونوع من الترهب . وفي الصحيحين عن سعد قال : رد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا .
والزهد النافع المشروع الذي يحبه اللّه ورسوله هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك، فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة اللّه وطاعته، والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر، أو زهد فيما لا ينفع، فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجزن ) .
والنافع للعبد هو عبادة اللّه وطاعته وطاعة رسوله، وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع، ثم الأنفع له أن تكون كل أعماله عبادة للّه وطاعة له، وإن أدى الفرائض وفعل مباحًا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره .(1/317)
وكذلك الورع المشروع، هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو / ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله ـ مثل محرم معين ـ مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينًا تحريمه، أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة، كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو مطالب بها، وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها، ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة .
وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه .
وتمام الورع أن يعم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع .
/وكذلك الزهد والرغبة، من لم يراع مايحبه اللّه ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك، وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل، أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق اللّه تعالى أو حقوق عباده، أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه، لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم، حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك .(1/318)
وقد قال تعالى : javascript:openquran(1,217,217){ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ } [ البقرة : 217 ] .
يقول ـ سبحانه وتعالى ـ : وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما .
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلمًا له هو جاهل، فإن هذا الحيوان لابد أن يموت، فإذا قتل لمنفعة الآدميين / وحاجتهم كان خيرًا من أن يموت موتًا لا ينتفع به أحد، والآدمي أكمل منه، ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك، لكن مالا يحتاج إليه من تعذيبه نهي اللّه عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك، وأوجب اللّه الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح . كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء : فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ) .
وهؤلاء الذين زهدوا في الإرادات حتى فيما يحبه اللّه ورسوله من الإرادات بإزائهم طائفتان :
طائفة رغبت فيما كره اللّه ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان .(1/319)
وطائفة رغبت فيما أمر اللّه ورسوله، لكن لهواء أنفسهم لا لعبادة اللّه تعالى، وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : يا رسول اللّه، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل اللّه ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا، / فهو في سبيل اللّه ) . قال تعالى : javascript:openquran(3,142,142){ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [ النساء : 142 ] .(1/320)
وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة، فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم، وهم يشبهون اليهود، كما يشبه أولئك النصارى . قال تعالى : javascript:openquran(2,112,112){ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [ آل عمران : 112 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(6,146,146){ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(6,175,175){ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلى قوله : javascript:openquran(6,176,176){ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 175، 176 ] .
فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق، وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق . كما قال تعالى : javascript:openquran(4,77,77){ ِوَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] .(1/321)
/وكلا الطائفتين تاركة ما أمر اللّه ورسوله به من الإرادات، والأعمال الصالحة، مرتكبة لما نهى اللّه ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة .
فَصْل
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الاستقامة ـ رضي اللّه عنهم ـ : بأنه لا يريد السالك مرادًا قط، وأنه لا يريد مع إرادة اللّه ـ عز وجل ـ سواها، بل يجرى فعله فيه، فيكون هو مراد الحق، إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر اللّه ورسوله فيه، فأما ما علم أن اللّه أمر به فعليه أن يريده ويعمل به، وقد صرحوا بذلك في غير موضع . وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد، فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره، أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر، فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع .
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف / الكرخي، والسري السقطي، والجنيد ابن محمد، وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف .(1/322)
وهذا كثير في كلامهم : كقول الشيخ عبد القادر في كتاب [ فتوح الغيب ] : [ اخرج من نفسك، وتنح عنها، وانعزل عن ملكك، وسلم الكل إلى اللّه تبارك وتعالى، وكن بوابه علي باب قلبك، وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك بإدخاله، وانته نهيه في صد من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، وإخراج الهوى من القلب بمخالفته وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته، فلا ترد إرادة غير إرادته تبارك وتعالى، وغير ذلك منك غير، وهو واد الحمقى، وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى، وحجابك عنه .
احفظ أبدا أمره، وانته أبدا نهيه، وسلم إليه أبدا مقدوره، ولا تشركه بشيء من خلقه، فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه، فلا ترد ولا تهوى ولا تشته لئلا يكون شركا . قال اللّه تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب؛ بل هو أيضًا متابعتك لهواك، وأن تختار مع ربك شيئًا سواه من الدنيا وما فيها، والآخرة وما فيها، فما سواه تبارك وتعالى غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره، فاحذر ولا تركن، وخف ولا تأمن، وفتش ولا تغفل فتطمئن، ولا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولاتدع شيئًا من ذلك ] .
وقال الشيخ عبد القادر أيضًا : [ إنما هو اللّه ونفسك، وأنت المخاطب، والنفس ضد اللّه وعدوته، والأشياء كلها تابعة للّه، فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك ] ـ إلى أن قال ـ :
[ فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك، قال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ ص : 26 ] ] إلى أن قال :
[(1/323)
والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه اللّه تعالى ـ لما رأي رب العزة في المنام فقال له : كيف الطريق إليك ؟ فقال : [ اترك نفسك وتعال ] قال أبو يزيد : فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها .
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها، فإن / كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من إجرام الخلق، وشبههم ومنتهم، والاتكال عليهم والثقة بهم، والخوف منهم؛ والرجاء لهم، والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا، فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية، أو الزكاة، أو الصدقة، أو الكفارة أو النذر، فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب، فاخرج من الخلق جدًا، واجعلهم كالباب يرد ويفتتح، وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل أخرى، كل ذلك بفعل فاعل، وتدبير مدبر، وهو اللّه ـ تبارك وتعالى .
فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له ـ تبارك وتعالى ـ ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية، واعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون اللّه ـ تبارك وتعالى ـ لكيلا تعبدهم، وتنسى اللّه ـ تعالى ـ ولا تقبل فعلهم دون اللّه فتكفر، وتكون قدريًا . ولكن قل : هي للّه خلقًا وللعباد كسبا . كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب، وامتثل أمر اللّه فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه، فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم، فلا تكن أنت الحاكم، وكونك معهم قدر، والقدر ظلمة، فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ـ لا تخرج عنهما .(1/324)
فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة، فإن وجدت فيهما تحريم ذلك، مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة / أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك، واهجره ولاتقبله، ولاتعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين، وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضًا ولا تقبله، واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها، وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها ]
قلت : ومراده بهجر المباح، إذا لم يكن مأمورًا به، كما قد بين مراده في غير هذا الموضع، فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعمة اللّه عليه، وكان واجبًا عليه، وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين؛ لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين ] .
قال : [ وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله، مثل أن يقال لك : ائت موضع كذا وكذا، الق فلانًا الصالح، ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح، لاستغنائك عنه بما أولاك اللّه تعالى من نعمه من العلم والمعرفة، فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه، فتقول : هل هذا إلهام إلا من الحق فأعمل به ؟ بل أنتظر الخير في ذلك، وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام وتؤمر بالسعي، أو علامة تظهر لأهل العلم باللّه تبارك وتعالى يفعلها العقلاء من أولياء اللّه، والمؤيدون من الأبدال .
وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه، وربما / كان فيه فتنة وهلاك ومكر من اللّه وامتحان، فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك، فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولًا محفوظًا فيها؛ لأن اللّه تعالى لا يعاقبك على فعله، وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء ] .(1/325)
قلت : فقد أمر ـ رضي اللّه عنه ـ بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولابد، وما كان معلومًا أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضًا، وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين، والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين، فإن جنس هذا العمل ليس محرمًا ولا كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله، وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه، فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل، لخلاف ما إذا فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا .
وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلاء خيف عليه . مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : ( لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها / عن غير مسألة أعنت عليها ) ، ومنه قوله : ( لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا ) . وفي السنن : ( من سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه، ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل اللّه عليه ملكًا يسدده ـ وفي رواية ـ وإن أكره عليه ) ، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في الطاعون : ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ) ، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر . ومنه قوله : ( ذروني ماتركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=205 - TOP#TOPفَصْل(1/326)
قال الشيخ عبد القادر : وإن كنت في حال الحقيقة، وهي حال الولاية : فخالف هواك واتبع الأمر في الجملة، واتباع الأمر على قسمين :
أحدهما : أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس، وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن .
/والقسم الثاني : ما كان بأمر باطن، وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه، وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكمًا في الشرع، على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب، بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره، فسمى مباحًا فلا يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فيصير جميع حركاته وسكناته باللّه تعالى، مافي الشرع حكمه فبالشرع، وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن، فحينئذ يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم .
وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق، والفناء حالة الأبدال المنكسري القلوب؛ لأجل الحق، والموحدين العارفين أرباب العلوم والفعل، السادة الأمراء، السخي الخفراء للحق، خلفاء الرحمن وأجلائه وأعيانه وأحبابه ـ عليهم السلام ـ فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة، وألا تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة، دنيا وأخرى عبد المَلِك لاعبد المَلَك، وعبد الأمر لا عبد الهوى كالطفل مع الظئر، والميت الغسيل مع الغاسل، والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي .(1/327)
وقال أيضًا : اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك، إن كنت في / حال التقوى التي هي القدم الأولى، واتبع الأمر في حالة الولاية ووجود الهوي ولا تتجاوزه، وهي القدم الثانية، وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية والصديقية، وهي المنتهى، تنح عن الطريق القذر، خل عن سبيله، رد نفسك وهواك، كف لسانك عن الشكوى، فإذا فعلت ذلك، إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا، وإن كان شرا ً حفظك في طاعته فيه، وأزال عنك الملامة وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله، كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف، ذلك النموذج عندك فاعتبر به . ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا، ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات، ولايقبل على شدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات، كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ، فالبلايا مكفرات . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حمى يوم كفارة سنة ) .
قلت : فقد بين الشيخ عبد القادر ـ رضي اللّه عنه ـ أن لزوم الأمر والنهي لابد منه في كل مقام، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها : حال صاحب التقوى، وحال الحقيقة، وحال حق الحق، وقد فسر مقصوده بأنه لابد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به / في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع، وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وهذا حق . فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين .
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائمًا الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم، وإن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر .(1/328)
فإن قلت : فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله ؟ وصاحب الحق الذي بعده ؟ .
قيل : أما الذي بعده الذين سماهم : الأبدال، فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلًا فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره، ولهذا قال : فاتباع الأمر فيها مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة .
فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية، فيشهدون / أن اللّه هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير، فلا يرون لأنفسهم حمدًا ولا منة على أحد، ويرون أن اللّه خالق أفعال العباد فلا يرون أحدًا مسيئًا إليهم، ولا يرون لهم حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن اللّه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وهم يعلمون أن العبادة لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على اللّه شيئًا، بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد، ولا يشرك به شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فيرون إنما قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك .
ويشهدون : أنه لا حول ولا قوة إلا باللّه . وأما ما قام بالعباد من أذاهم، فهو خلقه وهو من عدله، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه، وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل . ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئًا، ولا يرى به شيئًا .(1/329)
وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين للّه، وأنه لا يفعل إلاما أمر به، فلايفعل إلا للّه، لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته، وأنه لا حول ولا قوة إلا باللّه / وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به، وإن كمال هذا الشهود لا يبقى شيئًا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك . فكلاهما قائم بالأمر مطيع للّه، لكن هذا يشهد أن اللّه هو الذي جعله مسلمًا مصليًا، وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا . وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن اللّه خالق أفعال العباد؛ لكن قد لا يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم .
وأيضًا، بينهما فرق من جهة ثانية : وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها، فهو يميز في مراداته بين ما يؤمر به وما ينهى عنه، ومالا يؤمر به ولا ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب، إما أمرًا به فيمتثله هو باللّه، وإما فعلا فيه فيفعله اللّه به، ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر، في غير الأمر والنهي .
وأما الأول : الذي هو في مقام التقوى العامة، فإن له شهوات للمحرمات، وله التفات إلى الخلق، وله رؤية نفسه، فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى، بأن يكف عن المحرمات، وعن تناول الشهوات بغير الأمر، فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله ومالا يفعله، وهو التقوى، وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط، فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع، وما كان مباحًا لم يفعل إلا ما أمر به .
/وأما الثالث : فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا للّه وباللّه، فلا يفعل إلا ما أمر اللّه به للّه، ويشهد أن اللّه هو الذي فعل ذلك في الحقيقة، ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير اللّه، ولا يفعل بنفسه ولا بغير اللّه ـ تعالى .(1/330)
والثلاثة مشتركون في الطريق، في أن كلًا منهم لا يفعل إلا الطاعة، لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة، وبصفاء النية والإرادة . واللّه أعلم .
فإن قيل : كلام الشيخ كله يدور على أنه يتبع الأمر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا، وما ليس فيه أمرًا باطنًا ولا ظاهرًا يكون فيه مسلمًا لفعل الرب، بحيث لا يكون له اختيار لا في هذا ولا في هذا بل إن عرف الأمر كان معه، وإن لم يعرفه كان مع القدر، فهو مع أمر الرب إن عرف وإلا فمع خلقه، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، وهذا يقتضي أن من الحوادث ماليس فيه أمر ولا نهي، فلا يكون للّه فيه حكم لا باستحباب ولا كراهة، وقد صرح بذلك هو والشيخ حماد الدباس، وإن السالك يصل إلى أمور لا يكون فيها حكم شرعي بأمر ولا نهي، بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة، إذ ليس هنا حقيقة شرعية .
/وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة، ويقولون : الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على عدمه، وهو الواجب والمستحب . وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده، وهو المحرم والمكروه، وإما أن يستوى الأمران وهو المباح، وهذا التقسيم بحسب الأمر المطلق .
ثم الفعل المعين الذي يقال : هو مباح، إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لاستعانته به على طاعته ولحسن نيته . فهذا يصير أيضًا محبوبًا راجح الوجود بهذا الاعتبار، وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن مستحب، فهذا عدمه خير له .(1/331)
والسالك المتقرب إلى اللّه بالنوافل بعد الفرائض لا يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين، فإنه إذا لم يستعن به على طاعته كان تركه، وفعل الطاعة مكانه خيرًا له، وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح مثله . فيقال : لا فرق بين هذا وهذا، فهذا يصلح للأبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى اللّه بالفرائض، كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ويشتغلون مع ذلك بمباحات . فهؤلاء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم، إذا كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر، ولا سبيل إلى أن تترك النفس فعلًا إن / لم تشتغل بفعل آخر يضاد الأول؛ إذ لا تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات .
ومن هذا أنكر الكعبي : المباح في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير .
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار . فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه : كأبي الحسن الآمدي، وقواه طائفة، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي . ومنهم من قال : هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة، فأما ما ليست أضداده محصورة فلا يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما، كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير، فيقال في المخير : هو أمر بأحد الثلاثة، ويقال في المطلق : هو أمر بالقدر المشترك، وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا .
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر، وهو قد يقول : عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم، بل إما مباح وإما مستحب، وإما واجب .(1/332)
/وتحقيق الأمر أن قولنا : الأمر بالشىء نهى عن ضده وأضداده، والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا : الأمر بالشىء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، والنهي عن الشىء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به . فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، وإذا كان لا يعدم إلابضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده، فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن مقصوده الأمر . والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود .
فالأول : هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلاف الثاني، فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم، فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا .
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لابد من ترك أضداده، لكن / ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك .(1/333)
وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال : فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا : الواجب ما يذم تاركه، ويعاقب تاركه، أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب .
فقولنا : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو [ يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب ] . يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب الأول، والثاني . فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به، ويؤمر به أمرًا بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه .
/ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي، فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما، بحيث إذا أكلهما جميعًا لم يعاقب عقوبة من أكل ميتتين، بل عقوبة من أكل ميتة واحدة، والأخرى وجب تركها وجوب الوسائل . فقول من قال : كلاهما محرم صحيح بهذا الاعتبار؛ وقول من قال : المحرم في نفس الأمر أحدهما صحيح أيضًا بذلك الاعتبار وهذا نظير قول من قال : يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب .
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا، ومن قال : المحرم أحدهما لا يناسب طريقة الفقهاء، وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي . فإن الوجوب والحرمة الثابتة لأحدهما ليست ثابتة للآخر، بل نوع آخر، حتى لو اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الأخرى، كان ولده من مملوكته ثابتًا نسبه بخلاف الأخرى، ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلًا، ثم تزوج الأخرى لم يحد حدين، مع أنه لاحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الأجنبية .(1/334)
وبهذا تنحل شبهة الكعبي . فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق .
/ثم إن هذا يعتبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالًا ليشتغل به عن الطعام الحرام، فهذا يثاب على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( وفي بضع أحدكم صدقة ) . قالوا : يارسول اللّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر ؟ ! قال : ( أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر، فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال ؟ ! ) ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته ) رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه .
وقد يقال : المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلًا، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد . فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك . فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري . وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها .(1/335)
والمقصود هنا أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح / عن مباح آخر، فيكون كل من المباحين يستوى وجوده وعدمه في حقهم . أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة اللّه، وحينئذ فمباحاتهم طاعات، وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده، فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه، وإن لم يكن فيه إثم . والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها فهذا سؤال .
وسؤال ثان : وهو أنه إذا قدر أن من الأفعال ماليس فيه أمر ولا نهي، كما في حق الأبرار، فهذا الفعل لا يحمد ولا يذم، ولا يحب ولا يبغض، ولا ينظر فيه إلا وجود القدر وعدمه، بل إن فعلوه لم يحمدوا، وإن لم يفعلوه لم يحمدوا، فلا يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل، مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم وإرادتهم . إذ الكلام في ذلك .
وأما غيرالأفعال الاختيارية، وهو ما فعل بالإنسان كما يحمل الإنسان وهو لا يستطيع الامتناع، فهذا خارج عن التكليف، مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة، ويبغضه إن كان سيئة، ويخلو عنهما إن لم يكن حسنة ولا سيئة، فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية كالميت بين / يدي الغاسل فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل .
وسؤال ثالث : وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط الأمر والنهي عن العبد في هذه الأحوال، مع كون أفعاله اختيارية، وهب أنه ليس له هوى، فليس كل مالا هوى فيه يسقط عنه فيه الأمر والنهي، بل عليه أن يحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله .
قيل : هذه الأسئلة أسئلة صحيحة .
) الصوفية ونشأتها وحكمها )(1/336)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=216 - TOP#TOPسُئِلَ شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحَهُ ـ عن ( الصوفية ) وأنهم أقسام و ( الفقراء ) أقسام، فما صفة كل قسم ؟ وما يجب عليه ويستحب له أن يسلكه ؟
فأجاب :
الحمد للّه . أما لفظ ( الصوفية ) : فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ؛ كالإمام أحمد ابن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما . وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي / أضيف إليه الصوفي، فإنه من أسماء النسب؛ كالقرشي، والمدني، وأمثال ذلك .
فقيل : إنه نسبة إلى ( أهل الصفة ) وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صُفِّيّ . وقيل : نسبة إلى الصف المقدم بين يدي اللّه، وهو أيضًا غلط؛ فإنه لو كان كذلك لقيل : صَفِّيّ . وقيل : نسبة إلى الصفوة من خلق اللّه وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صفوي . وقيل : نسبة إلى صوفة بن بشر بن أدِّ بن طابخة، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا للنسب من جهة اللفظ، فإنه ضعيف أيضًا؛ لأن هؤلاء غير مشهورين، ولا معروفين عند أكثر النساك، ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم ( الصوفى ) لا يعرف هذه القبيلة، ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام .(1/337)
وقيل ـ وهو المعروف ـ : إنه نسبة إلى لبس الصوف؛ فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد [ عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصرى شيخ الصوفية وواعظهم، لحق الحسن البصرى وغيره . قال البخارى : تركوه . وقال النسائى : متروك الحديث . وقال الجوزجانى : سيئ المذهب، ليس من معادن الصدق . توفى بعد الخمسين ومائة من الهجرة . [ سير أعلام النبلاء 7/178 ـ 180، ميزان الاعتدال 2/372، 376 ] .
وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان فى البصرة من المبالغة فى الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، /مالم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال : فقه كوفي، وعبادة بصرية . وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال : إن قوما يتخيرون الصوف، يقولون : أنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا .
ولهذا غالب ما يحكي من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشى عليه في سماع القرآن، ونحوه .
كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } [ المدثر : 8 ] فخر ميتا، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات، وكذلك غيره ممن روى أنهم ماتوا باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين : كأسماء بنت أبي بكر، وعبد اللّه بن الزبير، ومحمد بن سيرين، ونحوهم .
والمنكرون لهم مأخذان :
منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا . يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال : ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ / على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق .(1/338)
ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدى الصحابة، كما نقل عن أسماء، وابنهاعبد اللّه .
والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه، وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا . فقال : قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى ابن سعيد، فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا . وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه .
لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] . وقال تعَالى : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] وقال : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 109 ] .
وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها، والجفاء عن الدين، ماهو مذموم، وقد فعلوا، ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلاطرفي هذه الأمور ذميم .
بل المراتب ثلاث :(1/339)
أحدها : حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب، لا يلين للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود . قال اللّه تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ] وقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] .
والثانية : حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا الذي يصعق صعق موت، أو صعق غشي، فإن ذلك/ إنما يكون لقوة الوارد، وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله . ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه، وكذلك في غيره، ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه، بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك .(1/340)
فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه، فلا وجه للريبة . كمن سمع القرآن السماع الشرعي، ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفنا، ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما، بل معذورا فإن السكران بلا تمييز، وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة فإنه يحرم بلانزاع بين المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر، وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل :
سكران : سكر هوى، وسكر مدامة**ومتى إفاقة من به سكران
/وهذا مذموم، لأن سببه محظور، وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضًا مذموم، فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله؛ إذ إزالة العقل محرم . ومتي أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرما، وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان، فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا اللّه أن نمتع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها بما يوجب زوال عقولنا؛ بخلاف من زال عقله بسبب مشروع، أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه .
وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه، كسماع لم يقصده يهيج قاطنه، ويحرك ساكنه، ونحو ذلك . وهذا لا ملام عليه فيه، وما صدر عنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم، كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما .
ومن زال عقله بالخمر . فهل هو مكلف حال زوال عقله ؟ فيه قولان مشهوران، وفي طلاق من هذه حاله نزاع مشهور، ومن زال عقله بالبنج يلحق به، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل يفرق بينه وبين الخمر؛ لأن هذا يشتهي، وهذا لا يشتهي؛ ولهذا/ أوجب الحد في هذا دون هذا، وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة .(1/341)
ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونًا، إما بسبب خلط يغلب عليه، وإما بغير ذلك، ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك، وقد يسمون المولهين [ المولهين : الوَلهُ : الحزن، وقيل : هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد أو الحزن . ] . قال فيهم بعض العلماء : هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا؛ فسلب عقولهم، وأسقط ما فرض بما سلب .
فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه اللّه أو فعل ما يكرهه اللّه .
ولكن من لم يزل عقله، مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم . وهذه حال الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسرى به إلى السماء وأراه اللّه ما أراه، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من/ حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة، لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلا وأفضل .(1/342)
والمقصود : أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، وذلك لشدة الخوف، فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم . ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية اللّه ما قابلهم أو تفضل عليهم . ومن خاف اللّه خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه اللّه وترك ما يكرهه اللّه من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء، وهو حال الصحابة رضي اللّه عنهم وقد روى : أن عطاء السليمي - رضي اللّه عنه - رؤى بعد موته فقيل له : مافعل اللّه بك ؟ فقال : قال لي : ياعطاء ! أما استحيت مني أن تخافني كل هذا ؟ ! أما بلغك أني غفور رحيم ؟ ! .
وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي اللّه عنهم وعلى ما سنه الرسول أمور توجب أن يصير الناس طرفين :
قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك .
/وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها .
والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك . وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس .
وخيار الناس من ( أهل الفقه والرأي ) في أولئك الكوفيين على طرفين :
قوم يذمونهم ويسرفون فى ذمهم .
وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم وربما فضلوهم على الصحابة . كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة، وهذا باب يفترق فيه الناس .(1/343)
والصواب : للمسلم أن يعلم أن خيرالكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى اللّه ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا اللّه بحسب اجتهادهم ووسعهم، كما قال اللّه تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] وقال صلى الله عليه وسلم : / ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ، وقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 285 ] . وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء اللّه - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ماحصل للصحابة، فيتقى اللّه ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده، فلابد أن يصدر منه خطأ إما في علومه وأقواله وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم؛ فإن اللّه تعالى قال : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 285، 286 ] قال اللّه تعالى : قد فعلت .
فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ، ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا، فهو مخطئ ضال مبتدع .(1/344)
ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة،وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقا، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته، محاط وحال من يقول / بالتحافظ وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة .
وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد اللّه وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه، فهذا هذا .
وإذا عرف أن منشأ ( التصوف ) كان من البصرة، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد، مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ماله فيه اجتهاد، وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة، وهي لباس الصوف . فقيل في أحدهم : ( صوفي ) وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال .(1/345)
ثم ( التصوف ) عندهم له حقائق وأحوال معروفة قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه، كقول بعضهم : ( الصوفي ) من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر . التصوف كتمان المعاني، وترك الدعاوي . وأشباه ذلك : وهم يسيرون بالصوفي إلى/ معنى الصديق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون . كما قال اللّه تعالى : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 ] ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصديق من أهل هذه الطريق، كما يقال : صديقوا العلماء، وصديقوا الأمراء، فهو أخص من الصديق المطلق، ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين : إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضًا، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة اللّه ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجلِّ الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع؛ ولهذا يوجد لك منهم صنف من الأحوال والعبادات، حققه وأحكمه وغلب عليه، وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه .
ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنزع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت ( الصوفية والتصوف ) . وقالوا : إنهم / مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام .
وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم .(1/346)
و ( الصواب ) أنهم مجتهدون في طاعة اللّه، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة اللّه، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب .
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه .
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم : كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشائخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق . مثل : الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره . كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في ( طبقات الصوفية ) وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد .
فهذا أصل التصوف . ثم أنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت / الصوفية ( ثلاثة أصناف ) : صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم .
فأما ( صوفية الحقائق ) : فهم الذين وصفناهم .
وأما ( صوفية الأرزاق ) فهم الذين وقفت عليهم الوقوف . كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق . فإن هذا عزيز وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك؛ ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط :
( أحدها ) : العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم .
و ( الثاني ) : التأدب بآداب أهل الطريق،وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها .
و ( الثالث ) : أن لا يكون أحدهم متمسكًا بفضول الدنيا، فأما من كان جماعا للمال، أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة، ولا يتأدب بالآداب الشرعية، أو كان فاسقا فإنه لا يستحق ذلك .
وأما صوفية الرسم : فهم المقتصرون على النسبة،فهمهم في اللباس/ والآداب الوضعية، ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع مَّا من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم .(1/347)
وأما اسم ( الفقير ) : فإنه موجود في كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن المراد به في الكتاب والسنة الفقير المضاد للغني . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . و ( الفقراء والفقر ) أنواع : فمنه المسوغ لأخذ الزكاة . وضده الغني المانع لأخذ الزكاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ) والغني الموجب للزكاة غير هذا عند جمهور العلماء . كمالك والشافعي وأحمد،وهو ملك النصاب وعندهم قد تجب على الرجل الزكاة، ويباح له أخذ الزكاة خلافا لأبي حنيفة .
واللّه سبحانه قد ذكر الفقراء في مواضع؛ لكن ذكر اللّه الفقراء المستحقين للزكاة في آية والفقراء المستحقين للفيء في آية . فقال في الأولى : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } ـ إلى قوله : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ } [ البقرة : 271 : 273 ] . وقال في الثانية : { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الآية إلى قوله : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 7-8 ] .
وهؤلاء [ الفقراء ] قد يكون فيهم من هو أفضل من كثير من الأغنياء، وقد يكون من الأغنياء من هو أفضل من كثير منهم .(1/348)
وقد تنازع الناس أيما أفضل : الفقير الصابر،أوالغني الشاكر ؟ والصحيح : أن أفضلهما أتقاهما؛ فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة لأنه لا حساب عليهم . ثم الأغنياء يحاسبون، فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير، كانت درجته في الجنة أعلى، وإن تأخر عنه في الدخول . ومن كانت حسناته دون حسناته كانت درجته دونه؛ لكن لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب صار الفقر في إصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد، وهو من جنس التصوف .
فإذا قيل : هذا فيه فقر أو ما فيه فقر لم يرد به عدم المال، / ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق، والآداب ونحو ذلك .
وعلى هذا الاصطلاح قد تنازعوا أيما أفضل : الفقير، أو الصوفي ؟ فذهب طائفة إلي ترجيح الصوفي، كأبي جعفر السهروردي ونحوه، وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير ـ كطوائف كثيرين ـ وربما يختص هؤلاء بالزوايا وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك، وأكثر الناس قد رجحوا الفقير .
والتحقيق أن أفضلهما أتقاهما، فإن كان الصوفي أتقى للّه كان أفضل منه، وهو أن يكون أعمل بما يحبه اللّه، وأترك لما لايحبه فهو أفضل من الفقير، وإن كان الفقير أعمل بما يحبه اللّه وأترك لما لا يحبه كان أفضل منه، فإن استويا في فعل المحبوب وترك غير المحبوب استويا في الدرجة .
وأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون، سواء سمى أحدهم فقيرًا أو صوفيًا أو فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك .
قال اللّه تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] .(1/349)
/وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول اللّه تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) . وهذا الحديث قد بين فيه أولياء اللّه المقتصدين، أصحاب اليمين والمقربين السابقين .
فالصنف الأول : الذين تقربوا إلى اللّه بالفرائض . والصنف الثاني : الذي تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وهم الذين لم يزالوا يتقربون إليه بالنوافل حتى أحبهم، كما قال تعالى .
وهذان الصنفان قد ذكرهم اللّه في غير موضع من كتابه كما قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [ فاطر : 32 ] وكما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 22-28 ] قال ابن عباس : يشرب /بها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا .(1/350)
وقال تعالى : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا } [ الإنسان : 17، 18 ] وقال تعالى : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 8-11 ] وقال تعالى : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } [ الواقعة : 88-91 ] .
وهذا الجواب فيه جمل تحتاج إلى تفصيل طويل لم يتسع له هذا الموضع . واللّه أعلم .
فَصْل
وأهل الضلال، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، هم كما قال مجاهد : أهل البدع والشبهات؛ يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل، كما قال فيهم الإمام أحمد، قال : هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يحتجون بالمتشابه من الكلام، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم .
والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون : نفوّض معناه إلى اللّه، وهذا فعل عامتهم .(1/351)
وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة، يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول، ويجعلون كلام اللّه ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا اللّه، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم، والراسخون عندهم من كان موافقًا لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم، كالنصارى، والخوارج، وغيرهم؛ إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام اللّه وجعلوه محكمًا، وجعلوا المحكم متشابهًا .
وأما أولئك ـ كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة ـ فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء، وإن كان صريحًا قد يعلم معناه بالضرورة، يجعلونه من المتشابه؛ ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط وعبد اللّه بن المبارك وغيرهما ـ كطائفة من أصحاب أحمد : إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين وسبعين فرقة، قالوا : وأصولها أربعة : الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن في قوله تعالى : { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، في المتشابهات قولان :
أحدهما : أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس .(1/352)
والثاني ـ وهو الصحيح ـ : أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] ، وهذا كقوله : ( الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) ، وكذلك قولهم : { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] .
وقد صنف أحمد كتابًا في ( الرد على الزنادقة والجهمية ) فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق ابن عباس . قال الحسن البصري : ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت، وماذا عني بها .
ومن قال من السلف : إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه فقد أصاب أيضًا، ومراده بالتأويل ما استأثر اللّه بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجىء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه .(1/353)
وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم، كقوله : { إنَّا } و { نحن } ، وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم الذي له أعوان، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة، فتأويل هذا الذي هو تفسيره يعلمه الراسخون، ويفرقون بين ما قيل فيه : { إيَّاي } وما قيل فيه : { إنَّا } لدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه، إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده؛ ولهذا لا يقول : فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها الملائكة قال : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } [ الفتح : 1 ] ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] ، { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } [ القصص : 3 ] ، ونحو ذلك، مع أن تأويل هذا ـ وهو حقيقة ما دل عليه من الملائكة وصفاتهم وكيفية إرسال الرب لهم ـ لا يعلمه إلا اللّه، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله اللّه ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ : يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد .(1/354)
وهذا مثل لفظ [ المركب ] و [ الجسم ] و [ المتحيز ] و [ الجوهر ] و [ الجهة ] و [ العرض ] ونحو ذلك، ولفظ [ الحيز ] ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ، لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضًا، بل هم يختصون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن بالأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم، فإنها ملفقة من مقدمات مشتركة، يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل، وفي المعنى ليس بدليل، كمن يقول : سهيل بعيد من الثريا، لا يجوز أن يقترن بها، ولا يتزوجها، والذي قال :
أيها المنكح الثريا سهيلا
أراد امرأة اسمها الثريا، ورجلا اسمه سهيل . ثم قال :
عمرك اللّه كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ** وسهيل إذا استقل يمان
وهذا لفظ مشترك، فجعل يعجبه، وإنكاره من الظاهر من جهة اللفظ المشترك، وقد بسط الكلام على أدلتهم المفصلة في غير موضع .
والأصل الذي بني عليه نفاة الصفات وعطلوا ما عطلوه حتى صار منتهاهم إلى قول فرعون الذي جحد الخالق، وكذب رسوله موسي في أن اللّه كلمه، هو استدلالهم على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة، واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث، ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، وهذا أصل قول الجهمية الذين أطبق السلف والأئمة على ذمهم، وأصل قول المتكلمين الذين أطبقوا على ذمهم، وقد صنف الناس مصنفات متعددة فيها أقوال السلف والأئمة في ذم الجهمية، وفي ذم هؤلاء المتكلمين .(1/355)
والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر اللّه به رسوله، والاستدلال بما بينه اللّه ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضًا وهو الباطل، فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل .
ولكن كثيرًا من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام، فمنهم من اعتقده موافقًا للشرع والعقل، حتى اعتقد أن إبراهيم الخليل استدل به، ومن هؤلاء من يجعله أصل الدين ولا يحصل الإيمان أو لا يتم إلا به، ولكن من عرف ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة علم بالاضطرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، فصار من عرف ذلك يعرف أن هذا بدعة، وكثير منهم لا يعرف أنه فاسد، بل يظن مع ذلك أنه صحيح من جهة العقل، لكنه طويل أو يبعد المعرفة، أو هو طريق مخيفة مخطر يخاف على سالكه، فصاروا يعيبونه كما يعاب الطريق الطويل والطريق المخيف، مع اعتقادهم أنه يوصل إلى المعرفة، وأنه صحيح في نفسه .
وأما الحذاق العارفون تحقيقه فعلموا أنه باطل عقلا وشرعًا، وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة، بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك .
ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك؛ إذ كان حقيقته أن كل موجود فهو حادث مسبوق بالعدم، وليس في الوجود قديم، وهذا مكابرة؛ فإن الوجود مشهود، وهو إما حادث وإما قديم، والحادث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين .(1/356)
وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك، كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع، وحقيقته أن كل موجود فهو ممكن ليس في الوجود موجود بنفسه، مع أنهم جعلوا هذا طريقًا لإثبات الواجب بنفسه، كما يجعل أولئك هذا طريقًا لإثبات القديم، وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه، مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة .
ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه، وقالوا : هو اللّه، وأنكروا أن يكون للعالم رب مباين للعالم؛ إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لابد منه على كل قول، وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب، لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم،بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه .
ولكن وصفوه بصفات الممتنع، فقالوا : لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو صفة ولا موصوف، ولا يشار إليه، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه، وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر، ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود، فدليلهم في نفس الأمر يستلزم أنه ما ثَمَّ قديم ولا واجب، ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب، وهذا الذي أثبتوه هو ممتنع، فما أثبتوا قديمًا ولا واجبًا .(1/357)
فجاء آخرون من جهميتهم فرأوا هذا مكابرة، ولابد من إثبات القديم والواجب، فقالوا : هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون : إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا : هو عين الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الموجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه، وأما حقيقة قولهم فهو النفي أنه لا داخل العالم ولا خارجه،ولكن هذا لم تسمعه الأئمة، ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم؛ ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام :
جهمية الأوصاف إلا أنها ** قد حليت بمحاسن الأشياء
وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر؛ إذ كان خلاف ما يعلمه كل أحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم، لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث لا يحدث بنفسه؛ ولهذا قال تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون } [ الطور : 35 ] ، وقد قيل : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } من غير رب خلقهم، وقيل : من غير مادة، وقيل : من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابد له من خالق .
ومعرفة الفطر أن المحدث لابد له من محدث أظهر فيها، من أن كل محدث لابد له من مادة خلق منها وغاية خلق لها؛ فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم ينازع في الأول، طائفة قالت : إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال : إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، و إما أن يقول : إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكي عمن لا يعرف .(1/358)
ومثل هذا القول وأمثاله يقوله من يقوله ممن حصل له فساد في عقله، صار به إلى السفسطة، والسفسطة تعرض لآحاد الناس، وفي بعض الأمور، ولكن أمة من الأمم كلهم سوفسطائية في كل شيء، هذا لا يتصور؛ فلهذا لا يعرف عن أمة من الأمم أنهم قالوا بحدوث العالم من غير محدث .
وهؤلاء لما اعتقدوا أن كل موصوف أو كل ما قامت به صفة أو فعل بمشيئته، فهو محدث وممكن، لزمهم القول بحدوث كل موجود؛ إذ كان الخالق جل جلاله متصفًا بما يقوم به من الصفات والأمور الاختياريات، مثل أنه متكلم بمشيئته وقدرته، ويخلق ما يخلقه بمشيئته وقدرته، لكن هؤلاء اعتقدوا انتفاء هذه الصفات عنه؛ لاعتقادهم صحة القول بأن ما قامت به الصفات والحوادث فهو حادث؛ لأن ذلك لا يخلو من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإذا كان حادثًا كان له محدث قديم، واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب، وأنه ذات مجردة عن الصفات، ووجوده مطلق لا يشار إليه ولا يتعين، ويقولون : هو بلا إشارة ولا تعيين، وهذا الذي أثبتوه لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو في الذهن، فكان ما أثبتوه واعتقدوا أنه الصانع للعالم إنما يتحقق في الأذهان لا فى الأعيان، وكان حقيقة قولهم تعطيل الصانع .
فجاء إخوانهم في أصل المقالة . وقالوا : هذا الوجود المطلق المجرد عن الصفات هو الوجود الساري في الموجودات، فقالوا بحلوله في كل شيء .
وقال آخرون منهم : هو وجود كل شيء، ومنهم من فرق بين الوجود والثبوت، ومنهم من فرق بين التعيين والإطلاق، ومنهم من جعله في العالم كالمادة في الصورة، ومنهم من جعله في العالم كالزبد في اللبن وكالزيت والشيرج فى السمسم والزيتون، وقد بسط الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع .(1/359)
والمقصود هنا أن الأصل الذي أضلهم قولهم : ما قامت به الصفات والأفعال، والأمور الاختيارية أو الحوادث فهو حادث، ثم قالوا : والجسم لا يخلو من الحوادث، وأثبتوا ذلك بطرق؛ منهم من قال : لا يخلو عن الأكوان الأربعة : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق . ومنهم من قال : لا يخلو عن الحركة والسكون فقط . ومنهم من قال : لا يخلو عن الأعراض، والأعراض كلها حادثة، وهي لا تبقى زمانين، وهذه طريقة الآمدي، وزعم أن أكثر أصحاب الأشعرية اعتمدوا عليها، والرازى اعتمد على طريقة الحركة والسكون .
وقد بسط الكلام على هذه الطرق، وجميع ما احتجوا به على حدوث الجسم وإمكانه، وذكرنا في ذلك كلامهم هم أنفسهم فى فساد جميع هذه الطرق، وأنهم هم بينوا فساد جميع ما استدل به على حدوث الجسم وإمكانه، وبينوا فسادها طريقًا طريقًا بما ذكروه، كما قد بسط هذا فى غير هذا الموضع .
وأما الهشامية والكَرَّامية، وغيرهم، ممن يقول بأنه جسم قديم، فقد شاركوهم في أصل هذه المقالة، لكن لم يقولوا بحدوث كل جسم، ولا قالوا : إن الجسم لا ينفك عن الحوادث؛ إذ كان القديم عندهم جسمًا قديمًا وهو خال من الحوادث، وقد قيل : أول من قال في الإسلام : إن القديم جسم هو هشام بن الحكم [ هو هشام بن الحكم الشيباني، من أهل الكوفة، متكلم مناظر، من كبار الرافضة ومشاهيرهم، له مصنفات كثيرة منها [ الإمامة ] و [ القدر ] و [ الرد على من قال بإمامة المفضول ] ، يقال : إنه عاش إلى خلافة المأمون، وتوفى سنة 971هـ ] ، كما أن أول من أظهر في الإسلام نفي الجسم هو الجهم بن صفوان .(1/360)
وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية كثير مشهور، فإن مرض التعطيل شر من مرض التجسيم، وإنما كان السلف يذمون المشبهة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنه ـ وإسحاق بن راهويه وغيرهما، قالوا : المشبهة الذين يقولون : بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي . وابن كلاب ومن تبعه أثبتوا الصفات التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته، فأما التي تتعلق بمشيئته وقدرته فينفونها، قالوا : لأنها حادثة ولو قامت به الحوادث لكان حادثًا؛ لأن ما قبل الشيء لم يخل عنه وعن ضده، فلو قبل بعض هذه الحوادث لم يخل منه ومن ضده فلم يخل من الحوادث فيكون حادثًا .
ومحمد بن كرَّام كان بعد ابن كُلاَّب في عصر مسلم بن الحجاج، أثبت أنه يوصف بالصفات الاختياريات،ويتكلم بمشيئته وقدرته، ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فلم يقل بقول السلف : إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بل قال : إنه صار يتكلم بمشيئته وقدرته، كما صار يفعل بمشيئته وقدرته بعد أن لم يكن كذلك، وقال هو وأصحابه في المشهور عنه : إن الحوادث التي تقوم به لا يخلو منها ولا يزول عنها؛ لأنه لو قامت به الحوادث ثم زالت عنه كان قابلاً لحدوثها وزوالها، وإذا كان قابلاً لذلك لم يخل منه، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإنما يقبل على أصلهم أنه تقوم به الحوادث فقط، كما يقبل أن يفعلها ويحدثها، ولا يلزم من ذلك أنها لم تخل منه، كما لم يلزم أنه لم يزل فاعلا لها . والحدوث عندهم غير الأحداث . والقرآن عندهم حادث لا محدث؛ لأن المحدث يفتقر إلى إحداث بخلاف الحدوث .(1/361)
وهم إذا قالوا : كان خاليًا منها في الأزل وكان ساكنًا، لم يقولوا : إنه قام به حادث، بل يقولون : السكون أمر عدمي كما يقوله الفلاسفة ولكن الحركة أمر وجودي، بخلاف ما يقوله من يقوله من المعتزلة والأشعرية : إن السكون أمر وجودي كالحركة، فإذا حصل به حادث لم يكن ثم عدم هذا الحادث، فإنما يعدم الحادث بإحداث يقوم به وهذا ممتنع، وهم يقولون : إنه يمتنع عدم الجسم، وعندهم أن الباري يقوم به إحداث المخلوقات وإفناؤها، فالحوادث التي تقوم بهم تقوم به لو أفناها لقام به الإحداث والإفناء، فكان قابلاً لأن يحدث فيه حادث ويفني ذلك الحادث، وما كان كذلك لم يخل من إحداث وإفناء فلم يخل من الحوادث، و ما لم يخل منها فهو حادث، وإنما كان كذلك لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده كما قالت الكلابية، لكن المعتزلة يقولون : السكون ضد الحركة فالقابل لأحدهما لا يخلو عنه وعن الآخر، وهؤلاء يقولون : السكون ليس بضد وجودي، بل هو عدمي، وإنما الوجودي هو الإحداث والإفناء، فلو قبل قيام الإحداث والإفناء به لكان قابلاً لقيام الأضداد الوجودية، والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده .
وهؤلاء لما أراد منازعوهم إبطال قولهم، كان عمدتهم بيان تناقض أقوالهم، كما ذكر ذلك أبو المعالي وأتباعه، وكما ذكر الآمدي تناقضهم من وجوه كثيرة، قد ذكرت في غير هذا الموضع، وغايتها أنها تدل على مناقضتهم لا على صحة مذهب المنازع .(1/362)
وثَمَّ طائفة كثيرة تقول : إنه تقوم به الحوادث وتزول، وإنه كلم موسى بصوت وذلك الصوت عدم، وهذا مذهب أئمة السنة والحديث من السلف وغيرهم، وأظن الكرامية لهم في ذلك قولان، وإلا فالقول بفناء الصوت الذي كلم به موسى من جنس القول بقدمه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والحديث والفقه من السالمية وغيرهم، ومن الحنبلية والشافعية والمالكية، يقول : إنه كلم موسى بصوت سمعه موسى، وذلك الصوت قديم، وهذا القول يعرف فساده ببديهة العقل، وكذلك قول من يقول : كلمة بصوت حادث، وأن ذلك الصوت باق لا يزال هو وسائر ما يقوم به من الحوادث، هي أقوال يعرف فسادها بالبديهة .
وإنما أوقع هذه الطوائف في هذه الأقوال ذلك الأصل الذي تلقوه عن الجهمية، وهو أن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وهو باطل عقلاً وشرعًا، وهذا الأصل فاسد مخالف للعقل والشرع، وبه استطالت عليهم الفلاسفة الدهرية، فلا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل قد خالفوا السلف والأئمة، وخالفوا العقل والشرع، وسلطوا عليهم وعلى المسلمين عدوهم، من الفلاسفة والدهرية والملاحدة بسبب غلطهم في هذا الأصل الذي جعلوه أصل دينهم،ولو اعتصموا بما جاء به الرسول لوافقوا المنقول والمعقول، وثبت لهم الأصل،ولكن ضيعوا الأصول فحرموا الوصول،والأصول اتباع ما جاء به الرسول .(1/363)
وأحدثوا أصولا ظنوا أنها أصول ثابتة، وكانت كما ضرب اللّه المثلين : مثل البناء والشجرة، فقال في المؤمنين والمنافقين : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ التوبة : 109 ] ، وقال : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } [ إبراهيم : 24-27 ] ، والأصول مأخوذة من أصول الشجرة وأساس البناء؛ ولهذا يقال فيه : الأصل ما ابتنى عليه غيره، أو ما تفرع عنه غيره .
فالأصول الثابتة هي أصول الأنبياء، كما قيل :
أيها المغتدى لتطلب علما ** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح حكما ** ثم أغفلت أصل أصل الأصول
واللّه يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا .(1/364)
وهذه الأصول ينبني عليها ما في القلوب، ويتفرع عليها . وقد ضرب اللّه مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين . و [ الكلمة] هي قضية جازمة وعقيدة جامعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام،وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم قضية، فالكلمة الطيبة في قلوب المؤمنين ـ وهي العقيدة الإيمانية التوحيدية ـ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فأصل أصول الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبات أصل الشجرة الطيبة وفرعها في السماء { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] واللّّه- سبحانه - مَثَّل الكلمة الطيبة، أي : كلمة التوحيد، بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء .(1/365)
فبين بذلك أن الكلمة الطيبة لها أصل ثابت في قلب المؤمن، ولها فرع عال، وهي ثابتة في قلب ثابت، كما قال : { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } ، فالمؤمن عنده يقين وطمأنينة، والإيمان في قلبه ثابت مستقر، وهو في نفسه ثابت على الإيمان مستقر لا يتحول عنه،والكلمة الخبيثة {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ } ، استؤصلت واجتثت، كما يقطع الشيء يجتث من فوق الأرض { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } : لا مكان تستقر فيه ولا استقرار في المكان؛فإن القرار يراد به مكان الاستقرار،كما قال تعالى : { وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ ابراهيم : 29 ] ، وقال : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } [ غافر : 64 ] . ويقال : فلان ما له قرار أي ثبات، وقد فسر القرار في الآية بهذا وهذا، فالمبطل ليس قوله ثابتًا في قلبه، ولا هو ثابت فيه ولا يستقر، كما قال تعالى في المثل الآخر : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } [ الرعد : 17 ] فإنه وإن اعتقده مدة فإنه عند الحقيقة يخونه، كالذي يشرك باللّه، فعند الحقيقة يضل عنه ما كان يدعو من دون اللّه .(1/366)
وكذلك الأفعال الباطلة التي يعتقدها الإنسان عند الحقيقة تخونه ولا تنفعه، بل هي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فمن كان معه كلمة طيبة أصلها ثابت كان له فرع في السماء يوصله إلى اللّه، فإنه سبحانه { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [ فاطر : 10 ] ومن لم يكن معه أصل ثابت فإنه يحرم الوصول؛ لأنه ضيع الأصول . ولهذا تجد أهل البدع والشبهات لا يصلون إلى غاية محمودة، كما قال تعالى : لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [ الرعد : 14 ] .
واللّه - سبحانه- بعث الرسل وأنزل الكتب، بأن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أمر به على ألسن رسله .
وأصل عبادته معرفته بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسله؛ ولهذا كان مذهب السلف أنهم يصفون اللّه بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون بعض ذلك ما قدروا اللّه حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، ولا وصفوه حق صفته، ولا عبدوه حق عبادته .(1/367)
واللّه - سبحانه - قد ذكر هذه الكلمة ماقدروا اللّه حق قدره في ثلاثة مواضع؛ ليثبت عظمته في نفسه، وما يستحقه من الصفات، وليثبت وحدانيته وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وليثبت ما أنزله على رسله، فقال في الزمر : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الآية [ الزمر : 67 ] ، وقال في الحج : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الحج : 73، 74 ] ، وقال في الأنعام : { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] .
وفي المواضع الثلاثة ذم الذين ما قدروه حق قدره من الكفار، فدل ذلك على أنه يجب على المؤمن أن يقدر اللّه حق قدره، كما يجب عليه أن يتقيه حق تقاته، وأن يجاهد فيه حق جهاده، قال تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] ، وقال : { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] والمصدر هنا مضاف إلى المفعول، والفاعل مراد أي حق جهاده الذي أمركم به، وحق قاته التي أمركم بها،واقدروه قدره الذي بينه لكم وأمركم به،فصدقوا الرسول فيما أخبر،وأطيعوه فيما أوجب وأمر . وأما ما يخرج عن طاقة البشر فذلك لا يذم أحد على تركه، قالت عائشة : فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو .
ودلت الآية على أن له قدرًا عظيمًا، لا سيما قوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وفي تفسير ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال : من آمن بأن اللّه على كل شيء قدير، فقد قدر اللّه حق قدره .(1/368)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، لما ذكر له بعض اليهود أن اللّه يحمل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر والثَّرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع؛ فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا لقول الحَبْرِ، وقرأ هذه الآية .
وعن ابن عباس قال : مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم، ما تقول إذا وضع اللّه السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال والماء على ذه، وسائر الخلق على ذه ؟ فأنزل اللّه تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الضحى عن ابن عباس، وقال : غريب حسن صحيح .
وهذا يقتضى أن عظمته أعظم ما وصف ذلك الحبْر، فإن الذي في الآية أبلغ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول : أنا الملك، أين ملوك الأرض ) .
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( يطوي اللّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول : أين الملوك ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ) ورواه مسلم أبسط من هذا، وذكر فيه أنه يأخذ الأرض بيده الأخرى .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، ثنا عمرو بن رافع، ثنا يعقوب بن عبد اللّه، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال : تكلمت اليهود في صفة الرب ـ تبارك وتعالى ـ فقالوا ما لم يعلموا ولم يروا، فأنزل اللّه على نبيه : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فجعل صفته التي وصفوه بها شركا .(1/369)
وقال : حدثنا أبي، ثنا أبو نعيم، ثنا الحكم - يعني أبا معاذ- عن الحسن، قال : عمدت اليهود فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فرغوا أخذوا يقدرونه، فأنزل اللّه تعالى على نبيه : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، وهذا يدل على أنه أعظم مما وصفوه، وأنهم لم يقدروه حق قدره .
وقوله : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } فكل من جعل مخلوقًا مثلا للخالق في شيء من الأشياء فأحبه مثل ما يحب الخالق، أو وصفه بمثل ما يوصف به الخالق فهو مشرك، سوى بين اللّه وبين المخلوق في شيء من الأشياء فعدل بربه، والرب تعالى لا كفؤ له، ولا سَمِيّ له، ولا مثل له، ومن جعله مثل المعدوم والممتنع فهو شر من هؤلاء، فإنه معطل ممثل، والمعطل شر من المشرك .
واللّه ثني قصة فرعون في القرآن في غير موضع؛ لاحتياج الناس إلى الاعتبار بها، فإنه حصل له من الملك ودعوى الربوبية والإلهية والعلو ما لم يحصل مثله لأحد من المعطلين، وكانت عاقبته إلى ما ذكر اللّه تعالى، وليس للّه صفة يماثله فيها غيره، فلهذا لم يجز أن يستعمل في حقه قياس التمثيل، ولا قياس الشمول الذي تستوى أفراده، فإن ذلك شرك، إذ سوى فيه بالمخلوق، بل قياس الأولى، فإنه ـ سبحانه ـ { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الروم : 27 ] . فهو أحق من غيره بصفات الكمال، وأحق من غيره بالتنزيه عن صفات النقص .
وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، وبين أن من جعله الوجود المطلق والمقيد بالسلب أو ذاتًا مجردة، فهؤلاء مثلوه بأنقص المعقولات الذهنية، وجعلوه دون الموجودات الخارجية، والنفاة الذين قصدوا إثبات حدوث العالم بإثبات حدوث الجسم لم يثبتوا بذلك حدوث شيء، كما قد بين في موضعه .(1/370)
ثم إنهم جعلوا عمدتهم في تنزيه الرب عن النقائص على نفي الجسم، ومن سلك هذا المسلك لم ينزه اللّه عن شىء من النقائص البتة،فإنه ما من صفة ينفيها؛ لأنها تستلزم التجسيم وتكون من صفات الأجسام إلا يقال له : فيما أثبته نظير ما يقوله هو في نفس تلك الصفة .
فإن كان مثبتًا لبعض الصفات قيل له : القول في هذه الصفة التي تنفيها كالقول فيما أثبته، فإن كان هذا تجسيمًا وقولاً باطلاً فهذا كذلك، وإن قلت : أنا أثبت هذا على الوجه الذي يليق بالرب، قيل له : وكذلك هذا . وإن قلت : أنا أثبته وأنفى التجسيم، قيل : وهذا كذلك، فليس لك أن تفرق بين المتماثلين .
وإن كان ممن يثبت الأسماء وينفي الصفات ـ كالمعتزلة ـ قيل له في الصفات ما يقوله هو في الأسماء، فإذا كان يثبت حيا عالمًا قادرًا، وهو لا يعرف من هو متصف بذلك إلا جسمًا كان إثبات أن له علمًا وقدرة، كما نطق به الكتاب والسنة كذلك .
وإن كان ممن لا يثبت لا الأسماء ولا الصفات كالجهمية المحضة والملاحدة، قيل له : فلابد أن تثبت موجودًا قائمًا بنفسه، وأنت لا تعرف ذلك إلا جسمًا، وإن قال : لا أسميه باسم لا إثبات ولا نفي، قيل له : سكوتك لا ينفي الحقائق، ولا واسطة بين النفي والإثبات، فإما أن يكون حقًا ثابتًا موجودًا، وإما أن يكون باطلاً معدومًا .
وأيضًا، فإن كنت لم تعرفه فأنت جاهل فلا تتكلم، وإن عرفته فلابد أن تميز بينه وبين غيره بما يختص به، مثل أن تقول : رب العالمين، أو القديم الأزلي، أو الموجود بنفسه ونحو ذلك، وحينئذ فقد أثبت حيًا موجودًا قائمًا بنفسه، وأثبته فاعلاً وأنت لا تعرف ما هو كذلك إلا الجسم .(1/371)
وإن قدر أنه جاحد له قيل له : فهذا الوجود مشهود، فإن كان قديمًا أزليًا موجودًا بنفسه فقد يثبت جسم قديم أزلي موجود بنفسه وهو ما فررت منه، وإن كان مخلوقًا مصنوعًا فله خالق خلقه، ولابد أن يكون قديمًا أزليًا، فقد ثبت الموجود القائم بنفسه القديم الأزلي على كل تقدير، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
وهنا قد نبهنا على ذلك، هو أنه كل من بني تنزيهه للرب عن النقائص والعيوب على نفي الجسم، فإنه لا يمكنه أن ينزهه عن عيب أصلاً بهذه الحجة، وكذلك من جعل عمدته نفي التركيب .
ومن تدبر ما ذكروه في كتبهم تبين له أنهم لم يقيموا حجة على وجوده، فلا هم أثبتوه وأثبتوا له ما يستحقه، ولا نزهوه ونفوا عنه ما لا يجوز عليه، إذ كان إثباته هو إثبات حدوث الجسم، ولم يقيموا على ذلك دليلاً، والنفي اعتمدوا فيه على ذلك، وهم متناقضون فيه لو كانوا أقاموا دليلا على نفي كونه جسمًا، فكيف إذا لم يقيموا على ذلك دليلاً وتناقضوا ؟ !
وهذا مما يتبين لك أن من خرج عن الكتاب والسنة، فليس معه علم لا عقلي ولا سمعي، لاسيما في هذا المطلوب الأعظم، لكنهم قد يكونون معتقدين لعقائد صحيحة عرفوها بالفطرة العقلية، وبما سمعوه من القرآن ودين المسلمين، فقلوبهم تثبت ما تثبت وتنفي ما تنفي بناء على هذه الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة، لكنهم سلكوا هذه الطرق البدعية، وليس فيها علم أصلا، ولكن يستفاد من كلامهم إبطال بعضهم لقول المبطل الآخر، وبيان تناقضه .(1/372)
ولهذا لما ذكروا المقالات الباطلة في الرب جعلوا يردونها بأن ذلك تجسيم، كما فعل القاضي أبو بكر في هداية المسترشدين وغيره، فلم يقيموا حجة على أولئك المبطلين، وردوا كثيرًا مما يقول اليهود بأنه تجسيم، وقد كان اليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكانوا أحيانًا يذكرون له بعض الصفات، كحديث الحبر، وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم : { إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ } [ آل عمران : 181 ] وأن يده مغلولة وغير ذلك، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط أنهم يجسمون، ولا أن في التوراة تجسيمًا ولا عابهم بذلك، ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله من النفاة .
فتبين أن هذه الطريقة مخالفة للشرع والعقل، وأنها مخالفة لما بعث اللّه به رسوله، ولما فطر عليه عباده، وأن أهلها من جنس الذين { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ]
وقد بينا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره الرازي من أن طريقة الوجوب والإمكان من أعظم الطرق، وبينا فسادها وأنها لا تفيد علمًا، وأنهم لم يقيموا دليلا على إثبات واجب الوجود، وأن طريقة الكمال أشرف منها وعليها اعتماد العقلاء قديمًا وحديثًا، وهو قد اعترف في آخر عمره بأنه قد تأمل الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما وجدها تشفى عليلا، ولا تروى [ في المطبوعة : ترى ـ والصواب ما أثبتناه ] غليلاً، ووجد أقرب الطرق طريقة القرآن .
وطريقة الوجوب والإمكان لم يسلكها أحد قبل ابن سينا، وهو أخذها من كلام المتكلمين الذين قسموا الوجود إلى محدث وقديم، فقسمه هو إلى واجب وممكن؛ ليمكنه القول بأن الفلك ممكن مع قدمه، وخالف بذلك عامة العقلاء من سلفه وغير سلفه، وخالف نفسه، فإنه قد ذكر في المنطق ما ذكره سلفه من أن الممكن لا يكون إلا محدثًا، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع .(1/373)
ثم إن هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة انتهت بهم إلى قول فرعون؛ فإن فرعون جحد الخالق، وكذب موسى في أن اللّه كلمه، وهؤلاء ينتهي قولهم إلى جحد الخالق، وإن أثبتوه قالوا : إنه لا يتكلم، ولا نادى أحدًا ولا ناجاه .
وعمدتهم في نفي ذاته على نفي الجسم، وفي نفي كلامه وتكليمه لموسى على أنه لاتحله الحوادث، فلا يبقى عندهم رب ولا مرسل . فحقيقة قولهم يناقض شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه؛ فإن الرسول هو المبلغ لرسالة مرسله، والرسالة هي كلامه الذي بعثه به، فإذا لم يكن متكلمًا لم تكن رسالة .
ولهذا اتفق الأنبياء على أن اللّه يتكلم، ومن لم يقل : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته، لم يقل : إنه يتكلم . والنفاة منهم من يقول : الكلام صفة فعل؛ بمعنى أنه مخلوق بائن عنه، ومنهم من يقول : هو صفة ذات؛ بمعنى أنه كالحياة يقوم بذاته، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل طائفة مصيبة في إبطال باطل الأخرى .
والدليل يقوم على أنه صفة ذات وفعل تقوم بذات الرب، والرب يتكلم بمشيئته وقدرته، فأدلة من قال : إنه صفة فعل كلها إنما تدل على أنه يتكلم بقدرته ومشيئته وهذا حق، وأدلة من قال : إنه صفة ذات إنما تدل على أن كلامه يقوم بذاته وهذا حق، وأما من أثبت أحدهما كمن قال : إن كلامه مخلوق، أو قال : إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، فهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا أنه يتكلم، ولا أثبتوا له كلامًا؛ ولهذا يقولون ما لا يعقل . هذا يقول : إنه معنى واحد قام بالذات، وهذا يقول : حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته، وهذا يقول : مخلوق بائن عنه .
ولهذا لما ظهر لطائفة من أتباعهم ما في قولهم من الفساد، ولم يعرفوا عين هذه الأقوال الثلاثة ـ حاروا وتوقفوا، وقالوا : نحن نقر بما عليه عموم المسلمين من أن القرآن كلام اللّه، وأما كونه مخلوقًا أو بحرف وصوت أو معنى قائم بالذات فلا نقول شيئًا من هذا .(1/374)
ومعلوم أن الهدى في هذه الأصول ومعرفة الحق فيها هو معرفة ما جاء به الرسول، وهو الموافق لصريح المعقول، أنفع وأعظم من كثير مما يتكلمون فيه من العلم، لاسيما والقلوب تطلب معرفة الحق في هذه بالفطرة، ولما قد رأوا من اختلاف الناس فيها .
وهؤلاء يذكرون هذا الوقف في عقائدهم وفيما صنفوه في أصول الدين، كما قد رأيت منهم من أكابر شيوخ العلم والدين بمصر والشام قد صنفوا في أصول الدين ما صنفوه، ولما تكلموا في [ مسألة القرآن ] وهل هو مخلوق ؟ أو قديم ؟ أو هو الحروف والأصوات ؟ أو معنى قائم بالذات ؟ نهوا عن هذه الأقوال، وقالوا : الواجب أن يقال ما قاله المسلمون كلهم : إن القرآن كلام اللّه، ويمسك عن هذه الأقوال .
وهؤلاء توقفوا عن حيرة وشك، ولهم رغبة في العلم والهدى والدين، وهم من أحرص الناس على معرفة الحق في ذلك وغيره، لكن لم يعلموا إلا هذه الأقوال الثلاثة . قول المعتزلة، والكلابية، والسالمية ـ وكل طائفة تبين فساد قول الأخرى، وفي كل قول من الفساد ما يوجب الامتناع من قبوله، ولم يعلموا قولاً غير هذه فرضوا بالجهل البسيط، وكان أحب إليهم من الجهل المركب، وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا هؤلاء على أصل قولهم ودينهم، وهو الاستدلال على حدوث الأجسام وحدوث العالم بطريقة أهل الكلام المبتدع، كما سلكها من ذكرته من أجلاء شيوخ أهل العلم والدين، والاستدلال على إمكانها بكونها مركبة كما سلك الشيخ الآخر، وهذا ينفي عن الواجب أن يكون جسمًا بهذه الطريقة، وذلك نفي عنه أنه جسم بتلك الطريقة . وحذاق النظار الذين كانوا أخبر بهذه الطرق وأعظم نظرًا واستدلالاً بها وبغيرها قد عرفوا فسادها، كما قد بسط في غير هذا الموضع .(1/375)
واللّّه ـ سبحانه ـ قد أخبر أنه { أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ } [ التوبة : 33، الفتح : 28، الصف : 9 ] وأخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا . والله ـ سبحانه ـ يجزي الإنسان بجنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه . فإن كان قد قدح فيهم ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل، ابتلى في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به .
ومن قال عنهم : إنهم تعمدوا الكذب، أظهر اللّه كذبه . ومن قال : إنهم جهال، أظهر اللّه جهله، ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى : إنه ساحر كذاب، أخبر اللّه بذلك عنهم في قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [ غافر : 23،24 ] وطلب فرعون إهلاكه بالقتل وصار يصفه بالعيوب، كقوله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] ، وقال : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين } [ الزخرف : 52 ] .
أهلك اللّه فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على اللّه وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع، فلم يبين حجة . وفرعون هذه الأمة أبو جهل كان يسمى أبا الحكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أبا جهل، وهو كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو جهل، أهلك به نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة .(1/376)
والذين قالوا عن الرسول : إنه أبتر، وقصدوا أنه يموت فينقطع ذكره، عوقبوا بانبتارهم، كما قال تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } [ الكوثر : 3 ] فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره اللّه حتى أهل البدع المخالفون لسنته . قيل لأبي بكر بن عياش [ هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي، وثقه ابن معين وعبد اللّه بن أحمد بن حنبل وابن حبان، ولد سنة خمس أو ست وتسعين، وقيل : إنه مات في سنة ثلاث وتسعين ومائة ] : إن بالمسجد قومًا يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة، فقال : من جلس للناس جلس الناس إليه، لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم .
وهؤلاء المشبهون لفرعون الجهمية نفاة الصفات، الذين وافقوا فرعون في جحده، وقالوا : إنه ليس فوق السموات، وإن اللّه لم يكلم موسى تكليمًا، كما قال فرعون : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [ غافر : 36، 37 ] .(1/377)
وكان فرعون جاحدًا للرب، فلولا أن موسى أخبره أن ربه فوق العالم لما قال : { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ } [ القصص : 38 ـ 42 ] .
ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى ربه، وفرض عليه الصلوات الخمس، ذكر أنه رجع إلى موسى، وأن موسى قال له : ارجع إلى ربك فَسَلْهُ التخفيف إلى أمتك، كما تواتر هذا في أحاديث المعراج، فموسى صدق محمدًا في أن ربه فوق، وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق، فالمقرون بذلك متبعون لموسى ومحمد، والمكذبون بذلك موافقون لفرعون .
وهذه الحجة مما اعتمد عليها غير واحد من النظار، وهي مما اعتمد عليها أبو الحسن الأشعري في كتابه [ الإبانة ] وذكر عدة أدلة عقلية وسمعية، على أن اللّه فوق العالم وقال في أوله :
فإن قال قائل : قد أنكرتم قول الجهمية، والقدرية، والخوارج والروافض، والمعتزلة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون ؟(1/378)
قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها : التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما جاء عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وبما كان يقول به أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قوله مجانبون، فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان اللّه به الحق، وأوضح به المناهج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمه اللّه من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين . وذكر جملة الاعتقاد والكلام على علو اللّه على العرش، وعلى الرؤية ومسألة القرآن ونحو ذلك، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن المعطلة ـ نفاة الصفات أو نفاة بعضها ـ لا يعتمدون في ذلك على ما جاء به الرسول؛ إذ كان ما جاء به الرسول إنما يتضمن الإثبات لا النفي، لكن يعتمدون في ذلك على ما يظنونه أدلة عقلية، ويعارضون بذلك ما جاء به الرسول .
وحقيقة قولهم أن الرسول لم يذكر في ذلك ما يرجع إليه لا من سمع ولا عقل، فلم يخبر بذلك خبرًا بين به الحق على زعمهم، ولا ذكر أدلة عقلية تبين الصواب في ذلك على زعمهم، بخلاف غير هذا، فإنهم معترفون بأن الرسول ذكر في القرآن أدلة عقلية على ثبوت الرب، وعلى صدق الرسول .
وقد يقولون أيضًا : إنه أخبر بالمعاد؛ لكن نفوا الصفات لما رأوا أن ما ذكروه من النفي لم يذكره الرسول، فلم يخبر به ولا ذكر دليلا عقليًا عليه، بل إنما ذكر الإثبات، وليس هو في نفس الأمر حقًا، فأحوج الناس إلى التأويل أو التفويض، فلما نسبوا ما جاء به الرسول إلى أنه ليس فيه لا دليل سمعي ولا عقلي،لا خبر يبين الحق ولا دليل يدل عليه، عاقبهم اللّه بجنس ذنوبهم، فكان ما يقولونه في هذا الباب خارجًا عن العقل والسمع، مع دعواهم أنه من العقليات البرهانية، فإذا اختبره العارف وجده من الشبهات الشيطانية، من جنس شبهات أهل السفسطة والإلحاد، الذين يقدحون في العقليات والسمعيات .(1/379)
وأما السمع فخلافهم له ظاهر لكل أحد، وإنما يظن من يعظمهم ويتبعهم أنهم أحكموا العقليات، فإذا حقق الأمر وجدهم، كما قال أهل النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير } [ الملك : 10 ] وكما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ النور : 39، 40 ] .
فلما كان حقيقة قولهم : إن القرآن والحديث ليس فيه في هذا الباب دليل سمعي ولا عقلي ـ سلبهم اللّه في هذا الباب معرفة الأدلة السمعية والعقلية، حتى كانوا من أضل البرية مع دعواهم أنهم أعلم من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، بل قد يدعون أنهم أعلم من النبيين، وهذا ميراث من فرعون وحزبه اللعين .
وقد قيل : إن أول من عرف أنه أظهر في الإسلام التعطيل ـ الذي تضمنه قول فرعون ـ هو الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري [ هو خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري، وثقه ابن حبان، وقد ولاه هشام بن عبد الملك على العراق عام ست ومائة ثم عزله سنة خمس وعشرين ومائة، وقتل سنة ست وعشرين ومائة ] ، وقال : أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، إني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا . ثم نزل فذبحه، وشكر له علماء المسلمين ما فعله، كالحسن البصري وغيره .(1/380)
وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم اللّه ممن خالف الرسل، وانتصر لهم؛ ولهذا لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم، وهو حقيقة قول فرعون [ إنكار الصانع وإنكار عبادته ] ، وخيار ما كانوا يتظاهرون به الرفض، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد، حتى كان من كان ينزل الشام مثل بني حمدان الغالية ونحوهم متشيعين، وكذلك من كان من بني بويه في المشرق .
وكان ابن سينا وأهل بيته من أهل دعوتهم، قال : وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة، وكان مبدأ ظهورهم من حين تولى المقتدر، ولم يكن بلغ بعد، وهو مبدأ انحلال الدولة العباسية، ولهذا سمي حينئذ بأمير المؤمنين الأموي الذي كان بالأندلس، وكان قبل ذلك لا يسمى بهذا الاسم، ويقول : لا يكون للمسلمين خليفتان، فلما ولى المقتدر قال : هذا صبي لا تصح ولايته، فسمى بهذا الاسم .
وكان بنو عبيد اللّه القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلاً كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين .(1/381)
فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شىء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة .
فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببًا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة .
فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم اللّه على الكفار؛ تحقيقًا لقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الصف : 10 ـ 13 ] .(1/382)
وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار، قال تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } [ الإسراء : 4 ـ 8 ] .
وكان بعض المشايخ يقول : هولاكو ـ ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق، وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدًا، يقال : قتل منهم ألف ألف، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ، كان بعض الشيوخ يقول : هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل .
وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر، سماه [ السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ] ، ويقال : إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه،وكان من أعظم ملوك الأرض،وكان للرازي به اتصال قوي،حتى إنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتابًا سماه [ الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية ] .(1/383)
وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، كما قال جابر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره : كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول : ( إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخبرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره، ثم بارك فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به ) .
وأهل النجوم لهم اختيارات إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعًا سعيدًا، فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم . وقد صنف الناس كتبًا في الرد عليهم، وذكروا كثرة ما يقع من خلاف مقصودهم فيما يخبرون به ويأمرون به، وكم يخبرون من خبر فيكون كذبًا، وكم يأمرون باختيار فيكون شرًا، والرازي صنف الاختيارات لهذا الملك، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك، كما ذكر في [ السر المكتوم ] في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها، والشرك بها ودعائها، مثلما يدعو الموحدون ربهم، بل أعظم، والتقرب إليها بما يظن أنه مناسب لها من الكفر والفسوق والعصيان، فذكر أنه يتقرب إلى الزهرة بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء، ونحو ذلك مما حرمه اللّه ورسوله .(1/384)
وهذا في نفس الأمر يقرب إلى الشياطين، الذين يأمرونهم بذلك ويقولون لهم : إن الكوكب نفسه يحب ذلك، وإلا فالكواكب مسخرات بأمر اللّه مطيعة للّه، لا تأمر بشرك ولا غيره من المعاصي، ولكن الشياطين هي التي تأمر بذلك ويسمونها روحانية الكواكب، وقد يجعلونها ملائكة وإنما هي شياطين، فلما ظهر بأرض المشرق بسبب مثل هذا الملك ونحوه، ومثل هذا العالم ونحوه ما ظهر من الإلحاد والبدع سلط اللّه عليهم الترك المشركين الكفار، فأبادوا هذا الملك، وجرت له أمور فيها عبرة لمن يعتبر، ويعلم تحقيق ما أخبر اللّه به في كتابه، حيث يقول : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] أي أن القرآن حق، وقال : { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } [ الأنبياء : 37 ] ، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل وغيره من الأسباب، التي أوجبت إدبارها، وفي آخر دولتهم ظهر الجهم بن صفوان بخراسان، وقد قيل : إن أصله من ترمذ وأظهر قول المعطلة النفاة الجهمية، وقد قتل في بعض الحروب، وكان أئمة المسلمين بالمشرق أعلم بحقيقة قوله من علماء الحجاز والشام والعراق؛ ولهذا يوجد لعبد اللّه بن المبارك وغيره من علماء المسلمين بالمشرق من الكلام في الجهمية أكثر مما يوجد لغيرهم، مع أن عامة أئمة المسلمين تكلموا فيهم، ولكن لم يكونوا ظاهرين إلا بالمشرق، لكن قوى أمرهم لما مات الرشيد، وتولى ابنه الملقب بالمأمون بالمشرق، وتلقي عن هؤلاء ما تلقاه .(1/385)
ثم لما ولى الخلافة اجتمع بكثير من هؤلاء، ودعا إلى قولهم في آخر عمره، وكتب إلى بغداد وهو بالثغر بطرسوس التي ببلدسيس ـ وكانت إذ ذاك أعظم ثغور بغداد، ومن أعظم ثغور المسلمين يقصدها أهل الدين من كل ناحية ويرابطون بها، رابط بها الإمام أحمد، رضي اللّه عنه، والسرى السقطى [ هو أبو الحسن السقطي البغدادي، ولد في حدود الستين ومائة، اشتهر بالصلاح والزهد والورع، وتوفى في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين ] ، وغيرهما، وتولي قضاءها أبو عبيد، وتولى قضاءها أيضًا صالح بن أحمد بن حنبل؛ ولهذا ذكرت في كتب الفقه كثيرًا فإنها كانت ثغرًا عظيمًا ـ فكتب من الثغر إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتابًا يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا : القرآن مخلوق . فلم يجبه أحد . ثم كتب كتابًا ثانيًا يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه، فأجاب أكثرهم، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا، فأجاب منهم خمسة بعد القيد، وبقى اثنان لم يجيبا : الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه، ثم أوصي إلى أخيه أبي إسحاق، وكان هذا سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقى أحمد في الحبس إلى سنة عشرين، فجرى ما جرى من المناظرة حتى قطعهم بالحجة، ثم لما خافوا الفتنة ضربوه وأطلقوه، وظهر مذهب النفاة الجهمية، وامتحنوا الناس فصار من أجابهم أعطوه وإلا منعوه العطاء وعزلوه من الولايات، ولم يقبلوا شهادته، وكانوا إذا افتكوا الأسرى يمتحنون الأسير، فإن أجابهم افتدوه وإلا لم يفتدوه .
وكتب قاضيهم أحمد بن أبي دؤاد [ هو أحمد بن أبي دؤاد القاضي الأباري، ولي القضاء للمعتصم والواثق، وكان موصوفًا بالجود وحسن الخلق، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وكان أحمد بن حنبل يطلق عليه الكفر، ولد سنة ستين ومائة، وتوفى سنة أربعين ومائتين من فالج أصابه ] على ستارة الكعبة [ ليس كمثلة شىء وهو العزيز الحكيم ] ، لم يكتب وهو { السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .(1/386)
ثم ولي الواثق واشتد الأمر إلى أن ولى المتوكل فرفع المحنة، وظهرت حينئذ السُّنَّة، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود أن أئمة المسلمين لما عرفوا حقيقة قول الجهمية بينوه، حتى قال عبد اللّه بن المبارك : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وكان ينشد :
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ** إلى النار واشتق اسمه من جهنم
وقيل له : بماذا يعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، قيل له : بِحَدٍّ ؟ قال : بحد . وكذلك قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم من أئمة السنة .
وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه، كما كان فرعون يفعل، فكان يجحد الخالق جل جلاله، ويقول : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ، ويقول لموسى : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين } [ الشعراء : 29 ] ، ويقول : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو يكون لموسى إله فوق السموات، ويريد أن يبطل عبادة اللّه وطاعته، ويكون هو المعبود المطاع .
فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يؤول إلى قول فرعون، كان منتهي قولهم إنكار رب العالمين، وإنكار عبادته، وإنكار كلامه حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد والعرفان، فصاروا يقولون : العالم هو اللّه، والوجود واحد، والموجود القديم الأزلي الخالق هو الموجود المحدث المخلوق، والرب هو العبد، ما ثم رب وعبد وخالق ومخلوق بل هو عندهم فرقان .(1/387)
ولهذا صاروا يعيبون على الأنبياء وينقصونهم؛ ويعيبون على نوح وعلى إبراهيم الخليل وغيرهما، ويمدحون فرعون، ويجوزون عبادة جميع المخلوقات، وجميع الأصنام، ولا يرضون بأن تعبد الأصنام حتى يقولوا : إن عُبَّاد الأصنام لم يعبدوا إلا اللّه، وأن اللّه نفسه هو العابد وهو المعبود، وهو الوجود كله، فجحدوا الرب وأبطلوا دينه، وأمره ونهيه،وما أرسل به رسله، وتكليمه لموسى وغيره .
وقد ضل في هذا جماعة لهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك، كابن سبعين، والصدر ـ القونوي تلميذ ابن عربي ـ والبلياني، والتلمساني، وهو من حذاقهم علمًا ومعرفة، وكان يظهر المذهب بالفعل، فيشرب الخمر ويأتي المحرمات .
وحدثني الثقة أنه قرأ عليه [ فصوص الحكم ] لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء اللّه العارفين، فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال : فقلت له : هذا الكلام يخالف القرآن، فقال : القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول : ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول .
وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه : هذا أيضًا هو ذات اللّه ؟ فقال : وهل ثم شيء خارج عنها ؟ نعم ! الجميع في ذاته !
وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدًا فينافقه فلم يثبت الخالق، وإن كان في الباطن مقرًا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار، كما قال : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 13، 14 ] .(1/388)
وأما هؤلاء فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال يحسبون أنهم على حق، وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندًا مظهرًا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جُهَّال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر .
وحدثني الشيخ عبد السيد الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلامًا، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له : الشرف البلاسي، يطلب منه المعرفة والعلم، قال : فدعاني إلى هذا المذهب فقلت له : قولكم يشبه قول فرعون، قال : ونحن على قول فرعون ! فقلت لعبد السيد : واعترف لك بهذا ؟ قال : نعم ! وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب، فقلت له : هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون، فحدثني بهذا، فقلت له : ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يُحتاج إلى بينة، قال عبد السيد : فقلت له : لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، فقال : ولم ؟ قلت : لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد ـ وكان هذا قبل أن يسلم : نفعتك اليهودية، يهودي خير من فرعوني .
وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه، وهم يحسبون أنه حق، وعامتهم ـ الذين يقرون ظاهرًا وباطنًا بأن محمدًا رسول اللّه، وأنه أفضل الخلق أفضل من جميع الأنبياء والأولياء ـ لا يفهمون حقيقة قولهم، بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء اللّه فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل ابن عبد اللّه، وأمثال هؤلاء .(1/389)
وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك، ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه : إن الأولياء أفضل من الأنبياء، وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة اللّه من مشكاة خاتم الأولياء، وإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء، فإنهم متجهمة متفلسفة، يخرجون أقوال المتفلسفة والجهمية في قالب الكشف .
وعند المتفلسفة : أن جبريل إنما هو خيال في نفس النبي، ليس هو ملكًا يأتي من السماء، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال، وأما خاتم الأولياء في زعمهم فإنه يأخذ من العقل المجرد الذي يأخذ منه الخيال؛ فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول .
وهم يعظمون فرعون، ويقولون ما قاله صاحب [ الفصوص ] قال : ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي، لذلك قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] أي وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم . قال : ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك . وقالوا له : { فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ طه : 72 ] قال : فصح قول فرعون : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وإن كان فرعون عين الحق .(1/390)
وحدثني الثقة ـ الذي كان منهم ثم رجع عنهم ـ أن أبغض الناس إليهم محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وسلم . قال : وإذا نَهَق الحمار ونَبَح الكلب سجدوا له، وقالوا : هذا هو اللّه، فإنه مظهر من المظاهر . قال : فقلت له : محمد بن عبد اللّه أيضًا مظهر من المظاهر، فاجعلوه كسائر المظاهر، وأنتم تعظمون المظاهر كلها أو اسكتوا عنه، قال : فقالوا لي : محمد نبغضه؛ فإنه أظهر الفرق ودعا إليه، وعاقب من لم يقل به، قال : فتناقضوا في مذهبهم الباطل، وجعلوا الكلب والحمار أفضل من أفضل الخلق، قال لي : وهم يصرحون باللعنة له ولغيره من الأنبياء، ولا ريب أنهم من أعظم الناس عبادة للشيطان وكفرًا بالرحمن .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا سمعتم صياح الديكة فَسَلُوا اللّه من فضله؛ فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار ونباح الكلب فتعوذوا باللّه من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانًا ) ، فهم إذا سمعوا نهيق الحمار ونباح الكلب تكون الشياطين قد حضرت، فيكون سجودهم للشياطين .
وكان فيهم شيخ جليل من أعظمهم تحقيقًا- لكن هذا لم يكن من هؤلاء الذين يسبون الأنبياء - وقد صنف كتابًا سماه [ فك الأزرار عن أعناق الأسرار ] ذكر فيه مخاطبة جرت له مع إبليس، وأنه قال له ما معناه : إنكم قد غلبتموني وقهرتموني ونحو هذا، لكن جرت لي قصة تعجبت منها مع شيخ منكم، فإني تجليت له فقلت : أنا اللّه لا إله إلا أنا، فسجد لي، فتعجبت كيف سجد لي . قال هذا الشيخ : فقلت له : ذاك أفضلنا وأعلمنا وأنت لم تعرف قصده،ما رأى في الوجود اثنين وما رأى إلا واحدًا فسجد لذلك الواحد، لا يميز بين إبليس وغيره، فجعل هذا الشيخ - ذاك الذي سجد لإبليس - لا يميز بين الرب وغيره، بل جعل إبليس هو اللّه هو وغيره من الموجودات جعله أفضلهم وأعلمهم .(1/391)
ولهذا عاب ابن عربي نوحًا أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وهو الذي جعل اللّه ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا،وعظَّم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام، وأنهم ما عبدوا إلا اللّه، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه، وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم .
ومدح عُبَّاد العجل، وتنقص هارون، وافترى على موسى، فقال : وكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن اللّه قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما قضى اللّه بشىء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فذكر عن موسى أنه عتب على هارون أنه أنكر عليهم عبادة العجل، وأنه لم يسع ذلك فأنكره؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء .(1/392)
وهذا من أعظم الافتراء على موسى وهارون، وعلى اللّه، وعلى عُبَّاد العجل، فإن اللّه أخبر عن موسى أنه أنكر العجل إنكارًا أعظم من إنكار هارون، وأنه أخذ بلحية هارون لما لم يدعهم ويتبع موسى لمعرفته،قال تعالى : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 83 ـ 94 ] .(1/393)
قلت لبعض هؤلاء : هذا الكلام الذي ذكره هذا عن موسى وهارون يوافق القرآن أو يخالفه ؟ فقال : لا بل يخالفه، قلت : فاختر لنفسك إما القرآن وإما كلام ابن عربي .
وكذلك قال عن نوح قال : لو أن نوحًا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه؛ أي ذكر لهم فدعاهم جهارًا ثم دعاهم إسرارًا إلى أن قال : ولما علموا أن الدعوة إلى اللّه مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية { أَدْعُو إِلَى اللّهِ } فهذا عين المكر { عَلَى بَصِيرَةٍ } [ يوسف : 108 ] ،فنبه أن الأمر كله للّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم، فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى اللّه ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسمائه، فقال : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } [ مريم : 85 ] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين، فقالوا في مكرهم : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء؛ فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] أي حكم، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير اللّه في كل معبود .(1/394)
وهو دائمًا يحرف القرآن عن مواضعه، كما قال في هذه القصة : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } [ نوح : 25 ] فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه وهي الحيرة، { فَأُدْخِلُوا نَارًا } في عين الماء في المحمديين { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت } [ التكوير : 6 ] سجرت التنور : أوقدته، { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا } [ نوح : 25 ] فكان اللّه عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد، وقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] بمعنى : أمر وأوجب وفرض . وفي القراءة الأخرى : ( ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ، فجعل معناه : أنه قدر وشاء ألا تعبدوا إلا إياه، وما قدره فهو كائن، فجعل معناها كل معبود هو اللّه، وإن أحدًا ما عبد غير اللّه قط، وهذا من أظهر الفرية على اللّه، وعلى كتابه، وعلى دينه، وعلى أهل الأرض .(1/395)
فإن اللّه في غير موضع أخبر أن المشركين عبدوا غير اللّّه، بل يعبدون الشيطان، كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60 ـ62 ] . وقال تعالى عن يوسف أنه قال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 39، 40 ] ، وقال تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138 ـ140 ] .(1/396)
وقال تعالى عن الخليل : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [ مريم : 42-50 ] .
فهو - سبحانه - يقول : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } وهؤلاء الملحدون يقولون : ما عبدنا غير اللّه في كل معبود .(1/397)
وقال تعالى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [ الأعراف : 148-152 ] .
قال أبو قِلابة : هي لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله اللّه .
والجهمية النفاة كلهم مفترون، كما قال الإمام أحمد بن حنبل : إنما يقودون قولهم إلى فرية على اللّه، وهؤلاء من أعظمهم افتراء على اللّه، فإن القائلين بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق هم أعظم افتراء ممن يقول : إنه يحل فيه، وهؤلاء يجهلون من يقول بالحلول أو يقول بالاتحاد، وهو أن الخالق اتحد مع المخلوق، فإن هذا إنما يكون إذا كان شيئان متباينان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، كما يقوله النصارى من اتحاد اللاهوت مع الناسوت، وهذا إنما يقال في شىء معين .
وهؤلاء عندهم ما ثَمَّ وجود لغيره حتى يتحد مع وجوده، وهم من أعظم الناس تناقضًا، فإنهم يقولون : ما ثم غير ولا سوى، وتقول السبعينية : ليس إلا اللّه، بدل قول المسلمين : لا إله إلا اللّه، ثم يقولون : هؤلاء المحجوبون لا يرون هذا . فإذا كان ما ثم غير ولا سوى فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ومن الذي ليس بمحجوب، وعم حجب ؟ فقد أثبتوا أربعة أشياء : قوم محجوبون، وقوم ليسوا بمحجوبين، وأمرًا انكشف لهؤلاء، وحجب عن أولئك .(1/398)
فأين هذا من قولهم : ما ثم اثنان ولا وجودان ؟ كما حدثني الثقة أنه قال للتلمساني : فعلى قولكم : لا فرق بين امرأة الرجل وأمه وابنته ؟ قال : نعم ! الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام، فقلنا : حرام عليكم، فقيل لهم : فمن المخاطب للمحجوبين أهو هم أم غيرهم ؟ فإن كانوا هم فقد حرم على نفسه لما زعم أنه حرام عليهم دونه، وإن كانوا غيره فقد أثبت غيرين وعندهم ما ثم غير .
وهؤلاء اشتبه عليهم الواحد بالنوع بالواحد بالعين، فإنه يقال : الوجود واحد، كما يقال : الإنسانية واحدة، والحيوانية واحدة، أي يعني واحد كلي، وهذا الكلي لا يكون كليًا إلا في الذهن لا في الخارج، فظنوا هذا الكلى ثابتًا في الخارج، ثم ظنوه هو اللّه، وليس في الخارج كلي مع كونه كليًا، وإنما يكون كليًا في الذهن، وإذا قدر في الخارج كلى فهو جزء من المعينات وقائم بها، ليس هو متميزًا قائمًا بنفسه، فحيوانية الحيوان وإنسانية الإنسان سواء قدرت معينة أو مطلقة هي صفة له، ويمتنع أن تكون صفة الموصوف مبدعة له، ولوقدر وجودها مجردًا عن العيان على رأي من أثبت [ المثل الأفلاطونية ] فتثبت الماهيات الكلية مجردة عن الموصوفات، ويدعى أنها قديمة أزلية، مثل إنسانية مجردة وحيوانية مجردة، وهذا خيال باطل .
وهذا الذي جعله مجردًا هو مجرد في الذهن وليس في الخارج كلي مجرد، وإذا قدر ثبوت كلي مجرد في الخارج ـ وهو مسمى الوجود ـ فهذا يتناول وجود المحدثات كلها، كما يتناول وجود القديم، وهذا لا يكون مبدعًا لشىء ولا اختصاص له بصفات الكمال، فلا يوصف بأنه حي عليم قدير؛ إذ ليس وصفه بذلك بأولى من وصفه بأنه عاجز جاهل ميت، والخالق لابد أن يكون حيًا عليمًا قديرًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .(1/399)
ثم لو قدر أن هذا هو الخالق فهذا غير الأعيان الموجودة المخلوقة، فقد ثبت وجودان أحدهما غير الآخر، وأحدهما محدث مخلوق، فيكون الآخر الخالق غير المخلوق، ولا يمكن جحد وجود الأعيان المعينة، ولكن الواحد من هؤلاء قد يغيب عن شهود المغيبات كما يغيب عن شهود نفسه، فيظن أن ما لم يشهده قد عدم في نفسه وفنى وليس كذلك، فإن ما عدم وفنى شهوده له وعلمه به ونظره إليه، فالمعدوم الفاني صفة هذا الشخص، وإلا فالموجودات في نفسها باقية على حالها لم تتغير، وعدم العلم ليس علمًا بالمعدوم، وعدم المشهود ليس شهودًا للعدم، ولكن هذه الحال يعترى كثيرًا من السالكين يغيب أحدهم عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات، وقد يسمون هذا فناء واصطلامًا، وهذا فناء عن شهود تلك المخلوقات، لا أنها في نفسها فنيت، ومن قال : فنى ما لم يكن وبقى مالم يزل، فالتحقيق - إذا كان صادقًا - أنه فني شهوده لما لم يكن، وبقى شهوده لما لم يزل . لا أن ما لم يكن فني في نفسه، فإنه باق موجود، ولكن يتوهمون إذا لم يشهدوه أنه قد عدم في نفسه .
ومن هنا دخلت طائفة في الاتحاد والحلول، فأحدهم قد يذكر اللّه حتى يغلب على قلبه ذكر اللّه ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكور مشهود لقلبه إلا اللّه، ويفنى ذكره وشهوده لما سواه، فيتوهم أن الأشياء قد فنيت، وأن نفسه فنيت حتى يتوهم أنه هو اللّه، وأن الوجود هو اللّه .
ومن هذا الباب غلط أبي يزيد ونحوه حيث قال : ما في الجبة إلا اللّه .
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أنه يعبر بالفناء عن ثلاثة أمور :(1/400)
أحدها : أنه يفنى بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه، وبمحبته وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه عن محبة ما سواه وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه، وهذا هو حقيقة التوحيد الذي بعث اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فقد فنى من قلبه التأله لغير اللّه، وبقى في قلبه تأله اللّه وحده، وفنى من قلبه حب غير اللّه وخشية غير اللّه والتوكل على غير اللّه، وبقى في قلبه حب اللّه وخشية اللّه والتوكل على اللّه .
وهذا الفناء يجامع البقاء، فيتخلى القلب عن عبادة غير اللّه مع تحلي القلب بعبادة اللّه وحده، كما قال صلى الله عليه وسلم لرجل : ( قل : أسلمت للّه وتخليت ) وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه بالنفي مع الإثبات؛ نفي إلهية غيره مع إثبات إلهيته وحده، فإنه ليس في الوجود إله إلا الله، ليس فيه معبود يستحق العبادة إلا اللّه؛ فيجب أن يكون هذا ثابتا في القلب؛ فلا يكون في القلب من يألهه القلب ويعبده إلا اللّه وحده، ويخرج من القلب كل تأله لغير اللّه، ويثبت فيه تأله اللّه وحده؛ إذ كان ليس ثم إله إلا اللّه وحده .(1/401)
وهذه الولاية للّه مقرونة بالبراءة والعداوة لكل معبود سواه ولمن عبدهم، قال تعالى عن الخليل ـ عليه السلام : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 26ـ 28 ] ، وقال : { أ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75ـ77 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] .(1/402)
قلت لبعض من خاطبته من شيوخ هؤلاء : قول الخليل : { إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ } ممن تبرأ الخليل ؟ أتبرأ من اللّه تعالى وعندكم ما عبد غير اللّه قط ؟ والخليل قد تبرأ من كل ما كانوا يعبدون إلا من رب العالمين، وقد جعله اللّه لنا وفيمن معه أسوة حسنة، لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر، قال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ الممتحنة : 4 ـ 6 ] .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل ) .(1/403)
وهذا تصديق قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج : 62 ] ،وقال تعالى : { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ يونس : 23 ] ، وقال سبحانه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] قال طائفة من السلف : كل عمل باطل إلاما أريد به وجهه، وقد قال سبحانه : { وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [ القصص : 87، 88 ] .
و [ الإله ] هو المألوه أي المستحق لأن يُؤْلَه أي يُعْبَد، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا اللّه وحده، وكل معبود سواه ـ من لدن عرشه إلى قرار أرضه ـ باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى المركوب والمحمول . وكان الصحابة يرتجزون في حفر الخندق يقولون :
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر
وإذا قيل : هذا هو الإمام فهو الذي يستحق أن يؤتم به، كما قال تعالى لإبراهيم : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124] فعهده بالإمامة لا ينال الظالم، فالظالم لا يجوز أن يؤتم به في ظلمه، ولا يركن إليه، كما قال تعالى : {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } [ هود : 113 ] فمن ائتم بمن لا يصلح للإمامة فقد ظلم نفسه، فكيف بمن جعل مع اللّه إلهًا آخر، وعبد من لا يصلح للعبادة، واللّه تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48، 116] .(1/404)
وقد غلط طائفة من أهل الكلام فظنوا أن [ الإله ] بمعنى الفاعل، وجعلوا الإلهية هي القدرة والربوبية، فالإله هو القادر وهو الرب، وجعلوا العباد مألوهين كما أنهم مربوبون .
فالذين يقولون بوحدة الوجود متنازعون في أمور، لكن إمامهم ابن عربي يقول : الأعيان ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها؛ فلهذا قال : فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً . فزعم أن المخلوقات جعلت الرب إلهًا لها حيث كانوا مألوهين . ومعنى مألوهين ـ عنده ـ مربوبين، وكونهم مألوهين حيث كانت أعيانهم ثابتة في العدم . وفي كلامهم من هذا وأمثاله مما فيه تنقص بالربوبية ما لا يحصى، فتعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .(1/405)
والتحقيق أن اللّه خالق كل شيء، والمعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن اللّه يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به فيكون سببًا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 28 ] . واللّه ـ سبحانه ـ خالق الإنسان ومعلمه فهو الذي { خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [ العلق : 1، 2 ] وهو { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3 ـ 5 ] ، ولو قدر أن الإله بمعنى الرب فهو الذي جعل المربوب مربوبًا، فيكون على هذا هو الذي جعل المألوه مألوهًا، والمربوب لم يجعله ربًا، بل ربوبيته صفة، وهو الذي خلق المربوب وجعله مربوبًا؛وهو إذا آمن بالرب واعتقد ربوبيته وأخبر بها كان قد اتخذ اللّه ربا ولم يبغ ربا سوى اللّه ولم يتخذ ربًا سواه، كما قال تعالى : { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق: 3 :5 ] ، قال تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] ، وقال : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 80 ] .(1/406)
وهو - أيضًا - في نفسه هو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وَحَّده من لم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره، قال تعالى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 213 ] ، وقال تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] ، وقال إبراهيم لأبيه آزر : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره، كما أن الجاهل إذا اتخذ إمامًا ومفتيًا وقاضيًا كان ذلك باطلاً؛ فإنه لا يصلح أن يؤم ولا يفتى ولا يقضى، وغير اللّه لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو ـ سبحانه ـ لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا ينفع ذا الجَدِّ منه الجَدُّ .(1/407)
ومن دعا من لا يسمع دعاءه، أو يسمع ولا يستجيب له، فدعاؤه باطل وضلال، وكل من سوى اللّه إما أنه لا يسمع دعاء الداعي، أو يسمع ولكن لا يستجيب له، فإن غير اللّه لا يستقل بفعل شيء البتة، وقد قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] فغير اللّه لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا هو معاون للرب في شيء، بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة والأنبياء والصالحين ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلابد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا، كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا . لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير .
فصل
الفرق الثامن : أن السيئة إذا كانت من النفس، والسيئة خبيثة مذمومة، وصفها بالخبث فى مثل قوله : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] .
قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثة للخبيثين . ومن كلام بعضهم : الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين .
وقد قال تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً } [ إبراهيم : 24 ] ، { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } [ إبراهيم : 26 ] ، وقال اللّه : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل .
فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها .
فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح .(1/408)
ومن أراد أن يجعل الذي يكذب شاهداً على الناس، لم يصلح .
وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلماً للناس، مفتياً لهم، أو يجعل العاجز الجبان مقاتلا عن الناس، أو يجعل الأحمق الذى لا يعرف شيئاً سائساً للناس، أو للدواب، فمثل هذا يوجب الفساد في العالم، وقد يكون غير ممكن، مثل من أراد أن يجعل الحجارة تَسْبَح على وجه الماء كالسفن، أو تصعد إلى السماء كالريح، ونحو ذلك .
فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التى ليس فيها من الخبث شيء، فإن ذلك موجب للفساد، أو غير ممكن .
بل إذا كان فى النفس خبث طهرت وهذبت، حتى تصلح لسكنى الجنة .
كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدرى ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمنين إذا نجوا من النار ـ أي عبروا الصراط ـ وقفوا على قَنْطَرة بين الجنة والنار، فيُقْتَصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم فى دخول الجنة ) .
وهذا مما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ) .
والتهذيب : التخليص، كما يهذب الذهب، فيخلص من الغش .
فتبين أن الجنة إنما يدخلها المؤمنون بعد التهذيب والتنقية من بقايا الذنوب، فكيف بمن لم يكن له حسنات يعبر بها الصراط ؟
وأيضاً فإذا كان سببها ثابتاً فالجزاء كذلك، بخلاف الحسنة، فإنها من إنعام الحي القيوم الباقى، الأول الآخر، فسببها دائم، فيدوم بدوامه .(1/409)
وإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه، لم يطمع فى السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [ الزلزلة : 7، 8 ] .
وعلم أن الرب عليم حليم، رحيم عدل، وأن أفعاله جارية على قانون العدل والإحسان، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل .
وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يمين الله ملأى، لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يَغِضْ ما فى يمينه، والقِسْط بيده الأخرى يخفض ويرفع ) .
وعلم فساد قول الجهمية، الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل، ولا وضع للأشياء مواضعها، فيصفون الرب بما يوجب الظلم والسفه، وهو ـ سبحانه ـ قد شهد { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] .
ولهذا يقولون : لا ندري ما يفعل بمن فعل السيئات، بل يجوز عندهم أن يعفو عن الجميع، ويجوز عندهم أن يعذب الجميع، ويجوز أن يعذب ويغفر بلا موازنة، بل يعفو عن شر الناس، ويعذب خير الناس على سيئة صغيرة، ولا يغفرها له .
وهم يقولون : السيئة لا تمحى، لا بتوبة ولا حسنات ماحية ولا غير ذلك، وقد لا يفرقون بين الصغائر والكبائر .
قالوا : لأن هذا كله إنما يعلم بالسمع والخبر، خبر الله ورسوله .(1/410)
قالوا : وليس في الكتاب والسنة ما يبين ما يفعل اللّه بمن كسب السيئات، إلا الكفر، وتأولوا قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، بأن المراد بالكبائر : قد يكون هو الكفر وحده، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 116 ] .
وقد ذكر هذه الأمور القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره، ممن يقول بمثل هذه الأقوال ممن سلك مسلك جَهْم بن صَفْوان في القَدَر وفى الوعيد، وهؤلاء قصدوا مناقضة المعتزلة فى القدر والوعيد .
فأولئك لما قالوا : إن الله لم يخلق أفعال العباد، وأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وسلكوا مسلك نفاة القدر فى هذا، وقالوا في الوعيد بنحو قول الخوارج، قالوا : إن من دخل النار لا يخرج منها، لا بشفاعة ولا غيرها، بل يكون عذابه مؤبداً، فصاحب الكبيرة، أو من رجحت سيئاته ـ عندهم ـ لا يرحمه اللّه أبدا، بل يخلده في النار . فخالفوا السنة المتواترة وإجماع الصحابة فيما قالوه فى القدر، وناقضهم جهم فى هذا وهذا .
وسلك هؤلاء مسلك جهم، مع انتسابهم إلى أهل السنة والحديث واتباع السلف، وكذلك سلكوا فى الإيمان والوعيد مسلك المرجئة الغلاة كجهم وأتباعه .
وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة : نوع فى الأسماء والصفات، فغلا فى نفي الأسماء والصفات، ووافقه على ذلك ملاحدة الباطنية والفلاسفة ونحوهم، ووافقه المعتزلة فى نفي الصفات دون الأسماء .
والكلابِيَّة ـ ومن وافقهم من السالمية، ومن سلك مسلكهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ـ وافقوه على نفي الصفات الاختيارية دون نفي أصل الصفات .(1/411)
والكَرَّامِيَّة ـ ونحوهم ـ وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون اللّه لم يزل متكلما إذا شاء، وفعالاً لما يشاء إذا شاء؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وهو عن هذا الأصل ـ الذي هو نفى وجود ما لا يتناهى فى المستقبل ـ قال بفناء الجنة والنار .
وقد وافقه أبو الهذيل [ هو أبو الهذبل محمد بن الهذبل ين عبد الله ين مكحول العبدى، مولى عبد القيس، شيخ المعتزلة، إشتهر بعلم الكلام وكان خبيث القول فارق إجماع المسلمين، له كتب كثبرة منها كتاب سماه [ ميلاس ] على إسم مجوسى أسلم على يده، ولد فى البصرة سنة 135هـ، وتوفى بسامرا سنة 235هـ ] ـ إمام المعتزلة ـ على هذا، لكن قال بتناهى الحركات .
فالمعتزلة فى الصفات مخانيث الجهمية .
وأما الكلابية، فيثبتون الصفات فى الجملة، وكذلك الأشعريون، ولكنهم ـ كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصارى ـ : الجهمية الإناث، وهم مخانيث المعتزلة .
ومن الناس من يقول : المعتزلة مخانيث الفلاسفة .
وقد ذكر الأشعري وغيره هذا؛ لأن قائله لم يعلم أن جهماً سبق هؤلاء إلى هذا الأصل، أو لأنها مخانيثهم من بعض الوجوه، وإلا فإن مخالفتهم للفلاسفة كبيرة جداً .
والشهرستانى يذكر عن شيوخهم : أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأن الشهرستانى إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية فى الصفات ونحوها مع المعتزلة، بخلاف أئمة السنة والحديث؛ فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند السلف والأمة بنفى الصفات .
وأهل النفي للصفات والتعطيل لها، هم عند السلف يقال لهم : الجهمية، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف .
وأما المعتزلة، فامتازوا بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، لما أحدث ذلك عمرو بن عبيد وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية،وبعدهم حدثت الجهمية .(1/412)
وكان القدر قد حَدَّث أهله قبل ذلك في خلافة عبد اللّه بن الزبير، بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس ـ رضي اللّه عنهم ـ وغيرهما .
وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين .
فبقي الناس يخوضون فى القَدَر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق بالبصرة، وأقله كان بالحجاز .
ثم لما حدَّثت المعتزلة ـ بعد موت الحسن، وتُكلم فى المنزلة بين المنزلتين، وقالوا بإنفاذ الوعيد، وخلود أهل التوحيد فى النار، وأن النار لا يخرج منها من دخلها، وهذا تغليظ على أهل الذنوب ـ ضموا إلى ذلك القدر؛ فإن به يتم التغليظ على أهل الذنوب، ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئاً من نفي الصفات .
إلى أن ظهر الجَعْد بن درهم، وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري، وقال : أيها الناس ضَحُّوا، تقبل الله ضحاياكم، فإنى مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى اللّه عما يقول الجعد علواً كبيراً . ثم نزل فذبحه . وهذا كان بالعراق .
ثم ظهر جهم بن صفوان من ناحية المشرق من تِرمِذ،ومنها ظهر رأي جهم .
ولهذا كان علماء السنة والحديث بالمشرق، أكثر كلاماً فى رد مذهب جهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طَهْمَان [ هو أبو سعيد إبراهيم بن طهمان بن شعيب الهروى الخراسانى، حافظ، ولد فى هراة وأقام فى نيسابور وبغداد، وتوفى سنة 861هـ ] وخارجة بن مصعب، ومثل عبد اللّه ابن المبارك، وأمثالهم ـ وقد تكلم فى ذمهم ـ وابن الماجشون وغيرهما وكذلك الأوزاعي وحماد بن زيد وغيرهم .(1/413)
وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنهم فى إمارة المأمون قووا وكثروا؛ فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها مات . وردوا أحمد بن حنبل إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم في الكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبين أن لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، فأشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه،حتى لا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة، فلما ضربوه قامت الشناعة عليهم فى العامة، وخافوا الفتنة، فأطلقوه .
وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف؛ فجمع له مثل أبى عيسى محمد بن عيسى برغوث، ومن أكابر النجارية أصحاب حسين النجار .
وأئمة السنة ـ كابن المبارك، وأحمد بن إسحاق، والبخارى وغيرهم ـ يسمون جميع هؤلاء : جهمية .
وصار كثير من المتأخرين ـ من أصحاب أحمد وغيرهم ـ يظنون أن خصومه كانوا المعتزلة . ويظنون أن بشر بن غياث المريسي ـ وإن كان قد مات قبل محنة أحمد، وابن أبى دؤاد ونحوهما ـ كانوا معتزلة وليس كذلك .
بل المعتزلة كانوا نوعاً من جملة من يقول : القرآن مخلوق، وكانت الجهمية أتباع جهم، والنجارية أتباع حسين النجار، والضرارية أتباع ضرار بن عمرو، والمعتزلة هؤلاء، يقولون : القرآن مخلوق، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن جهماً اشتهر عنه نوعان من البدعة : أحدهما : نفي الصفات . والثانى : الغلو فى القدر والإرجاء . فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة .
وهذان مما غلت المعتزلة فى خلافه فيهما .
وأما الأشعري، فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية .(1/414)
وجهم لم يثبت شيئاً من الصفات ـ لا الإرادة ولا غيرها ـ فهو إذا قال : إن الله يحب الطاعات، ويبغض المعاصي، فمعنى ذلك عنده : الثواب والعقاب .
وأما الأشعري، فهو يثبت الصفات ـ كالإرادة ـ فاحتاج حينئذ أن يتكلم في الإرادة : هل هي المحبة أم لا ؟ وأن المعاصي : هل يحبها اللّه أم لا ؟ فقال : إن المعاصي يحبها اللّه ويرضاها، كما يريدها .
وذكر أبو المعالي الجويني : أنه أول من قال ذلك، وأن أهل السنة قبله كانوا يقولون : إن اللّه لا يحب المعاصي .
وذكر الأشعري في الموجز : أنه قد قال ذلك قبله طائفة سماهم، أشك فى بعضهم .
وشاع هذا القول فى كثير من الصوفية ومشايخ المعرفة والحقيقة، فصاروا يوافقون جهماً في مسائل الأفعال والقدر، وإن كانوا مكفرين له فى مسائل الصفات، كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي، صاحب كتاب ( ذم الكلام ) ، فإنه من المبالغين فى ذم الجهمية لنفيهم الصفات . وله كتاب ( تكفير الجهمية ) ويبالغ فى ذم الأشعرية، مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث، وربما كان يلعنهم .
وقد قال له بعض الناس ـ بحضرة نظام الملك ـ : أتلعن الأشعرية ؟ فقال : ألعن من يقول : ليس فى السموات إله، ولا فى المصحف قرآن، ولا فى القبر نبى، وقام من عنده مغضباً .
ومع هذا، فهو فى مسألة إرادة الكائنات، وخلق الأفعال، أبلغ من الأشعرية . لا يثبت سبباً ولا حكمة، بل يقول : إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة .
والحكم ـ عنده ـ هي المشيئة؛ لأن العارف المحقق ـ عنده ـ هو من يصل إلى مقام الفناء، فيفنى عن جميع مراداته بمراد الحق، وجميع الكائنات مرادة له، وهذا هو الحكم عنده . والحسنة والسيئة يفترقان فى حظ العبد؛ لكونه ينعم بهذه، ويعذب بهذه . والالتفات إلى هذا هو من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق .
وهذه المسألة وقعت في زمن الجنيد، كما ذكر ذلك فى غير موضع .(1/415)
وبين لهم الجنيد الفرق الثاني، وهو أنهم ـ مع مشاهدة المشيئة العامة ـ لابد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه وهو الفرق بين ما يحبه وما يبغضه . وبين لهم الجنيد، كما قال فى التوحيد : هو إفراد الحدوث عن القدم .
فمن سلك مسلك الجنيد، من أهل التصوف والمعرفة، كان قد اهتدى ونجا وسعد .
ومن لم يسلك فى القدر مسلكه، بل سوى بين الجميع، لزمه ألا يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين الأنبياء والفساق، فلا يقول : إن اللّه يحب هؤلاء وهذه الأعمال . ولا يبغض هؤلاء وهذه الأعمال، بل جميع الحوادث هو يحبها كما يريدها، كما قاله الأشعري . وإنما الفرق : أن هؤلاء ينعمون، وهؤلاء يعذبون .
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا ـ بالنسبة إلى المخلوق ـ كان أعقل منهم .
فإن هؤلاء يدعون أن العارف الواصل إلى مقام الفناء لا يفرق بين هذا وهذا .
وهم غلطوا فى حق العبد وحق الرب .
أما في حق العبد، فيلزمهم أن تستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعاً . وهم قد تمر عليهم أحوال يفنون فيها عن أكثر الأشياء، أما الفناء عن جميعها فممتنع؛ فإنه لابد أن يفرق كل حي بين ما يؤلمه وبين ما يلذه، فيفرق بين الخبز والتراب، والماء والشراب .
فهؤلاء عزلوا الفرق الشرعي الإيمانى الرحمانى، الذي به فرق الله بين أوليائه وأعدائه، وظنوا أنهم مع الجمع القدري .
وعلى هذا، فإن تسوية العبد بين جميع الحوادث ممتنع لذاته، بل لابد للعبد من أن يفرق؛ فإن لم يفرق بالفرق الشرعي ـ فيفرق بين محبوب الحق ومكروهه وبين ما يرضاه وما يسخطه ـ وإلا فرق بالفرق الطبعي بهواه وشيطانه، فيحب ما تهواه نفسه، وما يأمر به الشيطان .
ومن هنا وقع منهم خلق كثير فى المعاصي، وآخرون فى الفسوق، وآخرون فى الكفر، حتى جَوَّزوا عبادة الأصنام .
ثم كثير منهم من ينتقل إلى وحدة الوجود، وهم الذين خالفوا الجنيد وأئمة الدين في التوحيد، فلم يفرقوا بين القديم والمحدث .(1/416)
وهؤلاء صرحوا بعبادة كل موجود ـ كما قد بسط الكلام عليهم فى غير هذا الموضع ـ وهو قول أهل الوحدة، كابن عربي الحاتمي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمسانى، والبليانى، وابن الفارض، وأمثالهم .
والمقصود هنا : الكلام على من نفى الحكم والعدل والأسباب فى القدر من أهل الكلام والمتصوفة، الذين وافقوا جهماً فى هذا الأصل . وهو بدعته الثانية التى اشتهرت عنه، بخلاف الإرجاء؛ فإنه منسوب إلى طوائف غيره .
فهؤلاء يقولون : إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه ويمكن فعله، من غير مراعاة حكمة، ولا رحمة ولا عدل، ويقولون : إن مشيئته هي محبته .
ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد بل هو منحل عن الأمر الشرعي كله، أو عن بعضه، أو متكلف لما يعتقده أو يعلمه؛ فإنهم أرادوا أن الجميع بالنسبة إلى الرب سواء، وأن كل ما شاءه فقد أحبه، وأنه يحدث ما يحدثه بدون أسباب يخلقه بها، ولا حكمة يسوقه إليها، بل غايته أنه يسوق المقادير إلى المواقيت .
لم يبق عندهم فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، بل وافقوا جَهْماً، ومن قال بقوله ـ كالأشعري ـ فى أنه فى نفس الأمر لا حسن ولا سيئ، وإنما الحسن والقبح مجرد كونه مأموراً به ومحظوراً، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، هؤلاء يدعون الفناء عن الحظوظ .
فتارة يقولون فى امتثال الأمر والنهي : إنه من مقام التلبيس، أو ما يشبه هذا، كما يوجد فى كلام أبي إسماعيل الهروي ـ صاحب منازل السائرين .
وتارة يقولون : يفعل هذا لأهل المارستان ـ أي العامة ـ كما يقوله الشيخ المغربى، إلى أنواع، ليس هذا موضع بسطها .
ومن يسلك مسلكهم غايته ـ إذا عظم الأمر والنهي ـ أن يقول ـ كما نقل عن الشاذلي ــ : يكون الجمع فى قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجوداً .(1/417)
ولهذا يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي، مثل أن يدعو أن يعطيه اللّه إذا عصاه أعظم مما يعطيه إذا أطاعه، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بل أفضل منهم، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما يوجد فى جواب الشاذلي، وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع .
وآخرون من عوام هؤلاء يجوزون أن يكرم اللّه بكرامات أكابر الأولياء من يكون فاجراً، بل كافراً، ويقولون : هذه موهبة وعطية، يعطيها الله من يشاء،ما هي متعلقة لا بصلاة، ولا بصيام، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون كراماتهم من الأحوال الشيطانية، التى يكون مثلها للسحرة والكهان، قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة 101، 102 ] .
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم حَذْو القُذَّةِ بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه ) .
والمسلمون ـ الذين جاءهم كتاب الله : القرآن ــ عدل كثير منهم ــ ممن أضله الشيطان من المنتسبين إلى الإسلام ـ إلى أن نبذ كتاب اللّه وراء ظهره، واتبع ما تتلوه الشياطين، فلا يعظم أمر القرآن ولا نهيه، ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتى ببعض خوارقهم، التى يأتى بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين .(1/418)
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشيطان، ولكن يعظم ذلك لهواه، ويفضله على طريق القرآن ليصل به إلى تقديس العامة، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [ النساء : 51،52 ] .
وهؤلاء ضاهوا الكفار، الذين قال اللّه تعالى فيهم : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } الآية [ البقرة : 101، 102 ] .
ومنهم من لا يعرف أن هذا من الشياطين .
وقد يقع فى مثل هذا طوائف من أهل الكلام، والعلم، وأهل العبادة، والتصوف، حتى جَوَّزوا عبادة الكواكب والأصنام، لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة، التى تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل لهم بها من بعض أغراضهم، من الظلم والفواحش، فلا يبالون بشركهم بالله، ولا كفرهم به وبكتابه إذا نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس، وتعظيمهم لهم، لرياسة ينالونها، أو مال ينالونه . وإن كانوا قد علموا أنه الكفر والشرك عملوه، ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو اعتقاد أن الرسول خاطب الجمهور بما لا حقيقة له فى الباطن؛ لأجل مصلحة الجمهور، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والملاحدة والباطنية .(1/419)
وقد دخل فى رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم وغيرهم؛ فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار . والروم كانوا ـ قبل النصرانية ـ مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء ـ الذين أشبهوا فارس والروم ـ شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن أولئك ضاهوا أهل الكتاب فيما بُدِّل أو نُسِخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له من المجوس والمشركين، فارس والروم، ومن دخل في ذلك من الهند واليونان .
ومذهب الملاحدة الباطنية مأخوذ من قول المجوس بالأصلين، ومن قول فلاسفة اليونان بالعقول والنفوس .
وأصل قول المجوس يرجع إلى أن تكون الظلمة المضاهية للنور هي إبليس، وقول الفلاسفة بالنفس .
فأصل الشر عبادة النفس والشيطان، وجعلهما شريكان للرب وأن يعدلا به، ونفس الإنسان تفعل الشر بأمر الشيطان . وقد علَّم النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر ـ رضى اللّه عنه ـ أن يقول ــ إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه ـ : ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك،إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .
وهذا من تمام تحقيق قوله تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، مع قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقوله : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] .
وقد ظهرت دعوى النفس الإلهية فى فرعون ونحوه، ممن ادعى أنه إله مع اللّه أو من دونه، وظهرت فيمن ادعى إلهية بشر مع اللَّه كالمسيح وغيره .(1/420)
وأصل الشرك فى بنى آدم كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين؛ فإنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم .
فهذا أول شرك كان فى بني آدم، وكان فى قوم نوح، فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً } [ نوح : 23،24 ] وهذه أسماء قوم صالحين كانوا فى قوم نوح، فلما ماتوا جعلوا الأصنام على صورهم، ثم ذهبت هذه الأصنام لما أغرق اللّه أهل الأرض، ثم صارت إلى العرب، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره، إن لم تكن أعيانها، وإلا فهي نظائرها .
وأما الشرك بالشيطان فهذا كثير .
فمتى لم يؤمن الخلق بأنه ( لا إله إلا الله ) بمعنى : أنه المعبود المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه يحب أن يعبد، وأنه أمر أن يعبد وأنه لا يعبد إلا بما أحبه مما شرع، من واجب ومستحب - فلابد أن يقعوا في الشرك وغيره .
فالذين جعلوا الأقوال والأفعال كلها بالنسبة إلى اللّه سواء،لا يحب شيئاً دون شىء، فلا فرق عنده بين من يعبده وحده لا يشرك به شيئاً، وبين من يعبد معه آلهة أخرى، وجعلوا الأمر معلقاً بمشيئة، ليس معها حكمة ولا رحمة ولا عدل، ولا فرق فيها بين الحسنات والسيئات، طمعت النفس فى نيل ما تريده بدون طاعة اللّه ورسوله .
ثم إذا جوزوا الكرامات لكل من زعم الصلاح، ولم يقيدوا الصلاح بالعلم الصحيح والإيمان الصادق والتقوى، بل جعلوا علامة الصلاح هذه الخوارق، وجوزوا الخوارق مطلقاً، وحكوا فى ذلك مكاشفات، وقالوا أقوالا منكرة .
فقال بعضهم : إن الولي يُعْطَى قول : ( كن ) ، وقال بعضهم : إنه لا يمتنع على الولي فعل ممكن، كما لا يمتنع على اللّه ـ تعالى ـ فعل محال .(1/421)
وهذا قاله ابن عربي والذين اتبعوه، قالوا : إن الممتنع لذاته مقدور عليه، ليس عندهم ما يقال : إنه غير مقدور عليه للولي، حتى ولا الجمع بين الضدين، ولا غير ذلك . وزاد ابن عربى : إن الولي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات، والذي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات هو اللّه وحده .
فهذا تصريح منهم بأن الولي مثل الله، إن لم يكن هو اللّه .
وصرح بعضهم بأنه يعلم كل ما يعلمه اللّه، ويقدر على كل ما يقدر اللّه عليه .
وادعوا أن هذا كان للنبى، ثم انتقل إلى الحسن بن علي، ثم من الحسن إلى ذريته واحداً بعد واحد، حتى انتهى ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي، ثم إلى ابنه .
خاطبني بذلك من هو من أكابر أصحابهم .
وحدثنى الثقة من أعيانهم،أنهم يقولون : إن محمداً هو الله .
وحدثني بعض الشيوخ، الذين لهم سلوك وخبرة : أنه كان هو وابن هود في مكة، فدخلا الكعبة، فقال له ابن هود ـ وأشار إلى وسط الكعبة ـ : هذا مهبط النور الأول، وقال له : لو قال لك صاحب هذا البيت : أريد أن أجعلك إلهاً ماذا كنت تقول له ؟ قال : فَقَفّ شَعرِي [ أى : قمت فَزَعًا . انظر : القاموس، مادة : قفف ] من هذا الكلام وانخنست [ أى : انقبضت . انظر : القاموس، مادة : خنس ] ـ أو كما قال .
ومن الناس من يحكي عن سهل بن عبد اللّه : أنه لما دخل الزنج البَصْرة، قيل له فى ذلك، فقال : هاه إن ببلدكم هذا من لو سألوا اللّه أن يزيل الجبال عن أماكنها لأزالها، ولو سألوه ألا يقيم القيامة لما أقامها، لكنهم يعلمون مواضع رضاه، فلا يسألونه إلا ما يحب .(1/422)
وهذه الحكاية، إما كذب على سهل ـ وهو الذى نختار أن يكون حقاً ـ أو تكون غلطاً منه، فلا حول ولا قوة إلا باللّه . وذلك أن ما أخبر اللّه أن يكون فلابد أن يكون، ولو سأله أهل السموات والأرض ألا يكون لم يجبهم، مثل إقامة القيامة، وألا يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وغير ذلك، بل كل ما علم اللّه أنه يكون فلا يقبل اللّه دعاء أحد فى ألا يكون .
لكن الدعاء سبب يقضى اللّه به ما علم اللّه أنه سيكون بهذا السبب، كما يقضى بسائر الأسباب ما علم أنه سيكون بها .
وقد سأل اللّه ـ تعالى ـ من هو أفضل من كل من فى البصرة بكثير، ما هو دون هذا فلم يجابوا؛ لما سبق الحكم بخلاف ذلك، كما سأله إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام - أن يغفر لأبيه، وكما سأله نوح ـ عليه السلام ـ سأله نجاة ابنه، فقيل له : { يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ هود : 46 ] .
وأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، قيل له فى شأن عمه أبى طالب : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] ،وقيل له فى المنافقين : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] وقد قال تعالى ـ عموما ـ : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، فمن هذا الذى لو سأل اللّه ما يشاؤه هو أعطاه إياه ؟ !(1/423)
وسيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، أخبر أنه : يسجد تحت العرش، ويحمد ربه، ويثنى عليه، فيقال له : ( أي محمد، ارفع رأسك، وقل يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع ) . قال : ( فيُحَدُّ لي حداً، فأدخلهم الجنة ) ، وقد قال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ الأعراف : 55 ] .
وأي اعتداء أعظم وأشنع من أن يسأل العبد ربه ألا يفعل ما قد أخبر أنه لابد أن يفعله، أو أن يفعل ما قد أخبر أنه لا يفعله ؟ وهو ـ سبحانه ـ كما أخبر عن نفسه : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، وقال : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين } [ غافر : 60 ] .
وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من داع يدعو الله بدعوة، ليس فيها ظلم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها ) .
فالدعوة التى ليس فيها اعتداء، يحصل بها المطلوب أو مثله . وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعاً، أو مفسداً للداعى أو لغيره، والداعى جاهل، لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئاً بعينه، وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له، فإنه يعطيه من ماله نظيره، وللّه المثل الأعلى .
وكما فعل النبى صلى الله عليه وسلم لما طلبت منه طائفة من بني عمه أن يوليهم ولاية لا تصلح لهم، فأعطاهم من الخمس ما أغناهم عن ذلك وزوجهم، كما فعل بالفضل بن عباس،وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .(1/424)
وقد روي في الحديث : ( ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ) ، وهذا حق .
فصل
وقد احتج بـ [ سورة الإخلاص ] من أهل الكلام المحدث من يقول : الرب ـ تعالى ـ جسم كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم، ومحمد بن كرام، وغيرهما، ومن ينفي ذلك ويقول : ليس بجسم ممن وافق جهم بن صفوان، وأبا الهذيل العلاف، ونحوهما، فأولئك قالوا : هو صمد والصمد لا جوف له، وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة، فإنها لا جوف لها، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة، وكما قيل : إن الملائكة صمد؛ ولهذا قيل : إنه لا يخرج منه شيء، ولا يدخل فيه شيء، ولا يأكل ولا يشرب، ونحو ذلك، ونفي هذا لا يعقل إلا عمن هو جسم، وقالوا : أصل [ الصمد ] : الاجتماع، ومنه تصميد المال، وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع، وأما النفاة فقالوا : [ الصمد ] الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام .
وقالوا ـ أيضًا ـ [ الأحد ] : الذي لا يقبل التجزي والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزى والانقسام . وقالوا : / إذا قلتم : هو جسم كان مركبًا مؤلفًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وما كان مركبًا مؤلفًا من غيره كان مفتقرًا إليه، وهوـ سبحانه ـ صمد، والصمد الغني عما سواه، فالمركب لا يكون صمدًا .(1/425)
فيقال : أما القول بأنه ـ سبحانه ـ مركب مؤلف من أجزاء، وأنه يقبل التجزي والانقسام والانفصال، فهذا باطل شرعًا وعقلًا؛ فإن هذا ينافي كونه صمدًا ـ كما تقدم ـ وسواء أريد بذلك أنه كانت الأجزاء متفرقة، ثم اجتمعت، أو قيل : إنها لم تزل مجتمعة لكن يمكن انفصال بعضها عن بعض، كما في بدن الإنسان وغيره من الأجسام، فإن الإنسان وإن كان لم يزل مجتمع الأعضاء، لكن يمكن أن يفرق بين بعضه من بعض، واللّه - سبحانه - منزه عن ذلك؛ ولهذا قدمنا أن كمال الصمدية له، فإن هذا إنما يجوز على ما يجوز أن يفنى بعضه أو يعدم، وما قبل العدم والفناء لم يكن واجب الوجود بذاته، ولا قديمًا أزليًا؛ فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه، وكذلك صفاته التي لم يزل موصوفًا بها وهي من لوازم ذاته، فيمتنع أن يعدم اللازم إلا مع عدم الملزوم .
ولهذا قال من قال من السلف : [ الصمد ] : هو الدائم، وهو الباقى بعد فناء خلقه، فإن هذا من لوازم الصمدية، إذ لو قبل العدم، لم تكن صمديته لازمة له، بل جاز عدم صمديته فلا يبقى صمدًا، ولا/تنتفي عنه الصمدية إلا بجواز العدم عليه، وذلك محال، فلا يكون مستوجبًا للصمدية، إلا إذا كانت لازمة له، وذلك ينافي عدمه، وهو مستوجب للصمدية، لم يصر صمدًا بعد أن لم يكن - تعالى وتقدس- فإن ذلك يقتضي أنه كان متفرقا فجمع، وأنه مفعول محدث مصنوع، وهذه صفة مخلوقاته . وأما الخالق القديم الذي يمتنع عليه أن يكون معدومًا أو مفعولًا أو محتاجًا إلى غيره بوجه من الوجوه، فلا يجوز عليه شيء من ذلك، فعلم أنه لم يزل صمدًا، ولا يزال صمدًا، فلا يجوز أن يقال : كان متفرقا فاجتمع، ولا أنه يجوز أن يتفرق، بل ولا أن يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء .(1/426)
وهذا مما هو متفق عليه بين طوائف المسلمين ـ سنيهم وبدعيهم ـ وإن كان أحد من الجهال أو من لا يعرف قد يقول خلاف ذلك، فمثل هؤلاء لا تنضبط خيالاتهم الفاسدة، كما أنه ليس في طوائف المسلمين من يقول : إنه مولود ووالد، وإن كان هذا قد قاله بعض الكفار، وقد قال المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام من التولد والتعليل ما هو شر من قول أولئك . وأما إثبات الصفات له، وأنه يُرَى في الآخرة، وأنه يتكلم بالقرآن وغيره، وكلامه غير مخلوق، فهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف . والخلاف في ذلك مشهور مع الجهمية والمعتزلة، / وكثير من الفلاسفة والباطنية .
وهؤلاء يقولون : إن إثبات الصفات يوجب أن يكون جسمًا وليس بجسم . فلا تثبت له الصفات . قالوا : لأن المعقول من الصفات أعراض قائمة بجسم، لا تعقل صفته إلا كذلك . قالوا : والرؤية لا تعقل إلا مع المعاينة، فالمعاينة لا تكون إلا إذا كان المرئي بجهة، ولا يكون بجهة إلا ما كان جسمًا . قالوا : ولأنه لو قام به كلام أو غيره للزم أن يكون جسمًا، فلا يكون الكلام المضاف إليه إلا مخلوقًا منفصلًا عنه .(1/427)
وهذه المعاني مما ناظروا بها الإمام أحمد في المحنة، وكان ممن احتج على أن القرآن مخلوق بنفي التجسيم أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث ـ تلميذ حسين النجار ـ وهو من أكابر المتكلمين، فإن ابن أبي دؤاد كان قد جمع للإمام أحمد من أمكنه من متكلمى البصرة وبغداد وغيرهم ممن يقول : إن القرآن مخلوق، وهذا القول لم يكن مختصًا بالمعتزلة كما يظنه بعض الناس، فإن كثيرًا من أولئك المتكلمين ـ أو أكثرهم ـ لم يكونوا معتزلة، وبشر المْرِيسي لم يكن من المعتزلة، بل فيهم نجارية، ومنهم برغوث، وفيهم ضرارية، وحفص الفرد الذي ناظر الشافعي كان من الضرارية أتباع ضرار بن عمرو، وفيهم مرجئة، ومنهم بشر المريسي، ومنهم جهمية محضة، ومنهم معتزلة، وابن أبي/دُؤَاد لم يكن معتزليًا، بل كان جهميا ينفي الصفات، والمعتزلة تنفي الصفات، فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة، فلما احتج عليه برغوث بأنه لو كان يتكلم ويقوم به الكلام لكان جسما، وهذا منفي عنه، وأحمد وأمثاله من السلف كانوا يعلمون أن هذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون كلفظ الجسم وغيره ينفيها قوم ليتوصلوا بنفيها إلى نفي ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ ورسوله، ويثبتها قوم ليتوصلوا بإثباتها إلى إثبات مانفاه اللّه ورسوله .
فالأولى : طريقة الجهمية ـ من المعتزلة وغيرهم ـ ينفون الجسم حتى يتوهم المسلمون أن قصدهم التنزيه، ومقصودهم بذلك أن اللّه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن ولا غيره، بل خلق كلامًا في غيره، وأنه ليس له علم يقوم به، ولا قدرة ولا حياة، ولا غير ذلك من الصفات . قال الإمام أحمد في خطبته في الرد على الجهمية والزنادقة :(1/428)
الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، / فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجتمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين .(1/429)
والثانية : طريقة هشام وأتباعه، يحكى عنهم أنهم أثبتوا ما قد نزه اللّه نفسه عنه من اتصافه بالنقائص، ومماثلته للمخلوقات، فأجابهم الإمام أحمد بطريقة الأنبياء وأتباعهم وهو الاعتصام بحبل اللّه الذي قال اللّه فيه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 102، 103 ] .(1/430)
وقال : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] ، وقال تعالى : { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 1 : 3 ] ، وقال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 123 : 126 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [ النساء : 59 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ٌيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ(1/431)
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 1، 2 ] .
وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 60 : 65 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ الأنعام : 159 ] ، وقوله تعالى : {(1/432)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 30 : 32 ] ، وقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] .
فهذه النصوص وغيرها تبين أن اللّه أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، وأن من لم يتبع ذلك كان منافقًا، وأن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذلك حشر أعمى ضالًا شقيًا معذبًا، وأن الذين فرقوا دينهم قد برئ اللّه ورسوله منهم .
فاتبع الإمام أحمد طريقة سلفه من أئمة السنة والجماعة المعتصمين/بالكتاب والسنة، المتبعين ما أنزل اللّه إليهم من ربهم، وذلك أن ننظر فما وجدنا الرب قد أثبته لنفسه في كتابه أثبتناه، وما وجدناه قد نفاه عن نفسه نفيناه، وكل لفظ وجد في الكتاب والسنة بالإثبات أثبت ذلك اللفظ، وكل لفظ وجد منفيًا نفي ذلك اللفظ، وأما الألفاظ التي لا توجد في الكتاب والسنة، بل ولا في كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين لا إثباتها ولا نفيها .(1/433)
وقد تنازع فيها الناس، فهذه الألفاظ لا تثبت ولا تنفي إلا بعد الاستفسار عن معانيها، فإن وجدت معانيها مما أثبته الرب لنفسه أثبتت، وإن وجدت مما نفاه الرب عن نفسه نفيت، وإن وجدنا اللفظ أثبت به حق وباطل، أو نفي به حق وباطل، أو كان مجملًا يراد به حق وباطل، وصاحبه أراد به بعضها، لكنه عند الإطلاق يوهم الناس أو يفهمهم ما أراد وغير ما أراد ـ فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل في هذا المعنى، فقل من تكلم بها نفيًا أو إثباتًا إلا وأدخل فيها باطلًا، وإن أراد بها حقًا .
والسلف والأئمة كرهوا هذا الكلام المحدث؛ لاشتماله على باطل وكذب، وقولُ عَلَى اللّه بلا علم . وكذلك ذكر أحمد في رده على الجهمية أنهم يفترون على اللّه فيما ينفونه عنه، ويقولون عليه بغير علم، وكل/ ذلك مما حَرَّمَهُ اللّه ورسوله، ولم يكره السلف هذه لمجرد كونها اصطلاحية، ولا كرهوا الاستدلال بدليل صحيح جاء به الرسول، بل كرهوا الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة، ولا يخالف الكتاب والسنة إلا ما هو باطل، لا يصح بعقل ولا سمع .
ولهذا لما سئل أبو العباس ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال : وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث اللّه النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك، ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين؛ فإنهما لم يكونا قد أحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعني بهما من المعاني الباطلة، فإن أول من أحدثهما الجهمية والمعتزلة، وقصدهم بذلك إنكار صفات اللّه ـ تعالى ـ أو أن يرى، أو أن يكون له كلام يتصف به، وأنكرت الجهمية أسماءه أيضًا .(1/434)
وأول من عرف عنه إنكار ذلك الجعْدُ بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القَسْرى بواسط . وقال : يا أيها الناس ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا . ثم نزل فذبحه .
وكلام السلف والأئمة في ذم هذا الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع .
/والمقصود هنا أن أئمة السنة ـ كأحمد بن حنبل وغيره ـ كانوا إذا ذكرت لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ الجسم والجوهر والحيز ونحوها، لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي . وأهل البدع بالعكس ابتدعوا ألفاظًا ومعاني، إما في النفي، وإما في الإثبات، وجعلوها هي الأصل المعقول المحكم، الذي يجب اعتقاده، والبناء عليه، ثم نظروا في الكتاب والسنة، فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه، وإلا قالوا : هذا من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد بها، فجعلوا بدعهم أصلًا محكمًا، وما جاء به الرسول فرعًا له ومشكلًا، إذا لم يوافقه . وهذا أصل الجهمية والقدرية وأمثالهم، وأصل الملاحدة من الفلاسفة الباطنية، جميع كتبهم توجد على هذا الطريق، ومعرفة الفرق بين هذا وهذا من أعظم ما يعلم به الفرق بين الصراط المستقيم الذي بعث اللّه به رسوله، وبين السبل المخالفة له، وكذلك الحكم في المسائل العلمية الفقهية، ومسائل أعمال القلوب وحقائقها وغير ذلك . كل هذه الأمور قد دخل فيها ألفاظ ومعان محدثة، وألفاظ ومعان مشتركة .
فالواجب أن يجعل ما أنزله اللّه من الكتاب والحكمة أصلًا في جميع هذه الأمور، ثم يرد ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويبين مافي الألفاظ المجملة من المعاني الموافقة للكتاب والسنة فتقبل، وما فيها من المعاني /المخالفة للكتاب والسنة فترد .(1/435)
ولهذا كل طائفة أنكر عليها ما ابتدعت احتجت بما ابتدعته الأخرى، كما يوجد في ألفاظ أهل الرأي والكلام والتصوف، وإنما يجوز أن يقال في بعض الآيات : إنه مشكل ومتشابه إذا ظن أنه يخالف غيره من الآيات المحكمة البينة، فإذا جاءت نصوص بينة محكمة بأمر، وجاء نص آخر يظن أن ظاهره يخالف ذلك يقال في هذا : إنه يرد المتشابه إلى المحكم، أما إذا نطق الكتاب أو السنة بمعنى واحد لم يجز أن يجعل ما يضاد ذلك المعنى هو الأصل، ويجعل ما في القرآن والسنة مشكلًا متشابهًا، فلا يقبل ما دل عليه .
نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله اللّه شفاءً لما في الصدور، وبيانًا للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك؛ لكن قد تخفي آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . إما ألا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه، فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن ههنا يقع الشرك، وتفريق الدين شيعًا، كالفتن التي تحدث السيف، فالفتن القولية والعملية/ هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة عنهم، كما قال مالك بن أنس : إذا قَلَّ العِلْمُ ظهر الجفَاَءُ، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء .(1/436)
ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم؛ ولهذا قال أحمد في خطبته : الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم . فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة كما قال تعالى { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } [ طه : 123 ] ، فأهل الهدى والفلاح هم المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون في كل زمان ومكان . وأهل العذاب والضلال هم المكذبون للأنبياء، يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء .
فهؤلاء في ضلال وجهل وشرك وشر، لكن اللّه يقول : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [ الإسراء : 15 ] ، وقال : { رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] ، فهؤلاء لا يهلكهم اللّه ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولًا . وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا، فإنه يُبْعَثُ إليه رَسَولٌ يوم القيامة في عَرَصَات القيامة .(1/437)
/وقد زعم بعضهم أن هذا يخالف دين المسلمين؛ فإن الآخرة لا تكليف فيها، وليس كما قال، إنما ينقطع التكليف إذا دخلوا دار الجزاء ـ الجنة أو النار ـ وإلا فهم في قبورهم ممتحنون ومفتونون، يقال لأحدهم : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ وكذلك في عرصات القيامة يقال : ليتبع كل قوم ماكانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ومن كان يعبد القمرَ القمرَ، ومن كان يعبد الطواغيتَ الطواغيتَ، وتبقي هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللّه في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، ويقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ باللّه منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا . وفي رواية : فيسألهم ويثبتهم، وذلك امتحان لهم، هل يتبعون غير الرب الذي عرفوا أنه اللّه الذي تجلى لهم أول مرة ؟ فيثبتهم اللّه ـ تعالى ـ عند هذه المحنة، كما يثبتهم في فتنة القبر، فإذا لم يتبعوه لكونه أتى في غير الصورة التي يعرفون، أتاهم حينئذ في الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق، فإذا رأوه خروا له سجدًا، إلا من كان منافقًا، فإنه يريد السجود فلا يستطيعه، يبقى ظهره مثل الطبق . وهذا المعنى مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث ثابتة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وقد أخرجاهما في الصحيحين، ومن حديث جابر . وقد رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وهو معروف من رواية أحمد وغيره، فدل/ذلك على أن المحنة إنما تنقطع إذا دخلوا دار الجزاء، وأما قبل دار الجزاء امتحان وابتلاء .(1/438)
فإذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني الثالثة، سألته ألا يهلك أمتى بسنة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ) . والبأس مشتق من البؤس، قال اللّه تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } قال ( أعوذ بوجهك ) .
{ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : ( أعوذ بوجهك ) . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } قال : ( هاتان أهون ) ، فدل على أنه لابد أن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول في هذه الحال، وهم فيها في جاهلية .
ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج/ أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية . وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أنها كانت تقول : ترك الناس العمل بهذه الآية ـ تعني قوله تعالى ـ : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ] ، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر اللّه ـ تعالى ـ فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية .(1/439)
وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى اللّه والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم اللّه أقر بعضهم بعضًا، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضًا، ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله . وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم، يظلمون الأمة ويعتدون عليهم، إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين، وكذلك سائر أهل الأهواء، فإنهم يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها، كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها، /واستحلوا منع حقه وعقوبته .
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث اللّه به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عادلون، وإما ظالمون . فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم الذي يعتدى على غيره، وهؤلاء ظالمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضًا، كالمقلدين لأئمة الفقه الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم اللّه ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نوابًا عن الرسول، وقالوا : هذه غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعى أن قول متبوعه هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور .(1/440)
وكان الذين امتحنوا أحمد وغيره من هؤلاء الجاهلين، فابتدعوا كلامًا متشابهًا نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لما ناظروه في المحنة، وذكروا الجسم ونحو ذلك، وأجابهم بإني أقول كما قال اللّه تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} ، وأما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث، ليس على أحد أن يتكلم به ألبتة، والمعنى الذي يراد به مجمل، ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال : ما أدرى ما تقولون ؟ / لكن أقول : { اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } .
يقول : ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه، إذ لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه، إن لم نَدْرِ معناه الذي عناه المتكلم، فإن عني في النفي والإثبات ما يوافق الكتاب والسنة وافقناه، وإن عني ما يخالف الكتاب والسنة في النفي والإثبات لم نوافقه .
ولفظ [ الجسم ] و [ الجوهر ] ونحوهما لم يأت في كتاب اللّه ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد ـ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين ـ التكلم بها في حق اللّه ـ تعالى ـ لا بنفي ولا إثبات؛ ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل : لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب اللّه، أو في حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان، وأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود .(1/441)
وذكر ـ أيضًا ـ فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون : ليس فيه كذا ولا كذا ولا كذا، وهو كما قال، فإن لفظ الجسم له في اللغة التي نزل بها القرآن معنى، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } [ المنافقون : 4 ] ، وقال تعالى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [ البقرة : 247 ] . قال ابن عباس : كان طالوت أعلم بنى إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه، والبسطة : السعة . قال ابن قتيبة : هو من قولك : بسطت الشيء، إذا كان مجموعا ففتحته ووسعته . قال بعضهم : والمراد بتعظيم الجسم : فضل القوة؛ إذ العادة أن من كان أعظم جسمًا كان أكثر قوة، فهذا لفظ الجسم في لغة العرب التي نزل بها القرآن . قال الجوهري : قال أبو زيد الأنصاري الجسم : الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان . وقال الأصمعي : الجسم، والجسد، والجثمان الشخص . وقال جماعة : جسم الإنسان يقال له : الجثمان، وقد جسم الشيء، أي : عظم، فهو جسيم وجسام، والجِسَامُ ـ بالكسر ـ جمع جسيم . قال أبو عبيدة : تجسمت فلانا من بين القوم، أي : اخترته، كأنك قصدت جسمه . كما تقول : تأتيته، أي : قصدت أتيه وشخصه، وأنشد أبو عبيدة :
تَجَسَّمْتُهُ من بينهن بمرهف **
وتَجَسَّمْتُ الأرضَ : إذا أخذت نحوها تُريدُها، وتَجَسَّمَ من الجسم . وقال ابن السكيت : تَجَسَّمْتُ الأمر، أي : ركبت أجسمه وجسيمه، أي معظمه، قال : وكذلك تَجَسَّمْتُ الرَّمْلَ والجَبَلَ، أي : ركبت أعظمه، والأجْسَمُ : الأضخم . قال عامر بن الطفيل :
/لقد علم الحىُّ من عامرٍ ** بأن لنا الذِّرْوَةَ الأجْسَما(1/442)
فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء : جسم، ولا للنَّفَسِ الخارج من الإنسان : جسم، ولا لروحه المنفوخة فيه : جسم . ومعلوم أن اللّه ـ سبحانه ـ لا يماثل شيئًا من ذلك، لا بدن الإنسان ولا غيره، فلا يوصف اللّه ـ تعالى ـ بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال : هو جسم، ولا جسد .
وأما أهل الكلام، فالجسم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافا كثيرًا عقليًا، واختلافًا لفظيًا اصطلاحيًا . فهم يقولون : كل ما يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا، فقال كثير منهم : كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر الفردة، ثم منهم من قال : الجسم أقل ما يكون جوهرًا، بشرط أن ينضم إلى غيره . وقيل : بل الجوهران، والجواهر فصاعدًا . وقيل : بل أربعة فصاعدًا . وقيل : بل ستة . وقيل : بل ثمانية . وقيل : بل ستة عشر . وقيل : بل اثنان وثلاثون، وهذا قول من يقول : إن الأجسام كلها مركبة من الجواهر التي لا تنقسم .
وقال آخرون من أهل الفلسفة : كل الأجسام مركبة من الهيولى/والصورة، لا من الجواهر الفردة .
وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل الكلام : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، ولا من هذا ولا من هذا، وهذا قول الهشامية والكُلابية والضرارية وغيرهم من الطوائف الكبار، لا يقولون بالجوهر الفرد ولا بالمادة والصورة، وآخرون يدعون إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالى وغيره : اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادًا، ومع هذا، فقد شك هو فيه، وكذلك شك فيه أبو الحسين البصري . وأبو عبد اللّه الرازي .(1/443)
ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين ـ لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ـ ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام طائفة من الجهمية والمعتزلة، وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حاكى هذا الإجماع لما لم يعرف أصول الدين إلا ما في كتب الكلام، ولم يجد إلا من يقول بذلك، اعتقد هذا إجماع المسلمين، والقول بالجوهر الفرد باطل، والقول بالهيولى والصورة باطل، وقد بسط الكلام على هذه المقالات في مواضع أخر .
/وقال آخرون : الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه جسم، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه، واختلفوا في الأجسام : هل هي متماثلة أم لا ؟ على قولين مشهورين .(1/444)
وإذا عرف ذلك، فمن قال : إنه جسم ـ وأراد أنه مركب من الأجزاء ـ فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات، فقد علم بالشرع والعقل أن اللّه ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت للّه مثلًا في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال : إنه جسم بهذا المعنى، فهو مبطل، ومن قال : إنه ليس بجسم ـ بمعنى أنه لا يرى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ـ فهذا قوله باطل . وكذلك كل من نفي ما أثبته اللّه ورسوله، وقال : إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسمية ذلك تجسيمًا تلبيس منه، فإنه إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسمًا، فقد أبطل، وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا مركبًا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا، والأجسام متماثلة، قيل له : أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون : إن الهواء مثل الماء/ ولا أبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب ـ تعالى ـ يكون مماثلًا لخلقه، إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة ؟ ! واللّه ـ تعالى ـ قد نفي المماثلات في بعض المخلوقات، وكلاهما جسم كقوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، مع أن كلاهما بشر، فكيف يجوز أن يقال : إذا كان لرب السموات علم وقدرة أنه يكون مماثلًا لخلقه ؟ ! والله ـ تعالى ـ ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .(1/445)
ونكتة الأمر : أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركبًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وأكثر العقلاء يخالفونه في هذا التلازم، وهذا التلازم منتف باتفاق الفريقين، وهو المطلوب .
فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن اللّه شرعًا وعقلًا؛ بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحى : هل هو مستلزم لهذا المحذور ؟ وهو بحث عقلى، كبحث الناس في الأعراض : هل تبقي أو لا تبقي ؟ وهذا البحث العقلى لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق اللّه ـ تعالى ـ لا نفيًا ولا إثباتًا، فليس لأحد أن يبتدع اسمًا مجملًا يحتمل معاني مختلفة، لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين، ولو كان قد نطق باللغة العربية، فكيف إذا /أحدث للفظ معنى آخر ؟ !
والمعنى الذي يقصده إذا كان حقًا عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها، فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة، وأن اللّه ليس كمثله شيء، وهو ـ سبحانه ـ لا سمى له، ولا كُفْو له، ولا ند له، فهذه عبارات القرآن تؤدى هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع، وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة، وأن كل ما يرى وتقوم به الصفات فهو جسم، فإن عليه أن يثبت ما أثبته اللّه ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته، كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمتينُ } [ الذاريات : 58 ] ، وقوله ـ عليه السلام ـ في حديث الاستخارة : ( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك ) . وقوله في الحديث الآخر : ( اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق ) . ويقول كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إنكم ترون ربكم يوم القيامة عيانًا كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته ) فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئيُّ كالمرئيِّ .(1/446)
فهذه عبارات الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السنة ـ المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة ـ ثم بعد هذا من كان قد تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله، فلازم الحق حق، لكن ذلك المعنى لابد أن يدل /الشرع عليه فيبينه بالألفاظ الشرعية، وإن قُدِّرَ أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن يدعو الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق .
وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللّه :
فَصْل
قد ذم اللّه ـ تعالى ـ في القرآن من عَدَل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه اللّه ورسوله، وهو : أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان؛ في سره وعلانيته، وفي جميع أحواله .
وهذا من الإيمان، قال اللّه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] ، وقال : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : 51 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] وقال : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] ، وقال : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 31 ] .(1/447)
وقد أوجب اللّه طاعة الرسول على جميع الناس في قريب من أربعين موضعًا من القرآن، وطاعته طاعة اللّه، وهي : عبادة اللّه وحده لا شريك له، وذلك هو دين اللّه وهو الإسلام، وكل من أمر اللّه بطاعته من عالم وأمير ووالد وزوج؛ فلأن طاعته طاعة للّه . وإلا فإذا أمر بخلاف طاعة اللّه فإنه لا طاعة له، وقد يأمر الوالد والزوج بمباح فيطاع، وكذلك الأمير إذا أمر عالمًا يعلم أنه معصية للّه، والعالم إذا أفتى المستفتى بما لم يعلم المستفتى أنه مخالف لأمر اللّه، فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصيًا، وأما إذا علم أنه مخالف لأمر اللّه فطاعته في ذلك معصية للّه؛ ولهذا نقل غير واحد الإجماع على أنه لا يجوز للعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد واستدل وتبين له الحق الذي جاء به الرسول، فهنا لا يجوز له تقليد من قال خلاف ذلك بلا نزاع، ولكن هل يجوز مع قدرته على الاستدلال أنه يقلد ؟ هذا فيه قولان :
فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لا يجوز . وحكى عن محمد بن الحسن جوازه . والمسألة معروفة . وحكى بعض الناس ذلك عن أحمد،/ ولم يعرف هذا الناقل قول أحمد، كما هو مذكور في غير هذا الموضع .
وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور، وفي صفة من يجوز له التقليد تفصيل ونزاع ليس هذا موضعه .(1/448)
والمقصود هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع : أن يعارض قول اللّه ورسوله بما يخالف ذلك كائنًا من كان المخالف لذلك . قال اللّه تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } [ الفرقان : 27 ـ 30 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } ، إلى قوله : { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 66 ـ 68 ] ، وقال تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } إلى قوله : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 166 - 171 ] ، فذكر براءة المتبوعين من أتباعهم في خلاف طاعة اللّه، ذكر هذا بعد قوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ البقرة : 163 ] ، فالإله الواحد هو المعبود والمطاع، فمن أطاع/متبوعًا في خلاف ذلك فله نصيب من هذا الذم، قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } ، إلى قوله : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا(1/449)
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 14، 15 ] .
ثم خاطب الناس بِأَكْل مافي الأرض حلالًا طيبًا، وألا يتبعوا خطوات الشيطان في خلاف ذلك، فإنه إنما يأمر بالسوء والفحشاء، وأن يقولوا على اللّه ما لا يعلمون، فيقولوا : هذا حرام وهذا حلال، أو غير ذلك مما يقولونه على اللّه في الأمور الخبرية والعملية بلا علم، كما قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .
ثم إن هؤلاء الذين يقولون على اللّه بغير علم إذا قيل لهم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } [ البقرة : 170 ] ، فليس عندهم علم، بل عندهم اتباع سلفهم، وهو الذي اعتادوه وتربوا عليه .
ثم خاطب المؤمنين خصوصًا فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } [ البقرة : 172، 173 ] ، فأمرهم بأكل الطيبات مما رزقهم؛ لأنهم هم المقصودون بالرزق، ولم يشترط الحل هنا / لأنه إنما حرم ما ذكر، فما سواه حلال لهم، والناس إنما أمرهم بأكل ما في الأرض حلالًا طيبًا وهو إنما أحل للمؤمنين، والكفار لم يحل لهم شيئًا، فالحل مشروط بالإيمان، ومن لم يستعن برزقه على عبادته لم يحل له شيئًا، وإن كان ـ أيضا ـ لم يحرمه، فلا يقال : إن اللّه أحله لهم ولا حرمه، وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره في سورة الأنعام .(1/450)
ولهذا أنكر في سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه، كقوله : { قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] ، ثم قال : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] ، ثم قال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات [ الأنعام : 151 - 153 ] . وقال في سورة النحل : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } الآية [ النحل : 118 ] ، وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، وقال : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] .
وهذا كله يدل على أصح قولى العلماء، وهو : أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته؛ لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم، وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ، فكانوا أحق بالعقوبة .
وأيضًا، فإن اللّه ـ تعالى ـ أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا، فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه .(1/451)
/ وأيضًا، فإن التحريم لا يزول إلا بتحليل منه، وهو إنما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } الآية [ المائدة : 93 ] ، وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } [ المائدة : 1 ] ، وقوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } إلى قوله : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } [ المائدة : 4، 5 ] وهذا خطاب للمؤمنين؛ ولهذا قال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } ، ثم قال : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } ، فلو كان ما أحل لنا حِلًا لهم لم يحتج إلى هذا، وقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } لا يدخل فيه ما حرم عليهم، كما أن قوله : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم؛ كصيد الحرم وما أهل به لغير اللّه .
وهل يدخل في طعامهم الذي أحل لنا ما حرم عليهم ولم يحرم علينا، مثل ما إذا ذكوا الإبل ؟ هذا فيه نزاع معروف، فالمشهور من مذهب مالك ـ وهو أحد القولين في مذهب أحمد ـ تحريمه . ومذهب أبي حنيفة والشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد : حله .
وهل العلة أنهم لم يقصدوا ذكاته، أو العلة أنه ليس من طعامهم ؟ فيه نزاع .
/ وإذا ذبحوا للمسلم، فهل هو كما إذا ذبحوا لأنفسهم ؟ فيه نزاع .
وفي جواز ذبحهم النسك إذا كانوا ممن يحل ذبحهم قولان، هما روايتان عن أحمد، فالمنع مذهب مالك، والجواز مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإذا كان الذابح يهوديًا صار في الذبح علتان، وليس هذا موضع هذه المسائل .(1/452)
ثم إنه ـ سبحانه ـ لما ذكر حال من يقول على اللّه بلا علم، بل تقليدًا لسلفه ذكر حال من يكتم ما أنزل اللّه من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 174 ] ، فهذا حال من كتم علم الرسول، وذاك حال من عدل عنها إلى خلافها، والعادل عنها إلى خلافها يدخل فيه من قَلَّد أحدًا من الأولين والآخرين فيما يعلم أنه خلاف قول الرسول، سواء كان صاحبا أو تابعًا أو أحد الفقهاء المشهورين الأربعة، أو غيرهم .
وأما من ظن أن الذين قلدهم موافقون للرسول فيما قالوه، فإن كان قد سلك في ذلك طريقًا علميًا فهو مجتهد له حكم أمثاله، وإن كان متكلمًا بلا علم فهو من المذمومين .
/ ومن ادعى إجماعًا يخالف نص الرسول من غير نص يكون موافقًا لما يدعيه، واعتقد جواز مخالفة أهل الإجماع للرسول برأيهم، وأن الإجماع ينسخ النص كما تقوله طائفة من أهل الكلام والرأي، فهذا من جنس هؤلاء .(1/453)
وأما إن كان يعتقد أن الإجماع يدل على نص لم يبلغنا يكون ناسخًا للأول . فهذا وإن كان لم يقل قولًا سديدًا، فهو مجتهد في ذلك، يبين له فساد ما قاله، كمن عارض حديثًا صحيحًا بحديث ضعيف اعتقد صحته، فإن قوله، وإن لم يكن حقًا، لكن يبين له ضعفه، وذلك بأن يبين له عدم الإجماع المخالف للنص، أو يبين له أنه لم تجتمع الأمة على مخالفة نص إلا ومعها نص معلوم يعلمون أنه الناسخ للأول، فدعوى تعارض النص والإجماع باطلة، ويبين له أن مثل هذا لا يجوز؛ فإن النصوص معلومة محفوظة، والأمة مأمورة بتتبعها واتباعها، وأما ثبوت الإجماع على خلافها بغير نص، فهذا لا يمكن العلم بأن كل واحد من علماء المسلمين خالف ذلك النص .
والإجماع نوعان :
قطعى : فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعى على خلاف النص .
وأما الظنى : فهو الإجماع الإقرارى والاستقرائى؛ بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافًا، أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدًا أنكره، فهذا الإجماع ـ وإن جاز الاحتجاج به ـ /فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به؛ لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها، فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعى . وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية، والظنى لا يدفع به النص المعلوم، لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن، ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا، والمصيب في نفس الأمر واحد .(1/454)
وإن كان قد نقل له في المسألة فروع ولم يتعين صحته، فهذا يوجب له ألا يظن الإجماع إن لم يظن بطلان ذلك النقل، وإلا فمتى جوز أن يكون ناقل النزاع صادقًا، وجوز أن يكون كاذبًا يبقى شاكا في ثبوت الإجماع، ومع الشك لا يكون معه علم ولا ظن بالإجماع، ولا تدفع الأدلة الشرعية بهذا المشتبه، مع أن هذا لا يكون، فلا يكون ـ قط ـ إجماع يجب اتباعه مع معارضته لنص آخر لا مخالف له، ولا يكون ـ قط ـ نص يجب اتباعه وليس في الأمة قائل به، بل قد يخفي القائل به على كثير من الناس . قال الترمذى : كل حديث في كتأبي قد عمل به بعض أهل العلم إلا حديثين : حديث الجمع، وقتل الشارب . ومع هذا فكلا الحديثين قد عمل به طائفة، وحديث الجمع قد عمل به أحمد وغيره .
/ ولكن من ثبت عنده نص ولم يعلم قائلًا به،وهو لا يدرى أجمع على نقيضه، أم لا ؟ فهو بمنزلة من رأي دليلًا عارضه آخر وهو بعد لم يعلم رجحان أحدهما، فهذا يقف إلى أن يتبين له رجحان هذا أو هذا، فلا يقول قولًا بلا علم، ولا يتبع نصا مع . . . ظن نسخه وعدم نسخه عنده سواء، لما عارضه عنده من نص آخر أو ظن إجماع، ولا عامًا ظن تخصيصه وعدم تخصيصه عنده سواء، فلابد أن يكون الدليل سالمًا عن المعارض المقاوم فيغلب على ظنه نفي المعارض المقاوم وإلا وقف .
وأيضًا، فمن ظن أن مثل هذا الإجماع يحتج به في خلاف النص إن لم يترجح عنده ثبوت الإجماع، أو يكون معه نص آخر ينسخ الأول وما يظنه من الإجماع معه . وأكثر مسائل أهل المدينة التي يحتجون فيها بالعمل يكون معهم فيها نص، فالنص الذي معه العمل مقدم على الآخر، وهذا هو الصحيح في مذهب أحمد وغيره، كتقديم حديث عثمان : [ لا ينكح المحرم ] على حديث ابن عباس، وأمثال ذلك .
وأما رد النص بمجرد العمل فهذا باطل عند جماهير العلماء، وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع : هل يكفر ؟ على قولين .(1/455)
/ والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به . وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره .
وحينئذ فالإجماع مع النص دليلان كالكتاب والسنة .
وتنازعوا في الإجماع : هل هو حجة قطعية أو ظنية ؟ والتحقيق أن قطعيه قطعى وظنيه ظنى . واللّه أعلم .
وقد ذكر نظير هذه الآية في سورة المائدة، وذكر في سورة الزخرف قوله : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ } [ الزخرف : 24 ] ، وهذا يتناول من بين له أن القول الآخر هو أهدى من القول الذي نشأ عليه، فعليه أن يتبعه، كما قال : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم } [ الزمر : 55 ] ، وقال : { { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } [ الأعراف : 145 ] ، وقال : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] ، والواجب في الاعتقاد أن يتبع أحسن القولين، ليس لأحد أن يعتقد قولًا، وهو يعتقد أن القول المخالف له أحسن منه، وما خير فيه بين فعلين وأحدهما أفضل فهو أفضل، وإن جاز له فعل المفضول فعليه أن يعتقد أن ذلك أفضل، ويكون ذاك أحب إليه من هذا، وهذا اتباع للأحسن .
/ وإذا نقل عالم الإجماع ونقل آخر النزاع؛إما نقلا سمى قائله،وإما نقلًا بخلاف مطلقًا ولم يسم قائله، فليس لقائل أن يقول : نقلًا لخلاف لم يثبت، فإنه مُقَابَل بأن يقال : ولا يثبت نقل الإجماع، بل ناقل الإجماع نافٍ للخلاف وهذا مثبت له، والمثبت مقدم على النافي .(1/456)
وإذا قيل : يجوز في ناقل النزاع أن يكون قد غلط فيما أثبته من الخلاف؛ إما لضعف الإسناد، أو لعدم الدلالة، قيل له : ونافي النزاع غلطه أَجْوَز؛ فإنه قد يكون في المسألة أقوال لم تبلغه، أو بلغته وظن ضعف إسنادها، وكانت صحيحة عند غيره، أو ظن عدم الدلالة وكانت دالة، فكل ما يجوز على المثبت من الغلط يجوز على النافي مع زيادة عدم العلم بالخلاف .
وهذا يشترك فيه عامة الخلاف، فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم لا سيما في أقوال علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يحصيها إلا رب العالمين؛ ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء : من ادعى الإجماع فقد كذب . هذه دعوى المرِيسِى والأَصَم، ولكن يقول : لا أعلم نزاعًا . والذين كانوا يذكرون الإجماع كالشافعي وأبي ثور وغيرهما يفسرون مرادهم بأنا لا نعلم نزاعًا، ويقولون : هذا هو الإجماع الذي ندعيه .
فتبين أن مثل هذا الإجماع الذي قوبل بنقل نزاع، ولم يثبت واحد / منهما لا يجوز أن يحتج به،ومن لم يترجح عنده نقل مثبت النزاع على نافيه، ولا نافيه على مثبته فليس له ـ أيضًا ـ أن يقدمه على النص ولا يقدم النص عليه،بل يقف لعدم رجحان أحدهما عنده، فإن ترجح عنده المثبت غلب على ظنه أن النص لم يعارضه إجماع يعمل به، وينظر في ذلك إلى مثبت الإجماع والنزاع، فمن عرف منه كثرة ما يدعيه من الإجماع والأمر بخلافه ليس بمنزلة من لم يعلم منه إثبات إجماع علم انتفاؤه، وكذلك من علم منه في نقل النزاع أنه لا يغلط إلا نادرًا ليس بمنزلة من علم منه كثرة الغلط .
وإذا تَظَافَرَ على نقل النزاع اثنان لم يأخذ أحدهما عن صاحبه فهذا يثبت به النزاع، بخلاف دعوى الإجماع، فإنه لو تظافر عليه عدد لم يستفد بذلك إلا عدم علمهم بالنزاع، وهذا لمن أثبت النزاع في جمع الثلاث ومن نفي النزاع، مع أن عامة من أثبت النزاع يذكر نقلًا صحيحًا لا يمكن دفعه وليس مع النافي ما يبطله .(1/457)
وكثير من الفقهاء المتأخرين أو أكثرهم يقولون : إنهم عاجزون عن تَلَقِّى جميع الأحكام الشرعية من جهة الرسول، فيجعلون نصوص أئمتهم بمنزلة نص الرسول ويقلدونهم . ولا ريب أن كثيرًا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء في الأمور العارضة التي لا يستقل هو بمعرفتها، ومن سالكى طريق الإرادة والعبادة والفقر والتصوف من يجعل شيخه / كذلك، بل قد يجعله كالمعصوم؛ ولا يتلقى سلوكه إلا عنه، ولا يتلقى عن الرسول سلوكه، مع أن تلقى السلوك عن الرسول أسهل من تلقى الفروع المتنازع فيها؛ فإن السلوك هو بالطريق التي أمر اللّه بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق، وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لابد للمؤمن منه .
ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة، ولم يحصل بين الصحابة نزاع في ذلك، كما تنازعوا في بعض مسائل الفقه التي خفيت معرفتها على أكثر الصحابة، وكانوا يتكلمون في الفتيا والأحكام؛ طائفة منهم يستفتون في ذلك .
وأما ما يفعله من يريد التقرب إلى اللّه من واجب ومستحب فكلهم يأخذه عن الكتاب والسنة؛ فإن القرآن والحديث مملوء من هذا، وإن تكلم أحدهم في ذلك بكلام لم يسنده هو يكون هو أو معناه مسندًا عن اللّه ورسوله، وقد ينطق أحدهم بالكلمة من الحكمة فتجدها مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قيل في تفسير قوله : { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } [ النور : 35 ] ، وَلَكِنْ كثير من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوى الذي يعرف به طريق اللّه ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ .(1/458)
/ وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة، وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف، وهكذا طريق العبادة، عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع، فيقعون في البدع فيقع فيهم الخلاف .
وهكذا الفقه إنما وقع فيه الاختلاف لما خفي عليهم بيان صاحب الشرع، ولكن هذا إنما يقع النزاع في الدقيق منه، وأما الجليل فلا يتنازعون فيه . والصحابة أنفسهم تنازعوا في بعض ذلك ولم يتنازعوا في العقائد، ولا في الطريق إلى اللّه التي يصير بها الرجل من أولياء اللّه الأبرار المقربين، ولهذا كان عامة المشايخ إذا احتاجوا في مسائل الشرع مثل مسائل النكاح والفرائض والطهارة وسجود السهو ونحو ذلك قلدوا الفقهاء؛ لصعوبة أخذ ذلك عليهم من النصوص . وأما مسائل التوكل والإخلاص والزهد، ونحو ذلك فهم يجتهدون فيها، فمن كان منهم متبعًا للرسول أصاب، ومن خالفه أخطأ .(1/459)
ولا ريب أن البدع كثرت في باب العبادة والإرادة أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول؛ لأن الإرادة يشترك الناس فيها أكثر مما / يشتركون في القول؛ فإن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان . وأما جنس الإرادة فهو مما يتصف به كل الحيوان، فما من حيوان إلا وله إرادة، وهؤلاء اشتركوا في إرادة التأله؛ لكن افترقوا في المعبود وفي عبادته؛ ولهذا وصف اللّه في القرآن رهبانية النصارى بأنهم ابتدعوها، وذم المشركين في القرآن على ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات، وذلك أكثر مما ابتدعوه من الاعتقادات؛ فإن الاعتقادات كانوا فيها جهالًا في الغالب فكانت بدعهم فيها أقل؛ ولهذا كلما قرب الناس من الرسول كانت بدعهم أخف فكانت في الأقوال، ولم يكن في التابعين وتابعيهم من تَعَبَّدَ بالرقص والسماع، كما كان فيهم خوارج ومعتزلة وشيعة، وكان فيهم من يكذب بالقدر ولم يكن فيهم من يحتج بالقدر .
فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف أقوال أهل البدع القولية، فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين، فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل، وهم أبعد عن متابعة الرسول .(1/460)
ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعى الإلهية والحلول والاتحاد، ومن يدعى أنه أفضل من الرسول، وأنه مُسْتَغْنٍ عن الرسول، وأن / لهم إلى اللّه طريقًا غير طريق الرسول . وهذا ليس من جنس بدع المسلمين، بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة، ونحوهم، وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين، وهؤلاء يدعون أنهم أولياء اللّه مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكَفْرُ من اليهود والنصارى، وكثير منهم ـ أو أكثرهم ـ لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول، بل عند طائفة منهم أن أهل الصفَّة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك . وعند آخرين أن الرسول أُمِرَ أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم، وأنهم لم يأذنوا له، وقالوا : اذهب إلى من أرسلت إليهم، وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول : خُوَيْدِمُكم جاء ليسلم عليكم . فجبروا قلبه، وأذنوا له بالدخول .
فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودى ولا نصرانى يقر بأنه رسول لله إلى الأميين، يقولون : إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به، واعترف أنهم خواص لله، وأن لله يخاطبهم بدون الرسول، لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه، ويحتجون بقصة الخضر مع موسى، وهي حجة عليهم ـ لا لهم ـ من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر .(1/461)
والضلال والجهل في جنس العباد والمبتدعة أكثر منه في جنس أهل الأقوال، لكن فيهم من الزهد والعبادة والأخلاق ما لا يوجد في/أولئك، وفي أولئك من الكِبْر والبخل والقسوة ما ليس فيهم، فهؤلاء فيهم شَبَهٌ من النصارى وهؤلاء فيهم شبه من اليهود، واللّه ـ تعالى ـ أمرنا أن نقول : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ؛ ولهذا آل الأمر بكثير من أكابر مشايخهم إلى أنهم شهدوا توحيد الربوبية والإيمان بالقدر، وذلك شامل لجميع الكائنات، فعدوا الفناء في هذا بزوال الفرق بين الحسنات والسيئات غاية المقامات، وليس بعده إلا ما سموه توحيدًا، وهو من جنس الحلول والاتحاد الذي تقوله النصارى، ولكنهم يهابون الإفصاح عن ذلك، ويجعلونه من الأسرار المكتومة .
ومنهم من يقول : إن الحلاج هذا كان مشهده، وإنما قتل لأنه باح بالسر الذي ما ينبغى البَوْحُ به . وإذا انضم إلى ذلك أن يكون أحدهم قد أخذ عمن يتكلم في إثبات القدر من أهل الكلام، أو غيرهم، ويجعل الجميع صادرًا عن إرادة واحدة، وليس هنا حب ولا بغض ولا رضًا ولا سخط ولا فرح، ولكن المرادات متنوعة، فما كان ثوابًا سمى تعلق الإرادة به رضًا، وما كان عقابًا سمى سخطًا، فحينئذ مع هذا المشهد لا يبقى عنده تمييز، ويسمون هذا : الجمع والاصْطِلام .(1/462)
وكان الجُنَيْد ـ قدس اللّه روحه ـ لما وصل أصحابه ـ كالثورى /وأمثاله ـ إلى هذا المقام أمرهم بالفرق الثانى، وهو : أن يفرقوا بين المأمور والمحظور، ومحبوب اللّه ومُرْضِيه، ومَسْخُوطه ومكروهه، وهو مشهد الإلهية الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وهو حقيقة قول : لا إله إلا اللّه . فمنهم من أنكر على الجنيد، ومنهم من توقف، ومنهم من وافق . والصواب ما قاله الجنيد من ذكر هذه الكلمة في الفرق بين المأمور والمحظور، والكلمة الأخرى في الفرق بين الرب والعبد، وهو قوله : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم . فهذا رد على الاتحادية والحُلُولية منهم، وتلك رد على من يقف عند الحقيقة الكونية منهم، وما أكثر من ابتلى بهذين منهم .
ثم من الناس من يقوم بهذا الفرق، لكن لنفسه وهواه، لا عبادة وطاعة للّه، فهذا مثل من يجاهد ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لهواه، كالمقاتل شجاعة وحَمِيَّة ورياء، وذاك بمنزلة من لا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر ولا يجاهد، هذا شبيه بالراهب، وذاك شبيه بمن لم يطلب إلا الدنيا، ذاك مبتدع وهذا فاجر .
وقد كَثُرَ في المتَزَهِّدة والمتَفَقِّرة البدع، وفي المعرضين عن ذلك طلب الدنيا،وطلاب الدنيا لا يعارضون تاركها إلا لأغراضهم، وإن كانوا مبتدعة، وأولئك لا يعارضون أبناء الدنيا إلا لأغراضهم، فتبقى المنازعات للدنيا،/ لا لتكون كلمة اللّه هي العليا، ولا ليكون الدين للّه، بخلاف طريقة السلف ـ رضى اللّه عنهم ـ أجمعين، وكلاهما خارج عن الصراط المستقيم .
نسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا . آخره والحمد للّه رب العالمين .
فصل(1/463)
وأما قيام الليل وصيام النهار فالأفضل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله . وقال : ( أفضل القيام قيام داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى ) وقد ثبت /في الصحاح أن عبد اللّه بن عمرو قال : لأصومن النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن كل يوم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ـ أي غارت ـ ونفهت له النفس ـ أي سئمت ـ ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام، فذلك صيامك الدهر ) يعني الحسنة بعشر أمثالها . فقال : إني أطيق أفضل من ذلك . فما زال يزايده، حتى قال : ( صم يوما وأفطر يوما ) قال : اني أطيق أفضل من ذلك، قال : ( لا أفضل من ذلك ) وقال له : في القراءة ( اقرأ القرآن في كل شهر ) ، فما زال يزايده حتى قال : ( اقرأ في سبع ) وذكر له أن أفضل القيام قيام داود، وقال له : ( إن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه ) فبين له صلى الله عليه وسلم أن المداومة على هذا العمل تغير البدن والنفس وتمنع من فعل ما هو آجر من ذلك من القيام لحق النفس والأهل والزوج .
وأفضل الجهاد والعمل الصالح، ما كان أطوع للرب، وأنفع للعبد . فإذا كان يضره ويمنعه مما هو أنفع منه، لم يكن ذلك صالحًا، وقد ثبت في الصحيح أن رجالًا قال أحدهم : أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر : أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم ،وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال صلى الله عليه وسلم : / ( ما بال رجال يقول أحدهم كيت وكيت، لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) فبين صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا الزهد الفاسد، والعبادة الفاسدة ليست من سنته، فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيرًا من سنته، فليس منه .(1/464)
وقد قال أبي بن كعب : عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا فاقشعر جلده من خشية اللّه، إلا تحاتّت عنه خطاياه، كما يتحاتّ الورق اليابس عن الشجر، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا، ففاضت عيناه من خشية اللّه، إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم . وكذلك قال عبد اللّه بن مسعود : اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة .
وقد تنازع العلماء في سرد الصوم إذا أفطر يومي العيدين، وأيام منى . فاستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد، فرأوه أفضل من صوم يوم، وفطر يوم . وطائفة أخرى لم يروه أفضل، بل جعلوه سائغًا بلا كراهة، وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه، وحملوا ما ورد في ترك صوم الدهر على من صام أيام النهى . والقول الثالث : /وهو الصواب قول من جعل ذلك تركًا للأولى، أو كره ذلك . فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كنهيه لعبد اللّه بن عمرو عن ذلك، وقوله : ( من صام الدهر فلا صام، ولا أفطر ) وغيرها صريحة في أن هذا ليس بمشروع .
ومن حمل ذلك على أن المراد صوم الأيام الخمسة، فقد غلط، فإن صوم الدهر لا يراد به صوم خمسة أيام فقط، وتلك الخمسة صومها محرم . ولو أفطر غيرها فلم ينه عنها لكون ذلك صومًا للدهر، ولا يجوز أن ينهي عن صوم أكثر من ثلاثمائة يوم، والمراد خمسة، بل مثال هذا مثال من قال : ائتني بكل من في الجامع، وأراد به خمسة منهم . وأيضًا، فإنه علل ذلك بأنك إذا فعلت ذلك : هجمت له العين، ونفهت له النفس، وهذا إنما يكون في سرد الصوم، لا في صوم الخمسة .(1/465)
وأيضًا، فإن في الصحيح أن سائلا سأله عن صوم الدهر، فقال : ( من صام الدهر فلا صام ولا أفطر ) . قال : فمن يصوم يومين ويفطر يوما، فقال : ( ومن يطيق ذلك ؟ ! ) قال : فمن يصوم يومًا، ويفطر يومين، فقال : ( وددت أني طُوِّقت ذلك ) ، فقال : فمن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فقال : ذلك أفضل الصوم ) فسألوه عن صوم الدهر، ثم عن صوم ثلثيه، ثم عن صوم ثلثه، ثم عن صوم شطره .
/وأما قوله : ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر ) ،وقوله : ( من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، فكأنما صام الدهر . الحسنة بعشر أمثالها ) ونحو ذلك، فمراده أن من فعل هذا يحصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر، من غير حصول المفسدة، فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر، حصل له أجر صوم الدهر بدون شهر رمضان . وإذا صام رمضان وستًا من شوال، حصل بالمجموع أجر صوم الدهر، وكان القياس أن يكون استغراق الزمان بالصوم عبادة، لولا ما في ذلك من المعارض الراجح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الراجح، وهو إضاعة ما هو أولي من الصوم، وحصول المفسدة راجحة فيكون قد فوت مصلحة راجحة واجبة أو مستحبة، مع حصول مفسدة راجحة على مصلحة الصوم .
وقد بين صلى الله عليه وسلم حكمة النهي، فقال : ( من صام الدهر فلا صام ولا أفطر ) فإنه يصير الصيام له عادة، كصيام الليل، فلا ينتفع بهذا الصوم، ولا يكون صام، ولا هو ـ أيضًا ـ أفطر .
ومن نقل عن الصحابة أنه سرد الصوم، فقد ذهب إلى أحد هذه الأقوال . وكذلك من نقل عنه أنه كان يقوم جميع الليل دائمًا، أو أنه يصلي الصبح بوضوء العشاء الآخرة، كذا كذا سنة، مع أن كثيرًا من المنقول من ذلك ضعيف . وقال عبد اللّه بن مسعود لأصحابه : أنتم/ أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد، وهم كانوا خيرًا منكم . قالوا : لِمَ يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : لأنهم كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة .(1/466)
فأما سرد الصوم بعض العام، فهذا قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، قد كان يصوم حتى يقول القائل : لا يفطر . ويفطر حتى يقول القائل : لا يصوم .
وكذلك قيام بعض الليالي جميعها . كالعشر الأخير من رمضان، أو قيام غيرها أحيانًا، فهذا مما جاءت به السنن . وقد كان الصحابة يفعلونه، فثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله كله .
وفي السنن أنه قام بآية ليلة حتى أصبح : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] ، ولكن غالب قيامه كان جوف الليل، وكان يصلي بمن حضر عنده، كما صلى ليلة بابن عباس، وليلة بابن مسعود، وليلة بحذيفة بن اليمان، وقد كان أحيانًا يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران، ويركع نحوًا من قيامه، يقول في ركوعه : ( سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم ) ويرفع نحوًا من ركوعه،/يقول : ( لربي الحمد، لربي الحمد ) ويسجد نحوًا من قيامه يقول : ( سبحان ربي الأعلي، سبحان ربي الأعلي ) ويجلس نحوًا من سجوده يقول : ( رب اغفر لي، رب اغفر لي ) ويسجد .
وأما الوصال في الصيام، فقد ثبت أنه نهي عنه أصحابه، ولم يرخص لهم إلا في الوصال إلى السحر، وأخبر أنه ليس كأحدهم . وقد كان طائفة من المجتهدين في العبادة يواصلون، منهم من يبقي شهرًا لا يأكل ولا يشرب، ومنهم من يبقي شهرين وأكثر وأقل . ولكن كثير من هؤلاء ندم على ما فعل، وظهر ذلك في بعضهم . فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بطريق اللّه، وأنصح الخلق لعباد اللّه، وأفضل الخلق، وأطوعهم له، وأتبعهم لسنته .(1/467)
والأحوال التي تحصل عن أعمال فيها مخالفة السنة، أحوال غير محمودة ـ وإن كان فيها مكاشفات، وفيها تأثيرات ـ فمن كان خبيرًا بهذا الباب، علم أن الأحوال الحاصلة عن عبادات غير مشروعة كالأموال المكسوبة بطريق غير شرعي، والملك الحاصل بطريق غير شرعي . فإن لم يتدارك اللّه عبده بتوبة، يتبع بها الطريق الشرعية، وإلا كانت تلك الأمور سببًا لضرر يحصل له، ثم قد يكون مجتهدًا مخطئًا مغفورًا له خطؤه . وقد يكون مذنبًا ذنبا مغفورًا لحسنات ماحية، وقد يكون مبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يعاقب بسلب تلك الأحوال، /وإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة، وفعل ما نهى عنه، فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات، حتى قد يصير فاسقا أو داعيا إلى بدعة . وإن أصر على الكبائر، فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان . فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير، حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة، كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال من المكاشفات والتأثيرات، وقد عرفنا من هذا ما ليس هذا موضع ذكره .
فالسنة مثال سفينة نوح : من ركبها، نجا . ومن تخلف عنها، غرق . قال الزهري : كان من مضي من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة وعامة من تجد له حالا من مكاشفة أو تأثير، أعان به الكفار أو الفجار أو استعمله في غير ذلك من معصية، فإنما ذاك نتيجة عبادات غير شرعية، كمن اكتسب أموالًا محرمة فلا يكاد ينفقها إلا في معصية اللّه .
والبدع نوعان : نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات . وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني .(1/468)
فالمنتسبون إلى العلم والنظر وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الأول . والمنتسبون إلى العبادة والنظر والإرادة وما يتبع ذلك، يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب/والسنة من القسم الثاني . وقد أمرنا اللّه أن نقول في كل صلاة : { \ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] آمين .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصاري ضالون ) قال سفيان بن عُيَيْنَة : كانوا يقولون : من فسد من العلماء، ففيه شبه من اليهود . ومن فسد من العُبٌاد، ففيه شبه من النصاري . وكان السلف يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه، وترك ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال .
وأهل الإرادة إن لم يقترن بإرادتهم طلب العلم الواجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقعوا في الضلال والبغي، ولو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب، كان غاويا . وإذا اعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالا . والضلال سمة النصاري، والبغي سمة اليهود، مع أن كلا من الأمتين فيها الضلال والبغي . ولهذا تجد من انحرف عن الشريعة في الأمر والنهي من أهل الإرادة والعبادة والسلوك والطريق، ينتهون إلى الفناء الذي لا يميزون فيه بين المأمور والمحظور، فيكونون فيه متبعين أهواءهم .
وإنما الفناء الشرعي أن يفني بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه،/ وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وهذا هو إخلاص الدين للّه وعبادته وحده لا شريك له، وهو دين الإسلام الذي أرسل اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب .(1/469)
وتجد ـ أيضا ـ من انحرف عن الشريعة من الجبر والنفي والإثبات من أهل العلم والنظر والكلام والبحث، ينتهي أمرهم إلى الشك والحيرة، كما ينتهي الأولون إلى الشطح والطامات، فهؤلاء لا يصدقون بالحق، وأولئك يصدقون بالباطل، وإنما يتحقق الدين بتصديق الرسول في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر باطنا وظاهرًا، من المعارف والأحوال القلبية، وفي الأقوال والأعمال الظاهرة .
ومن عَظَّمَ مطلق السهر والجوع، وأمر بهما مطلقًا، فهو مخطئ، بل المحمود السهر الشرعي، والجوع الشرعي، فالسهر الشرعي كما تقدم من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك من العبادات . والأفضل يتنوع بتنوع الناس، فبعض العلماء يقول : كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة، وبعض الشيوخ يقول : ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يراني أحد أفضل من كتابة مائة حديث،وآخر من الأئمة يقول : بل الأفضل فعل هذا وهذا، والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس، فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل، ثم يكون/ تارة مرجوحًا أو منهيًا عنه . كالصلاة . فإنها أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، ثم الصلاة في أوقات النهي ـ كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة ـ منهي عنها . والاشتغال ـ حينئذٍ ـ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك .
وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر، ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع . دون قراءة القرآن، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر، وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون أفضل في حقه، كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد .(1/470)
ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة، ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة، ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل . والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له، وتارة هذا أفضل له . ومعرفة حال كل شخص شخصًا، وبيان الأفضل له، لا يمكن ذكره في كتاب، بل لابد من هداية يهدي اللّه بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق اللّه عبد إلا صنع له .
وفي الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل/ يقول : ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون . اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .
فصل
والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه، فما كان إلى الحكام فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام، مثل تزويج الأيامي، والنظر في الوقوف، وإجرائها على شروط واقفيها، وعمارة المساجد، ووقوفها؛ حيث يجوز للإمام فعل ذلك، فما جاز له التصرف فيه جاز لنائبه فيه .
وإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه من حاكم وغيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك . وهذا إذا كان البناء في الطريق، وإن كان متصلا بالطريق عند أكثر العلماء؛ مالك، والشافعي، وأحمد .
وكذلك فناء الدار، ولكن هل الفناء ملك لصاحب الدار ؟ أو حق من حقوقها ؟ فيه وجهان في مذهب أحمد :(1/471)
أحدهما : أنه مملوك لصاحبها، وهو مذهب مالك، والشافعي . حتي قال مالك في الأفنية التي في الطريق : يكريها أهلها، فقال : إن /كانت ضيقة تضر بالمسلمين وصنع شيء فيها منعوا، ولم يمكنوا . وأما كل فناء إذا انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم فلا أري به بأسا . قال الطحاوي : وهذا يدل على أنه كان يري الأفنية مملوكة لأهلها؛ إذ أجاز إجارتها، فينبغي ألا يفسد البيع بشرطها . قال : والذي يدل عليه قول الشافعي : أنه إن كان فيه صلاح للدار فهو ملك لصاحبها، إلا أنه لا يجوز بيعه عنده . وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أن الأفنية لجماعة المسلمين غير مملوكة كسائر الطريق .
والذي ذكره القاضي، وابن عقيل، وغيرهما من أصحاب أحمد هو الوجه الثاني، وهو أن الأرض تملك دون الطريق، إلا أن صاحب الأرض أحق بالمرافق من غيره، ولذلك هو أحق بفناء الدار من غيره، وهذا مذهب أحمد في الكلأ النابت في ملكه أنه أحق به من غيره، وإن كان لا يملكه . . . على قول الجمهور : مالك والشافعي وأحمد . . .
فإذا كان البناء في فناء المسجد والدار، فإنه أحق بالجواز منه في جادة الطريق، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أن أبا بكر الصديق ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ اتخذ مسجدا بفناء داره، وهذا كالبطحاء التي كان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ جعلها خارج مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمن يتحدث، ويفعل ما يصان عنه المسجد . فلم يكن مسجدا، ولم يكن كالطريق بل . . . اختصاص بالمسجد، فمثل هذه/ يجوز البناء فيها بطريق الأولي، والبناء كالدخلات التي تكون منحرفة عن جادة الطريق، متصلة بالدار والمسجد، ومتصلة بالطريق، وأهل الطريق لا يحتاجون اليها، إلا إذا قدر رحبة خارجة عن العادة، وهي تشبه الطريق الذي ينفذ المتصل بالطريق النافذ، فإن هذا كله أحق من غيرهم .(1/472)
ولو أرادوا أن يبنوا فيه، ويجعلوا عليه بابًا جاز عند الأكثرين؛ لما تقدم . وعند أبي حنيفة ليس لهم ذلك، لما فيه من إبطال حق غيرهم من الدخول اليه عند الحاجة . والأكثرون يقولون : حقهم فيه إنما هو جواز الانتفاع إذا لم يحجر عليه أصحابه، كما يجوز الانتفاع بالصحراء المملوكة على وجه لا يضر بأصحابها، كالصلاة فيها، والمقيل فيها، ونزول المسافر فيها؛ فإن هذا جائز فيها . وفي أفنية الدور بدون إذن المالك عند جماهير العلماء .
وذكر أصحاب الشافعي في الانتفاع بالفناء بدون إذن المالك قولين، وذكر أصحاب أحمد في الصحراء وجها بالمنع من الصلاة فيها، وهو بعيد على نصوص أحمد وأصوله؛ فإنه يجوز أكل الثمرة في مثل ذلك، فكيف بالمنافع التي لا تضره، ويجوز على المنصوص عنه رعي الكلأ في الأرض المملوكة، فيدخلها بغير إذن صاحبها، لأجل الكلأ . وإن كان من أصحابه من منع ذلك .
/وأما الانتفاع الذي لا يضر بوجه، فهو كالاستظلال بظله، والاستضاءة بناره، ومثل هذا لا يحتاج إلى إذن، فإذا حجر عليها صاحبها صارت ممنوعة؛ ولهذا يفرق بين الثمار التي ليس عليها حائط، ولا ناطور، فيجوز فيها من الأكل بلا عوض، مالا يجوز في الممنوعة، على مذهب أحمد، إما مطلقًا، وإما للمحتاج، وإن لم يجز الحمل .
وإذا جاز البناء في فناء الملك لصاحبه، ففي فناء المسجد للمسجد بطريق الأولي، وفناء الدار والمسجد لا يختص بناحية الباب، بل قد يكون من جميع الجوانب، قال القاضي وابن عقيل وغيرهما : إذا كان المحيي أرضًا كان أحق بفنائها، فلو أراد غيره أن يحفر في أصل حائطه بئرا لم يكن له ذلك، وكذلك ذكر أبو حامد والماوردي وغيرهما من أصحاب الشافعي . واللّه أعلم .
***********************
مفهوم الفناء عند الإمام ابن القيم رحمه الله :
ففي مدارج السالكين :
فصل قال الدرجة الثالثة إلهام يجلو عين التحقيق صرفا وينطق عن عين(1/473)
الأزل محضا والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها عين التحقيق عنده هي الفناء في شهود الحقيقة بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود وتعود الرسوم أعداما محضة فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة والناطق عن هذا الكشف عندهم لا يفهم عنه إلا من هو معه ومشارك له وعند أرباب هذا الكشف أن كل الخلق عنه في حجاب وعندهم أن العلم والعقل والحال حجب عليه وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول وهذا أمر وراء الحس والعقل وحاصل هذا الإلهام أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم لكن في الشهود لا في الوجود وأما الإتحادية القائلون بوحدة الوجود فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود ويجعلون صاحب المنازل منهم وهو برىء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة والله أعلم
فصل فإذا انتبه وأبصر أخذ في القصد وصدق الإرادة وأجمع القصد(1/474)
والنية على سفر الهجرة إلى الله وعلم وتيقن أنه لابد له منه فأخذ في أهبة السفر وتعبئة الزاد ليوم المعاد والتجرد عن عوائق السفر وقطع العلائق التي تمنعه من الخروج وقد قسم صاحب المنازل القصد إلى ثلاثة درجات فقال الدرجة الأولى قصد يبعث على الإرتياض ويخلص من التردد ويدعو إلى مجانبة الأغراض فذكر له ثلاث فوائد أنه يبعث على السلوك بلا توقف ولا تردد ولا علة غير العبودية من رياء أو سمعة أو طلب محمدة أو جاه ومنزلة عند الخلق قال الدرجة الثانية قصد لا يلقى سببا إلا قطعه ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله يعني أنه لا يلق سببا يعوق عن المقصود إلا قطعه ولا حائلا دونه إلا منعه ولا صعوبة إلا سهلها قال الدرجة الثالثة قصد الإستسلام لتهذيب العلم وقصد إجابة داعي الحكم وقصد اقتحام بحر الفناء يريد أنه ينقاد إلى العلم ليتهذب به ويصلح ويقصد إجابة داعي الحكم الديني الأمري كلما دعاه فإن للحكم في كل مسألة من مسائل العلم مناديا ينادي للإيمان بها علما وعملا فيقصد إجابة داعيها ولكن مراده بداعي الحكم الأسرار والحكم الداعية إلى شرع الحكم فإجابتها قدر زائد على مجرد الإمتثال فإنها تدعو إلى المحبة والإجلال والمعرفة والحمد فالأمر يدعو إلى الإمتثال وما تضمنه من الحكم والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبة وقوله وقصد اقتحام بحر الفناء هذا هو الغاية المطلوبة عند القوم وهو عند بعضهم لازم من لوازم الطريق وليس بغاية وعند آخرين عارض من عوارض الطريق وليس بغاية ولا هو لازم لكل سالك وأهل القوة والعزم لا يعرض لهم وحال البقاء أكمل منه ولهذا كان البقاء حال نبينا ليلة الإسراء وقد رأى ما رأى وحال موسى الفناء ولهذا خر صعقا عند تجلي الله للجبل وامرأة العزيز كانت أكمل حبا ليوسف من النسوة ولم يعرض لها ما عرض لهن عند رؤية يوسف لفنائهن وبقائها وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام فيه(1/475)
ومقام الطمأنينة جامع للإنابة والتوكل والتفويض والرضى والتسليم فهو معنى ملتئم من هذه الأمور إذا اجتمعت صار صاحبها صاحب طمأنينة وما نقص منها نقص من الطمأنينة وكذلك الرغبة والرهبة كل منهما ملتئم من الرجاء والخوف والرجاء على الرغبة أغلب والخوف على الرهبة أغلب وكل مقام من هذه المقامات فالسالكون بالنسبة إليه نوعان أبرار ومقربون فالأبرار في أذياله والمقربون في ذروة سنامه وهكذا مراتب الإيمان جميعها وكل من النوعين لا يحصى تفاوتهم وتفاضل درجاتهم إلا الله وتقسيمهم ثلاثة أقسام عام وخاص وخاص خاص إنما نشأ من جعل الفناء غاية الطريق وعلم القوم الذي شمروا إليه وسنذكر ما في ذلك وأقسام الفناء محموده ومذمومه فاضله ومفضوله فإن إشارة القوم إليه إن شاء الله ومدارهم عليه على أن الترتيب الذي يشير إليه كل مرتب للمنازل لا يخلو عن تحكم ودعوى من غير مطابقة فإن العبد إذا التزم عقد الإسلام ودخل فيه كله فقد التزم لوازمه الظاهرة والباطنة ومقاماته وأحواله وله في كل عقد من عقوده وواجب من واجباته أحوال ومقامات لايكون موفيا لذلك العقد والواجب إلا بها وكلما وفى واجبا أشرف على واجب آخر بعده وكلما قطع منزلة استقبل أخرى وقد يعرض له أعلى المقامات والأحوال في أول بداية سيره فينفتح عليه من حال المحبة والرضا والأنس والطمأنينة ما لم يحصل بعد لسالك في نهايته ويحتاج هذا السالك في نهايته إلى أمور من البصيرة والتوبة والمحاسبة أعظم من حاجة صاحب البداية إليها فليس في ذلك ترتيب كلى لازم للسلوك وقد ذكرنا أن التوبة التي جعلوها من أول المقامات هي غاية العارفين ونهاية أولياء الله المقربين ولا ريب أن حاجتهم إلى المحاسبة في نهايتهم فوق حاجتهم إليها في بدايتهم فالأولى الكلام في هذه المقامات على طريقة المتقدمين من أئمة القوم كلاما مطلقا في كل مقام مقام ببيان حقيقته وموجبه وآفته المانعة من حصوله والقاطع عنه وذكر عامه وخاصه فكلام أئمة(1/476)
الطريق هو على هذا المنهاج فمن تأمله كسهل بن عبدالله التستري وأبي طالب المكي والجنيد بن محمد وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي وأرفع من هؤلاء طبقة مثل أبي سليمان الداراني وعون ابن عبدالله الذي كان يقال له حكيم الأمة وأضرابهما فإنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلاما مفصلا جامعا مبينا مطلقا من غير ترتيب ولا حصر للمقامات بعدد معلوم فإنهم كانوا أجل من هذا وهمهم أعلى وأشرف إنما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة وطهارة القلوب وزكاة النفوس وتصحيح المعاملة ولهذا كلامهم قليل فيه البركة وكلام المتأخرين كثير طويل قليل البركة ولكن لا بد من مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تلقي السلوك عن السلف الأول وكلماتهم وهديهم ولو برز لهم هديهم وحالهم لأنكروه ولعدوه سلوكا عاميا وللخاصة سلوك آخر كما يقال ضلال المتكلمين وجهلتهم إن القوم كانوا أسلم وإن طريقنا أعلم كما يقول من لم يقدر قدرهم من المنتسبين إلى الفقه إنهم لم يتفرغوا لإستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره والمتأخرون تفرغوا لذلك فهم أفقه فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعن عمق علومهم وقلة تكلفهم وكمال بصائرهم وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والإشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن و ^ قد جعل الله لكل شيء قدرا ^فالأولى بنا أن نذكر منازل العبودية الواردة في القرآن والسنة ونشير إلى معرفة حدودها ومراتبها إذ معرفة ذلك من تمام معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله(1/477)
وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع وجاء بما يرغب عنه الكمل من سادات السالكين والواصلين إلى الله فقال الفكرة في عين التوحيد اقتحام بحر الجحود وهذا بناء على أصله الذي أصله وانتهى إليه كتابه في أمر الفناء فإنه لما رأى أن الفكرة في عين التوحيد تبعد العبد من التوحيد الصحيح عنده لأن التوحيد الصحيح عنده لا يكون إلا بعد فناء الفكرة والتفكر والفكرة تدل على بقاء رسم لاستلزامها مفكرا وفعلا قائما به والتوحيد التام عنده لا يكون مع بقاء رسم أصلا كانت الفكرة عنده علامة الجحود واقتحاما لبحره وقد صرح بهذا في أبياته في آخر الكتاب ما وحد الواحد من واحد ***** إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ***** عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ***** ونعت من ينعته لأحد(1/478)
ومعنى أبياته ما وحد الله عز وجل أحد حق توحيده الخاص الذي تفنى فيه الرسوم ويضمحل فيه كل حادث ويتلاشى فيه كل مكون فإنه لا يتصور منه التوحيد إلا ببقاء الرسم وهو الموحد وتوحيده القائم به فإذا وحده شهد فعله الحادث ورسمه الحادث وذلك جحود لحقيقة التوحيد الذي تفنى فيه الرسوم وتتلاشى فيه الأكوان فلذلك قال إذ كل من وحده جاحد هذا أحسن ما يحمل عليه كلامه وقد فسره أهل الوحدة بصريح كلامهم في مذهبهم قالوا معنى كل من وحده جاحد أي كل من وحده فقد وصف الموحد بصفة تتضمن جحد حقه الذي هو عدم انحصاره تحت الأوصاف فمن وصفه فقد جحد إطلاقه عن قيود الصفات وقوله توحيد من ينطق عن نعته أي توحيد المحدث له الناطق عن نعته عارية مستردة فإنه الموحد قبل توحيد هذا الناطق وبعد فنائه فتوحيده له عارية أبطلها الواحد الحق بإفنائه كل ما سواه والإتحادي يقول معناه أن الموحد واحد من جميع الوجوه فأبطل ببساطة ذاته تركيب نطق واصفه وأبطل بإطلاقه تقييد نعت موحده وقوله توحيده إياه توحيده يعني أن توحيده الحقيقي هو توحيده لنفسه حيث لا هناك رسم ولا مكون فما وحد الله حقيقة إلا الله والإتحادي يقول ما ثم غير يوحده بل هو الموحد لنفسه بنفسه إذ ليس ثم سوى في الحقيقة قوله ونعت من ينعته لأحد أي نعت الناعت له ميل وخروج عن التوحيد الحقيقي والإلحاد أصله الميل لأنه بنعته له قائم بالرسوم وبقاء الرسوم ينافي توحيده الحقيقي والإتحادي يقول نعت الناعت له شرك لأنه أسند إلى المطلق ما لا يليق به إسناده من التقييد وذلك شرك وإلحاد فرحمة الله على أبي إسماعيل فتح للزنادقة باب الكفر والإلحاد فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم إنه لمنهم وما هو منهم وغره سراب الفناء فظن أنه لجة بحر المعرفة وغاية العارفين وبالغ في تحقيقه وإثباته فقاده قسرا إلى ما ترى والفناء الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه أن تذهب المحدثات في شهود العبد وتغيب في أفق العدم كما كانت قبل(1/479)
أن توجد ويبقى الحق تعالى كما لم يزل ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا فلا يبقى له صورة ولا رسم ثم يغيب شهوده أيضا فلا يبقى له شهود ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات وحقيقته أن يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل قال صاحب المنازل هو اضمحلال ما دون الحق علما ثم جحدا ثم حقا وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى فناء المعرفة في المعروف وهو الفناء علما وفناء العيان في المعاين وهو الفناء جحدا وفناء الطلب في الوجود وهو الفناء حقا الدرجة الثانية فناء شهود الطلب لإسقاطه وفناء شهود المعرفة لإسقاطها وفناء شهود العيان لإسقاطه الدرجة الثالثة الفناء عن شهود الفناء وهو الفناء حقا شائما برق العين راكبا بحر الجمع سالكا سبيل البقاء فنذكر ما في هذا الكلام من حق وباطل ثم نتبعه ذكر أقسام الفناء والفرق بين الفناء المحمود الذي هو فناء خاصة أولياء الله المقربين والفناء المذموم الذي هو فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود وفناء المتوسطين الناقصين عن درجة الكمال بعون الله وحوله وتأييده فقوله الفناء اضمحلال ما دون الحق جحدا لا يريد به أنه يعدم من الوجود بالكلية وإنما يريد اضمحلاله في العلم فيعلم أن ما دونه باطل وأن وجوده بين عدمين وأنه ليس له من ذاته إلا العدم فعدمه بالذات ووجوده بإيجاد الحق له فيفنى في علمه كما كان فانيا في حال عدمه فإذا فنى في علمه ارتقى إلى درجة أخرى فوق ذلك وهي جحد السوى وإنكاره وهذه أبلغ من الأولى لأنها غيبته عن السوى فقد يغيب عنه وهو غير جاحد له وهذه الثانية جحده وإنكاره ومن هاهنا دخل الإتحادي وقال المراد جحد السوى بالكلية وأنه ما ثم غير بوجه ما وحاشا شيخ الإسلام من إلحاد أهل الإتحاد وإن كانت عبارته موهمة بل مفهمة ذلك وإنما أراد بالجحد في الشهود لا في الوجود أي يجحده أن يكون مشهودا فيجحد وجوده الشهودي العلمي لا وجوده العيني الخارجي فهو أولا يغيب عن(1/480)
وجوده الشهودي العلمي ثم ينكر ثانيا وجوده في علمه وهو اضمحلاله جحدا ثم يرتقي من هذه الدرجة إلى درجة أخرى أبلغ منها وهي اضمحلاله في الحقيقة وأنه لا وجود له ألبته وإنما وجوده قائم بوجود الحق فلولا وجود الحق لم يكن هو موجودا ففي الحقيقة الموجود إنما هو الحق وحده والكائنات من أثر وجوده هذا معنى قولهم إنها لا وجود لها ولا أثر لها وإنها معدومة وفانية ومضمحلة والإتحادي يقول إن السالك في أول سلوكه يرى أنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله فهذا توحيد العلم ولا يقدر في طوره الأول على أكثر من ذلك ثم ينتقل عن هذا إلى الدرجة الثانية وهي شهود عود الأفعال إلى الصفات والصفات إلى الذات فعاد الأمر كله إلى الذات فيجحد وجود السوي بالكلية فهذا هو الإضمحلال جحدا ثم يرتقي عن هذه الدرجة إلى ركوب البحر الذي تغرق فيه الأفعال والأسماء والصفات ولا يبقى إلا أمر مطلق لا يتقيد باسم ولا فعل ولا صفة قد اضمحل فيه كل معنى وقيد وصفة ورسم وهذا عندهم غاية السفر الأول فحينئذ يأخذ في السفر الثاني وهو البقاء قوله الدرجة الأولى فناء المعرفة في المعروف يريد اضمحلال معرفته وتلاشيها في معروفه وأن يغيب بمعروفه عن معرفته كما يغيب بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمحبوبه عن حبه وبمخوفه عن خوفه وهذا لا ريب في إمكانه ووقوعه فإن القلب إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متسع لغيره وأنت ترى الرجل يشاهد محبوبه الذي قد استغرق في حبه بحيث تخلل حبه جميع أجزاء قلبه أو يشاهد المخوف الذي امتلأ قلبه بخوفه فتراه دهشا عن شعوره بحبه أو خوفه لإستيلاء سلطان المحبوب أو المخوف على قلبه وعدم اتساعه لشهود غيره ألبتة لكن هذا لنقصه لا لكماله والكمال وراء ذلك فلا أحد أعظم محبة لله عز وجل من الخليلين عليهما الصلاة والسلام وكانت حالهما أكمل من هذه الحال وشهود العبودية أكمل وأتم وأبلغ من الغيبة عنها بشهود المعبود فشهود العبودية والمعبود درجة الكمل والغيبة(1/481)
بأحدهما عن الآخر للناقصين فكما أن الغيبة بالعبادة عن المعبود نقص فكذلك الغيبة بالمعبود عن عبادته نقص حتى إن من العارفين من لا يعتد بهذه العبادة ويرى وجودها عدما هي بمنزلة عبودية النائم وزائل العقل لا يعتد بها ولم يبعد هذا القائل فالحق تعالى مراده من عبده استحضار عبوديته لا الغيبة عنها والعامل على الغيبة عنها عامل على مراده من الله وعلى حظه والتنعم بالفناء في شهوده لا على مراد الله منه وبينهما ما بينهما فكيف يكون قائما بحقيقة العبودية من يقول إياك نعبد ولا شعور له بعبوديته ألبتة بل حقيقة إياك نعبد علما ومعرفة وقصدا وإرادة وعملا وهذا مستحيل في وادي الفناء ومن له ذوق يعرف هذا وهذا قوله وفناء العيان في المعاين وهو الفناء جحدا لما كان ما قبل هذا فناء العلم في المعلوم والمعرفة في المعروف والعيان فوق العلم والمعرفة إذنسبته إلى العلم كنسبة المرئي إليه كان الفناء في هذه المرتبة فناء عيانه في معاينه ومحو أثره واضمحلال رسمه قوله وفناء الطلب في الموجود وهو الفناء حقا يريد أنه لا يبقى لصاحب هذا العيان طلب لأنه قد ظفر بموجوده ومطلوبه وطلب الموجود محال لأنه إنما يطلب المفقود عن العيان لا الموجود فإذا استقرت في عيانه وشهوده فنى الطلب حقا قوله الدرجة الثانية فناء شهود الطلب لإسقاطه وفناء شهود المعرفة لإسقاطها وفناء شهود العيان لإسقاطه يريد أن الطلب يسقط فيشهد العبد عدمه فهاهنا أمور ثلاثة مترتبة أحدها فناء الطلب وسقوطه ثم شهود سقوطه ثم سقوط شهوده فهذا هو فناء شهود الطلب لإسقاطه وأما فناء شهود المعرفة لإسقاطها فيريد به أن المعرفة تسقطه في شهود العيان إذ هو فوقها وهي تفنى فيه فيشهد سقوطها في العيان ثم يسقط شهود سقوطها وصاحب المنازل يرى أن المعرفة قد يصحبها شيء من حجاب العلم ولا يرتفع ذلك الحجاب إلا بالعيان فحينئذ تفنى في حقه المعارف فيشهد فناءها وسقوطها ولكن عليه بعد بقية لا تزول عنه حتى يسقط(1/482)
شهود فنائها وسقوطها منه فالعارف يخالطه بقية من العلم لا تزول إلا بالمعاينة والمعاين قد يخالطه بقية من المعرفة لا تزول إلا بشهود سقوطها ثم سقوط شهود هذا السقوط وأما فناء شهود العيان لإسقاطه فيعني أن العيان أيضا يسقط فيشهد العبد ساقطا فلا يبقى إلا المعاين وحده قال الإتحادي هذا دليل على أن الشيخ يرى مذهب أهل الوحدة لأن العيان إنما يسقط في مبادى حضرة الجمع لأنه يقتضي ثلاثة أمور معاين ومعاين ومعاينة وحضرة الجمع تنفى التعداد وهذا كذب على شيخ الإسلام وإنما مراده فناء شهود العيان فيفنى عن مشاهدة المعاينة ويغيب بمعاينه عن معاينته لأن مراده انتفاء التعدد والتغاير بين المعاين والمعاين وإنما مراده انتفاء الحاجب عن درجة الشهود لا عن حقيقة الوجود ولكنه باب لإلحاد هؤلاء الملاحدة منه يدخلون وفرق بين إسقاطه الشيء عن درجة الوجود العلمي الشهودي وإسقاطه عن رتبة الوجود الخارجي العيني فشيخ الإسلام بل مشايخ القوم المتكلمين بلسان الفناء هذا مرادهم وأما أهل الوحدة فمرادهم أن حضرة الجمع والوحدة تنفى التعدد والتقييد في الشهود والوجود بحيث يبقى المعروف والمعرفة والعارف من عين واحدة لا بل ذلك هو نفس العين الواحدة وإنما العلم والعقل والمعرفة حجب بعضها أغلظ من بعض ولا يصير السالك عندهم محققا حتى يخرق حجاب العلم والمعرفة والعقل فحينئذ يفضي إلى ما وراء الحجاب من شهود الوحدة المطلقة التي لا تتقيد بقيد ولا تختص بوصف قوله الدرجة الثالثة الفناء عن شهود الفناء أي يشهد فناء كل ما سوى الحق تعالى في وجود الحق ثم يشهد الفناء قد فنى أيضا ثم يفنى عن شهود الفناء فذلك هو الفناء حقا وقوله شائما برق العين يعني ناظرا إلى عين الجمع فإذا شام برقه من بعد انتقل من ذلك إلى ركوب لجة بحر الجمع وركوبه إياها هو فناؤه في جمعه ويعني بالجمع الحقيقة الكونية القدرية التي يجتمع فيها جميع المتفرقات وتشمير القوم إلى شهودها والإستغراق(1/483)
والفناء فيها هو غاية السلوك والمعرفة عندهم وسنذكر إن شاء الله تعالى أن العبد لا يدخل بهذا الفناء والشهود في الإسلام فضلا أن يكون به من المؤمنين فضلا أن يكون به من خاصة أولياء الله المقربين فإن هذا شهود مشترك لأمر أقر به عباد الأصنام وسائر أهل الملل أنه لا خالق إلا الله قال الله تعالى ^ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ^ ^ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ^ فالإستغراق والفناء في شهود هذا القدر غاية التحقيق لتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ولم يدخلوا به في الإسلام وإنما الشأن في توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل وأنزلت به الكتب وتميز به أولياء الله من أعدائه وهو أن لا يعبد إلا الله ولا يحب سواه ولا يتوكل على غيره والفناء في هذا التوحيد هو فناء خاصة المقربين كما سيأتي إن شاء الله
فصل إذا عرفت مراد القوم بالفناء فنذكر أقسامه ومراتبه وممدوحه ومذمومه ومتوسطه(1/484)
فاعلم أن الفناء مصدر فني فناء إذا اضمحل وتلاشى وعدم وقد يطلق على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه كا قال الفقهاء لا يقتل في المعركة شيخ فان وقال تعالى ^ كل من عليها فان ^ أي هالك ذاهب ولكن القوم اصطلحوا على وضع هذه اللفظة لتجريد شهود الحقيقة الكونية والغيبة عن شهود الكائنات وهذا الإسم يطلق على ثلاثة معان الفناء عن وجود السوى والفناء عن شهود السوى والفناء عن إرادة السوى فأما الفناء عن وجود السوى فهو فناء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وأنه ماثم غير وأن غاية العارفين والسالكين الفناء في الوحدة المطلقة ونفى التكثر والتعدد عن الوجود بكل اعتبار فلا يشهد غيرا أصلا بل يشهد وجود العبد عين وجود الرب بل ليس عندهم في الحقيقة رب وعبد وفناء هذه الطائفة في شهود الوجود كله واحد وهو الواجب بنفسه ماثم وجودان ممكن وواجب ولا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله وبين كون وجودها هو عين وجوده وليس عندهم فرقان بين العالمين ورب العالمين ويجعلون الأمر والنهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم والأمر والنهي تلبيس عندهم والمحجوب عندهم يشهد أفعاله طاعات أو معاص ما دام في مقام الفرق فإذا ارتفعت درجته شهد أفعاله كلها طاعات لا معصية فيها لشهوده الحقيقة الكونية الشاملة لكل موجود فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية بل ارتفعت الطاعات والمعاصي لأنها تستلزم اثنينية وتعددا وتستلزم مطيعا ومطاعا وعاصيا ومعصيا وهذا عندهم محض الشرك والتوحيد المحض يأباه فهذا فناء هذه الطائفة وأما الفناء عن شهود السوى فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصوفية(1/485)
المتأخرين ويعدونه غاية وهو الذي بنى عليه أبو إسماعيل الأنصاري كتابه وجعله الدرجة الثالثة في كل باب من أبوابه وليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج بل فناؤه عن شهودهم وحسهم فحقيقته غيبة أحدهم عن سوى مشهوده بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده وبمحبوبه عن حبه وبمشهوده عن شهوده وقد يسمى حال مثل هذا سكرا واصطلاحا ومحوا وجمعا وقد يفرقون بين معاني هذا الأسماء وقد يغلب شهود القلب بمحبوبه ومذكوره حتى يغيب به ويفنى به فيظن أنه اتحد به وامتزح بل يظن أنه هو نفسه كما يحكى أن رجلا ألقى محبوبه نفسه في الماء فألقى المحب نفسه وراءه فقال له مال الذي أوقعك في الماء فقال غبت بك عني فظننت أنك أني وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطا في ذلك وأن الحقائق متميزة في ذاتها فالرب رب والعبد عبد والخالق بائن عن المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ولكن في حال السكر والمحو والإصطلام والفناء قد يغيب عن هذا التمييز وفي هذه الحال قد يقول صاحبها ما يحكى عن أبي يزيد أنه قال سبحاني أو ما في الجبة إلا الله ونحو ذلك من الكلمات التي لو صدرت عن قائلها وعقله معه لكان كافرا ولكن مع سقوط التمييز والشعور قد يرتفع عنه قلم المؤاخذة وهذا الفناء يحمد منه شيء ويذم منه شيء ويعفى منه عن شيء فيحمد منه فناؤه عن حب ما سوى الله وعن خوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة به والإلتفات إليه بحيث يبقى دين العبد ظاهرا وباطنا كله لله وأما عدم الشعور والعلم بحيث لا يفرق صاحبه بين نفسه وغيره ولا بين الرب والعبد مع اعتقاده الفرق ولا بين شهوده ومشهوده بل لا يرى السوى ولا الغير فهذا ليس بمحمود ولا هو وصف كمال ولا هو مما يرغب فيه ويؤمر به بل غاية صاحبه أن يكون معذورا لعجزه وضعف قلبه وعقله عن احتمال التمييز والفرقان وإنزال كل ذي منزلة منزلته موافقة(1/486)
لداعي العلم ومقتضى الحكمة وشهود الحقائق على ما هي عليه والتمييز بين القديم والمحدث والعبادة والمعبود فينزل العبادة منازلها ويشهد مراتبها ويعطي كل مرتبة منها حقها من العبودية ويشهد قيامه بها فإن شهود العبد قيامه بالعبودية أكمل في العبودية من غيبته عن ذلك فإن أداء العبودية في حال غيبة العبد عنها وعن نفسه بمنزلة أداء السكران والنائم وأداؤها في حال كمال يقظته وشعوره بتفاصيلها وقيامه بها أتم وأكمل وأقوى عبودية فتأمل حال عبدين في خدمة سيدهما أحدهما يؤدي حقوق خدمته في حال غيبته عن نفسه وعن خدمته لإستغراقه بمشاهدة سيده والآخر يؤديها في حال كمال حضوره وتمييزه وإشعار نفسه بخدمة السيد وابتهاجا بذلك فرحا بخدمته وسرورا والتذاذا منه واستحضارا لتفاصيل الخدمة ومنازلها وهو مع ذلك عامل على مراد سيده منه لا على مراده من سيده فأي العبدين أكمل فالفناء حظ الفاني ومراده والعلم والشعور والتمييز والفرق وتنزيل الأشياء منازلها وجعلها في مراتبها حق الرب ومراده ولا يستوي صاحب هذه العبودية وصاحب تلك نعم هذا أكمل حالا من الذي لا حضور له ولا مشاهدة بالمرة بل هو غائب بطبعه ونفسه عن معبوده وعن عبادته وصاحب التمييز والفرقان وهو صاحب الفناء الثالث أكمل منهما فزوال العقل والتمييز والغيبة عن شهود نفسه وأفعالها لا يحمد فضلا عن أن يكون في أعلى مراتب الكمال بل يذم إذا تسبب إليه وباشر أسبابه وأعرض عن الأسباب التي توجب له التمييز والعقل ويعذر إذا ورد عليه ذلك بلا استدعاء بأن كان مغلوبا عليه كما يعذر النائم والمغمى عليه والمجنون والسكران الذي لا يذم على سكره كالموجر والجاهل بكون الشراب مسكرا ونحوهما وليس أيضا هذه الحال بلازمة لجميع السالكين بل هي عارضة لبعضهم منهم من يبتلى بها كأبي يزيد وأمثاله ومنهم من لا يبتلى بها وهم أكمل وأقوى فإن الصحابة رضي الله عنهم وهم سادات العارفين وأئمة الواصلين المقربين وقدوة السالكين لم(1/487)
يكن منهم من ابتلى بذلك مع قوة إرادتهم وكثرة منازلاتهم ومعاينة مالم يعاينه غيرهم ولا شم له رائحة ولم يخطر على قلبه فلو كان هذا الفناء كمالا لكانوا هم أحق به وأهله وكان لهم منه ما لم يكن لغيرهم ولا كان هذا أيضا لنبينا ولا حالا من أحواله ولهذا في ليلة المعراج لما أسرى به وعاين ما عاين مما أراه الله إياه من آياته الكبرى لم تعرض له هذه الحال بل كان كما وصفه الله عز وجل بقوله ^ ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ^ وقال ^ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ^ وقال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة أسري به ومع هذا فأصبح بينهم لم يتغير عليه حاله ولم يعرض له صعق ولا غشى يخبرهم عن تفصيل ما رأى غير فان عن نفسه ولا عن شهوده ولهذا كانت حاله أكمل من حال موسى ابن عمران لما خر صعقا حين تجلى ربه للجبل وجعله دكا
فصل وهذا الفناء له سببان أحدهما قوة الوارد وضعف المورود وهذا
لا يذم صاحبه الثاني نقصان العلم والتمييز وهذا يذم صاحبه لاسيما إذا أعرض عن العلم الذي يحول بينه وبين هذا الفناء وذمه وذم أهله ورأى ذلك عائقا من عوائق الطريق فهذا هو المذموم المخوف عليه ولهذا عظمت وصية القوم بالعلم وحذروا من السلوك بلا علم وأمروا بهجر من هجر العلم وأعرض عنه وعدم القبول منه لمعرفتهم بمآل أمره وسوء عاقبته في سيره وعامة من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم وسيره على جادة الذوق والوجد ذاهبة به الطريق كل مذهب فهذا فتنته والفتنة به شديدة وبالله التوفيق
فصل وأصل هذا الفناء الإستغراق في توحيد الربوبية وهو رؤية تفرد(1/488)
الله بخلق الأشياء وملكها واختراعها وأنه ليس في الوجود قط إلا ما شاءه وكونه فيشهد ما اشتركت فيه المخلوقات من خلق الله إياها ومشيئته لها وقدرته عليها وشمول قيوميته وربوبيته لها ولا يشهد ما افترقت فيه من محبة الله لهذا وبغضه لهذا وأمره بما أمر به ونهيه عما نهى عنه وموالاته لقوم ومعاداته لآخرين فلا يشهد التفرقة في الجمع وهي تفرقة الخلق والأمر في جمع الربوبية تفرقة موجب الإلهية في جمع الربوبية تفرقة الإرادة الدينية في جمع الإرادة الكونية تفرقة ما يحبه ويرضاه في جمع ما قدره وقضاه ولا يشهد الكثرة في الوجود وهي كثرة معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى واقتضاؤها لآثارها في وحدة الذات الموصوفة بها فلا يشهد كثرة دلالات أسماء الرب تعالى وصفاته على وحدة ذاته فهو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر وكل اسم له صفة وللصفة حكم فهو سبحانه واحد الذات كثير الأسماء والصفات فهذه كثرة في وحدة والفرق بين مأموره ومنهيه ومحبوبه ومبغوضه ووليه وعدوه تفرقة في جمع فمن لم يتسع شهوده لهذه الأمور الأربعة فليس من خاصة أولياء الله العارفين بل إن انصرف شهوده عنها مع اعترافه بها فهو مؤمن ناقص وإن جحدها أو شيئا منها فكفر صريح أو بتأويل مثل أن يجحد تفرقة الأمر والنهي أو جمع القضاء والقدر أو كثرة معاني الأسماء والصفات ووحدة الذات فليتدبر اللبيب السالك هذا الموضع حق التدبر وليعرف قدره فإنه مجامع طرق العالمين وأصل تفرقتهم قد ضبطت لك معاقده وأحكمت لك قواعده وبالله التوفيق وإنما يعرف قدر هذا من اجتاز القفار واقتحم البحار وعرض له ما يعرض لسالك القفر وراكب البحر ومن لم يسافر ولم يخرج عن وطن طبعه ومرباه وما ألف عليه أصحابه وأهل زمانه فهو بمعزل عن هذا فإن عرف قدره وكفى الناس شره فهذا يرجى له السلامة وإن عدا طوره وأنكر ما لم يعرفه وكذب بما لم يحط به علما ثم تجاوز(1/489)
إلى تكفير من خالفه ولم يقلد شيوخه ويرضى بما رضى هو به لنفسه فذلك الظالم الجاهل الذي ما ضر إلا نفسه ولا أضاع إلا حظه
فصل ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب ومهالك لا ينجيه منها إلا
بصيرة العلم التي إن صحبته في سيره وإلا فبسبيل من هلك منها أنه إذا اقتحم عقبة الفناء ظن أن صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي لتشويشه على الفناء ونقضه له والفناء عنده غاية العارفين ونهاية التوحيد فيرى ترك كل ما أبطله وأزاله من أمر ونهي أو غيرهما ويصرح بعضهم بأنه إنما يسقط الأمر والنهي عمن شهد الإرادة وأما من لم يشهدها فالأمر والنهي لازمان له ولم يعلم هذا المغرور أن غاية ما معه الفناء في توحيد أهل الشرك الذي أقروا به ولم يكونوا به مسلمين ألبتة كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون وقال تعالى ^ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ^ قال ابن عباس تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم يعبدون غيره ومن كان هذا التوحيد والفناء غاية توحيده انسلخ من دين الله ومن جميع رسله وكتبه إذ لم يتميز عنده ما أمر الله به مما نهى عنه ولم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين محبوبه ومبغوضه ولا بين المعروف والمنكر وسوى بين المتقين والفجار والطاعة والمعصية بل ليس عنده في الحقيقة إلا طاعة لإستواء الكل في الحقيقة التي هي المشيئة العامة الشاملة ثم صاحب هذا المقام يظن أنه صاحب الجمع والتوحيد وأنه وصل إلى عين الحقيقة وإنما وصل المسكين إلى الحقيقة الشاملة التي يدخل فيها إبليس وجنوده أجمعون وكل كافر ومشرك وفاجر فإن هؤلاء كلهم تحت الحقيقة الكونية القدرية فغاية صاحب هذا المشهد وصوله إلى(1/490)
أن يشهد استواء هؤلاء والمؤمنين الأبرار وأولياء الله وخاصة عباده في هذه الحقيقة ومع هذا فلا بد له من الفرق والموالاة والمعاداة ضرورة فينسلخ عن الفرق الشرعي ويعود إلى الفرق الطبعي النفسي بهواه وطبعه إذ لا بد أن يفرق بين ما ينفعه فيميل إليه وما يضره فيهرب منه فبينا هو منكر على أهل الفرق الشرعي ناكبا عن طريقتهم إلى عين الجمع إذ انتكس وارتكس وعاد إلى الفرق الطبعي النفسي فيوالي ويعادي ويحب ويبغض بحسب هواه وإرادته فإن الفرق أمر ضروري للإنسان فمن لم يكن فرقه قرآنيا محمديا فلا بد له من قانون يفرق به إما سياسة سائس فوقه أو ذوق منه أو من غيره أو رأى منه أو من غيره أو يفرق فرقا بهيميا حيوانيا بحسب مجرد شهوته وغرضه أين توجهت به فلا بد من التفريق بأحد هذه الوجوه فلينظر العبد من الحاكم عليه في الفرق وليزن به إيمانه قبل أن يوزن وليحاسب نفسه قبل أن يحاسب وليستبدل الذهب بالخزف والدر بالبعر والماء الزلال بالسراب الذي ^ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ^ قبل أن يسأل الرجعة إلى دار الصرف فيقال هيهات اليوم يوم الوفاء وما مضى فقد فات أحصي المستخرج والمصروف وستعلم الآن ما معك من النقد الصحيح والزيوف وأصحاب هذه الحقيقة أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق إذا تناهوا في حقيقتهم أضافوا الجميع إلى الله إضافة المحبة والرضى وجعلوها عين المشيئة والخلق ضاهؤا الذين قال الله تعالى فيهم ^ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ^ وقولهم عن آلهتهم ^ لو شاء الرحمن ما عبدناهم ^ وقوله ^ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ^ فاحتجوا بإقرار الله لهم قدرا وكونا على رضاه ومحبته وأمره وأنه لو كره ذلك منهم لحال بينهم وبينه ولما أقرهم عليه فجعلوا(1/491)
قضاءه وقدره عين محبته ورضاه وورثهم من سوى بين المخلوقات ولم يفرق بالفرق النبوي القرآني وطائفة من المشركين ذكرت ذلك معارضين لأمر الله ونهيه وما بعث به رسله بقضائه وقدره فعارضوا الحقيقة الدينية الشرعية بالحقيقة الكونية القدرية وورثهم من يحتج بالقضاء والقدر في مخالفة الأمر والنهي وكلا الطائفتين أبطلت أمره ونهيه بقضائه وقدره وظنت طائفة ثالثة أن إثبات القضاء والقدر يبطل الشرائع والنبوات وأن المشركين احتجوا على بطلانها بإثباته فجعلت التكذيب به من أصول الإيمان بل أعظم أصوله فردت قضاء الله وقدره الشامل العام بأمره ونهيه فانظر إلى اقتسام الطوائف هذا الموضع وافتراقهم في مفرق هذا الطريق علما وخبرا وسلوكا وحقيقة وتأمل أحوال الخلق في هذا المقام تنكشف لك أسرار العالمين وتعلم أين أنت وأين مقامك وتعرف ما جنى هذا الجمع وهذا الفناء على الإيمان وما خرب من القواعد والأركان وتتحقق حينئذ أن الدين كله فرقان في القرآن فرق في جمع وكثرة في وحدة كما تقدم بيانه وأن أولى الناس بالله وكتبه ورسله ودينه أصحاب الفرق في الجمع فيقومون بالفرق بين ما يحبه الله ويبغضه ويأمر به وينهى عنه ويواليه ويعاديه علما وشهودا وإرادة وعملا مع شهودهم الجمع لذلك كله في قضائه وقدره ومشيئته الشاملة العامة فيؤمنون بالحقيقة الدينية والكونية ويعطون كل حقيقة حظها من العبادة فحظ الحقيقة الدينية القيام بأمره ونهيه ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه وموالاة من والاه ومعادات من عاداه وأصل ذلك الحب فيه والبغض فيه وحظ الحقيقة الكونية إفراده بالإفتقار إليه والإستعانة به والتوكل عليه والإلتجاء إليه وإفراده بالسؤال والطلب والتذلل والخضوع والتحقق بأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يملك أحد سواه لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وأنه مقلب القلوب فقلوبهم ونواصيهم بيده وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يقيمه(1/492)
أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه فلهذه الحقيقة عبودية ولهذه الحقيقة عبودية ولا تبطل إحداهما الأخرى بل لا تتم إلا بها ولا تتم العبودية إلا بمجموعها وهذا حقيقة قوله ^ إياك نعبد وإياك نستعين ^ بخلاف من أبطل حقيقة إياك نعبد بحقيقة إياك نستعين وقال إنها جمع وإياك نعبد فرق وقد يغلو في هذا المشهد فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح قبيحة ويصرح بذلك ويقول العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح قبيحة لإستبصاره بسر القدر ومنهم من يقول حقيقة هذا المشهد أن يشهد الوجود كله حسنا لا قبيح فيه وأفعالهم كلها طاعات لا معصية فيها لأنهم وإن عصوا الأمر فهم مطيعون المشيئة ويقولون أصبحت منفعلا لما تختاره ***** منى ففعلى كله طاعات ويقول قائلهم من شهد الحقيقة سقط عنه الأمر ويحتجون بقوله تعالى ^ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ^ ويفسرون اليقين بشهود الحكم الكوني وهي الحقيقة عندهم ولا ريب أن العامة خير من هؤلاء وأصح إيمانا فإن هذا زندقة ونفاق وكذب منهم على أنفسهم ونبيهم وإلههم أما كذبهم على أنفسهم فإنهم لا بد أن يفرقوا قطعا فرغبوا عن الفرق النبوي والقرآني ووقعوا في الفرق النفسي الطبعي مثل حال إبليس تكبر عن السجود لآدم ورضى لنفسه بالقيادة لفساق ذريته ومثل المشركين تكبروا عن عبادة الله الحي القيوم ورضوا لأنفسهم بعبادة الأحجار والأشجار والموتى والأوثان ومثل أهل البدع تكبروا عن تقليد النصوص وتلقى الهدى من مشكاتها ورضوا لأنفسهم بتقليد أقوال مخالفة للفطرة والعقل والشرع وظنوها قواطع عقليه وقدموها على نصوص الأنبياء وهي في الحقيقة شبهات مخالفة للسمع والعقل ومثل الجهمية نزهوا الرب عن عرشه وجعلوه في أجواف البيوت والحوانيت والحمامات وقالوا هو في كل مكان بذاته ونزهوه عن صفات كماله ونعوت جلاله حذرا بزعمهم من التشبيه فشبهوه بالجامدات الناقصة الخسيسة التي لا تتكلم ولا سمع لها ولا بصر ولا علم ولا حياة بل شبهوه بالمعدومات الممتنع وجودها ومثل(1/493)
المعطلة الذين قالوا ما فوق العرش إلا العدم وليس فوق العرش رب يعبد ولا إله يصلى له ويسجد ولا ترتفع الأيدي إليه ولا رفع المسيح إليه ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا أسرى برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليه ولا دنى منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يراه أهل الجنة من فوقهم يوم القيامة واستواؤه على عرشه لا حقيقة له بل على المجاز الذي يصح نفيه وعلوه فوق خلقه بالرتبة والشرف لا بالذات وكذلك فوقيته فوقية قهر لا فوقية ذات فنزهوه عن كمال علوه وفوقيته ووصفوه بما ساووا به بينه وبين العدم والمستحيل فقالوا لا هو داخل العلم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا محايث له ولا مباين له ولا هو فينا ولا خارج عنا ومعلوم أنه لو قيل لأحدهم صف لنا العدم لوصفه بهذا بعينه وانطباق هذا السلب على العدم المحض أقرب إلى العقول والفطر من انطباقه على رب العالمين الذي ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل هو بائن من خلقه مستو على عرشه عال على كل شيء وفوق كل شيء والقصد أن كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده وقع في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ولا بد حتى في الأعمال من رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق فرغب عن العمل لمن ضره ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده فابتلى بالعمل لمن لا يملك له شيئا من ذلك وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمه الخلق ولا بد وكذلك من رغب عن الهدى بالوحي ابتلي بكناسة الآراء وزبالة الأذهان ووسخ الأفكار فليتأمل من يريد نصح نفسه وسعادتها وفلاحها هذا الموضع في نفسه وفي غيره ولا ريب أن العامة مع غفلتهم وشهواتهم أصح إيمانا من هؤلاء إذا لم يعطلوا الأمر والنهي فإن إيمانا مع تفرقة وغفلة خير من شهود وجمعية يصحبها فساد الإيمان(1/494)
والإنسلاخ منه وأما كذبهم على نبيهم فاعتقادهم أنه إنما كان قيامه بالأوراد والعبادات لأجل التشريع لا لأنها فرض عليه إذ قد سقط ذلك عنه بشهود الحقيقة وكمال اليقين فإن الله عز وجل أمره وأمر سائر رسله بعبادته إلى حين انقضاء آجالهم فقال ^ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ^ وهو الموت بالإجماع كما قال في الآية الأخرى عن الكفار ^ وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ^ وقال أما عثمان بن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه قاله لما مات عثمان وقال المسيح إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا فهذه وصية الله للمسيح وكذلك لجميع أنبيائه ورسله وأتباعهم قال الحسن لم يجعل الله لعبده المؤمن أجلا دون الموت وإذا جمع هؤلاء التجهم في الأسماء والصفات إلى شهود الحقيقة والوقوف عندهم فأعاذك الله من تعطيل الرب وشرعه بالكلية فلا رب يعبد ولا شرع يتبع بالكلية ومن أراد الوقوف على حقيقة ما ذكرنا فليسير طرفه بين تلك المعالم وليقف على تلك المعاهد وليسأل الأحوال والرسوم والشواهد فإن لم تجبه حوارا أجابته حالا واعتبارا وإنما يصدق بهذا من رافق السالكين وفارق القاعدين وتبوأ الإيمان وفارق عوائد أهل الزمان ولم يرض بقول القائل دع المعالي لا تنهض لبغيتها ***** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فصل الدرجة الثالثة من درجات الفناء فناء خواص الأولياء وأئمة(1/495)
المقربين وهو الفناء عن إرادة السوي شائما برق الفناء عن إرادة ما سواه سالكا سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه فانيا بمراد محبوبه منه على مراده هو من محبوبه فضلا عن إرادة غيره قد اتحد مراده بمراد محبوبه أعني المراد الديني الأمري لا المراد الكوني القدري فصار المرادان واحدا وليس في العقل اتحاد صحيح إلا هذا والإتحاد في العلم والخبر فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحدا مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين فغاية المحبة إتحاد مراد المحب بمراد المحبوب وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب فهذا الإتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم فنوا بعبادة محبوبهم عن عبادة ما سواه وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه وخوفه ورجائه والتوكل عليه ومن تحقيق هذا الفناء أن لا يحب إلا في الله ولا يبغض إلا فيه ولا يوالي إلا فيه ولا يعادي إلا فيه ولا يعطي إلا له ولا يمنع إلا له ولا يرجو إلا إياه ولا يستعين إلا به فيكون دينه كله ظاهرا وباطنا لله ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه بل يعادي الذي عادى من الناس كلهم ***** جميعا ولو كان الحبيب المصافيا وحقيقة ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضى ربه وحقوقه والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علما ومعرفة وعملا وحالا وقصدا وحقيقة هذا النفي والإثبات الذي تضمنته هذه الشهادة هو الفناء والبقاء فيفنى عن تأليه ما سواه علما وإقرارا وتعبدا ويبقى بتألهيه وحده فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحد الذي عليه المرسلون وأنزلت به الكتب وخلقت لأجله الخليقة وشرعت له الشرائع وقام عليه سوق الجنة وأسس عليه الخلق والأمر وحقيقته أيضا البراء والولاء البراء من عبادة غير الله والولاء لله كما قال تعالى ^ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم(1/496)
ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ^ وقال ^ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ^ وقال أيضا يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها وهذه براءة منهم ومن معبودهم وسماها براءة من الشرك وهي حقيقة المحو والإثبات فيمحو محبة ما سوى الله عز وجل من قلبه علما وقصدا وعبادة كما هي ممحوة من الوجود ويثبت فيه إلهيته سبحانه وحده وهي حقيقة الجمع والفرق فيفرق بين الإله الحق وبين من ادعيت له الإلهية بالباطل ويجمع تأليهه وعبادته وحبه وخوفه ورجاءه وتوكله واستعانته على إلهه الحق الذي لا إله سواه وهي حقيقة التجريد والتفريد فيتجرد عن عبادة ما سواه ويفرده وحده بالعبادة فالتجريد نفي والتفريد إثبات ومجموعهما هو التوحيد فهذا الفناء والبقاء والولاء والبراء والمحو والإثبات والجمع والتجريد
والتفريد المتعلق بتوحيد الإلهية هو النافع المثمر المنجى الذي به تنال السعادة والفلاح وأما تعلقه بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون عباد الأصنام فغايته فناء في تحقيق توحيد مشترك بين المؤمنين والكفار وأولياء الله وأعدائه لا يصير به وحده الرجل مسلما فضلا عن كونه عارفا محققا وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أكابر الشيوخ وأصحاب الإرادة ممن غلظ حجابه والمعصوم من عصمه الله وبالله المستعان والتوفيق والعصمة
**************
وفي طريق الهجرتين :(1/497)
وإِذا كان التلوث بالأَعراض قيداً يقيد القلوب عن سفرها إِلى بلد حياتها ونعيمها الذى لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إِلا فيه، ولا سرور لها إِلا فى منازله، ولا أَمن لها إِلا بين أَهله، فكذلك الذى باشر قلبه روح التألة، وذاق طعم المحبة، وآنس نار المعرفة، له أَعراض دقيقة حالية تقيد قلبه عن مكافحة صريح الحق، وصحة الاضطرار إِليه والفناءِ التام به، والبقاءِ الدائم بنوره الذى هو المطلوب من السير والسلوك، وهو الغاية التى شمر إِليها السالكون، والعلم الذى أَمَّه العابدون ودندن حوله العارفون، فجميع ما يحجب عنه أَو يقيد القلب نظره وهمه يكون حجاباً يحجب الواصل ويوقف السالك وينكس الطالب، فالزهد فيه على أَصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذى لا بد منه، وهو كزهد السالك إِلى الحج فى الظلال والمياه التى يمر بها فى المنازل، فالأَول مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض، والثانى مقيد عن النهايات برؤية الأَحوال، فتقيد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وترتب على هذا القيد عدم النفوذ، وذلك مؤخر مخلف.(1/498)
ومن وصل إِلى هذا الحال وقع فى يد التقطع والتجريد، وأَشرف على مقام التوحيد الخاص، فإِن التوحيد نوعان: عام وخاص، كما أَن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أَحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون فى إِتيانهم بشهادة أن لا إِله إِلا الله، وتفاوتهم فى معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطناً وظاهراً أَمر لا يحصيه إِلا الله عَزَّ وجَلَّ، وقد ظن كثير من الصوفية أَن التوحيد الخاص أَن يشهد العبد المحرك له ويغيب عن المتحرك وعن الحركة فيغيب بشهوده عن حركته، ويشهد نفسه شبحاً فانياً يجرى على تصاريف المشيئة، كمن غرق فى البحر فأَمواجه ترفعه طوراً وتخفضه طوراً، فهو غائب بها عن ملاحظة حركته فى نفسه، بل قد اندرجت حركته فى ضمن حركة الموج وكأَنه لا حركة له بالحقيقة، وهذا وإِن ظنه كثير من القوم غاية، وظنه بعضهم لازماً من لوازم التوحيد فالصواب أَن من ورائه ما هو أَجل منه، وغاية هذا الفناءِ فى توحيد الربوبية، وهو أَن لا يشهد رباً وخالقاً ومدبراً إِلا الله، وهذا هو الحق، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفى فى النجاة فضلاً عن أَن يكون شهوده والفناءُ فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية التى لا غاية وراءَها ولا نهاية بعدها الفناءُ فى توحيد الإلهية وهو أَن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبتأَلهه عن تأَله ما سواه، وبالشوق إِليه وإِلى لقائه عن الشوق إِلى ما سواه، وبالذل [والفقر] له والفقر إِليه من جهة كونه معبوده وإِلهه ومحبوبه عن الذل إِلى كل ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، فيرى أَنه ليس فى الوجود ما يصلح له ذلك إِلا الله، ثم يتصف بذلك حاله وينصبغ به قلبه صبغة ثم يفنى بذلك عما سواه، فهذا هو التوحيد الخاص الذى شمر إِليه العارفون، والورد الصافى الذى حام حوله(1/499)
المحبون، ومتى وصل إليه العبد صار فى يد التقطع والتجريد، واشتمل بلباس الفقر الحقيقى، وفرق حب الله من قلبه كل محبة وخوفه كل خوف ورجاؤه كل رجاءٍ، فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإِيثاره وإِرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد، فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه، فتعددُ المطلوب وانقسامه قادح فى التوحيد والإِخلاص، وانقسام الطلب قادح فى الصدق والإِرادة، فلا بد من توحيد الطلب والإِرادة وتوحيد المطلوب المراد، فإِذا غاب بمحبوبه عن حب غيره وبمذكوره عن ذكر غيره وبمأَلوهه عن تأَله غيره صار من أَهل التوحيد الخاص، وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أَو إِيثاره أَو معاملته أَو خوفه أَو رجائه. وصاحب توحيد [الربوبية] فى قيد التجريد عن ملاحظة فاعل غير الله وهو مجرد عن ملاحظة وجوده، وهو كما كان صاحب الدرجة الأُولى مجرداً عن أَمواله وصاحب الثانية مجرداً عن أَعماله وأَحواله، فصاحب الفناء فى توحيد الإِلهية مجرد عن سوه [مراضى محبوبه وأوامره قد فنى بحبه وابتغاء مرضاته عن] حب غيره وابتغاءِ مرضاته. وهذا هو التجريد الذى سمت إِليه همم السالكين، فمن تجرد عن ماله وحاله وكسبه وعمله ثم تجرد عن شهود تجريده فهو المجرد عندهم حقاً، وهذا تجريد القوم الذى عليه يحومون، وإِياه يقصدون، ونهايته عندهم التجريد بفناءِ وجوده، وبقاؤه بموجوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ولا غاية عندهم وراء هذا. ولعمر الله إِن وراءَه [تجريداً] أَكمل منه، ونسبته إِليه كفتلة فى بحر وشعرة فى [ظهر] بعير، وهو تجريد الحب والإِرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ، فيتوحد حبه كما توحد محبوبه، ويتجرد عن مراده من محبوبه [بمراد محبوبه] منه، بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده، وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد، فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد المحب، وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية، ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التى تفسدها إِلا بهذا.(1/500)
فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأَنك إِنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أَنه أَهل أَن يحب. وأَما الاتحاد فى الإِرادة فمحال كما أَن الاتحاد فى المريد محال، فالإِرادتان متباينتان. وأَما مراد المحب والمحبوب إِذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد.
فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد. وقد جعله صاحب ((منازل السائرين)) من قسم النهايات، وحدَّه بأَنه الانخلاع [من] شهود الشواهد، وجعله على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى تجريد الكشف عن كسب اليقين، والثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم، والثالثة تجريد الخلاص من شهود التصريح.
فقوله فى الأُولى: ((تجريد الكشف عن كسب اليقين)) يريد كشف الإِيمان ومكافحته للقلب، وهذا وإِن حصل باكتساب اليقين من أَدلته وبراهينه، فالتجريد أَن يشهد سبق الله تعالى بمنته لكل سبب ينال به اليقين أَو الإِيمان، فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أَو وسيلة، بل يقطع الأَسباب والوسائل وينتهى نظره إِلى المسبب، وهذه إِن أُريد تجريدها عن كونها أسباباً فتجريد باطل، وصاحبه ضال وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إِليه وصيرورتها عنوان اليقين إِنما كان به وحده، فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إِثبات الأَسباب، فإِن نفاها عن كونها أسباباً فسد تجريده.(2/1)
وقوله فى الدرجة الثانية: ((تجريد عين الجمع عن درك العلم)) لما كانت الدرجة الأُولى تجريداً عن الكسب وانتهاءً إِلى عين الجمع الذى هو الغيبة بتفرد الرب بالحكم عن إِثبات وسيلة أَو سبب، اقتضت تجريداً آخر أَكمل من الأَول وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأُولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإِدراك وهذا يقتضى أيضاً تجريداً ثالثاً أكمل من الثانى وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث فى عين الجمع قد اجتمعت همته على الحق، وشغل به عن ملاحظة جمعه وذكره وعلمه به، قد استغرق ذلك قلبه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إِلى تجريده، ولو بقى له التفات إِليه لم يكمل تجريده. ووراءُ هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إِليه كشعرة من ظهر بعير إِلى جملته، وهو تجريد الحب والإِرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التى هى مراد النفس، فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إِلا به.
((قاعدة)) فى مشاهد الناس فى المعاصى والذنوب
الناس فى البلوى التى تجرى عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون- بحسب شهودهم لأَسبابها وغايتها- أَعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد:
أحدها: شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إِذ لا تشهد إلا طريق وطرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم فى ذلك فرق إلا بدقيق الحيلة فى الوصول إِليها، وربما زاد غيره من الحيوانات عليه مع تناولها ولذاتها.(2/2)
المشهد الثانى: من يشهد مع ذلك مجرد [الحكم] القدرى وجريانه عليه، ولا يجوز شهوده ذلك. وربما رأى أن الحقيقة هو توفية هذا المشهد حقه، ولا يتم له ذلك إلا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعل فيه غيره والمحرك سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلاً ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد وربما زاد على ذلك أَنه يشهد نفسه مطيعاً من وجه وإِن كان عاصياً من وجه آخر فيقول: أَنا مطيع للإِرادة والمشيئة وإِن كنت عاصياً للأمر، فإِن كان ممن يرى الأَمر تلبيساً وضبطاً للرعاع عن الخبط والحرمان مع حكم الطبيعة الحيوانية فقد رأى نفسه مطيعاً لا عاصياً، كما قال قائلهم فى هذا المعنى:
أصبحت منفعلاً لما يختاره منى ففعلى كله طاعات
وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذى يشهده المشركون عبّاد الأصنام ووقفوا عنده كما قالوا: {لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ}* [الزخرف: 20]، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}* [الأنعام: 148]،
{وإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقُكُم اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ}* [يس: 47]، فهذا مشهد من أشرك بالله ورد أَمره، وهو مشهد إبليس الذى انتهى إليه إذ يقول لربه: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}* [الحجر: 39]، والله أعلم.(2/3)
المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبى القائم بالعبد فقط ولا يشهد إلا صدوره عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدرى به، ولا عزة الرب فى قضائه ونفوذ أَمره، بل قد فنى بشهود معصيته بذنبه وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق: إِما لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين- فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله- مع أنه مؤمن بقضاء الرب وقدره، وأن العبد أقل قدراً من أن يحدث فى نفسه ما لم يسبق به مشيئة بارئه وخالقه، وإما لإنكاره القضاءَ والقدر جملة وتنزيهه للرب [تعالى] أن يقدر على العبد شيئاً ثم يلومه عليه، فأما الأول وإن كان مشهده صحيحاً موجباً له أن لا يزال لائماً لنفسه مزرياً عليها ناسباً للذنب والعيب إليها معترفاً بأنه يستحق العقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإِنه لم يشهد عزة الرب [تعالي] فى قضائه ونفوذ أمره الكونى ومشيئته وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه ولا محفوظ إلا من حفظه، وأنه هو محل لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها فى سلسلة إرادته وشهوته.
وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره فهو القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه، فهو لغيبته عن هذا المشهد وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطى التوحيد حقه ولا الاستعاذة بربه والاستغاثة به والالتجاء إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقه، بحيث يشهد سر قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ [بعفوك] من عقوبتك، وأعوذ بك منك)).(2/4)
فإنه سبحانه رب كل شيء وخالق كل شيء، والمستعاذ منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاءَ لم يكن، فالفرار منه إليه والاستعاذة منه به ولا ملجأ منه إلا إليه ولا مهرب منه إلا إليه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
منكر القضاء والقدر- فمخذول محجوب عن شهود التوحيد مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه [فهو] ممنوع عن شهود عزة الرب فى قضائه وكمال مشيئته ونفوذ حكمه وعن شهود عجزه هو وفقره وأنه لا توفيق له إلا بالله، وأنه إن لم يعنه الله فهو مخذول وإن لم يوفقه ويخلق له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع، فحجابه عن الله غليظ، فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إلى الله أقرب من دوام الافتقار إليه.
المشهد الرابع: مشهد التوحيد والأمر، فيشهد انفراد الرب بالخلق، ونفوذ مشيئته وتعلق الموجودات بأسرها به وجريان حكمه على الخليقة وانتهاءها إلى ما سبق لها فى علمه وجرى به قلمه، ويشهد ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاءِ بالأعمال واقتضاءها له ارتباط المسببات بأسبابها التى جعلت أسباباً مقتضية لها شرعاً وقدراً وحكمة، فشهوده توحيد الرب [تعالى] وانفراده بالخلق ونفوذ مشيئته وجريان قضائه وقدره يفتح له باب الاستعاذة ودوام الالتجاء إليه والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وشهوده أمره تعالى ونهيه وثوابه وعقابه يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع والقيام بالأمر والرجوع على نفسه باللوم والاعتراف بالتقصير، فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه وتطلب عيوب نفسه وأعمالها.(2/5)
فهذا هو العبد الموفق المعان الملطوف به المصنوع له الذى أُقيم مقام العبودية وضمن له التوفيق، وهذا هو مشهد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فهو مشهد أَبيهم آدم إِذ يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}* [الأعراف: 23]، ومشهد أول الرسل نوح إذ يقول: {رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْس لِى بِهِ عِلْمٌ، وإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}* [هود: 47] ومشهد إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ يقول: {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ}* [الشعراء: 78- 82]، وقال فى دعائه:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَن نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}* [إبراهيم: 35].(2/6)
فعلم صلى الله عليه وسلم أن الذى يحول بين العبد وبين الشرك وعبادة الأصنام هو الله لا رب غيره، فسأله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام. وهذا هو مشهد موسى إذ يقول فى خطابه لربه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِى إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ}* [الأعراف: 155]، أى إِنْ ذلك إلا امتحانك واختبارك، كما يقال فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته، وليس من الفتنة التى هى الفعل المسيء كما فى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}* [البروج: 10] وكما فى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}* [البقرة: 193] فإن تلك فتنة المخلوق، فإن موسى أعلم بالله [تعالى] بأن يضيف إليه هذه الفتنة وإنما هى كالفتنة فى قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}* [طه: 40]، أى ابتليناك واختبرناك وصرفناك فى الأحوال التى قصها الله [سبحانه] علينا من لدن ولادته إِلَى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابه.(2/7)
والمقصود أن موسى شهد توحيد الرب وانفراده بالخلق والحكم وفعل السفهاء ومباشرتهم الشرك، فتضرع إليه بعزته وسلطانه وأَضاف الذنب إلى فاعله [وجانيه]، ومن هذا قوله: {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى}* [القصص:16]، قال تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وهذا مشهد ذى النون إذ يقول: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين}* [الأنبياء: 87]، فوحد ربه ونزهه عن كل عيب وأضاف الظلم إلى نفسه وهذا مشهد صاحب سيد الاستغفار إذ يقول فى دعائه: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلهَ إلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ)) .
فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه، ثم قال: ((وأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ))، فتضمن ذلك التزام شرعه وأَمره ودينه، وهو عهده الذى عهد إلى عباده، وتصديق وعده وهو جزاؤه وثوابه فتضمن التزام الأمر والتصديق بالموعود وهو الإيمان والاحتساب، ثم لما علم أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه الذى يصلح له تعالى علق ذلك باستطاعته وقدرته التى لا يتعداها فقال: ((ما استطعت)) أى أَلتزم ذلك بحسب استطاعتى وقدرتى.(2/8)
ثم شهد المشهدين المذكورين- وهما مشهد القدرة والقوة، ومشهد التقصير من نفسه- فقال:- ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ))، فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معاً، ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتديء بها، والذنب إلى نفسه وعمله، فقال: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى))، فأَنْتَ المحمود والمشكور الذى له الثناء كله والإحسان كله ومنه النعم كلها.
فلك الحمد كله ولك الثناءُ كله ولك الفضل كله، وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه كما قال بعض العارفين: العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناءَ عليه ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه سبحانه، ثم لما قام هذا بقلب الداعى وتوسل إليه بهذه الوسائل قال: ((فَاغْفِرْ لِى فإِنه لا يغفر الذنوب إِلا أَنت)).
ومن هذا قول أبى [يزيد]: قيل لى ما تريد؟ قلت أريد أن لا أريد، لأنى أنا المراد وأنت المريد.
فيقال ليس المراد من ((العوام)) فى كلامهم العامة الجهال، وإِنما مرادهم بهذه اللفظة عموم السالكين، دون أَهل الخصوص الواصلين منازل [إلى] الفناءِ وعين الجمع. وإذا عرف هذا فالكلام على ما ذكر فى الإرادة من وجه:
أحدها: أَن الإِرادة هى مركب العبودية، وأَساس بنائها الذى لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إِرادة له، بل أَكمل الخلق أكملهم عبودية ومحبة وأصحهم حالاً وأقومهم معرفة وأتمهم إِرادة، فكيف يقال: إنها حلية العوام أو من منازل العوام.
الوجه الثانى: أنه يلزم من هذا أن تكون المحبة من منازل العوام، وتكون معلولة أيضاً لأنها إرادة تامة للمحبوب ووجود المحبة بلا إرادة كوجود الإنسانية من غير حيوانية وكوجود مقام الإحسان بدون الإيمان [والإسلام]، فإذا كانت الإرادة معلولة وهى من منازل العوام لزم أن تكون المحبة كذلك.(2/9)
فإِن قيل: المحبة التى لا علة فيها هى تجرد المحب عن الإرادة وفناؤه بإرادة محبوبه عن إرادته، قيل: هذا هو حقيقة الإِرادة أَن يبقى مراده مراد محبوبه، فلو لم يكن مريداً لمراد محبوبه لم يكن موافقاً له فى الإرادة.
والمحبة هى موافقة المحبوب فى إرادته فعاد الأمر إلى ما أشرنا إليه أن المعلول من ذلك ما تعلق بحظ المريد دون محبوبه، فإذا صارت إرادته موافقة لإرادة محبوبه لم تكن تلك الإرادة من منازل العوام ولا معلولة، بل هذه أشرف منازل الخواص وغاية مطالبهم، وليس وراءَها إلا التجرد عن كل إرادة والفناء بشهوده عن إرادة ما يريد، وهذا هو الذى يشير إليه السالكون إلى منازل الفناء ويجعلونه غاية الغايات، وهذا عند أهل الكمال نقص وتغيير فى وجه المحبة وهضم لجانب العبودية وفناء بحظ المحب من مشاهدته جمال محبوبه وفنائه فيه عن حق المحبوب ومراده، فهو الوقوف مع نفس الحظ والهروب عن حق المحبوب ومراده، وهل مثل هذا إلا كمثل رجلين ادعيا محبة ملك فحضرا بين يديه فقال: ما تريدان؟ فقال أحدهما: أُريد أَن لا أُريد شيئاً بل أَفنى عن إِرادتى وأَكون أنا المراد وأنت تريد بى ما تشاءُ.
وقال الآخر: [بل] أُريد أن أُنفق أَنفاسى وذراتى فى محابك ومرضاتك منفذاً لأَوامرك مشمراً فى طاعتك: أَتوجه حيث توجهين وأفعل ما تأْمرنى، هذا الذى أريده.
فقال للآخر: وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا، فإنى سأبعثكما فى أشغالى ومهماتى، فأما أحدهما فقال: لا حظ لى سوى اتباع مرضاتك والقيام بحقوقك، وقال الآخر: لا أُريد إلا مشاهدتك والنظر إليك والفناء فيك، فهل يكونان فى نظره سواءٌ، وهل تستوى منزلتهما عنده؟ ولو أَنعموا النظر لعلموا أن صاحب الفناءِ هو طالب [الحظ] الواقف معه، وأن الآخر وإن لم ينسلخ من الحظ ولكن حظه مراد المحبوب منه لا مراده هو من المحبوب، وبين الأَمرين من الفرق كما بين الأرض والسماءِ.(2/10)
فالعجب ممن يفضل صاحب الحظ الذى يريده من محبوبه على من صار حظه مراد محبوبه منه، بل الفناء الكامل أن يفنى بإِرادته عن إِرادة [ما] سواه وبحبه عن حب ما سواه وبرجائه عن رجاءِ ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، ليس أن تفنى بحظك منه عن مراده منك. وهذا موضع يشتبه علماً وحالاً وذوقاً إلا على من فتح الله عليه بفرقان بين هذا وهذا.
الوجه الثالث: أن الإرادة إنما تكون ناقصة بحسب نقصان المراد، فإذا كان مرادها أشرف [المراد] فإرادته أشرف الإرادات، ثم إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل وأنفعها وأكملها فإرادتها كذلك، فلا تخرج إرادته عن إرادة أشرف الغايات وإرادة أقرب الوسائل إليه وأنفعها، فأى علة فى هذه الإرادة وأَى شيء فوقها للخواص؟
الوجه الرابع: أن نقصان الشيء يكون من وجهين، أحدهما: أن يوجب ضرراً، والثانى: أن تكون له ثمرة نافعة، لكن يشغل عما هو أَكمل منه، وكلاهما منتف عن الإرادة، فكيف تكون ناقصة معلولة؟ فإن قيل: لما كان الوقوف معها رجوعاً إلى النفس وتفرقاً ووقوفاً مع حظ المريد كانت ناقصة، قيل: هذا منشأْ الغلط.(2/11)
وجوابه بالوجه الخامس: وهو أن يقال: قوله: ((إن [الإرادة] تفرق))، فإن أردتم بالتفرق شهود المريد لإرادته [لمرادته] ولعبوديته ولمعبوده ولمحبته ولمحبوبه فلم قلتم: إن هذا التفرق نقص؟ وهل هذا إلا عين الكمال، وهل تتم العبودية إلا بهذا؟ فإن من شهد عبوديته وغاب بها عن معبوده كان محبوباً، ومن شهد المعبود وغاب به عن شهود عبوديته وقيامه بما أَمره به كان ناقص العبودية ضعيف الشهود، وهل الكمال إلا شهود المعبود مع شهود عبادته، فإِنها [عين] حقه ومراده ومحبوبه من عبده، فهل يكون شهود العبد لحق محبوبه ومراده منه وأَنه قائم به ممتثل له نقصاً، ويكون غيبته عن ذلك وإعرضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالاً، وهل هذا إلا قلب للحقائق؟ فغاية صاحب هذا الحال والمقام أَن يكون معذوراً بضيق قلبه عن شهود هذا، وهذا إما لضعف المحل أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه، [فأما] أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلا.
وأين مقام من يشهد عبوديته ومنة الله عليه فيها وتوفيقه لها وجعله محلاً وآلة [لها]- وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه، شاهداً له، فانياً عن شهود غيره فى عبوديته- من مقام من لا يتسع لهذا وهذا؟ وتأَمل حال أَكمل الخلق وأَفضلهم وأشدهم حباً لله [صلى الله عليه وسلم] كيف كان فى عبادته جامعاً بين الشهودين، حتى كان لا يغيب عن أَحوال المأْمومين فضلاً عن شهود عبادته، فكان يراعى أحوالهم وهو فى ذلك المقام بين يدى ربه سبحانه، فالكلمة من أُمته [عن] منهاجه وطريقته [فى ذلك] صلى الله عليه وسلم، فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاءُ كل ذى حق حقه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.
وإِن أَردتم بالتفرق شتات القلب فى شعاب الحظوظ وأَودية الهوى، فهذه الإِرادة لا تستلزم شيئاً من ذلك، بل هى جمعية القلب على المحبوب وعلى محابه ومراداته، ومثل هذا التفرق هو عين البقاءِ ومحض العبودية ونفس الكمال، وما عداه فمحض حظ العبد لا حق محبوبه.(2/12)
الوجه السادس: أن قوله: ((إن الإرادة رجوع إلى النفس، وإن إِرادة العبد عين حظه)) كلام فيه إجمال وتفصيل، فيقال: ما تريدون بقولكم: ((إن الإِرادة رجوع إلى النفس))؟ أَتريدون أنها رجوع عن إرادة الرب وإرادة محابه إلى إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أنها رجوع إلى إرادة النفس لربها ولمرضاته؟ فإِن أَردتم الأول علم أن هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه الإرادة التى نتكلم فيها.
وإن أردتم المعنى الثانى فهو عين الكمال، وإنما النقصان خلافه.
الوجه السابع: أن قولكم: ((إن هذه الإرادة عين حظ العبد)) قلنا: نعم وهى أكبر حظ له وأجله وأعظمه، وهل للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده إِلهه ومعبوده ومحبوبه ومراده؟ فهذا هو الحظ الأَوفر والسعادة العظمى، ولكن لم قلتم: ((إن اشتغال العبد بهذا الحظ نقص [فى] حقه))، وهل فوق هذا كمال فيطلبه العبد؟ ثم يقال: لو كان فوقه شيء أكمل منه لكان اشتغال العبد به وطلبه إياه اشتغالاً بحظه أيضاً، فيكون ناقصاً، فأَين الكمال؟ فإِن قلتم: فى تركه حظوظه كلها، قيل لكم: وتركه هذا الحظ أيضاً هو من حظوظه، فإِنه [لا] يبقى معطلاً فارغاً خاو من الإرادة أصلاً، بل لا بد له من إرادة ومراد، وكل إِرادة [عندكم] رجوع إلى الحظ، فأَى [شيء إشتغل] به وبإِرادته كان وقوفاً عن حظه، فيالله العجب متى يكون عبداً محضاً خالصاً لربه؟
يوضح هذا الوجه الثامن: أن الحى لا ينفك عن الإرادة ما دام شاعراً بنفسه، وإِنما ينفك عنها إِذا غاب عنه شعوره بعارض من العوارض، فالإرادة من لوازم الحياة فدعوى أَن الكمال فى التجرد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعاً وحساً، بل الكمال فى التجرد عن الإِرادة التى تزحم مراد المحبوب، لا عن الإرادة التى توافق مراده.(2/13)
الوجه التاسع: قوله: ((الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد... إلخ)) فيقال: هذا على نوعين، أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذى يجرى عليه بغير اختياره كالفقر والغنى والصحة والمرض والحياة والموت وغير ذلك، فهذا، لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إِرادته، ووقوفه مع ما يراد به لا يكون له إِرادة تزاحم إرادة الله منه، كحال الثلاثة الذين قال أحدهم: أَنا أُحب الموت للقاءِ الله، وقال الآخر: أُحب البقاءَ لطاعته وعبادته، فقال الثالث: غلطتما، ولكن أَنا أُحب من ذلك ما يحب، فإن كان يحب إماتتى أَحببت الموت، وإن كان يحب حياتى أحببت الحياة، فأَنا أُحب ما يحبه من الحياة والموت.
فهذا أَكمل [منهما] وأصح حالاً فيما يراد بالعبد والنوع الثانى ما يراد من العبد من الأَوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا فى إرادته، وإِن فرقته فهو مجموع فى تفرقته متفرق فى جمعيته، وهذا حال [الكُمّل] من الناس: متفرق الإِرادة فى الأَمر، مجتمع على الأَمر- فهو مجموع عليه متفرق فيه- ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين، وإنما غايتها أن تكون هنا إرادتان: إحداهما إرادة واحدة للمراد المحبوب، والثانية: إرادات متفرقة لحقه ومحابه وما أَمر به فهى، وإن تعددت وتكثرت فمرجعها إلى مراد واحد بإرادة [واحدة] كلية وكل فعل منها له إرادة جزئية محضة.
الوجه العاشر: أن قول أبى يزيد: ((أُريد أن لا أُريد)) تناقض بيِّن، فإنه قد أَراد عدم الإرادة. فإذا قال: ((أُريد أَن لا أُريد)) يقال له: فقد أَردت، وأَحسن من هذا أَن يكون الجواب: أُريد ما يريد لا ما أُريد، وإذا كان لا بد من إِرادة ففرق بين الإِرادتين: إِرادة سلب الإِرادة، وإِرادة موافقة المحبوب فى مراده. والله أعلم.(2/14)
الوجه الحادى عشر: أَنه فسر الإِرادة بتجريد القصد وجزم النية، والجد فى الطلب. وهذا هو عين كمال [العبد] وهو متضمن للصدق والإخلاص والقيام بالعبودية، فأَى نقص فى تجريد القصد وهو تخليصه من كل شائبة نفسانية أَو طبيعية وتجريده لمراد المحبوب وحده، والجد فى طلبه وطلب مرضاته وجزم النية وهو أَن لا يعتريها وقفة ولا تأْخير، وهذا الأَمر هو غاية منازل الصديقين، وصديقية العبد بحسب رسوخه فى هذا المقام، وكلما ازداد قربه وعلا مقامه قوى عزمه وتجرد صدقه، فالصادق لا نهاية لطلبه ولا فتور لقصده، بل قصده أَتم وطلبه أكمل ونيته. قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقِينْ }* [الحجر:99]، واليقين هنا الموت باتفاق [أهل] الإسلام، فجاء صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وإرادته وقصده ونيته فى الذروة العليا ونهاية كمالها وتمامها، فأين العلة فى هذه الإرادة؟ ولكن العلة والنقص فى الإِرادة التى يكون مصدرها النفس والهوى، وغايتها نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون مراده محض حق محبوبه وحصول مرضاته، فانياً عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه منه نفس حقه ومراده، فهذه هى الإِرادة والمحبة التى لا عِلَّة فيها ولا نقص.
نسأل الله تعالى أَن يمن علينا ويحيينا ولو بنفس منها، كما منّ بتعليمها ومعرفتها إِنه جواد كريم.
الوجه الثانى عشر: أَنه قال بعد هذا: ((فصحة الإِرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك الاختيار والسكون إِلى مجارى الأَقدار، فيكون كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ فأَين هذا من قوله: ((وذلك فى طريق الخواص نقص وتفرق))، وهل يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إِلا مع تمام الإِرادة؟ وإِنما الذى يفرض له النقص من الإِرادة نوعان: أَحدهما إِرادة مصدرها طلب الحظ، والثانى اختياره فيما يفعل به بغير اختياره.(2/15)
فعن هاتين الإِرادتين ينبغى الفناء، وفيهما يكون النقص، فالكمال ترك الاختيار فيهما، والسكون إلى مراد المحبوب وحقه فى الأُولى، وإِلى مجارى أَقداره وحكمه فى الثانية، فيكون فى الأُولى حياً فعالاً منازعاً لقواطعه عن مراد محبوبه، وفى الثانية كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ.
وبهذا التفصيل ينكشف سر هذه المسأَلة، ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظ النفس. والله الموفق للصواب.
الفناءُ الذى يشار إِليه على أَلسنة السالكين ثلاثة أَقسام:
فناءٌ عن وجود السوى، وفناءُ عن شهود السوى، وفناءٌ عن عبادة السوى وإرادته، وليس هنا قسم رابع.
فأما القسم الأول: فهو فناءُ القائلين بوحدة الوجود، فهو فناءٌ باطل فى نفسه، مستلزم جحد الصانع [سبحانه]، وإِنكار ربوبيته وخلقه وشرعه، وهو غاية الإِلحاد والزندقة. وهذا هو الذى يشير إليه علماءُ الاتحادية، ويسمونه ((التحقيق))، وغاية أحدهم فيه أن لا يشهد رباً وعبداً، وخالقاً ومخلوقاً، وآمراً ومأْموراً، وطاعة ومعصية، بل الأمر كله واحد، فيكون السالك عندهم فى بدايته يشهد طاعة ومعصية.
ثم يرتفع [عن] هذا الفرق بكشف عندهم إلى أن يشهد الأفعال كلها طاعة لله لا معصية فيها، وهو شهود الحكم والقدر، فيشهده طاعة لموافقتها الحكم والمشيئة. وهذا ناقص عندهم أيضاً، إذ هو متضمن للفرق، ثم يرتفع عندهم عن هذا الشهود إلى أن لا يشهد لا طاعة ولا معصية، إذ الطاعة والمعصية إنما تكون من غير لغير، وما ثم غير.
فإذا تحقق بشهود ذلك وفنى فيه فقد فنى عن وجود السوى، فهذا هو غاية التحقيق عندهم ومن لم يصل إليه فهو محجوب. ومن أشعارهم فى هذا قول قائلهم:
وما أنت غير الكون، بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق
وقول آخر:
ما الأمر إلا نسق واحد ما فيه من مدح ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت والطبع والشارع بالحكم
وقول الآخر:
وما الموج إلا البحر لا شيء غيره وإن فرقته كثرة المتعدد(2/16)
والقسم الثانى من أقسام الفناء هو الذى يشير إليه المتأخرون من أرباب السلوك، وهو الفناء عن شهود السوى، مع تفريقهم بين الرب والعبد وبين الطاعة والمعصية وجعلهم وجود الخالق غير وجود المخلوق. ثم هم مختلفون فى هذا الفناء على قولين: أحدهما أنه الغاية المطلوبة من السلوك، وما دونه بالنسبة إليه ناقص، ومن هنا يجعلون المقامات [والمنازل] معلولة. والقول الثانى: أنه من لوازم الطريق لا بد منه للسالك، ولكن البقاء أكمل منه وهؤلاء يجعلونه ناقصاً ولكن لا بد منه، وهذه طريقة كثير من المتقدمين. وهؤلاء يقولون: إن الكمال شهود العبودية مع شهود المعبود، فلا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته ولكن لقوة الوارد وضعف المحل وغلبة استيلاءِ الوارد على القلب- حتى يملكه من جميع جهاته- يقع الفناءُ. والتحقيق أن هذا الفناء ليس بغاية، ولا هو من لوازم الطريق، بل هو عارض من عوارض الطريق يعرض لبعض السالكين دون جميعهم وسببه أُمور ثلاثة:
أحدها: قصده وإرادته والعمل عليه، فإنه إذا علم أنه الغاية المطلوبة شمر سائراً إليه عاملاً عليه، فإذا أشرف عليه وقف معه ونزل بواديه وطلب مساكنته. فهؤلاء إنما يحصل لهم الفناءُ لأن سيرهم كان على طلب حظهم ومرادهم من الله وهو الفناء لم يكن سيرهم على تحصيل مراد الله منهم وهو القيام بعبوديته والتحقق بها. والسائر على طلب تحصيل مراد الله منه لا يكاد الفناءُ يحل بساحته ولا يعتريه.
السبب الثانى: قوة الوارد بحيث يغمره ويستولى عليه، فلا يبقى فيه متسع لغيره أصلاً.
السبب الثالث: ضعف المحل عن احتمال ما يرد عليه.
فمن هذه الأسباب الثلاثة يعرض الفناءُ. ولما رأى الصادق فى طريقه السالك إلى ربه أن أكثر أصحاب الفرق محجوبون عن هذا المقام مشتتون فى أودية الفرق وشهدوا نقصهم ورأوا ما هم فيه من الفناءِ أكمل ظنوا أنه لا كمال [وراء] ذلك، وأنه الغاية المطلوبة، فمن هنا جعلوه غاية.(2/17)
ولكن أكمل من ذلك وأعلى [وأجل هو القسم الثالث] وهو الفناءُ عن عبادة السوى وإرادته ومحبته وخشيته ورجائه والتوكل عليه والسكون إليه [فيفنى بعبادة ربه ومحبته وخشيته ورجائه وخشيته ورجائه ورجائه والتوكل عليه إليه عن عبادة غيره وعن محبته رجائه والتوكل عليه] مع شهود الغير ومعاينته. فهذا أكمل من فنائه عن عبودية الغير ومحبته مع عدم شهوده له وغيبته عنه، فإذا شهد الغير فى مرتبته أوجب شهوده له زيادة فى محبة معبوده، وتعظيماً له وهروباً إليه وظناً به، فإن نظر المحب إلى مباديء محبوبه ومضاده يوجب زيادة حبه له، وفى هذا المعنى قال القائل:
وإذا نظرت إلى أميرى زادنى حباً له نظرى إلى الأُمراءِ
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى دعائه: ((اللَّهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت)). وفى سجوده: ((اللَّهم لك سجدت، وبك آمنت))، وكذلك فى ركوعه: ((اللَّهم لك ركعت، وبك آمنت)).
فهذا دعاءُ من قد جمع بين شهود عبوديته وشهود معبوده، ولم يغب بأحدهما عن الآخر، وهل هذا إلا كمال العبودية: أن يشهد ما يأْتى به من العبودية موجهاً لها إلى المعبود الحق، محضراً لها بين يديه، متقرباً بها إليه. فأما الغيبة عنها بالكلية بحيث تبقى الحركات كأَنها طبيعية غير واقعة بالإرادة فهذا- وإن كان أكمل من حال الغائب بشهود عبوديته عن معبوده- فحال الجامع بين شهود العبودية والمعبود أكمل منهما. وإذا عرفت هذه القاعدة ظهر أن تعليله التوكل بما ذكر تعليل باطل.(2/18)