مفهوم أهل السنة والجماعة
بين شيخ الإسلام ابن تيمية
وأهل الإفراط والتفريط
جمعه وألف بينه
عادل بن محمد بن فرحان البحيري الشميري
راجعه وقدم له فضيلة الشيخ
أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
حفظه الله تعالى
مقدمة الشيخ أبي الحسن حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله قيوم الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى والبينات، أما بعد :
فقد اطَّلَعتُ على كتاب أخينا الفاضل أبي تراب عادل بن محمد بن فرحان الشميري، والذي أسماه بـ : (( مفهوم أهل السنة والجماعة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وأهل الإفراط والتفريط )) فوجدته كتابًا عظيمًا في بابه، قويًّا في خطابه، سائغًا في طعمه وشرابه .
ولا يخفى على طلاب العلم اليوم - فضلاً عن العلماء مكانة شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- فهو في الإسلام والعلم والتأصيل بمكان، حتى أصبح قطب الرحى للمؤلفين في العقيدة والفقه، والأصول، والحديث، والتفسير، والأخلاق، والمعاملات، فقلَّما تجد مُصنِّفًا في هذه الأمور إلا وقد اقتبس من علم ابن تيمية - رحمه الله - بين مقل ومستكثر .
والكلام في المسائل الذي عظم فيها الخلاف بين كثير من الدعاة، التي كانت سببًا في وهن الشوكة، وقلة البركة، الكلام في ذلك يجب أن يأخذ موضعه في رقعة العمل الإسلامي؛ لان الناس إذا لم يحسنوا الأساس؛ فسيتداعى البنيان وتنهدم الأركان، وقد كان من هذا ما كان، والله المستعان .
وشيخ الإسلام ابن تيمية - ذاك العَلَمُ الفذُّ – فارس الميدان أيضًا في هذا المجال، ومن اطلع على كتاباته في مسائل الدعوة، والخلاف، والتعامل في الائتلاف والاختلاف، والنظر في المصالح والمفاسد ....... إلخ يشعر كأنه يتكلم في حال أهل زماننا، ويجد الحلول العملية الصافية لكثير من المشاكل الدعوية المعاصرة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء .(1/1)
وقد خيَّمتْ فتنة مظلمة في هذه السنوات على دعوة أهل السنة - جزى الله المثيرين لها ظلما وجورا ما يستحقون - وقد جرى من وراء هذه الفتنة شر جسيم، وذلك لوهاء التأصيل العلمي عند جملة رأيتها شيبًا وشبانا، ولحظوظ النفس الأمارة بالسوء، عياذاً بالله من الضلالة بعد الهدى .
وقد نفع الله الكثير من طلبة العلم بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته في هذه المواضع التي شبَّ فيها دخان الفتنة، فعاد الأمر إلى نصابه عند أكثر طلاب العلم الذين أصابهم شئ كثير أو قليل من غبار هذه المناهج الفاسدة والبضاعة الكاسدة، والفضل في ذلك لله عز وجل .
وكان أخونا أبو تراب عادل بن محمد الشميري - حفظه الله - ممن شارك بجهد مشكور في صدِّ هجمة الغلو والغلاة، ولا شك أنه رأى مسيس الحاجة للاغتراف من بحر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فشرح الله صدره للاطلاع على كتب شيخ الإسلام، فلما وقف على ما فيها من فوائد، وتفجرت في ذهنه ينابيع علمية، رأى أنه لابد من أن تُنَوَّخ هذه الأصول في كتاب يضم شتاتها، ويجمع شواردها وفوائدها، فوفقه الله عز وجل إلى كتابة هذا الكتاب الماتع النافع .
وإنني إذ أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الكتاب سراجًا منيرًا، ويفتح به قلوبًا غُلفا، وأعينًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًا؛ أساله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل أخانا أبا تراب هاديًا مهديًّا، ومن مفاتيح الخير، مغاليق الشر، و أن يرزقه الهدى والسداد، والعدل والإنصاف، وأن يجنبه الجور والاعتساف، وأن يجعلنا جميعًا من أنصار السنة النبوية، والدعاة إليها على الطريقة الرشيدة المرضية، إنه جواد كريم، بر رحيم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبه في مدينة صنعاء
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 10/4/1426 هـ
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم(1/2)
الحمد لله عظيم المنة، وناصر الدين بأهل السنة، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه - محمد - وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فإن مما لا ريب فيه أن الله - سبحانه وتعالى - قد أكمل الدين، وأتم النعمة، وحفظ الكتاب المبين، وسنة خير المرسلين، من تحريِف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتلاعب المتعالمين .
وإن من حفظ الله لهذا الدين أن جعل طائفة من هذه الأمة ظاهرة بالحق، والحق ظاهر بها؛ كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :« لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون » .
وأصل دين هذه الطائفة التمسك بالكتاب والسنة الصحيحة، واتِّباع سبيل السلف الصالح .وهذه الطائفة المباركة هم الصحابة - رضي الله عنهم - ومن سار على ما كانوا عليه - عقيدة وشريعة وسلوكًا وأخلاقًا - إلى قيام الساعة .
وهذه الطائفة بريئة من كل غلو وجفاء، وإفراط وتفريط، لأنها تدين بالإسلام المحض، دين الوسطية؛ فأهل السنة وسط في فرق الأمة؛ كما أن أهل الإسلام وسط في الأمم .
ولما حصل الافتراق في الأمة الإسلامية كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حرص العلماء من أهل السنة والجماعة على بيان أصول هذه الطائفة .وكان شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - من أكثر العلماء بيانًا لذلك ، فشيخ الإسلام -رحمه الله-( هو الإمام المحيط(1/3)
بمذهب سلف الأمة وخلفها )(1)(2) بل لو قال قائل: لم يأت بعده أعلم منه بذلك لما أخطأ الصواب .ولما كان كثير من المنتسبين إلى السنة - ممن هو على أصول أهل السنة في أبواب الاعتقاد كالأسماء والصفات، والإيمان، والقدر، والشفاعة، والصحابة، وغير ذلك من أصول الاعتقاد -قد يقع : إما في إفراط، وإما في تفريط، وخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، التي قل فيها العلم، وظهر فيها الجهل، وضعف فيها نور النبوة، وكثر المتسلقون على العلم قبل الرسوخ، وكثرت الأفكار المخالفة للحق، وكثرت وسائلها التي توصل إليها، وكثر الداعون إليها وتفننوا في عرضها وترويجها، وتعلق كثير من شباب الأمة بالأنصاف أو الأصاغر، وانصرفوا أو صُرفوا عن أهل العلم الأكابر - من السلف الماضين ومن سار على نهجهم من المتأخرين - وبسب ذلك كله، خفي كثير من الحق، وألتبس بعضه بالباطل، فكثرت الأهواء، وتشعبت الآراء، ولم يسلم كثير من المنتسبين إلى السنة والجماعة من شئ من ذلك، ولكن بين مُقل ومُستكثر. وإن كان الحق جليًا، ومن طلبه وجده، ومن تمسك به أنقذه من أوحال الإفراط أو التفريط .ومن أعظم أسباب الوقوع في الإفراط أو التفريط : الجهل ببعض سبيل السلف الصالح, مما يؤدي إلى موافقة بعض الفرق الضالة في بعض سبيلهم ومنهاجهم .
__________
(2) قاله الإمام الشوكاني في رسالته (( شرح الصدور بتحريم رفع القبور )) ص 38 .(1/4)
وذلك الإفراط أو التفريط له صور كثيرة - تعرضت لكثير منها في كتابي هذا - منها عدم مراعاة الضوابط السلفية في الموقف من زلة العالم السني، ومنها عدم مراعاة طريقة السلف في التعامل مع المخالف في مسائل الاجتهاد السائغ، ومسائل النزاع بين أهل السنة. ومنها الغلو في الهجر، والتبديع، والتفسيق، والتكفير، وعدم مراعاة سبيل السلف الصالح في ذلك كله، ومنها التقليد المذموم مع إنكار حجية الإجماع بإطلاق؛ ومنها إهمال فهم السلف الصالح في هذه المسائل التي وقع فيها إفراط أو تفريط من المنتسبين إلى السنة والجماعة.ومنها التحزب المذموم، وامتحان الناس بمقالات مخالفة لما كان عليه السلف الصالح، وعقد الولاء والبراء في متابعة فلان أو علاَّن، ومنها إهمال مراعاة المصالح والمفاسد عند التزاحم أو التعارض، ومنها الإفراط أو التفريط في التعامل مع الحاكم المسلم... إلخ ذلك – مما سيأتي - .
وإني لما رأيت أن كثيراً من المنتسبين إلى السنة والجماعة قد يقع في شيء من الإفراط أو التفريط، مع صحة اعتقادهم في أبواب الإيمان، والقدر، والأسماء والصفات، والصحابة وغير ذلك؛ تتبعت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – في كتبه التي نالتها يدي، وحرصت كل الحرص على نقل كلامه الذي يوضح فيه سبيل أهل السنة والجماعة في المسائل التي وقع فيها الإفراط أو التفريط بين المنتسبين إلى السنة والجماعة.
وإنما خصصت كلام شيخ الإسلام - رحمه الله – لأمور:
? منها كثرة تعرضه لهذه المسائل بالشرح، والتفصيل، والتأصيل.(1/5)
? ومنها أنه يعد كلمة إجماع بين جميع الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة؛ وأقصد بالمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة من سبق ذكرهم ممن وافق أهل السنة في أصول الاعتقاد . (فلابد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من نوع تنازع، لكن لابد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة، كما أنه لابد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلاف، لكنه لا يزال في هذه الأمة طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة).(1)
وإن من بلايا العصور المتأخرة قلة أهل العلم الراسخين فيه، كما قال ابن مسعود : - رضي الله عنه - ( إنكم في زمان كثير علماؤه, قليل خطباؤه، وإن بعدكم زمانا كثير خطباؤه، والعلماء فيه قليل ). رواه أبو خيثمة في كتاب العلم.ومما زاد الأمر بلاءً ما يراه العاقل - من طلبة العلم - من تلاعب بالألقاب العلمية, والرتب السنية لأهل العلم، فشُيِّخَ الأصاغر، وأهمل الأكابر، وتصدى لتوجيه الناشئة، الأنصاف، والأصاغر، فعم الوباء، وكثر البلاء، وتنوع الانحراف في الأفكار، والأقوال، والأعمال، وصار الأمر كما قال شيخ الإسلام: (وكم من مدع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى).(2)
وهذا الأمر فيه مفاسد عظيمة على الأمة, منها : تعلق الناس بأنصاف المتعلمين أو الجهلة المقلدة، ومنها : إضعاف تأثير العلماء الراسخين في العلم، فيقع بسبب ذلك كله الخبط والخلط في مسائل تخالف ما كان عليه السلف الأوائل. (وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي؛ هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان).(3)فعلينا معاشر طلبة العلم أن نعرف قدر أنفسنا، وأن لا نتسلق موضعاً ليس لنا.
__________
(1) " الفتاوى"(4/167).
(2) "الفتاوى" (11/513).
(3) "الفتاوى" (5/118- 119).(1/6)
وما هذا الجهد الذي قمت به إلا محاولة منِّي لإرجاع الطوائف المنتسبة إلى السنة - ممن وقع في نوع مخالفة لما كان عليه السلف الصالح إما بإفراط أو تفريط - إلى الحق الذي بيَّنه إمام من الأئمة، ثقة في نقله، معروف بعلمه راسخ فيه، خبير بمذاهب السلف والخلف، فهو رجل قد فهم ما كان عليه السلف وسطره في كتبه؛ فلعل ما يحيكه - رحمه الله - عن أهل السنة, يكون سبباً في رجوع كثير ممن خالفوا بعض سبيل المؤمنين إلى الحق وأوبتهم إليه، وتركهم التنطع في أمور جانبوا فيها الحق، وأمور على أسوء الأحوال اجتهاد يسوغ فيها الخلاف .
وكل جهدي في هذا الكتاب إنما هو جمع شتات أقواله من كتبه الكثيرة، وضم القرين إلى قرينه، والشبيه إلى شبيهه, ولا أدعي الكمال في ذلك، فقد يفوتني من كلامه - مما لابد من نقله - لعدم انتباهي له حينذاك ، أو لعدم وقوفي عليه ، وقد راعيت وضع كلامه الذي وقفت عليه في مكانه المناسب حسب علمي وفهمي القاصرين، فإن حصل شيء من القصور ولابد، فإني لن أعدم النصيحة من مشايخنا الفضلاء، وطلبة العلم النجباء، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
(فيا أيها القارئ له، لك غُنْمُه، وعلى مؤلفه غُرْمُه، لك ثمرتُه وعليه تَبِعَتُه،
فما وجدت فيه من صواب وحقٍ فاقبله، ولا تلتفت إلى قائله، بل انظر إلى ما قال لا إلى من قال، وقد ذم الله تعالى من يرد الحق إذا جاء به مَنْ يبغضه، ويقبله إذا قاله من يحبه؛ فهذا خُلُق الأمة الغضبية. قال بعض الصحابة: « اقبل الحق ممن قاله، وإن كان بغيضاً، ورُدَّ الباطل على من قاله، وإن كان حبيباً » وما وجد فيه من خطأ؛ فإن قائله لم يَألُ جهد الإصابة، ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال، كما قيل:
والنقصُ في أصْلِ الطَّبيعة كامِنٌ فبنو الطَّبيعة نَقْصُهم لا يُجْحَدُ(1/7)
وكيف يُعصم من الخطأ من خُلق ظلوماً جهولاً؟ ولكن من عُدَّت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته).(1)
وفي الختام : لابد من تذكير إخواني أهل السنة أنه يجب على الإنسان أن يزن أقواله وأفعاله بميزان الشريعة، (وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس، فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قام يصلي من الليل: « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم »؛ فإن الله تعالى قد قال فيما رواه عنه رسوله: « يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم »)(و)(2).
كتبه في مدينة صنعاء اليمن : راجي عفو ربه ومغفرته
أبو تراب عادل بن محمد بن فرحان البحيري الشميري
- غفر الله له معاصيه وجعل مستقبله خيرا من ماضيه - 16/3/1424هـ
البريد الإلكتروني
الباب الأول
مذهب أهل السنة والجماعة
هو مذهب الصحابة ليس مذهبًا حادثًا ولا فكرًا بشريًا
__________
(1) " ( 3/ 482) مدارج السالكين " (هـ
(2) " الفتاوى " (10/664-665) .(1/8)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة(1)(2)ومالكًا(3)
__________
(2) أ ) النعمان بن ثابت التميمي الكوفي ، الإمام المتبوع ، قال ابن كثير : ( فقيه العراق ، وأحد أئمة الإسلام ، والسادة الأعلام وأحد أركان العلماء ) وقال الذهبي : ( كان من أذكياء بني آدم جمع الفقه والعبادة والورع والسخاء ) وقال : ( قال الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة . قلت : الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام .وهذا أمر لا شك فيه . وليس يصح في الأذهان شئ إذا احتاج النهار إلى دليل ) وقال ابن تيمية :(ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطا عليهم ،وتكلم إما بظن وإما بهوى )توفى رحمه الله سنة (150) انظر الفتاوى ( 2/ 304) ،البداية والنهاية(وفيات 150)،العبر(وفيات 150)،سير أعلام النبلاء( 6/ 309-403) و( 8/ 112-113)
(3) أبو عبدالله مالك بن أنس بن مالك الحميري الأصبحي المدني ،إمام دار الهجرة. قال الشافعي :(إذا ذكر العلماء فمالك النجم) وقال أحمد :( هو إمام في الحديث وفي الفقه). وقال ابن كثير :(ومناقبه كثيرة جدا وثناء الأئمة عليه أكثر من أن يحصر) . وقد نسب بعض الناس إلى الإمام مالك بعض المسائل الشنيعة فقال شيخ الإسلام :(وهذا من أعظم الغلط على من هو دون مالك ،فكيف على مالك ،مع جلالة قدره ،وشرف مذهبه،وكمال صيانته عن الفواحش ،وأحكامه بسد الذرائع ،وأنه من أبلغ المذاهب إقامة للحدود ،ونهيا عن المنكرات والبدع ) ومن شهير أقواله(كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم - )(توفى رحمه سنة 179)انظر ترجمته سير أعلام النبلاء(8/48-135)،البداية والنهاية(وفيات سنة 179)وانظر الفتاوى(3/436)
ج) محمد بن إدريس ، أبو عبدالله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي ، الغَزَّي المولد ، الإمام ، عالم عصره ، ناصر الحديث ،قال فيه الإمام أحمد : ( ما رأيت أحدا أتبع للأثر من الشافعي ). وقال في حديث أبي هريرة ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ) قال: فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى ، والشافعي على رأس المائة الثانية ). وقال الذهبي : وأين مثل الشافعي والله ! في صدقه ،وشرفه ،ونبله ،وسعة علمه ،وفرط ذكائه ،ونصرِه للحق ،وكثرة مناقبه ) .وقد كان شديد الإنكار على أهل البدع= =والكلام ومن مشهور قوله (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ،ويحملوا على الإبل ،ويطاف بهم على العشائر يُنادى عليهم :هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ،وأقبل على الكلام )قال الذهبي :(لعل هذا متواتر عن الإمام ).توفي رحمه الله سنة(204) .انظر ترجمته سير أعلام النبلاء(10/5-99)والبداية والنهاية(وفيات 204)(1/9)
والشافعي(1)................ وأحمد(2)، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعًا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم). "منهاج السنة" (2/601).
وقال رحمه الله: (...فاعتقاد أهل الحديث هو السنة المحضة، لأنه هو الاعتقاد الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ). "منهاج السنة" (2/521).
وقال رحمه الله: (أهل السنة والجماعة، هم سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم بإحسان). "الفتاوى" (24/241).
__________
(1) أبو عبدالله ، أحمد بن محمد حنبل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي ، قال الذهبي :( هو الإمام حقا ، وشيخ الإسلام صدقا ، أحد الأئمة الأعلام ) .قال أبو زرعة لعبدالله بن أحمد : ( أبوك يحفظ ألف ألف حديث). قال الذهبي : ( فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبدالله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر ، والأثر ، وفتوى التابعي ، وما فُسر ، ونحو ذلك ؛ وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك ) .وقال عبدالرزاق الصنعاني : (ما رأيت أحدا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل ) .وخبر ثبات هذا الإمام في محنة خلق القرآن - تلك البدعة الشنيعة والمقالة الفظيعة - مشهور ، فقد صبر رحمه الله على الضرب الشديد والحبس الطويل ، وسوء العذاب - وأبى أن يقول هو مخلوق - نصرة للدين وحماية للعقيدة، فرفع الله بذلك قدره ، وأنبل ذكره . قال على بن المديني :( أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ،وبأحمد يوم المحنة ) . وقال أبو حاتم وغيره من الأئمة :( إذا رأيت من يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة) .قال الذهبي :(كان أحمد عظيم الشأن،رأسا في الحديث،والفقه ،وفي التأله،أثنى عليه خلق من خصومه،فما الظن بإخوانه وأقرانه ؟!).(توفى رحمه الله سنة 241)انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء(11/ 177-358)،والبداية والنهاية(وفيات سنة 241).(1/10)
إذا علمت ذلك فاعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصراط المستقيم، الذي أُمر المسلمون جميعًا بسلوكه واتباعه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...فأمر سبحانه في "أم الكتاب" التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها - صلى الله عليه وسلم - من كنز تحت العرش، التي لا تجزئ صلاة إلا بها: أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم: كاليهود، ولا الضالين: كالنصارى، وهذا "الصراط المستقيم" هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو (السنة والجماعة) فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض). "الفتاوى" (3/369).
والمقصود بأهل السنة والجماعة الاصطلاح الخاص فإن للفظ أهل السنة اصطلاحين اصطلاح العامة واصطلاح الخاصة، فأهل السنة هم (أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة.
- والاصطلاح العام - هو اصطلاح العامة: كل من ليس برافضي، قالوا: هو من أهل السنة). "منهاج السنة" (2/221).
شبهة وجوابها(1/11)
قد يورد بعض أهل الأهواء شبهة قد تلتبس على البعض وهي أن كثيرًا من العلماء ينتسبون في اعتقادهم إلى الإمام أحمد - رحمه الله - فيقول هذا الملبس إذن فمذهب أهل السنة والجماعة هو المذهب الحنبلي ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله مجيبًا عن هذه الشبهة: (ما زال كثير من أئمة الطوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وإن كانوا في فروع الشريعة متبعين بعض أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين فإنهم يقولون نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل لا يقولون ذلك لاختصاص أحمد بقول لم يقله الأئمة، ولا طعنًا في غيره من الأئمة بمخالفة السنة؛ بل لأنه أظهر من السنة التي اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهروه فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه، وظهور المخالفين للسنة، وقلة أنصار الحق وأعوانه، حتى كانوا يُشَبِّهون قيامه بأمر الدين ومنعه من تحريف المبتدعين المشابهين للمرتدين بأبي بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم حروراء(1)، ونحو ذلك مما فيه تشبيه له بالخلفاء الراشدين فيما خلفت فيه الرسل وقام فيه مقامهم، وكذلك سائر أئمة الدين كل منهم يخلف الأنبياء والمرسلين بقدر ما قام به من ميراثهم، وما خلفهم فيه من دعوتهم، والله يرضى عن جميع السابقين الأوليين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين). "بيان تلبيس الجهمية" (2/92.91).
__________
(1) هـ) موضع أو قرية بظاهر الكوفة ، نزل بها الخوارج الذين خالفوا عليا وبقية الصحابة رضي الله عنهم .معجم البلدان باب الحاء والراء .(1/12)
فـ(الاعتقاد إنما أُضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبيَّنه عند ظهور البدع، وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله، حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف: معرفته والإيمان به، وتبليغه والذبِّ عنه، كما قال بعض أكابر الشيوخ: الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة، والظهور لأحمد بن حنبل، وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة، لما ظهرت بدعة الجهمية(1)
__________
(1) و ) الجهمية هم أتباع الجهم بن صفوان المقتول سنة 128( قتله سلم بن أحوز أمير خراسان ) الفتاوى (10/67) ،(12/503) وقولها هو أغلظ أقوال أهل البدع كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى (13/49) . أما أول حدوثها فقال : ( في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية ، وقد انقرض جمهور تابعي التابعين، حدث التجهم، وهو نفي الصفات ) الفتاوى (10/357-358) .وهذه الفرقة تقول بخلق القرآن، وتنفي صفات الرحمن، وقد جمعت كل شر من أقوال أهل الضلال، ومن ذلك قولها في الإيمان، قال شيخ الإسلام ( أما جهم فكان يقول : إن الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها ؛بل أحمد و وكيع وغيرهما كفروا من قال بهذا القول ) الفتاوى (13/47) ..(1/13)
ومحنتهم المشهورة، وأرادوا إظهار مذهب النفاة، وتعطيل حقائق الأسماء والصفات، ولبَّسوا على من لبَّسوا عليه من الخلفاء، ثبَّت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين، فظهرت بهم السنة، وطفئت بهم نار المحنة، فصاروا علمًا لأهل الإسلام، وأئمة لمن بعدهم من علماء المسلمين، أهل السنة والجماعة، وصار كل منتسب إلى السنة لابد أن يواليه وإياهم، ويوافقهم في جمل الاعتقاد، إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد، المعتصمين بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تُضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تُضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت، ولهذا كان جمل الاعتقاد الذي يذكره أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة هو قول أحمد وأمثاله من أئمة السنة). "درء تعارض العقل والنقل" (5/6.5).
(وأحمد بن حنبل، وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول، أو ابتدع قولاً، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة -على عهد المأمون(1)
__________
(1) ز ) هو الخليفة ، أبو العباس عبدالله بن هارون الرشيد ،بويع له بالخلافة سنة(198). قال الذهبي: ( دعا إلى القول بخلق القرآن وبالغ ....وصمَّم على امتحان العلماء في سنة 18 وشدد عليهم فأخذه الله )توفى سنة ( 218) سير أعلام النبلاء (10/272-290) ، والبداية والنهاية حوادث( سنة 218).
ح ) هو الخليفة ، أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد ، بويع له بالخلافة بعهد من المأمون سنة18 كانت له(1/14)
وأخيه المعتصم(1)ثم........................................ الواثق(2)
__________
(1) مواقف بطولية وولع بالجهاد ولكن فتنته الجهمية بالقول بخلق القرآن .قال الذهبي :(امتحن الناس بخلق القرآن وكتب بذلك إلى الأمصار وأخذ بذلك المؤذنين وفقهاء المكاتب ... وفي سنة 20 في رمضان كانت محنة الإمام أحمد في القرآن وضرب بالسياط حتى زال عقله ولم يُجب فأطلقوه ) و( في الجملة الملوك حسناتهم كبار وسيئاتهم كبار) كما قال شيخ الإسلام ( منهاج السنة 4/113).توفى المعتصم سنة( 227) .وانظر سير أعلام النبلاء(10/209-306) ، والبداية والنهاية وفيات(227) .
(2) ط ) هو الخليفة ، هارون بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد ولى الأمر بعهد من أبيه في سنة(227) . قال الخطيب : (استولى أحمد بن أبي دُواد على الواثق ،وحمله على التشدد في المحنة ،والدعاء إلى خلق القرآن ،وفي سنة (31)قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد ظلما ،وأمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن ،وافتك من أسر الروم (4600)نفس ،فقال ابن أبي دُواد :من لم يقل القرآن مخلوق فلا تفتكوه ) قال ابن كثير :(كان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن ،يدعو إليه ليلا ونهارا ،وسرا وجهارا،اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون ، من غير دليل ولا برهان... وأمر الواثق أيضا بامتحان الأسرى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن ،وأن الله لا يرى في الآخرة فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي وإلا ترك في أيدي الكفار ، وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا من سنة ولا عقل صحيح ، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافها ) توفي سنة(232)انظر سير أعلام النبلاء (10/306-314)والبداية والنهاية (وفيات سنة 232) ..(1/15)
- ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخروا الرافضة(1)،وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور، فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة، حتى تهددوا بعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم، وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة، وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته، فانقطعوا معه في المناظرة يومًا بعد يوم، ولم يأتوا بما يوجب موافقته لهم، بل بيَّن خطأهم فيما ذكروه من الأدلة، ...
__________
(1) فرقة ضالة رفضت الحق والسنة ، قال شيخ الإسلام :(لفظ الرافضة أول ما ظهر في الإسلام ، لما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبدالملك ،واتبعه الشيعة ،فسُئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما وترحم عليهما ،فرفضه قوم فقال :رفضتموني رفضتموني فسموا الرافضة )الفتاوى (13/36)( وقيل :إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر ) الفتاوى (4/435) قال ( الصحيح أنهم سموا رافضة لما رفضوا زيد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبدالملك، وقد ذكر هذا أيضا الأشعري وغيره .) منهاج السنة ( 3/471) . هذا بالنسبة للفظ الرافضة، أما حدوث هذا الفكر الخبيث فقال رحمه الله : (لما قُتل عثمان - رضي الله عنه- وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان :بدعة الخوارج المكفرين لعلي،وبدعة الرافضة المَّدعين لإمامته وعصمته ،أو نبوته أو إلاهيته )منهاج السنة(6/231). ( وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة ،فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق ،وأظهر الغلوَّ في علي بدعوى الإمامة والنص عليه ،وادعى العصمة له .) الفتاوى (4/435) .(1/16)
وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث ما زالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج(1)والقدرية(2)
__________
(1) فرقة ضالة خرجت عن الطاعة وفارقت الجماعة ،قال شيخ الإسلام :( أول البدع ظهوراً في الإسلام وأظهرها ذماً في السنة والآثار بدعة الحرورية المارقة) الفتاوى(19/71)وقال (حدث في آخر خلافة علي بدعتا الخوارج والرافضة ،إذ هي متعلقة بالإمامة والخلافة وتوابع ذلك من الأعمال والأحكام الشرعية ) الفتاوى(10/356) .( والخوارج تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة ، وقالوا إنهم كفار مخلدون في النار ) الفتاوى (13/37).( والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن) الفتاوى(19/73) فـ(الخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم،فلا يرجمون الزاني ،ولا يرون للسرقة نصابا ) الفتاوى (13/48-49) .
(2) فرقة كذبت بالقدر، ويقال لها المجوسية، قال شيخ الإسلام: (فالمجوسية: الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشئته وخلقه وقدرته، وهولا هم المعتزلة ومن وافقهم ....وأما أهل الهدى والفلاح .... فيؤمنون بأن الله خالق كل شئ وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، وهو على كل شئ قدير، وأحاط بكل شئ علما، وكل شئ أحصاه في إمام مبين )الفتاوى ( 3/111-112) .(وبدعة القدرية حدثت بعد موت معاوية ، ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما ) الفتاوى (8/228) .فحدوثها كان ( في آخر عهد الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبدالملك ) منهاج السنة( 6/231)، الفتاوى (13/36) ،(وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له :سيسويه من أبناء المجوس ،وتلقاه عنه معبد الجهني .....ولما اشتهر الكلام في القدر ،ودخل فيه كثير من أهل النظر والعُباد ،صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم ، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق ،وعن عمرو بن عبيد في إنكار الكتاب المتقدم روايتان .وقول أولئك كفرهم عليه مالك ،والشافعي ،وأحمد وغيرهم .وأما هؤلاء فهم مبتدعون ضالون ولكنهم ليسوا بمنزلة أولئك.)الفتاوى(7/384-385).(1/17)
الجهمية والمرجئة(1)، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام، ورفع الله قدر هذا الإمام، فصار إمامًا من أئمة السنة، وعلمًا من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطِّلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفيِّ أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا، ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد؛ يعني أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال). "منهاج السنة" (2/601-606).
الباب الثاني
أهل السنة والجماعة
هم الذين حفظ الله بهم الدين
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولم يظهر دين محمد - صلى الله عليه وسلم - قط على غيره من الأديان إلا بأهل السنة، كما ظهر في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ظهورًا لم يحصل لشيء من الأديان، وعلي رضي الله عنه مع أنه من الخلفاء الراشدين، ومن سادت السابقين الأولين، فلم يظهر في خلافته دين الإسلام، بل وقعت الفتنة بين أهله، وطمع فيهم عدوهم من الكفّار والنصارى والمجوس بالشام والمشرق، وأما بعد عليّ فلم يُعرَف أهل علم ودين، ولا أهل يد وسيف، نصر الله بهم الإسلام إلا أهل السنة). "منهاج السنة" (4/118.117).
(...
__________
(1) الأرجاء في اللغة التأخير ، وسميت هذه الفرقة بذلك لأنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان فقالوا - مخالفين للكتاب والسنة وسلف الأمة - إن الأعمال ليست من الإيمان.وحدثت بدعة الإرجاء ( في أواخر عصر الصحابة )الفتاوى (10/357). وقول أهل السنة: هو أن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد . و( صارت المرجئة على ثلاثة أقوال فعلماؤهم وأئمتهم أحسنهم قولا ؛وهو أن قالوا :الإيمان تصديق القلب وقول اللسان،وقالت الجهمية :هو تصديق القلب فقط ، وقالت الكرامية هو القول فقط ) الفتاوى (13/56) .(1/18)
فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق والغرب، قديمًا وحديثًا، هم الجمهور، والرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام، ونقض عراه، وإفساد قواعده، والقدر الذي عندهم من الإسلام إنما قام بسبب قيام الجمهور به، ولهذا قراءة القرآن فيهم قليلة، ومن يحفظه حفظًا جيدًا فإنما تعلّمه من أهل السنة، وكذلك الحديث إنما يعرفه ويصدق فيه ويؤخذ عن أهل السنة، وكذلك الفقه والعبادة والزهد والجهاد والقتال إنما هو لعساكر أهل السنة، وهم الذين حفظ الله بهم الدين علمًا وعملاً، بعلمائهم وعبّادهم ومقاتليهم)."منهاج السنة" (7/415).
ولذلك فـ(صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم في الأمة لسان صدق، من سلف الأمة وخلفها، هم على مذهب أهل السنة والجماعة). "درء التعارض" (5/7).
ومن حفظ الله للدين بأهل السنة أن وفقهم للذب عن السنة والتحذير من البدعة وأهلها، وكذلك الذب عن الإسلام شبهات الملحدين وأعداء الدين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذه الأمة -ولله الحمد- لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق، فلا يمكن ملحدٌ ولا مبتدع من إفساده بغلوٍ أو انتصار على أهل الحق، ولكن يضلّ من يتبعه على ضلاله). "منهاج السنة" (6/428).
(وكان أئمة السنة والجماعة، كلما ابتدع في الدين بدعة، أنكروها ولم يقروها، ولهذا حفظ الله دين الإسلام، فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة). "الجواب الصحيح" (4/342).(1/19)
و (هذه الأمة حفظ الله لها ما أنزله، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، [الحجر:9]، فما في تفسير القرآن، أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه، ويذكر الدليل على غلط الغالط، وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة، إذ كانوا آخر الأمم فلا نبي بعد نبيهم، ولا كتاب بعد كتابهم، وكانت الأمم قبلهم إذا بدلوا وغيروا بعث الله نبيًا يبين لهم ويأمرهم وينهاهم، ولم يكن بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي، وقد ضمن الله أنه يحفظ ما أنزله من الذكر، وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن، وينفي به تحريف الغالين، وانتحال المضلين، وتأويل الجاهلين). "الجواب الصحيح" (3/39.38).
الباب الثالث
أهل السنة والجماعة
هم المعتنون بالحديث المختصون بالحرص على الأسانيد(1/20)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الإسناد من خصائص هذه الأمة، وهو من خصائص الإسلام، ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة)."منهاج السنة" (7/37) وقال: (المعتزلة -مثل سائر الطوائف- فيهم من يكذب، وفيهم من يصدق، لكن ليس لهم من العناية بالحديث ومعرفته ما لأهل الحديث والسنة، فإن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق). "منهاج السنة" (7/36). ( وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة - صلى الله عليه وسلم - ، وجعله سلماً إلى الدراية. فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة، أهل الإسلام والسنة يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم .وغيرهم من أهل البدع والكفار: إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد، وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل . وأما هذه الأمة المرحومة، وأصحاب هذه الأمة المعصومة ، فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرهم على يقين، فظهر لهم الصدق من المين؛ كما يظهر الصبح لذي عينين..... ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، من السعي المشكور، والعمل المبرور، ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن إحداث المفترين ) الفتاوى (1/9-10)(1/21)
فالبحث عن الأسانيد والنظر في رجالها وِفق أصول أهل الحديث وقواعدهم، ثم التدين بما ثبت منها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعد من خصائص أهل السنة، فأهل السنة يعتقدون أن ما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي ، كما قال تعالى { وَمَا يَنطِقُ عَنِ اْلهوَى - إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى } فهم يتدينون بما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يُعرف ما صح عنه إلا بالبحث عن الأسانيد، والنظر في رجالها، أما أهل البدع فلا عناية لهم بالحديث، فلذا لا يعتنون بالأسانيد؛ لأنهم خالفوا أهل السنة في مصادر التلقي، فليس للحديث هيبة في صدورهم ، فلقد بنوا دينهم، وعقائدهم على عقولهم الفاسدة، وآرائهم الكاسدة، أو على نقولات مكذوبة، وإذا تعارض معقولهم الفاسد، مع السنة طعنوا فيها؛ ولهذا من شهير مقالتهم، إن العقيدة لا تؤخذ من أحاديث الآحاد، وإن كانت صحيحة!!، وإذا تعارض العقل مع النقل قُدِّم العقل !!، فهم يقدمون نتاج عقولهم على السنة؛ فلذا وقعوا في الضلال، وانحرفوا عن الصراط المستقيم، بقدر بعدهم عن الوحي، وخذ مثالاً على ذلك الرافضة فـ(القوم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل، ويكذِّبون بالمعلوم من الاضطرار، المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلا بعد جيل، ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأحاديث والأخبار، بين المعروف بالكذب أو الغلط أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم بالآثار....كما أنهم من أجهل الناس بمعرفة النقولات والأحاديث والآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها.(1/22)
وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب بل وبالإلحاد، وعلماؤهم يعتمدون على نقل مثل إبي مِخنف لوط بن أبي يحى وهشام بن محمد بن السائب وأمثالهما من المعروفين بالكذب عند أهل العلم، مع أن أمثال هؤلاء هم من أجل من يعتمدون عليه في النقل، إذ كانوا يعتمدون على من هو في غاية الجهل والافتراء ممن لا يُذكر في الكتب ولا يعرفه أهل العلم بالرجال..... وعمدتهم في الشرعيات ما نُقل عن بعض أهل البيت، وذلك النقل منه ما هو صدق ومنه ما هو كذب عمداً أو خطأً، وليسوا أهل معرفة بصحيح المنقول وضعيفه كأهل المعرفة بالحديث... - فهم - لا يعتمدون على القرآن ولا على الحديث ولا على الإجماع إلا لكون المعصوم منهم، ولا على القياس وإن كان واضحا جليا .) منهاج السنة ( 1/ 8، 58-59،69) . فالرافضة انحرفوا في العقيدة، والشريعة؛ لما فارقوا الوحي والسنة، وكذا بقية أهل البدع كان انحرافهم بقدر بعدهم عن ذلك.
فعلى أهل السنة أن يعتنوا بها كما اعتنى بها سلفهم الصالح، فمن كان أهلاً للنظر في الأسانيد، فليكن من الذابِّين عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن لم يكن كذلك فليرجع إلى أهل الشأن والمعرفة، حتى يعبد الله على بصيرة، ومن العجب أن ترى بعض من ينتسب إلى السنة ثم يقول: ليس الآن وقت حدثنا وأخبرنا!!، وهذا تحقير من شأن العناية بالحديث والأسانيد، ولذا ترى كثيرا ممن يتبنى ذلك، بلسان الحال أو المقال، له من الانحراف عن الجادة والحق، بقدر بُعده وانصرافه عن تعلم السنة.
ومما قاله شيخ الإسلام في أهمية الإسناد ( فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده في جزرة بقل لم يقبل منه، فكيف يحتج به في مسائل الأصول ؟! ) منهاج السنة (8/110) أي مسائل الاعتقاد.
الباب الرابع
أهل السنة والجماعة
هم الذين يهتمون بالعلم والعمل
((1/23)
أهل السنة الباطنة والظاهرة: كان كلامهم وعملهم باطنًا وظاهرًا بعلم(1)، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونًا بالآخر، وهؤلاء هم المسلمون حقًا، الباقون على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). "الفتاوى" (2/42).
(وهذا "الصراط المستقيم" يشتمل على علم وعمل: علم شرعي، وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرًا، ومن عمل بغير علم كان ضالاً). "الفتاوى" (11/26).و(من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا - وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا - وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66-68]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16]). "الفتاوى" (10/10).
(
__________
(1) قال ابن القيم رحمه الله:( الجهل رأس كل بدعة وضلالة ونقص، والعلم أصل كل خير وهدى وكمال) مدارج السالكين (3/314)(1/24)
والمقصود هنا أن السعادة التي هي كمال البهجة والسرور واللذة ليست هي نفس العلم، ولا تحصل اللذة بمجرد العلم، بل العلم شرط فيها، بل لا بد من العلم بالله وأمره، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»(1) فكل من أراد الله به خيراً فلا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين، لم يرد به خيراً، وليس كل من فقهه في الدين قد أراد به خيراً، بل لا بد مع الفقه في الدين من العمل به. "الصفدية" (2/266)
( فإن الدين كله علم بالحق وعمل به ....فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى ) الفتاوى ( 10/39-40). و( العمل بموجب العلم يثبته ويقرره، ومخالفته تضعفه، بل قد تذهبه) الفتاوى ( 3/332).( ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، و {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، و (( الضالون )) الذين يعبدون الله بغير علم. فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة فهو من (( المغضوب عليهم )) وإن كان لا يعلم ذلك فهو من (( الضالين )) نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفقيا. والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد.) الفتاوى ( 10/453)
الباب الخامس
__________
(1) من حديث معاوية - رضي الله عنه - رواه البخاري كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ح (71) , ورواه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم» ح (1037).(1/25)
أهل السنة والجماعة هم المهتمون بتربية أنفسهم على فضائل الأخلاق والبعد عن رذائلها
(...فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة، وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة، ولا أبعد منها من أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة، فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق، والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم)."منهاج السنة" (6/427). وقال رحمه الله بعد أن ذكر أصول أهل السنة في باب الاعتقاد ( ثم هم مع هذه الأصول .... يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال) الفتاوى( 3/158) .(1/26)
وإن من المحزن أن يجد العاقلُ كثيراً ممن ينتسب إلى السنة، وقد ارتدى ألواناً من سوء الخُلق تُشَوِّه جمال ذلك الانتساب، فمن المؤسف حقاً أن تجد قضايا حقوق المسلم، والتعامل الحسن مع الخَلق، مسائل نظرية لا تجد لها واقعاً ملموساً في حياة كثير ممن ينتسب الاستقامة أو إلى طلب العلم، أو الدعوة إلى الله، وإن وجدت لها شيئاً من الواقع فإنك ستجدها مشوبةً بالهوى والحزبية المذمومة، فهناك من تراه قد لبس ثياب القدح والثلب لمن خالفه، أو خالف متبوعه في أمور هي من موارد الاجتهاد، أو مما قد تنازع في مثلها السلف الأوائل، ، وهناك من تراه قد أطلق لسانه بالغيبة والنميمة والبهتان والتقول على الخَلق، وقد أُثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (( من كثر كلامه كثر سَقَطه، ومن كثر سَقَطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه )) هذا من كثر كلامه فكيف بمن كان كلامه بما سبق ذكره، وهناك من تراه قد امتطى مطيعة العجلة والطيش، فاستعمل الغلظة والشدة في غير محلها، وفقد الرفق الحكمة في أهم مواضعها، وهناك من تراه قد جانب الإنصاف وارتدى إزار الظلم والإجحاف، وهناك من ترى حبه وبغضه ومولاته ومعاداته لا للحق، بل لحزبه وطائفته ومن يوافقه على فكرته أو متبوعه، وهناك من تراه فظاً غليظاً عُبوساً لا تكاد البسمة أن تظهر على شفته، والعجيب أن من سبق ذكره يستعمل ذلك في مقام الدعوة، التي يجب أن يتصف مدعيها بالحكمة والرفق والتؤدة والبشاشة ولين الجانب وطيب الحديث وصدق اللهجة، مع الحرص على هداية الخَلق بإيصال الخير لهم، وإزحاة الجهل عنهم، والبعد عن كل ما يشين المرء من خلق قبيح وفعل لا يجمل، والموفق من وفقه الله .((1/27)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله تعالى هدى ورحمة للعالمين،فإنه كما أرسله بالعلم والهدى، والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم واحتماله، فبعثه بالعلم، والكرم، والحلم، عليم هاد كريم محسن صفوح ... فهو يعلم ويهدي ويصلح القلوب ويدلها على الآخرة بلا عوض .... والله سبحانه يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها ) . الفتاوى ( 16/313-317) بتصرف
الباب السادس
أهل السنة والجماعة
هم الذين يردون ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والأصل الذي اتفق عليه علماء المسلمين: أن ما تنازعوا فيه وجب رده إلى الله والرسول، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59])."الفتاوى" (33/32).
((1/28)
ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب (تحكيم الرسول) في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما حكم ويسلموا تسليما). "الفتاوى" (7/37-38).(ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن الحق منحصر في أربعة من علماء المسلمين كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، كما يشنّع بذلك الشيعة على أهل السنة، فيقولون: إنهم يدَّعون أن الحق منحصر فيهم، بل أهل السنة متفقون على أن ما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الله والرسول، وأنه قد يكون قولُ ما يخالف قولَ الأربعة:من أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان،وقول هؤلاء الأربعة مثل:الثوري(1).... ،والأوزاعي(2)، والليث بن سعد(3)،
__________
(1) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي،أبو عبد الله،أمير المؤمنين في الحديث،سيد العلماء العاملين في زمانه،قال الذهبي :(كان سفيان رأساً في الزهد،والتَّأَله،والخوف،رأساً في الحفظ،رأساً في معرفة الآثار،رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين )توفي رحمه الله سنة(161)انظر سير أعلام النبلاء (7/229-279) البداية والنهاية وفيات( 161)
(2) عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَد، أبو عمرو الأوزاعي، عالم أهل الشام، قال الذهبي :( كان له مذهب مستقل مشهور، عمل به فقهاء الشام مدة، وفقهاء الأندلس ثم فني ) ومن شهير أقواله ( عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الأمر ينجلي، وأنت منه على طريق مستقيم ) توفي رحمه الله سنة( 157) انظر سير أعلام النبلاء (7/107-134)،البداية والنهاية وفيات( 157)
(3) ابن عبد الرحمن، أبو الحارث الفَهْمي، الإمام الحافظ، عالم الديار المصرية ، قال الشافعي :( الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به) .توفي رحمه الله سنة( 175) انظر سير أعلام النبلاء ( 8/136-163)،والبداية والنهاية وفيات (175)..(1/29)
وإسحاق بن راهوية(1)، وغيرهم أصحَّ من قولهم). "منهاج السنة" (2/369-370).
(فإذا تنازع المسلمون في مسألة وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فأي القولين دل عليه الكتاب و السنة وجب اتباعه). "الفتاوى" (20/12).
وفي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.(أمر الله المؤمنين عند تنازعهم برد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فما تنازع فيه السلف والخلف وجب رده إلى الكتاب والسنة) "الفتاوى" (33/17).
(...فليس لأحد أن يحتج لأحد الطريقين بمجرد قول أصحابه، وإن كانوا من أعظم الناس علما ودينًا لأن المنازعين لهم هم من أهل العلم والدين، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، فالرد عند التنازع إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله.نعم إذا ثبت عن بعض المقبولين عند الأمة كلامٌ في مثل موارد النزاع، كان في ذلك حجة على تقدم التنازع في ذلك، وعلى دخول قوم من أهل الزهد والعبادة والسلوك في مثل هذا، ولا ريب في هذا.
__________
(1) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي ثم الحنظلي المروزي، أبو يعقوب، الإمام الحافظ، شيخ أهل المشرق، قال الإمام أحمد :( إسحاق عندنا إمام) ، وقال:( لا أعرف لإسحاق في الدنيا نظيراً) ، وقال:( لم يعبر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً) . وقال الذهبي : ( كان مع حفظه إماماً في التفسير، رأساً في الفقه، من أئمة الاجتهاد ) توفى رحمه الله سنة ( 238) انظر سير أعلام النبلاء ( 11/358-383).(1/30)
لكن مجرد هذا لا يتيح للمريد الذي يريد الله، ويريد سلوك طريقة، أن يقتدي في ذلك بهم، مع ظهور النزاع بينهم وبين غيرهم، وإنكار غيرهم عليهم، بل على المريد أن يسلك الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، ويتّبع ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فإن ذلك هو صراط الله الذي ذكره ورضي به، في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، وهذا أصل في أنه لا يحتج في مواضع النزاع والاشتباه بمجرد قول أحد ممن نوزع في ذلك). "الاستقامة" (1/386).
وقوله تعالى: ({فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، وهو الرد إلى كتاب الله أو إلى سنة الرسول بعد موته، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} شرط، والفعل نكرة في سياق الشرط، فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلاً للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه). "الفتاوى"(19/174-175).
فصل: في خطورة الإعراض عن التحاكم إلى شريعة الله
((1/31)
أمر الله المؤمنين بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، وهو الرد إلى الكتاب والسنة، فمن قال: إنه ليس لأحد أن يرد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة؛ بل على المسلمين اتباع قولنا دون القول الآخر من غير أن يقيم دليلاً شرعيًا -كالاستدلال بالكتاب والسنة- على صحة قوله فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وتجب استتابة مثل هذا وعقوبته، كما يعاقب أمثاله فإذا كانت المسألة مما تنازع فيه علماء المسلمين، وتمسك بأحد القولين؛ لم يحتج على قوله بالأدلة الشرعية -كالكتاب والسنة- وليس مع صاحب القول الآخر من الأدلة الشرعية ما يبطل به قوله: لم يكن لهذا الذي ليس معه حجة تدل على صحة قوله أن يمنع ذلك الذي يحتج بالأدلة الشرعية بإجماع المسلمين؛ بل جَوَّزَ أن يُمنع المسلمون من القول الموافق للكتاب والسنة، وأوجب على الناس اتباع القول الذي يناقضه بلا حجة شرعية تُوجب عليهم اتباع هذا القول، وتُحَرِّم عليهم أتباع ذلك القول؛ فإنه قد انسلخ من الدين تجب استتابته وعقوبته كأمثاله، وغايته أن يكون جاهلاً فيعذر بالجهل أولاً حتى يتبين له أقوال أهل العلم ودلائل الكتاب والسنة؛ فإن أصر بعد ذلك على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل). "الفتاوى" (33/134-135).(1/32)
وهل يرد التنازع إلى العلماء كما تفعل كل طائفة مع علمائها فيما تُنازع فيه الأخرى يوضح ذلك أيضاً (قوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولي الأمر، ولهذا كان أولو الأمر إذا اجتمعوا لا يجتمعون على ضلالة، فإذا تنازعوا فالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله لا إلى غير ذلك من عالم أو أمير ومن يدخل في ذلك من المشايخ والملوك وغيرهم، ولو كان غير الرسول معصومًا أو محفوظًا فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يُردّ إليه مواقع النِزاع، كما يرده القائلون بإمام معصوم إليه، وكما جرت عادة كثير من الأتباع أن يردّوا ما تنازعوا فيه إلى الإمام والقدوة الذين يقلدونه.ومعلوم أن علماء الطوائف ومقتصديهم لا يرون هذا الرد واجبًا على الإطلاق، لكن قد يفعلون ذلك لأنه لا طريق لهم إلى معرفة الحق واتباعه إلا ذلك لعجزهم عما سوى ذلك، فيكونون معذورين، وقد يفعلون ذلك اتباعًا لهواهم في محبتهم لذلك الشخص وبغضهم لنظرائه فيكونون غير معذورين، ولكن من اعتقد - من هؤلاء - في متبوعه أنه معصوم، أو أنه محفوظ عن الذنوب والخطأ في الاجتهاد، فذلك مردود عليه بلا نزاع بين أهل العلم والإيمان). "جامع الرسائل" (1/275).والمعرض عن رد التنازع في المسائل الخلافية بين الأمة إلى الله والرسول على خطر عظيم، قال شيخ الإسلام: (...(1/33)
أمر الله الأمة عند النزاع بالرد إليه وإلى رسوله، وقد وصف المعرضين عن ذلك بالنفاق والكفر، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْك وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت - َقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً - فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانا وَتَوْفِيقاً} إلى قوله: {بليغًا} [النساء: 60- 63] فوصف سبحانه من دعي إلى الكتاب والسنة، فأعرض عن ذلك بالنفاق، وإن زعم أنه يريد التوفيق بذلك بين الدلائل النقلية والعقلية، أو نحو ذلك، وأنه يريد إحسان العلم والعمل، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الآية [ سورة البقرة: 170]، قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وَجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} إلى قوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 66- 68]. "التسعينية" (1/152).
الباب السابع
أهل السنة والجماعة هم أهل الحق
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فأهل الحق، هم أهل الكتاب والسنة)، وقال: (أهل السنة والحديث الصواب معهم دائمًا). وقال: (...أهل السنة لم يتفقوا على مسألة ردّية)."المنهاج" (4/591.590).(1/34)
ذكر أبو المعالي الجويني(1)بعض مسائل الاعتقاد التي فيها مخالفة لعقيدة أهل السنة ووصف القائلين بها أنهم أهل الحق، فقال شيخ الإسلام رحمه الله معقبًا: (...فإنه دائمًا يقول: قال أهل الحق، وإنما يعني أصحابه، وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها، فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون، الذين لا يجتمعون على ضلالة، فأما أن يفرد الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة، ويسميها أهل الحق، ويشعر بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل، فهذا حال أهل الأهواء والبدع، كالخوارج...........................
__________
(1) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجُوينيَّ، ثم النيسابوري، أحد كبار فقهاء الشافعية وعلماء الكلام، لُقِب بإمام الحرمين لمجاورته بمكة أربع سنين، وجوين من قرى نيسابور، ابتلي بعلم الكلام وتاب منه بآخره . قال ابن تيمية :( وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف، وكان يقول: ( يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به ، وقال عند موته :لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهاأنا أموت على عقيدة أمي أو قال: عقيدة عجائز نيسابور)) الفتاوى( 4/73)، ومهاج السنة (5/269) توفي رحمه الله سنة ( 458) وانظر سير أعلام النبلاء ( 18/89-92)،و البداية والنهاية وفيات (458)، والعبر وفيات(458).(1/35)
والمعتزلة(1)
__________
(1) فرقة ضالة اعتزلت الحق وأهله، وقالت في أهل الذنوب من أهل القبلة،( لا هم مسلمون ولا كفار، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار، فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإسلام والإيمان شئ، ولكن لم يسموهم كفاراً واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما، فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن، وقيل : إن قتادة كان يقول أولئك المعتزلة ...فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا، فلم يستحلوا من دمائهم وأموالهم ما استحلته الخوارج، وفي الأسماء أحدثوا المنزلة بين المنزلتين، وهذه خاصة المعتزلة التي انفردوا بها ) الفتاوى (13/37-38)،وممن أحدث الاعتزال عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، ( الفتاوى (8/228)،(10/358). و المعتزلة ( أصولهم خمسة يسمونها التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن معنى (( التوحيد)) عندهم يتضمن نفي الصفات، وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته، ومعنى (( العدل)) عندهم يتضمن التكذيب بالقدر،وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على شئ، ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب، وأما (( المنزلة بين المنزلتين)) فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمنا بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافرا، فنزلوه بين منزلتين، ((وإنفاذ الوعيد)) عندهم معناه أن فُساق الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك كما تقوله الخوارج ، ((والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة ، وقتالهم بالسيف)بتصرف الفتاوى( 13/386-387)..(1/36)
والرافضة، وليس هذا من فعل أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يصفون طائفة بأنها صاحبة الحق مطلقًا إلا المؤمنين، الذي لا يجتمعون على ضلالة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]، وهذا نهاية الحق، والكلام الذي لا ريب فيه أنه حق، قول الله وقول رسوله الذي هو حق وآت بالحق، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب:4]، وقال تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام:73]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا الحق»(1)، يعني شفتيه، فأهل الحق، هم أهل الكتاب والسنة، وأهل الكتاب والسنة -على الإطلاق- هم المؤمنون، فليس الحق لازمًا لشخص بعينه، دائرًا معه حيثما دار لا يفارقه قط، إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا معصوم من الإقرار على الباطل غيره، وهو حجة الله التي أقامها على عباده، وأوجب اتباعه وطاعته في كل شيء على كل أحد.
__________
(1) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، رواه أبو داود كتاب العلم، باب في كتابة العلم، ح (3646)، وهو في الصحيحة للعلامة الألباني ح (1532).(1/37)
وليس الحق -أيضًا- لازمًا لطائفة دون غيرها إلا للمؤمنين، فإن الحق يلزمهم، إذ لا يجتمعون على ضلالة، وما سوى ذلك فقد يكون الحق فيه مع الشخص أو الطائفة في أمر دون أمر، وقد يكون المختلفان كلاهما على باطل، وقد يكون الحق مع كل منهما من وجه دون وجه، فليس لأحد أن يسمي طائفة منسوبة إلى إتباع شخص -كائنًا من كان- غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم أهل الحق، إذ ذلك يقتضي أن كل ما هو عليه فهو حق، وكل من خالفهم في شيء من سائر المؤمنين فهو مبطل، وذلك لا يكون إلا إذا كان متبوعهم كذلك، وهذا معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام، ولو جاز ذلك لكان إجماع هؤلاء حجة، إذا ثبت أنهم هم أهل الحق). "التسعينية" (3/902-904).
((1/38)
والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا ينفردون عن سائر طوائف الأئمة إلا بقول فاسد، لا ينفردون قط بقول صحيح، وكل من كان عن السنة أبعد، كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر، وليس في الطوائف المنتسبين أبعد عن آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرافضة، فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالاً في غاية الفساد -وذكر عدة أمثلة لذلك-... ثم قال: ومفاريد الرافضة التي تدل على غاية الجهل والضلال كثيرة لم نقصد ذكرها هنا، لكن المقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينفردون عن سائر الطوائف بحق، والرافضة أبلغ في ذلك من غيرهم، وأما الخوارج والمعتزلة والجهمية فإنهم أيضًا لم ينفردوا عن أهل السنة والجماعة بحق، بل كل ما معهم من الحق ففي أهل السنة من يقول به... المقصود أن الحق دائمًا مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره الصحيحة، وإن كان كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة، لم يكن القول الذي انفردوا به إلا خطأ، بخلاف المضافين إليه أهل السنة والحديث؛ فإن الصواب معهم دائمًا، ومن وافقهم كان الصواب معه دائمًا لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين؛ فإن الحق مع الرسول، فمن كان أعلم بسنته واتبع لها كان الصواب معه). "منهاج السنة" (5/172-182).(1/39)
و(من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقًا أخرى؛ مثل المعقول، والقياس، والرأي، والكلام، والنظر، والاستدلال، والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة، والمخاطبة، والوجد، والذوق، ونحو ذلك.(1/40)
وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً؛ وأعدلهم قياسًا، وأصوبهم رأيًا، وأسدهم كلاما، وأصحهم نظرًا، وأهداهم استدلالا، وأقومهم جدلا، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهامًا، وأحدهم بصرًا ومكاشفة، وأصوبهم سمعًا ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجدًا وذوقًا، وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل، فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أَحَدَّ وأَسَدَّ عقلا، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين، وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا - وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا - وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66-68]، وهذا يعلم تارة بموارد النِزاع بينهم وبين غيرهم، فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم، وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم، أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل، وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى، وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم، فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، فهذا أمر ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين، لا تجد في الأمة عُظِّمَ أحدٌ تعظيمًا أعظم مما عظموا به، ولا تجد غيرهم يُعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه، كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم، حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقر بذلك، كما قال الإمام أحمد: (آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز)، فإن الحياة بسبب(1/41)
اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته، فأما وقت الموت فلابد من الاعتراف بالحق من عموم الخلق، ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته: مسح المتوكل(1)موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف؛ سوى من صلى في الخانات والبيوت وأسلم يومئذ من اليهود والنصارى عشرون ألفًا، وهو إنما نبل عند الأمة باتباع الحديث والسنة، وكذلك الشافعي، وإسحاق، وغيرهما، إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة، وكذلك البخاري(2)
__________
(1) الخليفة جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون ، أبو الفضل، القرشي العباسي، بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الواثق سنة(232) ، قال شيخ الإسلام :( وكان في أيام المتوكل قد عز الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة،وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم) الفتاوى ( 4/21-22) ففي عهد ه رفعت المحنة بخلق القرآن، قال شيخ الإسلام :( ثم إن الله كشف الغمة عن الأمة في ولاية المتوكل على الله الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة، فأمر المتوكل برفع المحنة وإظهار الكتاب والسنة، وأن يروى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين ) الفتاوى(11/479) قتل رحمه الله سنة (247) انظر سير أعلام النبلاء (12/30-41)، والبداية والنهاية وفيات سنة(247).
(2) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، أبو عبدالله، الإمام الحافظ، صاحب الصحيح، قال فيه أحمد :( ما أخرجت خراسان مثله،) وقد أثنى عليه علماء زمانه وأقرانه ومن بعدهم ثناء يطول المقام بذكره . = = قال ابن كثير:( وكتابه الصحيح أجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام ... وقد ترك رحمه الله علماً نافعاً لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع، بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة ) . توفى سنة (256) رحمه الله رحمة واسعة ..انظر سير أعلام النبلاء ( 12/391-471)، البداية والنهاية وفيات سنة (256)، وهدي الساري للحافظ بن حجر (ص558-577).(1/42)
وأمثاله إنما نبلوا بذلك، وكذلك مالك والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وغيرهم، إنما نبلوا في عموم الأمة وقُبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة، وما تُكُلِّم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة، أما لعدم بلاغها إياه، أو لاعتقاده ضعف دلالتها، أو رجحان غيرها عليها...). "الفتاوى" (4/9-11).
إذن فـ(طريقة أهل السنة والحديث، هي الطريقة المحمدية المحضة الشاهدة على جميع الطرق). "الفتاوى" (2/57).
وذلك (لأن الهدي ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم، وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا). "الفتاوى" (4/97).
(...ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة الذين مَحَّضُوا الإسلام ولم يَشُوبُوه بغيره،كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة، بخلاف أهل البدع والأهواء، كالخوارج والروافض، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن كمال هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة). "الفتاوى" (15/298).
فصل: في وجوب اتباع الحق وبيان أسباب مخالفته
لاشك أن الحق هو الصراط المستقيم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الإنسان يجب عليه أن يعرف الحق وأن يتبعه، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وهذا هو الصراط الذي أمرنا الله أن نسأله هدايتنا إياه في كل صلاة، بل في كل ركعة). "المنهاج" (2/11).
فـ(الصراط المستقيم لابد فيه من العلم بالحق والعمل به، وكلاها واجب لا يكون الإنسان مفلحًا ناجيًا إلا بذلك). "المنهاج" (2/14.13).
وقد قال عمر - رضي الله عنه - (الحق أبلج لا يخفى على فطن) "الفتاوى" (20/44).
((1/43)
وليس صلاح الإنسان في مجرد أن يعلم الحق، دون أن لا يحبه ويريده ويتبعه، كما أنه ليس سعادته في أن يكون عالمًا بالله، مقرًا بما يستحقه، دون أن يكون محبًا لله، عابدًا لله، مطيعًا لله، بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه؛ فإذا علم الإنسان الحق وابغضه وعاداه، كان مستحقًا من غضب الله وعقابه مالا يستحقه من ليس كذلك؛ كما أن من كان قاصدًا للحق طالبًا له - وهو جاهل بالمطلوب وطريقه- كان فيه من الضلال، وكان مستحقًا من اللعنة -التي هي البعد عن رحمة الله- مالا يستحقه من ليس مثله؛ ولهذا أمرنا الله أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، و{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} علموا الحق فلم يحبوه ولم يتبعوه، و(الضالون) قصدوا الحق لكن بجهل وضلال به وبطريقه، فهذا بمنزلة العالم الفاجر، وهذا بمنزلة العابد الجاهل، وهذا حال اليهود فإنه مغضوب عليهم، وهذا حال النصارى فإنهم ضالون). "الفتاوى" (7/586).
بعض أسباب مخالفة الحق وعدم اتباعه
السبب الأول: اتباع الهوى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والهوى غالبًا يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئًا فإن حبك للشيء يعمي ويصم). "الفتاوى" (27/91).
و(من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمي قلبه عن الحق الواضح كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]). "الفتاوى" (10/10).(1/44)
ومن الهوى الاستدلال على بطلان الحق بكثرة المخالفين له، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين: لا يدل على صحة قول ولا فساده إلا إذا كان ذلك بهدى من الله، بل الاستدلال بذلك هو استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله، فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]، وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص:50]، وقال تعالى لداود: {وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، وقال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150]، وقال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث الله به رسوله وبعد هدى الله الذي بينه لعباده: فهو بهذه المثابة، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والتفرق -المخالفين للكتاب والسنة- أهل الأهواء: حيث قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم(1/45)
بغير هدى من الله). "الفتاوى" (4/190,189).
السبب الثاني: التقليد المذموم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة؛ كالذين ذكر الله عنهم أنهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ - فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69-70]، ونظائر هذا في القرآن كثير، فمن اتبع دين آبائه وأسلافه لأجل العادة التي تعودها، وترك اتباع الحق الذي يجب اتباعه، فهذا هو المقلد المذموم، وهذه حال اليهود والنصارى؛ بل أهل البدع والأهواء في هذه الأمة، الذي اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق؛ كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67-68]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً - يَاوَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27-29]، وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ - وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:166-167]، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ(1/46)
فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47-48]، وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوقًا في معصية الله، كان له نصيب من هذا الذم والعقاب. والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله: إما أن يتبع الظن؛ وإما أن يتبع ما يهواه، وكثير يتبعهما...، وبيان ذلك: أن الشخص إما أن يبين له أن ما بعث الله به رسوله حق، ويعدل عن ذلك إلى أتباع هواه، أو يحسب أن ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق، فهذا متبع للظن، والأول متبع لهواه، ...وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن لا يجوز له اتباعه...، فإذا تبين أن المقلد مذموم -وهو من اتبع هوى من لا يجوز اتباعه- كالذي يترك طاعة رسل الله، ويتبع ساداته وكبرائه، أو يتبع الرسول ظاهرًا من غير إيمان في قلبه). "الفتاوى" (4/200-203).
قال رحمه الله: (ومن ترك النقل المصدق عن القائل المعصوم واتبع نقلاً غير مصدق عن قائل غير معصوم فقد ضل ضلالاً بعيدا). "الفتاوى" (27/125).
السبب الثالث: الجهل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن القلب إذا كان خاليًا من معرفة الحق، واعتقاده والتصديق به، كان معَّرضًا لأن يعتقد نقيضه ويصدِّق به)."درء تعرض العقل والنقل"(5/377).
و(حال عامة الكفار وأهل البدع إنما ضلالتهم في التكذيب بما لم يعرفوه من الحق لا بما علموه من الحق). "بيان تلبيس الجهمية" (2/541).
ويروى عن مالك رحمه الله أنه قال: (إذا قل العلم ظهر الجفا، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء). "الفتاوى" (20/163).(1/47)
وقد اتضح مما سبق أن الهوى والجهل والتقليد من أعظم أسباب ترك الحق، وعدم اتباعه , فعليك أخي بالتمسك بطريقة السلف رحمهم الله (فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية، فإنه لابد أن يضل ويتناقض، ويبقى في الجهل المرَّكب أو البسيط). "درء التعارض" (5/356).
(وفي الحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم فروجكم، ومضلات الفتن»(1). وهؤلاء المعرضون عن الطريقة النبوية السلفية يجتمع فيهم هذا وهذا: اتِّباع شهوات الغي، ومضلاّت الفتن، فيكون فيهم من الضلال والغيِّ بقدر ما خرجوا من الطريق الذي بعث الله به رسوله). "درء التعارض" (1/166.165).
ومن تبين له الحق ثم عَنِدَ عنه فهو ظالم معاند يستحق العقوبة، قال شيخ الإسلام في قوله تعالى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت:46]، (فإن الظالم باغ معتد مستحق للعقوبة، فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة، لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن، بخلاف من لم يظلم، فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن...، والظالم يكون ظالمًا بترك ما تبين له من الحق واتباع ما تبين له أنه باطل، والكلام بلا علم فإذا ظهر له الحق فَعنِدَ عنه كان ظالمًا)، وقال أيضا في الآية السالفة الذكر: (فهو أمر للمؤمنين أن يقولوا الحق الذي أوجبه الله عليهم، وعلى جميع الخلق ليرضوا به الله، وتقوم به الحجة على المخالفين، فإن هذا من الجدال بالتي هي أحسن، وهذا أن تقول كلامًا حقًا يلزمك، ويلزم المنازع لك أن يقوله، فإن وافقك وإلا ظهر عناده وظلمه)."الجواب الصحيح"(3/82.73.72).
__________
(1) ?رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - برقم (29717) (19718)، بلفظ: ( إن مما أخشى عليكم... ) الحديث، وصححه العلامة الألباني في تحقيقه لكتاب السنة ح(14).(1/48)
فصل: في ثبات أهل السنة على الحق الذي معهم
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأهل الحديث والسنة هم أعظم الناس علمًا ويقينًا وطمأنينة وسكينة؛ وهم الذين يعلمون؛ ويعلمون أنهم يعلمون؛ وهم بالحق يوقنون لا يشكون ولا يمترون). "الفتاوى" (4/29).
وقال رحمه الله: (وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء. يقول: إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته، كما قال تعالى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3]. "الفتاوى" (4/50).(1/49)
اتضح مما سبق من النقول أن أهل السنة (طريقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، لكن لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة -وهي الجماعة(1)- وفي حديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»(2)، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة؛ وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى؛ ومصابيح الدجى؛ أولوا المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة؛ وفيهم الأبدال: الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»(3).
__________
(1) من حديث معاوية - رضي الله عنه - رواه أبو داود كتاب السنة، باب شرح السنة?حديث (4597). وهو في الصحيحة، برقم (204) قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسند من وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)،?وإن كان بعض الناس – كابن حزم – يضعف هذه الأحاديث، فأكثر أهل العلم قبلوها، وصدقوها اهـ. فتاوى (16/ 491).
(2) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - ، رواه الترمذي كتاب الإيمان، ح(18).
(3) بمعناه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم ) ح(7311)، (7459)، ومسلم كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ). ح(1921).
قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: واعلم أن الحديث صحيح ثابت مستفيض، أو متواتر، ورد عن جماعة من الصحابة. أهـ. الصحيحة ح(270)، وانظر هذا الحديث عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - في الصحيحة من ح (1955-1962).(1/50)
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب). "الفتاوى" (3/159).
فصل: لا يلزم من كون أهل السنة أهل الحق
عدم وجود الخطأ والزلة والذنب بل والبدعة في أفرادهم
يجب أن يعلم أن العصمة إنما هي في الإجماع(1)الذي عليه أهل السنة وأما أفراد أهل السنة سواء كانوا علماء أو طلبة علم أو عامة فقد يقع منهم الذنب ويقع منهم الخطأ وتقع منهم الزلة بل والبدعة.
قال شيخ الإسلام: (أجمع جميع سلف المسلمين وأئمة الدين من جميع الطوائف أنه ليس بعد رسول الله أحد معصوم ولا محفوظ لا من الذنوب ولا من الخطايا، بل من الناس من إذا أذنب استغفر وتاب، وإذا أخطأ تبين له الحق فرجع إليه، وليس هذا واجبًا لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل يجوز أن يموت أفضل الناس بعد الأنبياء وله ذنب يغفره الله، وقد خفي عليه من دقيق العلم ما لم يعرفه، ولهذا اتفقوا على أنه ما من الناس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ). "جامع الرسائل" (1/266).
(
__________
(1) هـ) المقصود بالإجماع هنا الإجماع الشرعي، لا إجماع طائفة معينة- تتعصب لفكر أو رأي أو متبوع - تبعد أو تقرب من منهج أهل السنة . وقد وُجد أناس ممن أبتليت بهم الأمة عامة، والساحة الدعوية خاصة يجعلون الإجماع ما عليه أصحابهم، ولا يكتفون بذلك بل يضللون من خالفهم وإن كان الحق معه ، يزعمون أنه خالف الإجماع!!!.(1/51)
ومما ينبغي أن يعلم: أنه وإن كان المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة والاستغفار للطائفتين جميعًا وموالاتهم؛ فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من العسكر لم يكن إلا مجتهدًا متأولاً: كالعلماء، بل فيهم المذنب والمسيء، وفيهم المقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى، لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كانت مرجوحة مغفورة. أهل السنة تحسن القول فيهم وتترحم عليهم، وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب، وعلى الخطأ في الاجتهاد، إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ومن سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ، لكن هم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف:16]). "الفتاوى" (4/434).
ونحن إذا قلنا إن أفراد أهل السنة غير معصومين, حتى العالم من أهل السنة قد لا يسلم من الذنب أو الخطأ أو الزلة، فليس هذا من الانتقاص في شيء فعلماء أهل السنة - رحم الله أمواتهم وحفظ أحياهم - كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل؛ وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم هم خيارهم؛ وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع، أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الخوارج؛ ونهى عن قتال الولاة الظلمة...). "الفتاوى" (7/284).
وقال رحمه الله: (أهل الكتاب والسنة إما قائمون بظاهر الشرع فقط، كعموم أهل الحديث والمؤمنين، الذين في العلم بمنزلة العُبَّاد الظاهرين في العبادة، وإما عالمون بمعاني ذلك وعارفون به...، فهؤلاء هم علماء أمة محمد المحضة، وهم أفضل الخلق، وأكملهم، وأقومهم طريقة). "الفتاوى"(20/44).(1/52)
والأمر كذلك بالنسبة للمنتسبين إلى السنة والجماعة، (فإن المنتسبين إلى السنة والحديث -وإن كانوا أصلح من غيرهم من أشباههم، فالسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، كما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم، وإن كان كل خير في غير المسلمين فهو في المسلمين أكثر، وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر، فكذلك المنتسبة إلى السنة- قد يوجد فيهم ما يوجد في غيرهم، وإن كان كل خير في غير أهل السنة فهو فيهم أكثر، وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر). "الفتاوى" (12/456.455).
وقال رحمه الله: (الشر الذي دخل في غير المسلمين أكثر مما دخل في المسلمين، والخير الذي يوجد في المسلمين أكثر مما يوجد في غيرهم، وكذلك أهل السنة في الإسلام الخير فيهم أكثر لا يقارن بالشر والخطأ في أهل البدع). "المنهاج"(1/215،214)، وانظر نفس المصدر (484.483).
إذن فنحن عندما نقول إن أهل السنة هم أهل الحق (لا نقصد تصويب قول كل من انتسب إلى السنة بل نحن نبين الحق، والحق أن أهل السنة لم يتفقوا -قط - على خطأ، ولم تنفرد الشيعة – مثلاً - عنهم قط بصواب، بل كل ما خالفت فيه الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون، كما أن ما خالفت فيه اليهود والنصارى جميع المسلمين فهم فيه ضالون، وإن كان كثير من المسلمين قد يخطئ). "منهاج السنة" (3/98).
(وقلنا غير مرة: نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ، لكن لا يتفقون على خطأ كما تتفق الإمامية على خطأ، بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل السنة فالصواب فيها مع أهل السنة، وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية، فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية). "المنهاج" (3/110).(1/53)
ويحب أن يعلم أن ما يقع فيه أفراد أهل السنة من باطل- ولا يمكن أن يجمعوا عليه- لا يقدح في مذهب أهل السنة والجماعة- كما أن ما يقع فيه أفراد المسلمين من باطل لا يقدح في الإسلام- فإن السنة والجماعة هي الإسلام المحض , الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : (...فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطئوا في بعض أحكامها، لم يكن ذلك قدحًا في مذهب أهل السنة والجماعة، فإنَّا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة، وأن كل مسالة اختلف فيها أهل السنة والجماعة والرافضة، فالصواب فيها مع أهل السنة، وحيث تصيب الرافضة، فلابد أن يوافقهم أحد عليه من أهل السنة، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد انفردوا بها عن جميع أهل السنة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الإثني عشر وعصمتهم). "منهاج السنة" (3/342).
وقال رحمه الله: (...وإذا قُدِّر أن في الحنبلية -أو غيرهم من طوائف أهل السنة- من قال أقوالاً باطلة، لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يُرد على من قال ذلك الباطل، وتنصر السنة بالدلائل). "منهاج السنة" (2/607.606).
(وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال، نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم، ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم، كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه، لم يستلزم ذلك ذم الإسلام وأهله القائمين بواجباته. "منهاج السنة" (2/ 609).
(والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة، فمن تمام العصمة أن يجعل عددًا من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق...، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلاً، وأما خطأ بعضهم في بعض الدين، فقد قدّمنا غير مرة أن هذا لا يضر، كخطأ بعض المسلمين). "المنهاج" (3/409.408).(1/54)
وقد شنع بعض أهل البدع على أهل السنة ببعض المسائل الشاذة المنسوبة إلى بعضهم فأجاب رحمه الله عنها بأجوبة.
أحدها: (أن في هذه المسائل منها هو كذب على جميع أهل السنة، وأما سائرها فليس في هذه المسائل مسألة إلا وجمهور أهل السنة على خلافها، وإن كان قد قالها بعضهم، فإن كان قوله خطأ فالصواب مع غيره من أهل السنة، وإن كان صوابًا فالصواب مع أهل السنة أيضًا، فعلى التقديرين لا يخرج الصواب عن قول أهل السنة). "منهاج السنة" (3/418).
فيتضح مما سبق أن (أهل السنة يقولون: إن الحق لا يخرج عنهم، لا يقولون إنه لم يخطئ أحد منهم). "المنهاج" (3/429)، (فالحق لا يدور مع شخص غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ). "منهاج السنة" (4/241).
(فليس الحق لازمًا لشخص بعينه، دائرًا معه حيثما دار لا يفارقه قط، إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا معصوم من الإقرار على الباطل غيره، وهو حجة الله التي أقامها على عباده، وأوجب اتباعه وطاعته في كل شيء على كل أحد). "التسعينية" (3/404.902).
وإليك - في ختام هذا الفصل- بعض ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله من الأخطاء والذنوب والزلات بل والبدع التي قد يقع فيها بعض المنتسبين إلى السنة من خواص أوعوام أقصد بذلك التحذير منها.(1/55)
فقد وضح شيخ الإسلام أن بعض المنتسبين إلى السنة قد يقعون في القصور أو التقصير فقال ذاكرًا بعض صور ذلك (...تارة بأن لا يعرفوا معاني نصوص الكتاب والسنة، وتارة بأن لا يعرفوا النصوص الصحيحة من غيرها، وتارة لا يردون ما يناقضها ويعارضها مما يسميه المعارضون لها العقليات...، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: (معرفة الحديث، والفقه فيه أحب إليّ من حفظه)، وكثير من المنتسبين إلى السنة المصنفين فيها لا يعرفون الحديث ولا يفقهون معناه، بل تجد الرجل الكبير منهم يصنف كتابًا في أخبار الصفات أو في إبطال تأويل أخبار الصفات، ويذكر فيه الأحاديث الموضوعة مقرونة بالأحاديث الصحيحة المتلقاه بالقبول ويجعل القول في الجميع واحدًا، وقد رأيت غير واحد من المصنِّفين في السنة على مذهب أهل الحديث من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم من الصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام منهم يحتجون في أصول الدين بأحاديث لا يجوز أن يُعتمد عليها في فضائل الأعمال، فضلاً عن مسألة فقهٍ، فضلاً عن أصول الدين، والأئمة كانوا يروون ما في الباب من الأحاديث التي لم يعلم أنها كذب من المرفوع والمسند والموقوف وآثار الصحابة والتابعين، لأن ذلك يقوّي بعضه بعضا كما تُذكر المسألة من أصول الدين ويذكر فيها مذاهب الأئمة والسلف، فثمَّ أمور تُذكر للاعتماد، وأمور تذكر للاعتضاد، وأمور تذكر لأنها لم يعلم أنها من نوع الفساد، ثم بعد المعرفة بالنصوص لابد من فهم معناها). "الصفدية" (1/287.286).(1/56)
وقال رحمه الله: (وإنما جماع الشَّر تفريط في حق أو تعدي إلى باطل، وهو تقصير في السنة أو دخول في البدعة، كترك بعض المأمور وفعل بعض المحظور، أو تكذيب بحق وتصديق بباطل ولهذا عامة ما يؤتى الناس من هذين الوجهين: فالمنتسبون إلى أهل الحديث والسنة والجماعة يحصل من بعضهم، كما ذكرت، تفريط في معرفة النصوص أو فهم معناها أو القيام بما تستحقه من الحجة ودفع معارضها، فهذا عجز وتفريط في الحق، وقد يحصل منهم دخول في باطل: أما في بدعة ابتدعها أهل البدع وافقوهم عليها واحتاجوا إلى إثبات لوازمها، وأما في بدعة ابتدعوها هم لظنهم أنها من تمام السنة...). "الصفدية" (1/393.392).
(وإذا قابلنا بين الطائفتين -أهل الحديث، وأهل الكلام - فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول ؛ إنما يعيبهم بقلة المعرفة، أو بقلة الفهم، أما الأول: فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو بآثار لا تصلح للاحتجاج، وأما الثاني: فبأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة، بل قد يقولون القولين المتناقضين، ولا يهتدون للخروج من ذلك.
والأمر راجع إلى شيئين: إما زيادة أقوال غير مفيدة يظن أنها مفيدة، كالأحاديث الموضوعة، وإما أقوال مفيدة، لكنهم لا يفهمونها، إذ كان اتِّبَاع الحديث يحتاج أولاً إلى صحة الحديث، وثانياً إلى فهم معناه، كاتباع القرآن، فالخلل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين، ومن عابهم من الناس، فإنما يعيبهم بهذا.(1/57)
ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم ؛ يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل "الأصول والفروع"، وبآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث مالا يفهمون معناه، وربما تأولوه على غير تأويله، ووضعوه على غير موضعه.ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف، والمعقول السخيف، قد يُكَّفِرون ويُضَلِّلون، ويُبَدِّعون أقواماً، من أعيان الأمة، ويُجِّهِلُونهم، ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعدي على الخلق، ما قد يكون بعضه خطأ مغفوراً، وقد يكون منكراً من القول وزوراً، وقد يكون من البدع، والضلالات التي توجب غليظ العقوبات، فهذا لا ينكره إلا جاهل، أو ظالم، وقد رأيت من هذا عجائب، لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك , كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، ولا ريب أن في كثير من المسلمين من الظلم، والجهل والبدع، والفجور مالا يعلمه إلا من أحاط بكل شيء علماً، لكن كل شر يكون في بعض المسلمين، فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم، فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم.) "الفتاوى" (4/23-25).
وقال رحمه الله: (والسنة ينبغي معرفة ما ثبت منها وما علم أنه كذب، فإن طائفة ممن انتسب إلى السنة، وعظم السنة والشرع، وظنوا أنهم اعتصموا في هذا الباب بالكتاب والسنة، جمعوا أحاديث وردت في الصفات، منها ما هو كذب معلوم أنه كذب، ومنها ما هو إلى الكذب أقرب، ومنها ما هو إلى الصحة أقرب، ومنها متردد، وجعلوا تلك الأحاديث عقائد، وصنفوا مصنفات، ومنهم من يكفر من يخالف ما دلت عليه تلك الأحاديث). "الفتاوى" (16/432).
وقال رحمه الله: (...لا ننكر ما يوجد في بعض أهل السنة والجماعة من جهل وظلم). "الصفدية" (1/163).(1/58)
هذا بعض ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله مما يقع فيه بعض المنتسبين إلى السنة من مخالفة للسنة، فعلى أهل السنة عمومًا وطلبة العلم منهم خصوصًا أن يسعوا في تفادي ذلك, وإن وقع شيء من ذلك فليبادروا بالتوبة والرجوع إلى الحق وليعلموا أنهم سينقلبون إلى ربهم {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]، والناظر في تلك المخالفات يجدها تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما سببه قلة العلم وعدم التمكن منه وهذا في الأخطاء العلمية التي يقع فيها بعض المنتسبين إلى السنة ظنًا منهم أصابه الحق والصواب،.
والثاني: ما سببه طاعة القوة الغضبية أو القوة الشهوانية -الهوى- فالله أسأل أن يعافينا وإخواننا من أهل السنة وجميع المسلمين وأن يختم لنا ولهم بخير، وليعلم أهل السنة أن تلك المخالفات التي تقع من أفرادهم قد تكون سببًا في الصد عن سبيل الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان، وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب خلافها، فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم: ضل به ضلالاً كبيرا). "الفتاوى" (4/55).
فصل: في أن أهل السنة يقبلون الحق من كل من جاء به
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذكره لقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] (وأهل السنة المحضة أولى الطوائف بهذا؛ فإنهم يَصدقون ويُصدّقون بالحق في كل ما جاء به، ليس لهم هوى إلا مع الحق). "منهاج السنة" (7/190).
وقال رحمه الله: (فنحن نجيء بالصدق ونصدق به، لا نَكذب ولا نُكذِّبُ صادقًا، وهذا معروف عند أئمة السنة، وأما من افترى على الله كذبًا أو كذّب بالحق، فعلينا أن نكذبه في كذبه وتكذيبه الحق). "منهاج السنة" (7/195).
((1/59)
والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني -فضلاً عن الرافضي- قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق، ولهذا جُعل هذا الكتاب "منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية" فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضًا بدعة وباطل، وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام، ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد، لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا، وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلاً بباطل وبدعة ببدعة، ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق، لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال، وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله، ولهذا لم نرد ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه). "منهاج السنة" (2/342).
(والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يُقبل من كل من قاله). "منهاج السنة النبوية" (1/56).
و (ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول، وأولى الناس بالحق أتبعهم له، وأعظمهم له موافقة، وهم سلف الأمة وأئمتها). "الفتاوى" (6/88).
وقال رحمه الله: (فصل في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن جميع الدين أصوله وفروعه؛ باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصامًا بهذا الأصل كان أولى بالحق علمًا وعملا).
"الفتاوى" (16/156،155).(1/60)
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الذي رواه أحمد وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وقائلٌ يقول: ألم يقل الله كذا؟ وآخر يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: «أبهذا أُمرتم؟ أم إلى هذا دُعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أُمرتم به فافعلوه، وما نُهيتم عنه فاتركوه»(1)، قال شيخ الإسلام: (فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين، أو الاشتباه والحيرة، والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق، فعلى الإنسان أن يصدّق بالحق الذي يقوله غيرُه، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آيةٍ استدل بها، ويردّ معنى آيةٍ استدل بها مُناظِرُه، ولا أن يقبل الحق من طائفةٍ، ويردُّه من طائفةٍ أخرى، ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ - وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:32-33]، فَذمَّ سبحانه من كَذَبَ أو كذَّبَ بحق، ولم يمدح إلا من صَدَقَ وصَدَّق بالحق، فلو صَدَقَ الإنسان فيما يقوله، ولم يُصدِّق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحًا، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدّق به، فأولئك هم المتقون). "درء التعارض" (8/404).
(
__________
(1) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواه ابن ماجه في المقدمة باب القدر ح(85)، وصححه العلامة الألباني صحيح ابن ماجه ح(69)(1/61)
وأنت تجد كثيرًا من المنتسبين إلى علم ودين لا يكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق، بل يحملهم الهوى والجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقًا، إما تكذيب نظيره، وإما تكذيب من ليس من طائفته، ونفس تكذيب الصادق هو من الكذب؛ ولهذا قرنه بالكاذب على الله، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر:32]، فكلاهما كاذب: هذا كاذب فيما يخبر به عن الله، وهذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله، والنصارى يكثر فيهم المفترون للكذب على الله، واليهود فيهم المكذِّبون بالحق). "منهاج السنة" (7/193.192).
فأحذر أخي المسلم المحب للسنة من هذه الصفة اليهودية الذميمة التي صاحبها من أظلم خلق الله وخذ الحق من كل من جاء به وليكن نظرك إلى الحق لا إلى الذي جاء به فإن الحق ضالة السني الصادق في تسننه.
واعلم أن أهل السنة لتمسكهم بالحق لا ينصرون باطلاً أبدًا، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالواجب إذا كان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل، ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدًا، فإن هذا محرم ومذموم، يُذم به صاحبه، ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف، كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك). "منهاج السنة" (2/343).
فائدة: قوة الإيمان بإرادة الحق والحرص عليه من أعظم أسباب معرفة الحق واتضاحه قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وفي الحديث الصحيح: «إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ»(1)،
__________
(1) ?من حديث حذيفة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال ح(2934)، ولفظه:
(...
مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب ).(1/62)
فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛ ولا سيما في الفتن... وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق، وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورًا على نور). "الفتاوى" (20/45-46).
إشكال وجوابه: إذا كان الحق لا يخرج عن أهل الحديث، فلم لم يذكر في أصول الفقه أن إجماعهم حجة؟.(1/63)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله - صلى الله عليه وسلم - في كلمة واحدة، والحق لا يخرج عنهم قط، وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول، وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع، فإنما يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل من خالف مذاهبهم في الشرائع العملية كان مخالفًا للسنة الثابتة، وكل من هؤلاء يوافقهم فيما خالف فيه الآخر، فأهل الأهواء معهم بمنزلة أهل الملل مع المسلمين؛ فإن أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل، كما قد بسط في موضعه، فإن قيل: فإذا كان الحق لا يخرج عن أهل الحديث، فلم لم يذكر في أصول الفقه أنه إجماعهم حجة، وذكر الخلاف في ذلك، كما تكلم على إجماع أهل المدينة وإجماع العترة؟، قيل: لأن أهل الحديث لا يتفقون إلا على ما جاء عن الله ورسوله وما هو منقول عن الصحابة، فيكون الاستدلال بالكتاب والسنة وبإجماع الصحابة مغنيًا عن دعوى إجماع ينازع في كونه حجة بعض الناس، وهذا بخلاف من يدّعي إجماع المتأخرين من أهل المدينة إجماعًا؛ فإنهم يذكرون ذلك في مسائل لا نص فيها، بل النص على خلافها، وكذلك المدَّعون إجماع العترة يدَّعون ذلك في مسائل لا نصّ معهم فيها، بل النص على خلافها، فاحتاج هؤلاء إلى دعوى ما يدّعونه من الإجماع الذي يزعمون أنه حجة، وأما أهل الحديث فالنصوص الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي عمدتهم، وعليها يجمعون إذا أجمعوا، لا سيما وأئمتهم يقولون: لا يكون قط إجماع صحيح على خلاف نصّ إلا ومع الإجماع نصّ ظاهر معلوم، يُعرف أنه معارض لذلك النص الآخر، فإذا كانوا لا يسوِّغون أن تُعَارض النصوص بما يدّعي من إجماع الأمة، لبطلان تعارض النص والإجماع عندهم، فكيف إذا عورضت النصوص بما يدّعي من إجماع العترة أو أهل المدينة؟!.(1/64)
وكل من سوى أهل السنة والحديث من الفرق فلا ينفرد عن أئمة الحديث بقول صحيح، بل لابد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق، وبسبب ذلك وقعت الشبهة، وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد، ولهذا سُمي أهل البدع أهل الشبهات، وقيل فيهم: إنهم يلبسون الحق بالباطل). "منهاج السنة" (5/167.166).
الباب الثامن
أهل السنة والجماعة هم أهل الاتباع التام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق)."الفتاوى" (3/279).
وفي (الحديث المشهور عنه - صلى الله عليه وسلم - في السنن وغيرها أنه قال - صلى الله عليه وسلم - : «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة»، قيل: يا رسول الله! ومن هي؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»(1)، وفي رواية: «هي الجماعة»(2)، وفي رواية: «يد الله على الجماعة»(3) فوصف الفرقة الناجية بأنهم المتمسكون بسنته، وأنهم هم الجماعة). "الفتاوى" (24/172).
(وإنما سُمَّوا أهل السنة لاتباعهم لسنته - صلى الله عليه وسلم - ). "منهاج السنة" (4/597).
__________
(1) سبق تخريجه رقم (5).
(2) 10) سبق تخريجه رقم (4).
(3) 11) رواه الإمام الترمذي في سننه ح(2166)، من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يد الله مع الجماعة ).قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، وقال الألباني: سنده صحيح. انظر "المشكاة" ح(173).(1/65)
فأهل السنة والجماعة: (...يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - على هدي كل أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة؛ وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين). "الفتاوى" (3/157).
و(الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيره إلا إذا اتّبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله، وإذا كان الصحابة، ثم أهل الحديث والسنة المحضة أولى بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغيّ، فالرافضة بالعكس). "المنهاج" (6/369.368).
فأهل السنة (لا ينتصرون إلا لقوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته واتبع لها، وأكثر سلف الأمة كذلك، لكن التفرّق والاختلاف كثير في المتأخرين، والذين رفع الله قدرهم في الأمة هو بما أحيوه من سنته ونصرته). "المنهاج" (5/182).
فـ(أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة؛ الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعًا لها، تصديقًا وعملا وحبًا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها). "الفتاوى" (3/347).
فـ(أهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ). "الفتاوى"(25/252).
((1/66)
وإذا كانت [سعادة الدنيا والآخرة] هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك: هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم لذلك، فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، فإنهم يشاركون سائر الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة، ويمتازون عنهم بما اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول؛ مما يجهله غيرهم أو يكذب به). "الفتاوى" (4/26).
(ومن المعلوم؛ أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول واتباعه، فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم، كما قال بعض السلف: أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل)."الفتاوى"(4/140).
إذا اتضح ذلك فـ(اعلم أن أولي الألباب هم سلف الأمة وأئمتها المتَّبعون لما جاء به الكتاب؛ بخلاف المختلفين في الكتاب، المخالفين للكتاب، الذين قيل فيهم {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]). "الصفدية" (1/65).
(فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين). "الفتاوى" (3/130).
فصل: في وجوب اتباع السنة.
(السنة مثال سفينة نوح: من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، قال الزهري(1): كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة). "الفتاوى" (22/306).
__________
(1) محمد بن مسلم بن عبيد الله، أبو بكر القرشي الزهري المدني نزيل الشام. تابعي جليل حافظ زمانه، إمام في الحديث . توفي رحمه الله سنة (124). انظر سير أعلام النبلاء (5/326-350)، والبداية والنهاية وفيات سنة (124).(1/67)
و(سبب ظهور البدع في كل أمة، هو خفاء سنن المرسلين فيهم، وبذلك يقع الهلاك، ولهذا كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، قال مالك رحمه الله: (السنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك)، وهذا حق، فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين، واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند الله، فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطنًا وظاهرًا، والمتخلف عن اتباع الرسالة، بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح عليه السلام وركوب السفينة معه)."الفتاوى" (4/137).
فـ(الذي نحن مأمورون به هو طاعة الله ورسوله، فعلينا أن نطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمرنا به، فإن الله قد ذكر طاعته في أكثر من ثلاثين موضعًا من كتابه، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقد أوجب السعادة لمن أطاعه بقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، وعلق السعادة والشقاوة بطاعته ومعصيته في قوله: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 0 وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[النساء:13-14]، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا»(1)،
__________
(1) 12) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس.
ح (1097). وقد ضعفه العلامة الألباني في ضعيف أبي داود. ح(238) , وفي خطبة الحاجة ص(13).
ب) بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي الخراساني، أبو علي، الإمام الثبت، المجاور بحرم الله . قال ابن كثير: ( أحد أئمة العُباد الزهاد، وهو أحد العلماء والأولياء ) . وله مواعظ وكلمات في الورع والزهد مشهورة حتى قال ابن المبارك:( إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه، فالفضيل ممن نفعه علمه). توفي رحمه الله سنة (187). انظر سير أعلام النبلاء(8/421-442)، والبداية والنهاية وفيات سنة (187) .(1/68)
وجميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وتقواه وخشيته وإلى طاعتهم، كما قال نوح عليه السلام: {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وقال كل من نوح والنبيين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:110]، وطاعة الرسول فيما أمرنا به هو الأصل الذي على كل مسلم أن يعتمده، وهو سبب السعادة، كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة). "الفتاوى" (22/321.320).
(فإن الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن نعبده بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لا نعبده بالأهواء والبدع). "الفتاوى" (23/94).
((1/69)
وقد قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، قال الفضيل بن عياض(1)رضي الله عنه: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه؟ وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وهذا الذي قاله الفضيل متفق عليه بين المسلمين، فإنه لابد له في العمل أن يكون مشروعًا مأمورًا به، وهو العمل الصالح، ولابد أن يقصد به وجه الله، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا)، ومنه قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]...). "الفتاوى" (22/188).(1/70)
ومن اتبع السنة فإن الله حسبه (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، فكل من اتبع الرسول فإن الله حسبه؛ أي كافيه وهاديه وناصره؛ أي كافيه كفايته وهدايته وناصره ورازقه). "الفتاوى" (28/34).ومن اتبع الكتاب والسنة فإن الله سيجعل له فرقانًا يفرق به بين الحق والباطل (فمن كان أعظم اتباعًا لكتابه الذي أنزله ونبيه الذي أرسله كان أعظم فرقانًا، ومن كان أبعد عن اتباع الكتاب والرسول كان أبعد عن الفرقان، واشتبه عليه الحق والباطل). "الفتاوى" (13/6).(فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر؛ ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم - صلى الله عليه وسلم - كذلك). "الفتاوى" (11/274).
(فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين). "الفتاوى" (11/632).
فصل: في أن التقليد السائغ لا يتنافى مع الاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم -(1/71)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة؛ والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد، إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له؛ فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد؛ فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز، وقد يكون الرجل قادرًا في بعض عاجزًا في بعض، لكن القدرة على الاجتهاد لا تكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب، فأما مسالة واحدة من فنٍّ فيبعد الاجتهاد فيها، والله سبحانه أعلم). "الفتاوى"(20/203-204)، وانظر (19/261-262) ، و (20/212) ، و (28/388).
واعلم أن تقليد العاجز عن الاجتهاد للسلف أولى من تقليده للخلف، لما لا يخفى من التفاوت الكبير بين السلف والخلف في العلوم والمعارف.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولا يخلو أمر الداعي من أمرين:الأول: أن يكون مجتهدًا أو مقلدًا، فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة، ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه.
الثاني: المقلد يقلد السلف؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها). "الفتاوى" (20/9).
وأما (إذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان). "الفتاوى"(20/208-209).
و(... التقليد في الفروع - دع الأصول - إنما يكون لمن كان عالماً بمدارك الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع)."التسعينية" (1/200).(1/72)
وإذا (كان الرجل مقلدًا فليكن مقلدًا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق). "الفتاوى" (20/293).( ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذي بعث به رسوله لقول أحد من الخلق ) الفتاوى (35/367)
فمن (كان عاجزًا عن معرفة حكم الله ورسوله وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود يثاب، لا يذم على ذلك ولا يعاقب)، "الفتاوى" (20/225).( فإن تبين له ما جاء به الرسول لم يجز له التقليد في خلافه باتفاق المسلمين) منهاج السنة (2/244).
إذن فالواجب على العاجز عن معرفة الحق بنفسه، أن يلتزم قول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، والاجتهاد الواجب عليه أن يتحرى في من يسأله ويستفتيه، فلا يسال إلا أهل العلم والتقى الذين يفتونه بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بالظن والهوى، والله أعلم.
فصل: في بيان التقليد الذي يتنافى مع الإتباع التام
لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وأنه ضربان
الأول: الاقتداء بشخص فيما يخالف فيه الشريعة.
(فإن علماء أهل السنة المعروفين بالعلم عند أهل السنة متفقون على أنه لا يُقتدى بأحد في معصية الله، ولا يُتخذ إمامًا في ذلك). "منهاج السنة" (4/111).(1/73)
و(قد ذم الله تعالى في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله، وهو: أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان؛ في سره وعلانيته، وفي جميع أحواله، وهذا من الإيمان قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وقال: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31]). "الفتاوى" (19/260-261).(ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه)."الفتاوى" (7/71).
(والمقصود هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع: أن يعارض قول الله ورسوله بما يخالف ذلك كائنًا من كان المخالف لذلك) "الفتاوى" (19/262).
الثاني: تقليد واحد من العلماء دون غيره من غير ضرورة.(1/74)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وليس على أحد من الناس أن يقلد رجلاً بعينه في كل ما يأمر به، وينهى عنه، ويستحبه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما زال المسلمون يستفتون علماء المسلمين فيقلدون تارة هذا، وتارة هذا، فإذا كان المقلد يقلد في مسألة يراها أصلح في دينه، أو القول بها أرجح، أو نحو ذلك، جاز هذا باتفاق جماهير علماء المسلمين، لم يحرم ذلك لا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد). "الفتاوى" (23/381).
(وليس في الكتاب والسنة فرق في الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص، فمالك والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، هؤلاء أئمة في زمانهم، وتقليد كل منهم كتقليد الآخر، لا يقول مسلم إنه يجوز تقليد هذا دون هذا). "الفتاوى" (23/398).
(وأما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقول فليس بصحيح؛ بل هذه المرتبة هي (مرتبة الرسول) التي لا تصلح إلا له {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65]). "الفتاوى" (35/121).
((1/75)
وإذا كان الرجل متبعًا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا عدالته بلا نزاع؛ بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه، دون قول الإمام الذي خالفه، فمن فعل هذا كان جاهلاً ضالا؛ بل قد يكون كافرًا؛ فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل؛ بل غاية ما يقال: أنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدًا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو، وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان، فهذا لا يقوله مسلم، ومن كان مواليًا للأئمة محبًا لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك، بل هذا أحسن حالا من غيره، ولا يقال لمثل هذا مذبذب على وجه الذم). "الفتاوى" (22/248-249).
((1/76)
ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم، ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلاً ظالمًا، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} إلى آخر السورة [الأحزاب:72-73]، وهذا أبو يوسف(1)ومحمد(2)
__________
(1) القاضي يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب أبي حنيفة، الإمام المجتهد،صحب أبا حنيفة(17)سنة ،وكان أبو حنيفة يقول عنه : إنه أعلم أصحابه . توفي رحمه الله سنة (182)انظر سير أعلام النبلاء (8/535-539)، والبداية والنهاية وفيات سنة (182) .
(2) بن الحسن بن فرقد الشيباني، أبو عبد الله الكوفي، صاحب أبي حنيفة، فقيه العراق ، قال الشافعي: ما رأيت حبراً سميناً مثله، ولا رأيت أخف روحاً منه ولا أفصح منه . توفي رحمه الله سنة (189).انظر سير أعلام النبلاء (9/134-136)، والبداية والنهاية وفيات سنة (189) ..(1/77)
أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما، لا يقال فيهما مذبذبان، بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم يتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب؛ فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان، فإذا تبين له من العلم ما كان خافيًا عليه اتبعه، وليس هذا مذبذبًا؛ بل هذا مهتد زاده الله هدى، وقد قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له). "الفتاوى" (22/252-253).
(وطريقة أهل الحديث والعلم لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين). "الفتاوى" (24/146).
وقال رحمه الله: (وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ، كما في القبلة، وأما إن قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبًا؛ لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مخطئًا؛ كان آثمًا). "الفتاوى" (7/72).
(وسئل رضي الله عنه: ما تقول السادة أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في رجل سئل إيش مذهبك؟ فقال: محمدي، اتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل له: ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبًا ومن لا مذهب له فهو شيطان! فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده رضي الله عنهم؟ فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبًا من هذه المذاهب، فأيهما المصيب؟ أفتونا مأجورين؟.(1/78)
فأجاب: الحمد لله، إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول، وهؤلاء أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، إنما تجب طاعتهم تبعًا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا، ثم قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله، فيفعل المأمور، ويترك المحظور، والله أعلم). "الفتاوى" (20/208-209).
وسئل شيخ الإسلام أن يشرح ما ذكره نجم الدين ابن حمدان: من ألتزم مذهبًا أُنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر؟.(1/79)
فأجاب: هذا يراد به شيئان: أحدهما : أن من التزم مذهبًا معينًا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه؛ ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله؛ فإنه يكون متبعًا لهواه، وعاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر، وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين، وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو حرامًا ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، ...وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول، إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر، وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز، بل يجب، وقد نص الإمام أحمد على ذلك، وما ذكره ابن حمدان: المراد به القسم الأول؛ ولهذا قال: من التزم مذهبًا أُنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر شرعي، فدل على أنه إذا خالفه لدليل فتبين له بالقول الراجح أو تقليد يسوغ له أن يقلد في خلافه؛ أو عذر شرعي أباح المحظور الذي يباح مثل ذلك العذر لم ينكر عليه. ...ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل: أن يلتزم مذهبًا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك: فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر؛ ولو كان ما انتقل إليه خيرًا مما انتقل عنه، وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوي، أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها...، وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني، مثل أن يتبين رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله: فهو مثاب على ذلك بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحدًا في مخالفة الله ورسوله). "الفتاوى" (20/220-226).(1/80)
فائدة: هناك شبهة يوردها بعض متعصبة المقلدة؛ وهي أنهم إذا وجدوا من خالف متبوعهم في مسألة ما لمرجح، قالوا: هل أنت أعلم أم العالم الفلاني؟!.
وقد أجاب عن ذلك شيخ الإسلام - رحمه الله - فقال: (وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا هذا، ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النِزاع؛ وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون اعلم في مواضع أُخر: فكذلك موارد النزاع بين الأئمة، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة(1)،
__________
(1) 13) جاء في البخاري: كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض، أو الموت، أو خاف العطش تيمم. ح(346). ومسلم كتاب الحيض: باب التيمم. ح(368)
قال شقيق وهو ابن سلمة: كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً. كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيم وإن لم يجد الماء شهراً، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة: { فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً } (المائدة: 6)، فقال عبد الله: لو رُخِّص لهم في هذه الآية، لأوشك إذا برد عليهم الماء، أن يتيمموا بالصعيد، فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد، كما تَمرَّغ الدابةُ، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه، فقال عبد الله: أولم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ وهذا لفظ مسلم.(1/81)
وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذه وهذه سواء»(1)، وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة - متعة الحج- فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء: أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبوبكر وعمر؟، وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر، فتبين لهم أن ابن عمر لم يرد ما يقولونه، فألحوا عليه فقال لهم: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس، ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في اتباعه بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده). "الفتاوى" (20/215-216).
الباب التاسع
أهل السنة الجماعة هم الذين لا يخرجون
عن الإجماع الثابت في المسائل العلمية والعملية
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فمذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة، وهو القول المطابق لصحيح المنقول وصريح المعقول)."منهاج السنة" (2/145).
(
__________
(1) 14) حديث: «هذه وهذه سواء»، رواه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب دية الأصابع
ح(6895)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، وأثر عمر - رضي الله عنه - ، رواه عبد الرزاق في مصنفه: كتاب العقول باب الأصابع، أثر (17697، 17706).(1/82)
ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدَّعيه من النص والإجماع، وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات، والاستدلال بها، بخلاف السنة والجماعة؛ فإن السنة تتضمن النص، والجماعة تتضمن الإجماع، فأهل السنة والجماعة هم المتِّبعون للنص والإجماع). "منهاج السنة" (6/466).
وأهل السنة (متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم). "منهاج السنة" (2/601).
وقال رحمه الله: (وأما أهل السنة فلا يتصور أنه يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة). "منهاج السنة" (3/406).
(فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة). "درء تعارض العقل والنقل"(1/272)، و"الفتاوى" (20/164).
وقال رحمه الله: (وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ). "درء تعارض العقل والنقل" (7/98).
(...فإنهم يمتنع أن يُجمعوا في الفروع على خطأ، فكيف في الأصول). "درء تعارض العقل والنقل" (7/109).
وقال رحمه الله: (... أما الاعتقاد: فلا يؤخذ عني، ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ،وما أجمع عليه سلف الأمة)."الفتاوى"(3/161).
و(...لا يعتمد أهل العلم والإيمان في مثل مسائل العلم والدين إلا على نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة). (24/377).
و(إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ، ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم، فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم، وإن كان الواحد منه يجوز عليه الخطأ؛ لكن إجماعهم معصوم من الخطأ). "الفتاوى" (18/49).(1/83)
يتضح من ما سبق نقله: أن الإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا تنازع أهل السنة في إجماع من بعدهم ولكن المختار أن الإجماع إذا ثبت يجب القول به ولا يجوز الخروج عنه , (فمبنى أحكام الدين على ثلاثة أقسام: الكتاب، والسنة، والإجماع...، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن أحد أن يخرج عن إجماعهم). "الفتاوى" (20/ 9- 10).
و(...الإجماع: هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزِنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما تعلق بالدين؛ والإجماع الذي ينضبط: هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة). "الفتاوى" (3/157).
(ومعرفة الإجماع قد يتعذر كثيرا أو غالبًا، فمن ذا الذي يحيط بأقوال المجتهدين) "الفتاوى" (19/201-202).
فإذا علمت ذلك، وعلمت أن أهل الحق والسنة لا يخرجون عن إجماع السلف -رحمهم الله- فاعلم أن من اعتقد أن السلف قد يجمعون على الخطأ والضلالة، فقد قال بقول أهل الإلحاد أبعدهم الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعوا على خلاف شريعته؛ بل هذا من أقوال أهل الإلحاد؛ ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده، كما يظن طائفة من الغالطين، بل كلما أجمع المسلمون عليه فلا يكون إلا موافقًا لما جاء به الرسول؛ لا مخالفًا له؛ بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة فمع الأمة النص الناسخ له؛ تحفظ الأمة النص الناسخ كما تحفظ النص المنسوخ، وحفظ الناسخ أهم عندها وأوجب عليها من حفظ المنسوخ). "الفتاوى" (33/32).
فصل: في أدلة الإجماع
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (إجماع الأمة حجة بالكتاب السنة والإجماع). "منهاج السنة" (7/397).(1/84)
فإذا أثبت أن الإجماع حجة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع فهذه بعض الأدلة التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله محتجًا بها على حجية الإجماع.
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].قال رحمه الله: (قوله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}، فإنهما متلازمان؛ كل من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطئ؛ فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ، وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول). "الفتاوى" (7/39.38).(1/85)
وقال رحمه الله: (وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، وكان عمر بن عبدالعزيز(1)يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرا قال: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ومعونة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.والشافعي رضي الله عنه لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع، كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر بن عبدالعزيز، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد، كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره.
__________
(1) ابن مروان بن الحكم، أبو حفص، القرشي الأموي، الخليفة العدل،الإمام الحافظ، العابد الزاهد، عَهِد له بالخلافة سليمان بن عبدالملك سنة (99)،قال ابن كثير ( كانت خلافته كما ذكر غير واحد أن خلافته كانت سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان حكماً مقسطاً، وإماماً عادلاً وورعاً ديناً، لا تأخذه في الله لومة لائم ). توفي رحمه الله سنة (101) انظر سير أعلام النبلاء (5/114-127)، والبداية والنهاية وفيات سنة (101).(1/86)
وهنا للناس ثلاثة أقوال: قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية، وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم، وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية، لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول، بل قد يكون مستلزمًا له، فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول، وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين، وهذا كما في طاعة الله والرسول فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم وهما متلازمان، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله)."الفتاوى"(19/179،178).(1/87)
وقال رحمه الله أيضًا: (والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}، ومن الناس من يقول: أنها لا تدل على مورد النِّزاع؛ فإن الذم فيه لمن جمع الأمرين وهذا لا نزاع فيه؛ أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول وهذا لا نزاع فيه؛ أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النِّزاع.(1/88)
وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقًا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم، ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية، والقول الوسط: أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى، وهو يدل عل ذم كل من هذا وهذا كما تقدم، لكن لا ينفى تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول، وحينئذ نقول: الذم إما أن يكون لاحقًا لمشاقة الرسول فقط؛ أو باتباع غير سبيلهم فقط؛ أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر؛ أو بكل منهما لكونه مستلزمًا للآخر، والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعًا لا فائدة فيه، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعًا؛ فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه؛ ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع، بقي القسم الآخر وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام، فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار، ومثله قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء:136]، فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرًا بالله، إذ كذب رسله وكتبه، وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرًا، وكذلك قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71]، ذمهم على الوصفين وكل منهما مقتض للذم وهما متلازمان؛(1/89)
ولهذا نهى عنهما جميعًا في قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق، فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضاً، فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم، فقد اتبع غير سبيلهم قطعاً، والآية توجب ذم ذلك، وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول، قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول؛ وهذا هو الصواب.فلا يوجد قط مسالة مجمع عليها إلا وفيها بيان الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص...(1/90)
فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصًا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم، وابن جرير(1)وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع). "الفتاوى" (19/192-196).
وقال رحمه الله: (قال العلماء: من لم يكن متبعًا سبيلهم كان متبعًا غير سبيلهم، فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب، فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه). "الفتاوى" (7/173).
الدليل الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، وقوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } الآية [آل عمران:103].
__________
(1) محمد بن جرير بن يزيد الطبري، صاحب التفسير المشهور، الإمام العلم المجتهد، قال الذهبي : كان ثقة، صادقاً، حافظاً، رأساً في التفسير، إماماً، في الفقه والإجماع والاختلاف، علاَّمة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة، وغير ذلك. توفي رحمه سنة (310) انظر سير أعلام النبلاء (4/267-282)، والبداية والنهاية وفيات (310).(1/91)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منا، وأمر إن تنازعنا في شيء أن نرده إلى الله والرسول، فدل هذا على أن كل ما تنازع المؤمنون فيه من شيء فعليهم أن يردوه إلى الله والرسول، والمعلق بالشرط يعدم عند عدم الشرط، فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يكن هذا الأمر ثابتًا، وكذلك إنما يكون لأنهم إذا لم يتنازعوا كانوا على هدى وطاعة لله ورسوله فلا يحتاجوا حينئذ أن يُأمروا بما هم فاعلون من طاعة الله والرسول، ودل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا بل اجتمعوا فإنهم لا يجتمعون على ضلالة، ولو كانوا قد يجتمعون على ضلالة لكانوا حينئذ أولى بوجوب الرد إلى الله والرسول منهم إذا تنازعوا، فقد يكون أحد الفريقين مطيعًا لله والرسول، فإذا كانوا مأمورين في هذا الحال بالرد إلى الله والرسول ليرجع إلى ذلك فريق منهم -خرج عن ذلك- فلأن يؤمروا بذلك إذا قدر خروجهم كلهم منه بطريق الأولى والأحرى أيضًا، فقد قال لهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]، فلما نهاهم عن التفرق مطلقًا دل ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم، وبيَّن أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم؛ ومما من به عليهم، فلم يكن ذلك(1/92)
اجتماعًا على باطل؛ لأن الله تعالى أعلم بجميع الأمور). "الفتاوى" (19/91-92).
الدليل الثالث: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وقوله تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [آل عمران:143].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...كان إجماع هذه الأمة حجة؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب؛ أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى؛ أو خلقه بباطل: لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف: من الكلم الطيب والعمل الصالح؛ بل الآية تقتضي أن مالم تأمر به الأمة فليس من المعروف، وما لم تنه عنه فليس من المنكر، وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر: فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف؟). "الفتاوى" (28/125).(1/93)
وقال رحمه الله: (وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة -ولله الحمد- على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، كما وصف نبيهم بذلك في قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ}[الأعراف:157]، وبذلك وصف المؤمنين في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]؛ فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ولم تنه عن المنكر فيه، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [آل عمران:143]، والوسط العدل الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول، وقد ثبت في "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: «وجبت وجبت»، ثم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا، فقال: «وجبت وجبت»، قالوا: يا رسول الله، ما قولك «وجبت وجبت»؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض»(1).
__________
(1) 15) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت. ح (1367) ومسلم كتاب: الجنائز، باب: فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى. ح(949).(1/94)
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض، بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا بحق). (19/176-178).
الدليل الرابع: وجود الطائفة المنصورة في الأمة، قال رحمه الله: (أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تجتمع على ضلالة، فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد؛ بخلاف أهل الكتاب)."الفتاوى"(14/92).
الدليل الخامس: قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية [آل عمران:104].
قال رحمه الله: (فجميع الأمة تقوم مقامه في الدعوة؛ فبهذا إجماعهم حجة). "الفتاوى" (20/8).
فصل: في وجوب اتباع الإجماع وحكم من خرج عنه
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فما ثبت عنه من السنة فعلنيا اتباعه؛ سواء قيل أنه من القرآن؛ ولم نفهمه نحن، أو قيل ليس في القرآن؛ كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون، والذين اتبعوهم بإحسان؛ فعلنا أن نتبعهم فيه؛ سواء قيل أنه كان منصوصًا في السنة ولم يبلغنا ذلك، أو قيل إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة). "الفتاوى" (5/163).
(فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها). "الفتاوى" (3/41).
(فمبنى أحكام الدين على ثلاثة أقسام: الكتاب؛ والسنة؛ والإجماع...، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن كثير من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعًا ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة). "الفتاوى" (20/9-10).(1/95)
فـ(الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله، وذلك في حقنا، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع، وأما مالم يجيء به الرسل عن الله؛ أو جاءت به ولكن ليس لنا طريق موصلة إلى العلم به ففيه الحق والباطل، فلهذا كانت الحجة الواجبة الاتباع: الكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه، واجب الاتباع لا يجوز تركه بحال، عام الوجوب لا يجوز ترك شيء مما دلت عليه هذه الأصول، وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه). "الفتاوى" (19/5).
فإذا اتضح من النقول السابقة، وجوب اتباع الإجماع؛ فإنه لابد أن يعلم، أن القائل بحجية الإجماع قائل بقول أهل السنة والجماعة، والمخالف لذلك قائل بقول أهل الأهواء والبدع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة). "الفتاوى" (19/117).
(ولا خير فيما خرج عن إجماعهم). "الفتاوى" (4/5).
(ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة، ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة والسنة والجماعة: عن أهل الباطل؛ الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب، ويعرضون عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وعما مضت عليه جماعة المسلمين). "الفتاوى" (3/368).
و(الإجماع وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وإما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبًا). "الفتاوى" (11/341).(1/96)
وأهل السنة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة، وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم). "المنهاج" (3/406).
(...ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية فضلاً عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق معارضة الكتاب والسنة والإجماع؛ فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة). "الفتاوى" (3/346.345).
(ومن خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يُعذر فيه، فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع). "الفتاوى" (24/172).
فائدة: متى يُكفَّر مخالف الإجماع؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به، وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره). "الفتاوى" (19/270).
(فكل مسالة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين؛ فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البين، وأما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به، فهنا قد لا يقطع أيضًا بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر؛ بل قد يكون ظن الإجماع خطأ، والصواب في خلاف هذا القول، وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع ومالا يكفر). "الفتاوى" (7/38-39).(1/97)
وقال رحمه الله: (...وليعلم أنه من خرج عن القانون النبوي الشرعي المحمدي الذي دل عليه الكتاب والسنة، واجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، احتاج إلى أن يضع قانونًا آخر متناقضًا يرده العقل والدين؛ لكن من كان مجتهدًا امتحن بطاعة الله ورسوله, فإن الله يثيبه على اجتهاده، ويغفر له خطأه {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]). "الفتاوى" (29/329).
فائدة أخرى: إجماع الأئمة الأربعة لا يعد إجماعًا.
قال رحمه الله: (وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم؛ فليس حجة لازمة ولا إجماعًا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم، أنهم نهوا الناس عن تقليدهم؟ وأمروا إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى من قولهم: أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب أو السنة ويدعوا أقوالهم؛ ولهذا كان الأكابر من أتباع الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب أو السنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك). "الفتاوى" (20/10-11).
الباب العاشر
أهل السنة والجماعة هم الذين
يفهمون الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ولا يخرجون عن فهمهم
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأما أهل الحديث والسنة والجماعة فقد اختصوا باتباعهم الكتاب والسنة الثابتة عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في الأصول والفروع، وما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )."منهاج السنة" (3/463).(1/98)
وقال رحمه الله: (فإذا كان وصف الفرقة الناجية: اتباع الصحابة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك شعار السنة والجماعة، فالسنة ما كان - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه عليه في عهده، مما أمرهم به أو أقرَّهم عليه أو فعله هو، والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فالذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعًا خارجون عن الجماعة قد برَّا الله نبيهم منهم، فعلم بذلك أن هذا وصف السنة والجماعة، لا وصف الرافضة، وأن هذا الحديث(1)وصَف الفرقة الناجية باتّباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه وبلزوم الجماعة). "منهاج السنة" (3/457-458).
وقال عن المذاهب الأربعة: (...فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة، بل هم -وسائر أهل السنة- متبعون للصحابة في أقوالهم، وإن قُدِّر أن بعض أهل السنة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم، فالباقون يوافقونهم ويثبتون خطأ من يخالفهم). "منهاج السنة" (3/409).
وقال رحمه الله: (...وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريقة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خير القرون وأفضل الأمة وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، فرضي عن السابقين الأولين رضًا مطلقًا، ورضي عن التابعين لهم بإحسان). "الفتاوى" (3/126).
__________
(1) أي : حديث الافتراق المشهور.(1/99)
فإذا اتضح ذلك فـ(لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًا، فإن كان موافقًا له باطنًا وظاهرًا، فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنًا وظاهرًا، وإن كان موافقًا له في الظاهر فقط دون الباطن، فهو بمنزلة المنافق، فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم). "الفتاوى" (4/149).
و(الخير كل الخير في اتباع السلف الصالح). "الفتاوى" (6/505).
وأهل السنة والجماعة لم يخرجوا عن فهم السلف لأنهم (لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ). "الفتاوى" (28/651).
ولذا سُئل شيخ الإسلام عن ما يجب على المسلم اعتقاده في القرآن؟ فأجاب: (الذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واتفق عليه سلف المؤمنين، الذين أثنى الله تعالى عليهم وعلى من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم). "الفتاوى" (12/235).
فصل: في بيان فضل السلف على الخلف
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير طباق الأمة). "الفتاوى" (24/329).(1/100)
وقال رحمه الله: (ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة -في الأعمال والأقوال، والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها-: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه(1)، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم؛ كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"(2)،
__________
(1) 16) روى ذلك جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - ، منهم عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهد. ح(2652) , ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ح(2533) , وعمران بن حصين - رضي الله عنه - ، البخاري كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . ح(3650) , ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة. ح(2535).
(2) 17) أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - ، رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله رقم(1810)، تحقيق الزهيري، ولفظه: ( من كان منكم متأسياً بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة... ) الأثر.
وأما اللفظ الذي ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله -، فقد رواه أبو نعيم في الحلية، عن ابن عمر - رضي الله عنه - (1/ 305، 306).(1/101)
وقال غيره: "عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه"، هذا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم»(1)، فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى؟ هذا لا يكون أبدًا وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا"). "الفتاوى" (4/158.157).
فالسلف رحمهم الله (كانوا أعرف الناس بالحق وأدلته، وبطلان ما يعارضه، وإنما يَظُن بهم التقصير في هذا من كان جاهلاً بحقيقة الحق، وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العلم والإيمان، وبما وصل إليه السلف والأئمة). "درء التعارض" (7/176).
(ومن ظنَّ أن الخلف أعلم بالحق وأدلته، أو المناظرة فيه من السلف، فهو بمنزلة من زعم أنهم أقوم بالعلم والجهاد وفتح البلاد منهم، وكلا الظنيين طريق من لم يعرف حقيقة الدين، ولا حال السلف السابقين، وهذا مثل كلام الرافضة وأمثالهم من أهل الفرية، الذين يتضمن قولهم التكذيب بالحق والتصديق بالباطل). "درء التعارض" (7/179).
(وقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن: خير قرون هذه الأمة القرن الذي بُعث فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأعظم الفضائل فضيلة العلم والإيمان، فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة، ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزًا عنها، بل كانوا كما قال عمر بن عبدالعزيز: "على كشف الأمور أقوى، وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى"). "درء تعارض العقل والنقل" (7/287).
(
__________
(1) 18) من حديث أنس - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الفتن، باب: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه.ح(7068).(1/102)
فإن السلف كانوا أعظم عقولاً، وأكثر فهومًا، وأحد أذهانًا، وألطف إدراكًا). "درء تعارض العقل والنقل" (7/287).
و(السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته، والجواب عمَّا يعارضه، وإن كانوا في ذلك درجات). "درء تعارض العقل والنقل" (7/172).
وقال رحمه الله: (إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح؛ لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: مثل عبدالله بن مسعود...). "الفتاوى" (13/364).
(وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك). "الفتاوى" (19/200).
وقال رحمه الله: (وأصحابه أعلم الناس بأمره وقَدْرِه، وأطوع الناس له). "الفتاوى" (27/88).
و(كانوا اعلم بما يحبه الله ويرضاه، وأسبق إلى طاعته ورضاه). "الفتاوى" (27/123).
وقال رحمه الله: (ثم هذا (الرسول) الأمي العربي بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علمًا، وانصح للأمة، وأبينهم للسنة). "الفتاوى" (6/361).
وقال رحمه الله: (القرون الثلاثة من هذه الأمة أعلم بني آدم علومًا ومعارف). "الفتاوى" (9/45).(1/103)
وبعد هذه النقولات العظيمة الموضحة لفضل السلف رحمهم الله لا يبقى أدنى شك في انحراف وضلال من يقدم أفهام الخلف على أفهام السلف ومن العجب أن ترى بعض من ينتسب إلى السلفية يقدم فهم بعض المتأخرين كابن حزم(1)
__________
(1) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، أبو محمد، الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي، الفقيه الظاهري، قال فيه شيخ الإسلام :(أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث، مثلما ذكره في مسائل (( القدر)) و (( والإرجاء )) ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في (( باب الصفات )) فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك، ... وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعني . وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفى الأمر والنهى والاشتقاق وكما نفي خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب. مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر. وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره..) الفتاوى (4/18-20) وقال فيه ابن كثير :( والعجب كل العجب منه، أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع، لا يقول بشي من القياس، لا الجلي ولا غيره، وهو الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرفه ، وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الأصول وآيات الصفات، وأحاديث الصفات، لأنه كان أولاً قد تضلع من علم المنطق.... ففسد بذلك حاله في باب الصفات ) توفي رحمه الله سنة ( 456) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء(18/184-212)،والبداية والنهاية وفيات سنة( 456) .(1/104)
- بل ومن هو دونه بمراحل- وغيره من فقهاء الظاهر - من غير دليل إلا الأخذ بالظاهر- على فهم بعض الصحابة بل على فهم بعض الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فهل هذا أيها القارئ اللبيب فهم هذا الأصل، فالله المستعان.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن معرفة مراد الرسول ومراد الصحابة هو أصل العلم، وينبوع الهدى). "الفتاوى" (5/413).
(فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين: انفتح له طريق الهدى). "الفتاوى" (5/118).
تنبيه: لا يفهم من هذه النقول عصمة أفهام أفراد السلف من الصحابة فمن بعدهم بل إذا عارض فهم الصحابي النصُّ الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتعبد يكون بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي مثل هذه الحالة لابد أن يوجد من الصحابة من قال بذلك النص مخالفاً لذلك الصحابي رضي الله عن الجميع فإنهم لا يجمعون على خلاف الحق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...فلم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف فلابد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه، وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن، وإن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين، وإن المتأخرين أكثر خطأ وأفحش، وهذا في جميع علوم الدين). "الفتاوى" (13/27).
(والمقصود؛ أن كثيرًا من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول؛ بخلاف السلف؛ فلهذا كان السلف أكمل علمًا وإيمانًا، وخطؤهم أخف؛ وصوابهم أكثر). "الفتاوى" (13/16).
فصل: في مكانة سنة الخلفاء الراشدين عند أهل السنة(1/105)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ثم من طريقة أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»(1)). "الفتاوى" (3/157).
(ففي هذا الحديث، أمر المسلمين باتباع سنته، وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها، ما خالف ذلك). "الفتاوى" (31/ 37).
(فسنة خلفائه الراشدين: هي مما أمر الله به ورسوله). "الفتاوى" (4/108).
(فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين فقد أطاع الله ورسوله). "الفتاوى" (24/209).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله معلقًا على حديث العرباض الذي فيه «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها؛ وعضوا عليها بالنواجذ...»: (فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء، وأمر بالاستمساك بها، وتحذير من المحدثات المخالفة لها، وهذا الأمر منه، والنهي: دليل بَيِّن في الوجوب، ثم اختص من ذلك قوله: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر، وعمر»(2)،
__________
(1) 19) من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب السنة، باب: في لزوم السنة. ح(4607).
والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة، واجتناب البدع. ح(2676) , وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين. ح(42) , وصححه الشيخ الألباني في الإرواء ح(2455).
(2) 20) من حديث حذيفة - رضي الله عنه - ، رواه الترمذي كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كليهما. ح(3662) , وابن ماجه في المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ح(97) , وصححه العلامة الألباني في الصحيحة ح(233) .
21) سبق تخريجه.(1/106)
فهذان أمر بالاقتداء بهما، والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم، وفي هذا تخصيص للشيخين من وجهين:
أحدها: أن (السنة) ما سنوه للناس، وأما (القدوة) فيدخل فيها الاقتداء بهما فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة.
الثاني: أن السنة أضافها إلى الخلفاء؛ لا إلى كل منهم، فقد يقال: إن ذلك فيما اتفقوا عليه؛ دون ما نفرد به بعضهم، وأما القدوة فعيَّن القدوة بهذا، وبهذا، وفي هذا الوجه نظر، ويستفاد من هذا، أن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبوبكر وعمر ودلت النصوص، وموافقة جمهور الأمة على رجحانه وكان سببه افتراق الأمة: لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه؛ إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء؛ وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء، والأموال، وعثمان رضي الله عنه غلب الرغبة، وتأول في الأموال، وعلي غلب الرهبة، وتأول في الدماء، و أبوبكر وعمر كمل زهدهما في المال، والرياسة، وعثمان كل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في المال). "الفتاوى" (35/22-23).
ويستفاد من الحديث السابق أن (الخلفاء الراشدين إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»(1)). "الفتاوى" (32/347).
((1/107)
وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء، وفي إجماع العترة(1)هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح أن كلاهما حجة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»، وهذا حديث صحيح في السنن، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(2)
__________
(1) قال شيخ الإسلام: ( العترة هم بنو هاشم كلهم : ولد العباس، وولد علي، وولد الحارث بن عبد المطلب، وسائر بني أبي طالب وغيرهم . وعلي وحده ليس هو العترة، وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ) منهاج السنة (7/395).
(2) 22) من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي - رضي الله عنه - . ح(2408), بلفظ: ( ... وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: ( وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي... ) واللفظ الذي ذكره شيخ الإسلام، رواه الترمذي , كتاب المناقب، باب: مناقب أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . ح(3788) , من حديث زيد بن أرقم أيضاً , وقال الترمذي: حديث حسن غريب. قال شيخ الإسلام : وقد سئل عنه أحمد فضعفه، وضعفه غير واحد من أهل العلم، وقالوا لا يصح .منهاج السنة (7/394-395).
وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع ح(2458). وقد جاء بنحو اللفظ الأخير من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ، رواه أحمد ح(21567)، (21644)، وصححه الألباني كذلك في صحيح الجامع ح(2457).
ومن حديث أبي سعيد الخدري، رواه أحمد ح(11088)، (11115)، وقال الألباني: وهو إسناد حسن في الشواهد، وانظر الصحيحة ح(1761).(1/108)
رواه الترمذي وحسنه، وفيه نظر، وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية في زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة(1). "الفتاوى" (28/493).
فإذا عُلم ذلك (فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسنة خلفائه الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه، إن أمكنه أن يفصل النِّزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم:23]). "الفتاوى" (12/235).
فصل: في الاحتجاج بأقوال الصحابة رضي الله عنهم
__________
(1) قال شيخ الإسلام :( والكلام إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة ، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها .) الفتاوى (20/300) وقد جعل رحمه الله إجماع أهل المدينة أربع مراتب انظرها غير مأمور في المصدر السابق ( 303-311) .(1/109)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أما أقوال الصحابة؛ فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء، وإن تنازعوا رد ما تنازعوا إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء، وأن قال بعضهم قولا ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر؛ فهذا فيه نزاع، وجمهور العلماء يحتجون به، كأبي حنيفة؛ ومالك؛ وأحمد في المشهور عنه؛ والشافعي في أحد قوليه، وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير موضع، ولكن من الناس من يقول: هذا هو القول القديم). "الفتاوى" (20/14).وقال رحمه الله: (بل عامة الأمة المجتهدين يصرِّحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة). "المنهاج" (3/406).وهذا شيخ الإسلام يصف تعظيم العلماء أتباع السلف لسلفهم رضي الله عنهم قائلاً : (وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس؟ واعتبر ذلك بأتباعهم، فإن كنت تشك في ذكاء مثل: مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد – وذكر رحمه الله عدداً من العلماء الذين لهم القدم الراسخة في العلم والعمل - وغيرهم من أمثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مُفرط في الجهل أو مكابر، فانظر خضوع هؤلاء للصّحابة، وتعظيمهم لعقلهم وعلمهم: حتى أنه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف الواحد من الصحابة، إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر، وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في "الرسالة": "إنهم فوقنا في كل عقل وعلم وفضل وسبب يُنال به علم، أو يدُرك به صواب، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا" أو كما قال رحمة الله عليه). بتصرف "درء تعارض العقل والنقل" (5/72-73).
فصل: في أن شعار أهل البدع (ترك انتحال اتباع السلف).(1/110)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالمقصود هنا: أن المشهورين من الطوائف -بين أهل السنة والجماعة- العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة: الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا الرفض، والسني في اصطلاحهم: من لا يكون رافضيًا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة، فعلم أن شعار أهل البدع: هو ترك انتحال اتباع السلف، ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ). "الفتاوى" (4/155).(1/111)
وقال رحمه الله مبينًا أن طريقة أهل البدع الإعراض عن الآثار السلفية (وقد عدلت "المرجئة" في هذا الأصل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم، وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: "أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"، ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا يعتمدون لا على السنة، ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث؛ وآثار السلف وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضًا؛ إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة، وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار؛ فلا يلتقون إليها، هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في إنكار هذا وجعله طريقة أهل البدع). "الفتاوى" (7/118-119).(1/112)
إذا فهمت ذلك، وعلمت أن سبب انحراف تلك الطوائف، هو مفارقة ه السلف والرغبة عن مذهبهم ، فأعلم أن (الصواب في جميع مسائل النِّزاع ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقولهم هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والعقل الصريح). "الفتاوى" (17/205). (واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلا), "الفتاوى" (5/28). (ولا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه، ولا يقفوا ما ليس له علم، ولا يقول على الله مالم يعلم، فإن الله تعالى قد حرّم ذلك كله). "الفتاوى"(1/335).(1/113)
ومن (اتبع السابقين الأولين كان منهم، وهم خير الناس بعد الأنبياء، فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد، كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»(1)،
__________
(1) 23) سبق تخريجه رقم (16)..(1/114)
ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرًا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله كالتفسير، وأصول الدين، وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم، وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم، ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به، لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك، من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف، فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها، فتارة يحكون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين؛ طائفة أو طائفتين أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف والأول كثير في "مسائل أصول الدين وفروعه" كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعًا ونزاعًا ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة؛ بل قد يكون قول السلف خارجًا عن أقوالهم، كما تجد ذلك في مسائل أقوال الله وأفعاله وصفاته؛ مثل مسالة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك، وهم إذا ذكروا إجماع(1/115)
المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع، فإنه لو لم أمكن العلم بإجماع المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به؛ لعدم علمهم بأقوال السلف، فكيف إذا كان المسلمون يتعذر القطع بإجماعهم في مسائل النِّزاع بخلاف السلف فإنه يمكن العلم بإجماعهم كثيرًا). "الفتاوى" (13/24-26)
فصل : في حال من عدل عن مذهب السلف الصالح
(و"في الجملة" من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا وإن كان مجتهدًا مغفورًا له خطؤه). "الفتاوى" (13/361).
(ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله مالا يعلم، أو غير الحق، وهذا مما حرمه الله ورسوله، وقال تعالى في الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]، وقال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف:169]). "الفتاوى" (7/288).
(ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات، وبالعلميات، علم أن مذهب الصحابة دائمًا أرجح من قول من بعدهم, وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله). "الفتاوى" (12/235).
(وإذا تأمل اللبيب الفاضل تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد، والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح والمنقول الصحيح، وأن من خالفه كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجًا عن موجب العقل والسمع، مخالفًا للفطرة والسمع، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة). "الفتاوى" (5/212-213).
الباب الحادي عشر
أهل السنة والجماعة متفقون على أن كل أحد يؤخذ
من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/116)
قال شيخ الإسلام رحمه الله:(اتفق أهل العلم -أهل الكتاب والسنة- على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يُسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم، فيقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ويقال: ما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيثَّبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: هو عبدالله ورسوله، جاءنا بالبينات والهدى فآمنّا به واتبعناه)(1). "منهاج السنة" (6/190-191).
(فأهل السنة متفقون على أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ). "منهاج السنة" (4/182).
(
__________
(1) 24) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود كتاب السنة، باب في المسألة في القبر، وعذاب القبر. ح(4753).وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود ح (3979).(1/117)
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به؛ بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به؛ بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردودًا، وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله، له أجر على اجتهاده، لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئًا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع). "الفتاوى" (11/208).
((1/118)
فليس عالم من المسلمين يشك في أن الواجب على الخلق طاعة الله ورسوله، وأن ما سواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها الله ورسوله، وفي الحقيقة فالواجب في الأصل إنما هو طاعة الله؛ لكن لا سبيل إلى العلم بمأموره وبخبره كله إلا من جهة الرسل، والمبلغ عنه إما مبلغ أمره وكلماته فتجب طاعته وتصديقه في جميع ما أمر وأخبر، وأما ما سوى ذلك فإنما يطاع في حال دون حال، كالأمراء الذين تجب طاعتهم في محل ولايتهم مالم يأمروا بمعصية الله، والعلماء الذين تجب طاعتهم على المستفتي والمأمور فيما أوجبوه عليه مبلغين عن الله، أو مجتهدين اجتهادًا تجب طاعتهم فيه على المقلد، ويدخل في ذلك مشايخ الدين ورؤساء الدنيا حيث أمر بطاعتهم، كاتباع أئمة الصلاة فيها، واتباع أئمة الحج فيه، واتباع أمراء الغزو فيه، واتباع الحكام في أحكامهم، واتباع المشايخ المهتدين في هديهم ونحو ذلك، والمقصود بهذا الأصل أن من نصب إمامًا فأوجب طاعته مطلقًا اعتقادًا أو حالا فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية، حيث جعلوا في كل وقت إمامًا معصومًا تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت، منهم من كان خليفة راشدًا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله ، وهو علي ، ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين.(1/119)
كعلي بن الحسين(1)؛ وأبي جعفر الباقر(2)؛ وجعفر بن محمد الصادق(3)، ومنهم دون ذلك)."الفتاوى" (19/69.68).
(
__________
(1) ابن الإمام علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، المشهور بزين العابدين، قال شيخ الإسلام :( أما علي بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً ) منهاج السنة (4/48)، وقال :( ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وأبنه جعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء، وأن من بعدهم من الإثني عشر لم يُعرف عنه من العلم ما عُرف من هؤلاء، ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم ) منهاج السنة( 2/473) توفي رحمه سنة (94) وانظر السير (4/386-400)، والبداية والنهاية وفيات (94).
(2) محمد بن علي زين العابدين،بن الحسين سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام، الهاشمي القرشي، قال شيخ الإسلام:( من خيار أهل العلم والدين. وقيل إنما سمي الباقر لأنه بَقَرَ العلم ، أو لأجل بقر السجود جبهته ) منهاج السنة ( 4/50)، قال ابن كثير : ( كان ذاكراً خاشعاً صابراً وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب عالي الحسب، وكان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء والعبرات معرضاً عن الجدال والخصومات ) . توفي رحمه الله سنة ( 114)، البداية والنهاية وفيات (114)وانظر سير أعلام النبلاء (4/401-409).
(3) جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط الهاشمي القرشي، أبو عبدالله، قال شيخ الإسلام :( من خيار أهل العلم والدين ... كُذب على جعفر الصادق أكثر مما كُذِب على من قبله، فالآفة وقعت من الكذَّابين عليه لا منه، ولهذا نُسب إليه أنواع من الأكاذيب، مثل كتاب (( البطاقة )) و (( الجَفر)) ... حتى أن كل من أراد أن يُنفق أكاذيبه نسبها إلى جعفر )) منهاج السنة ( 4/52-54) وانظر المنهاج (2/464/465)، (5/162-163)،(8/11)، وانظر سير أعلام النبلاء (6/255-270)(1/120)
وأما كثير من أتباع أئمة العلم ومشايخ الدين فحالهم وهواهم يضاهي حال من يوجب إتباع متبوعه، لكنه لا يقول ذلك بلسانه ولا يعتقده علما، فحاله يخالف اعتقاده، بمنزلة العصاة أهل الشهوات، وهؤلاء أصلح ممن يرى وجوب ذلك ويعتقده) "الفتاوى" (19/70)
فـ(كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يُحْكِموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما، ويُميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها، مع ما ينضم إلى ذلك،من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق)."الفتاوى" (3/378)
فصل: في أنه لا معصوم من هذه الأمة إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -
السبب في أن كل أحد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ من قوله ويترك عدم العصمة لأحد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإن أهل السنة عندهم لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ). "منهاج السنة"(7/83).
(ولا نزاع بين المسلمين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما بلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين، وكذلك الأمة أيضًا معصومة أن تجتمع على ضلالة؛ بخلاف ما سوى ذلك؛ ولهذا كان مذهب أئمة الدين أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنه الذي فرض الله على جميع الخلائق الإيمان به وطاعته، وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه، وهو الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر، وأهل الجنة وأهل النار، والهدى والضلال، والغي والرشاد، فالمؤمنون أهل الجنة وأهل الهدى والرشاد: هم متبعون، والكفار أهل النار، وأهل الغي، والضلال: هم الذين لم يتبعوه). "الفتاوى" (33/28).
(وأهل السنة... إنما يوجبون ما أوجب الله تعالى ورسوله، ويحرمون ما حرم الله ورسوله). "المنهاج" (4/597).
((1/121)
وأصل الدين: أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا مكروه إلا ما كرهه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا مستحب إلا ما أحبه الله ورسوله، فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا أنكر الله على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو شرعوه من الدين بغير إذن من الله). "الفتاوى" (29/345).
(وجميع ما تلقته الأمة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حق لا باطل فيه، وهدى لا ضلال فيه؛ ونور لا ظلمة فيه؛ وشفاء ونجاة). "الفتاوى" (19/8).
(والرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بالحق، وأقدر الناس على بيان الحق، وأنصح الخلق للخلق، وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد). "درء تعارض العقل والنقل" (1/23).
(وفي الجملة: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أكمل الله له ولأمته الدين، وأتم به - صلى الله عليه وسلم - النعمة، فمن جعل عملاً واجبًا ما لم يوجبه الله ورسوله، أو لم يكرهه الله ورسوله، فهو غالط، فجماع أئمة الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله، ومن خرج عن هذا وهذا فقد دخل في حرب من الله، فمن شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وحرم ما لم يحرم الله ورسوله، فهو من دين أهل الجاهلية، المخالفين لرسوله، الذين ذمهم الله في سورة الأنعام، والأعراف وغيرهما من السور، حيث شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فحرموا ما لم يحرمه الله، وأحلوا ما حرمه الله، فذمهم الله وعاقبهم على ذلك، فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله، أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، والاستحباب، والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا يؤخذ إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله...). "الفتاوى" (22/226-227).
((1/122)
والعبادة مبناها على السنة والاتباع، لا على الأهواء والابتداع، وإنما يعبد الله بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [ الشورى:21]). "الفتاوى" (27/86).
وبناءً على ما سبق لم يعط أهل السنة العصمة لأحد من هذه الأمة غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، ثم قال: (ولا يجعل أهل السنة قول واحد من هؤلاء وحده معصومًا يجب اتِّباعه، بل إذا تنازعوا في شيء ردّوه إلى الله والرسول). "منهاج السنة" (4/123).
(فمن أوجب طاعة أحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأمر به، وأوجب تصديقه في كل ما يخبر به، وأثبت عصمته أو حفظه في كل ما يأمر به ويخبر به من الدين، فقد جعل فيه من المكافأة لرسول الله والمضاهاة له في خصائص الرسالة بحسب ذلك، سواء جُعل ذلك المضاهي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة أو بعض القرابة أو بعض الأئمة والمشايخ أو الأمراء من الملوك وغيرهم). "جامع الرسائل" (1/273).
وقال: (أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقول فليس بصحيح؛ بل هذه المرتبة هي (مرتبة الرسول) التي لا تصلح إلا له، كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65]...). "الفتاوى" (35/121).
((1/123)
ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة، فإن المعصوم يجب اتّباعه في كل ما يقول، لا يجوز أن يخالف في شيء، وهذه خاصة الأنبياء، ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم، فقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، فأمرنا أن نقول: آمنا بما أوتي النبيون...، فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به، وهذا مما اتفق عليه المسلمون: أنه يجب الإيمان بكل نبي، ومن كفر بنبي واحد فهو كافر، ومن سبَّه وجب قتله باتفاق العلماء، وليس كذلك من سوى الأنبياء، سواء سمُّوا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك، فمن جعل بعد الرسول معصومًا يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة، وإن لم يعطه لفظها). "منهاج السنة" (6/187-188).
و(المقصود هنا ذكر العصمة، فقد أجمع جميع سلف المسلمين وأئمة الدين من جميع الطوائف أنه ليس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد معصوم ولا محفوظ لا من الذنوب ولا من الخطايا، بل من الناس من إذا أذنب استغفر وتاب، وإذا أخطأ تبين له الحق فرجع إليه، وليس هذا واجبًا لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل يجوز أن يمون أفضل الناس بعد الأنبياء وله ذنب يغفره الله، وقد خفي عليه من دقيق العلم ما لم يعرفه، ولهذا اتفقوا على أنه ما من الناس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم). "جامع الرسائل" (1/266).
فصل: في أن أقوال الناس
تبع للسنة فما وافقها فهو حق وما خالفها فهو باطل(1/124)
إذا علمت أخي المسلم أن كل من سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ من قوله ويترك، فاعلم أن أقوال العلماء -وإن بلغوا من الفضل والعلم ما بلغوا- يستدل لها، لا يستدل بها، وأن أقوالهم تبع لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فما وافق منها السنة قبل، لأنه موافق لشرع الله سبحانه وتعالى، لا لأنه قول فلان أو فلان وما خالف سنته رد وإن كان القائل أفضل الأمة بعد الرسل.
(وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه، إن لم يتبين من كلام الله ورسوله ما يدل على مراد الله ورسوله؛ وإلا فأقوال العلماء تابعة لقول الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ليس قول الله ورسوله تابعًا لأقوالهم). "الفتاوى"(7/35).(1/125)
فـ(إجماع (الفرقان) بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريقة السعادة النجاة، وطريق الشقاوة والهلاك، أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزله به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده، ولكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه، أو تكذيبه، فإنه يمسك فلا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول؛ لكن في أمور (دنيوية) مثل الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة). "الفتاوى" (13/135-136).(1/126)
إذن (فلا ينتصر لشخص انتصارًا مطلقًا عاما، إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا لطائفة انتصارًا مطلقًا عاما، إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا؛ فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجمعون على خطأ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ؛ فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلَّما إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم، ولابد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول، قبل وجود المتبوعين الذين تُنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلابد أن يكون قوله إن كان حقًّا مأخوذًا عمَّا جاء به الرسول، موجودًا فيمن قبله، وكل قول قيل في دين الإسلام، مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه، فإنه قول باطل). "منهاج السنة" (5/262-263).(1/127)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في حكاية مناظرة الواسطية: (...ولما رأى هذا الحاكم العدل: ممالأتهم، وتعصبهم، ورأى قلة العارف الناصر، وخافهم قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فنقول هذا اعتقاد أحمد، يعني الرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم، فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجيء به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد - صلى الله عليه وسلم - !!). "الفتاوى" (3/169)
وقال رحمه الله: (مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحدًا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي؛ ولا انتصرت لذلك؛ ولا أذكره في كلامي؛ ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها..). "الفتاوى" (3/129).
الباب الثاني عشر
أهل السنة والجماعة
لا يعارضون النصوص بما يناقضها من معقول أو قياس أورأي
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فأما معارضة القرآن بمعقول أو قياس فهذا لم يكن يستحله أحد من السلف، وإنما اُبتدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن بنوا أصول دينهم على ما سَمَّوه معقولاً وردُّوا القرآن إليه، وقالوا: إذا تعارض العقل والشرع إما أن يُفوض أو يُتأول). "الاستقامة" (1/30). (ومن المعلوم أن من أعظم المحارم معارضة كتاب الله بما يناقضه ويقدّم ذلك عليه)."درء تعارض العقل والنقل"(5/267).
((1/128)
ولم يكن في سلف الأمة وأئمتها من يرد أدلة الكتاب ولا السنة على شيء من مسائل الصفات ولا غيرها، بل ينكرون على أهل الكلام الذين يعدلون عمَّا دل عليه الكتاب والسنة إلى ما يناقض ذلك، ولا كانوا ينكرون المعقولات الصحيحة أصلاً ولا يدفعونها بل يحتجون بالمعقولات الصريحة كما أرشد إليها القرآن ودل عليها. فعامة المطالب الإلهية قد دل القرآن عليها بالأدلة العقلية والبراهين اليقينية). "الصفدية" (1/295).
فأهل السنة والجماعة (جعلوا الرسول الذي بعثه الله إلى الخلق هو إمامهم المعصوم، عنه يأخذون دينهم، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرّمه، والدين ما شرعه، وكل قول يخالف قوله فهو مردود عندهم، وإن كان الذي قاله من خيار المسلمين وأعلمهم، وهو مأجور فيه على اجتهاده، لكنهم لا يعارضون قول الله وقول رسول بشيء أصلا: لا نقل نُقل عن غيره، ولا رأي رآه غيره، ومن سواه من أهل العلم فإنما هم وسائط في التبليغ عنه: إما للفظ حديثه، وإما لمعناه، فقوم بَلَّغوا ما سمعوا منه من قرآن وحديث، وقوم تَفقّهوا في ذلك وعرفوا معناه، وما تنازعوا فيه ردّوه إلى الله والرسول). "منهاج السنة" (5/166.165).(1/129)
وأهل السنة والجماعة (من أعظم ما أنعم الله عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه، ولا بذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم...، فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به؛ ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل، والنقل -يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين- أما أن يفوض وإما أن يؤول...). "الفتاوى" (13/28-29).
((1/130)
فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه؛ بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة، وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة موافقة وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلاً، فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة، وأهل النفاق والبدعة، وإن كان هؤلاء لهم من الإيمان نصيب وافر من اتباع السنة، لكن فيهم من النفاق والبدعة بحسب ما تقدموا فيه بين يدي الله ورسوله، وخالفوا الله ورسوله، ثم إنْ لم يعلموا أن ذلك يخالف الرسول، ولو علموا لما قالوه لم يكونوا منافقين، بل ناقصي الإيمان مبتدعين، وخطؤهم مغفور لهم لا يعاقبون عليه وإن نقصوا به). "الفتاوى" (13/62-63).
فـ(المقصود هنا أن جعل القرآن إمامًا يؤتم به في أصول الدين وفروعه هو دين الإسلام، وهو طريقة الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، فلم يكن هؤلاء يقبلون من أحد قط أن يعارض القرآن بمعقول أو رأي يقدمه على القرآن). "الفتاوى" (16/471-472).
فصل: في واجب المسلم نحو النصوص الشرعية
((1/131)
فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علمًا يقينيًا؛ وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك مثل من كان سائرًا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها ولا يعرف منتهاها، وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك، وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة، فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول فيها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة، إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنًا من كان، فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور ما لا يحصيه إلا العليم بذات الصدور). "الفتاوى" (13/258-259).
(والمقصود هنا أنه ينبغي للمسلم أن يقدر كلام الله ورسوله؛ ....فإن كثيرًا من الناس يتأول النصوص المخالفة لقوله؛ يسلك مسلك من يجعل (التأويل)كأنه ذكر ما يحتمله اللفظ، وقصده بذلك دفع ذلك المحتج عليه بذلك النص وهذا خطأ؛ بل جميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصيين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول؛ فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه). "الفتاوى"(7/36-37
((1/132)
وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب فهو مخالف للشرع والعقل، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}[الأنعام:115])."الفتاوى"(7/435-436).(فقرر أن ما أخبر الله به فهو صدق، وما أمر به فهو عدل، وهذا يقرر أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدِّق به، لا نعرض عنه ولا نعارضه، ومن دفعه فإنه لم يصدق به، وإن قال: أنا أصدِّق الرسول تصديقًا مجملاً، فإن نفس الخبر الذي أخبر به الرسول، وعارضه هو بعقله ودفعه، لم يصدِّق به تصديقًا مفصَّلا، ولو صدق الرجل الرسول تصديقًا مجملا، ولم يصدِّقه تصديقًا مفصَّلاً، فيما علم أنه أخبر به، لم يكن مؤمنًا له، ولو أقرّ بلفظه مع إعراضه عن معناه الذي بيَّنه الرسول، أو صرفه إلى معانٍ لا يدل عليها مجرى الخطاب بفنون التحريف، بل لم يُرِدها الرسول، فهذا ليس بتصديق في الحقيقة، بل هو إلى التكذيب أقرب)."درء تعارض العقل والنقل" (5/222-223).
فصل: في خطورة معارضة النصوص بآراء الرجال
في هذا الفصل المهم تنبيه على أمر خطير، تفشى، وانتشر، وظهر ظهورًا واضحًا، وسار عليه المتعصبة لآراء الرجال من الأوائل، وأفراخهم الأواخر؛ ألا وهو معارضة السنة بأقوال الرجال!، ومعارضة السنة بأقوال الرجال مهما عظموا ومهما كانت منزلتهم في العلم والدين تعتبر من علامات أهل البدع الذين يعارضون الحق بآراء الرجال.
ولابد من مراعاة القواعد المستنبطة من النقول السابقة حتى لا يقع المسلم في حفر أهل البدع والضلال، فمن هذه القواعد أنه لا متبوع بحق إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن غيره إذا اتبع فيما يخالف النص المعلوم فقد اتبع بباطل.
ومنها: أنه لا معصوم عن الخطأ في تبليغ الشريعة إلا رسول الله ومن ادعى العصمة لغيره - إما بلسان الحال أو المقال- فهو ضال مبتدع.(1/133)
ومنها: أن كل واحد من العلماء يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يتبع في كل ما يقوله ويشرعه ومن أَعطى هذه المنزلة لغيره فقد نازع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نبوته.
(والبدع مشتقة من الكفر، فمن عارض الكتاب والسنة بآراء الرجال كان قوله مشتقًا من أقوال هؤلاء الضُلاَّل، كما قال مالك: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدل هذا). "الدرء" (1/191).
(وفي قوله تعالى: {يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:35]، بيان أنه لا يجوز أن يعارض كتاب الله بغير كتاب الله، لا بفعل أحد ولا أمره، ولا دولة ولا سياسة، فإنه حال الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم). "الفتاوى" (19/78). ).(ومن ترك النقل المصدق عن القائل المعصوم، واتبع نقلا غير مصدق عن قائل غير معصوم فقد ضل ضلالاً بعيدًا)."الفتاوى"(27/125).
(وأما من تبينت له السنة فظن أن غيرها خير منها فهو ضال مبتدع، بل كافر) "الفتاوى" (24/202). و(الطاعن في شيء من حكمه أو قسمه - صلى الله عليه وسلم - كالخوارج- طاعن في كتاب الله، مخالف لسنة رسول الله، مفارق لجماعة المسلمين). "الفتاوى"(19/88-89).
(وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول أحد من الناس، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسألة؟ فأجابه فيها بحديث، فقال له: قال أبوبكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبوبكر وعمر؟). "الفتاوى" (20/251).(1/134)
و(معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها، وهو من فعل المكذِّبين للرسل، بل هو جماع كلّ كفر، كما قال الشهرستاني(1)في أول كتابه المعروف بـ"الملل والنِّحل" ما معناه: أصل كل شر هو معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع. وهو كما قال، فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وبيَّن أن المتَّبعين لما أنزله هم أهل الهدى والفلاح، والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال... ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان: إما إنشاء وإما إخبار، والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة، فأصل السعادة تصديق خبره، وطاعة أمره، وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى، وهذا هو معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع، ولهذا كان ضلال من ضلَّ من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري، بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم، وضلال من ضل من أهل العبادة والفقه في النوع الطلبي، بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم، والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفار، كما قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]...،
__________
(1) أبو الفتح، محمد بن عبدالكريم بن أحمد، من متأخري أهل الكلام، صاحب كتاب الملل والنحل، وانظر في تقييم الكتاب منهاج السنة ( 6/ 300-307، 319-320، 326) . توفي رحمه الله سنة (548) انظر السير (20/286-288) .(1/135)
وهذا الأصل هو ما يُعلم بالضرورة من دين الرسل من حيث الجملة: يُعلم أن الله إذا أرسل رسولاً، فإنما يقول ما يناقض كلامه ويعارضه من هو كافر، فكيف بمن يقدِّم كلامه على كلام الرسول؟! وأما المؤمنون بما جاء به فلا يُتصور أن يُقدموا أقوالهم على قوله، بل قد أدّبهم الله بقوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، ولكن البدع مشتقة من الكفر، فلهذا كانت معارضة النصوص الثابتة عن الأنبياء بآراء الرجال هي من شعب الكفر، وإن كان المعارض لهذا بهذا يكون مؤمنًا بما جاء به الرسول في غير محل التعارض، وإذا كان أصل معارضة الكتب الإلهية بقول فلان وفلان من أصول الكفر، عُلم أن ذلك كله باطل، وهذا مما ينبغي للمؤمن تدبره). "درء تعارض العقل والنقل" (5/204-209).
(وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة المسلمين، كالأربعة، وغيرهم، أقوالاً باجتهادهم ؛ فهذه يسوغ القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقاً للشرع المُنَزَّل، فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقاً له، لكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإذا اتقى العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك، وغفر له خطأه، ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه، ولا يعيبه، ولا يعاقبه، ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله: لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق). "فتاوى" (35/ 366- 367).(1/136)
وإليك بعض النصوص التي توضح خطورة تقديم آراء الرجال على كلام الله وكلام رسوله وهي: (قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]، وقوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]، وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]، وقوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً - يَاوَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27-29]، وقوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ - وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:66-68]، هذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدًا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمامة والحكم والولاية والقضاء). "درء تعارض العقل والنقل" (5/317-318).(1/137)
وقال رحمه الله: (وقوله {إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر:3] أي مبغضك، والأبتر المقطوع النسل، الذي لا يولد له خير ولا عمل صالح فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح، قيل لأبي بكر بن عياش(1): إن بالمسجد قومًا يجلسون ويجلس إليهم، فقال: من جلس للناس، جلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون، ويحيى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من قوله {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وأهل البدعة شنؤا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكان لهم نصيب من قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ُ}، فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارًا لمذهبك، أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق، واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد فإن من يُطِيع أو يُطَاع إنما يطاع تبعًا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أُطِيع، فاعلم ذلك واسمع، وأطع، واتبع، ولا تبتدع، تكن أبتر مردودًا عليك عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع ولا خير في عامله). "الفتاوى" (16/528-529) .
__________
(1) ابن سالم الأسدي، مولاهم الكوفي الحناط، المقرئ ، الفقيه، المحدث ، قال فيه الإمام أحمد :( ثقة ربما غلط، صاحب قرآن وخير) توفي رحمه الله سنة (193). انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (8/495-508) . ج) الحسن بن أبي الحسن يسار ، أبو سعيد ، أحد التابعين الكبار، كان سيد أهل زمانه علماً وعملاً . توفي رحمه الله سنة ( 110) انظر سير أعلام النبلاء (4/563-588) ، والبداية والنهاية وفيات سنة (110) .(1/138)
وقد (قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31]، قال الحسن البصري(1)رحمه الله: ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليس من أولياء الله، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله)"الفتاوى"(11/163) .(1/139)
قال أبوعثمان النيسابوري(1): (من أمَّر السنة على نفسه -قولاً وفعلاً- نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه -قولاً وفعلاً- نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]). "الفتاوى" 014/241).(ومن وُجد من هذه الأمة محتاجًا إلى شيء غير ما جاء به الرسول فلضعف معرفته واتباعه لما جاء به الرسول، مثل كثير: منهم من يقول أنه يحتاج إلى الإسرائيليات وغيرها من أحوال أهل الكتاب، وآخرون منهم من يقول: أنهم محتاجون إلى حكمة فارس والروم والهند واليونان وغيرهم من الأمم، وآخرون يقولون: إنهم محتاجون إلى ذوقهم أو عقلهم أو رأيهم بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة، ولا تجد من يقول أنه محتاج إلى غير آثار الرسول إلا من هو ضعيف المعرفة والاتباع لآثاره، وإلا فمن قام بما جاء به الكتاب والسنة أشرف على علم الأولين والآخرين وأغناه الله بالنور الذي بعث به محمدًا عمَّا سواه). "الصفدية" (1/260). (وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عنده علم بذلك ولا عدل، بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم:23]، وذلك لأن ما أخبر به الرسول فهو حق باطنًا وظاهرًا، فلا يمكن أن يتصور أن يكون الحق في نقيضه، وحينئذ من اعتقد نقيضه كان اعتقاده باطلا، والاعتقاد الباطل لا يكون علمًا، وما أمر به الرسول فهو عدل لا ظلم فيه، فمن نهى عنه فقد نهى عن العدل، ومن أمر بضده فقد أمر بالظلم؛ فإن ضد العدل الظلم، فلا يكون ما يخالفه إلا جهلاً وظلمًا وظنًا وما تهوى الأنفس). "الفتاوى" (13/64).
فصل: أهل البدع هم الذين يعارضون النصوص بما يناقضها
__________
(1) سعيد بن إسماعيل بن سعيد النيسابوري، الحِيري، المحدث الواعظ ، توفي رحمه الله سنة (298) انظر سير أعلام النبلاء (14/62-66) والبداية والنهاية وفيات سنة (298) .(1/140)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك، لابد أن تشمل على لبس حق بباطل وكتمان حق، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعًا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نُزِعت حلاوة الحديث من قلبه، ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لابد له أن يلبس فيه حقًا بباطل). "درء التعارض" (1/221). (وقوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}[البقرة:24]، هما متلازمان، فإن من لبس الحق بالباطل فجعله ملبوسًا به، خفي من الحق بقدر ما ظهر من الباطل، فصار ملبوسًا، ومن كتم الحق احتاج أن يقيم موضعه باطلاً فيلبس الحق بالباطل، ولهذا كان كل من كتم من أهل الكتاب ما أنزل الله فلابد أن يظهر باطلا.وهكذا (أهل البدع) لا تجد أحدًا ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئًا من السنة، كما جاء في الحديث: «ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها»(1)
__________
(1) 25) رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث غُضَيْف بن الحارث الثُمَالي - رضي الله عنه - ح(16941)، ولفظه: ( ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة ) وفيه قصة. وضعفه العلامة الألباني في ضعيف الترغيب ح(37)، وضعيف الجامع ح(4983).
هـ) بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، زعيم الجهمية والمرجئة في عصره، قال فيه الذهبي :( نظر في الكلام، فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكَفَّره عِدة، ولم يدرك جهم بن صفوان، بل تلقف مقالته من أتباعه.) هلك سنة(218)انظر سير أعلام النبلاء (10/199-202)، والبداية والنهاية وفيات سنة(218) .(1/141)
رواه الإمام أحمد). "الفتاوى" (7/172-173)
(ولهذا تجد هؤلاء معرضين عن القرآن والحديث، فمنهم طوائف لا يقرءون القرآن، مثل كثير من الرافضة و الجهمية، لا تحفظ أئمتهم القرآن، وسواء حفظوه أو لم يحفظوه لا يطلبون الهدى منه، بل إما أن يعرضوا عن فهمه وتدبُره، كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة، وأمّا الحديث، فمنهم من لا يعرفه ولم يسمعه، وكثير منهم لا يصدِّق به، ثم إذا صدَّقوا به كان تحريفهم له وإعراضهم عنه، أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه، حتى أن منهم طوائف يقرّون بما أخبر به القرآن من الصفات، وأما الحديث إذا صدَّقوا به فهم لا يقرُّون بما أخبر به). "درء تعارض العقل والنقل" (5/227). (ولهذا تجد من تَعَّود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه الإيمان، بل يكون كما قال الأئمة: إن علماء الكلام زنادقة، وقالوا: قَلَّ أحدٌ نظر في الكلام إلا كان في قلبه غلُّ على أهل الإسلام؛ ومرادهم بأهل الكلام من تكلم في الله بما يخالف الكتاب والسنة). "درء تعارض العقل والنقل" (1/178).
((1/142)
وأصل العداوة البغض، كما أن أصل الولاية الحب، ومن المعلوم أنك لا تجد أحدًا ممن يردُّ نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كَشْطُ ذلك من المصحف لفعله،قال بعض السلف:ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه،وقيل عن بعض رؤوس الجهمية-إما بشر المرِّيسي(1)، أو غيره-: أنه قال: ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فأقِرُّوا به في الظاهر، ثم حرِّفوه بالتأويل، ويقال إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل، ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه، خلافًا لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه، كما قال: «ليبلغ الشاهد الغائب»(2)، وقال: «بلغوا عني ولو آية»(3)، وقال: «نضَّر الله امرأً سمع منا حديثًا فبلَّغه إلى من لم يسمعه، فربّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(4)،
__________
(2) 26) من حديث عبد الرحمن ابن أبي بكر عن أبيه - رضي الله عنهم - ، رواه البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (رب مبلغ أوعى من سامع ). ح(67). وجاء من حديث أبي شريح العدوي - رضي الله عنه - ، رواه مسلم: كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها. ح(1354).
(3) 27) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، رواه البخاري كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. ح(3461).
(4) 28) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم. ح(3660).
والترمذي كتاب العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع. ح(2656) , والنسائي في الكبرى، كتاب العلم، باب: 8- الحث على إبلاغ العلم. ح(5847) , قال أبو عيسى الترمذي: حديث زيد بن ثابت حديث حسن , وصححه العلامة الألباني في صحيح أبي داود. ح(3108).قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وجبير بن مطعم، وأبي الدرداء، وأنس.وانظر أحاديث بعضهم في صحيح الترغيب. ح(83- 86).(1/143)
وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله، لأنه معارض لما يقولونه، وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر: قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها، وتفلَّتت منهم أن يعوها، وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم، فذكر أنهم أعداء السنن، وبالجملة فكل من أبغض شيئًا من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك، وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك). "درء التعارض" (5/217-219). إذا علمت ذلك فاعلم (أن للضُلاَّل تشابهًا في شيئين: أحدهما الإعراض عمَّا جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والثاني معارضته بما يناقضه)."الدرء"(5/376).
الباب الثالث عشر
أهل السنة
هم أهل العدل والإنصاف
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (العدل وضع كل شيء في موضعه، كما أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه). "الاستقامة"(1/464).
والرجل (العدل هو الذي يخبر بالأمر على ما هو عليه، لا يزيد فيكون كاذبًا، ولا ينقص فيكون كاتمًا...، والقائم به قائم بالقسط وشاهد بالقسط، وصاحبه ذو عدل، ومن زاد فهو كاذب، ومن نقص فهو كاتم، ثم قد يكون عمدًا وقد يكون خطأ، فتدبر هذا فإنه عظيم نافع جدًا). "الفتاوى" (20/84).
(وقد قال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألاَّ يعدل على مؤمن، وإن كان ظالمًا له، فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا، فإن الشيطان موكَّل ببني آدم، وهو يعرض للجميع). "الاستقامة" (1/38).
((1/144)
وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم»(1)، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورًا له مرحومًا في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة؛ فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له؛ والتعدي عليه في حقه...). "الفتاوى" (28/146).
__________
(1) 29)من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي. ح (4902) , والترمذي: كتاب صفة القيامة باب (57) ح( 2511)، وابن ماجه:كتاب الزهد، باب البغي. ح(4211) , كلهم بلفظ: ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبة العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم).والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح أبي داود ح(4098)، وهو في الصحيحة ح(918).ورواه البيهقي بلفظ مقارب لما ذكره شيخ الإسلام عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً:( .... وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم... )، وهو في الصحيحة أيضاً ح(978).(1/145)
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله الرافضة ومعاونتهم للكفار على المسلمين، والخوارج وقتالهم للمسلمين ثم قال: (ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقًا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا مالا ينصف بعضنا بعضا. وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطَّاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض.) "منهاج السنة" (5/157-158).
فـ(العدل جماع الدين والحق والخير) "الاستقامة" (1/434) و(لا يعلم العدل والظلم إلا بالعلم فصار الدين كله العلم والعدل، وضد ذلك الظلم والجهل). "الفتاوى" (28/179).
إذا علمت ذلك فاعلم أن (أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال، دون البغي والاعتداء). "الفتاوى" (4/170). ... ... ...
فصل : أهل السنة لا يتكلمون في مخالفيهم إلا بعلم وعدل
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (معلوم أنَّا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم؛ فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرّم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس؟! فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه.(1/146)
والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته، والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه، وذم أهله وبغضهم...، العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو محبوب في النفوس، مركوز حبه في القلوب، تحبه القلوب وتحمده، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه، والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]). "منهاج السنة" (5/126-128).(1/147)
فـ(كان العدل أمرًا واجبًا في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرمًا في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا أو كان ظالمًا، بل الظالم إنما يباح أو يجب فيه العدل أيضًا، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} [المائدة:8] أي: لا يحملنكم شنآن، أي: بغض قوم -وهم الكفار- على عدم العدل: {قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وقال تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة:194]، وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وقد دل على هذا قوله في الحديث: «يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا»(1)، هذا خطاب لجميع العباد أن لا يظلم أحد أحدا، أمر العالم في الشريعة مبني على هذا، وهو العدل في الدماء والأموال؛ والأبضاع والأنساب؛ والأعراض). "الفتاوى" (18/166-167).
الأصل حماية الأعراض إلا لمصلحة دينية راجحة.
__________
(1) 30) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب: البر والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم. ح(2577).(1/148)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته»(1). فمن رمى أحدًا بما ليس فيه فقد بهته... ومن قال عن مجتهد: إنه تعمَّد الظلم وتعّمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة، ولم يكن كذلك فقد بهته، وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه، لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل، وما يُحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين ...ثم ذكر أمثلة للنصيحة، ثم قال: وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية؛ فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيًا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق)."منهاج السنة" (5/143-147).
__________
(1) 31) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم الغيبة. ح(2589).(1/149)
ولا يكون الإنسان عادلاً إلا بالعلم (ولما كان العدل لابد أن يتقدمه علم -إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل؟ والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه فصار عالمًا عادلاً- صار الناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف: العالم الجائر، والجاهل الظالم؛ فهذان من أهل النار، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة؛ ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار؛ ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار»(1)، فهذان القسمان كما قال: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار»(2).
__________
(1) 32) من حديث بريدة - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الأقضية: باب في القاضي يخطئ. ح(3573).والترمذي كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي. ح(1322).والنسائي في الكبرى كتاب القضاء باب ذكر ما أعد الله للحاكم الجاهل. ح(5922)، وابن ماجه، كتاب الأحكام باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق ح(2315).وصححه الألباني في صحيح أبي داود ح(3051)، وفي الإرواء ح(2614).
(2) 33) من حديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم ح (3652)، والترمذي كتاب التفسير باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه ح(2952)، والنسائي في الكبرى كتاب فضائل القرآن باب من قال في القرآن بغير علم ح(8086)، كلهم بلفظ: ( من قال في كتاب الله - عز وجل - برأيه فأصاب فقد أخطأ ). وضعفه العلامة الألباني في ضعيف أبي داود ح(789)، وضعيف الترمذي (571).
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً بلفظ: ( من قال في القرآن بغير علم ) وفي رواية ( برأيه فليبتبؤا مقعده من النار ) رواه الترمذي، كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه. ح(2950)، (2951)، والنسائي في الكبرى، كتاب فضائل القرآن، باب من قال في القرآن بغير علم ح(8084، 8085).
وضعفه العلامة الألباني في ضعيف الترمذي ح(569، 570).(1/150)
وكل من حكم بين اثنين فهو قاض، سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبًا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام، ولما كان الحكام مأمورين بالعدل والعلم وكان المفروض إنما هو بما يبلغه جهد الرجل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»(1). "الفتاوى" (18/169-170).
(فلا يحل للرجل أن يقفوا ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدًا بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما...
ثم القائل في ذلك بعلم لابد له من حسن النية، فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء، وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصًا له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله، من ورثة الأنبياء، خلفاء الرسل). "الفتاوى" (28/234-235).
والكلام في المخالف بعلم وعدل هو الذي عليه أهل السنة والجماعة خلافًا لأهل البدع، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع). "المنهاج" (4/337).
وقال رحمه الله تعالى: (وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم وعدل، ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء)."منهاج السنة" (2/71).
و(أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل، ويعطون كل ذي حق حقه)."منهاج السنة"(4/358).
(والله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم). "الفتاوى" (16/96).
__________
(1) 34) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - رواه البخاري، كتاب الاعتصام باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ح(7352) ومسلم , كتاب الأقضية, باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.ح(1716).(1/151)
فصل : أهل السنة والجماعة لا يتعاونون مع الكفار ضد المبتدعة كما يفعله بعض أهل الأهواء .
قال شيخ الإسلام: (ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرها من أهل البدع ما يقولون، لكن لا يعاونون الكفار على دينهم، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك؟ والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون). "منهاج السنة" (6/375).
فصل: ومن العدل
الدفاع عن المظلوم وإن كان مبتدعًا أو واقعًا في بدعة
قال - صلى الله عليه وسلم - : «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، فقال: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أرأيت إن كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: «تحجزه -أو تمنعه- من الظلم، فإن ذلك نصره». رواه البخاري من حديث أنس(1).
فالواجب على المسلم أن يكون ناصرًا للحق وأهله حيث ما كانوا، ولكن قد يقع بعض المنتسبين إلى السنة فضلاً عن غيرهم في الظلم مع المخالف، إما بالأحكام الجائرة، وإما بأن ينسبوا إلى المخالف ما هو بريء منه، فهنا تجب نصرتهم بحجزهم ومنعهم من الظلم. وليس معنى ذلك السكوت عن بدعة ذلك المخالف إن وجدت ولكن المقصود العدل والإنصاف الذي يحبه الله ويرضاه، والذي سار عليه علماؤنا وسلفنا الصالح رضي الله عنهم.
وإليك بعض الأمثلة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله:
__________
(1) 35) البخاري: كتاب المظالم، باب: أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً. ح(2443) (2444).(1/152)
1- الدفاع عن ابن كُلاَّب(1)عندما رُمي بما ليس فيه
قال رحمه الله: (ومن العجب أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينسبون المثبتين للصفات إلى قول النصارى، كما قد ذكر ذلك عنهم أحمد وغيره من العلماء وبهذا السبب وضعوا على ابن كُلاَّب حكاية راجت على بعض المنتسبين إلى السنة، فذكروها في مثالبه، وهو أنه كان له أخت نصرانية، وأنها هجرته لما أسلم، وأنه قال لها: أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم، فرضيت عنه لأجل ذلك، وهذه الحكاية إنما افتراها بعض الجهمية من المعتزلة ونحوهم، لأن ابن كلاب خالف هؤلاء في إثبات الصفات، وهم ينسبون مثبتة الصفات إلى مشابهة النصارى، وهم أشبه بالنصارى). "درء التعارض" (6/155).
__________
(1) أ ) أبو محمد، عبدالله بن سعيد بن كلاب، القطان البصري . قال الذهبي :( رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، وكان يلقب كُلاّباً لأنه كان يجر الخصم إلى نفسه ببيانه وبلاغته . وأصحابه هم الكُلاَّبِيَّة) وله مصنفات في الرد على الجهمية والمعتزلة وإن وافقهم في بعض أصولهم . انظر منهاج السنة (1/312).قال شيخ الإسلام : ( الكُلاَّبِيَّة وكذلك الكرامية فيهم قرب إلى أهل السنة والحديث، وإن كان في مقالة كل من الأقوال ما يخالف أهل السنة والحديث ) الفتاوى (6/55) . قال الذهبي ( ولم أقع بوفاة ابن كلاب، وقد كان باقياً قبل الأربعين ومئتين .انظر سير أعلام النبلاء (11/174-177).(1/153)
وذكر رحمه الله المعتزلة والجهمية ثم قال: (وكان ممن انتدب للرد عليهم أبومحمد عبدالله بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين، ومن قال: إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين -كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك- فهذا كذب عليه، وإنما افترى عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم؛ فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى، وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد في "الرد على الجهمية"، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية(1)، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن؛ ويستعينون بمثل هذا الكلام الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه، ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهو خير وأقرب إلى السنة منهم). "الفتاوى" (5/555). وانظر منهاج السنة(2/498-499).
2- الدفاع عن القاضي أبي يعلى(2)عندما رمي بما ليس فيه:
__________
(1) قال شيخ الإسلام : ( السالمية أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم هم في غالب أصولهم على قول أهل السنة والجماعة ) منهاج السنة (2/499). ( وفيهم تصوف وبدع ) الفتاوى ( 6/56) .
(2) ج ) محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي، الحنبلي، ابن الفرَّاء، قال الذهبي :( أفتى ودرَّس، وتخرج به الأصحاب، وانتهت إليه الإمامة في الفقه، وكان عالم العراق في زمانه، مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره ، والنظر في الأصول، وكان ذا عبادة وتهجد، وملازمة للتصنيف، مع الجلالة والمهابة، ولم تكن له يد طولى في معرفة الحديث، فربما احتج بالواهي ).توفي رحمه الله سنة (458)، انظر سير أعلام النبلاء (18/89-92)، والعبر وفيات (458)، والبداية والنهاية وفيات (458) .(1/154)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وقد صنَّف القاضي أبويعلى كتابه في "إبطال التأويل" ردًا لكتاب ابن فُورك(1)، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عيانًا ليلة المعراج ونحوه، وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، كحديث (قعود الرسول - صلى الله عليه وسلم - على العرش)، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول، وقد يُقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توقيفا، لكن لابد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود.
ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي(2)وغيره من أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لهذا الكتاب بكلام غليظ، وشنَّع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء، كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب.....................................
__________
(1) محمد بن الحسن الأصبهاني، أبو بكر، شيخ المتكلمين ، قال الذهبي :( كان أشعرياً، رأساً في فن الكلام )، توفي سنة (406) انظر سير أعلام النبلاء (17/214-216)، والعبر وفيات (406).
(2) هـ) رزق الله ابن الإمام أبي الفرج، عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي الحنبلي أبو محمد توفي سنة (488) سير أعلام النبلاء ( 18/609-616)، والبداية والنهاية وفيات (488).(1/155)
وما نقله عنه أبوبكر بن العربي(1)في "العواصم" كَذِبٌ عليه من مجهول لم يذكره أبوبكر، وهو من الكذب عليه(2)مع أن هؤلاء -وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه، ففي كلامه ما هو مردود نقلاً وتوجيهًا، وفي كلامه من التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري(3)،
__________
(1) و ) محمد بن عبدالله بن محمد الأندلسي الإشبيلي المالكي، الحافظ، صاحب التصانيف المفيدة الدالة على علمه وإمامته، وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها. توفي رحمه سنة(543)انظر سير أعلام النبلاء (20/197-203)، والعبر وفيات (546).
(2) يقول أبوبكر بن العربي في كتابه العواصم (2/283): (وأخبرني من أثق به من مشيختي أن أبا يعلى محمد من الحسين الفراء، رئيس الحنابلة ببغداد، كان يقول إذا ذكر الله تعالى وما ورد من هذه الظواهر في صفاته، يقول: "ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة".اهـ نقله الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله.
(3) ز ) أبو الحس علي بن إسماعيل، الأشعري اليماني البصري، يصل نسبه إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال شيخ الإسلام :( نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم ) الفتاوى ( 4/72)، وقال:( الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات) الفتاوى ( 4/19)، وقال :( وأما الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذا لأبي علي الجبائي، لكنه فارقه ورجع عن جمل مذهبه، وإن كان قد بقي عليه شئ من أصول مذهبه، لكنه خالفه في نفي الصفات، وسلك فيها طريقة ابن كلاب، وخالفهم في القدر ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام، وناقضهم في ذلك،....حتى مال في ذلك إلى قول جهم . وخالفهم في الوعيد ، وقال بمذهب الجماعة ، وأنتسب إلى مذهب أهل الحديث والسنة، كأحمد بن حنبل وأمثاله، وبهذا اشتهر عند الناس ..فالقْدر الذي يُحمد من مذهبه ، هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث، كالجمل الجامعة . وأما القْدر الذي يذمّ من مذهبه ، فهو ما وافق فيه بعض المخالفين للسنة والحديث، من المعتزلة والمرجئة الجهمية والقدرية ونحو ذلك. وأخذ مذهب أهل الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة، وعن طائفة ببغداد من أصحاب أحمد وغيرهم . وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث، وقال:( بكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب ). منهاج السنة (8/8-9) وانظر المنهاج ( 5/275-279)، والفتاوى (12/203-205)،و(16/308-309)، والمنهاج (2/227-229).توفي رحمه الله سنة(324) انظر سير أعلام النبلاء (15/85-90).(1/156)
والقاضي أبي بكر الباقلاني(1)، وأبي المعالي، وأمثالهم ممَّن يوافق النفاة على نفيهم، ويشارك أهل الإثبات على وجه، يقول الجمهور: إنه جمع بين النقيضين). "درء التعارض" (5/237-238).
3- الدفاع عن الكرامية(2)عندما نُسب إليهم بأنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة:
__________
(1) ح ) القاضي أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني، التكلم ، قال شيخ الإسلام :( هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده )الفتاوى (5/98)، قال الذهبي :(كان سيفاً على المعتزلة والرافضة= =والمُشَبِّهة ، وغالب قواعده على السنة )، وقال ابن كثير: ( رأس المتكلمين على مذهب الشافعي، وهو أكثر الناس كلاماً وتصنيفاً في الكلام ....ومن أحسن تصانيفه كتاب الرد على الباطنية، الذي سماه كشف الأسرار وهتك الأستار ). توفي رحمه الله سنة (403) انظر سير أعلام النبلاء (17/ 190-193)، والبداية والنهاية وفيات سنة(403).
(2) هم أتباع أبي عبد الله محمد بن كَرَّام السجستاني المتوفى سنة (255) قال الذهبي :( خُذِل حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها ) . قال شيخ الإسلام :( والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً؛ لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم ، وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة)الفتاوى (3/102-103)، وانظر الفتاوى (13/56). وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (11/523-524)، والبداية والنهاية وفيات سنة(255).(1/157)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمنًا في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنًا، ويقولون: الإيمان هو الكلمة، يقولون: أنه لا ينفع في الآخرة إلا الإيمان الباطن، وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلط عليهم؛ إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم بسبب شبهة المرجئة في أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل). "الفتاوى" (7/215-216).
الباب الرابع عشر
أهل السنة والجماعة يعتقدون أن التكفير والتفسيق حق لله تعالى، فلا يكفرون ولا يفسقون إلا من استحق ذلك الوصف، ليس لهم هوى في ذلك
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(كثير ما يكون أهل البدع، مع القدرة يُشْبِهُون الكفار في استحلال قتل المؤمنين وتكفيرهم، كما يفعله الخوارج والرافضة والمعتزلة والجهمية وفروعهم، لكن فيهم من يقاتل بطائفة ممتنعة كالخوارج والزيدية، ومنهم من يسعى في قتل المقدور عليه من مخالفيه، إما بسلطانه، وإما بحيلته، ومع العجز يشبهون المنافقين، يستعملون التقية والنفاق كحال المنافقين، وذلك لأن البدع مشتقة من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب، هم مع القدرة يحاربون المؤمنين، ومع العجز ينافقونهم، والمؤمن مشروع له، مع القدرة، أن يقيم دين الله -بحسب الإمكان- بالمحاربة وغيرها، ومع العجز يمسك عما عجز عنه من الانتصار، ويصبر على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة، بل يشرع له من المداراة ومن التكلم بما يُكرَه عليه ما جعل الله له فرجًا ومخرجًا.(1/158)
ولهذا كان أهل السنة مع أهل البدعة بالعكس، إذا قدروا عليهم لا يعتدون عليهم بالتكفير والقتل وغير ذلك، بل يستعملون معهم العدل الذي أمر الله به ورسوله، كما فعل عمر بن عبدالعزيز بالحرورية والقدرية، وإذا جاهدوهم، فكما جاهد علي رضي الله عنه الحرورية بعد الإعذار وإقامة الحجة، وعامة ماكانوا يستعملونه معهم الهجران والمنع من الأمور التي تظهر بسببها بدعتهم، مثل ترك مخاطبتهم ومجالستهم، لأن هذا هو الطريق إلى خمود بدعتهم، وإذا عجزوا عنهم لم ينافقوهم، بل يصبرون على الحق الذي بعث الله به نبيه، كما كان سلف المؤمنين يفعلون، وكما أمرهم الله في كتابه، حيث أمرهم بالصبر على الحق، وأمرهم أن لا يحملهم شنآن قوم على أن لا يعدلوا).اهـ "التسعينية" (2/698-701).
(فليس كل مخطئ ولا مبتدع، ولا جاهل ولا ضال، يكون كافرًا؛ بل ولا فاسقًا، بل ولا عاصيًا). "الفتاوى" (12/180).
وأهل السنة لا يكفرون الشخص بمجرد أن ذلك الشخص قد كفرهم (وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس، كأبي إسحاق الإسفراييني(1)ومن اتبعه، يقولون: لا يُكفَّر إلا من يُكفِّر. فإن التكفير ليس حقاً لهم، بل هو حق لله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل لو استكرهه رجل على اللواطة، لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى نبينا، لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفّروا أبا بكر و عمر فليس لنا أن نكفّر عليا). "منهاج السنة" (5/244-251).
__________
(1) إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني الأصولي الشافعي الأشعري، أحد المجتهدين في عصره، وما ذكره عنه شيخ الإسلام إحدى زلاته غفر الله له، توفي رحمه الله سنة (418). انظر سير أعلام النبلاء (17/353-356)، والبداية والنهاية وفيات سنة (418).(1/159)
فاتضح بهذا أن (أئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة؛ فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا...، فأعمالهم خالصة لله تعالى موافقة للسنة، وأعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صوابا، بل بدعة واتباع هوى، ولهذا يُسمَّونَ أهل البدع وأهل الأهواء، قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7]، قال أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أباعلي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فلهذا كان أهل السنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله. وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله). "الرد على البكري" (1/377-385).(1/160)
و(أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيًا، ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يكفّرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس. وأهل السنة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس). "منهاج السنة" (5/158).
فصل
في ضلال من كفَّر مخالفه من غير مراعاة للضوابط الشرعية
أو ابتدع بدعة وكفر مخالفه فيها.
قال شيخ الإسلام: (فإذا كفر مخالفه صار من أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، كما فعلت الخوارج وغيرهم). "الفتاوى"(16/433).
وقال شيخ الإسلام: (وفي الحنبلية أيضًا مبتدعة؛ وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر، وبدعتهم غالبًا في زيادة الإثبات في حق الله، وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره؛ لأن أحمد كان مثبتا لما جاءت به السنة؛ منكرًا على من خالفها، مصيبًا في غالب الأمور، مختلفًا عنه في البعض ومخالفًا في البعض، وأما بدعة غيرهم فقد تكون أشد من بدعة مبتدعهم في زيادة الإثبات والإنكار؛ وقد تكون في النفي، وهو الأغلب كالجهمية؛ والقدرية؛ والمرجئة، والرافضة. وأما زيادة الإنكار من غيرهم على المخالف من تكفير وتفسيق فكثير). "الفتاوى"(20/186-187).(1/161)
وقال شيخ الإسلام في رده على البكري: (...وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي طريقة أهل البدع؛ الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويكّفُرون من خالفهم في بدعتهم، كالخوارج المارقين الذين ابتدعوا ترك العمل بالسنة المخالفة في زعمهم للقرآن، وابتدعوا التكفير بالذنوب، وكفروا من خالفهم حتى كفروا عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومن والاهما من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين، نقل الأشعري في كتاب "المقالات" أن الخوارج مجمعة على تكفير علي رضي الله عنه وكذلك الرافضة ابتدعوا تفضيل علي على الثلاثة وتقديمه في الإمامة والنص عليه، وادعوا العصمة له، وكفروا من خالفهم، وهم جمهور الصحابة وجمهور المؤمنين حتى كفروا أبا بكر وعمر وعثمان ومن ولاهم، هذا الذي عليه أئمتهم.وذكر رحمه الله أن الجهمية والقدرية وغيرهم سلكوا هذا المسلك)."الرد على البكري"(1/377-385).
وقد اتضح بهذا أن أهل البدع (يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المجملة دينًا، يوالون عليه ويعادون، بل يُكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، ويقول: مسائل أصول الدين: المخطئ فيها يكفر، وتكون تلك المسائل مما ابتدعوا، ومعلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون، كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة ذمُهم والطعن عليهم، وهم إنما تأوّلوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه، وجعلوا من خالف ذلك كافرا، لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن، وجعل من خالفها كافرًا كان قوله شرَّا من قول الخوارج). "درء التعارض" (1/276).
?
شيخ الإسلام يحكي منهجه العملي في التعامل مع مخالفيه والمعتدين عليه.(1/162)
قال رحمه الله: (هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفير، أو تفسيق، أو افتراء أو عصبية جاهلية: فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله، وأفعله وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزل الله، وجعله هدى للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط} [آل عمران:120]). "الفتاوى" (3/245-246)
فصل: من قواعد أهل السنة والجماعة
في هذا الباب أنه ليس كل من يترك كلامه لخطأ أخطأه يُكَفَّر أو يُفَسَّق أو يُأَثَّم(1/163)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات؛ وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحظ؛ بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين؟: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أن الله تعالى قال قد فعلت»(1)). "الفتاوى" (35/100).
الباب الخامس عشر
أهل السنة والجماعة متفقون أن التكفير المطلق
لا يلزم منه تكفير المعين، وأن التفسيق المطلق
لا يلزم منه تفسيق المعين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:(وليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة). "الفتاوى" (12/466).
وقال رحمه الله: (التكفير العام -كالوعيد العام- يجب القول بإطلاقه وعمومه.
وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه). "الفتاوى" (12/498).
__________
(1)
36) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رواه مسلم، كتاب الإيمان باب بيان أنه - سبحانه وتعالى - لم يكلف إلا ما يطاق. ح(126).(1/164)
وقال - رحمه الله – في الخوارج والرافضة ونحوهم ممن وقع في بعض المكفرات: (وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً، وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع ؛ لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له). "الفتاوى" (28/500-501).(1/165)
وقال - رحمه الله -: (والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء، و تخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع؛ وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ مالا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد(1).
__________
(1) هم القائلون: بأن الله جل وعلا هو الوجود والوجود هو الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، و( حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شئ سواه البتة ) الفتاوى (2/140) ، قال شيخ الإسلام:( وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها : على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شئ من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شئ من ذاته . والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان ، وكان مما أنكروه عليهم، أنه كيف يكون في البطون، والحشوش، والأخلية؟ تعالى الله عن ذلك . فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون، والحشوش، والأخلية، والنجاسات والأقذار) الفتاوى (2/126)،(وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى) الفتاوى (2/172)، ( والمقصود هنا أن يقال : أما كون وجود الخالق هو وجود المخلوق؛ فهذا كفر صريح باتفاق أهل الإيمان، وهو من أبطل الباطل في بديهة عقل كل إنسان ) الفتاوى(2/26).(1/166)
والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون مُكَفِّراً كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول؛ فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته – كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر – ففي غير ذلك أولى وأحرى). "الفتاوى" (7/618-619).(1/167)
و (التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وتكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه، فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر (الجهمية) الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا، ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير ذلك، فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه أو حبسوه، ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قومًا معينين فأما أن(1/168)
يذكر عنه في المسالة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التفكير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفر بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم، والدليل على هذا الأصل: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار...). "الفتاوى"(12/487-489).
فاتضح مما سبق أنه (لا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعيّن، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه). "منهاج السنة" (5/240).
و(من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، وممن ممادح أهل العلم أنهم يخطِّئون ولا يكفِّرون، وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرًا، وقد يكون كفرًا لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق، والآخر لم يتبين له ذلك، فلا يلزم إذا كان هذا بحاله يَكفُر إذا قاله أن يكفُر من لم يعلم بحاله). "منهاج السنة" (5/251).(1/169)
وقال رحمه الله: (تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئًا من الدين يُكفر، ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر، وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحًا على ما فهموه من آية المائدة؛ اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا(1) فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق، فإن أصروا على الجحود كفروا، وقد ثبت في "الصحيحين" حديث الذي قال لأهله: «إذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، فأمر الله البَّر فرد ما أخذ، وأمر البحر فرد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟، فقال: خشيتك يا رب، فغفر له»(2)،
__________
(1) 37) قصة شرب قدامة - رضي الله عنه - الخمر متأولاً، وجلد عمر - رضي الله عنه - له , رواها عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الأشربة، باب من حُدَّ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . رقم(17076) , والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الأشربة، باب من وُجِد منه ريح شراب، أو لُقِي سكران (8/ 315- 316).
(2) 38) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (54). ح(3481) , ومسلم كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه. ح(2756).
وجاء بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، رواه البخاري ح(3478)، ومسلم ح(2757).
ب) هم الذين يقولون أن الله جل وعلا بذاته في كل مكان تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، قال شيخ الإسلام: ( الحلول العام هو القول الذي ذكره أئمة السنة والحديث، عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية، الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان ) الفتاوى (2/172)،( والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان، وكان مما أنكروه عليهم: أنه كيف يكون في البطون، والحشوش، والأخلية؟ تعالى الله عن ذلك ) الفتاوى (2/126).(1/170)
فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبين له الحق فغفر له.
ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية(1)والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور في معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، فكان هذا خطابنا...). "الرد على البكري" (1/377-385).(1/171)
وقال رحمه الله بعد ذكره لمسألة العلو لله تعالى: (...نعم وقوع الغلط في مثل هذا يوجب ما نقوله دائمًا: إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق، فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير، فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر، كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية، مثل القول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق، وأنه فوق العرش، فإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإن التكفير المطلق، مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعَّين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفِّر تاركها، كما ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي قال: «إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذرُّوني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له»(1) فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته.
فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد، من أهل الإيمان بالله ورسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذّبه إن كان منه تفريط في اتّباع الحق على قدر دينه.
__________
(1) 39) سبق تخريجه .(1/172)
وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم،فقد ثبت في"الصحيح" عن ثابت بن الضحاك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمنًا بالكفر فهو كقتله»(1)، وثبت في الصحيح أن «من قال لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما»(2)، وإذا كان تكفير المعَّين على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ فإن ذلك أعظم من قتله). "الاستقامة" (1/163-166).
وشيخ الإسلام قد سار على هذا المنهج مع مخالفيه فقال رحمه الله: (...هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية؛ إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.
__________
(1) 40) رواه البخاري كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن ح(6047، 6105). ورواه مسلم، وليس فيه: ( ومن رمى مؤمناً بالكفر فهو كقتله )، كتاب الإيمان، باب غلط تحريم قتل الإنسان نفسه... ح(110)، والله أعلم.
(2) 41) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، رواه البخاري كتاب الأدب, باب من أكفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال ح(6104) , ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر. ح(60).(1/173)
وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية كما أنكر شريح(1)قراءة من قرأ {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} وقال: إن الله لا يعجب؛ فبلغ ذلك إبراهيم النخعي(2)فقال إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبدالله أعلم منه وكان يقرأ (بَلْ عَجِبْتُ).
وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه، وقالت: (من زعم أن محمدً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)(3)، ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها: إنه مفتر على الله، وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك.
وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال، مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعًا مؤمنتان؛ وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن القاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق.
__________
(1) ابن الحارث بن قيس الكندي ، أبو أمية ، قاضي الكوفة ، تولى القضاء لعمر وعثمان وعلى ومعاوية رضي الله عنهم ، توفي سنة (78) انظر سير أعلام النبلاء (4/100-106)،والبداية والنهاية وفيات سنة(78).
(2) إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي اليماني ثم الكوفي، أبو عمران، فقيه العراق، قال الإمام أحمد : كان إبراهيم ذكيّاً، حافظاً، صاحب سنة )توفي رحمه الله سنة (95أو96). انظر سير أعلام النبلاء(4/520-529).
(3) 42) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب:1 ح(4855) , وكتاب التوحيد، باب قوله تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً } ح(7380) , ومسلم كتاب: الإيمان، باب: معنى قول الله - عز وجل - : { ولقد رآه نزلة أخرى }، وهل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء؟ ح(177).(1/174)
وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضًا حق؛ لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة (الوعيد) فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية [النساء:10]، وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا فله كذا فإن هذه مطلقة عامة.
وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا: فهو كذا، ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه: بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفره، أو شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها؛ وإن كان مخطئًا...). "الفتاوى" (3/229-231).
وقال شيخ الإسلام: (وليس كل مخطئ ولا مبتدع، أو جاهل، أو ضال، يكون كافرًا، بل ولا فاسقًا، بل ولا عاصيًا). "الفتاوى" (12/180)، وانظر "الفتاوى" (35/165).
فصل : في أن من موانع التكفير و التفسيق
التأوُّل والجهل والاجتهاد
(من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لابد منه، ويكفِّرون من خالفهم فيها ويستحلُّون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم، وأهل السنة لا يبتدعون قولاً ولا يكفِّرون من اجتهد فأخطأ وإن كان مخالفًا لهم، مكفرًا لهم، مستحلاً لدمائهم، كما لم تكفِّر الصحابة الخوارج، مع تكفيرهم لعثمان وعليّ ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم). "منهاج السنة" (5/95).(1/175)
وقال رحمه الله: (المتأوِّل الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويكفّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من اتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك؛ فمنهم من يكفّر أهل البدع مطلقا، ثم يجعل كل من خرج عمّا هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفّر كل مبتدع، بل النقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليُحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع ). "منهاج السنة" (5/239-240).
وقال رحمه الله: (ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.(1/176)
والخوارج المارقون الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين أشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه). "الفتاوى" (3/282-283).
وقال رحمه الله: (فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيرً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع.
وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقًا بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن، لم يكن كافرًا في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائنًا ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار.(1/177)
ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضًا ببعض المقالات). "الفتاوى" (7/217-218)، وانظر (7/472).
(ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك، فإن هذا عظيم لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها؛ بل تكون بدعة المكفرة أغلط أو نحوها، أو دونها، وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضًا، فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر، كفر هؤلاء وهؤلاء، وإن قدر أنه لم يكفر لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء، فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى ولا تكفر طائفتها، هو من الجهل والظلم وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
والثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولاً أخطأ فيه، فإن الله سبحانه قال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقره:286]، وثبت في الصحيح أن الله قال: «قد فعلت»، وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5]، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان» وهو حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره(1).
__________
(1) 43) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - ، رواه ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي. ح(2043).
ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رواه ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي. ح(2045). وقال العلامة الألباني - رحمه الله -: وهو حديث صحيح لطرقه، وقد خرجتها في إرواء الغليل. اهـ. المشكاة ح(6284)، وانظر الإرواء ح(82).(1/178)
وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفًا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع). "الفتاوى" (7/684-685).
وقال رحمه الله: (وأما التكفير: فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقصد الحق، فأخطأ: لم يكفر؛ بل يغفر له خطأه، ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر، ومن اتبع هواه، وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم: فهو عاصٍ مذنب، ثم قد يكون فاسقًا، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته). "الفتاوى" (12/180).
الباب السادس عشر
أهل السنة والجماعة لا يجزمون لمعين من
أهل القبلة بجنة أو نار إلا من جزم له الشارع بذلك
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى؛ كما نطق به القرآن، وإنما توقفوا في شخص معين؛ لعدم العلم بدخوله في المتقين)."الفتاوى"(20/166).(1/179)
ومما يزيد هذا وضوحًا ما نقله رحمه الله عن أهل السنة أنهم (...يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح، وأدى الواجبات، وترك المحرّمات يدخل الجنة، فهذا اعتقاد أهل السنة؛ فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتّقى الله، كما نطق القرآن، وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتقين، فإنه إذا عُلم أنه مات على التقوى عُلم أنه من أهل الجنة، ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان...، والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم، وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين الذي هم شهداء الله في الأرض، كما في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا فقال: «وجبت، وجبت»، ومُرّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًّا، فقال: «وجبت، وجبت»، فقالوا: يا رسول الله ما قولك: «وجبت وجبت»؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض»(1)، وفي المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار»، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن، والثناء السيئ»(2).
__________
(1) 44) سبق تخريجه رقم (15) .
(2) 45) من حديث أبي زهير الثقفي - رضي الله عنه - ، رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: الثناء الحسن. ح(4221).
وهو في صحيح ابن ماجه ح(3419).(1/180)
وقد يكون سبب ذلك تواطؤ رؤيا المؤمنين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها الرجل المؤمن الصالح أو تُرى له»(1)، وسُئل عن قوله تعالى: {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64]، قال: «هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له»(2)، وقد فسرها أيضًا بثناء المؤمنين، فقيل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه، فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن»(3)،
__________
(1) 46) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. ح(479) , ورواه البخاري بنحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، كتاب التعبير، باب: المبشرات. ح(6990).
(2) 47) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، رواه الترمذي كتاب الرؤيا، باب قوله: { لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا } ح(2273). وابن ماجه، كتاب تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له. ح (3898) , والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح ابن ماجه"ح(3160)، وانظر الصحيحة ح(1786).
(3) 48) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب البر والصلة، والآداب، باب: إذا أثني على الصالح فهي بشرى، ولا تضره. ح(2642).(1/181)
والرؤيا قد تكون من الله، وقد تكون من حديث النفس، وقد تكون من الشيطان، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على أمر كان حقًّا، كما إذا تواطأت رواياتهم أو رأيهم، فإن الواحد قد يغلط أو يكذب، وقد يخطئ في الرأي، أو يتعمد الباطل، فإذا اجتمعوا لم يجتمعوا على ضلالة، وإذا تواترت الروايات أورثت العلم وكذلك الرؤيا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر، فمن كان منكم متحريها، فليتحرها في السبع الأواخر»(1). "منهاج السنة" (3/496-500).
وهذا الاعتقاد عند أهل السنة رحمهم الله ناتج عن علم واتباع لا عن هوى وظن وابتداع، قال شيخ الإسلام: (أهل السنة يشهدون بالنجاة: إما مطلقًا، وإما معينا، شهادة مستندة إلى علم). "منهاج السنة" (3/502).
و(لهذا لا يشهد لمعين بالجنة إلا بدليل خاص، ولا يشهد على معين بالنار إلا بدليل خاص؛ ولا يشهد لهم بمجرد الظن من إنذار جهنم في العموم). "الفتاوى" (35/68).
وقال رحمه الله: (وأما صاحب الكبيرة فسلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة لا يشهدون له بالنار، بل يجوزون أن الله يغفر له). "الفتاوى" (4/475).
وقال رحمه الله في مناظرة الواسطية: (وكان مجموع ما اعترض به المنازعون، والمعاندون بعد انقضاء قراءة جميعها، والبحث فيها عن أربعة أسئلة:
__________
(1) 49) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ، رواه البخاري كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر. ح(2015) , ومسلم، كتاب الصيام،باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، وبيان محلها، وأرجى أوقاتها. ح(1165).(1/182)
الأول: قولنا ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، قالوا: فإذا قيل إن هذا من أصول الفرقة الناجية، خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك: مثل أصحابنا المتكلمين، الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين: لزم أن يكونوا هالكين............
فأجبتهم عن الأسئلة، بأن قولي اعتقاد الفرقة الناجية هي الفرقة التي وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجاة، حيث قال: «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»(1).
فهذا الاعتقاد: هو المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك، ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحوا الله به سيئاته؛ وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول، والقانت، وذو الحسنات الماحية، والمغفور له وغير ذلك: فهذا أولى؛ بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيًا، وقد لا يكون ناجيًا، كما يقال من صمت نجا). "الفتاوى" (3/179.177).
__________
(1) 50) سبق تخريجه رقم (5).(1/183)
وليس قوله: «اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة» بأعظم من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:30]، وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار.
ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب، أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفّر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم، بل المؤمن بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي قصد اتّباع الحق وما جاء به الرسول، إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب؛ فإن هذا عاصٍ مستحق للعذاب بلا ريب، وأما ذلك فليس متعمدًا للذنب بل هو مخطئ، والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان). "منهاج السنة" (5/248-250).
واعلم أخي المحب للحق أن الشهادة لمعين بجنة أو نار من غير برهان شرعي يعتبر من أقوال أهل البدع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات، وحسناتهم عظيمة، وسيئاتهم عظيمة، فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل، وإما ظالم، وهؤلاء لهم ما لسائر المسلمين، منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته، ومنهم من قد تاب من سيئاته ومنهم من كفر الله عنه، ومنهم من قد يدخله الجنة، ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته، ومنهم من قد يتقبل الله فيه شفاعة نبي أو غيره من الشفعاء، فالشهادة لواحد من هؤلاء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلال). "الفتاوى" (4/473).
فإذا علمت ذلك ووعاه قلبك فاعلم أن المسلم لا يكون من أهل التقوى الموعودين بدخول الجنة دخولاً أوليًا -بفضل الله ورحمته- حتى يستقيم على الإسلام المحض الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهو السنة والجماعة.(1/184)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...فطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي مدارة السعادة وجوداً وعدماً، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فرَّق بين الناس، والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بيَّنه لهم، فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنة). "منهاج السنة" (3/506).
ومع ذلك فهذا الجزم لا يكون إلا من حيث العموم فلا يغترن مغتر فيظن أن مجرد الانتساب إلى السنة والجماعة يضمن له ذلك بل لابد أن يتبع ذلك الانتساب اعتقاد صحيح وأداء للوجبات وترك للمحرمات فمن كان كذلك فيرجى له ذلك الفضل ومن خالف ذلك فيخشى عليه، والله أسال أن يختم لي ولوالدي، ومشايخي وأهلي وذريتي وجميع إخواني المسلمين بخير. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109].
الباب السابع عشر
أهل السنة والجماعة متفقون أن باب التوبة مفتوح لكل مخالف لشرع الله.
((1/185)
المقصود هنا أن قوله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، فيه نهي عن القنوط من رحمة الله تعالى وإن عظمت الذنوب وكثرت؛ فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله -وإن عظمت ذنوبه- ولا أن يُقنط الناس من رحمة الله، قال بعض السلف: "إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يحرضهم على معاصي الله"، والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له، إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ولا يغفر له ذنوبه، وإما بأن يقول: إن نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان ونفسه قد استحوذا عليه فهو يائس من توبة نفسه وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر له، وهذا يعتري كثيرًا من الناس، والقنوط يحصل بهذا تارة وبهذا تارة.
فالأول: (كالراهب الذي أفتى قاتل تسعة وتسعين نفسًا أن الله لا يغفر له، فقتله وكمل به مائة، ثم دُل على عالم آخر فأتاه فسأله، فأفتاه بأن الله يقبل توبته، الحديث في الصحيحين(1).
والثاني: كالذي يرى للتوبة شروطًا كثيرة، أو يقال له: لها شروط كثيرة يتعذر عليك فعلها فييأس من أن يتوب.
وقد تنازع الناس في العبد، هل يصير إلى حال يمتنع عليه فيه التوبة إذا أرادها أم لا؟.
__________
(1) 51) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (54) ح(3470). ومسلم: كتاب التوبة. باب: قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله. ح(2766).(1/186)
والصواب الذي عليه أهل السنة والجمهور: أن التوبة ممكنة من كل ذنب لمن أرادها وممكن أن الله يغفره، ...وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول: الداعية إلى البدعة لا يغفر له ولا تقبل توبته، ويحتجون بحديث الإسرائيلي، وفيه: (أنه قيل لذلك الداعية: فكيف بمن أضللت؟)، هذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به ومالا يحتج به؛ بل يروون كل ما في الباب محتجين به، وقد حكى هذا طائفة قولاً في مذهب أحمد أو رواية عنه.
وظاهر مذهبه مع سائر مذاهب أئمة المسلمين: أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعية إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم، وقد تاب قادة الأحزاب: كأبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان ابن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم بعد أن قتل على الكفر بدعائهم وحضهم عليه من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا، وغفر الله لهم كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وكذلك عمرو بن العاص؛ كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين وقد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسلم: «يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله»(1)
__________
(1) 52) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة، والحج. ح(121).(1/187)
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]، قال: (وكان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم أولئك الجن، والإنس يعبدونهم)(1).
ففي هذا دليل على أنه لم يضر الجن الذين أسلموا عبادة غيرهم لهم بعد إسلامهم وإن كانوا هم أضلوهم أولاً.
وأيضًا: فالداعي إلى الكفر والبدعة وإن كان أضل غيره فذلك الغير يعاقب على ذنبه؛ لكونه قبل من هذا وتبعه، وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب هذا من ذنبه، لم يبق عليه وزره ووزر من اتبعه ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب من أضلهم أو لم يتب حالهم واحد، ولكن توبته من هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الضلال إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة، وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر وتعليم السحر وتعلمه، ثم أسلموا وَخُتِمَ لهم بخير). "تفسير آيات أشكلت" (1/297-313)
وقال رحمه الله منكرًا على بعض الطوائف المنتسبة إلى أحد المشايخ المنتسبين إلى الإمام أحمد: (...وكذلك من جهلهم قولهم أن الرافضي لا يقبل الله توبته؛ ويروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سب أصحابي ذنب لا يغفر"، ويقولون: إن سب الصحابة فيه حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة؛ وهذا باطل لوجهين:
__________
(1) 53) البخاري، كتاب التفسير باب: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً }. ح(4714). ومسلم: كتاب التفسير، باب: في قوله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ }. ح(3030).(1/188)
أحدهما: أن الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وهو مخالف للقرآن والسنة والإجماع؛ فإن الله يقول في آيتين من كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وبهذا احتج أهل السنة على أهل البدع الذي يقولون: لا يغفر لأهل الكبائر إذا لم يتوبوا، وذلك أن الله قال: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وهذا لمن تاب، فكل من تاب تاب الله عليه؛ ولو كان ذنبه أعظم الذنوب، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فهذا في حق من لم يتب.
الثاني: أن الحديث لو كان حقًا فمعناه أنه لا يغفر لمن لم يتب منه، فإنه لا ذنب أعظم من الشرك، والمشرك إذا تاب غفر الله له شركه باتفاق المسلمين كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وفي الأخرى {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، ومعلوم أن الكافر الحربي إذا سب الأنبياء ثم تاب، تاب الله عليه بالإجماع، فإنه كان مستحلاً لذلك، وكذلك الرافضي هو يستحل سب الصحابة، فإذا تبين له أنه حرام واستغفر لهم، بدل ما كان منه بدل الله سيئاته بالحسنات، وكان حق الآدمي في ذلك تبعًا لحق الله؛ لأنه مستحل لذلك، ولو قدر أنه حق لآدمي لكان بمنزلة من تاب من القذف والغيبة، وهذا في أظهر قولي العلماء لا يشترط في توبته تحلله من المظلوم بل يكفي أن يحسن إليه في الغيب؛ ليهدم هذا بهذا). "الفتاوى" (7/683-684).
((1/189)
فالمأمور المنهي إن كان مستحلاً لأذى الآمر الناهي كأهل البدع والأهواء، الذين يعتقدون أنهم على حق، وأن الآمر الناهي لهم معتد عليهم، فإذا تابوا لم يعاقبوا بما اعتدوا به على الآمر الناهي من أهل السنة، كالرافضي الذي يعتقد كفر الصحابة أو فسقهم وسبهم على ذلك، فإن تاب من هذا الاعتقاد وصار يحبهم ويتولاهم لم يبق لهم عليه حق، بل دخل حقهم في حق الله ثبوتًا وسقوطًا؛ لأنه تابع لاعتقاده). "الفتاوى" (15/171).
فصل: في معنى ما جاء أن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة: كالفاحشة، والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب، إلا من علم أنه باطل، كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى، وكذلك البدع كلها.
ولهذا قال طائفة من السلف -منهم الثوري-: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: «إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة»(1)
__________
(1) 54) وقد جاء مرفوعاً من حديث أنس رضي الله عنه أخرجه أبو الشيخ في "تاريخ أصبهان"، والطبراني في "الأوسط"، وغيرهما، انظر "الصحيحة" ح(1620) , و"صحيح الترغيب" ح(51)، و"تحقيق كتاب السنة" ح (37).(1/190)
بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر، ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة فإنه يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال؛ وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله، و(الخوارج) لما أُرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، رجع منهم نصفهم، أو نحوه، وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبدالعزيز وغيره، منهم من سمع العلم فتاب، وهذا كثير، فهذا القسم الذي لا يعلم قبحه قسم كثير من أهل القبلة). "الفتاوى" (11/684-685).
فـ(معنى قولهم أن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء علمه فرآه حسنًا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب، ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال). "الفتاوى" (10/9-10).
الباب الثامن عشر
أهل السنة والجماعة
لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة(1/191)
قال الإمام أبوعبدالله محمد بن عبدالله الأندلسي الإلبيري الشهير بابن أبي زَمَنِين(1)في كتابه "رياض الجنة بتخريج أصول السنة"(باب في الاستغفار لأهل القبلة والصلاة على من مات منهم).
قال محمد: (وأهل السنة لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة ولا يرون أن تترك الصلاة على من مات منهم(2)وإن كان من أهل الإسراف على نفسه، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]).
وقد شرح شيخ الإسلام هذا الأصل شرحًا مفصلاً مهمًا فقال: (وأما الاستغفار للمؤمنين عمومًا فقد قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
__________
(1) أ ) نقل عنه شيخ الإسلام ومن كتابه "أصول السنة" ووسمه بالإمام المشهور من أئمة المالكية. انظر "الفتاوى" (5/54).وقال الإمام الذهبي في ترجمته: الإمام القدوة الزاهد، قال وزَمَنِين بفتح الميم، ثم كسر النون، توفي رحمه الله سنة(399) انظر سير أعلام النبلاء (17/188-189).
(2) مقصوده رحمه الله: ترك الصلاة بالكلية، أي أن يترك جميع المسلمين الصلاة على صاحب البدعة والفجور، فهذا لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة، وهناك تفصيل في مسألة ترك الصلاة على صاحب البدعة ونحوه ذكره شيخ الإسلام كما سيأتي النقل عنه.(1/192)
وقد أمر الله بالصلاة على من يموت، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستغفر للمنافقين حتى نُهي عن ذلك(1)، فكل مسلم لم يُعلم أنه منافق جاز الاستغفار له والصلاة عليه، وإن كان فيه بدعة أو فسق، لكن لا يجب على كل أحد أن يصلى عليه، وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور مصلحة من جهة انزجار الناس، فالكف عن الصلاة كان مشروعًا لمن كان يؤثر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلى عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيمن قتل نفسه: «صلوا على صاحبكم»(2)،
__________
(1) 55) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، رواه الإمام البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين، والاستغفار للمشركين ح(1366). عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دُعي له رسول الله ليصلي عليه، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثَبْت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أُبَي، وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا، أعدِّد عليه قوله: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أخِّر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه، قال: إني خُيِّرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليه، قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة : {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ...} إلى قوله : {وَهُمْ فَاسِقُونَ}، قال: فعجبت بعد من جُرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ.
(2) 56)لم أجده بهذا اللفظ فالله أعلم، ولكن جاء من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب ترك الصلاة على القاتل نفسه ح(978). بلفظ: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه»..(1/193)
وكذلك قال في الغال: «صلوا على صاحبكم»(1)، وقد قيل لسمرة بن جندب: إن ابنك لم ينم البارحة: فقال: أَبَشَمًا؟ قالوا: بَشَمًا، قال: لو مات لم أصل عليه؛ يعني: لأنه يكون قد قتل نفسه، وللعلماء هنا نزاع: هل يترك الصلاة على مثل هذا الإمام فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «صلَّوا على صاحبكم»؟ أم هذا الترك يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم مشروع لمن تطلب صلاته؟ وهل الإمام هو الخليفة أو الإمام الراتب؟ وهل هذا مختص بهذين أم هو ثابت لغيرهما؟ فهذه كلها مسائل تذكر في غير هذا الموضع، لكن بكل حال المسلمون المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن، وإما منافق، فمن عُلم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يُعلم ذلك منه صُلّى عليه، وإذا عَلِمَ شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه، وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة، لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، الذين عزموا على الفتك برسول الله، واعلم أنه لا منافاة بين عقوبة الإنسان في الدنيا على ذنبه وبين الصلاة عليه والاستغفار له؛ فإن الزاني والسارق والشارب وغيرهم من العصاة تُقام عليهم الحدود، ومع هذا فيُحسن إليهم بالدعاء لهم في دينهم ودنياهم؛ فإن العقوبات الشرعية إنما شُرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله وإرادة الإحسان إليهم.
__________
(1) 57) من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب تعظيم الغلول ح(2710). والنسائي، كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل ح(1959). وابن ماجه كتاب الجهاد، باب الغلول ح(2848). والحديث ضعفه العلامة الألباني في إرواء الغليل ح(726).(1/194)
ولهذا ينبغي لمن يعاقب على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد»(1)، وقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي قراءة أُبي {وهو أب لهم}، والقراءة المشهورة تدل على ذلك: فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعًا له، فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات، والأنبياء أطباء الدين، والقرآن أنزله الله شفاء لما في الصدور، فالذي يعاقب الناس عقوبة شرعية إنما هو نائب عنه وخليفة له، فعليه أن يفعل كما يفعل على الوجه الذي يفعل، ولهذا قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال أبوهريرة: «كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل تدخلونهم الجنة»(2).
__________
(1) 58) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهة استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ح(8). والنسائي، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستطابة بالرَّوث ح(40). وابن ماجه كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة. ح(313). والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح أبي داود ح(6).
(2) 59) رواه الإمام البخاري في صحيحه كتاب التفسير، باب { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
ح(4557). بلفظ: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }، قال: «خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام».(1/195)
أخبر أن هذه الأمة خير الأمم لبني آدم: فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر، ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم وسوقهم إلى كرامة الله ورضوانه، وإلى دخول الجنة... وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيستغفر لهم ويُترحم عليهم. وإذا قال المؤمن: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله فخالف السنة، أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار. فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته؛ فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة، من جنس بدع الرافضة والخوارج). "منهاج السنة"(5/235-241).
(وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به كما قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]). "الفتاوى" (24/286).
((1/196)
وإذا ترك الإمام، أو أهل العلم والدين "الصلاة" على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجرًا عنها، لم يكن ذلك مُحرِّمًا للصلاة عليه والاستغفار له، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغال وقاتل نفسه والمدين الذي لا وفاء له: «صلوا على صاحبكم»(1)، وروي أنه كان يستغفر للرجل في الباطن وإن كان في الظاهر يدع ذلك زجرًا عن مثل مذهبه(2)، كما روي في حديث محلم بن جثامة)(3). "الفتاوى" (7/217).
__________
(1) 60) قوله - صلى الله عليه وسلم - في المدين: «صلوا على صاحبكم» من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب النفقات، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من ترك كَلاًّ أو ضياعاً فإليَّ» ح(5371)، ومسلم كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته ح(1619).
(2) ج ) وهذا مما يدل على أن المصلحة قد تقتضي حجب الاستغفار الظاهر عن المبتدع أو المظهر للفجور، مع الاستغفار له في الباطن، وهذه مسألة مهمة إذ قد يكون الاستغفار له في الظاهر سبباً للاغترار به، حيث يتوهم بعض من لا يفهم أن ذلك من التزكية له، وقد يكون ترك الاستغفار له في الظاهر رادعاً لمن يتبعه ويقتدي به .
(3) 61) من حديث عروة بن الزبير عن أبيه أن محلم بن جثامة الليثي قتل رجلاً من أشجع في الإسلام .......... فجلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعيناه تدمعان فقال : يا رسول الله، إني قد فعلت الذي قد بلغلك، وإني أتوب إلى الله تبارك وتعالى فاستغفر الله عز وجل لي يا رسول الله، فقال رسول الله:« أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام، اللهم لا تغفر لمحلم » بصوت عال، زاد أبو سلمة: فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه، قال ابن إسحاق: فزعم قومه أن رسول استغفر له بعد ذلك . رواه أبو داود في أول كتاب الديات، وهو في ضعيف سنن أبي داود برقم (4503) .(1/197)
وقال -رحمه الله- موضحًا مذهب الإمام أحمد في تكفير أهل البدع، وأنه مع تكفيره للجهمية من حيث العموم فإنه ما كان يكفر أعيانهم بل كان يدعو لولاة الأمور الذين انتصروا لقول الجهمية ويستغفر لهم؛ قال: (...بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرة بينة؛ ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: أن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وغير ذلك ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم، ويعاقبونهم، إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم، حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: أن القرآن مخلوق، وغير ذلك، ولا يولون متوليًا ولا يعطون رزقًا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك). "الفتاوى" (23/348-349).
فائدة: (ومن المعلوم بالتواتر أن الميت ينتفع بصلاة المسلمين عليه، وبدعائهم وبشفاعة الرسول). "تفسير آيات أشكلت" (1/457).
الباب التاسع عشر
أهل السنة والجماعة متفقون على وجوب التحذير من دعاة أهل البدع والمظهرين للفجور
((1/198)
كان السلف يحذّرون من هذين النوعين: من المبتدع في دينه، والفاجر في دنياه، كل من هذين النوعين -وإن لم يكن كفرًا محضا- فهو من الذنوب والسيئات التي تقع من أهل القبلة). "الاستقامة"(1/455).
و(أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين(1)، حتى قيل لأحمد بن حنبل: "الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين؛ هذا أفضل"، فبَيَّنَ أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء). "الفتاوى" (28/231-232).
(وقد أوجب الله على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته). "الفتاوى" (20/165).
(ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء ويذمّونهم بذلك، ويأمرون بألا يغتر بهم، ولو أظهروا ما أظهروه من العلم والكلام والحِجَاج، أو العبادة والأحوال). "الاستقامة" (1/254).
(
__________
(1) قال ابن أبي زَمَنين رحمه الله: (ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلِّة وينهون عن مجالستهم وُيخوِّفُون فتنتهم ويخبرون بخلاقهم ولا يرون ذلك غيبة لهم ولا طعنًا عليهم). "رياض الجنة" ص(293).(1/199)
و"الداعي إلى البدعة" مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعقوبته تكون تارة بالقتل، وتارة بما دونه، كما قتل السلف جهم بن صفوان، والجعد بن درهم(1)، وغيلان القدري(2)، وغيرهم، ولو قُدِّرَ أنه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلابد من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أمر الله به ورسوله). "الفتاوى" (35/414).
و(يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة). "الاستقامة" (1/41).
فصلٌ: في معنى البدعة
(البدعة: ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات). "الفتاوى" (18/346).
__________
(1) أول من قال بخلق القرآن وأول من قال إن الله ما أتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى تكليماً، قال شيخ الإسلام : لا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق، الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان) الفتاوى (12/504،420)، ثم إن الأمير خالد بن عبدالله القسري-رحمه الله- قتله سنة (124) بسب بدعته الكفرية ودعوته إليها ، قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي( أما الجعد فأخذه خالد بن عبدالله القسري فذبحه ذبحاً بواسط، في يوم الأضحى، على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، لا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه) الرد على الجهمية ص 21. وانظر سير أعلام النبلاء (5/433)، والبداية والنهاية وفيات سنة (124).
(2) غيلان بن مسلم ، المقتول في القدر، ناظره الأوزاعي وأفتى بقتله، قال الساجي :كان قدرياً داعية، دعا عليه عمر بن عبدالعزيز فقتل وصلب. قتله الخليفة هشام بن عبد الملك وحمده الناس على ذلك، فقد كتب له رجاء بن حَيَوَة بعد قتله لغيلان يقول له : قتله أفضل من قتل ألفين من الروم . انتهى بتصرف من لسان الميزان للحافظ ابن حجر رحمه الله .(1/200)
و(أعظم المهم في هذا الباب وغيره: تمييز السنة من البدعة إذ السنة ما أمر به الشارع، والبدعة ما لم يشرعه من الدين، فإن هذا الباب كثر فيه اضطراب الناس في الأصول والفروع، حيث يزعم كل فريق أن طريقه هو السنة، وطريق مخالفه هو البدعة ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله). "الاستقامة" (1/13).
إذًا (البدعة هي الدين الذي لم يأمر الله به ورسوله، فمن دان دينًا لم يأمر الله ورسوله فهو مبتدع بذلك، وهذا معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]). "الاستقامة" (1/5).
فـ(البدعة الشرعية -أي المذمومة في الشرع- هي ما لم يشرعه الله في الدين، أي ما لم يدخل في أمر الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله.فأما إن دخل في ذلك فإنه من الشرعة لا من البدعة الشرعية، وإن كان قد فُعل بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بما عرف من أمره: كإخراج اليهود والنصارى بعد موته، وجمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، ونحو ذلك). "الفتاوى" (31/36). (أما ما تركه - صلى الله عليه وسلم - من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده، والصحابة، فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة، ويمتنع القياس في مثله) "الفتاوى" (26/ 172).(1/201)
و(من جعل شيئًا دينًا وقربة بلا شرع من الله فهو مبتدع ضال وهو الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «كل بدعة ضلالة»(1)، فالبدعة ضد الشرعة، والشرعة ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب، وإن لم يفعل على عهده كالاجتماع في التراويح على إمام واحد وجمع القرآن في المصحف، وقتل أهل الردة والخوارج ونحو ذلك، وما لم يشرعه الله ورسوله، فهو بدعة وضلالة: مثل تخصيص مكان أو زمان باجتماع على عبادة فيه كما خص الشرع أوقات الصلوات وأيام الجمع والأعياد، وكما خص مكة بشرفها والمساجد الثلاثة وسائر المساجد بما شرعه فيها من الصلوات وأنواع العبادات كل بحسبه؛ وبهذا التفسير يظهر الجمع بين أدلة الشرع من النصوص والإجماعات، فإن المراد بالبدعة ضد الشرعة وهو ما لم يشرع في الدين، فمتى ثبت بنص أو إجماع في فعل أنه مما يحبه الله ورسوله خرج بذلك عن أن يكون بدعة). "الفتاوى" (23/133-134)، وانظر "الفتاوى" (4/107-108).
فصلٌ: في بيان خطر البدعة والداعي إليها
__________
(1) 62) سبق تخريجه رقم (19).(1/202)
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ و(أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتال الخوارج، ونهى عن قتال أئمة الظلم، وقال في الذي يشرب الخمر: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»(1)، وقال في ذي الخويصرة: «يخرج من ضئضيء هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين -وفي رواية من الإسلام- كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه من صيامهم وقراءته مع قراءتهم، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة»(2)، وقد قررت هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما تقدم من القواعد، ثم إن أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه: من سرقة أو زنا أو شرب خمر، أو أكل مال بالباطل، وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين). "الفتاوى (20/103-104).
وقال: (اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب). "الفتاوى" (28/470).
(
__________
(1) 63) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة. ح(6780).
(2) 64) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - ، رواه البخاري كتاب المغازي، باب بعث على بن أبي طالب، وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع. ح(4351). ومسلم كتاب الزكاة، باب: ذكر الخوارج، وصفاتهم. ح (1064). وقد جاء بمعناه عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - .(1/203)
واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات؛ فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص:50]، ...ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء؛ كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله؛ ولهذا قال تعالى في موضع: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]، وفي موضع آخر: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص:50]. "الفتاوى" (28/132-133).
(وكلما ازداد العبد في البدع اجتهادًا ازداد من الله بعدًا لأنها تخرجه عن سبيل الله؛ سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى بعض سبيل المغضوب عليهم والضالين). "الفتاوى" (19/48-49).
فـ(سبيل أهل البدع جائرة خارجة عن الصراط المستقيم فيما ابتدعوا فيه). "الفتاوى" (15/208).
وأهل البدع لهم نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3].
فـ(الذين قالوا عن الرسول أنه أبتر وقصدوا أنه يموت فينقطع ذكره عوقبوا بانبتارهم، كما قال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}، فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته). "الفتاوى" (13/172-173).
والبدعة لشدة خطرها، قد تلتبس على قليلي العلم وإن كانوا محبين للحق.
((1/204)
فإن البدعة لو كانت باطلاً محضًا لظهرت وبانت، وما قُبلت، ولو كانت حقًا محضًا لا شوب فيه، لكانت موافقة للسنة؛ فإن السنة لا تناقض حقًا محضًا لا باطل فيه ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل). "درء تعارض العقل والنقل"(1/209).
(وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط لكثرة ما وقع من شُبه أهل البدع؛ ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه، وأصول الدين، والفقه، والزهد، والتفسير، والحديث؛ من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال، ويحكي من مقالات الناس ألوانًا، والقول الذي بعث به رسوله لا يذكره؛ لعدم علمه به، لا لكراهته لما عليه الرسول). "الفتاوى" (5/484).
وعلماء البدعة الداعون إليها خطرهم على الأمة جسيم وإفسادهم للأديان عظيم (فالمرصدون للعلم، عليهم للأمة حفظ علم الدين، وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين، أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159]، فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم، وغيرها، فلعنهم اللاعنون، حتى البهائم، كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته، ويستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في جوف البحر، والطير في جو السماء(1)،
__________
(1) 65) هذا معنى حديث رواه الإمام الترمذي في السنن، كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة رقم(2685). عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - مرفوعاً ( إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرضيين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير ) وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب، ح(77).
وجاء من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، ولفظه: (... وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء ). رواه أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم. ح( 3641)، الترمذي كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه، على العبادة. ح(2682). وابن ماجه في " المقدمة"، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ح(223). والحديث في صحيح أبي داود ح(3096)، وصحيح الترغيب والترهيب. ح(67).(1/205)
وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم، وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع، التي تمنع الثقة بأقوالهم، وتصرف القلوب عن اتباعهم، وتقتضي متابعة الناس لهم فيها؛ هي من أعظم الظلم، ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن إظهار غير العالم -وإن كان فيه نوع ضرر- فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق، ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد، ودفع العدو؛ ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة؛ لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين). "الفتاوى" (28/187-188).
(ولهذا قيل: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء، وكما أن المنفعة فيهما فالمضرة منهما، فإن البدع والظلم لا تكون إلا فيهما: أهل الرياسة العلمية، وأهل الرياسة القدرية، ولهذا قال طائفة من السلف كالثوري وابن عُيَيْنَة(1)وغيرهما ما معناه: "أن من نجا من فتنة البدع، وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كله"). "الفتاوى" (4/494).
(ولهذا كره لمن لا يكون له نقد وتمييز النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلال في الآراء ككتب أهل البدع، وكره تلقي العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم، وإن كانوا يقولون صدقًا كثيرًا). "المنهاج" (2/468).
فصل: في معرفة المبتدع
إذا عرفنا البدعة وخطرها فلابد أن نعرف المبتدع (فالمبتدع هو من خالف أصلاً من أصول أهل السنة رحمهم الله). انظر"الفتاوى" (12/485-486).
__________
(1) د ) الإمام العَلم المحدث الفقيه المفسر ،سفيان بن عيينة بن ميمون أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، قال الإمام أحمد: ما رأيت أحداً أعلم بالسنن من ابن عيينة . وقال الإمام الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم أهل الحجاز . توفي رحمه الله سنة (198) انظر سير أعلام النبلاء (8/454-475)، والبداية والنهاية وفيات سنة (198) .(1/206)
و(البدعة: التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما أشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة؛ كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة). "الفتاوى" (35/414).
(فالبدع نوعان: نوع كان قصد أهلها متابعة النصّ والرَّسول، لكن غلطوا في فهم النصوص، وكذَّبوا بما يخالف ظنَّهم من الحديث ومعاني الآيات؛ كالخوارج، وكذلك الشيعة المسلمون، بخلاف من كان منافقًا زنديقًا يظهر التشيع، وهو في الباطن لا يعتقد الإسلام، وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الأمر والنهي، وتصديق الوعيد مع الوعد، ولهذا قال عبدالله بن المبارك(1)ويوسف بن أسباط(2)، وغيرهما: "إن الثنتين وسبعين فرقة أصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدريَّة"، وأمَّا الجهمية النافية للصفات، فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول؛ فإنه ليس في الكتاب والسنة نصٌ واحد يدل على قولهم، بل نصوص الكتاب والسنة متظاهرة بخلاف قولهم، وإنما يدّعون التمسك بالرأي والمعقول، وقد بُسط القول على بيان فساد حججهم العقلية، وما يدّعيه بعضهم من السمعيّات، وبُيِّن أن المعقول الصريح موافق للمنقول الصحيح في بطلان قولهم، لا مخالف له). "النبوات" (1/423-424).
(
__________
(1) هـ )ابن واضح، أبو عبدالرحمن الحنظلي مولاهم، التركي ثم المروزي، الإمام الحافظ عالم زمانه، قال ابن كثير: كان موصوفاً بالحفظ والفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، وله التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمن حكماً جمة، وكان كثير الغزو والحج. قال سفيان بن عيينة : نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) توفي رحمه الله سنة (181) انظر سير أعلام النبلاء (8/378-421)، والبداية والنهاية وفيات سنة (181).
(2) و ) أبو محمد الزاهد، من سادات المشايخ، له مواعظ وحكم ، توفي رحمه الله سنة (199) انظر سير أعلام النبلاء(9/169-171) ، والمنتظم وفيات سنة(199).(1/207)
ومن خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع). "الفتاوى" (24/172).
(ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة، أو مستحبة، فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة، باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب). "الفتاوى" (1/ 160).
(...ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقًا أو اعتقادًا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به، مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة، قال الشافعي رحمه الله: "البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابًا وسنة وإجماعًا وأثرًا عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئًا من ذلك؛ فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: (نعمت البدعة هذه)(1). هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في "المدخل"). "الفتاوى" (20/163).
(
__________
(1) 66) قال عبد الرحمن بن عبدٍ القاري خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقين يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل، فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر:نعم البدعة، هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله). روه البخاري. كتاب صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان. ح (2010).(1/208)
وسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وإن كان غيرهم يشك فيها، أو ينفيها: كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته، وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم: في الصفات، والقدر، والعلو، والرؤية، وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته، كما تواترت عندهم عنه؛ وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك، كما تواترت عند الخاصة -من أهل العلم عنه- الحكم بالشفعة، وتحليف المدعى عليه، ورجم الزاني المحصن، واعتبار النصاب في السرقة، وأمثال ذلك من الحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع، ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول؛ بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه: كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القسامة، والقرعة، وغير ذلك من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ). "الفتاوى" (4/425).وأهل البدع (لا تجد طائفة منهم توافق الكتاب والسنة فيما جعلوه أصول دينهم، بل لكل طائفة أصول دين لهم؛ فهي أصول دينهم الذي هم عليه، ليس هي أصول الدين الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، وما هم عليه من الدين، ليس كله موافقًا للرسول، ولا كله مخالفًا له؛ بل بعضه موافق، وبعضه مخالف؛ بمنزلة أهل الكتاب الذين لبسوا الحق بالباطل...(1/209)
لكن بعضها أكثر مخالفة للرسول من بعض، وبعضها أظهر مخالفة، ولكن الظهور أمرٌ نسبي؛ فمن عرف السنة ظهرت له مخالفة من خالفها؛ فقد تظهر مخالفة بعضهم للسنة لبعض الناس؛ لعلمه بالسنة دون من لا يعلم منها ما يعلمه هو؛ وقد تكون السنة في ذلك معلومة عند جمهور الأمة؛ فتظهر مخالفة من خالفها؛ كما تظهر للجمهور مخالفة الرافضة للسنة، وعند الجمهور هم المخالفون للسنة، فيقولون: أنت سني، أو رافضي؛ وكذلك الخوارج: لما كانوا أهل سيف وقتال، ظهرت مخالفتهم للجماعة؛ حين كانوا يقاتلون الناس، وأما اليوم فلا يعرفهم أكثر الناس، وبدع القدرية، والمرجئة، ونحوهم: لا تظهر مخالفتها بظهور هذين.
والمقصود هنا: أن طوائف أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ليس فيهم من يوافق الرسول في أصول دينه لا فيما اشتركوا فيه ولا فيما انفرد به بعضهم، فإنهم وإن اشتركوا في مقالات فليس إجماعهم حجة، ولا هم معصومون من الاجتماع على خطأ). "النبوات" (11/563-584.564).
فصل: في أن التحذير من أئمة أهل البدع والمظهرين
للفجور ليس من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجب
إذا كان التحذير من أهل البدع والأهواء، الصادَّين عن الكتاب و السنة، الداعين إلى الهوى والضلالة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل من الجهاد في سبيل الله؛ فإن ذلك لا يعد من الغيبة المحرمة في شيء؛ بل ذلك نصيحة واجبة، وحماية للدين لازمة.
فقد (سئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن حديث (لا غيبة لفاسق)؟.(1/210)
فأجاب: أما الحديث فليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)؛ ولكنه مأثور عن الحسن البصري، أنه قال: أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه يحذره الناس(2)، وفي حديث آخر: «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له»(3)، وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء.
أحدها: أن يكون الرجل مظهرًا للفجور، مثل الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة، فإذا أظهر المنكر وجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان». رواه مسلم(4)، وفي المسند والسنن عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرءون القرآن وتقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»(5)،
__________
(1) 67) روي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً. قال العلامة الألباني - رحمه الله -: باطل. الضعيفة ح(584).
(2) 68) وقد روي مرفوعاً من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده. قال العلامة الألباني - رحمه الله -: موضوع. الضعيفة ح(583).
(3) 69) من حديث أنس - رضي الله عنه - . ،قال العلامة الألباني - رحمه الله -: ضعيف جداً. الضعيفة ح(585).
(4) 70) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، رواه مسلم كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. ح(49).
(5) 71) من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي. ح(4338).
والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر. ح(2168). والنسائي في الكبرى كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }. ح (11157). وابن ماجه: كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ح(4005). والحديث في صحيح أبي داود للعلامة الألباني - رحمه الله - ح(3644)، والصحيحة ح(1564).(1/211)
فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يهجر ويذم على ذلك، فهذا معنى قولهم: (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له)، بخلاف من كان مستترًا بذنبه مستخفيًا، فإن هذا يستر عليه؛ لكن ينصح سرًا، ويهجره من عرف حاله حتى يتوب، ويذكر أمره على وجه النصيحة.
النوع الثاني: أن يستشار الرجل في مناكحته ومعاملته أو استشهاده، ويعلم أنه لا يصلح لذلك؛ فينصحه مستشاره ببيان حاله، كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت له فاطمة بنت قيس: قد خطبني أبوجهم، ومعاوية؛ فقال لها: «أما أبوجهم فرجل ضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له»(1)،
__________
(1) 72) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، رواه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها. ح(1480).(1/212)
فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الخاطبين للمرأة، فهذا حجة لقول الحسن: (أترغبون عن ذكر الفاجر! اذكروه بما فيه يحذره الناس)، فإن النصح في الدين أعظم من النصح في الدنيا، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نصح المرأة في دنياها، فالنصيحة في الدين أعظم، وإذا كان الرجل يترك الصلوات، ويرتكب المنكرات، وقد عاشره من يخاف أن يفسد دينه؛ بُيِّنَ أمره له لتُتَّقَي معاشرته، وإذا كان مبتدعًا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقًا يخالف الكتاب والسنة، ويُخَافُ أن يضل الرجل الناس بذلك؛ بُيِّنَ أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان: مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساويه مظهرًا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان و«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»(1) بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص، وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم، ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه). "الفتاوى" (28/219-221).
__________
(1) 73)من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، والحسبة. ح(54). ومسلم: كتاب الإمارة، باب قول - صلى الله عليه وسلم - : إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال. ح(1907).(1/213)
وقال رحمه الله تعالى في (قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، فأمر بعقوبتهما وعذابهما بحضور طائفة من المؤمنين، وذلك بشهادته على نفسه، أو بشهادة المؤمنين عليه؛ لأن المعصية إذا كانت ظاهرة كانت عقوبتها ظاهرة؛ كما جاء في الأثر: (من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية)، وليس من الستر الذي يحبه الله تعالى كما في الحديث: «من ستر مسلمًا ستره الله»(1)
__________
(1) 74) من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -، رواه البخاري، كتاب المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم، ولا يسلمه. ح(2442). ومسلم: كتاب البر، والصلة، والآداب باب تحريم الظلم. ح(2580).
ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم كتاب الذكر والدعاء، والتوبة، والاستغفار. باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر، ح(2699).(1/214)
بل ذلك إذا سُتِرَ كان ذلك امرارًا لمنكر ظاهر: وفي الحديث «إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة»(1)، فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن، ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة، كما رُوي ذلك عن الحسن البصري وغيره؛ لأنه لما أعلن ذلك استحق عقوبة المسلمين له، وأدنى ذلك أن يذم عليه لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته، ولو لم يُذم ويُذكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لاغتر به الناس، وربما حمل بعضهم على أن يرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضًا هو جرأة وفجورًا ومعاصي، فإذا ذُكر بما فيه انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته ومخالطته، قال الحسن البصري: (أترغبون عن ذكر الفاجر؟! اذكروه بما فيه كي يحذره الناس)، وقد روي مرفوعًا(2)، و"الفجور" اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام يدل السامع له على فجور قلب قائله). "الفتاوى" (15/286).
و(ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين (أحدهما) ذكر النوع، و(الثاني) ذكر الشخص المعين الحي أو الميت.
__________
(1) 75) قال الهيثمي في "المجمع" كتاب الفتن، باب في ظهور المعاصي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أخفيت الخطيئة لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة). رواه الطبراني في الأوسط، وفيه مروان بن سالم الغفاري، وهو متروك اهـ. ، وانظر الحديث في المعجم الأوسط ح(4770). وهذا الأثر رواه ابن المبارك، في الزهد رقم(1350)، وابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع رقم(309)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 222)، من كلام بلال بن سعد - رحمه الله - .
(2) 76) سبق تخريجه.(1/215)
أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسوله يجب ذمه؛ وليس ذلك من الغيبة...، فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه، والنهي عن الشر والتحذير منه: فلابد من ذكر ذلك؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه أن أحدًا فعل ما ينهى عنه يقول: «ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط»(1)، «ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده»(2)، «ما بال رجال يقول أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، ويقول الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، ويقول الآخر: لا أتزوج النساء، ويقول الآخر: لا آكل اللحم، لكني أصوم وأفطر؛ وأقوم وأنام؛ وأتزوج النساء؛ وآكل اللحم؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»(3).
وأما الشخص المعين فيُذكر ما فيه من الشر في مواضع، منها المظلوم له أن يَذكر ظالمه بما فيه، أما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه، ...أو يَذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان، ولا دخول في كذب، ولا ظلم الغير؛ وترك ذلك أفضل.
__________
(1) 77) من حديث عائشة رضي الله عنها رواه البخاري كتاب البيوع باب الشراء والبيع مع النساء. ح(2155). ومسلم كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق. ح(1504).
(2) 78) من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه البخاري كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب. ح(6101). ومسلم كتاب الفضائل، باب علمه، - صلى الله عليه وسلم - بالله وشدة خشيته. ح(2356).
(3) 79) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، رواه البخاري كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح. ح(5063).
ومسلم كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مُؤَنَهُ. ح(1401).(1/216)
ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم كما في الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس(1)...، وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله، ومن يوكله ويوصي إليه، ومن يستشهده؛ بل ومن يتحاكم إليه، وأمثال ذلك، وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين: من الأمراء والحكام والشهود والعمال؛ أهل الديوان وغيرهم؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الدين النصيحة، الدين النصيحة»، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم(2)»، ...وإذا كان النصح واجبًا في المصالح الدينية الخاصة والعامة؛ مثل: نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون، كما قال يحيى بن سعيد(3): سالت مالكًا والثوري والليث بن سعد -أظنه- والأوزاعي: عن الرجل يُتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بين أمره. وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: إنه يثقل علي أن أقول فلان كذا، وفلان كذا!؟ فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟!.
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين....
__________
(1) 80) سبق تخريجه .
(2) 81) من حديث تميم الداري - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة. ح(55).
ز ) ابن فروخ، أبو سعيد التميمي مولاهم البصري، القطان ، أمير المؤمنين في الحديث، قال الذهبي :( وعُني بهذا الشأن أتمَّ عناية، ورحل فيه، وساد الأقران، وانتهى إليه الحِفظ، وتكلم في العلل والرجال، وتخرج به الحفاظ ) توفي رحمه الله سنة (198)، انظر سير أعلام النبلاء (9/175-188).(1/217)
وأعداء الدين نوعان: الكفار، والمنافقون، وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، [التحريم:9]، في آيتين من القرآن، فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعًا تخالف الكتاب، ويلبسونها على الناس، ولم تُبيَّن للناس: فسد أمر الكتاب، وبُدل الدين؛ كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم يُنكر على أهله، وإذا كان أقوام ليسوا منافقين، لكنهم سماعون للمنافقين: قد ألتبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقًا؛ وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، فلابد أيضًا من بيان حال هؤلاء؛ بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيمانًا يوجب موالاتهم، وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلابد من التحذير من تلك البدع، وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم؛ بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق؛ لكن قالوها ظانين أنها هدى، وأنها خير، وأنها دين؛ ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها). "الفتاوى" (28/225-234).
فصلٌ: في ضلال من أطلق السكوت عن البدع وأهلها أو أقرهم على مذاهبهم المخالفة للسنة
من المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -ومن ذلك التحذير من أهل البدع- من الواجبات الكفائية، التي إذا قام بها من يكفى من الأمة سقط الذم عن الآخرين، وقد يجب على أحاد العلماء البيان والتحذير، لمكانة ذلك العالم في الأمة، أو في أوساط أقوام من الأمة، بحيث قد يكون سكوته سببًا في اغترار البعض ببعض الدعاة إلى البدعة، والله أعلم.(1/218)
ولكن هناك طائفة انتسبت إلى السنة والجماعة، وجعلت من منهجها السكوت عن دعاة البدع والأهواء بدعوى جمع الصف الإسلامي بجميع أطيافه -كما يقولون- وبدعوى أن التحذير من دعاة البدع يُفرِّق الصف، ويشمت الأعداء من اليهود والنصارى والعلمانيين وغيرهم، وبدعوى أن في ذلك تفريغًا لطاقات الأمة في قضايا قد مضى عليها الزمن، وأكل الدهر عليها وشرب – زعموا -، إلى غير ذلك من الشبه، التي تلقيها هذه الطائفة على شباب الأمة، وهذه الطائفة وإن كانت قديمة بقدم حدوث الفرق في الأمة؛ إلا أن شبهاتها وتلبيساتها متنوعة بحسب اختلاف الزمان والمكان. بل إن بعض هذه الطائفة لَمَّعَت دعاة البدعة بكيل المدح لهم، والدعوة إلى حضور مجالسهم، من غير ضوابط شرعية، فكان هذا المنهج الدخيل على الأمة سببًا في انحراف كثير من الشباب عن المنهج الحق، وتعلقهم بدعاة البدعة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وعسى أن ترعوي هذه الطائفة عن هذا المنهج إذا عرفوا مفاسده، ومعارضته لمنهج أهل السنة والجماعة وفقنا الله وإياهم لسلوك منهاجهم والسير على هديهم.(1/219)
وشيخ الإسلام رحمه الله ذكر: أن طريقة الخوارج والروافض، ونحوهم من أهل البدع، أنهم يعتقدون اعتقادًا ضالاً يرونه حقًا، ثم يكفرون من خالفهم في ذلك. ثم قال: (وبازاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة، كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم؛ بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذمًا مطلقًا؛ لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يُقَر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النِّزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة، وبعض المتفقهة، والمتصوفة، والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة، وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله، والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء، فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل، ويؤمن به ويبلغه، ويدعوا إليه، ويجاهد عليه، ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله، غير متبعين لهوى: من عادة، أو مذهب، أو طريقة، أو رئاسة، أو سلف؛ ولا متبعين لظن من حديث ضعيف، أو قياس فاسد -سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل- أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله وعمله؛ فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ويتركون إتباع ما جاءهم من ربهم من الهدى). "الفتاوى" (12/468.467).
و(ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال، كان من أسبابه تقصير من قصَّر في إظهار السنة والهدى). "درء التعارض" (5/378).
(والنبوة كل ما ظهر نورها انطفت البدع). "بيان تلبيس الجهمية" (1/375).
((1/220)
وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة). "الفتاوى" (3/104).
واعلم أخي في الله أن الناس في مسألة التحذير من دعاة البدع والفجور على أقسام.
فمنهم: من يسكت عن هؤلاء وهؤلاء، بدعوى مسائرة الواقع، وهؤلاء غرضهم غالباً الحصول على الرياسات في أوساط هؤلاء وهؤلاء.
ومنهم: من يسكت عن دعاة البدعة، كالطائفة الآنفة الذكر، وقد يحذرون من دعاة الفجور وقد يغلون في ذلك.
ومنهم: من قد يسكت عن دعاة الفجور، ويحذر من دعاة البدعة، وقد يغلون في ذلك، بل قد لا يسلم منهم دعاة السنة وعلماء الشريعة، وهؤلاء جمعوا بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير.
ومنهم: من يحذر من الصنفين، بعلم وعدل ومراعاة للضوابط الشرعية، والمصالح المرعية، كما أمرهم الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهؤلاء هم القائمون بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل.(1/221)
فائدة: الشهادة على شخص معين بالمعصية والبدعة يكفي فيها الاستفاضة والشهرة، قال رحمه الله: (وما أعلم في هذا نزاعًا بين الناس، فإن المسلمين كلهم يشهدون في وقتنا في مثل عمر بن عبدالعزيز والحسن البصري وأمثالهما من أهل العدل والدين بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة، ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف(1)
__________
(1) ح ) الثقفي الأمير الظالم،قال ابن كثير ( كانت فيه شهامة عظيمة، وفي سيفه رهق، وكان شديداً يقتل النفس التي حرمها الله بأدنى شبهة، ولي العراق وفتح فيها فتوحات كثيرة، هائلة منتشرة، حتى وصلت خيوله وجيوشه إلى بلاد الهند و السند ووصلت خيوله إلى قريب من بلاد الصين، وبالجمة فقد كان الحجاج نقمة، على أهل العراق بما سلف لهم من الذنوب والخروج على الأئمة وخذلانهم لهم، وعصيانهم، ومخالفتهم والافتيات عليهم، وقد كان ناصبياً يبغض علياً وشيعته، وكان جباراً عنيداً، مقدماً على سفك الدماء بأدنى شبهة، وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك السُكْر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شئ من التلطخ بالفروج، والحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله عز وجل، وقد كان حريصاً على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن ) أهـ بتصرف. قال الذهبي: بعد ذكره لنحو الكلام السابق ( وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء). قال شيخ الإسلام وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « سيكون في ثقيف كذاب ومبير » فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد، فإن الحجاج كان مبيرا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يسفك الدماء بغير حق، والمختار كان كذابا يدَّعي النبوة وإتيان جبريل إليه)..منهاج السنة (2/69-71) والحجاج (من الناصبة المبغضين لعلي رضي الله عنه وأولاده ) المنهاج(4/554)، ومع ذلك ( فإن الحجاج لم يقتل من بني هاشم أحدا قط، مع كثرة قتله لغيرهم ) المنهاج (4/558) (5/156)، هلك الحجاج سنة(95) انظر سير أعلام النبلاء (4/343) والبداية والنهاية وفيات سنة (95) .(1/222)
والمختار بن أبي عبيد(1)،
__________
(1) ط )ابن مسعود الثقفي (المختار كان أبوه رجلاً صالحاً، وهو أبو عبيد الثقفي الذي قتل شهيداً في حرب المجوس، وأخته صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر امرأة صالحة، وكان المختار رجل سوء) منهاج السنة (4/329) ، ( كان أمير الشيعة وقتل عبيدالله بن زياد، وأظهر الانتصار للحسين حتى قتل قاتله، ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه )ثم ذكر أنه الكذاب المذكور في الحديث الذي رواه مسلم . منهاج السنة (2/68-70 ) (وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين للإسلام المختار بن أبي عبيد وكان من الشيعة ) = =المنهاج (3/459) والمختار قتله مصعب بن الزبير سنة (67) انظر المنهاج (6/340،232) والبداية والنهاية حوادث سنة (67،66)(1/223)
وعمرو بن عبيد(1)، وغيلان القدري، وعبدالله بن سبأ الرافضي(2)، ونحوهم من أهل الظلم والبدعة بما لا يعلمونه إلا بالاستفاضة). "الفتاوى"(35/413).
قاعدة مهمة خالف فيها الغلاة وهي: ( لا يلزم من الوقوع في البدعة أن يكون صاحبها مبتدعا )
__________
(1) شيخ القدرية والمعتزلة ، قال ابن الجوزي: ( كان عمرو يسكن البصرة، وجالس الحسن البصري، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة، فقال بالقدر ودعا إليه، وأعتزل أصحاب الحسن )، وقال ابن حبان: (كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث واعتزل مجلس الحسن وجماعة معه فسموا المعتزلة، وكان يشتم الصحابة ) هلك سنة (144) انظر سير أعلام النبلاء (6/104-106)، والمنتظم وفيات (144)والبداية والنهاية سنة (142).
(2) كان عبدالله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام، أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه، كما فعل بولص بدين النصارى، فأظهر النسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي، والنص عليه، ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ علياً، فطلب قتله، فهرب منه إلى قرقيسيا، وخبره معروف، وقد ذكره غير واحد من العلماء) المنهاج (8/479)(وقد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين، وافترى ذلك عبدالله بن سبأوطائفته الكذابون)المهاج (8/251) ( وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإن أول من ابتدعه ابن سبأ الزنديق،وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له )الفتاوى(4/435)وانظر الفتاوى (13/31)، والمنهاج (3/459)،والبداية والنهاية أحداث سنة (35)، والشريعة للآجري ص(1979).(1/224)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه؛ إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه؛ وإما لعدم قدرته، فإن نصوص "الوعيد" التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع). "الفتاوى" (10/371-372).
وقال رحمه الله: (فإذا رأيت إمامًا قد غلظ على قائل مقالته، أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكمًا عامًا في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه، والتكفير له؛ فإن من جحد شيئًا من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام، أو ناشئًا ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية). "الفتاوى" (6/61).
فصل: في صفات يشترط توفرها في من يتصدى للتحذير من دعاة أهل البدع، والمظهرين للفجور
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالراد على أهل البدع مجاهد، حتى كان (يحيى بن يحيى(1) يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد، والمجاهد قد يكون عدلاً في سياسته وقد لا يكون، وقد يكون فيه فجور). "الفتاوى" (4/13).
وإليك بعض هذه الصفات التي وقفت عليها من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
منها: الإخلاص.
__________
(1) م )بن بكر بن عبدالرحمن، أبو زكريا التميمي المنقري النيسابوري، عالم خراسان الحافظ، لقي صغاراً من التابعين، قال أحمد : كان يحي بن يحي عندي إماماً، ولو كانت عندي نفقة لرحلت إليه . توفي رحمه الله سنة (226) انظر سير أعلام النبلاء (10/512-519) .(1/225)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم: إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلَّظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها). "منهاج السنة" (5/239).
(فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره، كان ذلك حَميَّة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم إذا رُدَّ عليه ذلك وأوذِيَ أو نُسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوىً يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذِي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوىً أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفّار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا، وبلغه المُغل: هذا بالٍ، هذا باغي، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة.
...(1/226)
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وهو الحق، وهو الدين، فإذا قُدِّر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هل العليا، بل قصد الحَميَّة لنفسه وطائفته أو الرياء، ليعظَّم هو ويُثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعةً وطبعًا، أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله، ولم يكن مجاهدًا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدَّعي الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل، وسنة وبدعة؟! وهذا حال المختلفين الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، وكفّر بعضهم بعضا، وفسَّق بعضهم بعضا). "منهاج السنة" (5/254-256).
وقال: (وإذا كان الرجل يترك الصلوات، ويرتكب المنكرات، وقد عاشره من يخاف أن يفسد دينه: بُيِّن أمره له لتتقي معاشرته، وإذا كان مبتدعًا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقًا يخالف الكتاب والسنة، ويُخَاف أن يضل الرجل الناس بذلك: بُيِّن أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان: مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساويه مظهرًا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان و«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»(1)، بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص، وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم، ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه). "الفتاوى" (28/219-221).
__________
(1) 82) سبق تخريجه .(1/227)
وقال رحمه الله: (وأما المناظرة المذمومة من العالم بالحق، فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره، ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض، فإذا أراد علوًّا في الأرض أو فسادًا كان مذمومًا على إرادته ثم قد يكون من الفُّجار الذين يؤيد الله بهم الدين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»(1)، فكما قد يجاهد الكفار فاجرٌ فينتفع المسلمون بجهاده، فقد يجادلهم فاجر قد ينتفع المسلمون بجداله، لكن هذا يضر نفسه بسوء قصده، وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم، فيجره إلى أمور أخرى). "درء تعارض العقل والنقل" 7/168-169).
ومنها: العلم قبل التحذير، والرفق مع التحذير، والصبر على الأذى.
__________
(1) 83) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب القدر، باب: العمل بالخواتيم. ح(6606).
ومسلم، كتاب الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. ح(111).(1/228)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقًا للأمر، وفي الحديث: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليمًا بما يأمره به؛ عليمًا بما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه»(1)، فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر؛ فإن لم يكن عالمًا لم يكن له أن يقفوا ما ليس له به علم، وإن كان عالمًا ولم يكن رفيقًا، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيُغلِظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، ثم إذا أمر ونهى فلابد أن يؤذَى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر).
__________
(1) 84) لم أجده؛ فالله أعلم.وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرفق وأمر به في أحاديث كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - (عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه ولا يُنْزَع من شئ إلا شانه ) رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، وعنها أيضاً قال - صلى الله عليه وسلم - (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ) متفق عليه ، وقال - صلى الله عليه وسلم - (من يحرم الرفق يحرم الخير كله )رواه مسلم عن جرير - رضي الله عنه - . أما الحلم فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) رواه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .(1/229)
"منهاج السنة" (5/253-254).
وينبغي للمتصدي لهذا الأمر استعمال الرفق في موضعه والشدة في موضعها، مراعياً للمصالح والمفاسد قدر استطاعته.
قال رحمه الله في رسالة لبعض أصحابه: (ما ذكرتم من لين الكلام، والمخاطبة بالتي هي أحسن: فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالاً لهذا؛ لكن كل شيء في موضعه حسن؛ وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة: فنحن مأمورون بمقابلته؛ لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن). "الفتاوى" (3/232).
والله تعالى يقول:({وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، فمتى ظلم المخاطب لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن، بل قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه -لعروة بن مسعود بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: إني لأرى أوباشًا من الناس خليقًا أن يفروا، ويدعوك- امصص بضر اللات! أنحن نفرعنه، وندعه؟!)(1). "الفتاوى"(3/252).
(فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن). "الفتاوى" (4/109).
وأما غير الظالم فقد قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
و (الحكمة هي معرفة الحق والعمل به، فالقلوب التي لها فهم وقصد تُدعى بالحكمة، فيبين لها الحق علمًا وعملاً فتقبله وتعمل به).
(فالحكمة تعريف الحق، فيقبلها من قبل الحق بلا منازعة)، فإذا كان (العبد إذا عرف الحق وتبين له اتبعه وعمل به، فهذا هو الذي يُدعى بالحكمة وهو الذي يتذكر، وهو الذي يُحْدِث له القرآن ذكرًا).
(
__________
(1) 85) من حديث المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط. ح(2731).(1/230)
والثاني: أن يكون له من الهوى والمعارض ما يحتاج معه إلى الخوف الذي ينهى النفس عن الهوى؛ فهذا يُدعى بالموعظة الحسنة وهذا هو القسم الثاني المذكور في قوله: {أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وفي قوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113])، فهؤلاء من هذا الصنف (يعترفون بالحق؛ لكن لهم أهواء تصدهم عن اتباعه، فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، والوعظ أمر ونهي بترغيب وترهيب، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66]، وقال تعالى: {يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17].
فالعلم بالحق يدعو صاحبه إلى اتباعه، فإن الحق محبوب في الفطرة، وهو أحب إليها، وأجل فيها، وألذ عندها، من الباطل الذي لا حقيقة له، فإن الفطرة لا تحب ذاك، فإن لم يَدْعُهُ الحق والعلم به خُوف عاقبة الجحود والعصيان، وما في ذلك من العذاب فالنفس تخاف العذاب بالضرورة، فكل حي يهرب مما يؤذيه بخلاف النافع)، (فالدعوة بهذين الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله فإنه يجادل بالتي هي أحسن). انظر الفتاوى" (15/243)، و(16/338-339)، و(19/164).
ومنها: العدل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (كلمة "التقوى" اسم جنس لكل كلمة يُتقى الله فيها، وهو الصدق والعدل، فكل من تحرّى الصدق في خبره، والعدل في أمره فقد لزم كلمة التقوى). "منهاج السنة" (5/80).
((1/231)
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه، وإلا فالإنسان ظلوم جهول، وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار، أوجب بين الناس العداوة والبغضاء، فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضي في الجنة: رجل علم الحق وقضى به؛ فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل؛ فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه؛ فهو في النار»(1)، فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين، وخلقه وأمره ووعده ووعيده؟). "درء تعارض العقل والنقل" (8/409).
(...ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنَّة مع الكفار وأهل البدع بالعلم والعدل، لا بالظن وما تهوى الأنفس؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار». رواه أبوداود وغيره.
فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال والدماء والأعراض -إذا لم يكن عالمًا عادلاً- كان في النار، فكيف عبد يحكم في الملل والأديان، وأصول الإيمان، والمعارف الإلهية، والمعالم الكلية، بلا علم ولا عدل؟ كحال أهل البدع والأهواء..). "الجواب الصحيح" (1/107-108).
ومن العدل الواجب أن يكون التحذير مطابقًا للواقع وأن لا يكون في ذلك غلو أو تفريط.
فـ(الأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف وهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقًا للأمر). منهاج السنة (5/ 243).
__________
(1) 86) سبق تخريجه رقم (32).(1/232)
والداعي إلى البدع (إن علم منه النفاق، كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مثل: عبدالله بن أُبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة: عبدالله بن سبأ؛ وأمثاله، مثل عبدالقدوس بن الحجاج، ومحمد بن سعيد المصلوب؛ فهذا يذكر بالنفاق. وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقًا أو مؤمنا مخطئا ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفوا ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدًا بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وإن يكون الدين كله لله، فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثمًا). "الفتاوى" (28/234).
ومنها: التنزه عن الشتم والتهويل، والاستغناء عن ذلك بالدليل.
نقل شيخ الإسلام - رحمه الله – كلاماً لأبي الفرج بن الجوزي(1)اعترض به بعضهم على بعض أهل الحق، وفيه من التشنيع والتهويل الشيء الكثير، ثم قال راداً
عليه: (هذا الكلام ليس فيه من الحجة والدليل ما يستحق أن يخاطب به أهل العلم.
__________
(1) ن ) عبدالرحمن بن علي، جمال الدين، أبو الفرج،القرشي التيمي البغدادي الحنبلي، الإمام الحافظ المفسر، يصل نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان رأساً في الوعظ، قال موفق الدين ابن قدامة: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه ، ويدرس، وكان حافظا للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ولا طريقته فيها )توفي رحمه سنة (597)انظر سير أعلام النبلاء (21/365-384)، والبداية والنهاية وفيات (597)، وقد وصفه شيخ الإسلام بالتناقض في باب الأسماء والصفات وقال إنه(لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات)الفتاوى(4/169).(1/233)
فإن الرد بمجر الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين، وأهل الكتاب ؛ لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه، والباطل الذي معهم، فقد قال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].
فلو كان خصم من يتكلم بهذا الكلام، سواء كان المتكلم به أبو الفرج، أو غيره من أشهر الطوائف بالبدع، -كالرافضة- لكان ينبغي أن يذكر الحجة، ويعدل عما لا فائدة فيه، إذا كان في مقام الرد عليهم... الفتاوى(4/ 186- 187).
الباب العشرون
أهل السنة والجماعة هم القائمون بهجران أهل البدع والمظهرين للفجور مع مراعاة الضوابط الشرعية والقواعد السلفية في ذلك
الذي أمر به (آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه، ولا يستفتى، ولا يصلى خلفه) "الفتاوى" (10/373-377).
قال الإمام أبوعبدالله محمد بن عبدالله الأندلسي الشهير بابن أبي زَمَنِين رحمه الله: (ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلة، وينهون عن مجالستهم ويُخوِّفُون فتنتهم، ويخبرون بخلاقهم، ولا يرون ذلك غيبةً لهم ولا طعنًا عليهم)."رياض الجنة بتخريج أصول السنة" (293).(1/234)
وقال الإمام البغوي(1)رحمه الله -بعد ذكره لحديث المخلفين الثلاثة(2)- (وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلَّفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - براءتهم وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع، ومهاجرتهم). "شرح السنة" (1/226-227). (فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر) "الفتاوى" (24/174-175).
والكلام الذي ذمه السلف نوعان قال شيخ الإسلام - رحمه الله - :
( والكلام الذي ذمّوه نوعان: أحدهما أن يكون في نفسه باطلاً وكذبًا، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني: أن يكون فيه مفسدة، مثلما يوجد في كلام كثير منهم: من النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم، ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم
__________
(1) أ ) الحسين بن مسعود البغوي الشافعي المفسر ، الإمام الحافظ علامة زمانه، كان يلقب بمحي السنة، وكان ورعاً زاهداً عابداً. من تصانيفه شرح السنة، وفي التفسير معالم التنزيل، وغيرها من الكتب النافعة، توفي رحمه الله سنة (516)، انظر سير أعلام النبلاء (19/439-443)، والبداية والنهاية وفيات سنة (516).
(2) 80) 87) من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك. وقوله - عز وجل - : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } [التوبة: 118] ح (4418). ومسلم: كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. ح ( 2769).(1/235)
وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم، فإن الحق إذا كان ظاهرًا قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعُزِّر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عِسْل التميمي(1)، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قُتِل كما قَتَل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما، كان ذلك هو المصلحة، بخلاف ما إذا تُرك داعيًا، وهو لا يقبل الحق: إما لهواه، وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين، والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبينَّوا له الحق، كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه، ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه، وكذلك علي -رضي الله عنه- بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم،ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين(2)والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قُوبل بالعقوبة). "درء تعارض العقل والنقل" (7/172-173).
(
__________
(1) 88) قصة عمر - رضي الله عنه - مع صبيغ رواها الدارمي في سننه باب من هاب الفتيا، وكره التنطع. وابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع. رقم (159). والآجري في الشريعة، باب: تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته الذين يجادلون بمتشابه القرآن وعقوبة الإمام لمن يجادل فيه. رقم(152، 153).
(2) 89) مناظرة ابن عباس - رضي الله عنه - للخوارج. رواها الإمام النسائي - رحمه الله - في كتاب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - رقم(185).وقال شيخنا المحدث مقبل بن هادي الوادعي - رحمه الله -: هذا حديث حسن. الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (1/ 496- 498).(1/236)
وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها، وكذلك هجران الدعاة إلى البدع، وهجران الفساق، وهجران من يخالط هؤلاء كلهم ويعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى، فالزناة واللوطية وتارك الجهاد وأهل البدع وشربة الخمر هؤلاء كلهم ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام، وليس فيهم معاونة لا على بر ولا تقوى، فمن لم يهجرهم كان تاركًا للمأمور فاعلاً للمحظور، فهذا ترك المأمور من الاجتماع، وذلك فعل المحظور منه، فعوقب كل منهما بما يناسب جرمه). "الفتاوى" (15/311-313).
فصل: في ضوابط الهجر
من ضوابط الهجر التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله ما يلي.
الضابط الأول : التفريق بين المظهر للفجور أو الداعي إلى البدعة والمستتر والساكت.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الهجر الشرعي نوعان: (أحدهما) بمعنى الترك للمنكرات، و(الثاني) بمعنى العقوبة عليها...(1/237)
فالنوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون: الثلاثة الذين خلفوا، حتى أنزل الله توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير، وإن كان منافقًا، فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير، والتعزير يكون لمن أظهر ترك الواجبات، وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع، وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يُناكحون، فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات، فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرًا من المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثير منهم، ولهذا جاء في الحديث: «إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة»(1)، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»(2)، فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة)."الفتاوى"(28/203-205).
(ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، يعاقب بما لا يعاقب به الساكت). "الفتاوى" (28/355).
فـ(لا يهجر إلا الداعية إلى البدع دون الساكت الذي لا يدعوا إليها وإن اعتقدها). "الفتاوى" (6/503).
__________
(1) 90) سبق تخريجه رقم (75).
(2) 91) سبق تخريجه رقم (71).(1/238)
فقد (صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه هجر كعب بن مالك، وصاحبيه(1) - رضي الله عنهم - لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم، وخيف عليهم النفاق، فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم، حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة، إلى أن نزلت توبتهم من السماء، وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمي(2)، لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب، إلى أن مضى عليه حول، وتبين صدقه في التوبة، فأمر المسلمين بمراجعته، فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصية أو مسرًا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً وعملا، وأما من أظهر لنا خيرًا فإنا نقبل علانيته، ونكل سريته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذورن، ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة: كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت، وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين، ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع). "الفتاوى" (24/174-175).
(ومن عرف منه التظاهر بترك الواجبات، أو فعل المحرمات، فإنه يستحق أن يهجر، ولا يسلم عليه تعزيرًا له على ذلك، حتى يتوب)."الفتاوى" (23/252).
(قال الحسن: أترغبون عن ذكر الفاجر؟! اذكروه بما فيه كي يحذره الناس، وقد روي مرفوعًا(3)، و"الفجور" اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح يدل السامع له على فجور قلب قائله.
__________
(1) 92) سبق تخريجه .
(2) 93) سبق تخريجه .
(3) 94)سبق تخريجه رقم (68).(1/239)
ولهذا كان مستحقًا للهجر إذا أعلن بدعة أو معصية أو فجورًا أو تهتكا، أو مخالطة لمن هذا حاله بحيث لا يبالي بطعن الناس عليه، فإن هجره نوع تعزير له، فإذا أعلن السيئات أعلن هجره، وإذا أسر أسر هجره). "الفتاوى" (15/286-287).
(ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة؛ ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم، وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى، بخلاف من أظهر الكفر). "الفتاوى" (23/342).
وقد اتضح مما سبق أن (الذنوب التي فيها ظلم الغير، والإضرار به، في الدين والدنيا، أعظم عقوبة في الدنيا، مما لم يتضمن ضرر الغير؛ وإن كان عقوبة هذا في الآخرة أكبر، كما يعاقب ذوو الجرائم من المسلمين بما لا يعاقب به أهل الذمة من الكافرين؛ وإن كان الكافر أشد عذابًا في الآخرة من المسلم، ويعاقب الثاني على عدالته، مثل شارب النبيذ متأولاً، والبغاة المتأولين، بما لا يعاقب به الفاسق المستتر بالذنب، ويعاقب الداعي إلى بدعة، والمظهر للمنكر بما لا يعاقب به المنافق المستتر بنفاقه من غير دعوة للغير، فهذه أمثلة في الكافر والفاسق، وفي الفاسق والعدل، وفي المنافق والمؤمن المظهر لبدعة أو ذنب، وبينت سبب ذلك؛ أن عقوبة هؤلاء من باب دفع ظلم الظالمين عن الدين والدنيا؛ بخلاف من لم يظلم إلا نفسه، فإن عقوبته إلى ربه). "الفتاوى" (28/181-182).(1/240)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (هنا قاعدة شريفة ينبغي التفطن لها: وهو أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه فعقوبتنا له في الدنيا أكبر، وأما ما عاد من الذنوب بمضرة الإنسان في نفسه فقد تكون عقوبته في الآخرة أشد، وإن كنا نحن لا نعاقبه في الدنيا...، ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع بما لا يعاقب به الساكت، ويعاقب من أظهر المنكر بما لا يعاقب به من استخفى به، ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين وإن كان في الدرك الأسفل من النار، وهذا لأن الأصل أن تكون العقوبة من فعل الله تعالى، فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الآخرة، وقد يجزيهم أيضًا في الدنيا، وأما نحن فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات وترك المحرمات بحسب إمكاننا... ويبنى على هذه القاعدة: أنه قد يقر من الكفار والمنافقين بلا عقوبة من يكون عذابه في الآخرة أشد إذا لم يتعد ضرره إلى غيره: كالذين يؤتون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، والذين أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ظاهرًا مع نفاقهم؛ لأن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين، ويعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوه من الكفر والنفاق، وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلمًا فاسقًا أو عاصيًا أو عدلاً مجتهدًا مخطئًا، بل صالحًا أو عالمًا، ...وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم؛ وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد... وعلى هذا فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه، ولا يستفتى، ولا يصلى خلفه، قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبًا أو معذورًا؛ إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله). "الفتاوى" (10/373-377).(1/241)
الضابط الثاني: المسائل العلمية والعملية التي تنازع فيها أهل السنة لا هجر فيها للمخالف.
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الخلاف في مسألة رؤية غير المؤمنين لله سبحانه وتعالى ثم قال: (هذه "المسالة" ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها، وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعارًا، ويوجب تفريق القلوب، وتشتت الأهواء، وليست هذه "المسألة" فيما علمت مما يوجب المهاجرة، والمقاطعة؛ فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة واتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم - والناس بعدهم - في رؤية النبي ربه في الدنيا، وقالوا فيها كلمات غليظة، كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)(1)، ومع هذا فما أوجب هذا النِّزاع تهاجرًا ولا تقاطعًا، وكذلك ناظر الإمام أحمد أقوامًا من أهل السنة في "مسألة الشهادة للعشرة بالجنة" حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات، وكان أحمد وغيره يرون الشهادة(2)،
__________
(1) 95) رواه البخاري كتاب التفسير باب: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}. ح(4612). وباب تفسير سورة النجم ح(4855). ومسلم كتاب الإيمان باب معنى قول الله - عز وجل - : {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، وهل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء. ح(177)، وهذا لفظ مسلم.
(2) ب ) وقد استقر مذهب أهل السنة على الشهادة لهم بالجنة.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: (وأهل السنة يتولون عثمان وعلياً جميعاً، ويتبرؤون من التشيع والتفرق في الدين ، الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر ، وقد استقر أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة ولطلحة والزبير وغيرهما ممن شهد له الرسول بالجنة كما قد بُسط في موضعه، وكان طائفة من السلف يقولون: لا نشهد بالجنة إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي وطائفة = =أخرى من أهل الحديث كعلي بن المديني وغيره ، يقولون: هم في الجنة ولا يقولون: نشهد لهم بالجنة. والصواب أنَّا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة) اهـ. "منهاج السنة(6/202-203).(1/242)
ولم يهجروا من امتنع عن الشهادة؛ إلى مسائل نظير هذه كثيرة... وهنا آداب تجب مراعاتها:
منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره، وإن كان يعتقد أحد الطرفين؛ فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية؛ دون الساكت، فهذه أولى، ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارًا يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم؛ فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله). "الفتاوى" (6/502-504).
وقال رحمه الله: (ومن تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنها إلى عادته، فهو من أهل الذم والعقاب، وأما من كان عاجزًا عن معرفة حكم الله ورسوله وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود يثاب، لا يذم على ذلك ولا يعاقب). "الفتاوى" (20/225).
فإذا كان هذا هو حكم المقلد العاجز، فكيف بالعالم المجتهد الذي ينظر في أقوال العلماء ويتحرى الصواب منها ويبذل وسعه في اختيار ما يراه موافقًا للصواب؛ فهجر هذا والتشنيع عليه - في مسألة سبق فيها نزاع بين أهل السنة، ووسع الخلاف فيها أو في مثلها أهل السنة - من فعل أهل الغلو والبغي.
وقد (سئل رحمه الله عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟ فأجاب: الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم). "الفتاوى" (20/207).
الضابط الثالث: الهجر عقوبة شرعية لا مجال للهوى فيه، فليس للإنسان أن يهجر من شاء، ويوالي من شاء، بغير هدى من الله.(1/243)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (إذا جنى شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية، وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء، وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك، مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي، أو يقول: أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك؛ فإن هذا من جنس ما يفعله القساقسة والرهبان مع النصارى والحزابون مع اليهود، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم، وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته: "أطيعوني ما أطعت الله: فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(1)، وقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه»(2)، فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص، أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك: نظر فيه، فإن كان قد فعل ذنبًا شرعيًا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنبًا شرعيًا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره). "الفتاوى" (28/15).
(
__________
(1) 96) من حديث الحكم بن عمرو الغفاري، وعمران بن حصين رضي الله عنهما، رواه الإمام أحمد في مسنده ح(20604) بلفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» وهو في الصحيحة ح (179) وأما لفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» فرواه البغوي، في شرح السنة، من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - ح(2455).
والحديث في البخاري ح(7257)، ومسلم ح(1840)، عن علي - رضي الله عنه - مرفوعاً بلفظ: «لا طاعة في معصية الله»، كما سيأتي.
(2) 97) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، رواه ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب: لا طاعة في معصية الله، وهو في الصحيحة، ح(2324)، وصحيح الجامع ح(6099).(1/244)
والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإنه إن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله؛ ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله: فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان وهو مذموم مذنب في ذلك، ويسرف فيما أمر الله به ورسوله من الشدة حتى يتعدى الحدود وهو من إسرافه في أمره، فالأول مذنب، والثاني مسرف {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، فليقولا جميعًا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:147]، وقوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، فالمؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ما يحبه الله ورسوله، وينهى عما يبغضه الله ورسوله، ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه فتارة تغلب عليه الرأفة هوى، وتارة تغلب عليه الشدة هوى، فيتبع ما يهواه في الجانبين بغير هدى من الله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص:50]). "الفتاوى" (15/292-293).(1/245)
والغلو أو التفريط في هذا الباب وعدم مراعاة هذا الضابط يعد من الهوى وهاك بعض الأمثلة للغلو والتفريط في الهجر ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله– حيث قال: (ومن رد الشهادة والرواية مطلقًا من أهل البدع المتأولين فقوله ضعيف، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة، ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع فقوله ضعيف أيضًا، وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال به من هو خير منه مع القدرة على ذلك فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز، ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف كل ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السنة أن الصلوات التي يقيمها ولاة الأمور تُصلى خلفهم على أي حالة كانوا، كما يُحج معهم ويُغزى معهم). "منهاج السنة" (1/65-66).
وقال رحمه الله: (المنحرفون من اتباع الأئمة في الأصول والفروع؛ كبعض الخراسانيين من أهل جيلان وغيرهم، المنتسبين إلى أحمد وغير أحمد. إنحرافهم أنواع: ... الثالث: قول قاله الإمام فزيد عليه قدرًا أو نوعا، كتكفيره نوعًا من أهل البدع كالجهمية فيجعل البدع نوعًا واحدًا حتى يدخل فيه المرجئة والقدرية، أو ذمه لأصحاب الرأي بمخالفة الحديث والإرجاء، فيخرج ذلك إلى التكفير واللعن، أو رده لشهادة الداعية وروايته، وغير الداعية في بعض البدع الغليظة، فيعتقد رد خبرهم مطلقًا، مع نصوصه الصرائح بخلافه..). "الفتاوى" (20/184-185).
وذكر رحمه الله من فوائد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
((1/246)
أن لا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة:8]، وقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، وقال: {فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]، فإن كثيرًا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين). "الفتاوى" (14/481-482).
الضابط الرابع: كلام العلماء من السلف وأئمة الخلف في هجر المعين أو عدم هجره، إنما يثبت حكمه في نظيره، فجواب العالم في المعين من حيث الهجر وعدمه، خرج على سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطابًا لمعين قد علم حالة، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان، الصادرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنما يثبت حكمها في نظيرها.
الضابط الخامس: الناس في الهجر ما بين غلو أو تفريط، وكلاهما مائل عن الحق، وأهل الحق نظروا قبل الهجر هل هم بفعلهم للهجر أو تركهم له قد وافقوا الشرع أم لا، ثم استعملوا من الهجر أو عدمه ما يوافق الأمر والشرع من غير غلو أو تفريط .
ومما يدل على هذين الضابطين من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله – قوله:
(وكثير من أجوبة الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله، أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إنما يثبت حكمها في نظيرها.(1/247)
فإن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا، فاستعملا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية؛ بل تركوها ترك المعرض؛ لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا، فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه، والجافي عنه، والله سبحانه أعلم). (28/210-213).
الضابط السادس: المقصود من الهجر الإحسان والرحمة بالمهجور لا التشفي الانتقام قال - رحمه الله -: (وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيراً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله، للرحمة والإحسان، لا للتشفي والانتقام). "المنهاج" (5/ 239).(ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد»(1)، وقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي قراءة أُبي: {وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ}، والقراءة المشهورة تدل على ذلك: فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعًا له، فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات، والأنبياء أطباء الدين، والقرآن أنزله الله شفاء لما في الصدور، فالذي يعاقب الناس عقوبة شرعية إنما هو نائب عنه وخليفة له، فعليه أن يفعل كما يفعل على الوجه الذي فعل). "المنهاج" (6/237-238).
__________
(1) 98) سبق تخريجه رقم (58).(1/248)
الضابط السادس : الهجر عند المصلحة الراجحة لا يلزم منه الحكم على المهجور بالبدعة أو الفسوق.
( ومن هذا الباب هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ولمن تاب بعد الإجابة، ولمن فعل بدعة ما؛ مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة؛ فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم، كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق، حتى قد قيل أن اثنين منهما شهدا بدرًا، وقد قال الله لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»(1)، وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحد أهل العقبة، فهذا "أصل عظيم"، أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلاً أو رجلاً صالحًا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة؛ وبين عقوبة الآخرة، والله سبحانه أعلم). "الفتاوى" (10/377.375).
الضابط السابع: الهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالهجرة الشرعية، هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابًا، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به: كان خارجًا عن هذا. وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة الله.
__________
(1) 99) من حديث علي - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: فضل من شهد بدراً. ح(3983).
ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل أهل بدر - رضي الله عنهم - ، وقصة حاطب بن أبي بلتعة. ح(2494).(1/249)
والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث، كما جاء في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»(1)، فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث، كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث.
وفي "الصحيحين" عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تفتح أبواب الجنة كل أثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا؛ إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا»(2)، فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت، وكما رخص في هجر الثلاث، فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه، فـ"الأول" مأمور به، و"الثاني" منهي عنه؛ لأن المؤمنين إخوة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم»(3)،
__________
(1) 100) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - ، رواه البخاري كتاب الأدب، باب: الهجرة، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث. ح(6077). ومسلم كتاب البر والصلة، والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث، بلا عذر شرعي. ح( 2560).
(2) 101) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب. ح(2565).
(3) 102) من حديث أنس - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الأدب، باب: الهجرة. ح(6076).
ومسلم كتاب البر، والصلة، والآداب. ح(2559).(1/250)
وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في "السنن": «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»(1). وقال في الحديث الصحيح: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»(2).
وهذا لأن الهجر من "باب العقوبات الشرعية" فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله). "الفتاوى" (28/207-208).
فصل: في مراعاة المصلحة والمفسدة في الهجر
__________
(1) 103) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب: إصلاح ذات البين. ح(4919).
الترمذي، كتاب صفة القيامة، والرقائق، والورع، باب (56). ح(2509). والحديث في صحيح أبي داود رقم(4111).
(2) 104) من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم.
ح(6011). ومسلم كتاب البر والصلة، والآداب، باب: تراحم المؤمنين، وتعاطفهم، وتعاضدهم.ح(2586).(1/251)
من رأى الواقع المعاش يرى إفراطًا وتفريطًا في هذا الباب المهم، الذي إذا لم ينضبط حصل الفساد الكبير والشر المستطير؛ من اغترار بأهل البدع، أو هجر لمن لا يجوز هجره، أو الغلو والتجاوز في الهجر، والسبب في عدم ضبط هذا الباب هو الجهل العظيم بمنهج السلف الصالح في هذا الباب، حتى من بعض المتصدرين للتعليم الذين ابتليت الأمة بهم، وابتلوا بعدم فهم منهج السلف فهمًا صحيحًا، وغاية أمرهم في هذا الباب أنهم تعلقوا بكلام لواحد من السلف في قضية معينة، ونزلوا عليها جميع قضايا الهجر، فتأثر بهم من يأخذ عنهم، ومن يعظمهم، فساروا على المنهج نفسه، فحصل ما ترى أخي القارئ مما يندى له الجبين وينفطر له القلب حزنًا على شباب الأمة، الذين اتخذ كثير منهم رؤوسًا جهالاً سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا.
والمقصود من الهجر زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن الظلم وتحضها على فعل ضد ظلمه من الإيمان والسنة، ومن مقصود الهجر ترك سيئة البدعة، وفعل حسنة الجهاد، والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين، وتقوية الإيمان والعمل الصالح عند أهله.
والهجر يختلف باختلاف حال الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، وكذا يختلف باختلاف أحوال المعاقبين بالهجر من قلة البدعة وكثرتها وظهور السنة وخفائها وقوة المبتدعة وأهل الفجور وضعفهم؛ والهجر مقرون بالاستطاعة فمن لم يقدر على الهجر بسبب كثرة أهل البدع وقوتهم مع قلة أهل السنة وضعفهم، يختلف حاله عمن لم يكن كذلك.(1/252)
ولهذا يفرق بين الأماكن التي تكثر فيه البدع وما ليس كذلك. والمقصود أن يعلم أن حكم العاجز يختلف عن حكم القادر، وأن حكم المحتاج إلى المجالسة لمصلحة راجحة يختلف عن حكم من لم يحتج إلى المجالسة، وأن حكم المكره يختلف عن حكم من لم يكن كذلك، وأن حكم من يحتاج إلى مداراة الظالم ونحوه يختلف عن حكم من لم يحتج إلى ذلك. وأن حكم من احتيج إلى روايته وعلمه يختلف عن حكم من لم يحتج إليه في ذلك، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة خير من العكس.
ولابد من النظر في المصلحة والمفسدة في الهجر وترجيح الأصلح منهما، فقد يكون التأليف هو الأصلح، وقد يكون الهجر هو الأصلح؛ لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه.
فحديثوا العهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة، والسادة المطاعون في عشائرهم ونحوهم الأصلح فيهم التأليف.
وكذا إن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بالهجر، بل يزيد الشر وتبطل كثير من الحسنات المأمور بها، بحيث تكون مفسدة الهجر غالبة على المصلحة لم يشرع الهجر.
وأما إن كان بالهجر ينْزجر المهجور أو يبتعد العامة عن مثل حاله بحيث تكون مصلحة الهجر غالبة على المفسدة؛ شرع الهجر، وما ذكرته هنا تلخيص مني لكلام شيخ الإسلام. وإليك كلامه - رحمه الله - في توضيح ما سبق.(1/253)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وإذا عُرف أن هذا هو من باب العقوبات الشرعية عُلم أنه يختلف باختلاف الأحوال من قلة البدعة، وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع قد يكون هو التأليف تارة والهجران أخرى. كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف أقوامًا من المشركين ممن هو حديث عهد بالإسلام ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطي المؤلفة قلوبهم مالا يعطي غيرهم. قال في الحديث الصحيح: «إني أعطي رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، أعطي رجالاً لما جعل الله في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالاً لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب»(1) وقال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبَّه الله على وجهه في النار»(2) أو كما قال. وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك، لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح). "منهاج السنة" (1/63-65).
__________
(1) 105) من حديث عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد. ح( 923).
(2) 106) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام، أو الخوف من القتل. ح(27). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه. ح(150).(1/254)
فـ(الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر؛ بل التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قومًا ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرًا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان(1)، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه)."الفتاوى"(28/206-207).
__________
(1) ج ) كذا في المطبوعة ولعل الصواب التجهم، فهو الذي أشتهر في خراسان، وانظر"الفتاوى" (28/210-213)، والله أعلم .(1/255)
وقال رحمه الله: (وأما من كان مظهرًا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لابد أن يصلي عليهم بعض المسلمين، ومن امتنع عن الصلاة على أحدهم زجرًا لأمثاله عن مثل ما فعله، كما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له، وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع، كان عمله بهذه السنة حسنًا، وقد قال لجندب بن عبدالله البجلي ابنه: إني لم أنم البارحة بشما؛ فقال: أما أنك لو مت لم أصل عليك، كأنه يقول: قتلت نفسك بكثرة الأكل، وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا، فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسنًا، ومن صلى على أحدهم يرجوا له رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة، كان ذلك حسنًا، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت إحداهما. وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به، كما قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وكل من أظهر الكبائر فإنه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره، حتى ممن في هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان والله أعلم). "الفتاوى" (24/286-287).
(وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك فإنه يفعل منه بحسب الاستطاعة، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين، فإنه يجاهد من يقدر على جهاده، وكذلك إذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين فإنه يعاقب من يقدر على عقوبته، ...فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله). "الفتاوى" (15/312-313).(1/256)
وقال رحمه الله: (وأما تارك الصلاة ونحوه، من المظهرين لبدعة أو فجور فحكم المسلم يتنوع كما تنوع الحكم في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حق مكة وفي المدينة، فليس حكم القادر على تعزيرهم بالهجرة حكم العاجز، ولا هجرة من لا يحتاج إلى مجالستهم كهجرة المحتاج.
والأصل أن هجرة الفجار نوعان: هجرة ترك، وهجرة تعزير. أما الأولى فقد دل عليها قوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل:10]، وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]، فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات، ويهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة. وأما "هجر التعزير" فمثل هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا، وهجر عمر والمسلمين لصبيغ، فهذا من نوع العقوبات، فإذا كان يحصل بهذا الهجر حصول معروف، أو اندفاع منكر، فهي مشروعة،وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب فليست مشروعة)."الفتاوى"(28 /216-217)
((1/257)
وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي: لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل، وأقل ذلك أن يكون منكرًا لظلمهم، ماقتاً لهم، شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان، كما في الحديث: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان»(1)، وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} [التحريم:11]، وكذلك ما ذكره عن يوسف الصديق وعمله على خزائن الأرض لصاحب مصر لقوم كفار. وذلك أن مقارنة الفجار إنما يفعلها المؤمن في موضعين، أحدهما أن يكون مكرهًا عليها. والثاني: أن يكون ذلك في مصلحة دينية راجحة على مفسدة المقارنة، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه، فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة، وفي الحقيقة فالمكره هو من يدفع الفساد الحاصل باحتمال أدناهما وهو الأمر الذي أكره عليه). "الفتاوى" (15/324-325).
__________
(1) 107) سبق تخريجه رقم (70).(1/258)
وقال رحمه الله: (فعلى المصلي أن يتوب عن المسابقة، ويتوب من نقر الصلاة، وترك الطمأنينة فيها، وإن لم ينته فعلى الناس كلهم أن يأمروه بالمعروف الذي أمره الله به، وينهوه عن المنكر الذي نهاه الله عنه، فإن قام بذلك بعضهم وإلا أثموا كلهم. ومن كان قادرًا على تعزيره وتأديبه على الوجه المشروع، فعل ذلك، ومن لم يمكنه إلا هجره وكان ذلك مؤثرًا فيه هجره حتى يتوب،). "الفتاوى" (23/338). (وفي مسائل إسحاق بن منصور(1)-وذكره الخلال(2)في "كتاب السنة" في باب مجانبة من قال: القرآن مخلوق- عن إسحاق أنه قال لأبي عبدالله: من قال: القرآن مخلوق؟ قال: ألحق به كل بلية، قلت: فيظهر العداوة لهم أم يداريهم؛ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم. وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة: من الدفع بالتي هي أحسن، ومخاطبتهم بالحجج، يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم، والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم، حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر، وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم.
__________
(1) د )الكوسج أبو يعقوب المروزي، نزيل نيسابور، الإمام الحافظ الفقيه، صاحب المسائل عن الإمام أحمد، توفي رحمه الله سنة (251)، انظر سير أعلام النبلاء (12/258-260) . هـ )أبو بكر، أحمد بن محمد البغدادي الخلاّل، الإمام الحافظ الفقيه، شيخ الحنابلة، قال الخطيب: جمع الخلال علوم أحمد وتطلبها، وسافر لأجلها، وكتبها، وصنفها كتباً، لم يكن - فيمن ينتحل مذهب أحمد - أحد أجمع لذلك منه . وقال الذهبي: لم يكن قبله للإمام مذهب مستقل، حتى تتبع هو نصوص أحمد، ودوَّنَها، وبرهنها بعد الثلاث مئة . توفي رحمه الله سنة (311) .(1/259)
فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات... وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة؛ فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين: بين القادر والعاجز، وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته وقوته وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم، من الكفر والفسوق والعصيان، فإن كلما حرمه الله فهو ظلم؛ أما في حق الله فقط، وأما في حق عباده، وأما فيهما. وما أمر به من هجر الترك والانتهاء وهجر العقوبة والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة؛ بل تكون سيئة؛ وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة، فالهجران قد يكون مقصودة ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينْزَجروا ويرتدعوا. وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله، فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحضها على فعل ضد ظلمه: من الإيمان والسنة ونحو ذلك. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورًا بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة. وكان مدارتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف(1)، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي.
__________
(1) و قال شيخ الإسلام: (ليس مذهب السلف مما يتستر به إلا في بلاد أهل البدع؛ مثل بلاد الرافضة والخوارج، فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه واستنانه؛ كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه؛ وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه، حين كانوا في دار الحرب). "الفتاوى" (4/149).(1/260)
وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.وكثير من أجوبة الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله، أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إنما يثبت حكمها في نظيرها...) "الفتاوى" (28/210-213).
فصل: في كيفية هجر الدعاة إلى البدعة والمظهرين للفجور إذا توفرت الضوابط الشرعية .
(1) عدم مجالستهم، ومناكحتهم، ومخاطبتهم ومن ذلك رد شهادتهم وروايتهم وعدم أخذ العلم عنهم، وتوليتهم الولايات العامة.
قال شيخ الإسلام: (وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها، وكذلك هجران الدعاة إلى البدع، وهجران الفساق، وهجران من يخالط هؤلاء كلهم ويعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى، فالزناة واللوطية وتارك الجهاد وأهل البدع وشربة الخمر كلهم ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام..)."الفتاوى" (15/311-313).
وقال -رحمه الله-: (فإذا كان داعية منع من ولايته، وإمامته، وشهادته، وروايته). "الفتاوى"(23/ 343).
و(كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة: كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت، وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين، ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع). "الفتاوى" (24/174-175).
((1/261)
ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء، وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء: هل تُقبل مطلقًا؟ أو ترد مطلقًا؟ أو ترد شهادة الداعية إلى البدع؟ وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث، لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته، ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات، كالصحاح والسنن والمسانيد، الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع، وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية. وذلك لأنهم لم يَدَعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يُهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته، ومِن هَجره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يستشهد). "المنهاج" (1/62-63).
وذكر رحمه الله أن الإمام أبا حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم، وأن ممن ردها الإمام مالك وأحمد وقال: (والمقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، فإذا هجر ولم يصل خلفه ولم تقبل شهادته كان ذلك منعاً له من إظهار البدعة؛ ولهذا فرق أحمد وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره). "الفتاوى" (13/125).
(ومن هذا الباب سماع كلام أهل البدع والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ويدعوه إلى سبيلهم وإلى معصية الله). "الفتاوى" (15/336).
(2) حرمانهم من مال الزكاة ونحوه إن كانوا يتقوون به على بدعتهم أو كان ذلك يردعهم عنها .
قال رحمه الله: (ومن عقوبة المظهر للبدعة التي تخالف الكتاب والسنة من بدع الاعتقادات والعبادات أن يُحرم من مال الزكاة ونحوه إن كان فقيرًا أو مسكينًا حتى يتوب). "الفتاوى" (28/570).(1/262)
وقال: (وأما الزكاة: فينبغي للإنسان أن يتحرى بها المستحقين من الفقراء والمساكين، الغارمين، وغيرهم من أهل الدين، المتبعين للشريعة، فمن أظهر بدعة أو فجورًا فإنه يستحق العقوبة بالهجر وغيره، والاستتابة، فكيف يعان على ذلك؟!). "الفتاوى" (25/87).
(3) ترك عيادتهم وتشييع جنائزهم والصلاة عليهم.
قال رحمه الله: (ومن هذا الباب ترك عيادتهم وتشييع جنائزهم، كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهي عنه). "منهاج السنة" (1/63).
وقال رحمه الله: (ومن كان مبتدعًا ظاهر البدعة، وجب الإنكار عليه ومن الإنكار المشروع أن يُهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته، ويدعو إليه، وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة، والله أعلم). "الفتاوى" (24/292).
وقال: (فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الصلاة على المدين الذي لا قضاء له، فعلى فاعلي الكبائر أولى، ويدخل في ذلك، قاتل نفسه، والغال: لما لم يصل عليهما، ويستدل بذلك على أنه يجوز لذوي الفضل ترك الصلاة على ذوي الكبائر الظاهرة، والدعاة إلى البدع، وإن كانت الصلاة عليهم جائزة في الجملة). "الفتاوى" (24/289).
قال رحمه الله: (وأما من كان مظهرًا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لابد أن يصلي عليهم بعض المسلمين). "الفتاوى" (24/286).
((1/263)
وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور مصلحة من جهة انزجار الناس، فالكف عن الصلاة كان مشروعًا لمن كان يؤثر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلي عليه...، وللعلماء هنا نزاع: هل يترك الصلاة على مثل هذا الإمام فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «صلُّوا على صاحبكم»(1)؟ أم هذا الترك يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم مشروع لمن تطلب صلاته؟ وهل الإمام هو الخليفة أو الإمام الراتب؟ وهل هذا مختص بهذين أم هو ثابت لغيرهما؟ فهذه كلها مسائل تذكر في غير هذا الموضع). "المنهاج" (5/235-236).
(4) عدم الصلاة خلفهم.
قبل أن أنقل لك أخي القارئ كلام شيخ الإسلام في الباب، لا بد أن أذكر لك ضوابط مهمة في هذه المسألة، لخصتها واستنبطتها من كلامه -رحمه الله– ليسهل على القارئ فهم هذه المسألة:
1- تجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق وليس من شرط الإئتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، ومن خالف ذلك فهو مبتدع مخالف للإجماع.
2- داعية أهل البدع والمظهر للفجور يهجر فلا يصلي خلفه لا لبطلان صلاته ولكن لإظهاره المنكر، وهذا الباب مما يفرق فيه بين الداعية للبدعة، وغير الداعية والمظهر للفجور والمستتر.
3- إذا أمكن الإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك، لكن إذا ولاه غيره، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين، بتحصيل أعظم الضررين.
__________
(1) 108) سبق تخريجه رقم (60،57،56).(1/264)
4- إذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه مالا يمكنه أن يفعله إلا خلفه، كالجمع والأعياد، ومن أصول أهل السنة في هذا الباب أنه تصلى الجمعة والعيد والجماعة خلف كل إمام براًَ كان أو فاجراً، إذا لم يكن هناك إمام غيره، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، والتارك للجمعة والجماعة خلف أئمة الجور ودعاة أهل البدع مطلقاً معدود عند السلف والأئمة من أهل البدع. وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهو أولى من فعلها خلف الفاجر.
5- من صلى خلف المظهر للفجور أو الداعية إلى البدعة من غير عذر ففي صحة صلاته قولان مشهوران في مذهب أحمد ومالك، والقول بالصحة مذهب الشافعي وأبي حنيفة -وهو الصواب-؛ لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار أمر منفصل عن الصلاة، وأما مع العذر بحيث لا يمكنه الصلاة إلا خلفة كالجمعة، فهنا لا تعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ( تجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم). "الفتاوى" (4/542).
وقال: (يجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة، ولا فسقًا، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، وليس من شرط الإئتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال). "الفتاوى" (23/351).
وأما داعية أهل البدع فالذي عليه (آخر أهل السنة أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه). (10/376-377).(1/265)
وقال رحمه الله: (وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور: منهم من أطلق الإذن ومنهم من أطلق المنع، والتحقيق أن الصلاة خلفهم لا يُنهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يُهجروا وأن لا يُقدَّموا في الصلاة على المسلمين). "منهاج السنة" (1/63).(1/266)
وقال: (أما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور، وتفصيل ليس هذا موضع بسطه: لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهرًا للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته؛ ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر...، فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن الإنسان ألا يقدم مظهرًا للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررًا من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين، بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا. فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه مالا يمكنه أن يفعلها إلا خلفه، كالجمع، والأعياد، والجماعة. إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقًا معدودين عند السلف، والأئمة من أهل البدع.(1/267)
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو أولى من فعلها خلف الفاجر. وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد العلماء. منهم من قال:أنه يعيد لأنه فعل مالا يشرع، بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهيًا عنها فيعيدها.
ومنهم من قال: لا يعيد، قال: لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة. وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة، فهنا لا تعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل: إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، أعيدت الجمعة خلفه، وإلا لم تعد، وليس كذلك. بل النِّزاع في الإعادة حيث ينهى الرجل عن الصلاة. فأما إذا أمر بالصلاة خلفه فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه، لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين.(1/268)
وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه، ومن قال إنه يكفر أمر بالإعادة، لأنها صلاة خلف كافر. لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء والناس مضطربون في هذه المسالة. وقد حكى عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي فيها قولان. وعن الإمام أحمد أيضًا فيها روايتان. وكذلك أهل الكلام فذكروا للأشعري فيها قولان. وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل. وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها...). "الفتاوى"(23/342-345). (وإذا لم يمكن صلاة الجمعة والجماعة وغيرهما إلا خلف الفاجر والمبتدع صُليت خلفه ولم تُعد، وإن أمكن الصلاة خلف غيره، وكان في ترك الصلاة خلفه هجر له، ليرتدع هو وأمثاله به عن البدعة والفجور، فعل ذلك، وإن لم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة دينية صُلّي خلفه، وليس على أحد أن يصلّي الصلاة مرتين...). "منهاج السنة" (4/526-527).
وقال رحمه الله: (...ولو صلى خلف من يعلم أنه فاسق أو مبتدع ففي صحة صلاته قولان مشهوران في مذهب أحمد ومالك، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة الصحة...، ولو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم.(1/269)
ولهذا قالوا في العقائد: إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام برًا كان أو فاجرًا، وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد، فإنها تصلى خلفه الجماعات، فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده، وإن كان الإمام فاسقًا، هذا مذهب جماهير العلماء: أحمد بن حنبل، والشافعي، وغيرهما، بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد، وغيره، من أئمة السنة، والصحيح أنه يصليها، ولا يعيدها، فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة(1)،
__________
(1) ز ) ابن أبي معيط، الأموي القرشي، وقد جاء في صحيح مسلم رقم (1707)عن حُضين بن المنذر أنه قال: شهدت عثمان بن عفان وأُتي بالوليد، قد صلى الصبح ركعتين ، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حُمران؛ أنه شرب الخمر. وشهد آخر؛ أنه رآه يتقيأ. فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها. فقال يا على، قم فاجلده. فقال علي : قم، يا حسن، فاجلده. فقال الحسن ولِّ حارَّها من تولى قارَّها،( فكأنه وجد= =عليه)، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده. فجلده. وعلي يعد. حتى بلغ أربعين. فقال: أمسك. ..) وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (3/412-416). 109) رواه الإمام البخاري في صحيحة كتاب الأذان، باب: إمامة المفتون والمبتدع رقم(695). من طريق عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان... الأثر.(1/270)
وكان يشرب الخمر حتى أنه صلى بهم مرة الصبح أربعًا ثم قال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة! ولهذا رفعوه إلى عثمان. وفي "صحيح البخاري" أن عثمان رضي الله عنه لما حُصر صلى بالناس شخص، فسال سائل عثمان، فقال: إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة، فقال: يا ابن أخي: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم)(1). ومثل هذا كثير.
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورًا لا يرتب إمامًا للمسلمين، فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنًا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك حتى يتوب، أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان فيه مصلحة، ولم يفت المأموم جمعة، ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة، فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل، وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق، أو بدعة، تظهر مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الرافضة، والجهمية ونحوهم...(1/271)
وأما الصلاة خلف المبتدع: فهذه المسألة فيها نزاع، وتفصيل، فإذا لم تجد إمامًا غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين وكصلوات الحج، خلف إمام الموسم فهذه تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة، وإنما تَدَعُ مثل هذه الصلوات خلف الأئمة؛ أهلُ البدع كالرافضة ونحوهم، ممن لا يرى الجمعة والجماعة إذا لم يكن في القرية إلا مسجد واحد، فصلاته في الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته في بيته منفردًا؛ لئلا يفضي إلى ترك الجماعة مطلقًا.
وأما إذا أمكنه أن يصلي خلف غير المبتدع فهو أحسن، وأفضل بلا ريب، لكن إن صلى خلفه ففي صلاته نزاع بين العلماء، ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة تصح صلاته. وأما مالك وأحمد، ففي مذهبهما نزاع وتفصيل، وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة، مثل بدع الرافضة والجهمية، ونحوهم. فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد، مثل "مسالة الحرف، والصوت" ونحوها، فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعًا، وكلاهما جاهل متأول، فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس، فأما إذا ظهرت السنة وعلمت فخالفها أحد، فهذا هو الذي فيه النِّزاع، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم). "الفتاوى"(23/351-356)، وانظر نفس المصدر (360-368،361-369).
فائدة: هل يُمتحن المهجور - قبل أن يجالس - إذا تاب.
(سئل شيخ الإسلام عن مسلم بدرت منه معصية في حال صباه توجب مهاجرته ومجانبته، فقالت طائفة منهم: يستغفر الله، ويصفح عنه، ويتجاوز عن كل ما كان منه، وقالت طائفة أخرى: لا تجوز أخوَّته، ولا مصاحبته فأي الطائفتين أحق بالحق؟؟.(1/272)
فأجاب: لا ريب أن من تاب إلى الله توبة نصوحًا تاب الله عليه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، وقال تعالى: { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، أي لمن تاب، وإذا كان كذلك، وتاب الرجل، فإن عمل عملاً صالحًا سنة من الزمان، ولم ينقض التوبة، فإنه يقبل منه ذلك، ويجالس ويكلم، وأما إذا تاب ولم تمض عليه سنة، فللعلماء فيه قولان مشهوران، منهم من يقول: في الحال يجالس، وتقبل شهادته، ومنهم من يقول: لابد من مضي سنة، كما فعل عمر بن الخطاب بصبيغ بن عسل، وهذه من مسائل الاجتهاد، فمن رأى أن تقبل توبة هذا التائب، ويجالس في الحال قبل اختباره: فقد أخذ بقول سائغ، ومن رأى أنه يؤخر مدة حتى يعمل صالحًا، ويظهر صدق توبته، فقد أخذ بقول سائغ، وكلا القولين ليس من المنكرات). "الفتاوى" (28/214-215).
الباب الحادي والعشرون
أهل السنة والجماعة
هم القائمون بالولاء والبراء من غير إفراط ولا تفريط
(والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته؛ تابعًا لأمر الله ورسوله. فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويُوالي من يُوالي الله ورسوله، ويُعادي من يُعادي الله ورسوله، ومن كان فيه ما يُوالى عليه من حسنات وما يُعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض؛ بحسب ما فيهم من البر والفجور، فإن {مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8].(1/273)
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الخوارج والمعتزلة، وبخلاف المرجئة والجهمية؛ فإن أولئك يميلون إلى جانب، وهؤلاء إلى جانب، وأهل السنة والجماعة وسط). "الفتاوى" (35/94-95).
(والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9-10]، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم...، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقًا للثواب فقط، وإلا مستحقًا للعقاب فقط). "الفتاوى" (28/208-209).
((1/274)
وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقًا، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقًا، وأعرض عن حسانته، محاط (؟) وحال من يقول بالتحافظ (؟) وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة.
وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه، فهذا هذا). "الفتاوى" (11/15-16).
و(من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه الله ورسوله من الكفر والفسوق والعصيان؛ لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه، فإن لم يكن مبغضًا لشيء من المحرمات أصلاً؛ لم يكن معه إيمان أصلاً). "الفتاوى" (7/41).
(و"أهل البدع" المدعون للمحبة لهم من الإعراض عن إتباع الرسول بحسب بدعتهم، وهذا من حبهم لغير الله، وتجدهم من أبعد الناس عن موالاة أولياء الرسول، ومعاداة أعدائه والجهاد في سبيله لما فيهم من البدع التي هي شعبة من الشرك). "الفتاوى" (8/365).
فصل: في أن الولاء والبراء مضبوطان بالشرع(1/275)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه؛ ومقدار حبه وبغضه: هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله؛ بحيث يكون مأمورًا بذلك الحب والبغض؛ لا يكون متقدمًا فيه بين يدي الله ورسوله؛ فإنه قد قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله، ومجرد الحب والبغض هوى؛ لكن المحرم إتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله؛ ولهذا قال: {وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص:26]، فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله، وهو هداه الذي بعث به رسوله؛ وهو السبيل إليه). "الفتاوى"(28/133-134).
(فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات، والحسنات: هي ما وافق طاعة الله ورسوله، من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره، وهذا هو السنة، فالخير كله -باتفاق الأمة- هو فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك. ومن تكلم فيه من العلماء والأمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل الإيمان بمخالفته السنة والشريعة). "الفتاوى" (4/14).
وقال رحمه الله: ("والولي" مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد، فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته). "الفتاوى" (11/62).
((1/276)
و"أولياء الله" هم المؤمنون المتقون، سواء سمي أحدهم فقيرًا أو صوفيًا(1)أو فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك). "الفتاوى" (11/22).
(ومعلوم أنه في كل طائفة بار وفاجر، وصديق وزنديق. والواجب موالاة أولياء الله المتقين من جميع الأصناف، وبغض الكفار والمنافقين من جميع الأصناف، والفاسق الملي يعطى من الموالاة بقدر إيمانه، ويعطى من المعاداة بقدر فسقه). "الفتاوى" (28/ 578).
فصل: في صور مخالفة للشريعة من الولاء والبراء .
__________
(1) أ ) المقصود بالصوفي هنا الزاهد، والزهد (المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع. وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ "الصوفي" لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد) "الفتاوى" (11/28-29) (وفي المتسمين بذلك من أولياء الله وصفوته وخيار عباده ما لا يحصى) "الفتاوى" (10/370) هكذا كان حال كثير من المنتسبين إلى الزهد والتصوف في أول الأمر, وكان عامتهم أهل عقيدة سليمة وشريعة مستقيمة, ثم انحرفت الصوفية شيئًا فشيئًا, ووقعت في أنواع من الضلالات, وانتسبت إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة, بل مرق كثير من المنتسبين إلى التصوف من السنة,
ووقعوا في أنواع من البدع, بل وقع كثير منهم –ولا حول ولا قوة إلا بالله- في الكفر والشرك. ولعلماء أهل السنة قديمًا وحديثًا صولات وجولات مع هذه الطوائف المنحرفة, ومن ذلك مناظرة شيخ الإسلام للطائفة البطائحية الرفاعية. انظرها في "الفتاوى" (11/445-475) .(1/277)
من نظر في واقع الناس من أمراء أو علماء أو فقهاء أو مجاهدين أو عباد أو طلبة علم أو عامة وجد أن صور الولاء والبراء المخالفة للشريعة كثيرة في هذه الأصناف –إلا من رحمه الله- وَوُفق لضبط ذلك بميزان الشرع، وسأذكر لك أيها القارئ اللبيب بعض ما وقفت عليه من كلام شيخ الإسلام في ذلك.
1- تعليق المولاة والمعاداة بغير الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة والتي أجمعت الأمة عليها .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض والموالاة والمعادات والطاعة والمعصية والبر والفجور والعدالة والفسق والإيمان والكفر هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأما ما سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف -كأسماء الشعوب والقبائل-فلا يجوز تعليق الأحكام الشرعية بها بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كحال من يعلق الموالات والمعادات بأسماء القبائل أو البلدان، أو المذاهب المتبوعة في الإسلام كالحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والمشايخ ونحوهم). "بيان تلبيس الجهمية" (1/109).
ومن الأصول المعروفة في الشريعة: أن العبادة متعلقة بطاعة الله ورسوله؛ وأن الأمور كلها معلقة بمحبة الله ورسوله، وبرضا الله ورسوله؛ (فتعليق الأمور من المحبة والبغضة، والموالاة والمعاداة، والنصرة والخذلان، والموافقة والمخالفة، والرضا والغضب، والعطاء والمنع؛ بما يخالف هذه الأصول المنزلة من عند الله مما هو "أخص منها" أو "أعم منها" أو"أعم من وجه وأخص من وجه".
فالأعم: ما عليه المتفلسفة، ومن اتبعهم - من ضلال المتكلمة والمتصوفة والممالك المؤسسة على ذلك كملك الترك وغيرهم - في تسويغ التدين، بغير ما جاء به محمد رسول الله، وإن عَظَّمَ محمدًا وجعل دينه أفضل الأديان، وكذلك من سوغ النجاة والسعادة بعد مبعثه بغير شريعته.(1/278)
و"الأعم من وجه الأخص من وجه": مثل الأنساب، والقبائل؛ والأجناس العربية، والفارسية، والرومية، والتركية أو الأمصار والبلاد.
و"الأخص مطلقًا": الانتساب إلى جنس معين من أجناس بعض شرائع الدين كالتجند للمجاهدين، والفقه للعلماء، والفقر والتصوف للعباد، أو الانتساب إلى بعض فرق هذه الطوائف كإمام معين، أو شيخ، أو ملك، أو متكلم من رؤوس المتكلمين، أو مقالة، أو فعل تتميز به طائفة، أو شعار هذه الفرق من اللباس من عمائم أو غيرها، كما يتعصب قوم للخرقة، أو "اللبسة" يعنون الخرقة الشاملة للفقهاء، والفقراء، أو المختصة بأحد هذين، أو بعض طوائف أحد هؤلاء أو لباس التجند، أو نحو ذلك. كل ذلك من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة؛ وأهلها خارجون عن السنة والجماعة، داخلون في البدع والفرقة؛ بل دين الله تعالى: أن يكون رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - : هو المطاع أمره، ونهيه، المتبوع في محبته ومعصيته، ورضاه، وسخطه، وعطائه، ومنعه، وموالاته، ومعاداته، ونصره وخذلانه.
ويعطى كل شخص أو نوع من أنواع العالم، من الحقوق: ما أعطاهم إياه الرسول. فالمقرب من قربه، والمقصى من أقصاه، والمتوسط من وسطه، وتحب من هذه الأمور: أعيانها، وصفاتها ما يحبه الله ورسوله منها. ويكره منها ما كرهه الله ورسوله منها، ويترك منها -لا محبوبًا ولا مكروهًا- ما تركه الله؛ ورسوله كذلك -لا محبوبًا ولا مكروهًا.
ويؤمر منها بما أمر الله به ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، ويباح منها ما أباحه الله ورسوله، ويعفى عما عفا الله عنه ورسوله ويفضل منها ما فضله الله ورسوله، ويقدم ما قدمه الله ورسوله، ويؤخر ما أخره الله ورسوله، ويرد ما تنوزع منها إلى الله ورسوله؛ فما وضح اتبع، وما اشتبه بين فيه وما كان منها من الاجتهادات المتنازع فيها التي أقرها الله ورسوله... فما وسعه الله ورسوله وسع، وما عفا الله عنه ورسوله عفي عنه.(1/279)
وما اتفق عليه المسلمون من إيجاب، أو تحريم، أو استحباب، أو إباحة، أو عفو بعضهم لبعض عما أخطأ فيه، وإقرار بعضهم لبعض فيما اجتهدوا به، فهو مما أمر الله به ورسوله؛ فإن الله ورسوله أمر بالجماعة، ونهى عن الفرقة. ودل على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة). "الفتاوى" (3/341-344).
و(الطائفة إنما تتميز بذكر قولها، أو بذكر رئيسها: ولهذا كان المؤمنون يتميزون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله، والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى هذا بني الإيمان، وبذلك وجب الموالاة والمعاداة... فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنًا وظاهرًا، وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه ردوه إلى الكتاب والسنة، ولا يجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته؛ لا أخص من المؤمنين، لو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية، والشافعية، والحنبلية، أو غير ذلك -ولا أعم من ذلك- ولا يجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية، وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها ما دلت عليه، ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له). "بيان تلبيس الجهمية" (1/242-244).
(والأقوال إذا حكيت عن قائلها، أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان، وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة، فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز، كاسم المسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، والمصلح والمفسد، وأمثال ذلك). "درء التعارض" (1/ 272- 273).
((1/280)
وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما يراد به التعريف، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63]، وقال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء؛ إنما وليي الله وصالح المؤمنين»(1)،
__________
(1)
110) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ، رواه البخاري،كتاب الأدب، باب: تُبَلُّ الرحم ببَلالها ح(5990) ومسلم كتاب الإيمان، باب موالاة المؤمنين، ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم. ح(215).(1/281)
وقال: «ألا أن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا»(1)، وقال: «إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية، وفخرها بالآباء، الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس من آدم وآدم من تراب»(2)، وقال: «إنه لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض: إلا بالتقوى»(3).
__________
(1) 111) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، رواه الإمام أحمد - رحمه الله – في مسنده. ح( 22047). وهو في صحيح، الجامع ح(2012).
(2) 112) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأنساب ح(5116)، والترمذي كتاب المناقب باب في فضل الشام واليمن. ح(3955)، وحسنه الألباني في غاية المرام ح(312).
(3) 113) رواه الإمام أحمد في مسنده ح(23479)، من طريق أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وسط أيام التشريق، فقال: إنه لأفضل... الحديث. وصححه العلامة الألباني في غاية المرام، ونقل تصحيح شيخ الإسلام له ح(313).(1/282)
فذِكْرُ الأزمان والعدل بأسماء الإيثار والولاء والبلد والانتساب إلى عالم أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره، فأما الحمد والذم والحب والبغض الموالاة والمعاداة فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمنًا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرًا وجبت معاداته من أي صنف كان، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55-56]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقال تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية، بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة).(1/283)
"الفتاوى" (28/227-229).
وقد اتضح مما سبق (أن الحمد والذم، والحب والبغض، والوعد الوعيد، والموالاة والمعاداة، ونحو ذلك من أحكام الدين: لا يصلح إلا بالأسماء التي أنزل الله بها سلطانه فأما تعليق ذلك بأسماء مبتدعة فلا يجوز، بل ذلك من باب شرع دين لم يأذن به الله). "الفتاوى" (4/154).
2 - ومن صور الولاء والبراء غير الشرعي، تعليق الولاء والبراء بمقالة مخالفة للكتاب والسنة وما كان عليه السلف أو شخص متبوع أو مطاع غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (النفس مشحونة بحب العلو الرياسة، بحسب إمكانها، فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده: ما يهواه ويريده... وإن كان عالمًا -أو شيخًا- أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره: حتى لو كانا يقرأن كتابًا واحدًا كالقرآن، أو يعبدان عبادة واحدة متماثلان فيها، كالصلوات الخمس. فإنه يحب من يعظمه بقبول قوله، والإقتداء به: أكثر من غيره، وربما أبغض نظيره وأتباعه حسدًا وبغيًا، كما فعلت اليهود...). "الفتاوى" (14/324-325).
(فمن كان من المطاعين -من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك- متبعًا للرسل: أمر بما أمروا به، ودعا إلى ما دعوا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه. فإن الله يحب ذلك. فيحب ما يحبه الله تعالى، وهذا قصده في نفس الأمر: أن تكون العبادة لله تعالى وحده وأن يكون الدين كله لله. وأما من كان يكره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك: فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، فله نصيب من حال فرعون وأشباهه). "الفتاوى" (14/328).(1/284)
و(الحب لغير الله كحب النصارى للمسيح، وحب اليهود لموسى، وحب الرافضة لعلي، وحب الغلاة لشيوخهم، وأئمتهم مثل من يوالي شيخًا أو إمامًا وينفر عن نظيره، وهما متقاربان، أو متساويان في الرتبة، فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم، وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد: الذين يوالون الشيوخ والأئمة دون البعض وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان). "الفتاوى" (18/320).
(فكيف يجوز لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى؛ بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ممن كان هكذا، فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم، وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله؛ وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضى الله به ورسوله؛ وأن يكون المسلمون يدًا واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة؛ ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين فليس كل من أخطأ يكون كافرًا ولا فاسقًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وثبت في الصحيح أن الله قال: «فعلت»). "الفتاوى" (3/419-420).
((1/285)
وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته، ويعادي على ذلك؛ بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة، إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدم الله تعالى ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي؛ ولا أسود على أبيض؛ ولا أبيض على أسود؛ إلا بالتقوى»). "الفتاوى" (11/512).
(وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة، ويوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون). "الفتاوى" (20/164). "درء التعارض" (1/ 272- 273).
((1/286)
فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل، ومن نصب شخصًا كائنًا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:32]، وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل: اتباع الأئمة والمشايخ؛ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به، فهذا زاجر. وكمائن القلوب تظهر عند المحن، وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها، بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله؛ أو أخبر به الله ورسوله؛ لكون ذلك طاعة لله ورسوله، وينبغي للداعي أن يقدم فيما استدلوا به من القرآن؛ فإنه نور وهدى؛ ثم يجعل إمام الأئمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ثم كلام الأئمة). "الفتاوى" (20/8-9).
وإنك لـ(تجد قومًا كثيرين يحبون قومًا ويبغضون قومًا لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها، أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلاً صحيحًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها، وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة، وجعلها مذاهب يدعى إليها، ويوالى ويعادى عليها). "الفتاوى" (2/163-164).
(ومن حالف شخصًا على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان). "الفتاوى" (28/20).
وقد يصل الحال ببعض الغلاة إلى أن يتخذ متبوعًا معينًا يوالي ويعادي على موافقته ولا يكتفي بذلك بل ويحكم على من خالفه بالمروق من السنة بالظن والهوى.(1/287)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات؛ لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لابد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عمومًا؛ وحرم القول عليه بلا علم خصوصًا؛ فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاَ طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:168-169]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] وأيضًا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعة الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر؛ وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة -كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك- كان من أهل البدع والضلال والتفرق). "الفتاوى" (3/346-347).
الباب الثاني والعشرون
أهل السنة والجماعة(1/288)
هم الناجون من التفرق والتحزب المذموم
(أهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقًا وائتلافًا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب). "الفتاوى" (4/51).
و(شعار الطائفة الناجية هو السنة والجماعة، دون البدعة والفرقة)."بيان تلبيس الجهمية"(2/310).
فـ(البدعة مقرونة بالفُرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يُقالُ: أهل البدعة والفرقة). "الاستقامة" (1/42).
و(إذا كان وصف الفرقة الناجية: إتباع الصحابة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك شعار السنة والجماعة، كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، فالسنة ما كان - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه عليه في عهده، مما أمرهم به أو أقرَّهم عليه أو فعله هو، والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، فالذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا خارجون عن الجماعة قد برأ الله نبيه منهم). "منهاج السنة" (3/457-458).
فأهل السنة و الجماعة (في أهل الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل: يدينون بكل رسول وكل كتاب، لا يفرّقون بين أحد من رسل الله، ولم يكونوا من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا). "منهاج السنة" (4/288).
والتفرق المذموم من أسباب المروق عن السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة؛ حتى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام والسنة، حتى يدَّعي السنة من ليس من أهلها، بل قد مرق منها وذلك "بأسباب": ... منها التفرق والاختلاف الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز). "الفتاوى"(3/383).
فصل: في الأمر بالاجتماع على الحق وتحريم الافتراق فيه
((1/289)
أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام، ولا يتفرقوا فيه، وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}[الشورى:13]، وقال في الآية الأخرى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ - فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:51-53]، أي كتبا، اتبع كل قوم كتابًا مبتدعًا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين، لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة، التي هي الإسلام المحض، الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، وقال في الآية الأخرى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ - مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30-32].(1/290)
فنهاه أن يكون من المشركين، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وأعاد حرف {مِنْ} ليبين أن الثاني بدل من الأول. والبدل هو المقصود بالكلام، وما قبله توطئة له، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:110-119]، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون). "المنهاج" (5/2653-265).
(و"باب الفساد" الذي وقع في هذه الأمة؛ بل وفي غيرها: هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها، من ملوكها ومشايخها، وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفورًا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو لغير ذلك؛ لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره، وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة). "الفتاوى" (23/360).
((1/291)
ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن هذا الأصل -وهو الجماعة- عماد لدينه، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ - وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 102-107].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة، فانظروا رحمكم الله كيف دعا الله إلى الجماعة، ونهى عن الفرقة، وقال في الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، فبرأ نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا. كما نهانا عن التفرق، والاختلاف، بقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105].(1/292)
وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق، فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: «أبهذا أُمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض»، قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: فما أغبط نفسي كما غبطتها، ألا أكون في ذلك المجلس، روى هذا الحديث أبو داود في "سننه" وغيره، وأصله في "الصحيحين"(1)، والحديث المشهور عنه - صلى الله عليه وسلم - في "السنن" وغيرها أنه قال - صلى الله عليه وسلم - : «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة» قيل: يا رسول الله! ومن هي؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وفي رواية: «يد الله على الجماعة»(2)، فوصف الفرقة الناجية بأنهم المتمسكون بسنته، وأنهم هم الجماعة). "الفتاوى"(24/170-172).
(
__________
(1) 114))سبق تخريجه رقم(7). وقد رواه الإمام مسلم مختصراً في كتاب العلم باب النهي عن اتباع متشابه القرآن ح(2665) من طريق أبي عمران الجوني قال: كتب إلي عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: هجَّرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرف في وجهه الغضب. فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب». وانظر "تحفة الأشراف" (8839).
(2) 115) سبق تخريجه رقم (5) و (11).(1/293)
وتعلمون أن من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف. وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة). "الفتاوى" (28/51).
وقد (أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف، وأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون فقال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}[هود:118-119] ولهذا يوجد اتبع الناس للرسول أقل اختلافًا من جميع الطوائف المنتسبة للسنة، وكل من قرب للسنة كان أقل اختلافًا ممن بعد عنها، كالمعتزلة والرافضة فتجدهم أكثر الطوائف اختلافًا، أما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد). "الفتاوى" (9/230).
(وهذا التفريق الذي حصل بين الأمة علمائها ومشايخها؛ وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها. وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14]، فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب). "الفتاوى"(3/421).
ولهذا كان (الواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله). "الفتاوى" (22/358).
((1/294)
وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وأن لا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة وخاصة). "الفتاوى" (22/359).
فصل: في أسباب الافتراق
هناك عدة أسباب للافتراق الذي وقع في هذه الأمة وهذه الأسباب منها أسباب أنشأت الافتراق في الأمة، ومنها أسباب وسعت ذلك الافتراق. وإليك بعض الأسباب التي وجدتها من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
1- من الأسباب البارزة في ذلك: البغي بتكذيب الحق وتصديق الباطل.
الواجب (علينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونُقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم؛ بل نسلك سبل العلم والعدل وذلك هو اتباع الكتاب والسنة؛ فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض فهذا منشأ الفرقة والاختلاف). "الفتاوى" (4/450).
(والمختلفون الذين ذمهم الله هم المختلفون في الحق، بأن ينكر هؤلاء الحق الذي مع هؤلاء أو بالعكس. فإن الواجب الإيمان بجميع الحق المنزل فأما من آمن بذلك وكفر به غيره فهذا اختلاف يذم فيه أحد الصنفين كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة:253]...، "والاختلاف في تَنْزيله" هو بين المؤمنين والكافرين. فإن المؤمنين يؤمنون بما أنزل، والكافرون كفروا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله فسوف يعلمون). "الفتاوى" (12/6-7).
و(الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: يذم فيه المختلفين كلهم، كقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]، وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119].(1/295)
والثاني: يمدح المؤمنين ويذم الكافرين، كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، وقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج:19-23]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، وإذا كان كذلك فالذي ذمه من تفرق أهل الكتاب واختلافهم ذم فيه الجميع، ونهى عن التشبه بهم، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:115]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، وذلك بان تؤمن ببعض حق وتكفر بما عند الأخرى من الحق، وتزيد في الحق باطلا، كما اختلف اليهود والنصارى في المسيح وغير ذلك). "الفتاوى" (16/514-515).
((1/296)
وقد ظهر بذلك أن المفترقين المختلفين من الأمة إنما ذلك بتركهم بعض الحق الذي بعث الله به نبيه وأخذهم باطلا يخالفه، واشتراكهم في باطل يخالف ما جاء به الرسول. وهو من جنس مخالفة الكفار للمؤمنين كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، فإذا اشتركوا في باطل خالفوا به المؤمنين المتبعين للرسل نسوا حظًا مما ذكروا به فألقى بينهم العداوة والبغضاء، واختلفوا فيما بينهم في حق آخر جاء به الرسول، فآمن هؤلاء ببعضه وكفروا ببعضه، والآخرون يؤمنون بما كفر به هؤلاء ويكفرون بما يؤمن به هؤلاء. وهنا كلا الطائفتين المفترقتين مذمومة. وهذا شأن عامة الافتراق والاختلاف في هذه الأمة وغيرها). "الفتاوى" (16/245-246).
وبما سبق يتضح أن الاختلاف في مثل قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} إلى قوله: {وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة:253]، (يُحمد فيه المؤمنون، ويُذم فيه الكافرون. وأما الاختلاف في الكتاب والذي يُذمُّ فيه المختلفون كلهم، فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض، وهؤلاء ببعض دون بعض، كاختلاف اليهود والنصارى، وكاختلاف الثنتين وسبعين فرقة، وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119]). "درء التعارض" (5/ 283).
(والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم، وإنما اختلفوا بغيًا، ولهذا ذمهم الله وعاقبهم؛ فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين، بل كانوا قاصدين البغي، عالمين بالحق، معرضين عن القول وعن العمل به.(1/297)
ونظير هذا قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19].
قال الزجَّاج: اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ - وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ - إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ - هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:16-20]، فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم.(1/298)
وهذا حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم؛ لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق؛ ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض، ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر، فيكذِّب بما معه من الحق، مع علمه أنه حق، ويصدِّق بما مع نفسه من الباطل، مع العلم أنه باطل، وهؤلاء كلهم مذمومون، ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب و السنة؛ فإنه ما منهم إلا من خالف حقًا واتبع باطلا). "المنهاج"(5/263-264).
(والاختلاف المطلق الذي ذمّه الله تعالى في القرآن أن تبتدع كل طائفة قولاً يلتبس فيه الحق والباطل، فتخالف كل طائفة الطائفة الأخرى وتعاديهم، ولكنهم مخالفون لما بعث الله به الرسل من دين الإسلام، كاختلاف اليهود والنصارى في المسيح وغيره، واختلاف أهل الأهواء من هذه الأمة). "الصفدية" (2/310).
و(الحق المحض ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يكون الحق في خلاف ذلك، لكن الهدى التام يحصل بمعرفة ذلك وتصوره، فإن الاختلاف تارة ينشأ من سوء الفهم ونقص العلم، وتارة من سوء القصد). "الفتاوى" (16/310).
2- السبب الثاني: التعصب للمذاهب والأشخاص.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أمر الله تعالى المؤمنين بالاجتماع والائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، إلى قوله {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}[آل عمران: 102-106].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة الفرقة.(1/299)
فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة.
ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة؛ وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلاً ظالمًا والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} إلى آخر السورة... [الأحزاب:73].(1/300)
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له، ...وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارًا يوجب اتباعه، وينهى عن غيره مما جاءت به السنة: بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع: مثل الأذان والإقامة. فقد ثبت في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه أمر بلالاً أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة»(1)، وثبت عنه في "الصحيحين" «أنه عَلََّمَ أبا محذورة الإقامة شفعًا شفعًا، كالأذان»(2)، فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها فقد أحسن، ومن أوجب هذا دون هذا فهو مخطئ ضال، ومن والى من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال. وبلاد الشرق من أسباب تسيلط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا.
__________
(1) 116) من حديث أنس - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الأذان، باب بدء الأذان ح(603)، وباب الأذان مثنى مثنى ح(605)، ومسلم كتاب الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة ح(378).
(2) 117) حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الصلاة،باب كيف التأذين ح(500- 501- 502)، و الترمذي كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان ح(191- 192). والنسائي، كتاب الأذان، باب كم الأذان من كلمه ح(630). وباب الأذان في السفر ح(633)، وابن ماجه كتاب الأذان، باب الترجيع في الأذان ح(709). وأما الإحالة إلى الصحيحين، فهو وهم ولعله أن يكون من النساخ، والله أعلم . والحديث في صحيح مسلم رقم(379)، وليس فيه ذكر الإقامة، وانظر تحفة الأشراف رقم(12169).(1/301)
وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا. وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه. وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين الظن، وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله، مستحقون للذم والعقاب. وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه؛ فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع، وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب والسنة إلا ما شاء الله، بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبًا، وإن كانت صدقًا فليس صاحبها معصومًا يتمسكون بنقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، ويَدَعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الناقلين لذلك مصدقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قد أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعته واتباعه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]). "الفتاوى" (22/251-255).(1/302)
وقد (قال - صلى الله عليه وسلم - : «من تعزى بعزاء أهل الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا» فسمع أبي بن كعب رجلاً يقول: يا لفلان! فقال: اعضض أير أبيك، فقال: يا أباالمنذر: ما كنت فاحشًا، فقال: بهذا أمرنا رسول الله(1) - صلى الله عليه وسلم - . رواه أحمد في "مسنده".
ومعنى قوله: «من تعزى بعزاء الجاهلية» يعني يعتزي بعزواتهم، وهي الانتساب إليهم في الدعوة، مثل قوله: يا لقيس! يا ليمن! ويا لهلال! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو قرابته، أو لأصدقائه دون غيرهم، كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله، فإن كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وربهم إله واحد...). "الفتاوى" (28/422-423).
(وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة! فهو من عزاء الجاهلية؛ بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم»(2)، وغضب لذلك غضبًا شديدًا). "الفتاوى "(28/328-329).
__________
(1) 118) الحديث رواه النسائي في السنن، باب إعضاض من تعزى بعزاء الجاهلية ح(8864) وهو عند أحمد في مسنده ح(21210) (21225)، والحديث في الصحيحة ح(269).
(2) 119) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - ، رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلومًا ح(2584).(1/303)
فإذا فهمت ما سبق من النقول اتضح لك جليًا أن التعصب بالباطل هي طريقة أهل البدع والأهواء، فهؤلاء تعصبوا لصاحب مقالتهم المخالفة للكتاب والسنة والإجماع؛ ومَن فعل فعلهم، ممن انتسب إلى السنة، فتعصب لأحد الأئمة أو العلماء المتبوعين، فلم يقبل الحق إلا إذا جاء من جهته، واعتبر أن كل ما خالف قول متبوعه أو شيخه فهو باطل أو مرجوح، وأقام على ذلك الولاء والبراء، والقدح والمدح، مَن هذا حاله فهو شبيه بأهل البدع، وسالك لمسالكهم، ومفرق لصف أهل الحق و السنة؛ بل هو قادح في أصل عظيم من أصول أهل السنة، وهو أن الحق لا يعلق بشخص غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا معصوم عن الخطأ في الشريعة إلا هو، وكل من سواه وإن عظم قدره وارتفع شأنه، فهو يصيب ويخطئ ويعلم ويجهل ويؤخذ من قوله ويترك.
وأنت أيها القارئ اللبيب: لو نظرت في الواقع لرأيت طائفة كبيرة شأنها التعصب للأشخاص، والبغض لمن خالفهم في ذلك، والحب والولاء لمن وافقهم في ذلك؛ وهذه هي عين الحزبية الذميمة والطائفية المقيتة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وأما "رأس الحزب" فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهو مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى، فإن الله ورسوله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان). "الفتاوى" (11/92).
3- السبب الثالث: الهوى في الحب والبغض.(1/304)
اعلم أخي المسلم الحريص على الحق واتباعه أن (العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره، وقد شرع الله تعالى أن نسأله ذلك في كل صلاة، وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير، وكل أحد محتاج إلى الدعاء به، فلهذا أوجبه الله تعالى على العبد في كل صلاة، فإنه وإن كان قد هُدي هدىً مجملا، مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق، فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده، فيثبته أو ينفيه، ويحبه أو يبغضه، ويأمر به أو ينهى عنه، ويحمده أو يذمه، وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا). منهاج السنة" (5/280).
واعلم أن من علامة أهل البدع الولاء والبراء والحب والبغض للهوى، وأما أهل السنة فإن الولاء والبراء مقيد عندهم بالشريعة، فما أحبه الله ورسوله أحبوه وما أبغضه الله ورسوله أبغضوه، فأهل السنة لا يبغضون للهوى أو يحبون للهوى لأن ذلك من فعل أهل البدع والأهواء.(1/305)
فـ(الرافضة -مثلاً- سلكوا في الصحابة مسلك التفرَّق، فوالوا بعضهم وغلوا فيه، وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته، وقد يسلك كثير من الناس ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم، فيحصل بينهم رفض في غير الصحابة وتجد أحد الحزبين يتولى فلانًا ومحبيه، ويبغض فلانًا ومحبيه، وقد يسب ذلك بغير حق، وهذا كله من التفرَّق والتشِّيع الذي نهى الله عنه ورسوله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون َ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:102-103].
وقال تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105-107]). "منهاج السنة" (5/133-134).
((1/306)
وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده؛ وموالاة من يواليه؛ ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكزخان(1)وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا والي، ومن خالفهم عدوا باغي؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله؛ ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله؛ ويحرموا ما حرم الله ورسوله؛ ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله. فإن كان أستاذ أحد مظلومًا نصره، وإن كان ظالمًا لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، قيل: يا رسول الله! أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالما؟ قال: «تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه»(2)،
__________
(1) أ )هو (ملك التتر الكفار) منهاج السنة (5/155)، (6/372)، قال شيخ الإسلام: ( وهذا الكافر علا في الأرض يستضعف أهل الملل كلهم من المسلمين واليهود والنصارى ومن خالفه من المشركين بقتل الرجال وسبي الحريم، وبأخذ الأموال، وبهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، ويرد الناس عما كانوا عليه من سنن الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما ابتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية) الفتاوى (28/523)، وانظر ترجمته في البداية والنهاية وفيات سنة (624).وانظر خبر ما فعله هذا اللعين بالمسلمين، البداية والنهاية حوادث سنة (616)،و (617) .
(2) 120) سبق تخرجه رقم (35)..(1/307)
وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره؛ وسواه كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله؛ واتباع الحق والقيام بالقسط، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب، والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال مع صاحبه -سواء كان الحق له أو عليه- فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يدًا واحدة مع الحقي على المبطل، فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله، والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد؛ ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده). "الفتاوى" (28/15-17).
((1/308)
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى؛ بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ممن كان هكذا، فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم، وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله...). "الفتاوى" (3/419-420).
4-
السبب الرابع من أسباب الافتراق: امتحان الناس بما لم يؤمر به في الشرع.(1/309)
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن امتحان المسلمين بيزيد بن معاوية(1)
__________
(1) ب ) ابن أبي سفيان بن حرب بن أمية، الخليفة، القرشي، الأموي، الدمشقي،قال الذهبي: (عقد له أبوه بولاية العهد من بعده، فتسلم المُلك، عند موت أبيه في رجب سنة ستين، وله ثلاث وثلاثون سنة، فكانت دولته أقل من أربع سنين؛ ولم يُمهله الله على فعله بأهل المدينة لما خلعوه،...توفي يزيد في نصف ربيع أول سنة( 74) . وذكر شيخ الإسلام أن الناس في يزيد ثلاث فرق طرفان ووسط وذكر الطرفين ثم قال: (والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافراً؛ ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة) والصواب أنه لا يُسب ولا يُحب ( وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين، قال صالح بن أحمد: قلت لأبي إن قوماً يقولون إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني ! وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم والآخر ؟ فقلت يا أبت فلماذا لا تلعنه؟ فقال يا بني! ومتى رأيت أباك يلعن أحداً ) الفتاوى (4/483)، و( غاية يزيد وأمثاله من الملوك أن يكونوا فساقاً، ولعنة الفاسق المعين ليست مأموراً بها، وإنما جاءت السنة بلعنة الأنواع ) الفتاوى (4/567) وانظر موقف يزيد من قتل الحسين رضي الله عنه الفتاوى ( 3/410-411)،(4/507-509)، ومنهاج السنة (4/472)، (4/ 586،558،557،550)..وانظر ما وقع بين يزيد وأهل المدينة، الفتاوى (3/415)، منهاج السنة (1/111)،(4/575،529)، قال الذهبي:( له على هناته حسنة، وهي غزو القسطنطينية، وكان أمير ذلك الجيش )، قال شيخ الإسلام ( غزا القسطنطينية في حياة أبيه معاوية رضي الله عنه، وكان معهم في الجيش أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وذلك الجيش أول جيش غزا القسطنطينية، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه مسلم أنه قال : ( أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم ) منهاج السنة (4/544).وانظر ترجمته سير أعلام النبلاء (4/35-40)،والبداية والنهاية وفيات سنة(64)(1/310)
من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة، ثم قال رحمه الله: (وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي، أو قرفندي، فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأمة لا شكيلي ولا قرفندي؛ والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله، وقد روينا عن معاوية بن أبي سفيان: أنه سأله عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أنت على ملة علي، أو ملة عثمان؟ فقال: لست على ملة علي، ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك كان كل من السلف يقولون: كل هذه الأهواء في النار: ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم؟ على أن هداني الله للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء، والله تعالى قد سمانا في القرآن: المسلمين المؤمنين عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم -وسموها هم وآباؤهم- ما أنزل الله بها من سلطان، بل الأسماء التي يسوغ التسمي بها(1)
__________
(1) ج ) هناك أسماء لا يسوغ التسمي بها، كالتسمي والانتساب إلى راس في البدعة وإن تاب منها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنًا بكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب الشر). "الفتاوى" (6/359-360).
والسبب في ذلك أ نه ينتسب إلى الأشعري من بقى على أصوله القديمة، وقال شيخ الإسلام: (فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، فيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع، ومفارقة السنة والاتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله، ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ). "الفتاوى" (11/514).(1/311)
مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي، والشافعي، والحنبلي أو إلى شيخ، كالقادري(1)، والعدوي(2)
__________
(1) د ) نسبة إلى الشيخ عبدالقادر بن أبي صالح أبي محمد الجيلي،وقد وسمه شيخ الإسلام بـ( الشيخ الإمام ) الفتاوى(5/85)، وقال فيه الإمام ابن القيم رحمه الله ( الشيخ العارف القدوة) مدارج السالكين (1/217)، وقال شيخ الإسلام : ( الشيخ عبدالقادر ونحوه من أعظم مشايخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية ) الفتاوى (10/448)، وقال ابن كثير:( انتفع به الناس انتفاعاً كثيراً، وكان له سمت حسن وصمت، غير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير، وله أحوال صالحة،ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عن أقوالاً وأفعالاً، ومكاشفات، أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً،.... وبالجملة كان من سادات المشايخ)، توفي رحمه سنة( 561)، وانظر ترجمته البداية والنهاية وفيات سنة (561)، والمنتظم وفيات سنة(561) .
(2) هـ ) هم أتباع الشيخ عدي بن مسافر الأموي الشامي الهكاري، أبو محمد، قال شيخ الإسلام :( والشيخ عدي قدس الله روحه كان من أفاضل عباد الله الصالحين وأكابر المشايخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك. وله في الأمة صيت مشهور ولسان صدق مذكور وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشايخ الذين سلك سبيلهم ...وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة ..) الفتاوى ( 3/377)، وذكره و بعض مشايخ الجماعة ثم قال (فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم ) الفتاوى (3/ 377)، وقال رحمه الله: والشيخ عدي بن مسافر بن صخر كان رجلاً صالحاً، وله اتباع صالحون، ومن أصحابه من فيه غلو عظيم، يبلغ بهم غليظ الكفر....) الفتاوى (11/103)، وقال ابن كثير:هو( شيخ الطائفة العدوية.... انفرد عن الناس، وتخلى بجبل هكار، وبني له هناك زاوية، واعتقده أهل تلك الناحية اعتقاداً بليغاً حتى أن منهم من يغلو غلواً كثيراً منكراً، ومنهم من يجعله إلهاً أو شريكاً، وهذا اعتقاد فاحش، يؤدي إلى الخروج من الدين جملة)، البداية والنهاية وفيات سنة (555)، وانظر ترجمته سير أعلام النبلاء (20/342-344) . ولشيخ الإسلام نصيحة نافعة ووصية جامعة لأتباعه في ضمن الفتاوى باسم الوصية الكبرى(3/363-430) أولها ( من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة؛ المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله، ومن نحى نحوهم ...)(1/312)
ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان). "الفتاوى" (3/415-416).
وإذا كان التعصب لا يجوز فيما يسوغ التسمي به فـ(كيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ). "الفتاوى" (3/421).
وأما امتحان الناس بكبار الأئمة في مسائل أجمع عليها سلف الأمة، فلا بأس به عند الحاجة والمصلحة. قال شيخ الإسلام في فتنة القول بخلق القرآن: (فلما امتحن الناس بذلك، واشتهرت هذه المحنة , وثبت الله من ثبته من أئمة السنة، وكان الإمام -الذي ثبته الله وجعله إماماً للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به، فمن وافقه كان سنياً، وإلا كان بدعياً- هو الإمام أحمد بن حنبل)."الفتاوى" (5/ 553).
(هذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معياراً يفرقون به بين أهل السنة والبدعة...) "الفتاوى" (17/ 414).
5-
السبب الخامس من أسباب الافتراق: التفضيل بين المشايخ المتبوعين بالظن والهوى.
(سُئل شيخ الإسلام رحمه الله عن الشيخ عبدالقادر؛ أنه أفضل المشايخ، والإمام أحمد؛ أنه أفضل الأئمة، فهل هذا صحيح أم لا؟.(1/313)
فأجاب: أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض؛ مثل من يرجح إمامة الذي تفقه على مذهبه؛ أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره؛ كمن يرجح الشيخ عبدالقادر، أو الشيخ أبا مدين(1)؛ أو أحمد أو غيرهم: فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس؛ فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ، ولا يقصدون اتباع الحق المطلق، بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعة فيرجحه بظن يظنه، وإن لم يكن معه برهان على ذلك، وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم، وهذا مما حرم الله ورسوله، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 102-106]...،
__________
(1) و ) شعيب بن حسين الأندلسي الزاهد، ذكر شيخ الإسلام أنه من أكابر المشايخ المتأخرين، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (21/219-220)، وانظر الفتاوى (11/604).(1/314)
فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم، فإنه يجب النهي عنه، فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله، وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده، كما تنازع المسلمون: أيما أفضل الترجيع في الأذان أو تركه؟ أو إفراد الإقامة أو إثنائها؟ وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها؟ والقنوت في الفجر أو تركه؟ والجهر بالتسمية؛ أو المخافتة بها؛ أو ترك قراءتها؟ ونحو ذلك: فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي، لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي، ونحو ذلك. ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام: أن فلانًا أفضل من فلان، فيُقبَل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها، فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولاً أو عملاً لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك، لكن إن كان الرجل مقلدًا فليكن مقلدًا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق فإن كان مجتهدًا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، لكن عليه أن لا يتبع هواه ولا يتكلم بغير علم، قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66]، وقال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6]، وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره، ولا يعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم، والله أعلم). "الفتاوى" (20/291-293).
((1/315)
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وإن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده). "الفتاوى" (22/253).
6- السبب السادس من أسباب التفرق:السكوت عن إنكار المنكر أو الغلو في الإنكار.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم؛ فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا؛ إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها؛ ومن تبعهم من العامة من الفتن: هذا أصلها). "الفتاوى" (28/142-143).(1/316)
ومن العجب الذي لا ينقضي؛ أن تجد كثيراً ممن ينتسب إلى طائفة من الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة، أو مذهب من المذاهب المتبوعة عند أهل السنة، أو اتَّباع شيخ من المشايخ المنتسبين إلى السنة والجماعة، إذا حصل الذنب أو الخطأ العلمي أو العملي؛ يغض الطرف عنه إذا كان فاعله من طائفته، أو مذهبه، أو المنتمين إلى الشيخ الذي يتبعه، وأما إذا كان الخطأ أو الذنب ممن يخالفه في ذلك الانتماء أو تلك التبعية، فأنه لا يكتفي بالإنكار الشرعي، بل يتعدى الحدود الشرعية في الإنكار، بل قد يتعدى حدود الأدب في ذلك، وهذا يكون سبباً في التفرق والاختلاف المذموم بين أصحاب المنهج الواحد والأصول المشتركة المجمع عليها بين أهل السنة والجماعة، لكن ما هو علاج من انغلق فكره، وضاق عقله، وقل علمه، وكثر جهله، وظهر تناقضه، وقاده هواه، وغلب عليه طبعه، وتردى في غيه، وغرق في تقليده، وعمي بتعصبه. ومن نظر الواقع راء عجائب من ذلك، ودواهي قد لا تخطر في بالك، والله الموفق إلى أقوم الطرق والمسالك، مما سار عليه السلف الأول، ومن تبعهم بإحسان، فإن من تمسك بمنهاجهم وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم نجى بإذن الله سبحانه وتعالى من هذه الظلمات الحوالك.
((1/317)
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنِّع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبُعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب). "درء تعارض العقل والنقل" (2/102-103). هكذا يقول شيخ الإسلام إذا كان المخالف قد وقع في الخطأ المُتيقن مع سلامة المعتقد وصحة المنهج، فكيف إذا كان ما أخطأ فيه المخالف مما يسع الخلاف فيه من مسائل الاجتهاد السائغ، أو مما سُبق بمثله عند أهل السنة، بل كيف يكون القول إذا الصواب معه، والخطأ عند ذلك المشنع على مخالفه والساكت عن منكر إفراد حزبه ممن وافقه على مذهبه أو تقليد متبوعه.
السبب السابع من أسباب التفرق: الولاء والبراء بسبب مسائل يسوغ فيها النزاع، وقد تنازع السلف في مثلها أو أكبر منها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ("قاعدة" في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي: مثل الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف، ومثل التمتع، والإفراد، والقِران في الحج، ونحو ذلك، فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة، والشعائر أوجب أنواعًا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله، وعباده المؤمنون:
أحدها: جهل كثير من الناس، أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله، والذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، والذي أمرهم باتباعه.(1/318)
الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم: تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم، وصلتهم، لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرًا عند الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدمًا عند الله ورسوله لذلك.
الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس، حتى يصير كثير منهم مدينًا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة: كالخوارج، والروافض، فالمعتزلة، ونحوهم، وقد قال تعالى في كتابه: {وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]، وقال في كتابه: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا، ويعاديه، ويحب بعضًا ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن، واللعن، والهمز، واللمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله.(1/319)
والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 102-106]، وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه عن السنة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها ورسوله...
و"باب الفساد" الذي وقع في هذه الأمة؛ بل وفي غيرها: هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين امرائها وعلمائها، من ملوكها ومشايخها، وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مفغورًا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو لغير ذلك؛ لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة... إذا تبين بعض ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد، فنحن نذكر طريق زوال ذلك، ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات، وذلك ببيان الأصلين اللذين هما "السنة والجماعة" المدلول عليهما بكتاب الله، فإنه إذا اتبع كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله، والاعتصام بحبله جميعًا حصل الهدى والفلاح، وزال الضلال والشقاء.
أما الأصل الأول: وهو "الجماعة" وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق، ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة.(1/320)
فنقول: عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات ومحرمات؛ فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو مفردًا أو قارنًا كان حجه مجزئًا عند عامة المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك، ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها، ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال.
وكذلك الأذان سواء رجَّع فيه أو لم يُرجِّع، فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة، وعامة خلفها، وسواء ربع التكبير في أوله أو ثناه، وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة، فأوجب له الحيعلة بـ"حيى على خير العمل" وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية بأيِّها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام، إلا ما تنازع فيه شذوذ الناس، وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة، وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما، أو يكره الآخر، أو يختار أن لا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء، ...وأيضًا فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة، كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك، ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك، وهذا مما لم أعلم فيه نزاعًا، وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى، وكذلك القنوت في الفجر إنما النِّزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته، وسجود السهو لتركه أو فعله، إلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت وأنه ليس بواجب وكذلك من فعله...). "الفتاوى" (22/356-360، 367-370).
وأما العبادات التي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها أو إقرارها على أكثر من صوره، كصلاة الخوف والأذان والإقامة والتشهدات ونحو ذلك.(1/321)
فيقول شيخ الإسلام: (...الصواب مذهب أهل الحديث، ومن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا يكرهون شيئًا من ذلك، إذ تنوع صفة الأذان والإقامة، كتنوع صفة القراءات والتشهدات، ونحو ذلك. وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا ونحوه مما سوغه الله تعالى، كما يفعله بعض أهل المشرق، فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا...ومن تمام السنة في مثل هذا: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا في مكان، وهذا في مكان؛ لأن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره، قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة، والمستحب واجبًا ويفضي ذلك إلى التفرق والاختلاف، إذا فعل آخرون الوجه الآخر. فيجب على المسلم أن يراعي القواعد الكلية التي فيها الاعتصام بالسنة والجماعة، لا سيما في مثل صلاة الجماعة، وأصح الناس طريقة في ذلك هم علماء الحديث، الذي عرفوا السنة واتبعوها، إذ من أئمة الفقه من اعتمد في ذلك على أحاديث ضعيفة، ومنهم من كان عمدته العمل الذي وجده ببلده، وجعل ذلك السنة دون ما خالفه، مع العلم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وسع في ذلك، وكل سنة). "الفتاوى" (22/64-67).(1/322)
ما سبق من النقل كان حول المسائل العملية التي يسوغ فيها النزاع بين أهل السنة، وأن ما كان هذا وصفه فلا يسوغ فيه الافتراق بين أهل الحق، وأما المسائل العلمية العقائدية، فقد سبق أن المسائل العلمية التي اختلف فيها السلف، ولم تُوجب تهاجراً وتقاطعاً وافتراقاً بينهم؛ فلا يجوز أن يفترق أهل الحق بسببها ؛ فقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله– في مسألة رؤية غير المؤمنين لله - عز وجل - : (... وليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة؛ فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة واتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا... ). "الفتاوى" (35/22-23).فكل ما تنازع فيها السلف من المسائل العلمية الخبرية، فلا يجوز الافتراق بسببها.
فصل: في أسباب النجاة من الافتراق
أعظم أسباب النجاة من الافتراق والتحزب المذموم، الاعتصام بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (كل من كان أقرب إلى الاعتصام بحبل الله، وهو اتباع الكتاب والسنة، كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح، وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة). "منهاج السنة" (6/364-365).
وقال رحمه الله: (وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة، فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم، فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل، وكانت تلك الطائفة أولى بالإجماع والهدى والاعتصام بحبل الله، وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة، وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة، وأدخل في الفتنة). "المنهاج" (6/368).
((1/323)
فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعًا ولا يتفرقوا، وقد فُسِّر حبله بكتابه، وبدينه، وبالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره، وبعهده، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وكلها صحيحة؛ فإن القرآن يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده وأمره وطاعته، والاعتصام به جميعًا إنما يكون في الجماعة، ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله). "المنهاج" (5/133-134).
(ولست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند من ترك ذلك وقدَّم غيره عليه، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:110-119]، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك). "الفتاوى" (4/52).
ولقد (كثر النِّزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم، وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات). "الفتاوى" (7/289).
والناس (متى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنة فلابد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزَّل من السماء). "درء التعارض" (5/284).
و(كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والاختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم). "درء التعارض" (1/157).
الباب الثالث والعشرون
أهل السنة والجماعة
لا يغفلون عن مراعاة المصالح والمفاسد
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(1)،
__________
(1)
121) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء، بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ح
(7288)، ومسلم كتاب الحج باب فرض الحج مرة في العمر ح(1337).(1/324)
ويعلمون أن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بصلاح العباد في المعاش والمعاد، وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجّحوا الراجح منهما، فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجّحوا فعله، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجّحوا تركه، فإن الله تعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها). "منهاج السنة"(4/527).
فصل:
في أن كل ما أمر الله به فمصلحته محضة أو غالبة، وكل ما نهى الله عنه، فمفسدته محضة أو غالبة.
(إن الله سبحانه وتعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فكل ما أمر الله به ورسوله فمصلحته راجحة على مفسدته، ومنفعته راجحة على المضرة، وإن كرهته النفوس...). "الفتاوى" (24/278).(1/325)
و(كل ما يأمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته، والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة... وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف أن ما أمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة ومنفعته راجحة. وأما ما كانت مضرته راجحة فإن الله لا يأمر به، وأما جهم ومن وافقه من الجبرية(1)فيقولون: إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة البتة، بل يكون ضررًا محضًا إذا فعله المأمور به، وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخري أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين -أبي الحسن [الأشعري وغيره- في] مسائل القدر، فنصر مذهب جهم والجبرية). "الفتاوى" (16/165-166).
__________
(1) أ ) قالوا العبد مجبور على فعله وهو قول الجهمية ومن وافقهم من أهل البدع، قال شيخ الإسلام(وأما الجبرية كجهم وأصحابه فعندهم أنه ليس للعبد قدرة البتة) منهاج السنة (1/397) ، و ( أهل السنة يقولون إن العبد له مشيئة وقدرة وإرادة وهو فاعل لفعله حقيقة، وينهون عن إطلاق الجبر فإن لفظ الجبر يشعر أن الله أجبر العبد على خلاف مراد العبد، كما تجبر المرأة على النكاح، وليس كذلك؛ بل العبد مختار يفعل باختياره ومشيئته ورضاه ومحبته ليس مجبوراً عديم الإرادة، والله خالق هذا كله ) الفتاوى(12/331-332)،وانظر الفتاوى (8/131-132)،(8/478-479)، والجبر ( الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادراً على الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار، مثل حركة الأشجار وحركة (سقط في المطبوعة) بإطباق الأيدي ، ومثله في الأناسي حركة المحموم والمفلوج والمرتعش فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان وقعوده وصلاته وجهاده، وزناه وسرقته وبين انتعاش المفلوج وانتفاض المحموم، ونعلم أن الأول قادر على الفعل مريد له مختار، وأن الثاني غير قادر عليه ولا مريد له ولا مختار ) الفتاوى ( 8/393-394)(1/326)
و(يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن الله لا يأمر العباد بما أمرهم لحاجته إليهم ولا نهاهم عما نهاهم بخلاً به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، ولهذا وصف نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]). "الفتاوى" (27/91).
فصل: في موقف الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد
(إن الله أمر بالصلاح، ونهى عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، وقال شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، وقال تعالى: {فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35]). "الفتاوى" (31/266).
وقال رحمه الله: (والشريعة مبناها على دفع الفسادين بالتزام أدناهما). "الاستقامة" (1/33).
فـ(الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تحصل أعظم المصلحتين بفوات أدناهما، وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما). "الإستقامة" (1/288).
ولقد (...جاءت الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد بتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وباحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما). "الفتاوى" (31/92).
(ومن أصول الشرع أنه إذا تعارض المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما). "الفتاوى" (20/538).
(إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما). "الفتاوى" (30/193).
((1/327)
فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، المفسر لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]؛ وعلى قوله النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، أخرجاه في "الصحيحين"(1)، وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها؛ وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما: هو المشروع). "الفتاوى" (28/284).
وقال: (الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما، وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور). "الفتاوى" (30/136).
فـ(قاعدة الشريعة "تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما"). "الفتاوى" (29/228).
(...وأصل هذا أن الله جل وعز بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها بحسب الإمكان، وتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما، والله سبحانه حرم الظلم على عباده، وأوجب العدل، فإذا قدر ظلم وفساد ولم يمكن دفعه كان الواجب تخفيفه، وتحرى العدل والمصلحة بحسب الإمكان). "الفتاوى" (29/271).
(فيجب دفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما، إذ ذلك قاعدة مستقرة في الشريعة). "الفتاوى" (29/485).
(فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها؛ يُحتاج إلى الفرقان). "الفتاوى" (10/619).
(والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم). "الفتاوى" (29/49).
و(لا ينبغي أن ينظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر إلا وينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن؛ بل الموجبة للاستحباب، أو الإيجاب). "الفتاوى"(26/181).
و(والعلم بجهة المصلحة قد تُنالُ بالوحي وقد تنال بالاجتهاد). "الصارم المسلول" ص(197).
__________
(1) 122) سبق تخريجه .(1/328)
فصل:في أن أول من أنكر النظر في المصالح والمفاسد ذو الخويصرة رأس الخوارج.
(عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذُهيبة، فقسمها بين الأربعة، الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري أحد بني كلاب، فغضبت قريش والأنصار قالوا: يعطى صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: «إنما أتألفهم»، فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتي الجبين كث اللحية محلوق فقال: أتق الله يا محمد، فقال: «من يطع الله إذا عصيت؛ أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟» فسأله رجل قتله -أحسبه خالد بن الوليد- فمنعه، فلما ولى قال: «إن من ضئضى هذا –أوفي عقب هذا- قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد». متفق عليه(1).
__________
(1) 123) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب (23) ح(7432) (6931)، (6933). ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ح(1064).(1/329)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن القوم لم يتعرضوا الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل كانوا يعظمونه ويعظمون أبا بكر وعمر، ولكن غلوا في الدين غلوَّا جارُّوا به حَدَّه لنقص عقولهم، فصاروا كما تأول علي فيهم -قوله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104]، وأوجب ذلك لهم عقائد فاسدة ترتب عليها أفعال منكره كفر بها كثير من الأمة، وتوقف فيها آخرون- فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الطاعن عليه في القسمة الناسب له إلى عدم العدل بجهله وغُلَوِّه وظنه أن العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس، دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس وتفضيله من مصلحة التأليف وغيرها من المصالح، علم أن هذا أول أولئك، فإنه إذا طعن عليه في وجهه على سنته فهو يكون بعد موته وعلى خلفائه أشدَّ طعنا). "الصارم المسلول" (190-191).
فصل: في تطبيقات لشيخ الإسلام ابن تيمية في مراعاة المصالح والمفاسد
( أ ) مراعاة المصالح والمفاسد في باب الولاية والغزو والهجر(1).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...فإن أمكن تولية إمام برّ لم يجز تولية فاجر ولا مبتدع يظهر بدعته، فإن هؤلاء يجب الإنكار عليهم بحسب الإمكان ولا يجوز توليتهم، فإن لم يمكن إلا تولية أحد رجلين كلاهما فيه بدعة وفجور، كان تولية أصلحهما ولاية هو الواجب، وإذا لم يمكن في الغزو إلا تأمير أحد رجلين: أحدهما فيه دين وضعف عن الجهاد، والآخر فيه منفعة في الجهاد مع ذنوب له، كان تولية هذا الذي ولايته أنفع للمسلمين، خيرًا من تولية من ولايته أضرّ على المسلمين ). "منهاج السنة" (4/526-527).
__________
(1) أ ) قد أفردت باباً مستقلاً ذكرت فيه أحكام الهجر وضوابطه، وهو الباب العشرون فليراجع .(1/330)
و(اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة؛ قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررًا فيها؛ فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع -وإن كان فيه فجور- على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينًا؛ كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو؛ وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه؛ وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»، وروي «بأقوام لا خلاق لهم»(1)، وإن لم يكن فاجرًا، كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده...). "الفتاوى" (28/254-255).
وقال رحمه الله: (الشارع يعتبر المفاسد والمصالح، فإذا اجتمعا قدم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة؛ ولهذا أباح في الجهاد الواجب مالم يبحه في غيره، حتى أباح رمي العدو بالمنجنيق، وأن أفضي ذلك إلى قتل النساء والصبيان، وتعمد ذلك يحرم، ونظائر ذلك كثيرة في الشريعة. والله أعلم). "الفتاوى" (24/269-270).
__________
(1) 124) رواية: «بأقوام لا خلاق لهم». رواها الإمام النسائي كتاب السير باب الاستعانة بالفجار في الحرب ح (8885) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال النسائي: أنبا محمد بن سهل بن عسكر قال :حدثنا عبدالرزاق قال: أنبا رباح بن زيد عن معمر بن راشد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم» ، وهو في صحيح الجامع للعلامة الألباني رقم (1866). والرواية الأولى سبق تخريجها رقم (83)(1/331)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ( الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان، إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدر والإمكان، فقد تكون المصحلة المشروعة أحيانًا هي التألف بالمال، والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح). "الفتاوى"(4/442).
و(يجب الاستعداد للجهاد، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب). "الفتاوى" (28/ 259).(1/332)
هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع، فيقول - رحمه الله -: (وأبلغ الجهاد الواجب للكفار، والممتنعين عن بعض الشرائع، كمانعي الزكاة، والخوارج، ونحوهم، يجب ابتداءً ودفعاً؛ فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض، سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال الله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:59] الآية. فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم، كما قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} [الأنفال:72]، وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة، للقتال، أو لم يكن، وهذا يجب بحسب الإمكان، على كل أحد بنفسه، وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق، لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج، بل ذم الذين يستأذنون النبي - صلى الله عليه وسلم - : {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } [الأحزاب:13]، فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار ؛ للزيادة في الدين، وإعلائه، ولإرهاب العدو). "الفتاوى" (28/ 358- 359) 0(1/333)
وقال رحمه الله :( وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شئ أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده .... وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا أذن والد ولا غريم ونصوص أحمد صريحة بهذا وهو خير مما في المختصرات لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية، كلام أحمد فيه مختلف، وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال ووقعة أحد من هذا الباب. والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدين دون الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا .) الفتاوى الكبرى ( 4/444-445)
(ب) مراعاة المصالح والمفاسد باحتمال أذى الكفار والمنافقين في حال الاستضعاف، أوخشية حصول مفسدة أعظم عند إقامة الحد عليهم.(1/334)
فـ(النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمع من الكفار والمنافقين في أول الإسلام أذىً كثيرًا، وكان يصبر عليه امتثالاً لقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48]، لأن إقامة الحدود عليهم كان يفضي إلى فتنة عظيمة ومفسدة أعم من مفسدة الصبر على كلماتهم...(1/335)
ومما يوضح ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم، حتى قال: «لو أعلم أني لو زدت على السبعين غُفِرَ له لزدت»(1)، حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم، وأمره بالإغلاظ عليهم، فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام وما يعاملهم من الصفح والعفو والاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له {وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ}[الأحزاب:48]، لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم، وخشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدًا منهم، وقد صرَّح - صلى الله عليه وسلم - لما قال ابن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، ولما قال ذو الخويصرة: «أعدل فإنك لم تعدل»، وعند غير هذه القصة: «إنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»(2).
__________
(1) 125) سبق تخريجه رقم (55).
(2) 126) أما قو ل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال عبد الله بن أبي: { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، فرواه الإمام البخاري كتاب التفسير، باب قوله: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ح(4905)، ومسلم، كتاب البر، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً. ح(2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وأما حديث الخارجي، فقد رواه الإمام مسلم كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج، وصفاتهم ح(1063)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه: ... فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : دعني يا رسول فأقتل هذا المنافق، فقال: «معاذ الله ؛ أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي».(1/336)
فينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة، ليقوم دين الله وتعلوا كلمته، فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى، فلما أنزل الله تعالى براءته، ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، وأمره أن يجاهد الكفار والمنافقين، ويغلظ عليهم، نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو، كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم، ولم يبق إلا إقامة الحدود، وإعلاء كلمة الله في حق كل إنسان). "الصارم المسلول" (245،231).
وقال رحمه الله: (فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال الكفار الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). "الصارم المسلول" (229).
(ج) مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/337)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أُمرنا به؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجب وفُعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم، وهذا معنى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال.(1/338)
وذلك يكون تارة بالقلب؛ وتارة باللسان؛ وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «وذلك أدنى -أو- أضعف الإيمان»(1)، وقال: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(2)، وقيل لابن مسعود: (من ميت الأحياء؟) فقال: (الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا)، وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان. (3)
وهنا يغلط فريقان من الناس:
__________
(1) 127) سبق تخريجه رقم(70).
(2) 128) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، رواه الإمام مسلم، كتاب الإيمان ح(50)، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، ح(50) ولفظه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلوف، يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
(3) 129) حديث حذيفة - رضي الله عنه - ، رواه الإمام مسلم كتاب الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبًا، وإنه يأرز بين المسجدين. ح(144).
قال حذيفة - رضي الله عنه - : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشربها نُكتَ فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُربادًّا ، كالكوز مُجَخِّيًّا إلاَّ يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا؛ إلا ما أُشرب من هواه».(1/339)
فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية؛ كما قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: (إنكم تقرءون هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»(1).
__________
(1) 130) سبق تخريجه رقم (71).(1/340)
والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقًا؛ من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك مالا يصلح، وما يقدر عليه ومالا يقدر، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني: سالت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا يدان لك به، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، وللعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله»(1)،
__________
(1) 131)حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي ح(4341). والترمذي، كتاب التفسير، باب (6) ح(3058).وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ح(4014).والحديث في ضعيف أبي داود ح(934)، وهو في الضعيفة رقم (1025)وانظر المشكاة ح(5144)، قال الألباني: ضعيف ولبعضه شواهد، قلت: منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «كيف بكم بزمان، أو يوشك أن يأتي زمان يُغربَل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم، وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا. وشبك بين أصابعه. فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: « تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم» رواه أبو داود ح(4342)، وابن ماجه ح(3957)، وهو في صحيح أبي داود ح(3648)، والصحيحة ح(205). ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال مرفوعا( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) رواه الترمذي ، وهو في صحيح الترمذي رقم (2260)، والصحيحة رقم (957). ومنها حديث: «إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم» . انظره في الصحيحة ح(494)..(1/341)
فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك وكان فساده أعظم من صلاحه؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على جور الأئمة؛ ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال: «أدوا إليهم حقوقهم، وسلوا لله حقوقكم»(1)، وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع.
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة. وأما أهل الأهواء -كالمعتزلة- فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: (التوحيد) الذي هو سلب الصفات؛ و(العدل) الذي هو التكذيب بالقدر؛ و(المنزلة بين المنزلتين) و(إنفاذ الوعيد) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي منه قتال الأئمة.
وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع. وجماع ذلك داخل في (القاعدة العامة): فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به؛ بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام.
__________
(1) 132) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، في الإسلام ح(3603)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول ح(1843).(1/342)
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعًا؛ أو يتركوهما جميعًا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر؛ بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به؛ وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف؛ ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر وسعيًا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما.
فتارة يصلح الأمر؛ وتارة يصلح النهي؛ وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقًا، وينهى عن المنكر مطلقًا. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه، وإذا أشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية؛ وإذا تركها كان عاصيًا، فترك الأمر الواجب معصية؛ وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية. وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/343)
ومن هذا الباب إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم؛ وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدًا يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك واعتذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه:حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه(1).
وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر؛ وإرادته لهذا؛ وكراهته لهذا: موافقة لحب الله وبغضه، وإرادته وكراهته الشرعيين، وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته؛ فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وقد قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة؛ لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان. وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته: فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل). "الفتاوى" (28/126-131).
وقال: (لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هو عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه). "الفتاوى" (14/472).
وذكر رحمه الله قاعدة في الخلافة والملك ثم قال: (ويتفرع من هنا "مسألة" وهو ما إذا كان لا يتأتى له فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب: فلها صورتان.
__________
(1) 133) قصة الإفك رواها الإمام البخاري في صحيحه، كتاب التفسير باب (6) ح(4750)، ومسلم كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف. ح(2770). من حديث عائشة رضي الله عنها.(1/344)
إحداهما: إذا لم يمكن إلا ذلك، فهنا لا يبقى سيئة، فإن ما لا يتم الواجب؛ أو المستحب إلا به: فهو واجب، أو مستحب ثم إن كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظورًا، كأكل الميتة للمضطر ونحو ذلك من الأمور المحظورة التي تبيحها الحاجات، كلبس الحرير في البرد، ونحو ذلك. وهذا باب عظيم.
فإن كثيرًا من الناس يستشعر سوء الفعل؛ ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربى على ذلك؛ بحيث يصير المحظور مندرجًا في المحبوب أو يصير مباحًا إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة، كما أن من الأمور المباحة؛ بل المأمور بها إيجابًا، أو استحبابًا: ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة، كالصيام للمريض، وكالطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «قتلوه قتلهم الله: هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال»(1).
وعلى هذا الأصل يبنى جواز العدول أحيانًا عن بعض سنة الخلفاء، كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة، وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة؛ وذلك فيما إذا وقع العجز عن بعض سنتهم، أو وقعت الضرورة إلى بعض ما نهوا عنه؛ بأن تكون الواجبات المقصودة بالإمارة لا تقوم إلا بما مضرته أقل...
__________
(1) 134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم ح (337). وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب في المجروح تصيبه الجنابة، فيخاف على نفسه إن اغتسل ح(572) والحديث حسنه العلامة الألباني في صحيح أبي داود ح(326)، وهو في صحيح ابن ماجه ح(465).(1/345)
والصورة الثانية: إذا كان يمكن فعل الحسنات بلا سيئة؛ لكن بمشقة لا تطيعه نفسه عليها، أو بكراهة من طبعه بحيث لا تطيعه نفسه إلى فعل تلك الحسنات الكبار، المأمور بها إيجابا، أو استحبابًا، إن لم يبذل لنفسه ما تحبه من بعض الأمور المنهي عنها، التي أثمها دون منفعة الحسنة فهذا القسم واقع كثيرًا: في أهل الإمارة، والسياسة، والجهاد، وأهل العلم، والقضاء، والكلام؛ وأهل العبادة، والتصوف، وفي العامة. مثل من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الإمارة -من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وأمن السبل، وجهاد العدو، وقسمة المال- إلا بحظوظ منهي عنها، من الاستئثار ببعض المال؛ والرياسة على الناس، والمحاباة في القسم، وغير ذلك من الشهوات، وكذلك في الجهاد، لا تطيعه نفسه على الجهاد إلا بنوع من التهور، وفي العلم لا تطيعه نفسه على تحقيق علم الفقه، وأصول الدين، إلا بنوع من المنهي عنه، من الرأي، والكلام. ولا تطيعه نفسه على تحقيق علم العبادة المشروعة، والمعرفة المأمور بها، إلا بنوع من الرهبانية.
فهذا القسم كثر في دول الملوك؛ إذ هو واقع فيهم، وفي كثير من أمرائهم وقضاتهم، وعلمائهم، وعبادهم. أعني أهل زمانهم. وبسببه نشأت الفتن بين الأمة. فأقوام نظروا إلى ما ارتكبوه من الأمور المنهي عنها؛ فذموهم، وأبغضوهم. وأقوام نظروا إلى ما فعلوه من الأمور المأمور بها، فأحبوهم. ثم الأولون ربما عدوا حسناتهم سيئات. والآخرون ربما جعلوا سيئاتهم حسنات...
"فالتحقيق" إن الحسنات: حسنات، والسيئات، سيئات وهم خلطوا عملا صالحا، وآخر سيئا، وحكم الشريعة أنهم لا يؤذن لهم فيما فعلوه من السيئات، ولا يؤمرون به. ولا يجعل حظ أنفسهم عذرًا لهم في فعلهم؛ إذا لم تكن الشريعة عذرتهم؛ لكن يؤمرون بما فعلوه من الحسنات، ويُحضون على ذلك؛ ويُرغبون فيه.(1/346)
وإن علم أنهم لا يفعلونه إلا بالسيئات المرجوحة؛ كما يؤمر الأمراء بالجهاد؛ وإن علم أنهم لا يجاهدون إلا بنوع من الظلم، الذي تقل مفسدته بالنسبة إلى مصلحة الجهاد.
ثم إذا علم أنهم إذا نهوا عن تلك السيئات تركوا الحسنات الراجحة الواجبة لم ينهوا عنها؛ لما في النهي عنها من مفسدة ترك الحسنات الواجبة؛ إلا أن يمكن الجمع بين الأمرين، فيفعل حينئذ تمام الواجب، كما كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور؛ لرجحان المصلحة في عمله؛ ثم يزيل فجوره بقوته وعدله.
ويكون ترك النهي عنها حينئذ: مثل ترك الإنكار باليد، أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر، فإذا كان النهي مستلزما في القضية المعينة لترك المعروف الراجح: كان بمنزلة أن يكون مستلزما لفعل المنكر الراجح، كمن أسلم على أن لا يصلى إلا صلاتين، كما هو مأثور عن [بعض من أسلم على عهد] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو اسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر، أو يفعل بعض المحرمات، ولو نهي عن ذلك ارتد عن الإسلام.
ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النهي مفسدة راجحة، وبين إذنه في فعله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ففي حال أخرى يجب إظهار النهي: إما لبيان التحريم، واعتقاده، والخوف من فعله، أو لرجاء الترك، أو لإقامة الحجة بحسب الأحوال؛ ولهذا تنوع حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره، ونهيه، وجهاده، وعفوه، وإقامته الحدود، وغلظته، ورحمته). "الفتاوى" (35/28-32)
وقال رحمه الله: (...فأما المؤمنون فالصحو خير لهم، فإن السكر يصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، وكذلك العقل خير لهم، لأنه يزيدهم إيمانا.(1/347)
وأما الكفار فزوال عقل الكافر خيرٌ له وللمسلمين. أما له: فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة، بل يصده عن الكفر والفسق، وأما للمسلمين فلأنَّ السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء، فيكون ذلك خيرًا للمؤمنين، وليس هذا إباحة للخمر والسكر، ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما.
ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل عن الكفر والفساد في الأرض، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وذلك مصلحة للمسلمين، فصحوهم شرٌّ من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو، بل قد يُستحب -أو يجب- دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره.
فهذا في حق الكفار ومن الفسّاق الظلمة من إذا صحا كان في صحوه من ترك الواجبات وإعطاء الناس حقوقهم، ومن فعل المحرمّات والاعتداء في النفوس والأموال، ما هو أعظم من سكره، فإنه إذا كان يترك ذكر الله والصلاة في حال سكره، ويفعل ما ذكرته في حال صحوه، لم يكن سكره شرًا من صحوه، وإذا كان في حال صحوه يفعل حروبًا وفتنا، لم يكن في شربه ما هو أكثر من ذلك، ثم إذا كان في سكره يمتنع من ظلم الخلق في النفوس والأموال والحريم، ويسمح ببذل أموال -تؤخذ على وجه فيه نوع من تحريم- ينتفع بها الناس، كان ذلك أقل عذابا لمن يصحو فيعتدي على الناس في النفوس والأموال والحريم، ويمنع الناس الحقوق التي يجب أداؤها.
فالحاصل أنه تجب الموازنة بين الحسنات والسيئات التي تجتمع في هذا الباب وأمثاله وجودًا وعدمًا، كما قررت مثل ذلك في قاعدة تعارض السيئات والحسنات، فإن السكر والصحو قد يكونان من هذا الباب.(1/348)
وهكذا السكر والصحو في الأذواق الإيمانية والمواجيد العرفانية، فمن السالكين من إذا حصل له سكر حصل له فيه منفعة وإيمان -وإن كان فيه من النقص وعدم التمييز مما يحتاج معه إلى العقل ما فيه- فيكون خيرًا من صحو ليس فيه إلا الغفلة عن ذكر الله، قسوة القلوب، والكفر والفسوق والخيلاء، ونحو ذلك من ترك الحسنات وفعل السيئات.
وأما الصحو المشتمل على العلم والإيمان، وتذوق صاحبه طعم الإيمان ووجد حلاوته، فهو خير من السكر بلا شك، فعليك بالموازنة في هذه الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة حتى يظهر لك التماثل والتفاضل، وتناسب أحوال أهل الأحوال الباطنة لذوي الأعمال الظاهرة، لا سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي غلب فيها خلط الأعمال الصالحة بالسيئة في جميع الأصناف، لنرجِّح عند الازدحام والتمانع خير الخيرين، وندفع عند الاجتماع شر الشرين، ونقدم عند التلازم: تلازم الحسنات والسيئات، ما ترجّح منها، فإن غالب رؤوس المتأخرين وغالب الأمة، من الملوك والأمراء والمتكلمين والعلماء والعبَّاد وأهل الأموال، يقع غالبًا فيهم ذلك). "الاستقامة"(2/165-168).
(وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين: من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوًا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثمًا بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارًا فصاروا مسلمين، وذاك كان شرًا بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير.(1/349)
وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه، وإن كانت كذبًا(1)وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه، فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرًا، فانتقل إلى خير مما كان عليه، وخف الشر الذي كان فيه، ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه.
والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الخلق بغاية الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان). "الفتاوى"(13/96).
(د) مراعاة المصالح والمفاسد عند تعارض المأمور والمحظور وتزاحم العبادات.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...وكذلك سائر ما يتزاحم من الواجبات والمستحبات، فإنها جميعها محبوبة لله، وعند التزاحم يُقدّم أحبها إلى الله، والتقرب إليه بالفرائض أحب إليه من التقرب إليه بالنوافل، وبعض الواجبات والمستحبات أحب إليه من بعض.
__________
(1) شيخ الإسلام رحمه الله يتكلم عن أمور واقعة، اختلطت فيها المصالح بالمفاسد، ولا يمكن تغيريها، أو لا يمكن تغيرها إلا بحصول مفاسد أكبر، كبقاء الكافر على كفره مثلاً، كما في الصورة الأولى، أو كترك المجاهد لجهاده الذي غلبة مصلحته كما في الصورة الثانية، ولهذا يجب على أهل الحق- الذين يدعون إلى الحق الذي لا مفسدة فيه - من العلماء المستقيمين على المنهج الحق ، ومن له ولاية من الصالحين المعاونين لهم، والقصاص والوعاظ الملتزمين بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجب على هؤلاء أن يبذلوا وسعهم في تبليغ دين الله عز وجل، وسلوك السبل الشرعية التي توصلهم إلى ذلك، وخاصة في هذه الأزمنة التي تنوعت فيه الوسائل التي يمكن أن تستغل في إيصال الخير إلى الناس، والله الموفق .(1/350)
وكذلك إذا تعارض المأمور والمحظور، فقد تعارض حبيبه وبغيضه، فيقدّم أعظمها في ذلك، فإن كان محبته لهذا أعظم من بغضه لهذا قُدِّم، وإن كان بغضه لهذا أعظم من حبه لهذا قدم.
كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وعلى هذا استقرت الشريعة بترجيح خير الخيرين، ودفع شر الشرين، وترجيح الراجح من الخير والشر والمجتمعين). "الاستقامة" (1/439).
(وسُئل الشيخ قدس الله روحه: عن رجل متول ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك واقطعها غيره وولي غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء؛ بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه، فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها، وهو عاجز عن ذلك، لا يمكنه ردها، فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعته؟ وقد عرفت نيته، واجتهاده، وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم، بل يبقى ويزداد. فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل؟ أم لا؟ وإذا لم يكن عليه إثم، فهل يطالب على ذلك؟ أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله، أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة، وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم.
فهل الأولى له أن يوافق الرعية؟ أم يرفع يده، والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده؟(1/351)
فأجاب: الحمد لله، نعم إذا كان مجتهدا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك؛ بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه.
وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه، فنشر العدل - بحسب الإمكان- ورفع الظلم -بحسب الإمكان- فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم.
وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها لا يطلب بها، وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالاً لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف، وإذا لم يدفع أعطوا تلك الإقطاعيات، والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده، ولا يخففه كان أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيرًا للمسلمين من إقرارها كلها، ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره، ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان من غيره، والمقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم، يثاب، ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره، ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدًا في العدل والإحسان بحسب الإمكان.(1/352)
وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك، وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم: فإنه محسن في ذلك غير مسيء، وذلك مثل ما يعطى هؤلاء المكاسين وغيرهم في الطرقات، والأشوال، والأموال التي ائتمنوا؛ كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما يباع ويشتري؛ فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلابد أن يؤدي هذه الوظائف، فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم.
والذي ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه تضاعف الظلم والفساد عليهم، فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطريق، فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم.
فمن قال لتلك القافلة: لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئًا من الأموال التي معكم للناس، فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك القليل الذي ينهى عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير، وسلبوا مع ذلك، فهذا مما لا يشير به عاقل، فضلاً أن تأتي به الشرائع، فإن الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.
فهذا المتولي المقطع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف، ويصرف إلى من نسبه مستقرًا على ولايته وإقطاعه ظلمًا وشرًا كثيرا عن المسلمين أعظم من ذلك، ولا يمكنه دفعه إلا بذلك، إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئًا، هو مثاب على ذلك، ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة.
وهذا بمنزلة وصي اليتيم، وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية، إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم، فولايته جائزة، ولا إثم عليه فيما يدفعه؛ بل قد تجب عليه هذه الولاية.(1/353)
وكذلك الجندي الْمُقطَع الذي يخفف الوظائف عن بلاده، ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف، وهذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد، فإذا قيل له: لا يحل لك أن تأخذ شيئًا من هذا؛ بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع، فتركه وأخذه من يريد الظلم، ولا ينفع المسلمين: كان هذا القائل مخطئًا جاهلاً بحقائق الدين؛ بل بقاء الجند من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم، وأنفع للمسلمين، وأقرب للعدل على إقطاعهم، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعًا وأكثر ظلمًا.
والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه الله على ما فعل من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك: كان ترك ذلك يوجب شرًا أعظم منه. والله أعلم). "الفتاوى" (30/356-360).
(هـ) مراعاة المصالح والمفاسد عند تزاحم الفاضل والمفضول.(1/354)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله: «بين كل أذانين صلاة»(1)، وعارضه غيره فقال: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده، ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر، ويتوجه أن يقال هذا الأذان لما سنه عثمان، واتفق المسلمون عليه، صار أذانًا شرعيًا، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة، وليست سنة راتبة، كالصلاة قبل صلاة المغرب، وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وكلام الإمام أحمد يدل عليه، وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يظنون أن هذه سنة رابتة، أو أنها واجبة، فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة، ولا واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانًا حتى لا تشبه الفرض، كما استحب أكثر العلماء أن لا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة، مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها(2)،
__________
(1) 135) من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - ، رواه البخاري كتاب الأذان باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء ح(627). ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب بين كل أذانين صلاة. ح(838).
(2) 136) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر (ألم تنزيل) السجدة، و(هل أتى على الناس حين من الدهر). رواه البخاري كتاب الجمعة باب ما يُقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ح(891). ومسلم كتاب الجمعة باب ما يٌقرأ في يوم الجمعة ح(880)..(1/355)
فإذا كان يكره المداومة على ذلك فترك المداومة على ما لم يسنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى: وإن صلاها الرجل بين الأذانين أحيانًا؛ لأنها تطوع مطلق، أو صلاة بين الأذانين، كما يصلي قبل العصر والعشاء، لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز، وإن كان الرجل مع قوم يصلونها، فإن كان مطاعًا إذا تركها -وبين لهم السنة- لم ينكروا عليه، بل عرفوا السنة فتركها حسن، وإن لم يكن مطاعًا ورأى أن في صلاتها تأليفًا لقلوبهم إلى ما هو أنفع، أو دفعًا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم، وقبولهم له، ونحو ذلك، فهذا أيضًا حسن.
فالعمل الواحد يكون فعله مستحبًا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه»، والحديث في "الصحيحين"(1)، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.
__________
(1) 137) من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه البخاري كتاب العلم باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه ح(126). ومسلم كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها ح (1333).(1/356)
ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل، إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قومًا لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه، وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل، أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزًا حسنًا.
وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها كان حسنًا، مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو البسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع في الصلاة، كما ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح، فكان يكبر ويقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك». قال الأسود بن يزيد: صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة، فكان يكبر، ثم يقول ذلك. رواه مسلم في "صحيحه"(1).
ولهذا شاع هذا الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس. وكذلك كان ابن عمر وابن عباس يجهران بالاستعاذة، وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة.
__________
(1) 138) مسلم كتاب الصلاة باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة ح(399) وليس فيه قول الأسود بن يزيد.(1/357)
وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان ليعلم الناس أن قراءتها في الصلاة سنة، كما ثبت في الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرًا، وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة(1).- ثم ذكر رحمه الله بعض المسائل التي اختلف فيها السلف وهي القراءة على الجنازة، والجهر بالبسملة، والاستفتاح في الصلاة، ورفع اليدين في المواطن الثلاثة، وعدد التسليم في الصلاة، والقراءة خلف الإمام، وعدد التكبير في صلاة الجنازة، والترجيع في الأذان وشفع الإقامة - ثم قال: فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزًا، وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانًا لمصلحة راجحة، وهذا واقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هو في جنسه أفضل، قد يكون في مواطن غيره أفضل منه.
__________
(1) 139) رواه البخاري كتاب الجنائز باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة ح(1335) من طريق طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: لتعلموا أنها سنة. ورواه النسائي كتاب الجنائز باب الدعاء ح(1986، 1987) من طريق طلحة أيضا قال :صليت خلف ابن عباس على جنازة ، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا فلما فرغ أخذت بيده فسألته ، قال: سنة وحق. قال الألباني في هذه الزيادة: سندها صحيح. انظر "أحكام الجنائز" فقرة (77).(1/358)
وهذا الباب "باب تفضيل بعض الأعمال على بعض" إن لم يعرف فيه التفضيل، وأن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال وإلا وقع فيها اضطراب كثير، فإن في الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه مالا يحافظ على الواجبات، حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور شعارًا لمذهبه، ومنهم من إذا رأى ترك ذلك هو الأفضل، يحافظ أيضاً على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات، حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوى والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يرى الترك شعاراً لمذهبه، وأمثال ذلك، وهذا كله خطأ. والواجب أن يعطى كل ذي حق حقه، ويوسع ما وسعه الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعى في ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية، والمقاصد الشرعية). "الفتاوى" (24/196-199).
(و) مراعاة المصالح والمفاسد في تعلم العلم إذا صاحبته مفسدة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أما انتساب الطائفة إلى شيخ معين: فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن، كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتلقاه عنهم التابعون، وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان، فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونحوه، فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر؛ ولا يتعين ذلك في شخص معين، ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين، كل من أفاد غيره إفادة دينيه هو شيخه فيها؛ وكل ميت وصل إلى الإنسان من أقواله وأعماله وآثاره ما انتفع به في دينه فهو شيخه من هذه الجهة؛ فسلف الأمة شيوخ الخلفاء قرنًا بعد قرن...(1/359)
ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة له إلى ذلك، ولا يستحب له ذلك، بل يكره له. وأما إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك، مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه، فإنه يفعل الأصلح لدينه، وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده.
فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع، ومفارقة السنة والإتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله، ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ). "الفتاوى" (11/511-514).
الباب الرابع والعشرون
أهل السنة والجماعة لا يقاتلون في فتنة
(...نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتال في الفتنة، وكان ذلك من أصول السنة، وهذا مذهب أهل السنة والحديث، وأئمة أهل المدينة من فقهائهم وغيرهم). "الاستقامة"(1/32).
وقال رحمه الله: (من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة). "الفتاوى" (28/128).
(وذلك أن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فبالهدى يُعرف الحق، وبدين الحق يُقصد الخير ويعمل به، فلابد من علم الحق، وقصدٍ له وقدرة عليه، والفتنة تضاد ذلك؛ فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير. ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده.(1/360)
ولهذا يقال: (فتنة عمياء صّماء)، ويقال: (فتن كقطع الليل المظلم)، ونحو ذلك من الألفاظ التي تُبَيِّن ظهور الجهل فيها، وخفاء العلم، فلهذا كان أهلها بمنزلة أهل الجاهلية، ولهذا لا تُضمن فيها النفوس والأموال، لأن الضمان يكون لمن يَعرِف أنه أتلف نفس غيره أو ماله بغير حق، فأما من لم يعرف ذلك، كأهل الجاهلية من الكفار والمرتدين والبغاة المتأولين، فلا يعرفون ذلك، فلا ضمان عليهم(1)، كما لا يضمن من علم أنه أتلفه بحق، وإن كان هذا مثابًا مصيبًا.
وذلك أن أهل الجاهلية إما أن يتوبوا من تلك الجهالة، فيُغفر لهم بالتوبة جاهليتهم وما كان فيها.
وإما أن يكونوا ممن يستحق العذاب على الجهالة كالكفّار، فهؤلاء حسبهم عذاب الله في الآخرة.
وإما أن يكون أحدهم متأولاً مجتهدًا مخطئا، فهؤلاء إذا غُفر لهم خطؤهم غفر لهم موجبات الخطأ أيضا). "منهاج السنة" (4/547-549).
و(الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تُزَيّن، ويُظن أن فيها خيرًا، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء، صار ذلك مبينًا لهم مضرتها، وواعظًا لهم أن يعودوا في مثلها كما أنشد بعضهم:
الحرب أوّل ما تكون فُتَيَّة ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضرامها ... ولّت عجوزًا غير ذات حليل
__________
(1) أ ) وقال رحمه الله: (قتال الفتنة مثل قتال الجاهلية، لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أُصيب بتأويل القرآن فإنه هَدَر أنزلوهم منزلة الجاهلية). "منهاج السنة" (4/468).
وقال: (وكذلك "قتال البغاة المتأولين" حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوسًا وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد). "الفتاوى" (8/334).(1/361)
شمطاءَ يُنكر لونها وتغيّرت ... مكروهة للشم والتقبيل
...ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين، تبيّن له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله، لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه. ولهذا كانت من باب المنهي عنه، والإمساك عنها من المأمور به، الذي قال الله فيها: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. "منهاج السنة" (4/ 409- 410).
(والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها). "منهاج السنة" (4/468).
وقتال الفتنة تكون مفسدته أكثر من مصلحته (فلا تجب طاعة الإمام فيه، إذ طاعته إنما تجب في ما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أن هذا هو قتال: الفتنة -الذي تركه خير من فعله- لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى الأمر. ولا سيما وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الله ورسوله). "الفتاوى" (4/443).
و(قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله، كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم واتباعهم: كاقتتال الأمين(1)والمأمون وغيرهما)."الفتاوى"(4/450).
وقال رحمه الله :(فأما إذا كان -والعياذ بالله- فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان، إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجري السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها؛ على قولين لأهل العلم، في مذهب أحمد وغيره). "الفتاوى" (28/320).
__________
(1) ب ) الخليفة أبوعبدالله محمد بن الرشيد هارون،الهاشمي العباسي، عقد له أبوه بالخلافة بعده سنة (193)، ثم جرت الفتنة بينه وبين أخيه المأمون انتهت بقتل الأمين رحمه الله سنة (198)، وانظر ما جرى بينهما، البداية والنهاية أحداث سنة (194-198)، وانظر سير أعلام النبلاء (9/334-339).(1/362)
ومن القتال في الفتنة القتال الذي كان بين الصحابة رضي الله عنهم جميعًا (وسائر الأحاديث الصحيحة تدل على أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحب إلى الله ورسوله. وهذا قول أئمة السنة، وأكثر أئمة الإسلام. وهذا ظاهر في الاعتبار؛ فإن محبة الله ورسوله للعمل بظهور ثمرته، فما كان أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم كان أحب إلى الله ورسوله). "منهاج السنة" (8/145-146).
(والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به، وأن تركه أفضل من الدخول فيه، بل عدُّوه قتال فتنة.
وعلى هذا جمهور أهل الحديث، وجمهور أئمة الفقهاء. فمذهب أبي حنيفة فيما ذكره القدوري(1)أنه لا يجوز قتال البغاة إلا أن يبدأوا بالقتال، وأهل صفين لم يبدأوا عليًا بقتال. وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة والشام والبصرة، وأعيان فقهاء الحديث كمالك وأيوب والأوزاعي وأحمد وغيرهم أنه لم يكن مأمورًا به، وأن تركه كان خيرًا من فعله. وهو قول جمهور أئمة السنة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب). "منهاج السنة"(8/522-526)
الباب الخامس والعشرون
أهل السنة والجماعة لا يخرجون على السلطان المسلم
فصل: في أهمية الإمارة
(
__________
(1) ج ) شيخ الحنفية، أبو الحسين، أحمد بن محمد بن أحمد، البغدادي القدوري، قال الخطيب : كتبت عنه، وكان صدوقاً، انتهت إليه بالعراق رئاسة الحنفية، وعَظم وارتفع جاهُهُ، وكان حسن العبارة، جرئ اللسان، مديماً للتلاوة.توفي رحمه الله سنة (428) .انظر سير أعلام النبلاء (17/574-575)(1/363)
يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا باجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم». رواه أبوداود، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة.(1)
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبدالله من عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم»(2)، فأوجب - صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم. وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة.
__________
(1) 140) رواه أبو داود كتاب الجهاد باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم. ح(2608) وهو في الصحيحة ح(1322).
(2) 141) رواه الإمام أحمد في المسند ح(6644) وضعفه العلامة الألباني في الضعيفة ح(589).(1/364)
ولهذا روى:«أن السلطان ظل الله في الأرض»(1)، ويقال: "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان". والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف -كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما- يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسطان. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم». رواه مسلم(2)، وقال: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم». رواه أهل السنن(3)، وفي الصحيح عنه أنه قال: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة»، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»(4) .
__________
(1) 142) روي عن جماعة من الصحابة بأسانيد ضعيفة وموضوعة، انظرها في "الضعيفة"ح(475، 604،1661-1664، 2264) و"ضعيف الجامع" ح (3347-3353).
(2) 143) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - . رواه أحمد في المسند ح(8773). وانظره في "صحيح الجامع" ح(1895). وأصله في صحيح مسلم، كتاب الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل ح(1715). ولفظه: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
(3) 144) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، رواه الترمذي، كتاب العلم، باب في الحث على تبليغ السماع، ح(2658)، ومن حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ، رواه ابن ماجه كتاب العلم باب من بلغ علمًا ح(230)، وهو في الصحيحة ح(404)، وصحيح ابن ماجه ح(187).
(4) 145) سبق تخريجه رقم (81).(1/365)
فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها...، وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس). "الفتاوى" (28/390-394،391).
(...ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، وأنه لو تولي من هو دون هؤلاء(1)من الملوك الظلمة لكان ذلك خيرًا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة مع إمام جائر، خير من ليلة واحدة بلا إمام. ويروى عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لابد للناس من إمارة برَّة كانت أو فاجرة، قيل له: هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ قال: يُؤمن بها السبل، ويُقام بها الحدود، ويجاهَد بها العدوّ، ويُقسم بها الفيء. ذكره علي بن معبد في كتاب "الطاعة والمعصية" ...والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور، بل كانت تفسد أمورهم). "منهاج السنة" (1/547-548).
(ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس: صلح للطائفتين دينهم ودنياهم؛ وإلا اضطربت الأمور عليهم...). "الفتاوى" (28/361).
فصل: أهل السنة والجماعة
لا يجيزون معصية ولاة الأمور إذا أمروا بالمعروف
(وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم: بوجه من الوجوه: كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا ومن سيرة غيرهم). "الفتاوى" (35/12).
(
__________
(1) أ ) أي أمراء بني أمية وبني العباس.(1/366)
وقد استفاض وتقرر في غير هذا الموضع ما قد أمر به - صلى الله عليه وسلم - ، من طاعة الأمراء في غير معصية الله؛ ومناصحتهم، والصبر عليهم في حكمهم، وقسمهم؛ والغزو معهم، والصلاة خلفهم، ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلا هم؛ فإنه من (باب التعاون على البر والتقوى) وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم، وإعانتهم على ظلمهم وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك؛ مما هو من (باب التعاون على الإثم والعدوان) وما أمر به أيضًا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لهم ولغيرهم على الوجه المشروع؛ وما يدخل في ذلك من تبليغ رسالات الله إليهم؛ بحيث لا يترك ذلك جبنا، ولا بخلا، ولا خشية لهم، ولا اشتراء للثمن القليل بآيات الله؛ ولا يفعل أيضًا للرئاسة عليهم، ولا على العامة، ولا للحسد، ولا للكبر ولا للرياء لهم، ولا للعامة. ولا يزال المنكر بما هو أنكر منه، بحيث يخرج عليهم بالسلاح؛ وتقام الفتن؛ لما في ذلك من الفساد الذي يربى على فساد ما يكون من ظلمهم؛ بل يطاع الله فيهم وفي غيرهم، ويفعل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه). "الفتاوى" (35/21).
و(ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة، كما يجب عليه الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، وحج البيت. وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة؛ فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيدًا وتثبيتًا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم. فالحالف على هذه الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه، سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون؛ فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه؛ فكيف إذا حلف عليه؟!(1/367)
وما نهى الله ورسوله عن معصيتهم وغشهم محرم وإن لم يحلف على ذلك، وهذا كما أنه إذا حلف ليصلين الخمس، وليصومن شهر رمضان، أو ليقضين الحق الذي عليه، ويشهدن بالحق؛ فإن هذا واجب عليه وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه؟! وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك، والكذب، وشرب الخمر، والظلم، والفواحش وغش ولاة الأمور، والخروج عما أمر الله به من طاعتهم؛ وهو محرم؛ وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه؟!
ولهذا من كان حالفًا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور، ومناصحتهم، أو الصلاة، أو الزكاة، أو صوم رمضان، أو أداء الأمانة، والعدل ونحو ذلك: لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه، والحنث في يمينه؛ ولا يجوز له أن يستفتي في ذلك، ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه، والحنث في أيمانهم: فهو مفتر على الله الكذب، مفت بغير دين الإسلام؛ بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء في عقد بيع، أو نكاح، أو إجارة، أو غير ذلك مما بجب عليه الوفاء به من العقود، التي يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها، فإذا حلف كان أوكد، فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود، والحنث في يمينه: كان مفتريًا على الله الكذب، مفتيًا بغير دين الإسلام، فكيف إذا كان ذلك في معاقدة ولاة الأمور التي هي أعظم العقود التي أمر الله بالوفاء بها، ...ثم إذا أكره ولي الأمر الناس على ما يجب عليهم من طاعته، ومناصحته، وحلفهم على ذلك: لم يجز لأحد أن يأذن لهم في ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك، ويرخص لهم في الحنث في هذه الأيمان؛ لأن ما كان واجبًا بدون اليمين فاليمين تقويه؛ لا تضعفه؛ ولو قدر أن صاحبها أكره عليها ) "الفتاوى" (35/9-10).(1/368)
وقال رحمه الله بعد ذكره لبعض أمراء المسلمين: (...وأما كون الواحد من هؤلاء معصومًا، فليس هذا اعتقاد أحد من علماء المسلمين، وكذلك كونه عادلاً في كل أموره، مطيعًا لله في جميع أفعاله، ليس هذا اعتقاد أحد من أئمة المسلمين، وكذلك وجوب طاعته في كل ما يأمر به، وإن كان معصية لله، ليس هو اعتقاد أحد من أئمة المسلمين، ولكن مذهب أهل السنة والجماعة أن هؤلاء يُشاركُون فيما يُحتاج إليهم فيه من طاعة الله، فتصلّى خلفهم الجمعة والعيدان وغيرهما من الصلوات التي يقيمونها هم، لأنها لو لم تُصل خلفهم أفضى إلى تعطيلها، ونجاهد معهم الكفّار، ونحج معهم البيت العتيق، ويُستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود، فإن الإنسان لو قُدِّر أنه حج في رفقةٍ لهم ذنوب وقد جاءوا يحجون، لم يضره هذا شيئًا، وكذلك الغزو وغيره من الأعمال الصالحة، إذا فعلها البرُّ وشاركه في ذلك الفاجر لم يضره ذلك شيئًا، فكيف إذا لم يمكن فعلها إلا على هذا الوجه، فكيف إذا كان الوالي الذي يفعلها فيه معصية؟! ويستعان بهم أيضًا في العدل والحكم والقسم؛ فإنه لا يمكن عاقل أن ينازع في أنهم كثيرًا ما يعدلون في حكمهم وقسمهم، ويُعاونون على البر والتقوى، ولا يُعاونون على الإثم والعدوان، وللناس نزاع في تفاصيل تتعلق بهذه الجملة ليس هذا موضعها، مثل إنفاذ حكم الحاكم الفاسق إذا كان الحكم عدلاً، ومثل الصلاة خلف الفاسق هل تعاد أم لا؟ والصواب الجامع في هذا الباب أن من حكم بعدل أو قسم بعدل نفذ حكمه وقسمه، ومن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أعين على ذلك، إذا لم يكن في ذلك مفسدة راجحة، وأنه لابد من إقامة الجمعة والجماعة، ... وإذا لم يمكن صلاة الجمعة والجماعة وغيرهما إلا خلف الفاجر والمبتدع صليت خلفه ولم تعد ). "منهاج السنة" (4/525-527).(1/369)
وأما مسألة إنفاذ حكم الحاكم الفاسق وقسمه إذا كان عدلاً فـ( الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل: هل يطاع فيما يأمر به من طاعة الله، وينفَّد حكمه وقسمه إذا وافق العدل؟ أو لا يطاع في شيء، ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه؟ أو يفرَّق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع؟ على ثلاثة أقوال، أضعفها عند أهل السنة هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه، وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول، وهو أن يطاع الله مطلقًا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلاً مطلقًا(1)، والقول الثالث: هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره، لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة، بخلاف الحاكم ونحوه، فإنه يمكن عزله بدون ذلك، وهذا فرق ضعيف، فإن الحاكم إذا ولاَّه ذو الشوكة لم يمكن عزله إلا بفتنة، ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه، لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين لدفع أدناهما، وكذلك الإمام الأعظم). "منهاج السنة" (3/390-391).
وهذا شيخ الإسلام رحمه الله يقرر منهجه مع أمراء عصره فيقول: (ولكن عليَّ أن أطيع الله ورسوله، وأطيع أولي الأمر إذا أمروني بطاعة الله؛ فإذا أمروني بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، هكذا دل عليه "الكتاب" و"السنة" واتفق عليه "أئمة الأمة" قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
__________
(1) وقال - رحمه الله - مبينًا أن هذا هو الذي عليه السلف: (... إذا قُدِّر أن القاسم والحاكم ليس عدلاً لم تبطل جميع أحكامه وقسمه على الصحيح الذي كان عليه السلف، فإن هذا من الفساد الذي تفسد به أمور الناس...). "الفتاوى" (30/134).(1/370)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله»(1)، «إنما الطاعة بالمعروف»(2) وأن أصبر على جور الأئمة، وأن لا أخرج عليهم في فتنة؛ لما في الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من رأى من أميره شيئًا يكرهه؛ فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية»(3).
ومأمور أيضًا مع ذلك أن أقول أو أقوم: بالحق حيث ما كنت؛ لا أخاف في الله لومة لائم، كما أخرجا في "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول -أو نقوم- بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)(4)، فبايعهم على هذه "الأصول الثلاثة الجامعة".
وهي الطاعة في طاعة الله؛ وإن كان الآمر ظالمًا، وترك منازعة الأمر أهله، والقيام بالحق بلا مخافة من الخلق). "الفتاوى" (3/249-250).
فصل: أهل السنة والجماعة
لا يطيعون ولاة الأمور في معصية الله
__________
(1) 146) سبق تخريجه رقم(96).
(2) 147) من حديث علي - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب أخبار الآحاد، باب في إجازة خبر الواحد الصدوق ح(7257)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح(1840)، ولفظه: « لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف».
(3) 148) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « سترون بعدي أموراً تنكرونها » ح(7054)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ح(1849).
149) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «سترون بعدي أمرواً تنكرونها» ح(7055- 7056)، ومسلم كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح(1841).(1/371)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأهل السنة لا يأمرون بموافقة ولاة الأمور إلا في طاعة الله لا في معصيته). "منهاج السنة" (4/113-114).
وقال: (ثم من المعلوم أن علماء السنة، كمالك وأحمد وغيرهما، من أبعد الناس عن مداهنة الملوك أو مقاربتهم). "منهاج السنة" (4/130).
فأهل السنة (لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إمامًا عادلاً، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه، مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة؛ وإيتاء الزكاة؛ والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق، فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقًا، وإنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فأمر بطاعة الله مطلقًا، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وجعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك، فقال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ولم يذكر لهم طاعة ثالثة، لأن ولي الأمر لا يُطاع طاعة مطلقة، إنما الطاعة بالمعروف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الطاعة في المعروف»(1)، وقال: «لا طاعة في معصية الله »(2)(3)، و«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(4)(5)، وقال: «ومن أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه»(6). "منهاج السنة" (3/387-388)
__________
(1) 150) سبق تخريجه .
(2) 151) سبق تخريجه .
152) سبق تخريجه رقم (96).
153) سبق تخريجه رقم (97).(1/372)
فصل: من أصول أهل السنة والجماعة، الصبر على ظلم الأئمة وجورهم وعدم الخروج عليهم.
(...مذهب (أهل الحديث) ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر). "الفتاوى" (4/444).
و(...من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، كما هو من أصول أهل السنة والجماعة, وكما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المشهورة عنه لما قال: «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض »(1) وقال : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه »(2) إلى أمثال ذلك. وقال : «أدوا إليهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم»(3) ونهوا عن قتالهم ما صلوا؛ وذلك لأن معهم أصل الدين المقصود، وهو توحيد الله وعبادته، ومعهم حسنات، وترك سيئات كثيرة. وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ، أو غير سائغ، فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه؛ فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم، فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي...). "الفتاوى" (28/179-180).
والخروج على الأئمة وقتلهم، (...خلاف ما تواترت به السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم). "منهاج السنة" (4/381).
(...
__________
(1) 154) من حديث أنس بن مالك، وأسيد بن خضير رضي الله عنهما، رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» ح(3792). ومسلم كتاب الإمارة باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ح(1845).
155) سبق تخريجه رقم (148).
(2) 156) سبق تخريجه رقم (132) .(1/373)
ومن أصول هذا الموضع أن مجرد وجود البغي من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم، بل لا يبيحه، بل من الأصول التي دلت عليها النصوص أن الإمام الجائر الظالم يُؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه ولا يقاتلونه، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في غير حديث، فلم يأذن في دفع البغي مطلقًا بالقتال، بل إذا كانت فيه فتنة نهي عن دفع البغي به، وأمر بالصبر). "الاستقامة" (1/32).
(...والمشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته، والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان، ولا أمر بقتال الباغين ابتداء، بل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء، فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء؟.(1/374)
وفي "صحيح مسلم" عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا»(1). فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أمورًا منكرة، فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف، كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية(2)...........
__________
(1) 157) من حديث أم سلمة رضي الله عنها رواه مسلم . كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك . ح(1854)
(2) ج ) نسبة إلى الإمام زيد بن على بن الحسين، قال الذهبي: ( كان ذا علم وجلالة وصلاح، هفا، وخرج، فاستشهد)قتل سنة (122)وقيل (125) وأنظر خبر خروجه ومقتله البداية والنهاية أحداث سنة (122) والزيدية طائفة من طوائف الشيعة، ترى الخروج على أئمة الجور ، وتخليد أهل الكبائر في النار . وتقول بنفي الصفات ، وتنكر القدر، فهي تقول بأصول المعتزلة، وتزيد عليهم بالقول بالتفضيل والإمامة، أنظر في ذلك منهاج السنة (1/70)، (2/303)، (3/396)، وإن كان الإمام زيد رحمه الله برئ من أكثر مما تذهب إليه طوائف الزيدية ، وأما عن حدوث هذه التسمية فقال شيخ الإسلام (:(لفظ الرافضة أول ما ظهر في الإسلام ، لما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبدالملك ،واتبعه الشيعة ،فسُئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما وترحم عليهما ،فرفضه قوم فقال :رفضتموني رفضتموني فسموا الرافضة، فالرافضة تتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيداً وينسبون إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى زيدية ورافضة إمامية )الفتاوى (13/35-36). ( وقصة زيد بن علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة، سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين ومائة في أواخر خلافة هشام..قال أبو حاتم البستي: قُتل زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة وصلب على خشبة. وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم، وكانت الشيعة تنتحله) منهاج السنة (34-35).( و( الزيدية خير من الرافضة: أعلم وأصدق وأزهد وأشجع ) المنهاج (2/96)، (5/157) وهم لا يقولون بعصمة الأئمة من آل البيت كما تقول الرافضة أنظر المنهاج (452)، والزيدية فرق متعددة وهم (خير من الإمامية، وأشبههم بالإمامية هم الجارودية أتباع أبي الجارود ) المنهاج (3/9-10)، و ( الزيدية الذين يترحمون على أبي بكر وعمر، فيهم من يسب عثمان ويذمه، وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحم عليه ولا يلعنه) المنهاج( 6/200) فـ(الزيدية الذين يتولون أبا بكر وعمر مضطربون فيه )المنهاج (7/339) ومن الزيدية مَن يرى (علياً أفضل من أبي بكر وعمر ) المنهاج (6/476)( وكثير منهم يذمهما ويسبهما، بل ويلعنهما، وخيار الزيدية يفضلونه عليهما، ويذمون عثمان أو يقعون فيه ) المنهاج (8/237)وأما أهل السنة (أئمة المسلمين المشهورين فكلهم متفقون على أن أبابكر وعمر أفضل من عثمان وعلي. ونقل الإجماع على ذلك غير واحد) المنهاج (7/368) وتفضيل أبي بكر على عثمان وعلي (لم يتنازع فيه من له عند الأمة قدر ، لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا أئمة السنة، بل إجماع المسلمين على ذلك قرناً بعد قرن، أعظم من إجماعهم على إثبات شفاعة نبينا في أهل الكبائر وخرجهم من النار....) المنهاج (8/223-224) وأما تفضيل عثمان على علي فـ( عليه استقر أمر أهل السنة، وهو مذهب أهل الحديث، ومشايخ الزهد والتصوف، وأئمة الفقهاء.....) المنهاج (8/225) ،وانظر في فرق الزيدية المنهاج (3/9-12)(1/375)
والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها»(1)، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمراء يظلمون ويفعلون أمورًا منكرة، ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم، ونسأل الله الحق الذي لنا، ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال، ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم(2).
__________
(1) 158) رواه البخاري كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «سترون بعدي أمورا تنكرونها » ح (7052)، ومسلم كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول. ح (1843)
(2) د ) قال -رحمه الله- في موضع آخر: (فأمر مع ذكره لظلمهم بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي بقتال الباغي في مثل هذه الصورة التي يكون القتال فيها فتنة، كما أَذن في دفع الصائل بالقتال، حيث قال: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد»، فإن قتال اللصوص ليس قتال فتنة، إذ الناس كلهم أعوان على ذلك، فليس فيه ضرر عام على غير الظالم، بخلاف قتال ولاة الأمور، فإن فيه فتنةً وشرَّاً عامًا أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر). "الاستقامة" (1/35-36). وحديث: « من قتل... » رواه أصحاب السنن، من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - ، وهو في صحيح أبي داود رقم(3993)، ورواه البخاري (2480)، ومسلم(140) مختصراً، بلفظ: «ومن قتل دون ماله فهو شهيد» من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.(1/376)
وفي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا إلا مات ميتة جاهلية»(1)، وفي لفظ: «فإنه من خرج من السلطان شبرًا فمات مات ميتة جاهلية»، واللفظ للبخاري(2)، وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أنهم لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته، قال حذيفة: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع»(3)، فهذا أمر بالطاعة مع ظلم الأمير، وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا عن طاعة»(4). وهذا نهي عن الخروج عن السلطان وإن عصى.
__________
(1) هـ) (لأن أهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - دائمًا يأمر بإقامة رأس، حتى أمر بذلك في السفر إذا كانوا ثلاثة، فأمر بالإمارة في أقل عدد وأقصر اجتماع). "منهاج السنة" (1/557).
(2) 159) سبق تخريجه رقم(148).
(3) 160) من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام ح(3606)، وكتاب الفتن ح(7084)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ح(1847)، وحديث الباب لفظ مسلم.
(4) 161) من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - ، رواه الإمام مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم ح(1855).(1/377)
وتقدم حديث عبادة: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: «إلا إن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان»، وفي رواية: «وأن نقول -أو نقوم- بالحق حيث ما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(1)، فهذا أمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر، وذلك ظلم منه، ونهى عن منازعة الأمر أهله، وذلك نهي عن الخروج عليه، لأن أهله هم أولوا الأمر الذين أمر بطاعتهم، وهم الذين لهم سلطان يأمرون به، وليس المراد من يستحق أن يُولَّى ولا سلطان له، ولا المتولي العادل، لأنه قد ذكر أنهم يستأثرون، فدل على أنه نهى عن منازعة ولي الأمر وإن كان مستأثرًا، وهذا باب واسع). "منهاج السنة" (3/391-395).
والناس على طرفي نقيض في معاملة الحكام الظلمة (فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم، فيعاونونهم على الإثم والعدوان، وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر، فيخرجون عليهم ويقاتلونهم بالسيف، وهو قتال الفتنة، وإنما الحق في أن لا يُوافق المبطل على باطل أصلا، ولا يُدفع باطله بباطل أصلا، فيلزم المؤمن الحق، وهو ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه، لا موافقة لمن قاله، ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلا، وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك، وإن كان لا يظهر ذلك في بادئ الرأي). "درء تعارض العقل والنقل" (7/291-292).
فصل في مفاسد الخروج على السلطان المسلم
(...
__________
(1) 162) سبق تخريجه رقم(149).(1/378)
قَلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث(1)الذي خرج على عبدالملك(2)بالعراق، وكابن المهلب(3)
__________
(1) و ) عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، الكندي، الأمير متولي سجستان، بدأت فتنته وقتاله للحجاج، في سنة (81) كما ذكره ابن جر ير وابن كثير، ثم كانت عاقبته أن قتل سنة (84) أو (85)، انظر خبره في البداية والنهاية أحداث سنة (81-85).
(2) ز ) ابن مروان بن الحكم، الخليفة، أبوالوليد الأموي، بويع له بالخلافة سنة (65) في حياة أبيه، قال الذهبي كان من رجال الدهر ومن دهاة الرجال، وكان الحجاج من ذنوبه، توفي سنة (86) .انظر ترجمته سير أعلام النبلاء (4/247-249)، والبداية والنهاية وفيات سنة (86) .
(3) ح ) يزيد بن المهلب ابن أبي صفرة، أبو خالد الأزدي، ولي المشرق بعد أبيه ، ثم خرج على يزيد بن عبد الملك، وقتل سنة(102)، قال ابن كثير: كان الحسن البصري في هذه الأيام يحرض الناس على الكف وترك الدخول في الفتنة، وينهاهم أشد النهي، وذلك لما وقع من الشر الطويل العريض في أيام ابن الأشعث، وما قتل بسبب ذلك من النفوس العديدة، وجعل يخطب الناس ويعظهم في ذلك، ويحرضهم على الكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبدالملك بن المهلب، فقام في الناس خطيباً فأمرهم بالجد والجهاد، والنفير إلى القتال، ثم قال بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي -ولم يسمه- يثبط الناس عنا، أما والله ليكفن عن ذلك أو لأفعلن وأفعلن، وتوعد الحسن، فلما بلغ الحسن قوله قال: أما والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه، فسلمه الله منه حتى زالت دولتهم . انظر خبر ابن المهلب في البداية والنهاية حوادث سنة (102)، وانظر السير ( 4/503-506) ..(1/379)
الذي خرج على ابنه(1)بخراسان، وكأبي مسلم(2)صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا،
__________
(1) ط ) يزيد بن عبد الملك، الخليفة الأموي، استُخلف بعهد عقده له أخوه سليمان بعد عمر بن عبدالعزيز، توفي سنة(105)، انظر ترجمته في البداية والنهاية وفيات سنة (105)، والسير (5/150-152).
(2) ي ) أبو مسلم، عبدالرحمن بن مسلم ويقال بن عثمان بن يسار الخراساني، الأمير، هازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية، كان أول ظهوره سنة (129) استولى على خراسان في أواخر سنة (130)ثم توالت المدن سقوطاً بين يديه، فلما تمكن بايع السفاح العباسي بالخلافة، ثم تم القضاء على دولة بني أمية بقتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ،ثم آل أمر أبي مسلم أن قتله أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي بعد = =السفاح، انظر تلك الحوادث في البداية والنهاية سنة(129-137)، قال الذهبي : كان أبو مسلم سفاكاً للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك. قلت ولقد كان جزاؤه من جنس عمله، وانظر ترجمته أيضاً في السير (6/48-73).(1/380)
وكالذين خرجوا على المنصور(1)بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء. وغاية هؤلاء إما أن يُغلبوا وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة؛ فإن عبدالله بن علي(2)وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبوجعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا.
والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله وأحسن نية من غيرهم.
__________
(1) ك ) عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب،أبو جعفر المنصور الخليفة، بويع له بالخلافة بعد أخيه السفاح، سنة(136)، قال الذهبي: أباد جماعة كباراً حتى توطد له الملك، ودانت له الأمم على ظلم فيه وقوة نفس، ولكنه يرجع إلى صحة إسلام وتدين في الجملة، وتصون وصلاة وخير . توفي سنة(158) انظر ترجمته سير أعلام النبلاء (7/83-89) . والبداية والنهاية وفيات سنة (158).
(2) ل ) عبد الله بن علي بن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه، ممن قامت على كتفه دولة بني العباس، قال الذهبي:ولما مات السفاح زعم عبدالله أنه ولي عهده، وبايعه أمراء الشام، وبويع المنصور بالعراق، وندب لحرب عمه صاحب الدعوة أبا مسلم الخراساني، فالتقى الجمعان بنصيبين، فاشتد القتال وقتلت الأبطال، وعظم الخطب، ثم انهزم عبدالله في خواصه، وقصد البصرة، فأخفاه أخوه سليمان مدة، ثم ما زال المنصور يلح حتى أسلمه، فسجنه سنوات. فيقال حَفَرَ أساس الحبس وأرسل عليه الماء فوقع على عبدالله في سنة (147). السير(6/161-162) وانظر البداية والنهاية حوادث سنة (137) ووفيات سنة (147).(1/381)
وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خَلْق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلهم.
وقد قيل للشعبي(1)في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
عَوَى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوَّت إنسانٌ فكدت أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء.
__________
(1) م ) عامر بن شراحيل، أبو عمرو الهَمْداني ثم الشعبي ،الإمام الحافظ علامة أهل الكوفة في عصره ، أدرك جماعة من الصحابة، كان خبيراً بالرافضة قال شيخ الإسلام: ( ثبت عن الشعبي أنه قال: ما رأيت أحمق من الخشبية، لو كانوا من الطير لكانوا رَخَمَا، ولو كانوا من البهائم لكانوا حُمُراً، والله لو طلبت منهم أن يملئوا لي هذا البيت ذهباً على أن أكذب على عليٍّ لأعطوني، والله ما أكذب عليه أبداً)، والخشبية هم الرافضة، قال ابن تيمية ( كانوا يسمون الخَشَبية لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم، فقاتلوا بالخشب) منهاج السنة(1/22،36)، توفي الشعبي رحمه الله سنة (104)انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (4/294-319)، والبداية والنهاية وفيات سنة (104).(1/382)
وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، وكان طلق بن حبيب(1)يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى، فقيل له: أجمل لنا التقوى: فقال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
__________
(1) س ) طلق بن حبيب العنَزي، البصري، الزاهد، كان يُضرب به المثل بالعبادة، قال ابن كثير: أثنى عليه غير واحد من الأئمة، ولكن تكلموا فيه من جهة أنه يقول بالإرجاء. توفي رحمه الله سنة(94)، انظر البداية والنهاية وفيات سنة(94)، والسير (4/601-603).(1/383)
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبدالله بن عمر وسعيد بن المسيب(1)وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد(2)وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين.
وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة، وليس هذا موضع بسطه.
ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب واعتبر أيضًا اعتبار أولي الأبصار، علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور،
__________
(1) ابن حَزن، أبو محمد القرشي المخزومي، الإمام العَلم، عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمنه، قال شيخ الإسلام : ( كان يقال فيه أفقه الناس في البيوع) الفتاوى (29/27)، توفي رحمه الله سنة (94). انظر البداية والنهاية وفيات سنة (94)، والسير (4/217-246).
(2) ابن جبر، أبو الحجاج المكي، شيخ القراء والمفسرين، أحد أئمة التابعين، كان أعلم أهل زمانه بالتفسير.قال الذهبي: روى عن ابن عباس، فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه.توفي رحمه الله سنة (102) أو (103)، وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (4/449-457)، والبداية والنهاية وفيات سنة (103).(1/384)
ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين، كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يقتل، حتى أن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج، وهم في ذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى.
فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد، ولهذا أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحسن بقوله: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(1)، ولم يثن على أحد لا بقتال فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة...). "منهاج السنة" (4/527-531).
__________
(1) 163) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي رضي الله عنهما: « ابني هذا سيد ... » ح(2704).(1/385)
وقال رحمه الله: ( الحسن كان دائمًا يشير على أبيه وأخيه بترك القتال، ولما صار الأمر إليه ترك القتال، وأصلح الله به بين الطائفتين المقتتلتين.
وعلي رضي الله عنه في آخر الأمر تبين له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله.
وكذلك الحسين رضي الله عنه لم يُقتل إلا مظلومًا شهيدًا، تاركًا لطلب الإمارة، طالبًا للرجوع: إما إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى المتولّي على الناس يزيد.
وإذا قال القائل: إن عليًّا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز، لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة، قيل له: وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرَّة وبدير الجماجم على يزيد والحجّاج وغيرهما، لكن إذا لم يُزل المنكر إلا بما هو أنكر منه، صار إزالته على هذا الوجه منكرا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكرٍ مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا.(1/386)
وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف على أهل القبلة، حتى قاتلت عليًا وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم، كالذين خرجوا مع محمد بن عبدالله بن حسن بن حسين، وأخيه إبراهيم بن عبدالله بن حسن بن حسين(1)وغير هؤلاء، فإن أهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه دينًا، لكن قد يخطئون من وجهين:
أحدهما: أن يكون ما رأوه دينًا ليس بدين، كرأي الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء؛ فإنهم يعتقدون رأيًا هو خطأ وبدعة، ويقاتلون الناس عليه، بل يكفرون من خالفهم، فيصيرون مخطئين في رأيهم، وفي قتال من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم. وهذه حال عامة أهل الأهواء....
الوجه الثاني: من يقاتل(2)
__________
(1) ص )كذا في المطبوعة، والصواب أنهما محمد بن عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأخوه ابراهيم، وقد خرجا على المنصور، قاله ابن الجوزي والذهبي وابن كثير، قال شيخ الإسلام:( كان بنو هاشم من آل علي والعباس وغيرهم في الخلافة الأموية متفقين لا نزاع بينهم، ولما خرج من يدعو إليهم صار يدعو إلى الرضا من آل محمد ولا يعيّنه، وكانت العلوية تطمع أن تكون فيهم، وكان جعفر بن محمد وغيره قد علموا أن هذا الأمر لا يكون إلا في بني العباس، فلما أزالوا الدولة الأموية، وصارت الدولة هاشمية، وبَنَى السفَّاح مدينة سماها الهاشمية، ثم تولى المنصور، وقع نزاع بين الهاشميين، فخرج محمد وإبراهيم ابنا عبدالله بن حسن على المنصور، وسيَّر المنصور إليهما من يقاتلهما، وكانت فتنة عظيمة قُتل فيها خلق كثير.المنهاج (6/170-171) وانظر المنتظم لابن الجوزي حوادث سنة (145)، و البداية والنهاية حوادث سنة (145)، والسير (6/210-224).
(2) قال المحقق: الشيخ محمد رشاد سالم - رحمه الله - من يقاتل كذا في (ص)، (ب) وهو الصواب، وفي سائر النسخ: من لا يقاتل.اهـ
قلت: لعل الصواب خلاف ما قال المحقق وهو ما في سائر النسخ كما يدل عليه السياق والسباق فتأمل.(1/387)
على اعتقاد رأي يدعو إليه مخالف للسنة والجماعة، كأهل الجمل وصفِّين والحرَّة والجماجم وغيرهم، لكن يظن أنه بالقتال تحصل المصلحة المطلوبة، فلا يحصل بالقتال ذلك، بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت، فيتبيَّن لهم في آخر الأمر ما كان الشارع دلّ عليه من أول الأمر، وفيهم من لم تبلغه نصوص الشارع، أو لم تثبت عنده، وفيهم من يظنها منسوخه كابن حزم، وفيهم من يتأوّلها كما يجري لكثير من المجتهدين في كثير من النصوص.(1/388)
فإنه بهذه الوجوه الثلاثة يترك من يترك من أهل الاستدلال العمل ببعض النصوص؛ إما أن لا يعتقد ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإما أن يعتقدها غير دالة على مورد الاستدلال، وإما أن يعتقدها منسوخة، ومما ينبغي أن يُعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة، فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده، والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح، بمعرفة الحق وقصده، فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار فلا تصبر النفوس على ظلمه، ولا يمكنها دفع ظلمه إلا بما هو أعظم فسادًا منه، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقّه ودفع الظلم عنه، لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك وأُسيد بن حضير رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟ قال: «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»(1)، وفي رواية للبخاري عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، فقال: «أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه ستصيبكم أَثَرة بعدي»(2). وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره، ومنشطه ومكرهه، وأَثَرة عليه»(3).
__________
(1) 164) سبق تخريجه رقم (154).
(2) 165) رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « اصبروا... » ح(3794).
(3) 166) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح(1836).(1/389)
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عبادة قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على «السمع والطاعة؛ في عسرنا ويسرنا؛ ومنشطنا ومكرهنا، وأَثَرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(1).فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم، وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم، وأن لا ينازعوهم الأمر، وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار، ثم إنه يكون لولّي الأمر ذنوب أخرى، فيبقى بغضه لاستئثاره يعظّم تلك السيئات، ويبقى المقاتل له ظانًّا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ومن أعظم ما حرّكه عليه طلب غرضه: إما ولاية، وإما مال، كما قال تعالى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58])(2).
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل؛ يقول الله له يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا؛ إن أعطاه منها رضي؛ وإن منعه سخط، ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبًا؛ لقد أُعطي بها أكثر مما أعطي»(3).
__________
(1) 167) سبق تخريجه.
(2) انظر وصف شيخ الإسلام لهذا الصنف (28/147) "الفتاوى".
(3) 168) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار ح(108).(1/390)
فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة.والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، حتى قال: «ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة»(1). وأمر الرعية بالطاعة والنصح، كما ثبت في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة» ثلاثًا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله؛ ولكتابه؛ ولرسوله؛ ولأئمة المسلمين؛ وعامتهم».
وأمر بالصبر على استئثارهم، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم، لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة، أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما). "منهاج السنة"(4/535-540).
الباب السادس والعشرون
أهل السنة لا يعطون الطاعة المتعلقة بالإمامة لمعدوم أو مجهول أو غير قادر على أحكام الولاية
(النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء)."منهاج السنة" (1/115).
و(بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة.
بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا.
__________
(1) 169) من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الأحكام باب من استُرعي رعية، فلم ينصح ح(7151)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار ح(142).(1/391)
ولهذا قال أئمة السلف: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم مالم يأمر بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكًا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكًا بذلك، وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه، ولهذا لما بويع عليّ رضي الله عنه وصار معه شوكة صار إمامًا، ولو كان جماعة في سفر فالسنة أن يؤمِّروا أحدهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أن يؤمِّروا واحدًا منهم»(1) فإذا أمَّره أهل القدرة منهم صار أميرًا. فكون الرجل أميرًا وقاضيًا وواليًا وغير ذلك من الأمور التي مبناها على القدرة والسلطان، متى حصل ما يحصل به من القدرة والسلطان حصلت وإلا فلا، إذ المقصود بها عمل أعمال لا تحصل إلا بقدرة، فمتى حصلت القدرة التي بها يمكن عمل تلك الأعمال كانت حاصلة، وإلا فلا. وهذا مثل كون الرجل راعيًا للماشية، متى سُلِّمت إليه بحيث يقدر أن يرعاها، كان راعيا لها وإلا فلا، فلا عمل إلا بقدرة عليه، فمن لم يحصل له القدرة على العمل لم يكن عاملاً. والقدرة على سياسة الناس إما بطاعتهم له، وإما بقهره لهم، فمتى صار قادرًا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره، فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله. ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن مالك العطار: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) إلى أن قال: (ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فدفع الصدقات إليه جائز برَّاً كان أو فاجرًا).
__________
(1) 170) سبق تخريجه رقم(141).(1/392)
وقال في رواية إسحاق من منصور، وقد سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من مات وليس له إمام، مات ميتة جاهلية»(1)، ما معناه: فقال: تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام؛ فهذا معناه). "منهاج السنة"(1/526-229).
وقال: (...وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله، كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية، كسلطان الظالمين). "منهاج السنة" (1/530).
وقال رحمة الله عليه عن خلافة أبي بكر: (ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماماً بذلك، وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة، والذين هم أهل القدرة والشوكة. ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة، لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك، فمن قال إنه يصبر إمامًا بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة، وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة، فقد غلط؛ كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين والعشرة يضر، فقد غلط)."منهاج السنة"(1/530-531).
(
__________
(1) 171) من حديث معاوية - رضي الله عنه - ، رواه الإمام أحمد في المسند ح(16852)، وابن أبي عاصم في السنة ح (1057)، قال الألباني - رحمه الله -: إسناده حسن، ورجاله ثقات على ضعف يسير في عاصم، وهو ابن أبي النجود، وأبي بكر بن عياش اهـ. تحقيق كتاب السنة ح(1057)، ورواه مسلم بمعناه، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ح(1851)، ولفظه: « ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ».(1/393)
فأهل السنة يقولون: الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية(1)، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس وهم يأتمون به، ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إمامًا وهو لا يصلي بأحد، لكن هذا ينبغي أن يكون إمامًا، والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكن هو الإمام لا يخفى إلا على الطغام). "منهاج السنة" (1/556).
الباب السابع والعشرون
أهل السنة والجماعة هم الذين نصر الله بهم الدين
بقتال المرتدين والطوائف الممتنعة عن الشرائع المتواترة
فصل : في فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله:
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(2)[المائدة:54].
__________
(1) أ ) من مقاصد الولاية: إقامة الحدود، وقسم الأموال، وتولية الولايات، وجهاد العدو، وإقامة الحج والأعياد والجمع). انظر "المنهاج" (1/547).
(2) أ )(هذه ثلاثة أصول لأهل محبة الله: إخلاص دينهم، ومتابعة رسوله، والجهاد في سبيله)."الاستقامة"(1/262).(1/394)
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الآية ثم قال: (هذه الآية تدلّ على أنه لا يرتدُّ أحد عن الدين إلى يوم القيامة إلا أقام الله قومًا يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون هؤلاء المرتّدين.والردة قد تكون عن أصل الإسلام،كالغالية،من النصيرية(1).............................................
__________
(1) النصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدّعون إلاهية علي، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين) منهاج السنة (3/452)، (والنصيرية لا يكتمون أمرهم؛ بل هم معرفون عند جميع المسلمين، لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يصومون شهر رمضان، ولا يحجون البيت، ولا يؤدون الزكاة، ولا يقرون بوجوب ذلك، ويستحلون الخمر وغيرها من المحرمات، ويعتقدون أن الإله علي بن أبي طالب) الفتاوى (28/554)، ( وهؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالات أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله، ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا بنهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف= =عند المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها، يدعون أنها علم الباطن..... فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته، وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه، إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق ... من جنس قولهم إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، والصيام المفروض كتمان أسرارهم، وحج البيت العتيق زيارة شيوخهم، وأن يدا أبي لهب هما أبو بكر وعمر، وأن النبأ العظيم والأمام المبين هو علي بن أبي طالب.....) الفتاوى (35/149- 160)، ( ولهذا لا يُعرف ردة أسوأ حالاً من ردة الغالية كالنصيرية، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم) المنهاج (3/459).(1/395)
والإسماعيلية(1)،
__________
(1) وهم المنتسبون إلى ( محمد بن إسماعيل بن جعفر،القائلين بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر ) المنهاج (2/452)، )، وجعفر هو الصادق، ومن هنا اختلفوا مع الرافضة و( الإسماعيلية الباطنية ملاحدة أكفر من النصيرية، فإن حقيقة قولهم التعطيل ) منهاج السنة (2/512)، (3/452)،ويدعي كثير من الإسماعيلية إلاهية أئمتهم بني عبيد، المنهاج (5/334)،( وهم ملاحدة في الباطن، خارجون عن جميع الملل، أكفر من الغالية النصيرية، ومذهبهم مركب من مذهب المجوس والصابئة والفلاسفة، مع إظهار التشيع، وجدهم رجل يهودي كان ربيباً لرجل مجوسي، وقد كانت لهم دولة وأتباع) المنهاج (8/258)،والمقصود بجدهم هو عبيد الله بن ميمون القداح( وهذا ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر وأن ميموناً هذا هو محمد بن إسماعيل. وأهل المعرفة بالنسب وغيرهم من علماء المسلمين يعلمون أنه كَذَبَ في دعوى نسبه، وأن أباه كان يهودياً ربيب مجوسي، فله نسبتان :نسبة إلى اليهود، ونسبة على المجوس. وهو وأهل بيته كانوا ملاحدة، وهم أئمة الإسماعيلية، الذين قال فيهم العلماء ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض. وقد صنف العلماء كتباً في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبيان كذبهم في دعوى النسب ودعوى الإسلام، وأنهم بريئون من النبي صلى الله عليه وسلم نسباً وديناً، وكان هذا المتلقب بالمهدي عبيدالله بن ميمون قد ظهر سنة(299) فملكوا مصر أكثر من (200) سنة، وأخبارهم عند العلماء مشهورة بالإلحاد والمحادة لله و رسوله، والردة والنفاق) المنهاج (4/100-101) وانظر المنهاج (6/342،343)،و(8/11-12)، والفتاوى(28/635-636)، (وهم يقولون بإلاهية الحاكم ونحوه من أئمتهم، ويقولون: عن محمد بن إسماعيل أنه نسخ شريعة محمد بن عبدالله) المنهاج (1/482) والحاكم هو المسمى بالحاكم بأمر الله من الخلفاء العبيدين الذي ادعى الألوهية..ومن أقوالهم (أنه يسقط عن خواصهم الصوم والصلاة والحج والزكاة، وينكرون المعاد، بل غلاتهم يجحدون الصانع، وهم يعتقدون في محمد بن إسماعيل أنه أفضل من محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، وأنه نسخ شريعته، ويعتقدون في أئمتهم، كالذي يسمونه المهدي وأولاده، مثل المعز والحاكم وأمثالهم: أنهم معصومون) المنهاج (4/519)، وانظر (2/426)، و(6/437) ومذهب الإسماعيلية( ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، فأظهروا الشريعة وأن لها باطناً مخالفاً لظاهرها،وباطن أمرهم مذهب الفلاسفة)المنهاج(4/55).
د) العباسية تقول بالنص على العباس بن عبد المطلب وولده من بعده، منهاج السنة(1/500)، وذُكر عنهم أنهم يقولون بالتناسخ ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك، وأن ربهم هو أبو جعفر المنصور ،وأن الهيثم بن معاوية هو جبريل . انظر البداية والنهاية أحداث سنة (141).
قال شيخ الإسلام- رحمه الله – في مثل هذا الصنف: (ولا ريب أن جهاد هؤلاء، وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات، وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد مَن لا يقاتل المسلمين من المشركين، وأهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار، من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين،وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح، وأيضاً فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب). "الفتاوى"(28/ 158- 159) .(1/396)
فهؤلاء مرتدّون باتفاق أهل السنة والشيعة،.................
وكالعباسية(1)، وقد تكون الردّة عن بعض الدين، كحال أهل البدع، الرافضة وغيرهم.
والله تعالى يقيم قومًا يحبّهم ويحبونه، ويجاهدون من ارتد عن الدين، أو عن بعضه، كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدّين عن الدين، أو عن بعضه، في كل زمان، والله سبحانه المسئول أن يجعلنا من الذين يحبّهم ويحبونه، الذين يجاهدون المرتدّين وأتباع المرتدين، ولا يخافون لومة لائم)."منهاج السنة" (7/221-222).
(والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة: أكثر من أن يحصر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة). "الفتاوى" (28/352).
وقال - رحمه الله -: (... اتفق العلماء -فيما أعلم- على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد، فهو أفضل من الحج، وأفضل من الصوم التطوع، وأفضل من الصلاة التطوع، والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس). "الفتاوى" (28/419).
فـ(قوام الدين بالمصحف والسيف). "الفتاوى" (28/264).
والجهاد في سبيل الله (أعلى ما يحبه الله ورسوله، واللائمون عليه كثير، إذ كثير من الناس الذين فيهم إيمان يكرهونه، وهم إما مخذِّلون مفتِّرون للهمة والإرادة فيه، وإما مرجفون مضعِّفون للقوة والقدرة عليه، وإن كان ذلك من النفاق، قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب:18]، وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب:60]). "الاستقامة" (1/265).(1/397)
فصل: في قتال الطوائف الممتنعة(1)عن الشرائع المتواترة
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة، فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين، حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وكان قد توقف في قتالهم بعض الصحابة، ثم اتفقوا، حتى قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله؛ وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها، فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؛ وحسابهم على الله»؛ فقال له أبوبكر: فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال: فعلمت أنه الحق(2)).
__________
(1) هذه طوائف تخالف شرائع وعقائد متواترة من الدين، ولا تكتفي بذلك بل تقاتل ويتعصب أفرادها لبعضهم البعض في قتال من خالفهم واستحلال دمائهم، وتمتنع عن السلطان وتقاتله إذا أُمرها بشريعة الحق، وإذا تمكنت قد تقاتل المسلمين ابتداءً حتى يكونوا مثلهم .
(2) 172) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه البخاري،كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة ح(1399- 1400)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ح(20).(1/398)
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة أنه أمر بقتال الخوارج...، فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام، وإن تكلم بالشهادتين، وقد اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، لو تركت السنة الراتبة، كركعتي الفجر، هل يجوز قتالها؟ على قولين، فأما الواجبات والمحرمات الظاهرة والمستفيضة، فيقاتل عليها بالاتفاق، حتى يلتزموا أن يقيموا الصلوات المكتوبات، ويؤدوا الزكاة، ويصوموا شهر رمضان، ويحجوا البيت، ويلتزموا ترك المحرمات: من نكاح الأخوات، وأكل الخبائث، والاعتداء على المسلمين في النفوس والأموال، ونحو ذلك.
وقتال هؤلاء واجب ابتداء بعد بلوغ دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم بما يقاتلون عليه، فأما إذا بدأوا المسلمين فيتأكد قتالهم، كما ذكرناه في قتال الممتنعين من المعتدين قطاع الطرق.
وأبلغ الجهاد الواجب للكفار، والممتنعين عن بعض الشرائع، كمانعي الزكاة، والخوارج ونحوهم، يجب ابتداء ودفعًا، فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} الآية، [النساء:95].(1/399)
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين، لإعانتهم، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72]، وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج، بل ذم الذين يستأذنون النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} [الأحزاب:13]، فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار: للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها، فهذا النوع من العقوبة، هو للطوائف الممتنعة.
فأما غير الممتنعين من أهل ديار الإسلام ونحوهم فيجب إلزامهم بالواجبات التي هي مباني الإسلام الخمس وغيرها، من أداء الأمانات والوفاء بالعهود في المعاملات وغير ذلك). "الفتاوى" (28/356-359).
وقد اتضح مما سبق أن (كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام، عملاً بالكتاب والسنة.
...(1/400)
فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب.
فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر، والزنا، والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته -التي لا عذر في جحودها وتركها- التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء.
وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر، والأذان والإقامة -عند من لا يقول بوجوبها- ونحو ذلك من الشعائر.
هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها. "الفتاوى" (28/ 502- 503). وانظر "الفتاوى" (28/ 510- 511، 545، 468، 471).
فصل:
في قتال الخوارج والروافض
ونحوهم من الطوائف المبتدعة الممتنعة
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين). "الفتاوى (28/530).
(وهؤلاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم؛ لأن معهم دينًا فاسدًا لا يصلح به دنيا ولا آخره). "الفتاوى" (28/291).
و(من كفر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم، ببدعة ابتدعها ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله، فإنه يجب نهيه عن ذلك وعقوبته بما يزجره، ولو بالقتل أو القتال، فإنه إذا عوقب المعتدون من جميع الطوائف، وأكرم المتقون من جميع الطوائف؛ كان ذلك من أعظم الأسباب التي ترضي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتصلح أمر المسلمين). "الفتاوى" (3/423).(1/401)
وقال رحمه الله: (وأما الخوارج فلم يقاتلهم عليّ حتى قتلوا واحدًا من المسلمين، وأغاروا على أموال الناس فأخذوها). "منهاج السنة" (5/12).
(فقتاله للخوارج كان بنصّ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبإجماع الصحابة). "منهاج السنة" (6/332).
(وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمن معه من الصحابة، واتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها). "الفتاوى" (28/512).
فـ(اتفق الصحابة وعلماء المسلمين على قتالهم). "منهاج السنة" (1/68).
و(الصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم، ومع هذا لم يكفِّروهم ولا كفرهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه). "منهاج السنة" (5/12).
(وأهل السنة -ولله الحمد- متفقون على أنهم مبتدعة ضالون، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة، وأن أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج، وقد اتفقت الصحابة على قتالهم). "منهاج السنة" (6/116).
(فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وباتفاق الصحابة وعلماء السنة). "منهاج السنة" (8/523).
(وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء؛ فإنهم بغاة على جميع المسلمين، سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال؛ فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطرق، فإن أولئك إنما مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا، وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب و السنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن). "منهاج السنة" (5/243-244).
فصل: في قتل الدعاة إلى البدع المغلظة:
الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون قتل أفراد الخوارج إذا كانوا دعاةً لمذهبهم.
((1/402)
ومما يدل على أنهم كانوا يرون قتل من علموا أنه من أولئك الخوارج وإن كان منفردًا حديث صبيغ بن عسل، وهو مشهور، قال أبو عثمان النهدي: سأل رجل من بني يربوع، أو من بني تميم، عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات والمرسلات والنازعات، أو عن بعضهن، فقال عمر: ضع عن رأسك، فإذا له وفرة، فقال عمر: أما والله لو رأتيك محلوقًا لضربت الذي فيه عيناك، ثم قال: ثم كتب إلى أهل البصرة -أو قال إلينا- أن لا تجالسوه، قال: فلو جاء ونحن مائة تفرقنا. رواه الأموي وغيره، بإسناد صحيح(1).
فهذا عمر يحلف بين المهاجرين والأنصار أنه لو رأى العلامة التي وصف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - الخوارج لضرب عنقه، مع أنه هو الذي نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الخويصرة، فعلم أنه فهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أينما لقيتموهم فاقتلوهم»(2) القتل مطلقًا، وأن العفو من ذلك كان في حال الضعف والإستئلاف). "الصارم المسلول" (195).
وقال - رحمه الله -: (أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي إلى البدعة، الذي يضل الناس لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر). "الفتاوى" (12/500).
وقال رحمه الله: (وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، وكذلك كثير من أصحاب مالك، وقالوا: إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض؛ لا لأجل الردة). "فتاوى" (28/346).
__________
(1) 173) سبق تخريجه رقم(88).
(2) 174) من حديث علي - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين، وإقامة الحجة عليهم ح(6930). ومسلم، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج ح(1066).(1/403)
وقال - رحمه الله -: (وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج، والرافضة، فقد روي عنهما – أي عمر وعلي – قتلهما أيضاً، والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء، فلم يتنازعوا في وجوب قتالهم إذا كانوا ممتنعين، فإن القتال أوسع من القتل). "الفتاوى" (28/ 475- 476). وانظر الفتاوى (12/420)
فصل: في قتال قطاع الطرق إذا امتنعوا على السلطان
ذكر رحمه الله الحكم في قطاع الطرق المحاربين إذا قدر عليهم السلطان ثم قال: (فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه، لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا، وإن أفضى إلى ذلك؛ سواء كانوا قد قَتلوا أو لم يَقتلوا، ويُقتلون في القتال كيفما أمكن: في العنق وغيره، ويُقَاتَل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم، فهذا قتال، وذاك إقامة حد، وقتال هؤلاء أوكد من قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام، فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال، وهلاك الحرث والنسل؛ ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك.(1/404)
وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن، أو مغارة أو رأس جبل، أو بطن واد، ونحو ذلك: يقطعون الطريق على من مر بهم، وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود: قاتلوهم ودفعوهم؛ مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات، أو الجبلية الذين يعتصمون برءوس الجبال أو المغارات؛ لقطع الطريق، وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق، ويسمون ذلك "النهيضة" فإنهم يُقاتَلون كما ذكرنا؛ لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار، إذا لم يكونوا كفارًا، ولا تؤخذ أموالهم، إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق؛ فإن عليهم ضمانها، فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، وإن لم نعلم عين الآخذ، وكذلك لو علم عينه؛ فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه؛ لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه، ويرد ما يؤخذ منهم على أرباب الأموال، فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين: من رزق الطائفة المقاتلة لهم، وغير ذلك.
بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود، ومنعهم من الفساد، فإذا جرح الرجل منهم جرحًا مثخنًا، لم يجهز عليه حتى يموت، إلا أن يكون قد وجب عليه القتل، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه، إلا أن يكون عليه حد أو تخاف عاقبته، ومن أُسر منهم، أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره، ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها؛ وأكثرهم يأبون ذلك، فأما إذا تحزبوا إلى مملكة طائفة خارجة عن شريعة الإسلام، وأعانوهم على المسلمين، قوتلوا كقتالهم). "الفتاوى" (28/317-319).
فصل: في أن قتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة يكون مع أئمة العدل والجور(1/405)
الخوارج والروافض ونحوهم من الطوائف الممتنعة (لا خلاف بين علماء السنة أنهم يُقاتلون مع أئمة العدل، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن هل يُقاتلون مع أئمة الجور؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون، وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة: لا يقاتلون مع أئمة الجور، ونُقل عنه أنه قال ذلك في الكفار، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه، ونُقل عنه خلاف ذلك، وهو قول الجمهور.
وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقالوا: يُغزَى مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا إذا كان الغزو الذي يفعله جائزًا، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقض العهد أو الخوارج قتالاً مشروعًا قُوتل معه، وإن قاتل قتالاً غير جائز لم يُقاتل معه، فيعاون على البر والتقوى، ولا يعاون على الإثم والعدوان، كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر، وإن كان في القافلة من هو ظالم، فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم، لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وقال موسى: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، وقال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، وقال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85].(1/406)
الشفيع: المعين، فكل من أعان شخصُا على أمر فقد شفعه فيه، فلا يجوز أن يُعان أحد، لا وليّ أمر ولا غيره على ما حرّمه الله ورسوله، وأما إذا كان للرجل ذنوب، وقد فعل برًّا، فهذا إذا أُعين على البر، لم يكن هذا محرمًا، كما لو أراد مذنب أن يُؤدّي زكاته، أو يحج، أو يقضي ديونه، أو يردّ بعض ما عنده من المظالم، أو يُوصي على بناته، فهذا إذا أُعين عليه فهو إعانة على برٍّ وتقوى، ليس إعانة على إثم وعدوان، فكيف بالأمور العامة؟.
والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور، فإن لم يغز معهم، لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون، فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد، فإما أن يتعطل، وإما أن ينفرد به الفجّار، فيلزم من ذلك استيلاء الكفّار أو ظهور الفجّار، لأن الدين لمن قاتل عليه.
وهذا الرأي من أفسد الآراء، وهو رأي أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم.
حتى قيل لبعض شيوخ الرافضة: إذا جاء الكفّار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبّوا الحريم وأخذوا الأموال هل نقاتلهم؟ فقال: لا، المذهب أنّا لا نغزوا إلا مع المعصوم، فقال ذلك المستفتي مع عاميّته: والله إن هذا لمذهب نجس، فإن هذا المذهب يُفضي إلى فساد الدين والدنيا.
وصاحب هذا القول توّرع فيما يظنه ظلما، فوقع في أضعاف ما توّرع عنه بهذا الورع الفاسد، وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار، بل من استيلاء من هو أظلم منه؟ فالأقل ظلمًا ينبغي أن يُعاون على الأكثر ظلما؟ فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدَّم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين.
ومعلوم أن شر الكفار والمرتدّين والخوارج أعظم من شر الظالم، وإما إذا لم يكونوا يظلمون المسلمين، والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم، فهذا عدوان منه، فلا يُعاون على العدوان). "منهاج السنة" (4/116-118).(1/407)
وقال رحمه الله في الخوارج: (وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء، وأول من قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما زال المسلمون يقاتلونهم في صدر خلافة بني أمية وبني العباس مع الأمراء وإن كانوا ظلمة، وكان الحجاج ونوابه ممن يقاتلونهم فكل أئمة المسلمين يأمرون بقتالهم). "فتاوى" (28/546).
وقد اتضح مما سبق أن هذه الطوائف الممتنعة (إنْ اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل، فهو الغاية في رضوان الله، وإعزاز كلمته، وإقامة دينه، وطاعة رسوله، وإن كان فيهم من فيه فجور، وفساد نية،بأن يكون يقاتل على الرياسة، أو يتعدى عليهم في بعض الأمور، وكانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه، كان الواجب أيضاً قتالهم دفعاً لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما، فإن هذا من أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها، ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر.(1/408)
فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار، أو مع عسكر كثير الفجور، فإنه لا بد من أحد أمرين، إما ترك الغزو معهم، فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضرراً في الدين والدنيا، وإما الغزو مع الأمير الفاجر، فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شعائر الإسلام؛ وإن لم يكن إقامة جميعها، فهذا هو الواجب في هذه الصورة، وكل ما أشبهها، بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذه الوجه، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم»(2)، فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود في سننه عنه - صلى الله عليه وسلم - : «الغزو ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل»(3)، وما استفاض عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة»(4)،
__________
(1) 175) سبق تخريجه رقم (83)، (124).
(2) 176) من حديث عروة البارقي - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب الجهاد ماض مع البر والفاجر ح(2852)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ح(1873)، ومثله من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - ، رواه مسلم في المصدر السابق ح(1872)، وجاء مختصراً بلفظ: « الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة » من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، رواه البخاري ح(2849)، ومسلم ح (1871).
(3) 177) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب الغزو مع أئمة الجور ح(2532)، والحديث في ضعيف الجامع ح(2532)، وضعفه الحافظ في الفتح (6/ 56).
(4) 178) سبق تخريجه رقم (6)..(1/409)
إلى غير ذلك من النصوص التي اتفق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على العمل بها في جهاد من يستحق الجهاد مع الأمراء أبرارهم وفجارهم، بخلاف الرافضة، والخوارج الخارجين عن السنة والجماعة... فإذا أحاط المرء علماً بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد الذي يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة، وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم، علم أن الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد، كهؤلاء القوم المسئول عنهم – وهم التتار – مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم، إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك، واجتناب إعانة الطائفة التي يغزو معها على شيء من معاصي الله، بل يطيعهم في طاعة الله، ولا يطيعهم في معصية الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديماً وحديثاً، وهي واجبة على كل مكلف، وهي متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم، وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقاً، وإن لم يكونوا أبراراً، ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم). "الفتاوى" (28/ 506- 508).
فصل:
في أن قتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة
ليس من قتال الفتنة:(1/410)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أهل المدينة يرون قتال من خرج عن الشريعة كالحرورية وغيرهم، ويفرقون بين هذا وبين القتال في الفتنة، وهو مذهب فقهاء الحديث، وهذا هو الموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، فإنه قد ثبت عنه الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، خرجها مسلم في "صحيحه" وخرج البخاري بعضها، وقال فيه: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة»(1). وقد ثبت اتفاق الصحابة على قتالهم، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر فيهم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم، وسجد لله شاكرًا لما رأى أباهم مقتولاً، وهو ذو الثدية...، فأهل المدينة اتبعوا السنة في قتال المارقين من الشريعة وترك القتال في الفتنة، وعلى ذلك أئمة أهل الحديث، بخلاف من سوى بين قتال هؤلاء وهؤلاء، بل سوى بين قتال هؤلاء وقتال الصديق لمانعي الزكاة، فجعل جميع هؤلاء من باب البغاة، كما فعل ذلك من فعله من المصنفين في قتال أهل البغي؛ فإن هذا جمع بين ما فرق الله بينهما، وأهل المدينة والسنة فرقوا بين ما فرق الله بينه واتبعوا النص الصحيح والقياس المستقيم العادل؛ فإن القياس الصحيح من العدل، وهو: التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتخالفين، وأهل المدينة أحق الناس باتباع النص الصحيح والقياس العادل). "الفتاوى" (20/494-495).
(
__________
(1) 179) سبق تخريجه رقم (123)، (174).(1/411)
وقتال الخوارج قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر به، وحض عليه، فكيف يسوى بين ما أمر به وحض عليه، وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه؟!! فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين، وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين، والحرورية المعتدين: كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين). "الفتاوى" (35/56).
و(لم يثن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد بما جرى من القتال يوم الجمل وصفين فضلاً عما جرى في المدينة يوم الحرّة، وما جرى بمكة في حصار ابن الزبير، وما جرى في فتنة ابن الأشعث وابن المهلب وغير ذلك من الفتن، ولكن تواتر عنه أنه أمر بقتال الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنهروان بعد خروجهم عليه بحروراء؛ فهؤلاء استفاضت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بقتالهم، ولما قاتلهم علي رضي الله فرح بقتالهم، وروى الحديث فيهم، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء، وكذلك أئمة أهل العلم بعدهم لم يكن هذا القتال عندهم كقتال أهل الجمل وصفين وغيرهما مما لم يأت فيه نص ولا إجماع ولا حمد أفاضل الداخلين فيه، بل ندموا عليه ورجعوا عنه). "منهاج السنة" (4/532).
(والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان:(1/412)
منهم من يرى قتال علي يوم حروراء ويوم الجمل وصفين، كله من باب قتال أهل البغي، وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، ومن وافقهم من أصحاب أحمد، وغيرهم، وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فساقاً، بل هم عدول ؛ فقالوا: إن أهل البغي عدول مع قتالهم، وهو مخطئون خطأ المجتهدين في الفروع، وخالفت في ذلك طائفة كابن عقيل وغيره، فذهبوا إلى تفسيق أهل البغي، وهؤلاء نظروا إلى من عدوه من أهل البغي، في زمنهم، فرأوهم فساقاً، ولا ريب أنهم لا يدخلون الصحابة في ذلك... والطريق الثانية: أن قتال مانعي الزكاة، والخوارج، ونحوهم، ليس كقتال أهل الجمل وصفين، وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين، وهو الذي يذكرونه في اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو مذهب أهل المدينة، كمالك وغيره، ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره... وبالجملة، فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به، فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا. "الفتاوى" (28/ 513- 515).
فصل:
في أن قتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة
ليس من باب قتال البغاة:
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: (أن جمهور أهل العلم يفرقون بين البغاة المتأولين والخوارج).
قال: (وهو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين؛ وعليه نصوص أكثر الأئمة واتباعهم: من أصحاب مالك، وأحمد، والشافعي وغيرهم).(1/413)
وذكر رحمه الله من الفروق بين هؤلاء وهؤلاء (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتال "الخوارج" قبل أن يُقَاتِلوا، وأما "أهل البغي" فإن الله تعالى قال فيهم {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء، فالاقتتال ابتداء ليس مأمورًا به؛ ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم؛ ثم إن بغت الواحدة قوتلت؛ ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا، وأما الخوارج فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة»(1)، وقال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد»(2).
وكذلك مانعوا الزكاة، فإن الصديق والصحابة ابتدءوا قتالهم قال الصديق: (والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه)(3). وهم يقاتَلون إذا امتنعوا عن أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب). "الفتاوى" (35/53- 57).
وقد اتضح مما سبق أن الطوائف الممتنعة عن الشرائع المتواترة (عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون – وهم التتار – فهم خارجون عن الإسلام ؛ بمنزلة مانعي الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ). "الفتاوى" (28/ 503- 504).
__________
(1) 180) سبق تخريجه من حديث علي - رضي الله عنه - رقم(174).
(2) 181) سبق تخريجه من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - ، رقم(123).
(3) 182) سبق تخريجه رقم(172).(1/414)
فصل: في أن الشارع إنما أمر بقتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة دون أئمة الجور
من المعلوم في شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتال الخوارج والطوائف الممتنعة دون ولاة الجور، والسبب في ذلك أن: (...المعاصي التي يَعرف صاحبها أنه عاصٍ يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق -كالخوارج- والنواصب الذين نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفّروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرَّم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة -لأجل التأويل- قد تكون أخف، لكن أمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة.
فقال في الخوارج: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم»(1).
وقال في بعضهم: «يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان»(2).
وقال للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»(3)، أي تلقون من يستأثر عليكم بالمال ولا ينصفكم، فأمرهم بالصبر، ولم يأذن لهم في قتالهم.
وقال أيضًا: «سيكون عليكم بعدي أمراء يطلبون منكم حقهم ويمنعونكم حقكم»، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم»(4).
__________
(1) 183) سبق تخريجه رقم(123)، (174).
(2) 184) سبق تخريجه رقم(123).
(3) 185) سبق تخريجه رقم(154).
(4) 186) سبق تخريجه رقم(132).(1/415)
وقال: «من رأى من أميره شيئًا فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»(1).
وقال: «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية»(2)، وقال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلّوا»(3)، وهذه الأحاديث كلها في الصحيح، إلى أحاديث أمثالها.
فهذا أمره بقتال الخوارج، وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة، وهذا مما يُسدل به على أنه ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله...). "منهاج السنة" (5/149-151).
فـ(الكاذب الظالم إذا علم أنه كاذب ظالم، كان معترفًا بذنبه، معتقدًا لتحريم ذلك، فتُرجى له التوبة، ويكون اعتقاده التحريم، وخوفه من الله تعالى من الحسنات التي يُرجى أن يمحو الله بها سيئاته، وأما إذا كذب في الدين معتقدًا أن كذبه صدق، وافترى على الله ظانًا أن فريته حق، فهذا أعظم ضررًا وفسادًا.
__________
(1) 187) أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من رأى من أميره فليصبر عليه»، فقد سبق تخريجه رقم(148)، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : «فإنه من فارق الجماعة قيد شبر... » الحديث؛ فقد رواه الترمذي في كتاب الأمثال باب ما جاء في مَثَلِ الصلاة والصيام والصدقة ح(2863)، من حديث الحارث الأشعري - رضي الله عنه - . وصححه العلامة الألباني في "المشكاة" ح (3694)، و"صحيح الجامع" ح(1724)، و "صحيح الترغيب" ح(552)، وجاء من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - رواه أبو داود كتاب السنة باب في قتل الخوارج ح(4758) ، وهو حديث صحيح لشواهده ، انظر تحقيق كتاب السنة للعلامة الألباني ح(892).
(2) 188) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه مسلم باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ح(1848).
(3) 189) من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - ، رواه مسلم كتاب الإمارة باب خيار الأئمة وشرارهم ح(1855).(1/416)
ولهذا كان السلف يقولون: البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتال الخوارج المبتدعين مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، ونهى عن الخروج على أئمة الظلم، وأمر بالصبر عليهم). "درء تعارض العقل والنقل" (7/180).
الباب الثامن والعشرون
أهل السنة والجماعة
لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد
فصل: في المراد بمسائل الاجتهاد السائغ.
المقصود بمسائل الاجتهاد هي التي لم يظهر أنها خالفت نصًا ولا إجماعًا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله (والمجتهد ينظر ويناظر، وهو مع ظهور قوله لا يسوغ قول منازعيه الذي ساغ فيه الاجتهاد، وهو مالم يظهر أنه خالف نصًا ولا إجماعًا)."الفتاوى" (33/143).
وقال في "القواعد النورانية" (وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس).اهـ (71).
وقال: (والذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه).اهـ من "الآداب الشرعية" لابن مفلح رحمه الله (1/169).
فصل:
في أنه لا إلزام في مسائل الاجتهاد
عند أهل السنة والجماعة(1/417)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (كان أئمة السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يكرهون أحدًا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد(1)مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: (لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم وإنما جمعت علم أهل بلدي)، أو كما قال، وقال مالك أيضًا: (إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة).
وقال أبوحنيفة: (هذا رأي فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه).
وقال الشافعي: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط).وقال: (إذا رأيت المحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها). وقال المزني(2)في أول مختصره: (هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبدالله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء).
__________
(1) أ ) هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، الخليفة العباسي القرشي الهاشمي، استخلف بعهد من أبيه بعد أخيه موسى الهادي سنة(170)، قال ابن كثير كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزواً وحجا. كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري قالوا فلما مات الرشيد وظهرت الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك .توفي رحمه الله سنة(193)،انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء(9/286-295)،والبداية والنهاية وفيات سنة( 193).
ب ) إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو إبراهيم المزني المصري، تلميذ الشافعي، قال الذهبي: كان رأساً في الفقه، وبه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، توفي رحمه الله سنة (264)، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/492-497)(1/418)
وقال الإمام أحمد: (ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم)، قال: (ولا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا).
فإذا كان هذا قولهم في الأمور العملية وفروع الدين، لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم، مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية، فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين). "التسعينية" (1/177-180).
(وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن ولي أمرًا من أمور المسلمين، ومذهبه لا يجوز "شركة الأبدان" فهل يجوز له منع الناس؟.
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك؛ لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.(1/419)
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم المفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكًا أن يحمل الناس على "موطئه" في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم، وصنف رجل كتابًا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه "كتاب الاختلاف" ولكنه سمه "كتاب السنة"(1)ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة(2).
وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه، ونظائر هذه المسائل كثيرة:
__________
(1) كذا في الموضع، ولعل الصواب "السعة" كما سيأتي.
(2) ج ) (النِّزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم؛ ولهذا صنف رجل كتابًا سماه "كتاب الاختلاف" فقال أحمد: سمه "كتاب السعة" وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]). "الفتاوى" (14/159).(1/420)
مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه، وفي بيع المقاش جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر، والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين، والقهقهة، وترك الوضوء من ذلك، والقراءة بالبسملة سرًا، أو جهرًا، وترك ذلك. وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة، أو لوقت كل صلاة، أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم). "الفتاوى"(30/79-81).
(...وإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النِّزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه من حاكم وغيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك). "الفتاوى" (30/407).
فـ(الأقوال والأفعال التي لم يعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها؛ لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم). "الفتاوى" (10/383-384).
(فالبغي مذموم مطلقًا سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم، ويذمهم على تركه، أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه، والله يغفر لهم خطأهم فيه، فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم عليه فقد بغى عليهم، لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه). "درء التعارض" (8/408).
و(الشرع المؤول وهو موارد النِّزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم تجب على جميع الخلق موافقته، إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة). "الفتاوى" (35/395).
((1/421)
وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم أقوالاً باجتهادهم؛ فهذه يسوغ القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلزم إلا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقًا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقًا له؛ لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها؛ فإذا اتقى العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك، وغفر له خطأه. ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو المشرع المنزل من عند الله، وهو الكتاب والسنة وهو دين الله..). "الفتاوى" (35/366-367).(1/422)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - (من آمن به باطنًا وظاهرًا واجتهد في متابعته: فهو من المؤمنين السعداء وإن كان قد أخطأ وغلط في بعض ما جاء به، فلم يبلغه أو لم يفهمه، قال الله تعالى عن المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله قال: «قد فعلت»(1) وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذ به أخذ بحظ وافر»(2)، وقد قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78-79]، فقد خص أحد النبيين الكريمين بالتفهيم مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتي علمًا وحكما، فهكذا إذا خص الله أحد العالمين بعلم أمر وفهمه لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء، بل كل من اتقى الله ما استطاع فهو من أولياء الله المتقين؛ وإن كان قد خفي عليه من الدين ما فهمه غيره). "الفتاوى" (33/29).
الباب التاسع والعشرون
أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه لا تفسيق ولا تأثيم بالخطأ في مسائل الاجتهاد، والمسائل التي تنازع فيها السلف لمن بذل وسعه في معرفة الحق
فصل: في أن الله لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه.
__________
(1) 190) سبق تخريجه رقم( 36 ).
(2) 191) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم ح(3641)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة ح(2682)، وابن ماجه، المقدمة، باب فضل العلماء ح(223)، والحديث في صحيح أبي داود ح(3096)، وصحيح الترغيب ح(67).(1/423)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (...ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من تَرَك مأمورًا به أو فعل محظورًا. وهذا هو قول الفقهاء والأئمة، وهو القول المعروف عن سلف الأمة، وقول جمهور المسلمين)."منهاج السنة" (5/98).
(وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور: أن الله تعالى لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، فالواجب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمورٍ أو فعل محظور بعد قيام الحجة). "منهاج السنة" (5/125).
(وأيضًا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأعراف:42]، وقوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:233]، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].(1/424)
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286]، فقال: «قد فعلت»(1)، فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه، خلافًا للجهمية والمجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي، خلافًا للقدرية والمعتزلة، وهذا فصل الخطاب في هذا الباب. فالمجتهد المستدل -من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفتٍ وغير ذلك- إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع، كان هذا هو الذي كلّفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله ألبته، خلافًا للجهمية المجبره، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر، وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب). "منهاج السنة" (5/110-111).
(ولهذا تجد المسائل التي تنازعت فيها الأمة على أقوال؛ وإنما القول الذي بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحد منها، وسائرها إذا كان أهلها من أهل الاجتهاد أهل العلم والدين: فهم مطيعون لله ورسوله، مأجورون غير مأزورين؛ كما إذا خفيت جهة القبلة في السفر اجتهد كل قوم فصلوا إلى جهة من الجهات الأربع؛ فإن الكعبة ليست إلا في جهة واحدة منها وسائر المصلين مأجورين على صلاتهم حيث اتقوا الله ما استطاعوا). "الفتاوى" (33/42).
فصل:
لا تفسيق ولا تأثيم بالخطأ في مسائل النزاع – بين السلف- والاجتهاد لمن بذل وسعه في معرفة الحق
(
__________
(1) 192) سبق تخريجه.(1/425)
ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه؛ بل ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ مثل الخطأ في الفروع العملية؛ وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن المخطئ فيها آثم، وبعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب فهذان القولان شاذَّان). "الفتاوى" (12/494).
(وثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه عام الخندق: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»؛ فأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فقال بعضهم: لم يُرد منا تفويت الصلاة، فصلّوا في الطريق، وقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، فصلّوا العصر بعد ما غربت الشمس، فما عنَّف واحدة من الطائفتين(1).
فهذا دليل على أن المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس كل واحد منهم آثمًا). "منهاج السنة" (3/411-412).
وإذا كان هذا هو الموقف من المخطئ في مسائل الاجتهاد السائغ ومسائل النِّزاع بين الأمة إلا أنه يجب (بيان حال من يغلط في الحديث والرواية، ومن يغلط في الرأي والفتيا، ومن يغلط في الزهد والعبادة؛ وإن كان المخطئ المجتهد مغفورًا له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب؛ وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله، ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه؛ بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك). "الفتاوى" (28/233-234).
وهنا كلام مهم لابن القيم رحمه الله لابد من نقله:
__________
(1) 193) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، رواه البخاري، كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ح(946)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو ح(1770).(1/426)
قال رحمه الله: (والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يُقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفرًا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقًا، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز، وأنَّ صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأنّ المصراة يردّ معها عوض اللبن صاعًا من تمر، وأنّ صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها.
وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلّد من نهاه عن تقليده، وقال له: "لا يحلَّ لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صحّ الحديث فلا تعبأ بقولي"، وحتى لو لم يقل له ذلك كان هذا هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة).اهـ "إعلام الموقعين" (3/300-301).
فصلٌ:(1/427)
مسائل النِّزاع بين سلف الأمة لا يهجر ولا يعاقب فيها المخالف ولا تكون هذه المسائل سببًا للفرقة
والولاء والبراء من أجلها
(كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسالة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة، وأخوة الدين، نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع، فعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه، وقالت: (من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية)(1)، وجمهور الأمة على قول ابن عباس، مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي الله عنها، وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي، لما قيل لها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» فقالت: إنما قال: «إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق»(2)، ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3). «
__________
(1) 194) سبق تخريجه رقم(95).
(2) 195) من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل ح(3978- 3979)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه ح(932).
(3) 196) من حديث أنس - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال ح(1338)، ومسلم، كتاب الجنة، وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ح(2870).(1/428)
وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام»(1)، صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك من الأحاديث، وأم المؤمنين تأولت، والله يرضى عنها.
وكذلك معاوية نقل عنه في أمر المعراج أنه قال: إنما كان بروحه، والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه، ومثل هذا كثير.
وأما الاختلاف في "الأحكام" فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه يوم بني قريظة: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتتهم العصر، وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب أحدًا من الطائفتين. أخرجاه في الصحيحين: من حديث ابن عمر(2)، وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة، فهو ملحق بالأحكام). "الفتاوى" (24/172-174).
وقال رحمه الله: (...الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا مجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، وقال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي). "الاستقامة"(1/31).
__________
(1) 197) ضعيف، انظر تخريجه في الضعيفة للعلامة الألباني ح(4493).
(2) 198) سبق تخريجه.(1/429)
وسُئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد؟ فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟.
فأجاب: (الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم). "الفتاوى" (20/207).
((1/430)
وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم؛ بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب، وأما من يقول: إن الذي قلته هو قولي، أو قول طائفة من العلماء المسلمين؛ وقد قلته اجتهادًا، أو تقليدًا: فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته، ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفًا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها؛ فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق...،(1/431)
فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادًا أو تقليدًا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين، وإن كانوا قد أخطأوا خطأ مجمعًا عليه، وإذا قالوا إنا قلنا الحق، واحتجوا بالأدلة الشرعية: لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله، ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم، بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطى بل يظهر، فإن ظهر رجع الجميع إليه، وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا؛ كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكمًا، فإن هذا ينقلب، فقد يصير الآخر حاكمًا فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه، بخلاف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه من عند الله؛ حق وهدى وبيان، ليس فيه خطأ قط، ولا اختلاف ولا تناقض قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].(1/432)
وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم، فإذا تعدى بعضهم على بعض منعوهم العدوان؛ وهم قد أُلزموا بمنع ظلم أهل الذمة؛ وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم، لا يلزمه أحد بترك دينه؛ مع العلم بأن دينه يوجب العذاب، فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يُمكِّنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض؛ وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، وهذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها؛ فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا. وهذا إذا كان الحاكم(1)قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف، فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون إليهم؛ ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين؛ ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، فكيف يحل مع هذا أن يُلزم علماء المسلمين باتباع هذا القول، وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع، وأن يقال: القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال، ولا يفتى به بل يعاقب ويؤذى من أفتى به، ومن تكلم به، وغيرهم، ويؤذى المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم، وهم يَعذرون من خفي عليه ذلك ولا يُلزمون باتباعهم، ولا يعتدون عليه، فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأجل هذا؟!!
لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده، والله لا يغفل عن مثل هذا). "الفتاوى" (35/378-381).
(
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: الحكام.(1/433)
فليس كل مسالة فيها نزاع إذا أقام أحد الفريقين الحجة على صواب قوله مما يسيغ له عقوبة مخالفه، بل عامة المسائل التي تنازعت فيها الأمة لا يجوز لأحد الفريقين المتنازعين أن يعاقب الآخر على ترك اتباع قوله). "التسعينية"(1/184-185).
وقال رحمه الله: (وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها؛ على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء، والسياسة وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى, ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على نقضي وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم، وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة، وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور اتباع السلف والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه، وهل يقال له: مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع، ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين، ولا حكم في نفس الأمر، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ). "الفتاوى" (19/122-123).
(وكل من كان باغيًا، أو ظالمًا، أو معتديًا، أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو "قسمان" متأول، وغير متأول.(1/434)
فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين، الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء.
وقد أخبر سبحانه عن داود وسلميان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم(1)، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا، والإصرار عليه فسقًا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا، فالبغي هو من هذا الباب وأما إذا كان الباغي مجتهدًا متأولاً، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئًا في اعتقاده: لم تكن تسميته "باغيًا" موجبة لإثمة، فضلاً عن أن توجب فسقه.
...ثم بتقدير أن يكون "البغي" بغير تأويل: يكون ذنبًا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة: بالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك). "الفتاوى" (35/75-76).
فصلٌ:
في أن الإنكار يكون في مسائل الخلاف لا مسائل الاجتهاد التي لانص فيها ولا إجماع
__________
(1) كذا في هذا الموضع وفي موضع آخر: (فقد خص أحد النبيين الكريمين بالتفهيم مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتي علماً وحكماً). وقد سبق هذا الموضع ص(331).(1/435)
قال ابن تيمية رحمه الله: (وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب الإنكار كما ذكرنا من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس والذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ إذا ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها مثل كون الحامل المتوفي عنها زوجها تعتد بوضع الحمل، وأن المجرد عن إنزال يوجب الغسل وأن ربا الفضل والمتعة حرام...).اهـ من "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/169).
ومسائل الخلاف تختلف، فالمسائل الخلافية التي قال بها بعض السلف ليست كالمسائل الشاذة التي لم يقل بها أحد فالإنكار فيها أشد.(1/436)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الرافضة قولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة -أو بعض أهل السنة- ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير الأربعة من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي يُعرف أنه لا أصل له لا في كتاب ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سبقهم إليه أحد). "منهاج السنة" (2/369).
(وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغًا لم يخالف إجماعًا؛ لأن كثيرًا من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام، مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنِّزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعًا، كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، ممن قد اشتهرت لهم أقوال خالفوا فيها النصوص المستفيضة، المعلومة وإجماع الصحابة). "الفتاوى" (13/26).(1/437)
و(مسائل النِّزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضًا، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضًا، ولا يعتدي عليه وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله، وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم، يظلمون الأمة ويعتدون عليهم، إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين، وكذلك سائر أهل الأهواء، فإنهم يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها، كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، والذين امتحنوا بخلق القرآن كانوا من هؤلاء؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها، واستحلوا منع حقه وعقوبته، فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إما عادلون، وإما ظالمون، فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم الذي يعتدي على غيره، وهؤلاء مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:29]، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضًا، كالمقلدين لأئمة الفقه الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نوابًا عن الرسول، وقالوا هذه غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول متبوعه هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور). "الفتاوى" (17/311-312).
فصلٌ:
في أن الإنكار في مسائل الخلاف لا يكون إلا ببيان المحجة وإيضاح الحجة لا بمحض التقليد(1/438)
قال شيخ الإسلام: (ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد؛ فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء). "الفتاوى" (35/212-213).
(فالمقلد لا ينكر القول الذي يخالف متبوعه إنكار من يقول هو باطل فإنه لا يعلم أنه باطل فضلاً عن أن يُحرِّم القول به، ويُوجِب القول بقول سلفه). "الفتاوى" (33/143).
وسُئل رحمه الله: عن جماعة من المسلمين أشتد نكيرهم على من أكل ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقًا، ولا يدري ما حالهم: هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم بعد ذلك؟.
فكان مما أجب به أن قال: (...فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل فهذه خلاف إجماع المسلمين، فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلا بحجة شرعية، وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله، وفي شحم الثرب والكليتين، وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم، وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من مسائل، وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم والمشهورين فمن صار إلى قول مقلدًا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدًا لقائله؛ لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الأنقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت.(1/439)
ولا يجوز لأحد أن يرجح قولاً على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول ولا قائل على قائل بغير حجة؛ بل من كان مقلدًا لزم حكم التقليد؛ فلم يرجح؛ ولم يزيف؛ ولم يصوب؛ ولم يخطئ: ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه، فقبل ما تبين أنه حق، ورد ما تبين أنه باطل، ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين، والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان، كما فاوت بينهم في قوى الأبدان، وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه مالا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم، فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فإنه من العوام المقلدين؛ لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون، والله تعالى يهدينا وإخواننا لما يحبه ويرضاه: وبالله التوفيق، والله أعلم). "الفتاوى" (35/232،212-233).
(وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النِّزاع، وإنما الحجة النص والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء؟ فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به وبين ما قاله بعض العلماء، ويتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، مثل المحدث عن غيره، و الشاهد على غيره لا يكون حاكمًا، والناقل المجرد يكون حاكيًا لا مفتيًا)."الفتاوى"(26/502-503).
((1/440)
ومما يجب أن يعلم أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن ينكر إلا بحجة وبيان؛ إذ ليس لأحد أن يلزم أحدًا بشيء، ولا يحظر على أحد شيئًا بلا حجة خاصة؛ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله، الذي أوجب على الخلق طاعته فيما أدركته عقولهم، وما لم تدركه، وخبره مصدق فيما علمناه، وما لم نعلمه، وأما غيره إذا قال هذا صواب أو خطأ، فإن لم يبين ذلك بما يجب به اتباعه، فأول درجات الإنكار أن يكون الْمُنكِر عالمًا بما ينكره، وما يقدر الناس عليه، فليس لأحد من خلق الله كائنًا من كان أن يُبطل قولاً أو يُحرِّم فعلاً إلا بسلطان الحجة وإلا كان ممن قال الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، وقال فيه: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]). "الفتاوى" (3/245).
فصلٌ: هل كل مجتهد مصيب
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: إجماع سلف الأمة على أن المصيب عند الله واحد في جميع المسائل. انظر "الفتاوى" (14/ 431).
وقال رحمه الله: (تنازع أصحابنا فيمن لم يصب الحكم الباطن: هل يقال: إنه مصيب في الظاهر؛ لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاره؟ أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال، وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق، وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به؟.
التحقيق: أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيبًا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق). "الفتاوى" (19/125).(1/441)
وسُئل رحمه الله: هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد والباقون مخطئون؟.
فأجاب: (قد بسط الكلام في هذه المسألة في غير موضع، وذكر نزاع الناس فيها، وذكر أن لفظ الخطأ قد يراد به الإثم؛ وقد يراد به عدم العلم.
فإن أريد الأول فكل مجتهد اتقى الله ما استطاع فهو مصيب؛ فإنه مطيع لله ليس بآثم ولا مذموم، وإن أريد الثاني فقد يخص بعض المجتهدين بعلم خفي على غيره: ويكون ذلك علمًا بحقيقة الأمر لو أطلع عليه الآخر لوجب عليه اتباعه؛ لكن سقط عنه وجوب اتباعه لعجزه عنه، وله أجر على اجتهاده، ولكن الواصل إلى الصواب له أجران، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر»(1)، ...والذين قالوا: كل مجتهد مصيب، والمجتهد لا يكون على خطأ، وكرهوا أن يقال للمجتهد إنه أخطأ، هم وكثير من العامة يكره أن يقال عن إمام كبير: إنه أخطأ، وقوله خطأ، لأن هذا اللفظ يستعمل في الذنب كقراءة بن عامر(2){إِنَّهُ كَاْنَ خَطَأً كَبِيْرًا}، ولأنه يقال في العامد: أخطأ يخطئ كما قال: «يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم»(3)، فصار لفظ الخطأ وأخطأ قد يتناول النوعين، كما يخص غير العامل وأما لفظ الخطيئة فلا يستعمل إلا في الإثم، والمشهور أن لفظ الخطأ يفارق العمد، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} الآية [النساء:92]، ثم قال بعد ذلك: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية [النساء:93].
__________
(1) 199) سبق تخريجه رقم(34).
(2) أ ) عبدالله بن عامر ، أبو عمران اليَحصبي الدمشقي، مقرئ الشام، توفي رحمه الله سنة (118) سير أعلام النبلاء (5/292-293)
(3) 200) سبق تخريجه رقم(30).(1/442)
وإذا تبين هذا، فكل مجتهد مصيب غير خاطئ، وغير مخطئ أيضًا إذا أريد بالخطأ الإثم على قراءة ابن عامر، ولا يكون من مجتهد خطأ، وهذا هو الذي أراده من قال: كل مجتهد مصيب، وقالوا الخطأ والإثم متلازمان، فعندهم لفظ الخطأ كلفظ الخطيئة على قراءة ابن عامر، وهم يسلِّمون أنه يخفى عليه بعض العلم الذي عجز عنه، لكن لا يُسمونه خطأ؛ لأنه لم يؤمر به، وقد يسمونه خطأ إضافيًا، بمعنى: أنه أخطأ شيئًا لو علمه لكان عليه أن يتبعه وكان هو حكم الله في حقه؛ ولكن الصحابة والأئمة الأربعة رضي الله عنهم وجمهور السلف يطلقون لفظ الخطأ على غير العمد؛ وإن لم يكن إثمًا، كما نطق بذلك القرآن والسنة في غير موضع، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». ...وأحمد يفرق في هذا الباب، فإذا كان في المسألة حديث صحيح لا معارض له كان من أخذ بحديث ضعيف أو قول بعض الصحابة مخطئًا، وإذا كان فيها حديثان صحيحان نظر في الراجح فأخذ به؛ ولا يقول لمن أخذ بالآخر إنه مخطئ، وإذا لم يكن فيها نص اجتهد فيها برأيه، قال: ولا أدري أصبت الحق أم أخطأته؟ ففرق بين أن يكون فيها نص يجب العمل به وبين أن لا يكون كذلك، وإذا عمل الرجل بنص وفيها نص آخر خفي عليه لم يسمه مخطئًا؛ لأنه فعل ما وجب عليه؛ لكن هذا التفصيل في تعيين الخطأ، فإن من الناس من يقول: لا أقطع بخطأ منازعي في مسائل الاجتهاد، ومنهم من يقولك أقطع بخطئه، وأحمد فصل، وهو الصواب، وهو إذا قطع بخطئه بمعنى عدم العلم لم يقطع بإثمه...). "الفتاوى" (20/19-25).
((1/443)
فإذا أريد بالخطأ الإثم فليس المجتهد بمخطئ؛ بل كل مجتهد مصيب مطيع لله فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر فالمصيب واحد وله أجران...، وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جعل الدين "قسمين" أصولاً، وفروعًا، لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، مراده أنه لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما). "الفتاوى" (13/124-125).
الباب الثلاثون
موقف أهل الحق من العالم المعروف بالسنة إذا زل أو أخطأ
وحال أهل الأهواء في ذلك وحال أهل الأهواء في ذلك.
فصل:
في إعذار العالم المعروف بالخير والسنة
إذا وقع في زلة أو خطأ باجتهاد
(لا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم، بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه: هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه، تحقيقًا لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]). "درء تعارض العقل والنقل" (2/314-315)، "الفتاوى"(20/165-166).
(والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة، بحسب عقله وإمكانه، وإن أخطأ في بعض ذلك)."درء تعارض العقل والنقل"(7/98).(1/444)
و(يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًا يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة)(1). "الفتاوى" (20/231-232)
راجع تلك الأسباب في بقية كلام شيخ الإسلام في رسالة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" في الموضع السابق.
(
__________
(1) قال شيخ الإسلام: (ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لا نعلم لها معارضًا يدفعها، وأن نعتقد وجوب العمل على الأمة ووجوب تبليغها، وهذا مما لا يختلف العلماء فيه). "الفتاوى" (20/257).(1/445)
وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرًا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين، فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين... وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضًا أيضًا؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات، فإذا كان في وقت قد قال: إن هذا حرام، وقال في وقت آخر فيه أو في مثله: إنه ليس بحرام، أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام، فقد تناقض قولاه، وهو مصيب في كليهما عند من يقول: إن كل مجتهد مصيب، وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده.
وأما الجمهور الذين يقولون: إن لله حكمًا في الباطن، علمه العالم في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها، وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاده في طلبه، ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله: باطنًا وظاهرًا؛ بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين، هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله، مع علمه بتقواه، وسلوكه الطريق الراشدة وأما أهل الأهواء والخصومات: فهم مذمومون في مناقضاتهم؛ لأنهم يتكلمون بغير علم، ولا حسن قصد لما يجب قصده، وعلى هذا
فلازم قول الإنسان نوعان:
أحدهما: لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه؛ فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.(1/446)
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم أن من عرف من حاله: أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه؛ وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه؛ لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إ طلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضًا، وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع ملزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه، فإذا عُرف هذا عُرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها، وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها.
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال؛ وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله؛ لكونه ملتزمًا لرسالته، فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول؛ وإن كان لازمًا له: ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه. ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه، لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين.(1/447)
وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء -مع وجود الاختلاف في قول كل منهما- أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد(1)،
__________
(1) أ ) وهذا فرق مهم جداً قد وقع فيه خلط وخبط، وإفراط وتفريط، فالعالم المعروف بالاستقامة على السنة والحرص على الحق،والتحاكم إلى الشرع، إذا وقع فيما يخالف السنة- اعتقاداً أو عملاً- مما لا يسلم منه العلماء سلفاً وخلفاً، من كانت هذه حاله فإن قصده ومراده اتباع الحق والسنة، مع بذل الوسع والطاقة في معرفة الحق فهذا يعذر إذا أخطأ، قال الإمام الذهبي :( ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده- مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه، وبدعناه، لقلَّ من يسلم من الأئمة معنا. رحم الله الجميع بمنه وكرمه.) السير(14/376) وقال شيخ الإسلام: ( لو قُدِّر أن العالم الكثير الفتاوى أخطأ في مائة مسالة لم يكن ذلك عيباً، وكل من سوى الرسول يصيب ويخطئ) الفتاوى(27/301)، وقال الذهبي: ( الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلِمَ تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه. نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجوا له التوبة من ذلك)السير(5/271)، وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في إحدى رسائله : ( .. دين الله تعالى ليس لي دونكم فإذا أفتيت أو عملت بشيء وعلمتم أني مخطئ وجب عليكم تبيين الحق لأخيكم المسلم ... ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه بل الواجب السكوت والوقف فإذا تحقق الخطأ بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن فإني لا أدعي العصمة) الرسائل الشخصية(240)فالعالم المعروف بالسنة والحرص عليها إذا زل نعذره ، ونبين خطأه مع حفظ مكانته، والاستغفار له..أما أهل الأهواء ودعاة أهل البدع فإنهم يخالفوننا أصلاً في مصادر التلقي فلا يأخذون دينهم = = من الكتاب والسنة ومما أجمع عليه سلف الأمة، بل إذا كان ما يتدينون به - من اعتقاد أو عمل- قد خالف القرآن أو السنة الصحيحة، فإنهم قد اتخذوا لأنفسهم منهجاً خلفياً ضربوا بسببه بالحق عرض الحائط، فإنهم إما أن يتأولوا النص ويحرفوه وإما أن يطعنوا فيه إن كان من السنة بحجة أنه من أخبار الآحاد مثلا، أو أنه يعارض العقل، ونحو ذلك، ثم هم مع ذلك لا يتدينون بما كان عليه السلف ولا يفهمون النصوص بفهم السلف أضف إلى ذلك ما يلازمهم من الهوى وسوء القصد مع التعصب لما هم عليه من البدعة. ومن العجب أن تجد ممن ينتسب إلى السنة قد وقع إما في إفراط أو تفريط في ذلك فترى بعضهم إذا أخطأ العالم السني- فضلاً عن الداعية الحريص على الحق والسنة، مع حسن القصد وسلامة الطوية- أو زل نسبه ذلك الجاهل- غلواً وجهلاً وبهتاناً وظلماً- إلى أهل البدع وترى أنه من السهل عليه واليسير أن يقول فلان ليس بسني، بل بعض من بلغ به الجهل غايته والهوى نهايته- في هذه المسألة -، يطلق ذلك التبديع ويتلفظ بذلك القول الشنيع في حق من اجتهد اجتهاداً سائغاً أو خالف في مسالة قد تنازع فيها أو في مثلها علماء السلف. بل بلغ الجهل المركب ببعضهم- لا كَثَّرهم الله - أنْ خَطَّأ صاحب الحق- المنصور بالسنن الواضحات والدلائل البينات- ولم يكتف بذلك بل جعل ما مع مخالفه من الحق ضلالةً وما معه من الباطل سنةً، بل زاد على ذلك فأطلق لسانه في مخالفه فسب وجدَّع وضلل وبدَّع، وتقوَّل وشنَّع، نعوذ بالله من الجهل والهوى . ثم هناك في الطرف الآخر بازاء غلاة التبديع بالباطل (أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة، كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم؛بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذمًا مطلقًا؛ لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يُقَر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النِّزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة، وبعض المتفقهة، والمتصوفة، والمتفلسفة) "الفتاوى" (12/468.467).، والحق وسط بين طرفين ، وهدى بين ضلالتين، ونور بين ظلمتين .(1/448)
وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقًا؛ لكن اعتقاداً ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط، أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقًا. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط.
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق، واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة: عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا؛ بخلاف أصحاب الأهواء؛ فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23]، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزمًا لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده، لا باطناً ولا ظاهرا، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادًا لم يؤمروا به، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين، شبيهًا بالمغضوب عليهم، أو جاهلين، شبيهًا بالضالين، فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق. وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض: فهو من يعلم الحق ويعاند عنه، وثم قسم آخر -وهو غالب الناس- وهو أن يكون له هوى فيه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة؛ ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات»(1).
__________
(1) 201) انظر موسوعة الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، حديث رقم(4664).(1/449)
فالمجتهد المحض مغفور له، ومأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى: فهو مسيء. وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية، وأكثر المتأخرين -من المنتسبين إلى فقه أو تصوف- مبتلون بذلك). "الفتاوى" (29/40-45).
وقال رحمه الله: (الخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يرى؛ لقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، ولقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]. كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يدلان بطريق العموم، وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، فسروا قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]، بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح.
أو من أعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف.
أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، يدل على ذلك.(1/450)
أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منَزه عن الجهل، أو اعتقد أن عليًا أفضل الصحابة؛ لاعتقاده صحة حديث الطير؛ وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم ائتني بأحب الخلق إليك؛ يأكل معي من هذا الطائر»(1).
أو اعتقد أن من جس للعدو وعلمهم بغزو النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو منافق؛ كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق.
أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق؛ كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة وقال: إنك منافق! تجادل عن المنافقين.
أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت، كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظًا من القرآن، كإنكار بعضهم: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23]، وقال: إنما هي (ووصى ربك)، وإنكار بعضهم قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران:81]، وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل، وكذلك هي في قراءة عبدالله، وإنكار بعضهم {أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد:31]، إنما هي (أولم يتبين الذين آمنوا)، وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم، لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها، وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها، حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام.
__________
(1) 202) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب علي - رضي الله عنه - ح(3721). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل. قال أبو موسى المديني: قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة، كالحاكم، النيسابوري، وأبي نعيم، وابن مردويه، وسئل الحاكم عن حديث الطير، فقال: لا يصح. منهاج السنة(7/371- 372).(1/451)
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به، وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها، وقد علموا أن الله خالق كل شيء؛ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى، لكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر.
وكالذي قال لأهله: «إذا أنا مت فأحرقوني؛ ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين»(1).
وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5]، وفي قوله الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ} [المائدة:112]، وكالصحابة الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه؛ وكثير من الناس لا يعلم ذلك؛ إما لأنه لم تبلغه الأحاديث، وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط). "الفتاوى" (20/33-36).
__________
(1) 303) سبق تخريجه رقم(38).(1/452)
وقال -رحمه الله-: (...كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان -وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه من الأحكام- فالعصمة بينهم ثابتة، وهم يردّون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع درجته، وبعضهم يخطئ بعد اجتهاده في طلب الحق، فيغفر الله له خطأه تحقيقًا لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، سواء كان خطؤهم في حكم علمي أو حكم خبري نظري، كتنازعهم في الميت هل يُعذب ببكاء أهله عليه؟ وهل يسمع الميت قرع نعالهم؟ وهل رأى محمد ربه؟ وأبلغ من ذلك أن شريحًا أنكر قراءة من قرأ: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]، وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبدالله أعلم منه - أو قال: أفقه منه - وكان يقرأ: (بَل عَجبتُ)، فأنكر على شريح إنكاره، مع أن شريحًا من أعظم الناس قدرًا عند المسلمين ونظائر هذا متعددة). "درء التعارض" (1/272-273). ).
( لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتاً، غُفر لأحدهم خطؤه الذي أخطأه بعد اجتهاد) الصفدية (1/265)،
و(من ترك العمل بحديث فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكون تركًا جائزًا باتفاق المسلمين، كالترك في حق من لم يبلغه؛ ولا قصر في الطلب مع حاجته إلى الفتيا أو الحكم، كما ذكرناه عن الخلفاء الراشدين وغيرهم، فهذا لا يشك مسلم أن صاحبه لا يلحقه من معرة الترك شيء.(1/453)
وإما أن يكون تركًا غير جائز، فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة إن شاء الله تعالى، لكن قد يخاف على بعض العلماء أن يكون الرجل قاصرًا في درك تلك المسألة: فيقول مع عدم أسباب القول وإن كان له فيها نظر واجتهاد، أو يقصر في الاستدلال فيقول قبل أن يبلغ النظر نهايته، مع كونه متمسكًا بحجة، أو يغلب عليه عادة أو غرض يمنعه من استيفاء النظر لينظر فيما يعارض ما عنده، وإن كان لم يقل إلا بالاجتهاد والاستدلال، فإن الحد الذي يحب أن ينتهي إليه المجتهد قد لا ينضبط للمجتهد.
ولهذا كان العلماء يخافون مثل هذا، خشية أن لا يكون الاجتهاد المعتبر قد وجد في تلك المسألة المخصوصة، فهذه ذنوب؛ لكن لحوق عقوبة الذنب بصاحبه إنما تنال لمن لم يتب، وقد يمحوها الاستغفار والإحسان والبلاء والشفاعة والرحمة، ولم يدخل في هذا من يغلبه الهوى ويصرعه حتى ينصر ما يعلم أنه باطل، أو من يجزم بصواب قول أو خطئه من غير معرفة منه بدلائل ذلك القول نفيًا وإثباتًا؛ فإن هذين في النار، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل علم الحق فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل، ورجل علم الحق وقضى بخلافه»(1).
__________
(1) 204) سبق تخريجه رقم (32).(1/454)
والمفتون كذلك.لكن لحوق الوعيد للشخص المعين أيضًا له موانع، فلو فرض وقوع بعض هذا من بعض الأعيان من العلماء المحمودين عند الأمة -مع أن هذا بعيد أو غير واقع- لم يعدم أحدهم هذه الأسباب؛ ولو وقع لم يقدح في إمامتهم على الإطلاق، فإنا لا نعتقد في القوم العصمة، بل تجوز عليهم الذنوب، ونرجو لهم مع ذلك أعلى الدرجات؛ لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة والأحوال السنية، وأنهم لم يكونوا مصرين على ذنب، وليسوا بأعلى درجة من الصحابة رضي الله عنهم، والقول فيهم كذلك فيما اجتهدوا فيه من الفتاوى والقضايا، والدماء التي كانت بينهم، وغير ذلك). "الفتاوى" (20/255-257
وقال رحمه الله: (فإن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ غفر للجاهل إذا أخطأ ولم يمكنه التعلم، بل المفسدة التي تحصل بفعل واحد من العامة محرمًا لم يعلم تحريمه ولم يمكنه معرفة تحريمه؛ أقل بكثير من المفسدة التي تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع وهو لم يعلم تحريمه، ولم يمكنه معرفة تحريمه.
ولهذا قيل: احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالَم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ويل للعالم من الأتباع، فإن كان هذا معفوًا عنه مع عظم المفسدة الناشئة من فعله: فلأن يعفى عن الآخر مع خفة مفسدة فعله أولى. نعم يفترقان من وجه آخر؛ وهو أن هذا اجتهد فقال باجتهاد، وله من نشر العلم وإحياء السنة ما تنغمر فيه هذه المفسدة، وقد فرق الله بينهما من هذا الوجه فأثاب المجتهد على اجتهاده، وأثاب العالم على علمه ثوابًا لم يشركه فيه ذلك الجاهل، فهما مشتركان في العفو مفترقان في الثواب، ووقوع العقوبة على غير المستحق ممتنع، جليلاً كان أو حقيرًا). "الفتاوى" (20/274).(1/455)
وقد اتضح من النقولات السابقة أن (الخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه، وزهده وورعه وكراماته، كثير جدًا، فليس من شرط وليِّ الله أن يكون معصومًا من الخطأ والغلط، بل ولا من الذنوب). "الاستقامة" (2/93).
(وليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ؛ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه...). "الفتاوى" (11/201-202).
و(من كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نُهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالمة لنفسه، وهو من أهل الوعيد بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه). "درء التعارض" (1/59).
فصلٌ: في بيان حال أهل الإفراط والتفريط
مع العالم المعروف بالخير والسنة إذا وقع في زلة أو خطأ
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي اتَّباعِه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.
ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمّه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بّره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.(1/456)
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيُحمد ويُذم، ويُثاب ويُعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم). "منهاج السنة" (4/543-544).
((1/457)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الصحيح في خطبة يوم الجمعة: «خير الكلام كلام الله؛ وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ وشر الأمور محدثاتها؛ وكل بدعة ضلالة»، ولم يقل: (وكل ضلالة في النار)(1)، بل يضل عن الحق من قصده وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده، وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له، وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها مالم يرد منها، وإما لرأي رآه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وفي الصحيح أن الله قال: «قد فعلت»). "الفتاوى" (19/191-192).
والخوارج (لهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم:
__________
(1) 205) حديث: «خير الكلام كلام الله ...» رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة ح (867)، وابن ماجه في المقدمة، باب اجتناب البدع والجدل ح (45) من حديث جابر - رضي الله عنه - ، والحديث رواه = = النسائي أيضًا، كتاب العيدين، باب كيف الخطبة ح (1577)، وزاد: «وكل ضلالة في النار»، قال العلامة الألباني في رسالة خطبة الحاجة ص (33): وإسنادها صحيح، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "إقامة الدليل على إبطال التحليل" من "الفتاوى": (3/ 58) اهـ. والحديث في صحيح سنن النسائي رقم(1487). ولم أجد كلام شيخ الإسلام في الموضع المشار إليه من "الفتاوى" ، ولكني وجدت تصحيحه للزيادة المذكورة ، في كتاب "بيان الدليل على بطلان التحليل" الذي طبع مفردًا بتحقيق د/ فيحان بن شالي المطيري ، نشر مكتبة لينة ص(173).(1/458)
أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: اعدل فإنك لم تعدل!؛ حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل»(1)، فقوله: فإنك لم تعدل، جعل منه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفها وترك عدل، وقوله: اعدل، أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل؛ لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة). "الفتاوى" (19/72).
__________
(1) 206) من حديث جابر - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ح (1063)، ومن حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات في النبوة ح (3610)، ومسلم كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ح(1063).(1/459)
وذكر رحمه الله بعض أهل العلم ممن تأثروا ببعض الطرق الكلامية لأهل الكلام، ثم قال: (...ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة مالا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكر المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك؛ منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنِّع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبُعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب). "درء تعارض العقل والنقل" (2/102-103).(1/460)
وقد (كان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ {بل عجبتُ} ويقول: إن الله لا يعجب؛ فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبدالله أفقه منه، فكان يقول: {بل عجبتُ} فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة). "الفتاوى"(12/492).
(ومما يناسب "هذا الباب" قولهم : فلان يسلم إليه حاله أو لا يسلم إليه حاله، فأن هذا كثيراً ما يقع فيه النِّزاع فيما يصدر عن بعض المشايخ والفقراء والصوفية من أمور يقال: إنها تخالف الشريعة، فمن يرى أنها منكرة وأن إنكار المنكر من الدين، ينكر تلك الأمور، وينكر على ذلك الرجل، وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه ومن رأى ما في ذلك الرجل من صلاح وعبادة : كزهد وأحوال وورع وعلم لا ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو يعرض عن ذلك .
وقد يغلو كل واحد من هذين: حتى يخرج "بالأول" إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الاجتهاد، متبعاً لظاهر من أدلة الشريعة، ويخرج بالثاني إقراره إلى الإقرار بما يخالف دين الإسلام مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بخلافه اتباعاً في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر؟ و"الأول" يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلى يهودية "والثاني" يكثر من العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية.
و(الأول): كثيرًا ما يقع في ذوي العلم لكن مقرونًا بقسوة وهوى.
و(الثاني): كثيرًا ما يقع في ذوي الرحمة لكن مقرونًا بضلال وجهل.(1/461)
فأما "الأمة الوسط" فلهم العلم والرحمة، كما أخبر عن نفسه بقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، وقال: { إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98]، وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65].
والعدل في "هذا الباب" قولاً وفعلاً أن تسليم الحال له معينان:
(أحدهما): رفع اللوم عنه بحيث لا يكون مذمومًا ولا مأثومًا.
و(الثاني): تصويبه على ما فعل بحيث يكون محمودًا مأجورًا، "فالأول" عدم الذم والعقاب، "والثاني" وجود الحمد والثواب.
و(الأول): عدم سخط الله وعقابه.
و(الثاني): وجود رضاه وثوابه، ولهذا تجد المنكرين غالبًا في إثبات السخط والذم والعقاب، والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب، وكلاهما قد يكون مخطئًا ويكون الصواب في "أمر ثالث وسط" وهو أنه لا حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب.
وبيان ذلك: أن ذلك الأمر الصادر عنه سواء كان قولاً أو فعلاً، إذا عُلِم أنه مخالف للكتاب والسنة، بحيث يكون قولاً باطلاً أو عملاً محرمًا فإنه يُعذَر في موضعين:
(أحدهما): عدم تمكنه من العلم به.
(والثاني): عدم قدرته على الحق المشروع.
مثال الأول: أن يكون صاحب الحال مولهًا مجنونًا قد سقط عنه القلم، فهذا إذا قيل فيه: يسلم له حاله، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب؛ لا بمعنى تصويبه فيه؛ كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح.
وإن عنى به أن ذلك القول صواب فهذا خطأ.
وكذلك إذا كان ذلك الحال صادرًا عنه باجتهاد، كمسائل الاجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين، فإن هذا إذا قيل: يسلم إليه حاله، كما يقال: يقر على اجتهاده، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب فهو صحيح.(1/462)
وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب أو صحيح فلابد من دليل على تصويبه، وإلا فمجرد القول، أو الفعل الصادر من غير الرسول ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل، فإذا عُلم أن ذلك الاجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعنى رفع الذم عنه لا بمعنى إصابته، وكذلك إذا أُريد بتسليم حاله وإقراره أنه يُقر على حكمه فلا يُنقض، أو على فتياه فلا تُنكَر، أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه، بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده واتباعه من العلماء والمشايخ فيما لم يظهر لهم أنه خطأ، لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني الذي لم يعلم مخالفته للشريعة. وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور، أو عرف أنه صادق في طريقة وأن هذا الأمر قد يكون اجتهاداً منه فهذه "ثلاثة مواضع" يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم، وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به.
ومثال (الثاني): عدم قدرته أن يَرِدَ عليه من الأحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه، أو يلطم وجهه، أو يصيح صياحاً منكراً، أو يضطرب اضطراباً شديداً. فهذا إذا عُرِف أن سبب ذلك لم يكن محرماً، وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله، وإن شُكَّ هل هو مغلوب أو متصنع فإن عرف منه الصدق قبل هذا يسلم إليه حاله وإن عُرِف كَذبه أُنكِر عليه، وإن شُكَّ فيه تُوقِّفَ في التسليم والإنكار حتى يتبين أمره، كما يُفعَل بمن شهد شهادة، أو أُتُّهِم بسرقة. فإن ظهر صدقه وعدله قبلت الشهادة ودُفِعَت إليهم وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة، وعوقب على السرقة، وإن أُشْتُبِهَ الأمر تُوُقِّفَ فيه، فإن المؤمن وقاف متبين، هكذا قال الحسن البصري.(1/463)
وكذلك إذا ترك الواجبات مظهراً أنه مغلوب لا يقدر على فعلها: مثل أن يترك الصلاة مظهرًا أنه بمنزلة المغمى عليه، والنائم الذي لا يتمكن من فعلها. كما قد يعتري بعض المصعوقين من وارد خوف الله أو محبته، أو نحو ذلك بحيث يسقط تمييزه فلا يمكنه الصلاة، فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات، فتسليم الحال بمعنى عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور، وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم.(1/464)
هذا فيما يعلم من الأقوال والأفعال أنه مخالف للشرع بلا ريب، كالشطحات المأثورة عن بعض المشايخ، كقول ابن هود : إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، وكون الشبلي(1)كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتى ادخلوه المارستان مرتين، وما يحكى عن بعضهم أنه قال : إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به، وكترك آخر صلاة الجمعة خلف إمام صالح لكونه دعاء لسلطان وقته وسماه العادل، وترك آخر الصلاة خلف إمام لما كوشف به من حديث نفسه، وما يحكى عن عقلاء المجانين الذين قيل فيهم : أن الله أعطاهم عقولاً وأحوالاً فسلب عقولهم وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب.
__________
(1) أبو بكر الشبلي البغدادي، اختلف في اسمه فقيل دُلَف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس، وقيل جعفر بن دلف، أصله من قرية يُقال لها شبلة، من خراسان، كان فقيهاً عارفاً بمذهب مالك، قال الذهبي: له مجاهدات عجيبة انحرف فيها مزاجه، وكان يحصل له جفاف دماغ وسُكْر فيقول أشياء يُعتذر عنه، فيها بأْوٌ لا تكون قدوة. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض زلات الشبلي ثم قال :( وهذه من زلات الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه، وقوة وجده، وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يُجن ويُذهب به إلى المارستان، ويحلق لحيته، وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها، وإن كان معذوراً أو مأجوراً) الفتاوى (10/ 557). توفي رحمه الله سنة(334)، انظر سير أعلام النبلاء (15/367-369)، والبداية والنهاية وفيات سنة(334).(1/465)
فجماع هذا أن هذه الأمور تعطى حقها من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر والأمر والنهي وجب إتباعه، ولم يلتفت إلى من خالفه كائناً من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائناً من كان، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من اتباع الرسول وطاعته وأن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطى عذره حيث عذرته الشريعة بأن يكون مسلوب العقل، إما ساقط التمييز أو مجتهدًا مخطئًا اجتهادًا قوليًا أو عمليًا، أو مغلوبًا على ذلك الفعل أو الترك بحيث لا يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بلا ذنب فعله ولا يمكنه أداء ذلك الواجب بلا ذنب فعله ويكون هذا الباب نوعه محفوظاً بحيث لا يُتَّبَع ما خالف الكتاب والسنة ولا يُجعل ذلك شرعةً ولا منهاجًا، بل لا سبيل إلى الله ولا شرعة إلا ما جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما الأشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيُعذرون، ولا يُذمون، ولا يُعاقبون. فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما من الأئمة إلا من له أقوال وأفعال لا يتبع عليها، مع أنه لا يذم عليها، وأما الأقوال والأفعال التي لم يعلم قطعاً مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بَيَّنَ الله له الحق فيها، لكنه لا يمكنه أن يُلزم الناس بما بان له ولم يَبِنْ لهم، فيُلحق من وجه بالقسم الأول ومن وجه بالقسم الثاني. وقد تكون اجتهادية عنده أيضاً فهذه تُسلَّم لكل مجتهد، ومن قلده طريقهم تسليماً نوعياً بحيث لا ينكر ذلك عليهم كما سُلِّم في القسم الأول تسليمًا شخصيًا.(1/466)
وأما الذي لا يسلم إليه حال: فمثل أن يعرف أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي(1)و"اليونسية"(2)
__________
(1) أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد الرفاعي المغربي ثم البطائحي، الزاهد شيخ الطائفة الأحمدية الرفاعية البطائحية. قال الذهبي ( كان إليه المنتهى في التواضع والقناعة ولين الكلمة والذل والانكسار والإزراء على نفسه وسلامة الباطن، ولكنّ أصحابه فيهم الجيّد والرديء، وقد كَثُرَ الزغلُ فيهم وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق: من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات، وهذا ما عرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه. نعوذ بالله من الشيطان.توفي رحمه الله سنة (578)، انظر سير أعلام النبلاء (17/77-80) والعبر وفيات سنة(578)، والبداية والنهاية وفيات سنة(578). وقال شيخ الإسلام :( أما كشف الرؤوس وتفتيل الشعر وحمل الحيات: فليس هذا من شعار أحد من الصالحين؛ لا الصحابة ولا التابعين ولا شيوخ المسلمين لا المتقدمين ولا المتأخرين ولا الشيخ أحمد بن الرفاعي ولا غيره وإنما ابتدع هذا بعد موت الشيخ أحمد بمدة طويلة، ابتدعه طائفة انتسبت إليه فخالفوا طريق المسلمين وخرجوا عن حقائق الدين،وفارقوا طريق عباد الله الصالحين ) الفتاوى(11/494).
(2) ذكر شيخ الإسلام قوماً ممن لم يَعرف طريقة أهل السنة والحديث ثم قال: (ويشبه هؤلاء من بعض الوجوه: أكثر الأحمدية، واليونسية، والحريرية، وكثير من العدوية، وأصحاب الأوحد الكرماني، وخلق كثير من المتصوفة والمفتقرة بأرض المشرق، ولهذا تغلب عليهم الإباحة، فلا يؤمنون بواجبات الشريعة ومحرماتها. وهم إذا تألهوا في تأله مطلق : لا يعرفون من هو إلههم بالمعرفة القلبية؛ وإن حققه عارفوهم الزنادقة، جعلوه الوجود المطلق..ومنهم من يتأله الصالحين من البشر، وقبورهم ونحو ذلك، فتارة يضاهؤن المشركين، وتارة يضاهؤن النصارى، وتارة يضاهؤن الصابئين، وتارة يضاهؤن المعطلة الفرعونية، ونحوهم من الدهرية، وهم من الصابئين، لكن كفار الأصل. والخالص منهم: يعبد الله وحده، لكن أكثر ما يعبده بغير الشريعة القرآنية المحمدية، فهم منحرفون، إما عن شهادة أن لا آله إلا الله، وإما عن شهادة أن محمداً رسول الله.) الفتاوى (2/58-59).(1/467)
فيما يأتونه من المحرمات، ويتركونه من الواجبات، أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليُظنَّ به خيرًا، ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يُعرَف منه أن الحق قد تبين له، وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية، وأنه قد يتفوه بما يخالفها، وأن من الرجال من قد يستغني عن الرسول أو له أن يخالفه، أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين كما يحكى بعض الكذابين الضالين : أن أهل الصفة قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار لما أنهزم أصحابه وقالوا : نحن مع الله، من غلب كنا معه، وأنه صبيحة الإسراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة، وأنه تواجد في السماء حتى وقع الرداء عنه، وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر، أو يُسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته، كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى فإنه لم يكن مبعوثًا إليه بعث محمد إلى الناس كآفة. فهؤلاء ونحوهم ممن يُخالف الشريعة ويَبِيْنُ له الحق فيُعرِض عنه يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة، من اليد واللسان والقلب. وكذلك أيضًا يُنْكَرُ على من اتبع الأولين المعذورين في أقوالهم وأفعالهم المخالفة للشرع، فإن العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه.(1/468)
ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو: تُوقِّفَ فيه، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، لكن لا يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(1)، فلا يسوغ الخروج عن موجب العموم والإطلاق في الكتاب والسنة بالشبهات، ولا يسوغ الذم والعقوبة بالشبهات، ولا يسوغ جعل الشيء حقًا أو باطلاً أو صوابًا أو خطأ بالشبهات، والله يهدينا الصراط المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ غير المغضوب عليهم ولا الضالين). "الفتاوى" (10/378-385).
فائدة : المجتهد إذا وقع في زلة خالف فيها أهل السنة والجماعة ولم يُفَسِّق مخالفه ويوالي عليها ويعادي، كانت زلته من نوع الخطأ المغفور لصاحبه.
قال شيخ الإسلام: (ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام؛ على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.
ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه؛ فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد بالباطل باطلاً بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة.
__________
(1) 207) من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ح(2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقص الأحكام الباطلة ح(1718)، بلفظ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وأما لفظ: «من عمل...» فهو رواية لمسلم.(1/469)
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين؛ يوالون عليه ويعادون؛ كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من والى موافقه؛ وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات؛ واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلاف). "الفتاوى" (3/348-349).
فصل: في ضلال من انحرف عن منهج السلف
في التعامل مع العالم إذا زل
(ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل؛ فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا كما قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، «قال الله: قد فعلت»(1)، وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقًا في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور. ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله؛ ونرعى حقوق المسلمين؛ لا سيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله. ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن ابتاع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا: فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم). "الفتاوى" (32/239).
(ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذمومًا معيبًا ممقوتًا، فهو مخطئ ضال مبتدع). "الفتاوى" (11/15).
__________
(1) 208) سبق تخريجه رقم (36).(1/470)
و(المنحرفون من هذه الأمة قد اختلفوا في علي وغيره، فتجد أحدهم يغلو في الرجل العالم العابد، حتى يعتقد عصمته، أو يجعله كالأنبياء أو فوقهم، أو يجعل لهم حظاً في الإلهية. وتجد الآخر يقدح في ذلك، فر بما كفره أو فسقه أو أخرجه عن أن يكون من أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون. فالأول يجعل ما صدر منه من اجتهاد وعمل صواباً وإن كان خطأ وذنباً، والأخر يجعل صدور الذنب والخطأ منه مانعاً منه ولايته ووجوب موالاته وكلا القولين خطأ موروث عن أهل الكتابين ) "جامع الرسائل"( 1/271). (وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]،
فمن آذى مؤمنًا: حيًّا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك، فقد دخل في هذه الآية، ومن كان مجتهدًا لا إثم عليه، فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن كان مذنبًا وقد تاب من ذنبه، أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ، فقد آذاه بغير ما اكتسب،وإن حصل له بفعله مصيبة) المنهاج(5/135)
(ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفره، فإنه هو ظلم نفسه وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق؛ يتبعون الرسول فلا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه). "الفتاوى" (16/96).
(...(1/471)
وهذه حال أهل العلم والحق والسنة؛ يعرفون الحق الذي جاء به الرسول، وهو الذي اتفق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول؛ ويدعون إليه، ويأمرون به نصحًا للعباد، وبيانًا للهدى والسداد، ومن خالف ذلك لم يكن لهم معه هوى، ولم يحكموا عليه بالجهل، بل حكمه إلى الله والرسول؛ فمنهم من يُكفره الرسول، ومنهم من يجعله من أهل الفسق أو العصيان، ومنهم من يعذره ويجعله من أهل الخطأ المغفور، والمجتهد من هؤلاء المأمور بالاجتهاد، يجعل له أجرًا على فعل ما أمر به من الاجتهاد، وخطؤه مغفور له؛ كما دلَّ الكتاب، وأما أهل البدع: فهم أهل أهواء وشبهات، يتبعون أهواءهم فيما يُحبِّونه ويُبغضونه، ويحكمون بالظن والشبه؛ فهم يتَّبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى). "النبوات" (1/420-421).
فصل: في الموقف من كلام العالم السني المحتمل للحق والباطل.
قد يتكلم العالم المعروف بالسنة بكلام يحتمل خيرًا ورشدًا أو شرًّا وضلالة، والواجب في نحو ذلك حمل كلامه على الخير والرشد الذي عُرف به واشتهر به، وأُثر عنه وهذا هو العدل وخلافه الجور والظلم، بل الأمر كما قال شيخ الإسلام رحمه الله : (وليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عُرف أنه أراده، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كل أحد). "الفتاوى" (7/36).
(ومن أعظم التقصير: نسبة الغلط إلى متكلّم مع إمكان تصحيح كلامه، وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس.) "الفتاوى" (31/114).
(ومعلوم أن مُفَسَّر كلام المتكلم يقضي على مجمله، وصريحه يُقدم على كنايته، ومتى صدر لفظ صريح في معنى، ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى، أو غير نقيضه؛ لم يُحمل على نقيضه جزماً، حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا مِنْ فَرْطِ الجهل والظلم). "الرد على البكري" (2/623).(1/472)
وقال في بعض أهل الضلال من أهل الحلول ممن يستدل بكلمات مجملة لبعض المشايخ: (وهؤلاء قد يجدون من كلام بعض المشايخ –كلمات مشتبهة مجملة- فيحملونها على المعاني الفاسدة، كما فعلت النصارى فيما نُقِلَ لهم عن الأنبياء، فيدعون المحكم؛ ويتبعون المتشابه). "الفتاوى" (2/374).
مسألة: هل هناك فرق بين زلة العالم في الأمور الجلية
والأمور الخفية؟
قال شيخ الإسلام: (مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النص إنما يكون لعدم علمه به، أو لاعتقاده صحة ما عارضه، لكن هو فيما ظهر من السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان، فيستحق من الذم مالا يستحقه في النص الخفي وكذلك فيما يوقع الفرقة والاختلاف؛ يعظم فيه أمر المخالفة للسنة). "الفتاوى" (4/15).
((1/473)
فكل ما خالف حكم الله ورسوله، فأما شرع منسوخ وإما شرع مبدل ما شرعه الله؛ بل شرعه شارع بغير أذن من الله، كما قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، لكن هذا وهذا قد يقعان في خفي الأمور ودقيقها باجتهاد من أصحابها استفرغوا فيه وسعهم في طلب الحق، ويكون لهم من الصواب والاتباع ما يغمر ذلك كما وقع مثل ذلك من بعض الصحابة في مسائل الطلاق والفرائض ونحو ذلك؛ ولم يكن منهم مثل هذا في جلي الأمور وجليلها؛ لأن بيان هذا من الرسول كان ظاهرًا بينهم فلا يخالفه إلا من يخالف الرسول وهم معتصمون بحبل الله يُحَكِّمون الرسول فيما شجر بينهم، لا يتقدمون بين يدي الله ورسوله، فضلاً عن تعمد مخالفة الله ورسوله، فلما طال الزمان خفي على كثير من الناس ما كان ظاهرًا لهم، ودق على كثير من الناس ما كان جليًا لهم، فكثر من المتأخرين مخالفة الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف، وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين يغفر الله لهم خطاياهم، ويثيبهم على اجتهادهم.(1/474)
وقد يكون لهم من الحسنات ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلا يعملها في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا من يعينهم على ذلك، لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة؛ فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد، ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وتصديقه، وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته وتظهر كلمته، وتكثر أعوانه وأنصاره وتنتشر دلائل نبوته، بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين، وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقى تحصيل مثله لأحد، كما في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - : «لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»(1)). "الفتاوى" (13/64-66).
تنبيه: (الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الإقرار على الخطأ بخلاف الواحد من العلماء والأمراء؛ فإنه ليس معصومًا من ذلك، ولهذا يسوغ بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتباعه وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء). "الفتاوى" (19/123).
فصلٌ: في تحريم اتباع العلماء في زلاتهم
__________
(1) 209) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، رواه البخاري كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لو كنت متخذاً خليلاً » ح(3673)، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم ح(2540).(1/475)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله: فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك: فقد اتخذ شريكًا لله شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقد يغفر له لأجل تأويل إذا كان مجتهدًا: الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ؛ لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن الله به: من تحليل، أو تحريم، أو استحباب، أو إيجاب: فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي، ثم قد يكون كل منهما معفوًا عنه. فيختلف الذم لفوات شرطه، أو وجود مانعه، وإن كان المقتضى له قائمًا، ويلحق الذم من تبين له الحق؛ فتركه أو قصر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلبه، لهوى أو كسل ونحو ذلك). "الفتاوى" (4/195).
(...ثم ذلك المُحرم للحلال؛ والمحُلل للحرام، إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه). "الفتاوى" (7/71).
(فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول؛ من الكتاب والسنة، هذا هو الشرع المنزل، وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه، ويطلق على ما يضيفه بعض الناس إلى الشرع إمَّا بالكذب والافتراء، وإما بالتأويل والغلط، وهذا شرع مبدل لا منزل ولا يجب، بل ولا يجوز ابتاعه). "النبوات" (1/329).(1/476)
و(حُكِيَ أن الشبلي مات ابن له كان اسمه أبوالحسن فحزنت أمه عليه وقطعت شعرها، ودخل الشبلي الحمام وتَنَوَّرَ بلحيته، فكل من أتاه معزيًا له قال: إيش هذا يا أبا بكر، فكان يقول: موافقة لأهلي، فقال له بعضهم: أخبرني يا أبا بكر لم فعلت هذا؟ قال: علمت أنهم يعزونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله تعالى ففديت ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي.
قال: وأذَّن الشبلي مرة، فلما انتهى إلى الشهادتين قال: لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك. قال: وسمع النوري(1)رجلاً يؤذن فقال: طعنه وسمّ الموت، وسمع كلبًا ينبح، فقال: لبيك وسعديك فقيل له: إن هذا ترك للدين، فإنه يقول للمؤذن في تشهده: طعنة وسمّ الموت، ويلبي عند نباح الكلاب، فسُئل عن ذلك؟ فقال: أما المؤذن فإنه يذكره على رأس الغفلة، وأما الكلب فإن الله يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، ومثل هذه الكلمات والحكايات لا تصلح أن تذكر للاقتداء أو سلوك سبيل وطريقة، لما فيها من مخالفة أمر الله ورسوله، والذي يصدر عنه أمثال هذه الأمور: إن كان معذورًا بقصور في اجتهاده أو غيبة في عقله، فليس من اتبعه بمعذور، مع وضوح الحق والسبيل، وإن كانت سيئته مغفورة لما اقترن بها من حسن قصد وعمل صالح، فيجب بيان المحمود والمذموم، لئلا يكون لبسًا للحق بالباطل، وأبو الحسين النوري وأبو بكر الشبلي -رحمة الله عليهما- كانا معروفين بتغيير العقل في بعض الأوقات، حتى ذهب الشبلي إلى المارستان مرتين. والنوري -رحمه الله- كان فيه ولهٌ، وقد مات بأجمة قصب لما غلبه الوجد حتى أزال عقله.
__________
(1) هـ) أحمد بن محمد الخراساني البغوي الزاهد أبو الحسين، قال الذهبي: كان الجنيد يعظمه، لكنه في الآخر رقَّ له وعذره لمَّا فسد دماغه . توفي رحمه الله سنة( 295). وانظر ترجمته سير أعلام النبلاء (14/70-77)(1/477)
ومن هذه حالة لا يصلح أن يُتّبع في حال لا يوافق أمر الله ورسوله، وإن كان صاحبها معذورًا أو مغفورًا له، وإن كان له من الإيمان والصلاح والصدق والمقامات المحمودة ما هو من أعظم الأمور، فليس هو في ذلك بأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم يُتَّبعون في طاعة، ولا يُذكرون إلا بالجميل الحسن، وما صدر منهم من ذنب أو تأويل، وليس هو مما أمر الله به ورسوله، لا يُتَّبعون فيه، فهذا أصل يجب اتباعه، فحلق اللحية منهي عنه، ومُثْلَة كرهها الله ورسوله والمعزِّى والمؤذن، وإن لم يكن معه كمال الحضور، فلا [(1)] سبّه وذمّه على ما أظهره من ذكر الله، بل يؤمر بما يُكمِّل ذلك من حقائق القلوب المحمودة، وإن كان ذاكرًا لله بلسانه، فأعظم المراتب ذكر الله بالقلب واللسان، ثم ذكر الله بالقلب، ثم ذكر الله باللسان...، فإذا كان التأذين يطرد الشيطان، ونباح الكلاب يكون عن رؤية الشياطين، كيف يصلح أن يقال لهذا: طعنة وسم الموت، لأجل تقصير هذا بغفلة في قلبه، ولهذا: لبَّيك وسعديك، لكون الكلب يسبح بحمده، فإن هذه حجة فاسدة...). "الاستقامة" (1/14-21).
(وإذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له: فلا يُغْتَفَرُ لمن بلغته الحجة ما اغتُفِرَ للأول، فلهذا يُبَدَّع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوه إذا أنكر ذلك، ولا تُبَدَّع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع). "الفتاوى" (6/61).
وقد اتضح لك أخي القارئ مما سبق في الفصول السابقة أن العالم المعروف بالخير والسنة الذي أمضى حياته في الدفاع عن السنة والدعوة إليها قد تقع منه الزلة التي يخالف فيها ذلك العالم نصًا صريحًا أو يقع في بدعة تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.
وعند ذلك ينقسم فيه الناس إلى ثلاث طوائف:
__________
(1) كلمة ساقطة ولعلها "يجوز".(1/478)
الطائفة الأولى: أهل الإفراط والغلو في تعظيم العالم، وسمة هؤلاء الدفاع عن زلة العالم، ومعاملته معاملة من لا يخطئ، وتسويغ العمل بتلك الزلة، بل واعتقادها دينًا وشرعة وطريقة لأهل الحق، بل حصل من بعض هؤلاء الغلاة أن يعتقد أحدهم أن مجرد رد تلك الزلة والتحذير منها مع معرفة قدر صاحبها؛ مروق عن السنة وخروج عن الجماعة.
الطائفة الثانية: أهل التفريط والجفاء عن العالم والغلو في التبديع وسمة هؤلاء تتبع زلات العلماء والتنقيب عنها بل وتحميل كلام العلماء مالا يحتمل ثم السعي بالتشنيع على العالم، وتنفير الناس عنه، وغالباً لا يحصل لهؤلاء مرادهم، فيرفع الله ذلك العالم بصبره وثباته على الحق وأوبته إليه، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك. وما كان لله بقي.
وقد يوجد من الجهلة أصحاب الهوى من يجمع بين هاتين الطريقتين الفاسدتين فيعامل بعض العلماء بالطريقة الأولى، وبعضهم بالطريقة الثانية، فيكيل بمكيالين لهوى في نفسه ومرض في قلبه وزيغ في فكره وطيش في عقله، (ومنشأ الباطل من نقص العلم، أو سوء القصد). "درء التعارض" (7/174).
الطائفة الثالثة: أهل الاستقامة والعدل وسمة هؤلاء ما يلي:
1- عدم تتبع زلات العلماء، لعلمهم أن العلماء لا يسلمون من الزلل، والغلط بل والذنب المحقق.
2- إذا ظهرت زلة العالم وثبتت عليه، فإن كان ميتًا يستغفرون له ويسألون له العفو ويحذرون من زلته مع معرفة مكانته والإشادة بقدره، وإن كان حيًا فإنهم يسعون في نصيحته وبيان الحق له مع الحفاظ على مكانته ومنزلته العلمية فإن تبين له الحق فإنه لن يتوانى عن اتباعه، وإن أصر اقتناعًا بأن ما هو عليه هو الحق فالواجب التحذير من زلته مع إبقاء مكانته فلا تُتَّبَع زلته ولا تسقط مكانته،وهكذا كان موقف العلماء من شريح القاضي - رحمه الله – وغيره من أهل العلم والسنة ممن وقع في زلة مع حسن القصد وسلامة الطوية، والاجتهاد في معرفة الحق ، والبحث عنه. والله أعلم.(1/479)
فصلٌ: في أن أهل السنة لا يُعصِّمُون إلا من ثبتت له العصمة، ولا يُؤَثِّمُون المجتهد المخطئ،
ولا تلازم عندهم بين الخطأ والإثم
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم؛ بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب...
ولكن الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب.
فأما الصديقون، والشهداء؛ والصالحون؛ فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة.
وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا واخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين: فتارة يغلون فيهم؛ ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم؛ ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون). "الفتاوى" (35/69).
(وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض؛ بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة:286]، في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أن الله تعالى قال: قد فعلت»(1)). "الفتاوى" (35/100).
(...فما عجز الإنسان عن عمله واعتقاده حتى يعتقد ويقول ضده خطأً أو نسيانًا، فذلك مغفورٌ له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»(2)). "الاستقامة" (1/28-29).
(
__________
(1) 210) سبق تخريجه رقم(36).
(2) 211) سبق تخريجه رقم(34).(1/480)
ثم قد يستحلّ بعضهم بعض أنواع الخمر بتأويل، كما استحلّ ذلك أهل الكوفة، كما روي في الحديث: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلّون الخمر يسمُّونها باسم غير اسمها»(1)، فالاستحلال الذي يكون من موارد الاجتهاد، وقد أخطأ المستحلّ في تأويله -مع إيمانه وحسناته- هو مما غفره الله لهذه الأمة من الخطأ في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، كما استحل بعضهم بعض أنواع الربا، واستحل بعضهم نوعًا من الفاحشة وهو إتيان النساء في حشوشهن، واستحل بعضهم بعض أنواع الخمر، واستحل بعضهم استماع المعازف، واستحل بعضهم من دماء بعض بالتأويل ما استحل. فهذه المواضع التي تقع من أهل الإيمان والصلاح تكون سيئات مكفَّرة أو مغفورة أو خطأ مغفورًا، ومع هذا فيجب بيان ما دلّ عليه الكتاب والسنة من الهدى ودين الحق، والأمر بذلك، والنهي عن خلافه بحسب الإمكان). "الاستقامة" (2/188-189).
__________
(1) 212) من حديث أبي أمامة، رواه ابن ماجه كتاب الأشربة باب الخمر يسمونها بغير اسمها ح(3384) بلفظ: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها». وهو في صحيح ابن ماجه ح(2729). وجاء من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، رواه ابن ماجه أيضاً ح(3385) بلفظ:«يشرب ناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه»، وهو في صحيح ابن ماجه ح(3730)، هكذا رواه بلال بن يحيى العبسي عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة به. ورواه شعبة عن أبي بكر عن ابن محيريز عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - به. رواه النسائي كتاب الأشربة باب منزلة الخمر ح(5674). قال الألباني: إسناده صحيح، وهو أصح من الأول. وانظر "الصحيحة" ح(90)، (414).(1/481)
وقد (يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص والإجماع القديم حقيقة ويكون معتقدًا أنه متمسك بالنص والإجماع، وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده؛ فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن). "الفتاوى" (7/405).
وقد (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»(1)، وقال لسعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة»(2)،
__________
(1) 213) سبق تخريجه .
(2) 214) من حديث أبي سعيد الخدري، رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - ح (3804)، وكتاب المغازي باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب (4121)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد ح(1768)، وليس فيه: «من فوق سبعة أرقعة»، وفي رواية للنسائي في الكبرى رقم(8223): «لقد حكم فيهم حكم الله الذي حكم به فوق سبع سماواته».
وأما رواية: «من فوق سبعة رقعة»، فقال الحافظ: إنها مرسلة من مرسل علقمة بن وقاص، انظر "الفتح" (7/ 412)، وانظر مرسل علقمة في سيرة ابن هشام (3/ 190)، قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن علقمة بن وقاص الليثي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»، وتحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة، جاء من حديث عائشة أيضاً، رواه البخاري ح(2122)، ومسلم ح(1769).(1/482)
وكان يقول لمن يرسله في جيش أو سرية: «إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تُنْزِلهم على حكم الله، فلا تُنْزِلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم؛ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك»(1)، وهذه الأحاديث الثلاثة في "الصحيح" وفي حديث سليمان عليه السلام: «وأسألك حكمًا يوافق حكمك»(2).
فهذه النصوص وغيرها تدل على ما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان أن أحد الشخصين قد يخصه الله باجتهاد يحصل له به من العلم ما يعجز عنه غيره فيكون له أجران، وذلك الآخر عاجز له أجر ولا إثم عليه؛ ...وهذا حال جميع الأمة فيما تنازعت فيه من المسائل الخبرية والعملية إذا خص أحدهما بمعرفة الحق في نفس الأمر مع اجتهاد الآخر وعجزه، كلاهما محمود مثاب مؤمن، وذلك خصه الله من الإيمان الذي وجب عليه بما فضله به على هذا؛ وذلك المخطئ لا يستحق ذمًا ولا عقابًا، وإن كان ذاك لو فعل ما فعل ذم وعوقب). "الفتاوى" (7/ 345-346).
(
__________
(1) 215) من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - ، رواه مسلم، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث .
(2) 216) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - مرفوعاً: « أن سليمان بن داود - صلى الله عليه وسلم - لما بنى بيت المقدس سأل الله - عز وجل - ثلاثة: سأل الله - عز وجل - حكماً يصادف حكمه فأوتيه... » الحديث. رواه النسائي، كتاب المساجد، باب فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه ح(692)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس ح(1408)، والحديث في صحيح ابن ماجه ح(1156).(1/483)
"وعبادته" سبحانه طاعة أمره، وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه؛ فالكمال في كمال طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، ومن كان لم يعرف ما أمر الله به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فِعْل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورًا به، أو تعارضت عنده الأدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس الأمر، فهؤلاء مطيعون لله مثابون على ما أحسنوه من القصد لله، واستفرغوه من وسعهم في طاعة الله، وما عجزوا عن علمه فأخطأوه إلى غيره فمغفور لهم، وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة، فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها، وقد أخطؤوا فتبلغ أقوامًا يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب، أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ، وهم أيضًا مجتهدون مخطئون، فيكون هذا مجتهدًا في فعله، وهذا مجتهدًا مخطئًا في إنكاره، والكل مغفور لهم، وقد يكون أحدهما مذنبًا، كما قد يكونان جميعًا مذنبين). "فتاوى" (10/546-547).
(وأما أهل العلم والإيمان: فيجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يردَّ ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقًّا، وما خالفه كان باطلاً، ومَن كان قصده متابعته من المؤمنين، وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وُسعه غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية، أو المسائل العملية، فإنه ليس كل ما كان معلومًا متيقنًا لبعض الناس يجب أن يكون معلومًا متيقنًا لغيره، وليس كل ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمه كل الناس ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيرًا منه، وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده، وإن كان كلامه في نفسه محكمًا مقرونًا بما يبين مراده). "درء التعارض" (1/277).
(والمؤمن الذي لا ريب في إيمانه، قد يخطئ في بعض الأمور العلمية الاعتقادية فيغفر له كما يغفر له ما يخطئ فيه من الأمور العملية). "بغية المرتاد" (311).
((1/484)
فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم؛ فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم يعاقب؛ لكونه حلل الحرام أو حرم الحلال؛ أو حكم بغير ما أنزل الله.
وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل: من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك؛ فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد. وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافًا إلا شيئًا يحكى عن بعض معتزلة بغداد، مثل المريسي وأضرابه: أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه، وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم؛ أو بتمكنه من العلم بالتحريم؛ فإن من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بالإسلام وفعل شيئًا من المحرمات غير عالم بتحريمها لم يأثم ولم يحد، وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي، فمن لم يبلغه الحديث المحرم واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورًا؛ ولهذا كان هذا مأجورًا محمودًا لأجل اجتهاده...
ثم حيث قدر قيام الموجب للوعيد فإن الحكم يتخلف لمانع، وموانع لحوق الوعيد متعددة: منها التوبة، ومنها الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية للسيئات، ومنها بلاء الدنيا ومصائبها، ومنها شفاعة شفيع مطاع، ومنها رحمة أرحم الراحمين. فإذا عدمت هذه الأسباب كلها ولن تعدم إلا في حق من عتا وتمرد، وشرد على الله شراد البعير على أهله فهنالك يلحق الوعيد به؛ وذلك أن حقيقة الوعيد بيان أن هذا العمل سبب في هذه العذاب، فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه، أما أن كل شخص قام به ذلك السبب يجب وقوع ذلك المسبب به فهذا باطل قطعًا؛ لتوقف ذلك المسبب على وجود الشرط وزوال جميع الموانع). "الفتاوى" (20/251-252, 254-255).
((1/485)
فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله: فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد؛ بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله؛ فهذا مغفور له خطؤه). "الفتاوى" (3/317).
فائدة: قال شيخ الإسلام: (وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين، ثم قد يكون مجتهدًا مخطئًا أو مصيبًا، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدًا يعتقد الصواب معه، وقد يكونان جميعًا مخطئين مغفور لهما، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة. ولهذا ينهى عمَّا شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو من بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلامًا بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة). "منهاج السنة" (5/146-147).
تم بحمد الله
فهارس محتويات الكتاب ... الصفحة
مقدمة الشيخ أبي الحسن – حفظه الله – للكتاب.
مقدمة المؤلف.
الباب الأول : مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الصحابة ليس مذهبا حادثا ولا فكرًا بشريا.
شبهة وجوابها.
الباب الثاني : أهل السنة والجماعة هم الذين حفظ الله بهم الدين
الباب الثالث : أهل السنة والجماعة هم المعتنون بالحديث المختصون بالحرص على الأسانيد.
الباب الرابع : أهل السنة والجماعة هم الذين يهتمون بالعلم والعمل.
الباب الخامس : أهل السنة والجماعة هم المهتمون بتربية أنفسهم على فضائل الأخلاق والبعد عن رذائلها.
الباب السادس : أهل السنة والجماعة هم الذين يَرُدُّون ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة.
فصل : في خطورة الإعراض عن التحاكم إلى شريعة الله.(1/486)
الباب السابع : أهل السنة والجماعة هم أهل الحق.
فصل : في وجوب اتباع الحق وبيان أسباب مخالفته.
السبب الأول: اتباع الهوى.
السبب الثاني: التقليد المذموم.
السبب الثالث: الجهل.
فصل : في ثبات أهل السنة على الحق الذي معهم.
فصل : لا يلزم من كون أهل السنة أهل الحق عدم وجود الخطأ والزلة والذنب بل والبدعة في أفرادهم .
فصل : في أن أهل السنة يقبلون الحق من كل من جاء به
فائدة: قوة الإيمان بإرادة الحق والحرص عليه من أعظم أسباب معرفة الحق واتضاحه
إشكال وجوابه: إذا كان الحق لا يخرج عن أهل الحديث، فلم لم يُذكر في أصول الفقه أن إجماعهم حجة؟.
الباب الثامن : أهل السنة والجماعة هل أهل الإتباع التام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فصل: في وجوب اتباع السنة.
فصل: في أن التقليد السائغ لا يتنافى مع الاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم -
فصل: في بيان التقليد الذي يتنافى مع الإتباع التام لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وأنه ضربان.
الأول: الاقتداء بشخص فيما يخالف فيه الشريعة.
الثاني: تقليد واحد من العلماء دون غيره من غير ضرورة.
فائدة: هناك شبهة يوردها بعض متعصبة المقلدة؛ وهي أنهم إذا وجدوا من خالف متبوعهم في مسألة ما لمرجح، قالوا: هل أنت أعلم أم العالم الفلاني؟!.
الباب التاسع : أهل السنة والجماعة هم الذين لا يخرجون عن الإجماع الثابت في المسائل العلمية والعملية.
فصل: في أدلة الإجماع.
فصل: في وجوب اتباع الإجماع وحكم من خرج عنه.
فائدة: متى يُكفَّر مخالف الإجماع؟
فائدة أخرى: إجماع الأئمة الأربعة لا يعد إجماعًا.
الباب العاشر: أهل السنة والجماعة هم الذين يفهمون الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ولا يخرجون عن فهمهم
فصل: في بيان فضل السلف على الخلف.
فصل: في مكانة سنة الخلفاء الراشدين عند أهل السنة
فصل: في الاحتجاج بأقوال الصحابة رضي الله عنهم
فصل: في أن شعار أهل البدع (ترك انتحال اتباع السلف).(1/487)
فصل : في حال من عدل عن مذهب السلف الصالح
الباب الحادي عشر: أهل السنة والجماعة متفقون على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فصل: في أنه لا معصوم من هذه الأمة إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فصل: في أن أقوال الناس تبع للسنة فما وافقها فهو حق وما خالفها فهو باطل.
الباب الثاني عشر: أهل السنة والجماعة لا يعارضون النصوص بما يناقضها من معقول أو قياس أو رأي.
فصل: في واجب المسلم نحو النصوص الشرعية.
فصل: في خطورة معارضة النصوص بآراء الرجال.
فصل: أهل البدع هم الذين يعارضون النصوص بما يناقضها.
الباب الثالث عشر: أهل السنة والجماعة هم أهل العدل والإنصاف.
فصل : أهل السنة لا يتكلمون في مخالفيهم إلا بعلم وعدل.
فصل : أهل السنة والجماعة لا يتعاونون مع الكفار ضد المبتدعة كما يفعله بعض أهل الأهواء .
فصل: ومن العدل الدفاع عن المظلوم وإن كان مبتدعًا أو واقعًا في بدعة مع بعض الأمثلة على ذلك.
1- الدفاع عن ابن كُلاَّب عندما رُمي بما ليس فيه.
2- الدفاع عن القاضي أبي يعلى عندما رمي بما ليس فيه.
3- الدفاع عن الكرامية عندما نُسب إليهم بأنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة
الباب الرابع عشر : أهل السنة والجماعة يعتقدون أن التكفير والتفسيق حق لله تعالى، فلا يكفرون ولا يفسقون إلا من استحق ذلك الوصف، ليس لهم هوى في ذلك.
فصل : في ضلال من كفَّر مخالفه من غير مراعاة للضوابط الشرعية أو ابتدع بدعة وكفر مخالفه فيها.
شيخ الإسلام يحكي منهجه العملي في التعامل مع مخالفيه والمعتدين عليه.
فصل: من قواعد أهل السنة والجماعة في هذا الباب أنه ليس كل من يترك كلامه لخطأ أخطأه يُكَفَّر أو يُفَسَّق أو يُأَثَّم.
الباب الخامس عشر: أهل السنة والجماعة متفقون أن التكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين ،وأن التفسيق المطلق لا يلزم منه تفسيق.(1/488)
فصل : في أن من موانع التكفير و التفسيق التأوُّل والجهل والاجتهاد.
الباب السادس عشر: أهل السنة والجماعة لا يجزمون لمعين من أهل القبلة بجنة أو نار إلا من جزم له الشارع بذلك.
الباب السابع عشر: أهل السنة والجماعة متفقون أن باب التوبة لكل مخالف لشرع الله .
فصل: في معنى ما جاء أن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة.
الباب الثامن عشر: أهل السنة والجماعة لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة.
الباب التاسع عشر: أهل السنة والجماعة متفقون على وجوب التحذير من أهل البدع والمظهرين للفجور.
فصلٌ: في معنى البدعة.
فصل ٌ: في بيان خطر البدعة والداعي إليها.
فصل: في معرفة المبتدع.
فصل: في أن التحذير من أئمة أهل البدع والمظهرين للفجور ليس من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجب.
فصلٌ: في ضلال من أطلق السكوت عن البدع وأهلها أو أقرهم على مذاهبهم المخالفة للسنة.
فائدة: الشهادة على شخص معين بالمعصية والبدعة يكفي فيها الاستفاضة والشهرة.
قاعدة مهمة خالف فيها الغلاة وهي : ( لا يلزم من الوقوع في البدعة أن يكون صاحبها مبتدعا )
فصل: في صفات يشترط توفرها في من يتصدى للتحذير من دعاة أهل البدع المظهرين للفجور.
منها: الإخلاص.
ومنها: العلم قبل التحذير، والرفق مع التحذير، والصبر على الأذى.
ومنها: العدل.
ومنها: التنزه عن الشتم والتهويل، والاستغناء عن ذلك بالدليل.
الباب العشرون : أهل السنة والجماعة هم القائمون بهجران أهل البدع والفجور مع مراعاة الضوابط الشرعية والقواعد السلفية في ذلك
فصل: في ضوابط الهجر.
الضابط الأول : التفريق بين المظهر للفجور أو الداعي إلى البدعة والمستتر والساكت.
الضابط الثاني: المسائل العلمية والعملية التي تنازع فيها أهل السنة لا هجر فيها
الضابط الثالث: الهجر عقوبة شرعية لا مجال للهوى فيه، فليس للإنسان أن يهجر من شاء، ويوالي من شاء، بغير هدى من الله.
الضابط الرابع
الضابط الخامس(1/489)
الضابط السادس: المقصود من الهجر الإحسان والرحمة بالمهجور لا التشفي الانتقام.
الضابط السادس : الهجر عند المصلحة الراجحة لا يلزم منه الحكم على المهجور بالبدعة أو الفسوق.
الضابط السابع: الهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث.
فصل: في مراعاة المصلحة والمفسدة في الهجر.
فصل: في كيفية هجر الدعاة إلى البدعة والمظهرين للفجور إذا توفرت الضوابط الشرعية .
1- عدم مجالستهم، ومناكحتهم، ومخاطبتهم ومن ذلك رد شهادتهم وروايتهم وعدم أخذ العلم عنهم، وتوليتهم الولايات العامة.
2- حرمانهم من مال الزكاة ونحوه إن كانوا يتقوون به على بدعتهم أو كان ذلك يردعهم عنها .
3- ترك عيادتهم وتشييع جنائزهم والصلاة عليهم.
4- عدم الصلاة خلفهم. مع ذكر بعض الضوابط المهمة في ذلك.
فائدة: هل يُمتحن المهجور - قبل أن يجالس - إذا تاب.
الباب الحادي والعشرون : أهل السنة والجماعة هم القائمون بالولاء والبراء من غير إفراط أو تفريط.
فصل: في أن الولاء والبراء مضبوطان بالشرع.
فصل: في صور مخالفة للشريعة من الولاء والبراء .
1- تعليق المولاة والمعاداة بغير الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة والتي أجمعت الأمة عليها .
2- ومن صور الولاء والبراء غير الشرعي، تعليق الولاء والبراء بمقالة مخالفة للكتاب والسنة وما كان عليه السلف أو شخص متبوع أو مطاع غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الباب الثاني والعشرون : أهل السنة والجماعة هم الناجون من التفرق والتحزب المذموم.
فصل: في الأمر بالاجتماع على الحق وتحريم الافتراق فيه.
فصل: في أسباب الافتراق.
السبب الأول: البغي بتكذيب الحق وتصديق الباطل.
السبب الثاني: التعصب للمذاهب والأشخاص.
السبب الثالث: الهوى في الحب والبغض.
السبب الرابع : امتحان الناس بما لم يؤمر به في الشرع.
السبب الخامس: التفضيل بين المشايخ المتبوعين بالظن والهوى.
السبب السادس : السكوت عن إنكار المنكر أو الغلو في الإنكار.(1/490)
السبب السابع : الولاء والبراء بسبب مسائل يسوغ فيها النزاع، وقد تنازع السلف في مثلها أو أكبر منها.
فصل: في أسباب النجاة من الافتراق.
الباب الثالث والعشرون : أهل السنة والجماعة لا يغفلون عن مراعاة المصالح والمفاسد
فصل: في أن كل ما أمر الله به فمصلحته محضة أو غالبة، وكل ما نهى الله عنه، فمفسدته محضة أو غالبة.
فصل: في موقف الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد.
فصل: في أن أول من أنكر النظر في المصالح والمفاسد ذو الخويصرة رأس الخوارج.
فصل : في تطبيقات لشيخ الإسلام ابن تيمية في مراعاة المصالح والمفاسد.
1 - مراعاة المصالح والمفاسد في باب الولاية والغزو والهجر.
2- مراعاة المصالح والمفاسد باحتمال أذى الكفار والمنافقين في حال الاستضعاف، أو خشية حصول مفسدة أعظم عند إقامة الحد عليهم.
3 - مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 - مراعاة المصالح والمفاسد عند تعارض المأمور والمحظور وتزاحم العبادات.
5 - مراعاة المصالح والمفاسد عند تزاحم الفاضل و المفضول.
6 - مراعاة المصالح والمفاسد في تعلم العلم إذا صاحبته مفسدة.
الباب الرابع والعشرون : أهل السنة والجماعة لا يقاتلون في فتنة.
الباب الخامس والعشرون: أهل السنة والجماعة لا يخرجون على السلطان المسلم.
فصل: في أهمية الإمارة.
فصل: أهل السنة و الجماعة لا يجيزون معصية ولاة الأمور إذا أمروا بالمعروف.
فصل: أهل السنة والجماعة لا يطيعون ولاة الأمور في معصية الله.
فصل: من أصول أهل السنة والجماعة، الصبر على ظلم الأئمة وجورهم وعدم الخروج عليهم.
فصل : في مفاسد الخروج على السلطان المسلم.
الباب السادس والعشرون : أهل السنة والجماعة لا يعطون الطاعة المتعلقة بالإمام لمعدوم أو غير قادر على أحكام الولاية.
الباب السابع والعشرون : أهل السنة والجماعة هم الذين نصر الله بهم الدين بقتال المرتدين والطوائف الممتنعة عن الشرائع المتواترة.(1/491)
فصل : في فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله.
فصل: في قتال الطوائف الممتنعة عن الشرائع المتواترة.
فصل:في قتال الخوارج والروافض ونحوهم من الطوائف المبتدعة الممتنعة.
فصل: في قتل الدعاة إلى البدع المغلظة.
فصل: في قتال قطاع الطرق إذا امتنعوا على السلطان.
فصل: في أن قتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة يكون مع أئمة العدل والجور .
فصل: في أن قتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة ليس من قتال الفتنة.
فصل: في أن قتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة ليس من باب قتال البغاة.
فصل: في أن الشارع إنما أمر بقتال الخوارج ونحوهم من الطوائف الممتنعة دون أئمة الجور.
الباب الثامن والعشرون : أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد.
فصل: في المراد بمسائل الاجتهاد السائغ.
فصل: في أنه لا إلزام في مسائل الاجتهاد عند أهل السنة والجماعة.
الباب التاسع والعشرون : أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه لا تفسيق ولا تأثيم بالخطأ في مسائل الاجتهاد والمسائل التي تنازع فيها السلف لمن بذل وسعه في معرفة الحق.
فصل: في أن الله لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه.
فصل : لا تفسيق ولا تأثيم بالخطأ في مسائل النزاع – بين السلف- والاجتهاد لمن بذل وسعه في معرفة الحق
فصلٌ : مسائل النِّزاع بين سلف الأمة لا يهجر ولا يعاقب فيها المخالف ولا تكون هذه المسائل سببًا للفرقة والولاء والبراء من أجلها.
فصل ٌ: في أن الإنكار يكون في مسائل الخلاف لا مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها ولا إجماع.
فصل ٌ: في أن الإنكار في مسائل الخلاف لا يكون إلا ببيان المحجة وإيضاح الحجة لا بمحض التقليد.
فصلٌ: هل كل مجتهد مصيب.
الباب الثلاثون : موقف أهل الحق من العالم المعروف بالسنة إذا زل أو أخطأ وحال أهل الأهواء في ذلك.
فصل: في إعذار العالم المعروف بالخير والسنة إذا وقع في زلة أو خطأ باجتهاد(1/492)
فصلٌ: في بيان حال أهل الإفراط والتفريط مع العالم المعروف بالخير والسنة إذا وقع في زلة أو خطأ.
فصل : في ضلال من انحرف عن منهج السلف في التعامل مع العالم إذا زل.
فصل: في الموقف من كلام العالم المتحمل للحق والباطل.
مسألة: هل هناك فرق بين زلة العالم في الأمور الجلية والأمور الخفية؟
فصلٌ: في تحريم اتباع العلماء في زلاتهم.
فصلٌ: في أن أهل السنة لا يُعصِّمُون إلا من ثبتت له العصمة، ولا يُؤَثِّمُون المجتهد المخطئ، ولا تلازم عندهم بين الخطأ والإثم.
الفهارس(1/493)