تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من الرسالة التدمرية
…
جمع وتعليق
عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف
عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
……
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
تعريف الرسالة التدمرية وأهميتها
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سمّى المؤلف ابن تيمية – رحمه الله – هذه الرسالة بجواب المسائل التدمرية ، وقال : "إنها تلقّب بـ "تحقيق الإثبات للأسماء والصفات ، وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع . (1) "
وكذا حكاها ابن عبدالهادي (2) وابن رشيّق. (3)
وأما موضوع الرسالة فهو ظاهر من عنوانها ، فهي تتحدث عن أصلين كبيرين ، أحدهما : الأسماء والصفات ، والآخر : الشرع والقدر .
فأما الأسماء والصفات فضمّنه المؤلف أصلين ، هما : القول في بعض الصفات كالقول في بعض ، والأصل الآخر: القول في الصفات كالقول في الذات .
ثم أورد مثاليّ الجنة والروح ، ثم ساق سبع قواعد في باب الأسماء والصفات .
وأما الأصل الثاني – الشرع والقدر – فقد قرر مسائل مهمة في هذا الشأن ، كالجمع بين الشرع والقدر، ومعنى الإسلام العام والخاص ، ومفهوم توحيد العبادة ، والواجب تجاه الأسباب.. إلخ .
والرسالة التدمرية مهمة لجملة أمور منها :
__________
(1) . انظر : مجموع الفتاوى 16/430
(2) . انظر : العقود الدرية صـ 49 ، أو الانتصار – تحقيق محمد الجليند – صـ 101 .
(3) . انظر: أسماء مؤلفات ابن تيمية (ضمن الجامع لسيرة ابن تيمية ) صـ 234 .(1/1)
- أن هذه الرسالة على اختصارها – جامعة لأصول مهمة ، وقواعد نافعة في باب الأسماء والصفات ، والشرع والقدر ، فقد حوت التدمرية خلاصة ما حرّره المؤلف في كتبه الكثيرة والمطوّلة . (1)
إن في "التدمرية " أصولاً عظيمة ، وقواعد جليلة ، كقول المؤلف : القول في بعض الصفات كالقول في بعض : وكقاعدة : إنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه ، ومعنى توحيد العبادة والرد على المخالفين، والواجب تجاه الأسباب .. وغير ذلك ..
- أن "التدمرية" تعالج دائين خطيرين ، قد استفحلا في كثير من الفرق والطوائف، وهما : داء التعطيل ، وداء الشرك .
فشملتْ التدمرية أهم المسائل التي كثر فيها النزاع والاضطراب ، وهما مسألة الصفات ، ومسألة القدر ، فإثبات الصفات يضاده التعطيل، والإقرار بالقدر يقابله الإنكار، وقد كان إنكار القدر أول شرك وقع في الإسلام. (2)
وكما قال المؤلف : "إن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم . (3) "
- استوعب التدمرية الردّ على أرباب المسالك المنحرفة في الاعتقاد، وهم الفلاسفة أهل التخييل ، والمتكلمون أهل التأويل الفاسد ، والمفوضة أهل التجهيل – كما مبسوط في ثنايا الرسالة - .
كما أنها عالجتْ شكوك أهل النظر والكلام ، وشطحات أهل الإرادة والتصوف .
ففي التدمرية جملة من الخصائص والقواعد في الاعتقاد والسلوك ، مثل موقف أهل السنة من الألفاظ المجملة ، سواءً في الاعتقاد – كالجهة والحيّز ونحوهما – أو السلوك – مثل "الفناء"، ووسطية أهل السنة في مسألة الروح ،و وسطيتهم في شأن الأسباب .. ونحو ذلك ..
__________
(1) . انظر : تقريب التدمرية للشيخ ابن عثيمين صـ 10 ، ومقدمة الدكتور عبدالرحمن المحمود للتحفة المهدية صـ 5 ، ومقدمة الدكتور سليمان الغصن لشرح التدمرية صـ 5 .
(2) . انظر: شرح العقيدة الطحاوية 1/ 322 .
(3) . انظر : فصل في صفات المنافقين (المجموعة العلية ) 2/128(1/2)
- تميّزت الرسالة بحسن التبويب ، وجودة الترتيب ، كما جمعتْ الرسالة بين العرض والبيان للمعتقد الصحيح ، وبين الردّ والنقض للمعتقد الفاسد .
ونظراً لأهمية هذه الرسالة من جهة ، وتعسر وإشكال في جملة من مواطنها وعباراتها من جهة أخرى ، فقد أعددتُ هذا الكتاب بعنوان : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من الرسالة التدمرية جمع وتعليق. "
فابن تيمية – رحمه الله – هو أقدر الناس على بيان الرسالة التدمرية وتوضيحها ، لاسيما وأن ما قرره المؤلف في "التدمرية " من أصول وقواعد ومسائل ، قد جاء ما يبيّنه ويشرحه في مصنفاته الأخرى .
فهذا الكتاب يورد التقريرات والتعليقات من كلام ابن تيمية ، والتي توضح المشكلات وتزيل المشتبهات من التدمرية ، كما يُعرِّف بالمصطلحات الواردة في الرسالة ، فقد ساق المؤلف جملة من المصطلحات دون تعريف ، وجاء ما يعرّفها ويبيّنها في بقية مصنفاته ، كما يحوي هذا الكتاب على تقريرات وتحريرات – من سائر كتبه – تزيد كلام المؤلف بياناً ، وتضيف أوجهاً وأجوبة أخرى ، إضافة إلى تعليقات تعزو المقالات إلى أصحابها ، فإن المؤلف ساق مقالات دون عزو ، لكنه عزاها في مصنفاته الأخرى .
وأما مسلك البحث ، فعلى النحو الآتي :
- أسوق عبارة المؤلف التي تحتاج إلى بيان من خلال الرسالة التدمرية بتحقيق د. محمد السعوي ، فهي أدق الطبعات وأصحها .
- أسوق من تقريرات وأقوال ابن تيمية ما يكون أوفى تقريراً ، وأتمّ بياناً لتلك العبارات المشكلة من التدمرية ، وأما سائر التقريرات فاكتفي بالإحالة في الهامش .
- ما كان واضحاً بيّناً من مسائل الكتاب ، وجاءً مقرراً في سائر كتبه الأخرى ، فأكتفي بالإحالات في الهوامش .
- أعلّق – أحياناً – على ما قد يحتاج إلى توضيح وبيان .
وأسأل الله تعالى أن يبارك في هذا لجهد ، وأن يلهمنا رشدنا، ويرحم ضعفنا ، وأن يرزقنا حسن القصد واتباع الحق ، وبالله التوفيق ...(1/3)
التمهيد : الشروح والتعليقات على الرسالة التدمرية
اعتنى جمع من العلماء والباحثين المعاصرين بالرسالة التدمرية ، تحقيقاً وتعليقاً ، وشرحاً ، وتقريباً (1)، ومن أوائل الشروح : "التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية " لمؤلفها فضيلة الشيخ فالح بن مهدي آل مهدي (2) - رحمه الله – ألّفه لما أسند إليه تدريس مادة التوحيد في كلية الشريعة – بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض – سنة 1381هـ ، وطبع في جزئين سنة 1386هـ ، ثم طبع بتصحيح وتعليق د. عبدالرحمن بن صالح المحمود سنة 1404هـ .
وقام فضيلة الدكتور محمد بن عودة السعوي بتحقيق الرسالة التدمرية على عدة نسخ خطية ، لنيل درجة الماجستير سنة 1399، وطبع الكتاب لأول مرة سنة 1405هـ .
ثم ألّف العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – "تقريب التدمرية " ، فاختصرها ، وقرّب معانيها، وطبع هذا الكتاب لأول مرة سنة 1412هـ، وأعدّ الباحث بلال بن حبشي الجزائري كتاباً بعنوان: "الأجوبة المرضية لتقريب التدمرية " واعتنى بتخريج الأحاديث والآثار ، وقرّب الكتاب من خلال أسئلة وأجوبة على التدمرية ، وطبع هذا الكتاب أولاً سنة 1417هـ .
ثم شرحها الباحث فخر الدين بن الزبير المحسي في كتابه " التوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية" وطبع سنة 1420هـ .
وشرح فضيلة الدكتور محمد بن عبدالرحمن الخميّس الرسالة التدمرية في كتاب مطبوع سنة 1425هـ.
__________
(1) . انظر : الدليل إلى المتون العلمية لعبدالعزيز القاسم صـ 214 – 218 .
(2) . ولد الشيخ فالح في الأفلاج بنجد سنة 1352هـ ، ورحل إلى الرياض طلباً للعم ، والتحق بكلية الشريعة ، ثم صار مدرساً بمعهد الرياض العلمي ، ثم درّس في كلية الشريعة ، وتوفي بمدينة الرياض سنة 1392هـ .
انظر : مشاهير علماء نجد لعبدالرحمن آل الشيخ صـ 428 ، وعلماء نجد للبسام 5/370 .(1/4)
ثم ظهر شرح شيخنا العلامة عبدالرحمن بن ناصر البراك على الرسالة التدمرية ، سنة 1425هـ ، حيث قام فضيلة الدكتور سليمان بن صالح الغصن بإعداد هذا الشرح .
وسيكون الحديث عن أول هذه الشروح وآخرها ، فهما أفضل الشروح وأهمها .
أما التحفة المهدية ، فمع أنها أول الشروح ، وشرحها المؤلف وهو في ريعان شبابه ، وعلى طبعة تحوي سقطاً وخطأً .. مع ذلك فإن هذه "التحفة" تعدّ من أفضل الشروح ، لعدة أمور منها :
- إحكام المؤلف واستيعابه الرسالة التدمرية ، وقدرته على تقريب معانيها وإيضاحها بالأدلة والأمثلة والشواهد (1) .
تعويله على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه للتدمرية (2) وقد لا يعزو إليها ، طلباً للاختصار ، أو تحقيقاً لترابط الكلام – كما صرّح المؤلف بذلك . (3)
- سعة اطلاع المؤلف (4) ، ودرايته بالمقالات والفرق (5) ، وعنايته بتعريف المصطلحات. (6)
- حسن تحقيقه ودقة فهمه ، فما كان خطأ في النسخة التي اعتمدها ، فإن الشيخ فالحاً يستظهر الصواب ، وبما يتفق مع النسخ الصحيحة . (7)
__________
(1) . انظر : التحفة المهدية صـ 44 ، صـ 110 ، صـ 133 .
(2) . انظر : التحفة المهدية صـ 50 ، صـ 60 ، صـ 112 ، صـ 170 ، صـ 173 ، صـ 181 ، صـ 216 ، صـ 252 ، صـ 260 ، صـ 269 ، صـ 276، صـ 280، صـ 282 ، صـ 286 ، صـ 296 ، صـ 300 ، صـ 355، صـ 375 ، صـ 397 ، صـ 401 ، صـ 413 ، صـ 417
(3) . انظر: التحفة المهدية" : صـ 296 .
(4) . انظر: التحفة المهدية" : صـ 74 ، صـ 136 ، صـ 237 ، صـ 284 ، صـ 405 ، صـ 457 .
(5) . انظر: التحفة المهدية" : صـ 46 ، صـ 99 ، صـ 282 ، صـ 373 ، صـ 395 .
(6) . انظر: التحفة المهدية" : صـ 32 ، صـ 418 .
(7) . انظر: التحفة المهدية" : صـ 57 ، صـ 180 ، صـ 227 .(1/5)
وقد علّق فضيلة الدكتور عبدالرحمن المحمود على هذا الشرح تعليقات مهمة ، تضمنت تعقيبات واستدراكات على مسائل علمية معتددة (1) ، وإن كان قد فاته القليل منها (2)
__________
(1) . انظر: التحفة المهدية" : صـ 32 ، 41 ، صـ 55 ، صـ 87 ، صـ 94 ، صـ 161 ، صـ 235 ، صـ 372 ، صـ 408 .
(2) . ومما يمكن استدراكه على الشارح – رحمه الله – ما يلي :
أ ) لما قال المؤلف : "ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا ، فيقول ليس استواؤه بقعود ولا استقرار "، ساق الشارح عند تلك العبارة تأويل النفاة الاستواء بالاستيلاء ، وبيّن فساد ذلك ، مع أن عبارة المؤلف لا تشير إلى ذلك المعنى الذي ظنه الشارح .
انظر: التحفة المهدية صـ 203 .
ب) نسب الشارح عبارة " الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة " لأبي عبيدة معمر بن المثنى ، بناء على النسخة التي اعتمدها ، والصواب أنه أبو عبيد القاسم بن سلاّم ، كما هو مثبت في النسخ المحققة ، وكما جاء في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية (مجموع الفتاوى ) 17/369 .
انظر: التحفة المهدية : صـ 227 ، 231 .
جـ ) لما قال المؤلف "فإن قال العمدة في الفرق هو السمع .." ظن الشارح أن القائل هاهنا هو المثبت للأسماء والصفات ، والنافي لصفات النقص ، وليس الأمر كذلك فالمراد به صاحب المسلك الفاسد في الإثبات ( مطلق الإثبات من غير تشبيه ).
انظر : التحفة المهدية صـ 309 ، وشرح الرسالة التدمرية للشيخ عبدالرحمن البراك صـ 379 .
د ) نقل الشارح طرفاً مما أورده الشهرستاني في "الملل والنحل " بشأن مناظرة إبليس للملائكة عليهم السلام ، لكن بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه المناظرة لا تصح ، فليس لها إسناد أصلاً ، وليست معلومة عند أهل الكتاب ، والأشبه أنها من وضع المكذبين بالقدر ، من أجل أن يقرروا أن حجة الله على خلقه لا تتحقق إلا بنفي القدر .
انظر : التحفة المهدية صـ 395 ، ومنهاج السنة النبوية 6/307 ، ومجموع الفتاوى 8/115 .(1/6)
، كما صوّب الأخطاء الواقعة في نسخة الكتاب (1) ، وعلّق على القاعدة السابعة التي لم يشرحها المؤلف (2) ، إضافةً إلى ترتيبه بعض الأجوبة والردود (3) ، وعزوه بعض النقول إلى كتب ابن تيمية. (4)
وأما آخر الشروخ – صدوراً – وهو أتمها وأهمها ، فهو شرح الرسالة التدمرية لشيخنا العلامة عبدالرحمن بن ناصر البراك – حفظه الله – حيث قام فضيلة الدكتور سليمان الغصن بإخراج ونشر هذا الشرح ، حيث تمّ تفريغ الأشرطة المسجلة بصوت الشيخ وتنقيحها ، وجَمْع ما كتبه تلاميذ الشيخ من شرحه ، ثم قراءة ذلك على الشيخ وإقراره . (5)
وقد تميّز هذا الشرح بأمور منها :
- استوعب الشارحُ التدمرية ، واستظهرها ، وأحكم بيانها وشرحها بعبارات واضحة ، ومعان قريبة ، وسلاسة أسلوب . (6)
- تميّز الشارح بدقة العبارة (7) ، وحدّة الفهم وسلامته (8)
__________
(1) . انظر: التحفة المهدية صـ 53 ، صـ 84 ، صـ 62 ، صـ 71 ، صـ 72 ، صـ 88 ، صـ 95 ، صـ 155 ، صـ 184 .
(2) . انظر : التحفة المهدية صـ 321 ، 322 .
(3) . انظر : التحفة المهدية صـ 85 ، 95 ، 104 ، 105 .
(4) . انظر : التحفة المهدية صـ 296 ، 397 ، 300 .
(5) . انظر : مقدمة شرح الرسالة التدمرية للدكتور سليمان الفض صـ 6 .
(6) . انظر : شرح الرسالة التدمرية صـ 89 ، صـ 314 ، صـ 318 ، صـ 332 ، صـ 341 .
(7) . انظر : شرح الرسالة التدمرية صـ 239 ، صـ 260 ، صـ 291 .
(8) . ومن ذلك قوله في حديث " أما علمت أن عبدي فلاناً مرض .." "الأظهر أن العبودية هنا هي العبودية الخاصة " صـ 219 ، ويؤيده قول ابن تيمية – في هذا الحديث : "فإن المريض الذي تستحب عيادته ، ويجد الله عنده، هو المؤمن بربّه " الرد الأقوم (مجموع الفتاوى) 2/392 .
وكذا قوله : "وظاهر كلام المؤلف أن أول قوليّ القاضي أبي يعلي العلو صفة خبرية ، وأن قوله الآخر جعله صفة عقلية " صـ 346 ، وقد صرّح المؤلف بذلك حيث قال : "ومن أثبت العلو بالعقل ، وجعله من الصفات العقلية .. كالقاضي أبي يعلى في آخر قوليه .." تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17 / 360 .(1/7)
، كما عني بترتيب الأجوبة والوجوه (1) ، وتحرير مسائل في النحو والأعراب (2) عند الحاجة إلى ذلك ..
- حرر الشارح مسائل مهمة (3)، كما حوى الشرح على لطائف علمية متنوعة .
فجزى الله شيخنا العلامة عبدالرحمن البراك كل خير ، وأحسن الله إليه في الدارين ..
الفصل الأول : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من مقدمة التدمرية
1 – جاء في مطلع الكتاب جملة من الألقاب التي ساقها الناسخ في حق أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية (4) – رحمه الله –
__________
(1) . انظر : شرح الرسالة التدمرية صـ 224 ، صـ 347 .
(2) . انظر : شرح الرسالة التدمرية صـ 65 ، صـ 69 ، صـ 77 ، صـ 254 ، صـ 258 ، صـ 477 .
(3) . انظر : أ ) تقريره لتقسيم التوحيد صـ 46 ، 47 .
ب) قوله : "لا يصح ما يقوله بعض المفسرين من أن المكر والكيد إلى الله على سبيل المشاكلة اللفظية والمجانسة .. فالمكر من الله تعالى حقيقة " صـ 111 .
جـ ) منعه من إطلاق عاقل على الله تعالى ، وتوجيه ذلك صـ 141 .
د ) تعقيبه على تعريف الروح عند ابن القيم صـ 177 .
هـ ) تقريره معنى الصفات الفعلية .. وأنها قديمة النوع حادثة الآحاد صـ 342 .
و – تفريقه بين الأشاعرة و بين غلاة الصوفية في مسألة الشرع والقدر صـ 513 .
(4) . هو أبو العباس أحمد بن عبدالحيم بن عبدالسلام ، ابن تيمية النميري الحراني ، الإمام الفقيه ، المجتهد ، المحدث ، الحافظ ، المفسّر ، الأصولي ، الزاهد ، شيخ الإسلام ، علم الأعلام ، أفتى ودرّس وهو دون العشرين ، وله مئات التصانيف ، توفي سنة 728هـ .
انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/387 ، والعقود الدرية لابن عبدالهادي ، والجامع لسيرة ابن تيمية .(1/8)
وللمؤلف فتوى في الألقاب (1) ، وخلاصتها أن عادة السلف - في القرون الثلاثة المفضلة – الأسماء والكنى ، ولما غلبت دولة بني بويه أظهروا تلك الألقاب مثل ركن الدولة، وعضد الدولة ونحوها ، ثم أحدثوا الإضافة إلى الدين مثل ركن الدين ، وعضد الدين .. (2)
ثم قال : " ولا ريب أن ما يصلح مع الإمكان هو ما كان السلف يعتادونه من المخاطبات والكتابات، فمن أمكنه ذلك فلا يعدل عنه ، وإن اضطر إلى المخاطبة خوفاً من تولد شر إذا عدل عنها، فيقتصر على مقدار الحاجة .
ولا ريب أن هذه المحدثات المنكرة التي أحدثها الأعاجم ، وصاروا يزيدون فيها فيقولون عزّ الملة والدين ، وما أكثر ما يدخل في ذلك من الكذب المبين بحيث يكون المنعوت بذلك أحق بضدّ ذلك الوصف ، والذين يقصدون هذه الأمور فخراً وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم ، فيذلهم الله ويسلّط عليهم عدوهم . (3) "
2 – افتتح المؤلف الرسالة بخطبة الحاجة ، وبيّن شيئاً من معانيها – في غير موضع – فذكر وجه كون هذه العبارة: " نحمده ونستعينه ونستغفره " من جوامع الكلم ، فقال: " إن العبد بين أمرين ، أمر يفعله الله به ، فهي نعم الله التي تنزل عليه فتحتاج إلى شكر ، وأمر يفعله هو ، إما خير وإما شرّ، فالخير يفتقر إلى معونة الله له ، فيحتاج إلى الاستعانة ، والشر يفتقر إلى الاستغفار ليمحو أثره. (4)"
كما بيّن معنى مقالة: " ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا" .
__________
(1) . طبعت بتحقيق : صلاح الدين المنجد .
(2) . انظر : فتوى في القيام والألقاب ، صـ 13 .
(3) . المرجع السابق ، صـ 13، 14 = باختصار .
(4) . مجموع الفتاوى 18/285 ، وانظر : مسألة في شرح دعاء أبي بكر (جامع المسائل ) 4/ 48 .(1/9)
وأن شر النفس هو الأعمال السيئة ، وأن سيئات الأعمال هي عقوبات الأعمال ، فهو يستعيذ من نوعيّ السيئات: الأعمال السيئات وعقوباتها ؛ لأن السيئات يراد بها النقم والعقوبات، ويراد بها المعاصي والذنوب . (1)
3 – أما قوله :- "فالكلام باب التوحيد في الصفات هو من باب الخبر ، والدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة ، والدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض. (2)"
فقد جاء ما يقرر ذلك - في غير موطن - فقال :- "وأما الدين فجماعه شيئان : تصديق الخبر وطاعة الأمر. (3) "
وقال أيضاً : "وإذا كان الحبّ أصل كل عمل من حق وباطل ، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها، وأصل الأعمال الدينية حبّ الله ورسوله ، كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله. (4) "
فما كان خبراً ، ففائدته التصديق والاعتقاد ، وما كان طلباً ففائدته الاستجابة والقبول. (5)
يشير المؤلف – رحمه الله – إلى أن توحيد الصفات من باب الخبر ، فيطلق عليه التوحيد العلمي الخبري، وأما توحيد العبادة (الشرع) فهو من باب الطلب، لذا يقال عنه : التوحيد الإرادي الطلبي.
4 – قوله: "والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول ، كما دلت على ذلك سورة { قل هو الله أحد } ، ودلّت على الآخر سورة { قل يا أيها الكافرون } (6)" بسط المؤلف هذا المعنى في غير موضع ، كقوله:-
__________
(1) . انظر : مجموع الفتاوى 14/27 ، 18/290 .
(2) . التدمرية صـ 3 .
(3) . قاعدة في المحبة (ضمن جامع الرسائل ) 2/ 341 .
(4) . المرجع السابق ، 2/ 235 .
(5) . انظر : مجموع الفتاوى 19/132 ، 28/194 .
(6) . التدمرية صـ 5 .(1/10)
"وسورة "قل هو الله أحد" فيها التوحيد القولي العلمي الذي تدل عليه الأسماء والصفات ، ولهذا قال تعالى : { قل هو الله أحد الله الصمد } وسورة "قل يا أيها الكافرون " فيها التوحيد القصدي العملي ، كما قال تعالى { قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون } وبهذا يتميّز من يعبد الله ممن يعبد غيره ، ويتميّز عباد الله المخلصين الذين لم يعبدوا إلا إياه ، ممن عبن غيره وأشرك به " ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : "إنها براءة من الشرك . (1) (2) "
وقرر أن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الصفات (3) ، كما أشار إلى التلازم بين هذين التوحدين ، حيث قرر أن اسمه – تعالى – "الصمد" يستلزم قصده ودعائه وعدم الإشراك به. (4)
وقال أيضاً : " فمن لم يثبت لله الصفات لم يحقق عبادته له ، فلهذا وغيره كان الشرك بعبادة غير الله واقعاً في نفاة الصفات. (5) "
5 – قوله: "وقد عُلم أن طريقة السلف وأئمتها ، إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ، ومن غير تحريف ولا تعطيل. (6) "
بيّن المؤلف – في حكاية مناظرة الواسطية – وجه نفيه التحريف والتكييف والتمثيل ، بأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه ، فنفى المؤلف ما ذمّه الله من التحريف ، وكذا التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال سبحانه:- { ليس كمثله شيء } (الشورى ، آية 6). (7)
__________
(1) . أخرجه أحمد في المسند 5/456 ، والدارمي 2/459 ، وأبو داود ح (5055) وصححه الألباني في الجامع الصغير 1/376 ح ( 1172) .
(2) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/852 = باختصار .
(3) . انظر : الصفدية 2/ 228 ، 229 ، والدرء 7/391 .
(4) . انظر : نقض التأسيس 2/ 450
(5) . شرح الأصبهانية 1/98
(6) . التدمرية صـ 7
(7) . انظر : حكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى ) 3/165 ، ومجموع الفتاوى 3/195(1/11)
وقال – رحمه الله - : "قولي : من غير تكييف ولا تمثيل ، ينفي كل باطل ، وإنما اخترت هذين الاسمين ؛ لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة ، ومالك ، وابن عيينة ، وغيرهم المقالة – التي تلقاها العلماء بالقبول – :- الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا ، فنفيتُ ذلك اتباعاً لسلف الأمة.
وهو أيضاً منفي بالنص؛ فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف ، وحقيقة صفاته غير معلومة ..
وكذلك التمثيل منفي بالنص ، والإجماع القديم مع دلالة العقل على نفيه ، ونفي التكييف ؛ إذ كنه الباري غير معلوم للبشر . (1) "
والمقصود أن المؤلف – رحمه الله – لم ينف إلا ما دلّ الدليل على نفيه .
وعرّف المؤلف – التحريف – في تلك المناظرة فقال:-
" هو إزالة اللفظ عما دلّ عليه من المعنى ، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً } أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً ، ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم . (2) "
6 – قوله المؤلف: - "والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصّل ، ونفي مجمل . (3) "
قرر المؤلف هذه المسألة في عدة مواطن ، وبيّن أن المعطلة على النقيض من ذلك ، فأخبروا عن الله تعالى بإثبات مجمل ونفي مفصل. (4) "
__________
(1) . مجموع الفتاوى 3/195 ، 196 ، وانظر حكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى) 3/167
(2) . حكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى) 3/165 .
(3) . التدمرية صـ 8 .
(4) . انظر: الدرء 5/163 ، ومجموع الفتاوى 6/37 ، 66(1/12)
وقال – رحمه الله :- : "وطريقة الرسل – صلوات الله عليهم – إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل ، وتنزيهه بالقول المطلق عن التمثيل ، فطريقتهم إثبات مفصّل ونفي مجمل ، وأما الملاحدة من المتفلسفة والقرامطة والجهمية ونحوهم فبالعكس ، نفي مفصل ، وإثبات مجمل. (1) "
7 – قوله : "ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً . (2) "
وقوله: "وقد علم بالاضطرار. (3) "
وقوله : " وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم ، فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفة الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق . (4) "
في هذه العبارات جملة من المصطلحات التي تحتاج إلى بيان ، ولقد بيّن المؤلف معانيها في مواطن متعددة .
فكان مما قاله: "إن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقاً ، بل لا يوجد إلا معيّناً .. فالمطلق بشرط الإطلاق مثل الإنسان المسلوب عنه جميع القيود الذي ليس هو واحداً ولا كثيراً ، ولا موجوداً ولا معدوماً ، ولا كلياً ولا جزئياً ، فهذا لا يكون في الخارج إلا إنسان موجود ، ولابد أن يكون معيناً جزئياً . (5) "
وأما الاضطرار أو العلم الضروري " فهو الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه معه دفعه عن نفسه. (6) "
أو كما عبّر بعض الشيوخ قائلاً: إنّ الضروري واردات ترد على النفوس تعجز عن ردها. (7)
__________
(1) . مجموع الفتاوى 6/515 ، وانظر : منهاج السنة 2/185 – 187 ، وشرح الأصبهانية 2/380 .
(2) . التدمرية صـ 15
(3) . التدمرية صـ 16
(4) . التدمرية صـ 17
(5) . الصفدية 1/ 296 = باختصار
(6) . الدرء 6/106
(7) . انظر الدرء 7/431 ، مجموع الفتاوى 2/76(1/13)
وعرّف المؤلف السلوب والإضافات بالمثال ، فالسلب كأن يقول: إن الله ليس جاهلاً ولا عاجزاً ، وأما الإضافة فهو أن يجعل غيره عالماً قادراً . (1)
8 – قوله : "وجعلوا الصفة هي الموصوف ، فجعلوا العلم عين العالِم ، وجعلوه هذه الصفة هي الأخرى. (2) "
بيّن المؤلف – في غير موطن – أن هذه مقالة الفلاسفة ، كابن سينا (3) ، وابن رشد الحفيد. (4)
وقال عنها : - "من جعل المعاني هي الذات القائمة بنفسها ، أو كل معنى هو المعنى الآخر كان من أعظم الناس جهلاً وكذباً وسفسطة ، وكان أجهل من النصارى الذين يقولون أحد بالذات ثلاثة بالأقنوم . (5) "
كما أورد أوجهاً متعددة في بيان فساد هذه المقالة ، ومن ذلك أنها تستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى . (6) "
9 – قوله : " يسفسطون في العقليات ، ويقرمطون في السمعيات. (7) "
نبّه المؤلف – في عدة مواضع – إلى بطلان دعوى أن السفسطة تنسب إلى أمة من الأمم يقال لهم : السوفسطائية ، أو أنهم ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا، كما ظنه بعض المتكلمين وأرباب المقالات ..
__________
(1) . انظر : شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/355 ، وللمؤلف عبارات أخرى في معنى الأمور المتضايفة . انظر : الدرء 1/284 ، واقتضاء الصراط المستقيم 1/162 ، ومناظرة في الحمد والشكر (مجموع الفتاوى ) 11/147 ، وجواب أهل العلم والإيمان (مجموع الفتاوى ) 17/148 ، 149 ، ورسالة في الهلال (مجموع الفتاوى ) 25/183 .
(2) . التدمرية صـ 17
(3) . انظر : مجموع الفتاوى 6/ 517
(4) . انظر: الدرء 6/238
(5) . الصفدية 1/127 ، وانظر : الصفدية 2/236 ، والدرء 5/247، وشرح الأصبهانية 1/283 .
(6) . انظر : الدرء 1/283- 285
(7) . التدمرية صـ 19(1/14)
وإنما السفسطة لفظة معرّبة من اليونانية، وهي جحد شيء من الحقائق ، فإن معناها الحكمة المموهة بالسفسطة ، أي الكلام الباطل المشبه للحق ، وهذا يعرض لكثير من الناس في كثير من الأمور ، ولا يتصور أن أحداً من بني آدم يجحد جميع الحقائق . (1)
10 – قوله : " قد علم بضرورة العقل أنه لابد من موجود قديم غني عما سواه ، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات ، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع ، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَث له من محدِث ، والممكن لابد له من واجب ، كما قال تعالى : " { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } (الطور ، آية 35 ) . (2) "
تحدّث المؤلف عن هذه المسألة في عدة مواطن ، وبيّن أن طرق إثبات الصانع لا تحصى ، وأن الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري. (3)
كما بيّن المؤلف – في موضع آخر – هذا الدليل على إثبات الصانع ، فقال : " من المعلوم بالضرورة أن الحادث بعد عدمه ، لابد له من محدث ، وهذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة ، حتى للصبيان ، فإن الصبي لو ضربه ضارب وهو غافل لا يبصره لقال : من ضربني ؟ فلو قيل له : لم يضربك أحد ، لم يقبل عقله ، أن تكون الضربة حدثتْ من غير محدث ، بل يعلم أنه لابد للحادث من محدث ، فإذا قيل: فلان ضربك ، بكى حتى يضرب ضاربه ، فكان في فطرته الإقرار بالصانع وبالشرع الذي مبناه على العدل ، ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } (الطور ، آية 35) .
__________
(1) . انظر : الردّ على المنطقيين صـ 329 ، والدرء 5/130 ، وشرح الأصبهانية 2/323 ، ونقض التأسيس 2/54 ، ومنهاج السنة 2/525 ، ومجموع الفتاوى 19/135 .
(2) . التدمرية صـ 20 .
(3) . انظر : منهاج السنة 2/270 ، والدرء 3/112 ، 265 ، والجواب الصحيح 2/102 .(1/15)
وذلك أن هذا تقسيم حاصر ذكره الله بصيغة استفهام الإنكار ، ليبين أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة لا يمكن جحدها ، يقول: " أم خلقوا من غير شيء " أي من غير خالق خلقهم ، أم هم خلقوا أنفسهم ؟ وهم يعلمون أن كلتا القضيتين باطلة ، فتعيّن أن لهم خالقاً خلقهم سبحانه وتعالى. (1) "
11- قوله : - " وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه ، وما هو محدث ممكن ، يقبل الوجود والعدم ، فمعلوم أن هذا موجود ، وهذا موجود ، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى "الوجود " أن يكون وجودُ هذا مثل وجود هذا ، بل وجود هذا يخصّه ، ووجود هذا يخصّه ، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص .(2) "
عنى المؤلف بتقرير هذا الأصل ، وهو أن الاتفاق في القدر المشترك والاسم العام لا يستلزم تمثيلاً ، وأن الاسم بعد الإضافة والتقييد يخصّه ويُميّزه عن غيره .
ونورد جملة من تحريراته بشأن هذا الأصل :- .
أ – تحدّث المؤلف عن أهمية هذا الأصل ، فقال : " إنه ينفع في عامة العلوم ، فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه ، فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه ، وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس . (3)"
ب – بيّن المؤلف منشأ الضلال في هذا الأصل ، فقال : " ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان ، وهو الجنس اللغوي ، فيجدونه واحداً في الذهن ، فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية ، ولا يميّزون بين الواحد بالجنس ، والواحد بالعين ، وأن الجنس العام المشترك لا وجود له في الخارج ، وإنما يوجد في الأعيان المتميزة . (4)
__________
(1) . شرح حديث النزول صـ 124 – 126 = باختصار ، وانظر : شرح الأصفهانية 1/ 43 ، وحقيقة مذهب الاتحاديين (مجموع الفتاوى ) 2/190 ، ومجموع الفتاوى 2/11 .
(2) . التدمرية صـ 20 .
(3) . الدرء 1/216 .
(4) . الدرء 4/120 ، وانظر : منهاج السنة 2/588 .(1/16)
جـ. نقل المؤلف كلاماً مهماً لأبي نصر السجزي (1) (ت 444هـ) في كتابة الإبانة في مسألة القرآن – في تقرير هذا الأصل، حيث قال السجزي:- " والأصل الذي يجب أن يعلم : أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسميّن بها ، فنحن إذا قلنا إن الله موجود رؤوف واحد حي عليم سميع بصير متكلم، قلنا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان موجوداً حياً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً ، لم يكن ذلك تشبيهاً ، ولا خالفنا به أحداً ، من السلف والأئمة ، بل الله موجود لم يزل، واحد حي قديم قيوم عالم .. ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات ، والموجود منا إنما وُجد عن عَدَم ، وعَلِم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم .. فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى ، وإن اتفقت مسمّيات هذه الصفات. (2)
د . قرر المؤلف هذا الأصل في مواطن كثيرة من كتبه (3) ، ومن تلك التقريرات ، قوله : "إن كل موجودين قائمين بأنفسهما ، فحينئذ لابد أن يجمعهما اسم عام يدل على معنى عام ، لكن المعنى العام لا يوجد عاماً إلا في الذهن لا في الخارج .
__________
(1) . هو أبو نصر عبيد الله بن سعد الوائلي السجستاني ، اشتغل بالحديث ، ورحل إلى الشام والعراق ، له مصنفات ، توفي بمكة سنة 444هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 17/654 ، وشذرات الذهب 3/271 .
(2) . الدرء 2/ 89 = باختصار
(3) . انظر : منهاج السنة 2/112 ، 3/301 ، الصفدية 1/99 – 101 ، 2/5 ، 6 ، الدرء 4/ 253 ، 258 ، 5/ 81 ، 84 ، 136 ، 6/124 ، ونقض التأسيس 2/380 ، ومجموع الفتاوى 5/202 ، 207 ، 210 ,(1/17)
فإذا قيل : هذا الموجود ، وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود ، كان ما اشتركا فيه لا يوجد مشتركاً إلا في الذهن لا في الخارج ، وكل موجود فهو يختص بنفسه وصفات نفسه ، لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج ، وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق ، والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن ، فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزاً عن نظيره ، لا يكون هو إياه ، ولا هما في الخارج ، مشتركان في شيء في الخارج .
- إلى أن قال – فمن فهم هذا انحلّت عنه إشكالات كثيرة يعثر فيها كثير من الأذكياء الناظرين في العلوم الكلية والمعارف الإلهية . (1) "
وقال في موضع آخر :-
" وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته من بعض الوجوه ، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وإذا قيل هذا حيّ عليم قدير ، وهذا حيّ عليم قدير فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير ، لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلاً لهذا المسمى فيما يجب ويجوز ويمتنع .
بل هنا ثلاثة أشياء :
أحدها : القدر المشترك الذي تشابها فيه ، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما .
الثاني : ما يختص به الرب من الحياة والعلم والقدرة .
الثالث : ما يختص به العبد من الحياة والعلم والقدرة ، فما اختص به الرب عز وجل لا يشركه فيه العبد ، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد ، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الربّ ، ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختص به الرب عز وحل . (2) "
وبهذه النقول ندرك أهمية هذا الأصل ، وما يحققه من فهم سديد في باب الصفات ، فلولا القدر المشترك لما فُهِم الخطاب ، لكن هذا القدر المشترك أو الاسم الكلي في الأذهان ، وأما القدر المميّز فهو خارج الذهن ، فما يختص ويتميّز به الخالق سبحانه فلا يشركه فيه مخلوق .
__________
(1) . منهاج السنة 2/30 ، 31 = باختصار
(2) . الجواب الصحيح 2/232 ، وانظر : الجواب الصحيح 3/149(1/18)
هـ . كما أن هذا الأصل نافع في مسائل الصفات ، فهو نافع في مسائل أخرى من مسائل الاعتقاد، فقد استعمله المؤلف في الردّ على المنحرفين في باب الإيمان ، الذين زعموا أن الإيمان شيء واحد، وأنه متماثل في بني آدم ، لا يقبل الزيادة ، والنقصان .
فذاك الإيمان مقدّر في الذهن ، ولا حقيقة له في الخارج ، فلا يوجد في الخارج إلاّ مقيّداً كأن يقال: إيمان زيد ، وإيمان عمرو .. فإيمان كل واحد يخصّه ، وهذا الإيمان يقبل التفاضل ، والزيادة أو النقصان. (1)
الفصل الثاني : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من أصليّ الأسماء والصفات
1 – قرر المؤلف أصلين عظيمين في باب الأسماء والصفات ، فأما الأول فقوله : القول في بعض الصفات كالقول في بعض .
وبسط المؤلف هذا الأصل في غير موضع ، وأما العلماء الذين من قبله فقد أشار بعضهم إلى هذا الأصل على سبيل الاختصار (2) ، كما فعل الأشعري في الإبانة (3) ، وابن الزاغوني (4) في الإيضاح (5) ، والباقلاني في الإبانة (6) ، وابن قدامة في تحريم النظر في كتب الكلام. (7)
__________
(1) . انظر : الإيمان صـ 388 ، 389
(2) . انظر : موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبدالرحمن المحمود 3/1187 .
(3) . انظر : الإبانة صـ 89
(4) . هو علي بن عبيد الله السري البغدادي ، فقيه ، واعظ ، متكلم ، له مصنفات في شتى الفنون ، توفي سنة 527هـ . انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 1/180 ، سير أعلام النبلاء 19/60
(5) . انظر : الإيضاح في أصول الدين ، تحقيق : عصام محمود صـ 284 .
(6) . انظر: الفتاوى الحموية الكبرى لابن تيمية صـ 508 .
(7) . انظر : تحريم النظر في كتب الكلام ، تصحيح : جورج المقدسي صـ 57 ، 64 .(1/19)
2 – ساق المؤلف هذا الأصل – ابتداءً – في الردّ على الأشاعرة ، وجاء ذلك في غير موطن. (1)
وحكى المؤلف هاهنا تأويل الأشاعرة لسائر الصفات ، كالمحبة والرضا والغضب ..
وقد بيّن تأويلهم – في موضع آخر – فقال : " وقد تأوّل الجهمية – ومن اتبعهم من أهل الكلام – محبة الله لعبده على أنها الإحسان إليه .. وطائفة أخرى من الصفاتية قالوا : هي إرادة الإحسان. (2)"
وذكر المؤلف أنهم فسروا المحبة والرحمة بما يخلق الله من النعمة ، فالمحبة إرادة الإحسان منه ، والغضب إرادة العقاب منه. (3)
وساق المؤلف جواباً في بطلان تفسيرهم الغضب بالعقوبة ، فقال : "وإن فُسِّر [الرحمة و الغضب] بالمخلوقات ، لم يتصف برحمة ولا غضب ، وهو قد فرّق بين غضبه وعقابه بقوله : " { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } ( النساء، آية 93).
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : "أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون . (4) "
وأما قولهم : " الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام " ، فقد أجاب عنه المؤلف في موطن آخر فقال: "وأما قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، فليس بصحيح في حقنا ، بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده ، فلا يكون هناك انتقام أصلاً .
__________
(1) . انظر : شرح الأصفهانية 1/27 ، 32 ، 2/384 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/352 ، والرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/45 ، 75 ، والإكليل في المتشابه والتأويل (مجموع الفتاوى) 13/299، ومسألة في تأويل الآيات (جامع المسائل ) 3/175 .
(2) . قاعدة في المحبة (جامع الرسائل ) 2/237 .
(3) . انظر : شرح الأصبهانية 1/26 ، 32 .
(4) . مجموع الفتاوى 6/261 = باختصار(1/20)
وأيضاً فغليان دم القلب يقارنه الغضب ، ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب ؛ لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذي فإن استشعرت القدرة فاض الدم إلى خارج فكان منه الغضب. (1)"
3 – قوله : "عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعيّن . (2)"
قرر المؤلف هذه المسألة في موضع آخر ، فقال : "فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده ، وهو ملزوم للمدلول عليه ، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه ، ولا يجب عكسه ، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه . (3) "
وأضاف المؤلف تفصيلاً مهماً في ذلك ، حيث قال : "عدم الدليل المعيّن لا يستلزم عدم المدلول عليه، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه ، ثم إذا عدم ذلك ، لم يلزم عدم الخالق ، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدالّ عليه ، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزماً لعدمه ، كالأمور التي تتوفر الهمة على نقلها ، إذا لم ينقل ، عُلم انتفاؤها . (4)"
4 – قوله : "والسمع قد دلّ عليه ، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي" .
زاد المؤلف هذا المعنى بياناً فقال : "والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذا المضايق أعظم ، ودلالته أتمّ ، فلأي شيء نفيّت مدلوله أو توقفتَ وأعدتَ هذه الصفات كلها إلى الإرادة؟ (5)"
5 – قوله : "نفع العبادة بالإحسان إليهم يدلّ على الرحمة ، كدلالة التخصيص على المشيئة. (6)"
بيّن المؤلف هذا الدليل أتم بيان وأبلغه ، فكان مما قاله : "ما في المخلوقات من وجود المنافع للمحتاجين، وكشف الضر عن المضرورين ، والإحسان إلى المخلوقات ، وأنواع الرزق والهدى والمسرات هو دليل على رحمة الخالق سبحانه .
__________
(1) . الرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/119 = باختصار
(2) . التدمرية صـ 33 .
(3) . الدرء 5/269 .
(4) . الجواب الصحيح 3/175 ، وانظر : 4/291
(5) . الإكليل في المتشابه والتأويل (مجموع الفتاوى ) 13/ 299 ، 300
(6) . التدمرية صـ 34 .(1/21)
- إلى أن قال – وفي الجملة فما ذكره في القرآن من الأمثال والآيات ، تارة يقرر بها نفس مشيئته وقدرته وخلقه ، وتارة يقرر بها إحسانه وإنعامه ورحمته ، وهذه الطريق مستلزمة للأولى من غير عكس ، فإنه يلزم من وجود الإحسان والرحمة ، وجود القدرة والمشيئة ، من غير عكس . (1) "
6 – انتقل المؤلف إلى الردّ على المعتزلة من خلال هذا الأصل ، وجاء هذا الرد في غير موطن (2) ، وعبّر المؤلف عنه – في موضع آخر – بأن القول في الأسماء كالقول في الصفات ، فإن كان المعتزلة يثبتون الأسماء وينكرون الصفات "فالقول في الأسماء كالقول في الصفات، فدعوى المدعي أن أحدهما يستلزم التجسيم دون الآخر تحكم ، وتفريق بين المتماثلين ، فإن أمكن إثبات أحدهما بدون اللوازم الباطلة ، فكذلك الآخر ، وإن امتنع في أحدهما ، امتنع في الآخر. (3) "
وألحق المؤلف جواباً آخر في الرد عليهم ، فقال : "هذا المذهب تصوره التام يكفي في العلم بفساده ، فإن إثبات حيّ لا حياة له ، وعالم لا علم له ، كإثبات مريد لا إرادة له ، ومتكلم لا كلام له ، وكإثبات مصل وطائف لم تقم به صلاة ولا طواف . (4) "
7 – وأما استعمال المؤلف هذا الأصل في الرد على الجهمية ، فقد لا يكون – في نظري – ظاهراً هاهنا ، كما هو ظاهر بيّن في كتبه الأخرى .
ومن تقريراته التي تجلي ذلك ، قوله : "فإن قال الجهمي المحض : أنا أنفي الأسماء كلها ، فلا أثبتها حقيقة ولا مجازاً ، لئلا يلزم التشبيه ..
__________
(1) . شرح الأصبهانية 1/28 ، 29 = باختصار .
(2) . انظر : الدرء 1/128 ، ومنهاج السنة 2/115 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/355 ، ومسألة في تأويل الآيات (جامع المسائل) 3/176 .
(3) . شرح الأصبهانية 2/386
(4) . المرجع السابق 2/385 ، وانظر : النبوات 1/265 .(1/22)
قيل له : فيلزمك نفي الذات ، فإنك أيضاً لا تعرف موجوداً قائماً بنفسه إلا جسماً ، ولا قائماً بغيره إلا عرضاً ، وإلا فالقول في هذا كالقول في هذا . (1) "
وقال أيضاً : "فإن قال : وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى .
قيل له : فلابد أن تعتقد أنه حق قائم بنفسه ، والجسم موجود قائم بنفسه ، وليس مماثلاً له . (2) "
ومقصود المؤلف أن الجمهي إن أقرّ أن الله قائم بنفسه ، فالجسم المخلوق كذلك ، ولم يلزم من ذلك المماثلة بينهما ، فكذا أسماء الله تعالى وصفاته .
والجهم يقرّ أن الله واجب الوجود ، فكل ما يستدلّ به على نفي أسماء الله تعالى ، فيمكن منازعه أن يستدل به على نفي واجب الوجود . (3)
فمتى أقر الجهم أن الله ثابت موجود ، لزمه فيه من إثبات القدر المشترك نظير ما يلزمه فيما نفاه. (4)
8 – وأما اعتراض العدم والملكة ، فقد أطنب المؤلف في ردّه والجواب عنه ، فأجاب عن هذا الاعتراض في ثلاثة مواطن من هذه الرسالة ، كما بسطه في مواطن متعددة من كتبه الأخرى. (5)
__________
(1) . شرح الأصبهانية 2/ 386 ، 387 = باختصار
(2) . منهاج السنة 2/116 ، وانظر : شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/355 ، ومجموع الفتاوى 6/ 48 ، والفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/ 165 .
(3) . انظر : شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/315 .
(4) . انظر :مجموع الفتاوى 5/209 .
(5) . انظر : الدرء 2 /222 ، 341 ، 3/367 ، 4/ 9 ، 35 ، 367 ، 4/9 ، 35 ، 159 ، 5/273، 6/128 ، 135 ، 538 ، الصفدية 1/89 – 96 ، والرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/88 ، ومجموع الفتاوى 6/538 ، 8/22، والكيلانية (مجموع الفتاوى ) 12/ 357 .(1/23)
ولعل موجب استطراد المؤلف في الجواب عن اعتراض العدم والمكلة ، ما ذكره أن هذه الشبهة ، قد أشكلت على كثير من النظّار ، وظنوا أنه لا جواب عنها ، حتى أن الآمدي عجز عن حلها ، واعتقد صحة الاعتراض ، كما ضلّ بذلك الاعتراض خلق كثير. (1)
وأما عن مقصودهم بالعدم والملكة ، فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعاً ، بخلاف المتقابلين تقابل العدم والمكلة - كما هو اصطلاح الفلاسفة المشّائين والمناطقة – فالحياة والموت قد يرتفعان جميعاً إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات ، فالعدم هو سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلاً ومتصفاً به ، ويقابله الملكة. (2)
9 – قوله : "وإن قال نفاة الصفات : إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات ، وهذا تركيب ممتنع .
قيل : وإذا قلتم : هو موجود واجب ، عقل وعاقل ومعقول ، وعشق (3) وعاشق ومعشوق ، ولذيذ وملتذ ولذة ، أ فليس المفهوم من هذا هو المفهوم ؟ (4) "
المراد بنفاة الصفات هاهنا الفلاسفة كابن سينا وابن رشد ، كما بسطه المؤلف في غير موطن حيث ساق مقالتهم ، وأجاب عنها بأجوبة كثيرة . (5)
وقد بيّن المؤلف شبهة الفلاسفة في نفي الصفات ، وأجاب عنها قائلاً :
__________
(1) . انظر : الدرء 3/ 367 ، 6/ 135 ، الصفدية 1/90 .
(2) . انظر : الدرء 3/367 ، 5/ 273 ، 5/ 273 ، 6/ 135 ، والصفدية 1/89 .
(3) . كلمة "عشق" غير موجودة في الكتاب ، والسياق يقتضي إثباتها ، كما أنها مثبتة في مثل هذا لموضع من كتب المؤلف . انظر: الدرء 1/100 ، 5/247 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/340 .
(4) . التدمرية صـ 40 ، 41 .
(5) . انظر : الدرء 1/ 283 ، 3/403 ، 5/ 81 ، 142 ، 247 ، منهاج السنة 2/ 164 ، شرح الأصبهانية 1/283 ، الجواب الصحيح 3/209 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/ 340 .(1/24)
"وعمدة ابن سينا وأمثاله على نفيها هي حجة التركيب ، وهو أنه لو كان له صفة لكان مركباً ، والمركب مفتقر إلى جزئيه ، وجزاءه غيره ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه .
وقد تكلم الناس على إبطال هذه الحجة من وجوه كثيرة ، بسبب أن لفظ "التركيب" ، و "الجزء" و "الافتقار " و "الغير " ألفاظ مجملة .
فيراد بالمركّب ما ركّبه غيره ، وما كان متفرقاً فاجتمع ، وما يقبل التفريق ، والله سبحانه منزه عن هذا بالاتفاق ، وأما الذات الموصوفة بصفات لازمة لها ، فإذا سمّى المسمي هذا تركيباً ، كان هذا اصطلاحاً له ليس هو المفهوم من لفظ المركب .
والبحث إذا كان في المعاني العقلية لم يلتفت فيه إلى اللفظ ، فيقال : هب أنكم سميتم هذا تركيباً ، فلا دليل لكم على نفيه. (1) "
وقال – في موطن آخر -: "فإن هؤلاء يزعمون أن هنا خمسة أنواع من التركيب (2) يجب نفيها عن الواجب ، فيقولون : ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق ، إذ لو كان له حقيقة سوى ذلك لكان مركباً من تلك الحقيقة .
والوجود يثبتونه وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق ، مع علم كل عاقل أن هذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ، ويقولون ليس له صفة ثبوتية.. وإذ لو كان كذلك لكان مركباً من ذات وصفات. (3) "
10 – وأما قولهم عن الله – تعالى - : "إنه عشق و عاشق ومعشوق ، ولذة ولذيذ وملتذ .. فأجاب عنه المؤلف بقوله :- "لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل ، وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ، ولا عاشق ، ولا معقول ، ولا معشوق ..
ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل. (4)
__________
(1) . منهاج السنة 2/ 164 .
(2) . انظر معاني التركيب عند الفلاسفة : الدرء 3/403 ، 5/142 ، وشرح الأصبهانية 1/281 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/ 336 .
(3) . الدرء 5/247 = باختصار يسير .
(4) . الدرء 5/82 = باختصار
وانظر ردّ المؤلف على من وصف الله بالعشق : قاعدة في المحبة (جامع الرسائل ) 2/239 ، وأمراض القلوب وشفاؤها (مجموع الفتاوى) 10/131 .(1/25)
"
11 – وقول المؤلف : - " فمن جوّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى ، وأن تكون الصفة هي الموصوف ، فهو من أعظم الناس سفسطة ، ثم إنه متناقض ، فإن إن جوّز ذلك ، جاز أن يكون وجود هذا هو وجودَ هذا. (1)"
بيّن المؤلف ذلك حيث قال : "من سوّغ جعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحد بالعين ، كان كلامه مستلزماً أن يجعل وجود الحقائق المتنوعة وجوداً واحداً بالعين ، بل هذا أولى ؛ لأن الموجودات مشتركة في نفس الوجود ، فمن اشتبه عليه أن العلم هو القدرة ، وأنهما نفس الذات العالمة القادرة كان أن يشتبه عليه أن الوجود واحد أولى وأحرى. (2) "
12 – قرر المؤلف الأصل الثاني "القول في الصفات كالقول في الذات " ،وساق هذا الأصل في غير موضع . (3)
وحكى المؤلف القائلين بتقريره من المحققين السابقين ، كالخطابي في كتابه "الغنية " (4) والخطيب البغدادي (5) ، وابن الزاغوني (6) ، وأبي عثمان الصابوني (7) وابن عبدالبر . (8)
الفصل الثالث : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من مثاليّ الجنة والروح
__________
(1) . التدمرية صـ 41 .
(2) . الدرء 1/301 ، وانظر : 4/119 .
(3) . انظر : التسعينية 2/ 562 ، شرح الأصفهانية 2/387 ، نقض التأسيس 2/76 ، الحموية صـ 541، ومجموع الفتاوى 3/196 ، 207 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/325 ، 330 ، ومجموع الفتاوى 12/575 ، 33/177 .
(4) . انظر : التسعينية 2/560 ، ومجموع الفتاوى 12 / 575 ، والحموية صـ 367 ، 541 .
(5) . انظر : الحموية صـ 369 ، ومجموع الفتاوى 3/207 .
(6) . انظر : الإيضاح لابن الزاغوني صـ 286 ، ونقض التأسيس 1/42 .
(7) . انظر : عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني صـ 232 ، ومجموع الفتاوى 3/207 .
(8) . انظر : التمهيد لابن عبدالبر 7/153 ، ومجموع الفتاوى 3/207 .(1/26)
1 – أورد المؤلف مثال الجنة في غير موضع (1)، ومن تقريراته التي تزيد هذا المثال بياناً ، قوله :-
"فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة ، ليست مماثلة لهذا الموجودات في الدنيا ، بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك ، ويجب لها ما يجب لها ، ويمتنع عليها ما يمتنع عليها ، وتكون مادتها مادتها ، وتستحيل استحالتها ، فإنّا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد .. ، ولبنها لا يتغير طعمه ، وخمرها لا يصّدع شاربها ، ولا ينزف عقله ، فإن ماءها ليس نابعاً من تراب ، ولا نازلاً من سحاب مثل ما في الدنيا ، ولبنها ليس مخلوقاً من أنعام كما في الدنيا ، وأمثال ذلك .
فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم ، وبينهما قدر مشترك وتشابه ، وعلم به معنى ما خوطبنا به ، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة ، فالخالق جلّ جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا . (2) "
2 – تحدّث المؤلف - بإيجاز – عن قياسيّ التمثيل والشمول (3)، لكن بسطه في مواطن عديدة (4) ، فعرّف القياسين قائلاً : "والقياس " في اللغة : تقدير الشيء بغيره ، وهذا يتناول تقدير الشيء المعين بنظيره المعيّن ، وتقديره بالأمر الكلي المتناول له ، ولأمثاله .
__________
(1) . انظر : منهاج السنة 2/157 ، والتسعينية 2/546 ، والصفدية 1/288 ، والحموية صـ 542 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/ 347 ، ومجموع الفتاوى 5/207 ، 257 ، 9/ 295، والمرشدة (مجموع الفتاوى) 11/482 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/326 .
(2) . مجموع الفتاوى 9/296 = باختصار .
(3) . انظر: التدمرية صـ 50 .
(4) . انظر : الدرء 3/36 ، 3/121 ، 4/6 ، والنبوات 2/743 ، 746 ، 892 ، منهاج السنة 1/371 ، شرح الأصبهانية 2/ 398 ، ونقض التأسيس 1/ 327 ، 2/ 276 .(1/27)
وقياس الشمول: هو انتقال الذهن من المعيّن إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره ، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي ، بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول ، وهو المعيّن ، فهو انتقال من خاص إلى عام ، ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص ، من جزئي إلى كلي ، ثم من ذلك الكلي إلى الجزئي الأول ، فيحكم عليه بذلك الكلي .
- إلى أن قال – وأما قياس التمثيل فهو انتقال الذهن من حكم معيّن إلى حكم معيّن ، لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلي ؛ لأن ذلك الحكم يلزم المشترك الكلي ..
فهو يتصور المعنيين أولاً ، وهما الأصل والفرع ، ثم ينتقل إلى لازمهما وهو المشترك ، ثم إلى لازم اللازم وهو الحكم . (1) "
3 – قرر المؤلف قياس الأولى ، وبيّن في "الرسالة الأكملية " شرط هذا الكمال ، فهو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وأما الكمال النسبي فهو المستلزم للنقص ، فيكون كمالاً من وجه دون وجه ، كالأكل للجائع كمال له ، وللشبعان نقص فيه ؛ لأن ليس بكمال محض ، بل هو مقرون بالنقص .
فمن الكمالات ما هو كمال للمخلوق ، وهو نقص بالنسبة إلى الخالق ، وهو كل ما كان مستلزماً لا لإمكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته ، أو مستلزماً للحدوث المنافي لقدمه ، أو مستلزماً لفقره المنافي لغناه . (2)
__________
(1) . مجموع الفتاوى 9/119 ، 120 = باختصار ، وانظر : الردّ على المنطقيين صـ 119 – 121 ، وانظر : التلازم بين هذين القياسين الدرء 6/126 ، والكيلانية (مجموع الفتاوى) 12/346 .
(2) . انظر : الرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/ 87 ، 137 .(1/28)
4 – بيّن المؤلف ورود قياس الأولى في الكتاب والسنة ، كما استعمله سلف الأمة ، ومن الأدلة التي ساقها في تقرير هذا القياس ، قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } ) (الروم، آية 28) .
ثم قال رحمه الله : - "فإن الله أخبر أنهم إذا لم يرضوا لأنفسهم أن يكون مملوك أحدهم شريكه ، ولم يرضوا لأنفسهم أن يكون لهم البنات ، فربّهم أحق وأولى أن ينزهوه عما لا يرضوه لأنفسهم ، للعلم بأنه أحق منهم بالتنزيه عما هو عيب ونقص عندهم . (1) "
5 – وأما مثال الروح فقد ساقه المؤلف في عدة مواطن (2) ، ومن تحريراته الجلية لهذا المثال ، قوله: "وكذلك روح ابن آدم تسمع وتبصر ، وتتكلم وتنزل وتصعد ، كما ثبت ذلك بالنصوص الصحيحة ، والمعقولات الصريحة ، ومع ذلك فليست صفاتها وأفعالها كصفات البدن وأفعاله .
فإذا لم يجز أن يقال : إن صفات الروح وأفعالها مثل صفات الجسم الذي هو الجسد ، وهي مقرونة به ، وهما جميعاً الإنسان ، فإذا لم يكن روح الإنسان مماثلاً للجسم الذي هو بدنه ، فكيف يجوز أن يجعل الربّ تبارك وتعالى وصفاته وأفعاله مثل الجسم وصفاته وأفعاله ؟ (3) "
__________
(1) . نقض التأسيس 2/142 ، وانظر : 2/535 ، والدرء 7/388 ، والرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/79 .
(2) . انظر : شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/ 458 ، 459 ، 527 ، ومجموع الفتاوى 5/132 ، 243 .
(3) . شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/354 .(1/29)
وقال – في موضع آخر - : "وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها ، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها ، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى ؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن ، وأنها تخرج منه تعرج إلى السماء ، وأنها تسل منه وقت النزع ، كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة ، لانغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم ، حيث نفوا عنها الصعود والنزول ، والاتصال بالبدن والانفصال عنه ، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته ، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها ..
ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً .. كما يقول طوائف من أهل الكلام، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن ، وأنها ليست مماثلة له ، وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازاً ، فإن كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة ، فيكف الظن بصفات رب العالمين ؟ (1) "
فأهل السنة وسط في شأن الروح بين المعطلة والممثلة ، فالروح ليست كالمعدوم والممتنع كما ظنه الفلاسفة ، وليست كالبدن كما هو عند المتكلمين ، والمقصود من هذا المثال أن الروح توصف بالصعود والنزول مثلاً ، والبدن يوصف بذلك ، ولا يلزم من ذلك التمثيل ، فصفات الروح لا تماثل صفات البدن ، وإذا تقرر ذلك ، فإن مباينة الله تعالى لكل مخلوق أظهر وأولى من مباينة مخلوق لمخلوق .
6 – تحدّث المؤلف عن الجسم وما فيه من الإجمال والاشتراك ، وتعدد الإطلاقات (2) ، وقد بسطه في مواضع متعددة . (3)
__________
(1) . الحموية (مجموع الفتاوى ) 5/ 115 ، 116 ، وفي "الحموية" بتحقيق د. حمد التويجري يوجد سقط – في هذا الموطن- قرابة ستة أسطر .
(2) . انظر : التدمرية صـ 53 .
(3) . انظر : الدرء 1/119 ، منهاج السنة 2/ 165 ، 530 ، 547 ، الجواب الصحيح 3/ 153 ، شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/419 ، مجموع الفتاوى 5/ 213 .(1/30)
وبيّن أن الكثير من نظّار المعتزلة والأشاعرة يقولون : إن الجسم مركّب من الجواهر المفردة ، كما أن الكثير من الفلاسفة يقولون : إن الجسم مركب من المادة والصورة . (1)
وبيّن المؤلف فساد هذه الأقوال في غير موطن (2) ، ومن ذلك قوله :-
"والناس قد تنازعوا في الأجسام المخلوقة .. فقيل : هي مركبة من الجواهر المنفردة ، وقيل : مركبة من المادة والصورة ..
والصواب عند محققي الطوائف أنها ليست مركبة لا من هذا ، ولا من هذا ، وهذا قول أكثر أهل الطوائف أهل النظر ..
وقد تنازع الناس في الجسم هل يقبل القسمة إلى غاية محدودة هي الجوهر الفرد ، أو يقبل القسمة إلى غير غاية ، أو يقبل القسمة إلى غاية من غير إثبات الجوهر الفرد ، على ثلاثة أقوال .
والثالث هو الصواب ، فإن إثبات الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة باطل بوجوه كثيرة ، إذ ما من موجود إلا ويتميّز منه شيء عن شيء ، وإثبات انقسامات لا تتناهى فيما هو محصور بين حاصرين ممتنع ، لامتناع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى ، وامتناع انحصاره فيه .
لكن الجسم كالماء انقسامات متناهية إلى أن تتصاغر أجزاؤه ، فإذا تصاغرت استحالت إلى جسم آخر ..
كالقطرة الصغيرة من الماء إذا صغُرت جداً ، لابد أن تستحيل هواء ، أو تراباً ، أو تنضم إلى ماء آخر، وإلا فلا تبقى القطرة الصغيرة جداً وحدها. (3)"
الفصل الرابع: تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من قواعد في باب الأسماء والصفات
__________
(1) . انظر : منهاج السنة 2/136 .
(2) . انظر : الردّ على المنطقيين صـ 224 ، والأصفهانية 2/306 ، ونقض التأسيس 1/505 ، والدرء 4/135 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/434 .
(3) . الصفدية 1/ 117 ، 118 = باختصار(1/31)
1 – قرر المؤلف في القاعدة الأولى أن الله سبحانه لا يوصف بنفي لا يتضمن إثباتاً ، وبيّن ذلك في غير موضع . (1)
ومنه قوله : "النقص أمور عدمية ، لهذا لا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أموراً وجودية ، وإلا فالعدم المحض لاكمال فيه. (2) "
وأما تقريره معنى النفي في قوله تعالى { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } (الأنعام ، آية 103 ) , فإنه بسطه في عدة موطن (3)، ومن ذلك قوله :
"وقوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } (الأنعام ، آية 103 ) فإن الإدراك في القول المأثور عن ابن عباس وغيره من السلف - وهو قول أكثر العلماء – هو الإحاطة ، ومن قال : هو مجرد الرؤية غلط، فإن نفي مجرد الرؤية لا يتضمن مدحاً ولا كمالاً ، فإن المعدوم لا يُرى ، وما يُوصف به المعدوم لا يكون كمالاً ولا مدحاً ، بخلاف ما إذا قيل : لا تدركه الأبصار ، فإنه يدل على أنه يُرى ولا يحاط به رؤية . (4) "
__________
(1) . انظر : شرح الأصبهانية 2/381، الصفدية 2/64، الجواب الصحيح 2/105 ، نقض التأسيس 2/97 ، ومسألة في العلو (جامع المسائل ) 3/207 .
(2) . الصفدية 1/91 .
(3) . انظر : نقض التأسيس 1/ 553 ، 2/406 ، مجموع الفتاوى 16/ 87 ، وجواب أهل العلم والإيمان (مجموع الفتاوى) 17/111 .
(4) . الأصفهانية 2/ 383 .(1/32)
2 – وأما قول المؤلف : "ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادّعى ذلك في الخالق : ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تشبّه وبين المعدوم " ، فقد بسط في مواطن ، فذكر أن محمود بن سبكتكين من خيار الملوك وأعدلهم ، وكان من أشد الناس على أهل البدع ، "وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو ، فرأى قوة كلام ابن الهصيم ، فرجّح ذلك ، ويقال إنه قال لابن فورك : فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا ؟ أو قال : فرِّق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك ، فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسماً. (1) "
3 – قرر المؤلف في القاعدة الثانية الواجب تجاه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة (2)، وبيّن – في موضع آخر – فضل العبارات الشرعية الواردة في نصوص الوحيين ، وما في الألفاظ المحدثة من الإجمال والنزاع ، فقال :
"التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها ، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها ، وهي تنزيل من حكيم حميد ، والأمة متفقة عليها ، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني مالا تنقضي عجائبه .
والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع . (3) "
وقرر أن أهل السنة يجعلون الألفاظ الشرعية هي الأصل ، فيحتكمون إليها ويردون الألفاظ المحدثة إلى هذا الأصل ، على عكس طريقة أهل البدع ، فقال : "إن معرفة ما جاء به الرسول وما أراده بألفاظ القرآن والحديث ، هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة ، ثم معرفة ما قال الناس في هذا الباب لينظر المعاني الموافقة للرسول والمعاني المخالفة لها.
__________
(1) . الدرء 6/ 253 ، وانظر : منهاج السنة 3/ 429 ، ونقض التأسيس 2/ 331 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 65 .
(3) . النبوات 2/876 .(1/33)
والألفاظ نوعان : نوع يوجد في كلام الله ورسوله ، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله ، فيعرف المعنى الأول ، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني ، ويردّ إلى الأول ، هذا طريق أهل الهدى والسنة ، وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس ، ويجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل ، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعاً لهم . (1) "
4 – بيّن المؤلف في القاعدة الثانية الموقف الصحيح تجاه الألفاظ المجملة التي لم ترد في الكتاب والسنة ولا في السنة بنفي ولا إثبات .
وتحدّث – في موضع آخر – إلى أن استعمال الألفاظ المجملة بإطلاق دون تفصيل سببٌ في الخلاف والفرقة والعداوة ، كما أنها توقع في الضلال والابتداع .
فقال :-
"ولهذا الإجمال والاشتراك الذي يوجد في الأسماء نفياً وإثباتاً، تجد طوائف من المسلمين يتباغضون ، ويتعادون ، أو يختصمون ، أو يقتتلون على إثبات لفظ أو نفيه ، والمثبتة يصفون النفاة بما لم يريدوه ، والنفاة يصفون المثبتة بما لم يريدوه ؛ لأن اللفظ فيه إجمال واشتراك يحتمل معنى حقاً ، ومعنى باطلاً ، فالمثبت يفسره بالمعنى الحق ، والنافي يفسره بالمعنى الباطل ، ثم المثبت ينكر على النافي بأنه جحد من الحق ، والنافي ينكر على المثبت أنه قال على الله الباطل . (2) "
وقال – في موضع آخر – "وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي الإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال ، والفتن والخبال ، والقيل والقال ، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء . (3) "
__________
(1) . تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17 / 355 ، وانظر : الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/ 145 .
(2) . نقض التأسيس 2/14 .
(3) . منهاج السنة 2/217 .(1/34)
5 . أفاض المؤلفُ الحديث عما يجب تجاه الألفاظ المجملة (1)، وسنورد نقلاً مستوعباً لهذه المسألة ، إذ يقول :
"الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين ، مثل لفظ "الجسم" و "الجوهر " و "المتحيز" و "الجهة" ونحو ذلك ، فلا تُطلق نفياً ولا إثباتاً ، حتى ينظر في مقصود قائلها ، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول ، صُوِّب المعنى الذي قصده بلفظه ، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص ، لا يُعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة ، مع قرائن تبيّن المراد بها ، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ، وأما إن أريد بها معنى باطل ، نُفي ذلك المعنى ، وإن جُمع بين حق وباطل ، أثبت الحق وأبطل الباطل. (2)"
وذكر المؤلف أن التبيين والتفصيل – في ذلك الألفاظ – نافع في الشرع والعقل فقال: "أما الشرع: فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله ، وإن لم نفهم معناه ، وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ المتحيز والجهة وأمثال ذلك ، فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء ، لا في النفي ولا في الإثبات ، حتى يتبيّن له معناه ، فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحاً موافقاً لقول المعصوم كان ما أراده حقاً ، وإن كان أراد به معنى مخالفاً لقول المعصوم كان ما أراده باطلاً ..
- وإلى أن قال – وأما نفع هذا الاستفسار في العقل ، فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يقبل قوله ، ولم يردّ حتى نستفسره ونستفصله حتى يتبيّن المعنى المراد ، ويبقى الكلام في المعاني العقلية ، لا في المنازعات اللفظية. (3) "
__________
(1) . انظر : الدرء 1/223 ، 229 ، 242 ، ومجموع الفتاوى 5/299 ، 6/36 ، 16/426 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/304 .
(2) . منهاج السنة 2/554 ، وانظر : 2/611 .
(3) . الدرء 1/296 – 299 = باختصار(1/35)
6 – أورد المؤلف مثالين على الألفاظ المجملة (1) ، أحدهما : الجهة ، وفبيّن ما فيه من الإجمال ، ما يحتمله من حق وباطل ، وقد بسطه المؤلف في جملة مواضع . (2)
والمثال الآخر : الحيّز ، وقد حكاه المؤلف في عدة مواطن. (3)
ومما يحسن إيراده هاهنا ، أن المؤلف لما ساق كلام أهل اللغة في معنى الحيّز ، أعقبه بقوله : "فهذا المذكور عن أهل اللغة في هذا اللفظ ومادته ، يقتضي أن التحيز يتضمن عدولاً من محل إلى محل ، هذا أخصّ من كونه يحوزه أمر موجود ، فهم يراعون في معنى الحوز : ذهابه من جهة إلى جهة ، ولهذا يقولون : حزتُ المال ، وذلك يتضمن نقله من جهة إلى جهة ، فالشيء المستقر في موضعه كالجبل والشمس لا يسمى متحيزاً ، وأعم من هذا أن يراد بالمتحيز ما يحيط به حيز موجود ، فيسمى كل ما أحاط به غيره أنه متحيزه، وعلى هذا فما بين السماء والأرض متحيز ، بل ما في العالم متحيّز إلا سطح العالم الذي لا يحيط به شيء ، فإن ذلك ليس بمتحيز ، وكذلك العالم جملة ليس بمتحيز بهذا الاعتبار ، فإنه ليس في عالم آخر أحاط به ، والمتكلمون يريدون بالمتحيّز ما هو أعم من هذا ، والحيّز عندهم أعم من المكان ، فالعالم كله في حيّز ، وليس هو في مكان ، والمتحيّز عندهم لا يعتبر فيه أنه يحوزه غيره. (4) "
والمقصود أنه التحيّز عن المتكلمين لا يتفق مع معناه اللغوي ، فالتحيّز عندهم أعمّ مما جاء في اللغة ، كما أن في التحيّز إجمالاً يحتاج إلى تفصيل ، كما بيّنه المؤلف في غير موضع .
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 66 – 68 .
(2) . انظر : المنهاج 2/323 ، 348 ، 559 ، نقض التأسيس 2/117 ، التسعينية 1/221 ، مجموع الفتاوى 5/262 ، 264 ، 6/38 ، مسألة في العلو (جامع المسائل ) 3/202 .
(3) . انظر : المنهاج 2/350 ، الدرء 4/155 ، التسعينية 1/226 ، نقض التأسيس 1/520 ، 2/115 .
(4) . تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17 / 344 = باختصار(1/36)
فقال : "من قال : إن الله متحيّز بمعنى أنه أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطيء ، فهو سبحانه بائن من خلقه ، وما ثم موجود إلا الخالق ، والمخلوق ، وإذا كان الخالق بائناً عن المخلوق ، امتنع أن يكون الخالق في المخلوق ، وامتنع أن يكون متحيّز بهذا الاعتبار .
وإن أراد بالحيّز أمراً عدمياً ، فالأمر العدمي لا شيء ، وهو سبحانه بائن عن خلقه ، فإذا سُمي العدم الذي فوق العالم حيزاً ، وقال : يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزاً ، فهذا معنى باطل ؛ لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه . (1) "
7 – وأما القاعدة الثالثة فيما يتعلق بظاهر النصوص ، وما في الظاهر من الإجمال والاشتراك (2) ، فقد بسطه المؤلف في غير موضع. (3)
واكتفى المؤلف هاهنا بالإشارة إلى معنى الظاهر عند السلف ، لكن بسطه في مواطن أخرى ، فقال :
"وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة ، بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يلحد في أسماء الله تعالى ، ولا يفسّر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة ، بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص ، وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة ، فهذا مصيب في ذلك ، وهو الحق . (4) "
وقال أيضاً : "فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة. (5) "
__________
(1) . منهاج السنة 2/556 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 69 .
(3) . انظر : الدرء 7/ 45 ، 107 ، منهاج السنة 4/ 179 ، والحموية صـ 526 ، التسعينية 2/557 ، مجموع الفتاوى 20/166 .
(4) . التسعينية 2/546 .
(5) . المدنية صـ 31 .(1/37)
وبيّن المؤلف دلالات ظهور اللفظ وأسبابه فقال : "واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ، ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ ، تارة يكون بالوضع اللغوي ، أو العرفي ، أو الشرعي ، إما في الألفاظ المفردة ، وإما في المركبة ، وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب الذي يتغيّر به دلالته في نفسه ، وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التي تجعلها مجازاً (1)، وتارة بما يدل عليه حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه ، وسياق الكلام الذي يعيّن أحد محتملات اللفظ ، أو يبيّن أن المراد به هو مجازه ، إى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور ، وإلا فقد يتخبط في هذه المواضع. (2)"
وبهذا نخلص إلى أنّ الظاهر هو المعنى المتبادر منه الذي دلّ عليه اللفظ ، واقتضته النصوص الشرعية.
8 – أجاب المؤلف عمن زعم أن ظاهر حديث ، "عبدي جعتُ.. " التمثيل ، فيحتاج إلى تأويل. (3)" وهذا الجواب مذكور في أكثر من موضع . (4)"
ومن تقريراته التي تزيد ذلك الجواب وضوحاً ، قوله :
__________
(1) . قرر المؤلف في كتابه " الإيمان" أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ، إنما هو تقسيم حادث بعد القرون الثلاثة المفضلة ، وأن مراد المتقدمين بالمجاز ما يعبر به ويجوز في اللغة . انظر: كتاب الإيمان صـ 83 – 86 ، والحقيقة والمجاز (مجموع الفتاوى ) 20/ 403 ، 452، كما قرر المؤلف أن ما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية لا يعدّ مجازاً - بمعناه عند المتأخرين : استعمال اللفظ في غير ما وضع له – بل هو من تمام الكلام ، كما في مجموع الفتاوى 12/277 . لكنه هاهنا حكى المجاز – كما حكاه في الرسالة المدنية صـ 39 – 41 – وجعل ما يقترن باللفظ من القرائن مجازاً ، والمسألة تحتاج إلى بحث وتحقيق ليس هذا موضعه .
(2) . التسعينية 2/ 566 .
(3) . انظر : التدمرية صـ صـ 73 .
(4) . انظر : الدرء 1/510 ، 5/ 232 ، الردّ على البكري – ت: السهلي صـ 151 .(1/38)
"أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر ، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بيّنت المراد ، وأزالت الشبهة ، فإن الحديث الصحيح لفظه : "عبدي مرضت فلم تعدني ، فيقول : كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض ، فلو عدته لوجدتني عنده ."
فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض ، وإنما الذي مرض عبده المؤمن ..
ومثل هذا لا يُقال : ظاهره أن الله يمرض ، فيحتاج إلى تأويل ؛ لأن اللفظ إذا قُرن به ما يبيّن معناه ، كان ذلك هو ظاهره. (1) "
9 – وأما جواب المؤلف عن أثر ابن عباس رضي الله عنهما ، "الحجر الأسود يمين الله في الأرض .." فقد ساقه في عدة مواطن . (2)
ومن تقريراته المتممة للجواب السابق ، أن هذا الأثر معروف عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا يثبت رفعه بهذا اللفظ. (3)
وقال أيضا: "ومن تدبّر اللفظ المنقول تبيّن له أنه لا إشكال فيه إلاّ على من لم يتدبره ، فإنه قال : "يمين الله في الأرض" فقيّده بقوله "في الأرض" ، ولم يطلق فيقول يمين الله ، وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق .
ثم قال : " فمن صافحه وقبّله فكأنما صافح الله وقبّل يمينه " ومعلوم أن المشبّه غير المشبّه به ، وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً ، ولكن شبّه بمن يصافح الله ، فأول الحديث وآخره يبيّن أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل . (4) "
__________
(1) . الدرس 5/235 ، 236 .
(2) . انظر : التسعينية 2/ 571 ، والدرء 3/ 384 ، والرسالة العرشية (مجموع الفتاوى ) 6/ 580 ، 33/184 ، ومسألة في تأويل الآيات (جامع المسائل ) 3/ 163 ، والمجموعة العلية 1/ 75 .
(3) . انظر : الرد على البكري – ت: السهلي - صـ 387 ، ومجموع الفتاوى 6/ 397 .
(4) . مجموع الفتاوى 6 /398 .(1/39)
10- حرر المؤلف الفروق بين قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ( ص ، آية 75 ) ، { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } ( يس ، آية 71 ) (1) ، وقد بسط الفروق بين الآيتين في "الرسالة المدنية ". (2)
فكان مما قاله : "إن لفظ "اليدين" بصيغة التثنية ، لم يستعمل في النعمة ، ولا في القدرة .
لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع ، كقوله : { إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ } (العصر ، الآية 2) ولفظ الجمع في الواحد كقوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } ( آل عمران ، آية 173) ، ولفظ الجمع في الاثنين كقوله: { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ( التحريم ، آية 4 ) .
أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين ، والاثنين في الواحد فلا أصل له ؛ لأن هذه الألفاظ عدد ، وهي نصوص في معناها لا يُتجوّز بها ..
فقوله : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } لا يجوز أن يراد به القدرة ؛ لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يجوز أن يعبّر بالاثنين عن الواحد .
ولا يجوز أن يُراد به النعمة ؛ لأن نعم الله لا تحصى ، فلا يجوز أن يُعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية. (3) "
ولو فُرض أن قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } نظير آية يس ، { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } ، فليس للمعطلة أن يحتجوا بآية يس على إنكار اليد وتأويلها بالعمل ، فلا ريب أن الله عز وجل وصف نفسه بالعمل في هذه الآية ، لكن هذا الأسلوب أو الإطلاق لا يُستعمل إلا في حق من له يد .
وقد بيّنه المؤلف بقوله :
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 73 – 75 .
(2) . انظر : الرسالة المدنية صـ 44 – 61 .
(3) . الرسالة المدنية صـ 60 ، 61 ، وانظر : نقض التأسيس 3/39 – 46 .(1/40)
"إذا قالوا: بيده الملك ، أو عملته يداك ، فهما شيئان :
أحدهما : إثبات اليد .
والثاني : إضافة الملك والعمل إليها ، والثاني يقع فيه التجوّز كثيراً .
أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له يدٌ حقيقة ، ولا يقولون : يد الهوى ، ولا يد الماء.
فهب أن قوله { بيده الملك } ( الملك ، آية 1) قد عُلم منه أن المراد بقدرته ، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة. (1) "
11- قوله – في القاعدة الرابعة - : "ولا يعلم أن مسمى "القعود" و "الاستقرار" يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء" ، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقراء ، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ، ولا قاعداً ، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء ، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم . (2)"
فالمؤلف جعل لفظ الاستواء نظير لفظ القعود والاستقرار ، فإذا كان القعود والاستقرار لا ينفك عن الحاجة ، فالاستواء كذلك ، وإن كان الاستواء لا يستلزم الحاجة فكذا القعود والاستقرار ، والتفريق في ذلك تحكم .
وبيّن المؤلف – في موطن آخر – أن بعض السلف فسّروا الاستواء بالقعود (3) ، وقال أيضاً : "وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن ، فما جاءت به الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لفظ " القعود" و "الجلوس" في حق الله تعالى ، كحديث جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وغيرهما (4) أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد. (5) "
__________
(1) . الرسالة المدنية صـ 60 ، 61 .
(2) . التدمرية صـ 82 .
(3) . انظر : نقض التأسيس 1/ 435 .
(4) . انظر هذه الأحاديث في الرد على بشر المريسي للإمام الدارمي 1/417 ، والعلو للعلي العظيم ، تأليف الإمام الذهبي ، 1/ 640 ، 643 ، 660 .
(5) . شرح حديث النزول ت : الخميّس – صـ 400 .(1/41)
12 – قوله : فإن حرف "في " متعلق بما قبله وما بعده ، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه .
ولهذا يُفرق بين كون الشيء في المكان ، وكون الجسم في الحيّز ، وكون العرض في المكان ، وكون الوجه في المرآة ، وكون الكلام في الورق ، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميّز بها عن غيره. (1)
وقد جاء هذا المعنى مبسوطاً بيّناً في كتاب آخر إذ يقول – رحمه الله – :- "إن حرف "في " التي يسميها النحاة ظرفاً ، يستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع .
فإذا قيل : إن الطعم واللون والريح حالٌّ في الفاكهة ، أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم ، فهذا معنى معقول .
وإذا قيل : إن هذا حال في داره ، أو إن الماء حال في الظرف ، فهذا معنى آخر .
فإن ذلك حلول صفة في موصوفها ، وهذا حلول عين قائمة ، تسمى جسماً وجوهراً في محلها ، ومنه يقال لمكان القوم : المحلة ، ويقال : فلان حلّ بالمكان الفلاني .
وإذا قيل: الشمس والقمر في الماء ، أو في المرآة ، أو وجه فلان في المرآة ، أو كلام فلان في هذا القرطاس ، فهذا له معنى يفهمه الناس ، يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ، ورؤيت فيها ، وأنه لم يحل به ذات ذلك ..
وكذلك الكلام إذا كُتب في القرطاس ، فالناس يعلمون أن مكتوب فيه ، ومقروء فيه، ومنظور فيه. (2) "
13 – قرر المؤلف في مطلع القاعدة الخامسة أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه (3) ، وأن الوجه الذي نعلم هو معاني القرآن وما تدلّ عليه ، وساق المؤلف الآيات التي تحضّ على تدبر القرآن، وبيّن ذلك في موضع آخر قائلاً :
__________
(1) . التدمرية صـ 85 ، 86 .
(2) . الجواب الصحيح 3/ 91 ، 92 = باختصار
(3) . انظر : التدمرية صـ 89 .(1/42)
"إن الله سبحانه وتعالى قد حضّهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع ، كما قال الله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } ( ص ، آية 29 ) وقال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد ، آية 24 ) .
فإذا كان قد حضّ الكفار والمنافقين على تدبره ، علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها ، فكيف لا يكون ذلك ممكناً للمؤمنين ، وهذا يبيّن أن معانيه كانت معروفة بيّنة لهم .
وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ( يوسف ، آية 2 ) فبيّن أنه أنزله عربياً لأن يعقلوا ، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه. (1) "
14 – ذكر المؤلف أنواع التأويل الثلاثة (2) ، وهذا مبسوط في مواطن متعددة (3) ، حيث قرر أن التأويل في القرآن هو الحقيقة الموجودة في الخارج (4) ، وبيّن أن لفظ التأويل في كلام السلف لا يراد به إلا التفسير ، أو الحقيقة الموجودة في الخارج ، وأما صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه إلى معنى يخالف ذلك ، فهذا اصطلاح طائفة من متأخري الفقهاء والمتكلمين ، وليس هو عرف السلف. (5)
__________
(1) . القاعدة المراكشية (مجموع الفتاوى) 5/ 157 = باختصار .
(2) . انظر : التدمرية صـ 91 – 96 .
(3) . انظر : الدرء 1/ 206 ، الجواب الصحيح 2/ 304 ، شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/ 349 ، مقدمة في أصول التفسير (مجموع الفتاوى ) 13/278 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/ 368 ، ومسألة في تأويل الآيات (جامع المسائل ) 3/171 ، والمجموعة العلية 1/ 86 ، والمستدرك على مجموع الفتاوى 2/ 184 .
(4) . انظر : الدرء 5/382 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/368 ، ومسألة في تأويل الآيات (جامع المسائل) 3/171 .
(5) . انظر : الدرء 1/ 206 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/ 349 .
تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/ 369 .(1/43)
15 – ساق المؤلف مقالة الإمام أبي عبيد القاسم بن سلاّم – في مسألة اشتمال الصمّاء -، وبيّنها في موضع آخر قائلاً : "قال أبو عبيد : والفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة ، يقول : هم أعلم بتأويل ما أمر الله به ، وما نهى عنه ، فيعرفون أعيان الأفعال الموجودة التي أُمر بها ، وأعيان الأفعال المحظورة التي نهى عنها. (1) "
16 – قوله: "لكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته ، بخلاف تأويل الخبر . (2) "
وقد جاء مبيناً في قوله : "المعمول به لابد فيه من العلم المفصّل ، فيلزم الأمة معرفة ما يعمل به تفصيلاً ليعملوا به ، وما أخبروا به فليس عليهم معرفته ، بل عليهم الإيمان به ، وإن كان العلم به حسناً أو فرضاً على الكفاية ، فليس فرضاً على الأعيان ، بخلاف ما يعمل به ، ففرض على كل إنسان معرفة ما يلزمه من العمل مفصلاً ، وليس عليه معرفة العلميات مفصلاً .(3) "
فالشرائع المأمور بها لا يُكتفى فيها بالإيمان المجمل ، بل لابد من تفصيلها علماً وعملاً (4) .
17- حرر المؤلف مسألة أسماء الله تعالى ، وأسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك ..
وهل هي مترادفة أو متباينة ؟ فبيّن المؤلف أنها مترادفة في الذات ، ومتباينة في الصفات (5) ، وقد سماها – في موضع آخر – بالألفاظ المتكافئة ، وهي الألفاظ الواقعة بين المترادفة والمتباينة . (6)
__________
(1) . تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/ 369 .
(2) . التدمرية صـ 96 .
(3) . تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى) 17/388، = بتصرف يسير ، وانظر : 17/ 372 ، والإكليل في المتشابه والتأويل (مجموع الفتاوى ) 13/ 281 .
(4) . انظر : مجموع الفتاوى 20 / 99 .
(5) . انظر : التدمرية صـ 100 – 102 .
(6) . انظر: مجموع الفتاوى 6/ 63 ، ومقدمة في أصول التفسير (مجموع الفتاوى ) 13/ 333 .(1/44)
قال – رحمه الله –:- "والإنصاف أنها متفقة في الدلالة على الذات ، متنوعة في الدلالة على الصفات، فهي قسم آخر قد يسمى المتكافئة ، وأسماء الله الحسنى ، وأسماء رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتابه من هذا النوع . (1)"
18 – قوله : "فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية. (2)"
بيّن المؤلف ذلك في مواضع أخرى ، فقرر أن التشابه أمر نسبي ، فقد يتشابه عند هذه ما لا يتشابه عند غيره (3) ، وأن كلام السلف يدل على أن التشابه أمر إضافي نسبي . (4)
وقال أيضاً : "لم يقل أحمد ولا غيره من السلف إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها . (5) "
وقال في موطن آخر :
"وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن ، إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه ، لا لأنّ أحداً من الناس لا يعلمه ، لكن لأنه هو لم يعلمه .
فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقاً ، ولم يستثن منه شيئاً لا يتدبر ، ولا قال : لا تدبروا المتشابه ، والتدبر بدون الفهم ممتنع ، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف ، فإن الله لم يميز المتشابه بحدّ ظاهر حتى يجتنب تدبره .
وهذا أيضاً مما يحتجون به ، ويقولون المتشابه أمر نسبي إضافي ، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره . (6) "
__________
(1) . الحقيقة والمجاز (مجموع الفتاوى ) 20 / 424 ، وانظر : التسعينية 3/ 808 .
(2) . التدمرية صـ 105 .
(3) . انظر: الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13 / 144 .
(4) . انظر: تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/386 .
(5) . المرجع السابق 17 /391 .
(6) . المرجع السابق 17 /396 ، وانظر : 17/400(1/45)
19 – حكى المؤلف مقالة الإمام أحمد بن حنبل : "أكثر ما يخطيء من جهة التأويل والقياس. (1)"، وجاءت هذه المقالة في عدة مواطن من كتبه (2) ، كما بيّن معناها في غير موضع فقال :
"والمقصود أن أولئك المبتدعة من أهل الكلام لما فتحوا "باب القياس الفاسد في العقليات ، والتأويل الفاسد في السمعيات" صار ذلك دهليزاً للزنادقة الملحدين إلى ما هو أعظم من ذلك من السفسطة في العقليات ، والقرمطة في السمعيات ، وصار كل من زاد في ذلك شيئاً إلى ما هو شر منه ، حتى انتهى الأمر بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها . (3) "
وقال في موضع آخر " وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل (4) عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم ، وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل اللغة ، ولهذا كان الإمام أحمد يقول : أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس .
ولهذا نجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم ، وما تأوّلوا من اللغة ، ولهذا نجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين .. وإنما يعتمدون على العقل واللغة ، ونجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف ، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام . (5) "
__________
(1) . التدمرية صـ 107 .
(2) . انظر : تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/355 ، ومجموع الفتاوى 19/75 ، والمستدرك على مجموع الفتاوى 2/184 ، وتنبيه الرجل العاقل 1/ 213 ، وجامع المسائل 2/190 .
(3) . شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/552 .
(4) . يعني : الإيمان .
(5) . الإيمان صـ 113 ، 114 = باختصار(1/46)
20 – أشار المؤلف إلى مقالة الحلول والاتحاد ، وبيّن – في موضع آخر – الفرق بين الحلول والاتحاد، فالحلول كحلول الماء في الإناء ، والاتحاد امتزاج واختلاط كاختلاط اللبن بالماء (1) ، وتعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً .
21 – حكى المؤلف جملة مقالات لطوائف وقعت في الاشتباه ، فمنهم من جعل وجود المخلوقات هو وجود الخالق ، ومنهم من جعل لفظ الوجود مقولاً بالاشتراك اللفظي ، وطائفة أثبتوا كليات مطلقة . (2)
وبيّن – في كتبه الأخرى – أرباب المقالات السابقة (3) ، فالذين يجعلون وجود الخالق هو وجود كل شيء من الموجودات هم أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد (4) ، كما بيّن منشأ ضلال هؤلاء الملاحدة فقال :
"ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم ، أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان ، وهو الجنس اللغوي ، فيجدونه واحداً في الذهن ، فيظنون أن ذلك وحدة عينية ، ولا يميزون بين الواحد بالجنس والواحد بالعين ، وأن الجنس العام المشترك لا وجود له في الخارج ، وإنما يوجد في الأعيان المتميزة . (5) "
وأما من زعم أن لفظ "الوجود " مقول بالاشتراك اللفظي ، فقد بيّن المؤلف أن ذلك قول شاذ ، لم يقل به إلا طائفة قليلة ، منهم الشهرستاني والرازي في أحد قوليهما .
__________
(1) . انظر : حقيقة مذهب الاتحاديين (مجموع الفتاوى ) 2/ 171 ، 172 ، ونقض التأسيس 2/ 522 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 108 .
(3) . انظر : منهاج السنة 2/ 118 ، والدرء 5/ 313 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/ 330 – 332 .
(4) . انظر : اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 849 .
(5) . الدرء 4/120 .(1/47)
وأهل السنة والأشاعرة والمعتزلة وسائر المسلمين على أن لفظ الوجود من الألفاظ المتواطئة ، فالأصل في الألفاظ أن تكون متواطئة ، وأما الاشتراك اللفظي فهو خلاف الأصل . (1)
وأما القائلون بإثبات كليات مطلقة ، فقد عنى بهم المؤلف – في غير موضع – ثلاثة أصناف ، وهم : أصحاب فيثاغورس الذين يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارج الذهن ، وأتباع أفلاطون الذين يثبتون المثل الأفلاطونية ، وهي حقائق كلية – كالإنسان المطلق – يزعمون أنها موجودة في الخارج ، وكذا أرسطو وشيعته الذين أثبتوا مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته ، وأثبتوا ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج . (2)
22 – ساق المؤلف ما في لفظ "إنا" و "نحن " من الاشتباه والاحتمال ، وجاء ذلك في غير موضع (3) ، ومن تقريراته الجلية لتلك المسألة ، قوله :-
"ومعلوم أن "إنّا " و "نحن" من المتشابه ، فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه ، وإن لم يكونوا من جنسه ، ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوّع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى . (4) "
وقال في موضع آخر :-
__________
(1) . انظر : منهاج السنة 2/ 581 ، 587 ، 8/32 ، والدرء 5/179 ، 324، الجواب الصحيح 2/ 99 ، وحكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى ) 3/191 .
(2) . انظر : منهاج السنة 5/ 456، وشرح الأصبهانية 2/447 ، والرد على المنطقيين صـ 66 ، 134 ، ومختصر الرد على المنطقيين (مجموع الفتاوى ) 9/ 98 .
(3) . انظر : الجواب الصحيح 2/ 235 ، ومجموع الفتاوى 5/128 ، 13/145 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/507 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17 / 377 .
(4) . الإكليل (مجموع الفتاوى ) 13/276 .(1/48)
"وأما قوله : "نتلو" و "نقص" "فإذا قرأناه" فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم الذي له أعوان يطيعونه ، فإذا فعل أعوانه فعلاً بأمره ، قال : نحن فعلنا .. والله تعالى رب الملائكة ، وهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، وهو مع هذا خالقهم وخالق أفعالهم وهو غني عنهم ، وليس هو كالملك الذي يفعل أعوانه بقدرة يستغنون بها عنه . (1) "
23 – أشار المؤلف بإجمال إلى بطلان مذهب أهل التجهيل (المفوّضة ) ، وقد فصّله في مواطن أخرى (2) ، ومن ذلك قوله :-
"وأما التفويض ، فإن من المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبّر القرآن ، وحضّنا على عقله وفهمه ، فكيف يجوز مع ذلك أن يُراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله ؟ وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا، أنه لم يبيّن الحق ، ولا أوضحه ، مع أمره لنا أن نعتقده ، وأن ما خاطبنا به ، وأمرنا باتباعه ، والردّ إليه لم يبيّن به ولا كشفه ، بل دلّ ظاهره على الكفر والباطل ، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً ، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه ، وهذا كله مما يُعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه.. (3) "
وقال أيضاً :
"فعلى قول هؤلاء (4) يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ، ولا الملائكة ، ولا السابقون الأولون ، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن ، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه ، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه .
__________
(1) . مجموع الفتاوى 5/233 .
(2) . انظر : الحموية صـ 206 ، والدرء 5/ 378 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/413 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17 /359 .
(3) . الدرء 1/ 201 ، 202 = باختصار
(4) . يعني هؤلاء المفوضة أهل التجهيل .(1/49)
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء ، إذ كان الله أنزل القرآن ، وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس ، وأمر الرسول أن يبلّغ البلاغ المبين ، وأن يبيّن للناس ما نزل إليهم ، وأمر بتدبر القرآن وعقله ، ومع هذا فأشرف ما فيه - وهو ما أخبر الرب عن صفاته - لا يعلم أحد معناه ، فلا يعقل ولا يتدبر ، ولا يكون الرسول بيّن للناس ما نزل إليهم ..
فتبيّن أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد. (1) "
24 – تحدّث المؤلف عن تناقض أهل التجهيل ، وساقه في غير موضع ، فبيّن أن سبب اضطرابهم أن لفظ التأويل - عند جمهورهم – هو صرف الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. (2)
ومن تقريراته التي تبيّن تناقض أهل التجهيل واضطرابهم ، قوله :-
"وطائفة يقولون : هذا التأويل لا يعلمه إلا الله .
ثم من هؤلاء من يقول : تُجرى على ظواهرها ، ويتكلم في إبطال التأويلات بكل طريق .
ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالف ظاهرها ، لم يحمل على ظاهره ، وما حُمل على ظاهره لم يكن له تأويل يخالف ذلك ، فضلاً عن أن يُقال : يعلمه الله أو غيره .
بل مثل هذا التأويل يُقال فيه : كما قال تعالى : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } (يونس ، آية 18 ) . فإن ما كان منتفياً لا وجود له ، لا يعلمه ثابتاً موجوداً . (3) "
25 – قوله – في القاعدة السادسة : "وقد يُفرّق بين لفظ التشبيه والتمثيل. (4) "
__________
(1) . الدرء 1/204 .
(2) . انظر : الدرء 5/ 381 ، ومجموع الفتاوى 16 / 420 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17 /359 .
(3) . الدرء 5/381 .
(4) . التدمرية صـ 117 .(1/50)
قرر المؤلف - في كتبه الأخرى - الفرق بين التشبيه والتمثيل – خلافاً للمتكلمين الذين يجعلون التشبيه هو التمثيل - فالتمثيل جاء القرآن بنفيه ، وأما التشبيه ففيه إجمال واشتراك ، كما قال المؤلف: "لفظ "الشبه " فيه إجمال وإبهام ، فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور ، لو أنه في كونهما موجودين ، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما. (1) "
كما أن اللغة فرّقت بين التشبيه والتمثيل ، حيث قال المؤلف :-
"لفظ التشابه ليس هو التماثل في اللغة ، قال تعالى : { وأتُوا به متشابها } (البقرة، آية 25 )، وقال تعالى { متشابهاً وغير متشابه } (الأنعام ، آية 141 ) ، ولم يرد شيئاً هو مماثل في اللغة . (2)
وزاد المؤلف المسألة بسطاً وتحريراً فقال :-
"وقد تنازع الناس : هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد أو معنيين ؟ على قولين :
أحدهما : أنهما بمعنى واحد ، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقاً ومقيداً يدل عليه لفظ الشبه ، وهذا قول طائفة من النظّار .
والثاني : أن معناهما مختلف عند الإطلاق لغة وشرعاً وعقلاً ، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر ، وهذا قول أكثر الناس ، وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية ، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه ؟ وللناس في ذلك قولان ، فمن منع أن يشبه من وجه دون وجه ، قال : المثل والشبه واحد ، ومن قال : إنه يشبه الشيءُ الشيءَ من وجه دون وجه ، فرّق بينهما عند الإطلاق ، وهذا قول جمهور الناس ، فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألواناً مع أن السواد ليس مثل البياض ..
وأيضاً فمعلوم في اللغة أن يقال : هذا يشبه هذا ، إذا أشبهه من بعض الوجوه وإن كان مخالفاً له في الحقيقة .
__________
(1) . الدرء 5/183 ، وانظر : نقض التأسيس 1/ 389 ، وحكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى ) 3/166 .
(2) . الرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/113 .(1/51)
قال الله تعالى { وأتُوا به متشابهاً } ( البقرة ، آية 25 ). (1) "
26 – وأما دعوى المعتزلة أن القدم أخص أوصاف الإله (2) ، و اتهامهم أهل الإثبات بتعدد القدماء .. فقد أورد المؤلف أجوبة أخرى في الرد على دعواهم ، فقال : -
"وأما الصفات التي لا تقوم إلا به ، فإن قيل بقدمها أو وجوبها ، فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف ، وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال ، وأما ذات مجردة عن هذه الصفات – أو صفات مجردة عنها – فلا وجود لها ، فضلاً عن أن تكون واجبة بنفسها أو قديمة . (3) "
27 – قوله : " ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات : إنها قديمة ، بل يقول : الرب بصفاته قديم ، ومنهم من يقول :هو قديم وصفته قديمة ، ولا يقول هو وصفاته قديمان ، ولكن يقول : ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه. (4)"
وقد فصّل المؤلف هذا الجواب ونسب المقولات السابقة لأصحابها – في موضع آخر – أثناء ردّه على أبي الحسين البصري المعتزلي ، حيث قال : "أما الكلاّبية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه لأبي الحسن التميمي وأبي سليمان الخطابي وغيرهما ، فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة ، فلا يقولون العلم قديم ، ولكن يقولون الرب بعلمه قديم ، ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة ، فلا يقول إن الذات والصفات قديمان ، ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ "الذات " فإن الذات إذا أُطلقت يُفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات. (5)"
__________
(1) . الجواب الصحيح 2/ 233 ، وانظر : نقض التأسيس 1/477 .
(2) . انظر التدمرية صـ 117 .
(3) . الدرء 5/46 .
(4) . التدمرية صـ 118 .
(5) . الدرء 5/38 ، 39 ، وانظر : 5/ 47 .(1/52)
وقال – في موضع آخر – :- "فهذه الطريقة التي سلكها هؤلاء (1) في أنهم يقولون عن الذات قديمة ، وعن الصفات إنها قديمة ، ولا يقولون عن الذات والصفات إنهما قديمان ، لما في العطف من الإشعار بالتغاير ، وهم لا يطلقون على الصفات إنها غير الذات . (2) "
وذكر المؤلف أيضاً: أن أبا الحسن الأشعري يقول : "إن الموصوف قديم ، والصفة قديمة ، ولا يقول عند الجمع : قديمان ، وأن ابن الباقلاني والقاضي أبا يعلى يطلقون القول بإثبات القديمين ، أحدهما : الصفة ، والآخر الموصوف ، وقالا : إن كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما ، فالنبي محدث ، وصفاته محدثة ، وليس إذا كان الموصوف نبيّاً وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة ، كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة ، والموصوف بها قديماً ، أن تكون آلهة لكونها قديمة . (3) "
وبذلك يتضح تهافت دعوى المعتزلة أن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء .
28 – أورد المؤلف مقالة المعتزلة ، إن الصفات لا تقوم إلا بجسم ، والأجسام متماثلة ، وأجاب المؤلف عنها باقتضاب ، وساق – في كتبه الأخرى – ما يجلي ذلك الجواب ، حيث أبطل دعواهم أن الصفات لا تقوم إلا بجسم ، وأنها من خصائص الأجسام .
فقال : - رحمه الله – "لا ريب أن الأعراض توصف فيقال : حركة سريعة وبطيئة ، وبياض شديد وضعيف ، ومحبة قوية وضعيفة . (4) "
وقال أيضاً: "إن هذه الأمور توصف بها الأجسام والأعراض ، فيقال : جاء البرد ، وجاء الحر ، وجاءت الحمى ونحو ذلك من الأعراض ، وإذا كانت الأعراض توصف بالمجيء والإثبات ، علم أن ذلك ليس من خصائص الأجسام . (5) "
__________
(1) . يعني بعض الصفاتية أهل الإثبات .
(2) . الدرء 5/ 49 .
(3) . المرجع السابق 5/ 49 ، 50 .
(4) . شرح الأصبهانية 2/ 393 .
(5) . شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/436 ، وانظر : 5/569 .(1/53)
وأما قولهم بتماثل الأجسام ، فقرر المؤلف أنه " من أفسد الأقوال ، بل هو معلوم الفساد بالضرورة بعد التصور الصحيح . (1) "
وقد بين ذلك في غير موضع (2) ، فكان مما قال :
"أكثر العقلاء يقولون : إنها ليست متماثلة ، والقائلون بتماثلها من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية ليست لهم حجة على تماثلها أصلاً .
وقد اعترف بذلك فضلاؤهم ، حتى الآمدي في كتاب " أبكار الأفكار " اعترف بأنه لا دليل لهم على تماثل الأجسام إلا تماثل الجواهر ، ولا دليل لهم على تماثل الجواهر ، والأشعري في "الإبانة " جعل هذا القول من أقوال المعتزلة التي أبطلها. (3) "
وقال أيضاً :
"حقيقة هذا القول أن الأجسام متماثلة من كل وجه ، لا تختلف من وجه دون وجه ، بل الثلج مماثل للنار من كل وجه ، والتراب مماثل للذهب من كل وجه ، والخبز مماثل للحديد من كل وجه ..
وهذا القول فيه من مخالفة الحسّ والعقل ما يستغنى به عن بسطّ الرد على صاحبه ، بل أصل دعوى تماثل الأجسام من أفسد الأقوال. (4)"
29 – قوله : "والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناء على تماثل الأجسام ، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم ، كإطلاق الرافضة لـ "النصب " على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، بناء على من أحبّهما فقد أبغض عليّاً - رضي الله عنه - ، ومن أبغضه فهو ناصبي . (5)"
أوضح المؤلف العبارة السابقة في موطن آخر فقال :
__________
(1) . الصفدية 2/17 .
(2) . انظر : الدرء 1/115 ، 3/78 ، 4/ 169 ، 7/113 ، ونقض التأسيس 1/517 ، 532 ، والرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى) 6/112 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/245 .
الدرء 5/192 .
(3) . منهاج السنة 2/ 599 = باختصار
(4) . الدرء 5/192 .
(5) . التدمرية صـ 122 .(1/54)
"وتسمية هذا الرافضي (1) - وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات – لأهل الإثبات مشبّهة ، كتسميتهم لمن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ناصبياً بناء على اعتقادهم ، فإنهم لما اعتقدوا أنه لا ولاية لعليّ إلا بالبراء من هؤلاء ، جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبياً ، كما أنهم لما اعتقدوا أن القديمين متماثلان ، أو أن الجسمين متماثلان ، قالوا : إن مثبتة الصفات مشبهة .
فيقال لمن قال هذا : إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض عليّ وأهل البيت ، وجعل صفات الرب مثل صفات العبد ، فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة .
وإن كنت تريد بذلك أنهم يوالون الخلفاء ، يثبتون صفات الله تعالى ، فسمّ هذا بما شئت ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .
والمدح والذم إنما يتعلق بالإسماء إذا كان لها أصل في الشرع ، كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل ..
والكتاب والسنة ليس فيه لفظ " ناصبية " ولا "مشبهة " ولا " حشوية . (2)"
30 – ساق المؤلف المسالك الصحيحة في النفي (3)، وقد حكى ذلك في غير موطن (4)، فبيّن أن تنزيه الله تعالى يرجع إلى أصلين ، نفي النقص ، ونفي التمثيل .
ومن ذلك قوله : " والتنزيه يجمعه نوعان :
أحدهما : أنه منزه عن النقائص مطلقاً ، ونفس ثبوت الكمال ينافي النقص .
الثاني : أنه منزه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال . (5)"
__________
(1) . يعنى : ابن المطهر الحليّ
(2) . منهاج السنة 2/ 607 .
(3) انظر : التدمرية صـ 124 .
(4) . انظر : نقض التأسيس 1/ 57 ، ومنهاج السنة 2/ 157 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/329 ، ومجموع الفتاوى 16/363 .
(5) . شرح الأصبهانية 2/379 .(1/55)
31 – سرد المؤلف جملة من المسائل التي وقع فيها الاشتباه والاضطراب ، ومنها : هل وجود الشيء هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته ؟ (1) وقد حرر هذه المسألة في مواضع متعددة (2)، ومن تقريراته المهمة في تجلية ذلك قوله : "من قال إن الماهية غير الوجود ، وأراد بالماهية الصورة العلمية الذهنية ، وبالوجود ما يوجد في الخارج فقد أصاب ، وأما إذا عنى بالماهية والوجود جميعاً ما هو ثابت في الخارج ، أو عنى بهما جميعاً ما هو متصور في الذهن ، وقيل : إن في الذهن شيئين : ماهية و وجودها، أو في الخارج شيئان : ماهية ووجودها ، فهذا خطأ .
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه والنزاع الموجود في أن الماهية هل هي غير وجودها أم لا ؟ فمن لم يفصّل هذا التفصيل ، فإما أن يحار و يقف، كالآمدي ونحوه ، و أما أن يختلف كلامه ويتناقض ، كالرازي ونحوه ، أو يصر على الباطل إذا نصر أحد القولين ، كبعض المتكلمين والمتفلسفة. (3)"
وأشار المؤلف إلى منشأ الاشتباه في مسألة هل وجود الشيء هو عين ماهيته ؟
فقال: "وإنما نشأت الشبهة من جهة أنه غلب على أن ما يوجد في الذهن يسمى "ماهية" ، وما يوجد في الخارج يسمى "وجوداً" ؛ لأن "الماهية " مأخوذة من قولهم "ما هو ؟" .. والمستفهم إنما يطلب تصوير الشيء في نفس السائل ، وهو الثبوت الذهني ، سواءً كان ذلك المقول موجوداً في الخارج أو لم يكن، فصار بحكم الاصطلاح أكثر ما يطلق "الماهية" على ما في الذهن ، ويطلق "الوجود" على ما في الخارج ، فهذا أمر لفظي اصطلاحي . (4)"
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 128 ، 129 .
(2) . انظر : شرح الأصبهانية 1/90 ، 278 ، والصفدية 1/119 ، والدرء 1/293 ، 3/339 ، 5/ 102 ، وحقيقة مذهب الاتحاديين (مجموع الفتاوى ) 2/156 ، ومختصر الرد على المنطقيين (مجموع الفتاوى ) 9/97 .
(3) . الصفدية 2/281 ، 282 .
(4) . الردّ على المنطقيين صـ 65 = باختصار(1/56)
32 – وأما جواب المؤلف عن مسألة الأحوال هاهنا ، فقد جاء مختزلاً (1) ، لكن بسطه وبيّنه في مواضع . (2)
فقال – رحمه الله - : "من المعلوم أنه ما من موجودين إلا وبينهما قدر سيتفقان فيه ، وإن كان المعنى الكلي المشترك وجوده في الأذهان لا في الأعيان ، فلابد أن يكون بين أفراد الاسم العام الكلي نوع من المشابهة باعتبار اتفاقها في ذلك المعنى العام ..
وهي مسألة الأحوال التي اضطرب فيها كثير من الناس ، والتحقيق أنه لابد من تشابه في الخارج ، ومعنى كلي عام في الذهن من غير أن يكون في الخارج كلي، أو شيء لا موجود ولا معدوم. (3)"
وقال – في موطن آخر – "الصواب أن الأحوال كالكليات ، لها وجود في الأذهان لا في الأعيان. (4)"
33 – قرر المؤلف أن المعدوم ليس شيئاً في الخارج (5) ، وجاء هذا التقرير مبسوطاً في غير موضع. (6)
ومن ذلك قوله : "والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس في نفسه شيئاً ، وأن ثبوته و وجوده وحصوله شيء واحد ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم ، قال الله تعالى لزكريا { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } ( مريم ، آية 9) . فأخبر أنه لم يك شيئاً ..
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 131 .
(2) . انظر : الردّ على المنطقيين صـ 109 ، والدرء 7/119 ، 9/395 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى) 5/339 .
(3) . الصفدية 1/99 = باختصار
(4) . الدرء 5/35 .
(5) . انظر : التدمرية صـ 131 .
(6) . انظر : الدرء 3/339 ، ومنهاج السنة 1/376 ، والرد على المنطقيين صـ 65 ، ومجموع الفتاوى 8/9 .(1/57)
وقال تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا } ( مريم ، آية 60 ) ، ولو كان المعدوم شيئاً لكان التقدير : لا يظلمون موجودً ولا معدوماً ، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم. (1)"
وذكر المؤلف أن أول من قال إن المعدوم شيء ثابت ، هو الشحام (2) شيخ أبي علي الجبائي ، وتبعه طوائف من المعتزلة والرافضة. (3)"
34 – قرر المؤلف فساد من نفى النقائص عن الله تعالى محتجين بنفي التجسيم أو التحيّز (4)، وجاء هذا التقرير في عدة مواطن . (5)
وذكر - في التدمرية - أن هذا المسلك سبب في تسلط الملاحدة عليهم ، كما بيّنه في كتاب آخر فقال : "ومن هنا دخلت الملاحدة الباطنية على المسلمين حتى ردّوا عن الإسلام خلقاً عظيماً ، صاروا يقولون لمن نفى شيئاً عن الربّ - مثل من ينفي بعض الصفات ، أو جميعها أو الأسماء الحسنى - ألم تنف هذا لئلا يلزم التشبيه والتجسيم ؟ فيقول : بلى . فيقول : وهذا اللازم يلزمك فيما أثبته، فيحتاج أن يوافقهم على النفي شيئاً بعد شيء ، حتى ينتهي أمره إلى أن لا يعرف الله بقلبه ، ولا يذكره بلسانه ، ولا يعبده ، ولا يدعوه ، وإن كان لا يجزم بعدمه. (6)"
__________
(1) . حقيقة مذهب الاتحاديين (مجموع الفتاوى ) 2/155 .
(2) . ذكر المؤلف أن كنيته أبو عثمان ، والمثبت في طبقات المعتزلة وسير أعلام النبلاء أنه أبو يعقوب ، والشحّام من أصحاب أبي الهذيل العلاف ، وهو من رؤوس معتزلة البصرة ، وله عدة مؤلفات .
انظر : طبقات المعتزلة لأحمد المرتضى صـ 71 ، 72 ، وسير أعلام النبلاء 10/552 .
(3) . انظر : حقيقة مذهب الاتحاديين (مجموع الفتاوى ) 2/ 143 .
(4) . انظر : التدمرية صـ 132 – 135 .
(5) . انظر : الدرء 1/129 ، 4/282 ، 5/81 ، 7/111 ، ومنهاج السنة 2/564 ، ومجموع الفتاوى 5/213 .
(6) . شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/360 .(1/58)
ومن تقريراته المهمة في الردّ على هذا المسلك الفاسد ، قوله :-
"كل من بنى تنزيهه للرب عن النقائص والعيوب على نفي الجسم ، فإنه لا يمكنه أن ينزهه عن عيب أصلاً بهذه الحجة. (1)"
وقال أيضاً : "الاعتماد في تنزيه الباري على نفي الجسم طريقة مبتدعة في الشرع ، متناقضة في العقل ، فلا تصح لا شرعاً ولا عقلاً .
أما الشرع فإنه لم يرد بذلك كتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من السلف والأئمة ، بل الكلام في صفات الله بنفي الجسم أو إثباته بدعة عن السلف والأئمة ، ولو كان ذلك مما يُعتمد في الشرع لدلّ الشرع عليه ..
وأما التناقض في العقل ، فإنه ما من أحد يثبت شيئاً ، وينفي شيئاً ، لكونه مستلزماً للتجسم ، إلا أمكن النافي أن يقول له فيما أثبته نظير ما قاله له فيما نفاه. (2)"
35 – ردّ المؤلف على من اكتفى في إثبات الصفات بمجرد نفي التشبيه (3) ، وقد جاء هذا الرد مفصلاً في موطن آخر ، فكان مما قاله :
"لا يجوز الاكتفاء فيما ينزه الرب عنه على عدم ورود السمع والخبر به .. بل هذا غلط من وجهين:.
أحدهما : أن عدم الخبر هو عدم دليل معيّن ، والدليل لا ينعكس ، فلا يلزم إذا لم يخبر هو بالشيء أن يكون منتفياً في نفس الأمر ، ولله أسماء سمى بها نفسه ، واستأثر بها في علم الغيب عنده ، فكما لا يجوز الإثبات إلا بدليل ، لا يجوز النفي إلا بدليل ..
الثاني : أن أشياء لم يرد الخبر بتنزيهه عنها ، ولا بأنه منزه عنها ، لكن دلّ الخبر على اتصافه بنقائضها فعلم انتفاؤها ، فالأصل أنه منزه عن كل ما يناقض صفات كماله ، وهذا مما دلّ عليه السمع والعقل. (4)"
__________
(1) . الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/166 .
(2) . الصفدية 2/33 ، 34 = باختصار
(3) . انظر : التدمرية صـ 136 – 138 .
(4) . مجموع الفتاوى 16/430 = باختصار(1/59)
36 – ساق المؤلف طريقاً صحيحاً في الإثبات (1) ، وأورد طرقاً أخرى في كتبه الأخرى. (2)
كقوله : "ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال ، أنه لو لم يوصف بكونه حيّاً عالماً قادراً سميعاً بصيراً متكلماً ، لوصف بضد ذلك كالموت والجهل والعجز والصمم ، والبكم والخرس ، ومعلوم وجوب تقدّسه عن هذه النقائص ، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية ، فإنه أكمل الموجودات وأجلّها وأعظمها ، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه ..
بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلاً ، فضلاً عن أن يكون خالقاً لكل شيء. (3)"
وقال أيضاً :
"إثبات صفات الكمال له طرق .
- وذكر منها- : الاستدلال بالأثر على المؤثر ، كقوله تعالى : { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } ( فصلت، آية 15 ) فكل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد ، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم ..
وهذه طريقة يقرّ بها عامة العقلاء ، حتى الفلاسفة يقولون : كل كمال في المعلول فهو من العلة .
والاستدلال بطريق الأولى ، كقوله تعالى { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } (الروم ، آية 28) .
فكل كمال لا نقص فيه ، يثبت للمحدث المخلوق الممكن ، فهو للقديم الواجب الخالق أولى من جهة أنه أحق بالكمال. (4)"
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 138 ، 139 .
(2) . انظر : منهاج السنة 2/160 ، والرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/ 71 ، 77 ، 88 ، والرسالة العرشية (مجموع الفتاوى ) 6/ 538 ، ومختصر الرد على المنطقيين (مجموع الفتاوى) 9/ 145 .
(3) . الجواب الصحيح 2/110 .
(4) . مجموع الفتاوى 16/ 357 ، 358 = بتصرف(1/60)
37 – قوله : "والصمد الذي لا جوف له. (1)"
بسط المؤلف الكلام على اسم الله تعالى ، "الصمد" في غير موضع (2)، ومن تقريراته في تجلية ذلك، قوله: "ولفظ "الصمد" يدل على أنه لا جوف له ، وعلى أنه السيد ، ليس كما تقول طائفة من الناس أنّ الصمد في اللغة إنما هو السيد ، ويتعجبون مما نقل عن الصحابة والتابعين من أن "الصمد" هو الذي لا جوف له ، فإن أكثر الصحابة والتابعين فسروه بهذا ، وهم أعلم باللغة وبتفسير القرآن، ودلالة اللفظ على هذا أظهر من دلالتها على السؤدد ، وذلك أن لفظ " ص م د " يدل على الاجتماع والانضمام المنافي للتفرق والتجويف . (3) .. (4)"
38 – قرر المؤلف – في مستهل القاعدة السابعة – أن في القرآن أدلة عقلية في تقرير التوحيد والنبوة والمعاد (5) ، وقد جاء مفصلاً في غير موضع ، كقوله :
"والقرآن مملوء من طريق تعريف الله تعالى لعباده بالأدلة الواضحة المعقولة ، والأمثال المضروبة التي هي القياسات العقلية .
ونحن قد بيّنا في غير هذا الموضع أن القرآن بيّن فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الإحكام ونهاية التمام ، وأن خلاصة ما يذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض ما بيّنه القرآن والحديث ، مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف ، واشتماله على ما تقصر عنه نهاية عقولهم ، وما لا يطمعون أن يكون من مدلولهم ، وبيّنا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الأخبار ، كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة .(6)"
__________
(1) . التدمرية صـ 142 .
(2) . انظر : نقض التأسيس 1/511 ، 2/309 ، 450 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/353 ، 426 .
(3) . في أصل الكتاب: التخويف ، ولعل الصواب ما أثبته .
(4) . نقض التأسيس 2/ 59 .
(5) . انظر : التدمرية صـ 146 ، 147 .
(6) . نقض التأسيس 1/246 ، وانظر : 2/535 ، 536 ، ومجموع الفتاوى 13/137 .(1/61)
ومع أن الكثير مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً ، إلا أن المؤلف بيّن أن للعقل حدوداً لا يتجاوزها ، وهو ما يعبّر عنه السلف بقولهم : إن العقل لا مجال له في ذلك ، فهذا له وجوه معتبرة ، ذكرها المؤلف بقوله :
"من الوجوه الصحيحة إنما نطق به الكتاب وبيّنه ، أو ثبت بالسنة الصحيحة ، أو اتفق عليه السلف الصالح ، فليس لأحد أن يعارضه معقولاً ونظراً وكلاماً وبرهاناً وقياساً عقلياً أصلاً ، بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علماً كلياً عاماً .
ومن الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة ، وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله ، وذلك أن قوى العقول متفاوتة مختلفة ، وكثيراً ما يشتبه المجهول بالمعقول ، فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معيّن ولا معقوله ، وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء ، والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى ..
ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإما بخبره ، وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية ، ولهذا يقولون : لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - . (1)"
39 – قوله : "فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول ، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك . (2)"
والمراد بالطائفة هاهنا المعتزلة ، كما بيّنه المؤلف مبسوطاً أثناء حديثه عن طرق المتكلمين في دلالة المعجزة على صدق الرسول ، فذكر من طرقهم ما يلي :
"أن اظهار المعجزة على يد المتبنيء الكذاب قبيح ، والله سبحانه منزه عن فعل القبيح ، وهذه الطريق سلكها المعتزلة و غيرهم ممن يقول بالتحسين والتقبيح ، وطعن فيها من ينكر ذلك .
__________
(1) . المرجع السابق 1/247 = باختصار .
(2) . التدمرية صـ 147 .(1/62)
ثم إن المعتزلة جعلوا هذه أصل دينهم ، والتزموا لها لوازم ، وخالفوا بها نصوص الكتاب والسنة، بل وصريح العقل في مواضع كثيرة .
وحقيقة أمرهم أنهم لم يصدقوا الرسول إلا بتكذيب بعض ما جاء به ، وكأنهم قالوا : لا يمكن تصديقه في البعض إلا بتكذيبه في البعض ، لكنهم لا يقولون إنهم يكذبونه في شيء ، بل تارة يطعنون في النقل، وتارة يتأولون المنقول ، ولكن يعلم بطلان ما ذكروه إما ضرورة ، وإما نظراً .
وذلك أنهم قالوا : إن السمع مبني على صدق الرسول ، وصدقه مبني على أن الله منزه عن فعل القبيح ، فإن تأييد الكذاب بالمعجزة قبيح ، والله منزه عنه .
وقالوا أيضاً : لا يجوز أن يشاء خلاف ما أمر به ، ولا أن يخلق أفعال عباده ، ولا يقدر أن يهدي ضالاً، ولا يضل مهتدياً ؛ لأنه لا كان قادراً على ذلك ، وقد أمر به ولم يعن عليه ، لكان قبيحاً منه. (1)"
وقال أيضاً : "فإن المعتزلة يزعمون أن النبوة لا تتم إلا بقولهم في التوحيد والعدل ، فيجعلون التكذيب بالقدر من أصولهم العقلية ، وكذا نفي الصفات. (2)"
40 – قوله : "وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول ، وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه ، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام. (3)"
المقصود بالطائفة هاهنا المعتزلة المنكرون لصفات الله تعالى ، والأشاعرة المنكرون لأفعال الله تعالى ، وجاء ذلك مبيّناً مبسوطاً في مواطن من كتب المؤلف. (4)
ومن ذلك قوله : "وأصل كلامهم أنهم قالوا لا يعرف صدق الرسول حتى يعرف إثبات الصانع، ولا يعرف إثبات الصانع حتى يعرف حدوث العالم ، ولا يعلم حدوث العالم إلا بما به يعلم حدوث الأجسام .
__________
(1) . شرح الأصبهانية 2/609 – 611 = باختصار
(2) . الدرء 2/16 ، وانظر : مجموع الفتاوى 2/22 .
(3) . التدمرية صـ 148 .
(4) . انظر : شرح الأصبهانية 2/ 631 ، الدرء 5/286 ، 7/71 ، ومنهاج السنة 2/268 ، 5/94 ، وشرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) 5/540 .(1/63)
ثم استدلوا على حدوث الأجسام بطرق ..
منها : أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان ، وهذه الطريقة معروفة عن المعتزلة وغيرهم .
وآخرون قرروا ذلك بأن الجسم لا يخلو عن الأكوان ، وهي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون، والأكوان حادثة ، وهذه الطريقة المعروفة عن المعتزلة .
وآخرون قرروا ذلك بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق ، وهما حادثان، وهذه طريقة الأشعري وغيره ..
وقرر آخرون ذلك بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن واحد منها ..
وهذه هي الطريقة المشهورة عند الأشعرية ، وعليها اعتمد الآمدي. (1)"
41 – وأما مقالة إن العقل أصل السمع (2) ، فقد بيّن المؤلف معناها ، فقال : "ليس المراد بكونه أصلاً أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر ، بل هو أصل في علمنا به ؛ لكونه دليلاً على صحة الشرع. (3)"
42 – وأما دعوى المتكلمين أن دلالة القرآن خبرية مجردة ، وليست عقلية برهانية (4)، فهي دعوى فاسدة ، ناشئة عن جهل المتكلمين بحقائق القرآن ، ولذا أجاب المؤلف عن هذه الدعوى ، وقرر في غير موطن أن في القرآن أحسن البراهين العقلية وأتمّها.. (5)"
فقال – رحمه الله –:- "فإنه يبيّن الحق والصدق ، ويذكر أدلته وبراهينه ، ليس يبيّنه بمجرد الإخبار عن الأمر ، كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة ، أن دلالته سمعية خبرية ، وأنها واجبة لصدق المخبر ، بل دلالته أيضاً عقلية برهانية ، وهو مشتمل من الأدلة البراهين على أحسنها وأتمّها بأحسن بيان ، ولمن كان له فهم وعقل. (6)"
__________
(1) . شرح الأصبهانية 1/264 ، 265 = باختصار يسير .
(2) . انظر : التدمرية صـ 148 .
(3) . الدرء 5/277 ، وانظر : 1/87 .
(4) . انظر: التدمرية صـ 148 .
(5) . انظر : الدرء 7/361 ، ونقض التأسيس 1/ 247 ، والفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/ 137 ، 469 .
(6) . ومجموع الفتاوى 14/ 437 .(1/64)
43 – قوله : "فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة . (1)"
بسط المؤلف هذه المسألة في عدة مواضع . (2)
فقال – رحمه الله -: "قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن النبوة تعلم بطرق كثيرة ، وذكرنا طرقاً متعددة في معرفة النبي الصادق والمتنبيئ الكذاب ، غير طريق المعجزات .
فإن الناس كلما قويت حاجتهم إلى معرفة الشيء ، يسّر الله أسبابه ، كما ييسر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد .
فلما كانت حاجتهم إلى النَفَس والهواء أعظم منها إلى الماء ، كان مبذولاً لكل أحد في كل وقت ، ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت ، كان وجود الماء أكثر ..
فلما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم، كانت آياته ودلائل ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها ..
ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسول بعد ذلك ، أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك ، أقام الله سبحانه من دلائل صدقهم ، وشواهد نبوتهم ، وحسن حال من اتبعهم ، ونجاته وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح ، وقبح حال من خالفهم وشقاوته وجهله وظلمه ، ما يظهر لمن تدبر ذلك ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.. (3)"
44 - اختزل المؤلفُ الحديثَ عن الطرق العقلية في إثبات الرؤية (4)، وقد بسطها في غير موضع (5)، وأسند الأقوال إلى أربابها ، فالقائل بأن كل موجود تصح رؤيته هو أبو الحسن الأشعري ومن اتبعه، والقائل أن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته هو ابن كلاّب وغيره ..
وساق المؤلف أصح دليل عقلي في إثبات الرؤية ، فقال:-
__________
(1) . التدمرية صـ 149 .
(2) . انظر : الدرء 9/66 ، 10/129 ، وشرح الأصبهانية 2/500 .
(3) . الجواب الصحيح 3/273 .
(4) . التدمرية صـ 150 .
(5) . انظر : نقض التأسيس 2/349 ، 354 ، والرد على المنطقيين صـ 238 ، ومنهاج السنة 2/330 ، والدرء 1/251، والرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/136 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/340 .(1/65)
"معلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم ، ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي .. وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود ، إذ وجوده هو الوجود الواجب ، ووجود كل ما سواه هو من وجوده ..
وحينئذ فيكون الله – وله المثل الأعلى – أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده.. (1)"
الفصل الخامس : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من أصل الشرع والقدر
1 – قوله : "وعبادته تتضمن كمال الذّل له والحب له . (2)"
قرر المؤلف هذه المعنى في غير موضع . (3)
فقال – في تعريف العبادة – "وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته ، وكمال الذل لله ونهايته ، فالحب الخلي عن ذل ، والذل الخلي عن حبّ لا يكون عبادة ، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين. (4)"
2 – ساق المؤلف حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد ، والأنبياء إخوة لعلات " ..
قد بيّن المؤلف معنى الحديث في موطن آخر فقال :
"فتبيّن أن دين الأنبياء واحد ، وأنهم إخوة للعلاّت ، وهم الذين أبوهم واحد ، وأمهاتهم شتى ، فإن كان بالعكس قيل : أولاد أخياف ، وإن اشتركوا في الأمرين قبل : أولاد أعيان ..
وهذا لأن الدين هو الأصل ، فشُبِّه بالأب ، والشرعة والمنهاج تبع ، فشبه بالأم ، فقال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } ( المائدة ، آية 48 ) . (5)"
__________
(1) . انظر: نقض التأسيس 1/358 .
(2) . التدمرية صـ 166 .
(3) . انظر : منهاج السنة 3/290 ، والجواب الصحيح 4/109 ، وقاعدة في المحبة (جامع الرسائل ) 2/219 ، 284 ، ومجموع الفتاوى 15/ 162 .
(4) . التحفة العراقية (مجموع الفتاوى ) 10/19 .
(5) . مختصر الفتاوى المصرية صـ 509 .(1/66)
3 – قرر المؤلف أن جميع الأنبياء على دين الإسلام (1)، وجاء هذا التقرير في مواطن متعددة. (2)
فقال – في شأن هذا الإسلام – "وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء ، والإسلام العام والإيمان العام ، وبه أنزلت السور المكية ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ( الشورى ،آية 13 ) ، بقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } ( النحل ، آية 36 ) ، ولهذا ترجم البخاري عليه : "باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد. (3)"
4 – قوله : "فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده ، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً ، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته. (4)"
__________
(1) . انظر: التدمرية صـ 168 .
(2) . انظر : الردّ على المنطقيين صـ 290 ، منهاج السنة 1/ 319 ، 5/265 ، والجواب الصحيح 1/11، وقاعدة عظيمة صـ 20 ، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (مجموع الفتاوى ) 11/220 ، فصل في أن دين الأنبياء واحد (جامع الرسائل ) 1/281 .
(3) . رسالة إلى نصر المنبجي (مجموع الفتاوى ) 2/460 .
(4) . التدمرية صـ 169 .(1/67)
جاء هذا المعنى في عدة مواطن من كتبه (1)، ومن ذلك أنه مثّل حال من استسلم لله ولغيره بالنصارى ، ومثّل حال المستكبرين عن عبادة الله تعالى باليهود (2)، وقرر أن التكبر عن عبادة الله تعالى شر من الشرك.. (3)
ومن تقريراته الجلية لهذه المسألة ، قوله : "الإسلام أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا لغيره ، فمن استسلم له ولغيره فجعل له نداً فهو مشرك ، قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } ( البقرة ، آية 165 ) ، ومن استكبر عن عبادة الله فلم يستسلم له فهو معطّل لعبادته ، وهو شر من المشركين كفرعون وغيره ، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (غافر ، آية 60 ) .
والإسلام إنما يكون بأن تعبد الله وحده لا شريك له ، وإنما يُعبد بما أمر به ، فكل ما أمر به فهو حين أمر به من دين الإسلام ، وحين نهى عنه لم يبق من دين الإسلام . (4)"
5 – قوله : "فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة . (5)"
__________
(1) . انظر : الاستقامة 2/302 ، واقتضاء الصراط المستقيم 2/836 ، ونقض التأسيس 2/309 ، مجموع الفتاوى 5/239 ، والتحفة العراقية (مجموع الفتاوى ) 10/14 ، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (مجموع الفتاوى ) 11/219 ، ومجموع الفتاوى 18/331 ، معارج الوصول (مجموع الفتاوى ) 19/180 ، ورسالة في التوبة (جامع الرسائل ) 1/233 ، وقاعدة في الإخلاص (المجموعة العلية ) 2/ 76 .
(2) . انظر : اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 837 .
(3) . انظر : المستدرك على مجموع الفتاوى 1/ 16 .
(4) . الصفدية 2/ 314 .
(5) . التدمرية صـ 169 .(1/68)
قرر المؤلف هذه المسألة في كثير من كتبه (1) ومن تقريراته المهمة في ذلك : أن الرسل متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة مثل الصدق ، وتحريم الفواحش .. وأن المنسوخ الذي تنوعت فيه الشرائع قليل بالنسبة إلى المتفق عليه ..
فقال – رحمه الله –:- "قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } ( الآيات ، المائدة ، آية 48 – 56 ) .
فقد أمر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بما أنزل الله إليه ، وحذّره اتباع أهوائهم ، وبيّن أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية .. وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجاً ، وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن .. والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل ، وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة ، وإن تنوّعوا في الشريعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ ، فهو شبيه بتنوع حال الكتاب. (2)"
وقال في موضع آخر : "وأما الأصول الجامعة ، كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبر الوالدين ، والصدق ، والعدل ، وتحريم الأجناس الأربعة وهي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والإثم والبغي بغير الحق ، والإشراك بالله ، وأن يقال عليه غير الحق..
__________
(1) . انظر : الجواب الصحيح 1/ 376 ، 4/33 ، ونظرية العقد صـ 8 ، والردّ على المنطقيين صـ 392 ، واقتضاء الصراط المستقيم 2/ 839 ، وقاعدة عظيمة صـ 19 ، ومنهاج السنة 5/ 266 ، والنبوات 1/ 417 ، وقاعدة في توحّد الملة وتعدد الشرائع (مجموع الفتاوى ) 19 / 106 – 128 .
(2) . الجواب الصحيح 1/ 375 ، 376 = باختصار(1/69)
وقد تنازع الناس في مثل هذه ، هل يمكن نسخه وتنوع الشرائع فيه ؟
وجمهور الناس من السلف والخلف لا يجوّزون دخول النسخ في هذا، ولا تنوع الشرائع فيه. (1)"
وقال في موضع ثالث : "والمنسوخ الذي تنوعت فيه الشرائع قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والرسل . (2)"
6 – قوله : "فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عبادة من حج البيت. (3)"
بيّن المؤلف – في موضع آخر – أن الاقرار على وجهين ، وذكرهما قائلاً : "أحدهما : الإخبار ، والثاني: إنشاء الالتزام ، كما في قوله تعالى : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا } (آل عمران ، آية 81 ) ، فليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد ، فإنه سبحانه قال : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ } الآية ، فهذا الالتزام للإيمان، والنصر للرسول، فيه إخبار وإنشاء والتزام . (4)"
كما بيّن أن الإسلام الذي في القلب لا يتحقق إلا بالأعمال الظاهرة .
فقال رحمه الله – :- "لما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - وختم به الرسل ، كان الإسلام لله لا يتم إلا بالدخول فيما جاء به من الشرع والمناهج والمناسك ، وهو الإسلام الخالص ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : "بني الإسلام على خمس" : الحديث .
فإن الإسلام الذي في القلب لا يتم إلا بعمل الجوارح ، فكُنَّ مباني له يبنى عليها ، فالمباني الظاهرة تحمل الإسلام الذي في القلب كما تحمل الجسد الروح. (5)"
__________
(1) . المرجع السابق 4/ 322 = باختصار
(2) . المرجع السابق 3/260 .
(3) . التدمرية صـ 172 .
(4) . الإيمان الأوسط (مجموع الفتاوى ) 7/530 ، 531 = باختصار
(5) . قاعدة في الإخلاص (المجموعة العلية ) 2/77 .(1/70)
7 – قوله : "وقد بيّن في كتابه الشرك بالملائكة ، والشرك بالأنبياء ، والشرك بالكواكب ، والشرك بالأصنام ، وأصل الشرك الشرك بالشيطان . (1)"
قرر المؤلف في موطن آخر أن أكثر الشرك في بني آدم من أصلين :-
أحدهما : تعظيم قبور الصالحين ، وهو شرك قوم نوح .
والآخر : عبادة الكواكب . (2)
وأما قوله : "وأصل الشرك الشرك بالشيطان" ، فلعل مقصوده : الشرك بطاعته واتباعه ، فهوالذي زيّن للناس عبادة الملائكة والكواكب ونحوها ..
وكما قال : "فأصل الشر عبادة النفس والشيطان ، وجعلها شريكان للرب وأن يعدلا له ، ونفس الإنسان تفعل الشر بأمر الشيطان .
-إلى أن قال – وأما الشرك بالشيطان فهو كثير. (3)"
8 – تحدّث المؤلف عن إقرار عامة الناس بتوحيد الربوبية (4)، وساق ذلك في غير موضع. (5)
ونبّه المؤلف إلى أن الإقرار بالصانع وإن كان فطرياً وضرورياً ، إلا أنه قد يعرض لبعض الناس ما يناقض هذا الاقرار ، فينكر الصانع كما وقع من فرعون والنمرود، فيحتاج إلى نظر واستدلال يحصل به الإقرار والمعرفة كما بسطه المؤلف في موضعه . (6)
وأما قوله : "فقد تبيّن أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك" ، فقد جاء ما يزيده بياناً ، حيث قال :
__________
(1) . التدمرية صـ 175 .
(2) . انظر : الردّ على المنطقيين صـ 285 ، 286 ، وقاعدة عظيمة صـ 42 ، وقاعدة جليلة في التوسل (مجموع الفتاوى) 1/357 .
(3) . مجموع الفتاوى 14 / 362 ، 363 = باختصار
(4) . انظر : التدمرية صـ 176 – 181 .
(5) . انظر: الدرء 1/266 ، 9/ 344، التسعينية 3/799 ، شرح الأصبهانية 1/98، منهاج السنة 2/ 270 ، الجواب الصحيح 2/101 ، مجموع الفتاوى 1/ 47 ، 2/6 ، 76 .
(6) . انظر : الدرء 7/ 403 ، 404 ، والصفدية 2/ 231 ، ومنهاج السنة 3/295 ، ومجموع الفتاوى 16/ 328 ، وفصل في أن التوحيد كل خير (المجموعة العلية) 2/ 191 .(1/71)
"لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس والعقلية على توحيد الربوبية ، وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم ، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله ، كنزاع المجوس والثنوية والطبيعية والقدرية ، وأمثالهم من ضلال المتفلسفة ، والمعتزلة ، ومن يدخل فيهم ، وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب.. (1)"
فعامة الخلائق مقرون بالربوبية في الجملة ، وإن كان بعضهم يقع في شرك في تفاصيل الربوبية ، مع اعترافهم بأصل الربوبية لله تعالى .
9 – أشار المؤلف إلى دليل التمانع الذي يحتج به المتكلمون في تقرير توحيد الأفعال ، وبيّن المؤلف – في موضع آخر – أن المقصود بالتمانع هاهنا أي امتناع صدور العالم عن اثنين ، وقرر أنه برهان عقلي صحيح. (2)
وساق المؤلف دليل التمانع على النحو الآتي :
"إذا قُدر ربّان متماثلان ، فإنه يجوز اختلافهما ، فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الآخر ، وحينئذ إما أن يحصل مراد ، أحدهما ، أو كلاهما ، أو لا يحصل مراد واحد منها ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فيلزم انتفاء الملزوم .
أما الأول : فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين ، وأن يكون الشيء الواحد حيّاً ميتاً ، ومتحركاً ساكناً ، إذا أراد أحدهما أحد الضدين ، وأراد الآخر الضد الآخر ..
وأما الثاني : فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما ، لزم عجز كل منهما ، وذلك يناقض الربوبية .
وأيضاً فإذا كان المحل لا يخلو عن أحدهما ، لزم ارتفاع القسمين المتقابلين ، كالحركة والسكون ..
وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر ، كان النافذ مراده هو الرب القادر ، والآخر عاجزاً ليس برب، فلا يكونان متماثلين . (3)"
__________
(1) . مجموع الفتاوى 2/ 37 ، 38 ، وانظر : الدرء 9/ 345 .
(2) . انظر: الدرء 9/354 .
(3) . الدرء 9/355 = باختصار(1/72)
10 – ساق المؤلف أنواع التوحيد الثلاثة عن المتكلمين ، ومعنى التوحيد عند الصوفية ، ثم بيّن غلطهم (1)، وجاء ذلك في عدة مواطن .. (2)
ومقصوده بطلان تفسير الإلهية بالقدرة على الاختراع ، وإنما معنى الإله هو المستحق للعبادة ، حيث قال المؤلف – رحمه الله – "إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده ، فلا يُدعى إلا هو ، ولا يُخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، لا يكون الدين إلا له ، ولا لأحد من الخلق ، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم ؟ (3)"
وساق المؤلف – في موضع آخر – تقريراً نفيساً لهذه المسألة ، فبيّن بطلان قول المتكلمين في تفسير الإلهية ، ما يؤول إليه قولهم من الشرك والضلال ، فقال – رحمه الله -:
"والإله هو المستحق للعبادة ، فأما من اعتقد في الله أنه رب كل شيء وخالقه ، وهو مع هذا يعبد غيره ، فإنه مشرك بربه متخذ من دونه إلها آخر ، ليست الإلهية هي الخلق ، أو القدرة على الخلق ، أو القدم (4)
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 179 – 187 .
(2) . انظر : التسعينية 3/ 780 ، 791 ، 796 ، والدرء 1/225 ، 9/345، واقتضاء الصراط المستقيم 2/844 ، 847، الصفدية 2/ 229 ، ونقض التأسيس 1/ 478 ، 2/ 49 ، وقاعدة في المحبة (جامع الرسائل) 2/200 ، والرسالة الأكملية (مجموع الفتاوى ) 6/112 ، والفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/203 ، وتفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى ) 17/449 .
(3) . منهاج السنة 3/ 490 .
(4) . جعل الأشاعرة القدرة على الاختراع أخص وصف للإله ، كما أن القدم أخص وصف للإله عند المعتزلة .
انظر : الدرء 10/ 279 ، والسبعينية (بغية المرتاد ) صـ 427 .(1/73)
، كما يفسّرها هؤلاء المبتدعون في التوحيد من أهل الكلام ، إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم ، لم يكونوا يشكون في أن الله خالق كل شيء وربّه ، فلو كان هذا هو إلهية لكانوا قائلين : إنه لا إله إلا هو .
فهذا موضع عظيم جداً ينبغي معرفته ، لما قد لبّس على طوائف من الناس أصل الإسلام ، حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركاً ، وأدخلوا في التوحيد والإسلام أموراً باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه ، وأخرجوا من الإسلام والتوحيد وأموراً عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله ، فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك ، دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك ، بل التوحيد الذي لابد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد ، وهو توحيد العبادة . (1)"
11- قوله : "فأما من أنكر الصانع فذلك جاحد معطل للصانع ، كالقول الذي أظهره فرعون ، والكلام الآن مع المشركين بالله المقرين بوجوده. (2)"
قرر المؤلف أن عامة الخلائق يقرون بربوبية الله تعالى ، فلا يعكر على ذلك حال فرعون ؛ لأن الكلام هاهنا مع المشركين بالله المقرين بوجوده ، وفرعون ليس داخلاً في هؤلاء ؛ لأنه أظهر إنكار الصانع .
وقول المؤلف : "كالقول الذي أظهره فرعون" بيّن المؤلف في غير موطن أن فرعون أظهر إنكار الصانع بلسانه مع اعترافه بقلبه (3)، ولذا خاطبه موسى عليه السلام خطاب من يعرف أنه حق ، كقول موسى لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } (الإسراء ، آية 102 ) .
__________
(1) . التسعينية 3/ 800 ، 801 .
(2) . التدمرية صـ 181 .
(3) . انظر : منهاج السنة 2/270 ، والدرء 7/404 ، ونقض التأسيس 1/524 ، ومجموع الفتاوى 6/ 256 ، 16/334.(1/74)
وقرر المؤلف – في موطن آخر – أن فرعون مشرك ، واستدلّ بقوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } ( الأعراف ، آية 127 ). (1)
12 – أشار المؤلف إلى آراء الجهم بن صفوان في الصفات والقدر والإيمان .
وقد بيّنه في موضع آخر فقال : "والمقصود أن جهماً اشتهر عن بدعتان :
إحداهما : نفي الصفات ، والثانية : الغلو في القدر والارجاء ، فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب ، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة ، وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما. (2)"
13 – أشار المؤلف إلى آراء النجارية والضرارية في الصفات والقدر والإيمان ، وبيّن في موطن آخر أنهم يقرون بالقدر ، ولكنهم في الصفات بين المعتزلة والأشعرية . (3)
وقال – رحمه الله -:- "ضرار بن عمرو من المثبتين للقدر ، لكنه من نفاة الصفات ، وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية . (4)"
وقرر المؤلف أن قول ضرار في القدر أقرب إلى قول أهل السنة ، وأعدل من قول الأشعري ، حيث جعل العبد فاعلاً حقيقة ، وأثبت استطاعتين. (5) (6)
وبيّن أن النجارية والضرارية يخالفون المعتزلة في القدر ، والأسماء والأحكام وإنفاذ الوعيد. (7)
__________
(1) . انظر : العبودية (مجموع الفتاوى ) 10/197 .
(2) . مجموع الفتاوى 8/229 .
(3) . انظر: شرح الأصبهانية 2/416
(4) . الدرء 7/246 ، وانظر : 7/278 .
(5) . الاستطاعتان : هما استطاعة قبل الفعل ، وهي الاستطاعة الشرعية مناط التكليف ، واستطاعة مع الفعل ، وهي الاستطاعة الكونية بمعنى التوفيق ..
انظر : مجموع الفتاوى 8/ 371 – 377 ، وشرح العقيدة الطحاوية 2/633 – 639 .
(6) . انظر : الدرء 7/247 ، 248 .
(7) . انظر : الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/99 .(1/75)
14 – قوله : "وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخف ، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة. (1)"
قرر المؤلف هذه المسألة في غير موطن . (2)
ومن تقريراته التي تزيد ذلك وضوحاً ، قوله : "كلما كانت البدعة أشد تأخر ظهورها ، وكلما كانت أخف كانت إلى الحدوث أقرب، فلهذا حدث أولاً بدعة الخوارج والشيعة ، وثم بدعة القدرية والمرجئة ، وكان آخر ما حدث بدعة الجهمية . (3) "
15 – قوله : "ومن تحقيق التوحيد أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقاً لا يشركه فيه مخلوق. (4)"
هذا التحرير جاء في غير موطن . (5)
ومن ذلك قوله : "وقد بيّن الله على لسانه (6) ما يستحقه الله من الحقوق التي لا تصلح إلا لله ، وما يستحقه الرسول من الحقوق ، فقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } ( الفتح ، آية 8 ، 9) ، فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول ، والتسبيح بكرة وأصيلاً ، لله وحده ، قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } ( النور ، آية 52 ) ، فجعل الطاعة لله والرسول ، والخشية والتقوى لله وحده ..
__________
(1) . التدمرية صـ 194 .
(2) . انظر : الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/225 ، ومجموع الفتاوى 28 / 489 .
(3) . شرح الأصبهانية 2/589 .
(4) . التدمرية صـ 199 .
(5) . انظر : اقتضاء الصراط المستقيم 2/826 ، والسبعينية (بغية المرتاد ) صـ 504 ، 506 ، وقاعدة جليلة في التوسل (مجموع الفتاوى ) 1/181 ، 293 ، 306 ، والعبودية (مجموع الفتاوى ) 10/ 154 .
(6) . يعني على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما دلّ عليه سياق الكلام .(1/76)
وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } ( التوبة ، آية 59 ) ، فجعل الإيتاء لله والرسول ؛ لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله ..
وقال تعالى : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } ولم يقل : ورسوله ؛ لأن الله وحده كاف عبده ، كما قال الله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } ( الزمر ، آية 36 ) ، ثم دعاهم إلى أن يقولوا { سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } ( التوبة ، آية 59 ) فذكر أن ذلك من فضل الله وحده ، لم يقل : من فضله وفضل رسوله ، ثم ذكر قولهم : { إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } ( التوبة ، آية 59 ) ولم يقل : ورسوله ، كما قال في الآية الأخرى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ .وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } (الشرح، آية 7 ، 8 ) . (1)"
16 – بيّن المؤلف أن معنى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله وحده ، وغلّط المؤلف من ظن أن الله والمؤمنين حسبك . (2)
وجاء هذا التقرير في غير موضع (3) ، وبين أن مقالة : إن الله والمؤمنين حسبك تستلزم الكفر ، فقال رحمه الله :-
"قوله تعالى { حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ( الأنفال ، آية 64 ) ، معناه : أن الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين ، فهو وحده كافيك ، وكافي من معك من المؤمنين ..
__________
(1) . منهاج السنة 2/ 445- 447 = باختصار
(2) . انظر : التدمرية صـ 201 .
(3) . انظر : قاعدة جليلة في التوسل (مجموع الفتاوى ) 1/ 306 ، والعبودية (مجموع الفتاوى ) 10 / 154، وجامع المسائل 4/298 .(1/77)
وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية : أن الله والمؤمنين حسبك ، ويكون "من اتبعك " رفعاً عطفاً على الله ، وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر ؛ فإن الله وحده حسب جميع الخلق ..
كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ( آل عمران ، آية 173 ) ، أي : الله وحده كافينا كلنا .
والتحسّب هو التوكل على الله وحده ، فلهذا أمروا أن يقولوا : حسبنا الله ، ولا يقولوا : ورسوله . فإذا لم يجز أن يكون الله ورسوله حسب المؤمنين ، كيف يكون المؤمنون مع الله حسباً لرسوله ؟
وأيضاً فالمؤمنون محتاجون إلى الله ، كحاجة الرسول إلى الله ، فلابد لهم من حسبهم ، ولا يجوز أن يكون معونتهم وقوتهم من الرسول ، وقوة الرسول منهم ؛ فإن هذا يستلزم الدور ، بل قوتهم من الله ، وقوة الرسول من الله ، فالله وحده يخلق قوتهم ، والله وحده يخلق قوة الرسول. (1)"
17 – قرر المؤلف شرك من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ، ويتخذهم شفعاء من دون الله تعالى. (2)
وأورد هذا المعنى في غير موطن . (3)
ومن تقريراته المهمة في هذه المسألة ، قوله :-
"الشفاعة سببها توحيد الله ، وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له ، فكل من كان أعظم إخلاصاً ، كان أحق بالشفاعة ، كما أنه أحق بسائر أنواع الرحمة ، فإن الشفاعة : من الله مبدؤها ، وعلى الله تمامها ، فلا يشفع أحد إلا بإذنه ، وهو الذي يأذن للشافع ، وهو الذي يقبل شفاعته في المشفوع له.
__________
(1) . منهاج السنة 7/ 201 – 205 = باختصار
(2) . انظر : التدمرية صـ 196 ، 197 .
(3) . انظر : الإيمان صـ 74 ، ومنهاج السنة 3/330 ، والردّ على المنطقيين صـ 306 ، 526 ، 528 ، والصفدية 1/209 ، وقاعدة جليلة (مجموع الفتاوى ) 1/295 ، وفتوى في الغوث والقطب (جامع المسائل ) 2/78 .(1/78)
وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التي بها يرحم الله من يرحم من عباده ، وأحقّ الناس برحمته هم أهل التوحيد والإخلاص له . (1)"
قال أيضاً : "لم يسن أحد من الأنبياء للخلق أن يطلبوا من الصالحين الموتى ، والغائبين ، والملائكة ، دعاء ، ولا شفاعة ، بل هو أصل الشرك ، فإن المشركين إنما اتخذوهم شفعاء ، قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } ( يونس ، آية 18 ) .
فهذه الشفاعة التي كان المشركون يثبتونها أبطلها القرآن في غير موضع ، وهي كشفاعة المخلوق عن المخلوق بغير إذنه ، فإن هذا الشافع شريك للمشفوع إليه ، فإنه طلب منه ما لم يكن يريد أن يفعله، فيحتاج لقضاء حق من الشفيع أن يفعله ، فالشفيع بغير إذن المشفوع إليه شريك له ، والله تعالى لا شريك له ، ولهذا قال : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } البقرة ، آية 255 ) ، فلو شفع أحد بغير إذنه شفاعة نافعة مقبولة كان شريكاً له ، وهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. (2)"
18 – تحدّث المؤلف عن حقوق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (3) وبسطه في عدة مواطن . (4)
__________
(1) . مجموع الفتاوى 14/414 .
(2) . قاعدة عظيمة صـ 121 ، 122 = باختصار
(3) . انظر : التدمرية صـ 206 ، 207 .
(4) . انظر : الصارم المسلول 2/394 ، 3/801 ، واقتضاء الصراط المستقيم 2/835 ، والسبعينية صـ 495 ، 507 .(1/79)
وبيّن المؤلف – في غير موطن – التلازم بين أصليّ : التوحيد والاتباع (1) ، فقال: "قد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } (الأحزاب ، آية 45 ، 46) ، فأخبر أنه أرسله داعياً إليه بإذنه ، فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ، ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع ، والشرك بدعة ، والمبتدع يؤول إلى الشرك ، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك ، كما قال تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (التوبة ، آية 31 ) .
وكان من إشراكهم بهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم. (2)"
وقال – في موضع آخر –: "وقد بيّنا في غير موضع من القواعد وغيرها أن كل من لم يشهد برسالة المرسلين ، فإنه لا يكون إلا مشركاً يجعل مع الله إلهاً آخر ، وأن التوحيد والنبوة متلازمان ، وكل من ذكر الله عنه في كتابه أنه مشرك فهو مكذِّب للرسل ، ومن أخبر عنه أنه مكذِّب للرسل فإنه مشرك، ولا تتم الشهادة لله بالإلهية إلا بالشهادة لعبده بالرسالة. (3)"
__________
(1) . انظر : الصارم المسلول 2/ 86 ، 87 ، والردّ على البكري - ت: السهلي - صـ 268 ، ومجموع الفتاوى 18/55 ، وجامع المسائل 4/296 ، 299 .
(2) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/835 .
(3) . الاستقامة 2/20 .(1/80)
19 – حكى المؤلف أقوال الخائضين في القدر (1) ، وقد أوردها مبسوطة في مواضع كثيرة من مؤلفاته .. (2)
فقرر – في موضع – أصل ضلال القدرية والجبرية ، حيث قال : "وأصل ضلالهم ظنهم أن القدر يناقض الشرع ، فصاروا حزبين ، حزباً يعظمون الشرع والأمر والنهي والوعد والوعيد ، ويكذبون بالقدر وينفونه ، أو ينفون بعضه .
وحزباً يغلّب القدر فينفي الشرع في الباطن ، أو ينفي حقيقته ، ويقول : لا فرق بين ما أمر الله به ، وما نهى عنه في نفس الأمر ، الجميع سواء، وكذلك أولياؤه و أعداؤه ؛ فهؤلاء نفوا حكمته وعدله (3) ، وأولئك نفوا قدرته ومشيئته. (4) (5)"
فعقول الفريقين لم تستوعب الإيمان بالقدر والشرع جميعاً ، فظنوا أنه لا يمكن الإيمان بالقدر والشرع معاً ، وتوهموا أن القدر يعارض الشرع ، فأقرت القدرية بالشرع وأنكرت القدر ، وأما الجبرية فأقرت بالقدر وعطّلت الشرع ..
20 – أشار المؤلف إلى مقالة الجبرية المشركية ، والذين قال الله تعالى فيهم: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } (الأنعام ، آية 148 ).
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 207 ، 208 .
(2) . انظر : منهاج السنة 3/55 ، 77 ، والحجج العقلية (مجموع الفتاوى ) 2/302 ، 324 ، ومجموع الفتاوى 8/107 ، 228 ، 340 ، 429 ، 450 ، 457 ، 460 ، 521 ، ومسألة في الفقر والتصوف (مجموع الفتاوى ) 11/29 .
(3) . يعني الجبرية .
(4) . يعني القدرية النفاة .
(5) . الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى ) 13/ 211 – 213 = باختصار ، وانظر : قاعدة شريفة في الرضا الشرعي (جامع المسائل ) 3/213 .(1/81)
وتحدث – في موطن آخر- عن فساد مذهبهم من خلال الآية السابقة ، فقال : "لما قال المشركون : "لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء " قال الله تعالى: { هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ . قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (الأنعام ، آية 148 ، 149 ) ، فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة.
فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله ، أو فجر بامرأته ، فنهاه الناس عن ذلك ، فقال : لو شاء الله لم أفعل هذا ، لم يقبلوا منه هذه الحجة ، ولا هو يقبلها من غيره ، وإنما يحتج بها المحتج دفعاً للوم بلا وجه، فقال الله لهم : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله ، وأنه ينبغي فعله ..
فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدّره ، فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون عمدة لأحد في الفعل ، ولا حجة لأحد على أحد ، إذ الناس كلهم مشتركون في القدر ، فلو كان هذا حجة وعمدة ، لم يحصل فرق بين العادل والظالم ، والبر والفاجر ، ولم يكن فرق بين ما يُصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم .
وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده والإيمان به ، لو احتج به بعضهم على بعض في إسقاط حقوقه ، ومخالفه أمره لم يقبله منه ، بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضاً ، على فعل ما يرونه شركاً لحقهم أو ظلماً. (1)"
__________
(1) . منهاج السنة 3/ 56 ، 57 = باختصار(1/82)
21 – قرر المؤلف أن أهل السنة يثبتون الأسباب خلافاً لمن أنكرها ، لكنهم لا يجعلونها مبدعة أو مستقلة في حصول المطلوب (1)، "فكل سبب له شريك ، وله ضد ، فإن لم يعاونه شريكه ، ولم يصرف عنه ضده ، لم يحصل مسببه. (2)"
وتحدث المؤلف كثيراً عن وسطية أهل السنة في الأسباب ، والرد على من غلا فيها، أو من جحدها. (3)
ومن تقريراته الجلية لهذه المسألة ، قوله :-
"إن جمهور المسلمين يثبتون ما لله في خلقه و أمره من الأسباب والحكم ، وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد ، لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم ، بل يقولون إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ، وأنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا حول ولا قوة إلا به ، ويعلمون أن الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته ، ولا تزال مفتقرة إلى الله ، لا يقولون إنها معلولة له أو متولدة عنه كما يقوله الفلاسفة ..
ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء ، بل لابد له من أسباب آخر تعاونه وتشاركه ، وهو مع ذلك له معارضات و موانع تعارضه وتدافعه. (4)"
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 210 – 212 .
(2) . مجموع الفتاوى 8/167 .
(3) . انظر : الصفدية 1/ 158 ، 216 ، والدرء 9/29 ، 338 – 340 ، ومنهاج السنة 1/400 ، وشرح الأصبهانية 2/ 400 – 407 ، والسبعينية (بغية المرتاد ) صـ 262 ، ومجموع الفتاوى 2/ 35 ، 20/181 .
(4) . الصفدية 1/154 ، 155 = باختصار(1/83)
22 – قرر المؤلف – في بعض كتبه – أن أول من أنكر الأسباب الجهم بن صفوان (1)، وأن مقصوده بمنكري الأسباب هاهنا طوائف من أهل الكلام مثل جهم و أبي الحسن الأشعري ، وأما الفلاسفة فهم الذي يزعمون أن الأسباب مبدعة ، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. (2)
23 – أورد المؤلف – أثناء رده على الفلاسفة – قوله تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ( الذاريات ، آية 49 ) ، وذكر أن معناها: أي : فتعلمون أن خالق الأزواج واحد .
وحكى المؤلف – في موضع آخر – هذا التفسير عن الإمام مجاهد. (3)
وبالنظر إلى تقريرات ابن تيمية بشأن هذا الآية ، فيمكن أن يقال : إن هذه الآية رد على الفلاسفة من وجهين :-
أحدهما : "أن كل صادر في الوجود فهو عن اثنين فصاعداً ، فلا حادث من المخلوقات إلا عن أصلين، كالولد بين أبوين ، والتسخين ، والتبريد ، والاحتراق ، والإغراق ، وغير ذلك ، لا بد فيه من اثنين. (4)"
الآخر : أن "الزوج يراد به النظير المماثل ، والضد المخالف ، وهذا كثير ، فما من مخلوق إلا له شريك وندّ ، والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له ، ولا ند ولا مثل له ، بل ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . (5)"
فما من سبب إلا وهو مفتقر إلى نظيره، ولابد له من مضاد يمنع مقتضاه ..
__________
(1) . انظر : جامع المسائل 3/222 .
(2) . انظر : شرح الأصبهانية 1/ 149 ، والصفدية 1/147 ، 155 ، ومنهاج السنة 3/112 ، والردّ على المنطقيين صـ 214 ، 218 ، وقاعدة في المحبة (جامع الرسائل ) 2/214 ، 215 .
(3) . انظر : الردّ على المنطقيين صـ 218 ، وانظر : تفسير ابن جرير 27/8 .
(4) . شرح الأصبهانية 2/406 ، وانظر : الصفدية 1/217 .
(5) . انظر : معارج الوصول (مجموع الفتاوى ) 20/ 181 ، وانظر : مجموع الفتاوى 2/35 .(1/84)
24 – ساق المؤلف مقالة : إن الله لا يصدر عنه إلا واحد (1) ، وهذه مقالة الفلاسفة – كما سبق ذكره- وقد بيّن المؤلف فسادها من وجوده كثيرة (2)، ومقصود المؤلف من إيرادها - في هذه الرسالة – بيان بطلان ودعواهم أن في المخلوقات من يصدر عنه وحده شيء ، وأنه يستقل بالفعل .
وهؤلاء الفلاسفة لا يعلمون واحداً صدر عنه شيء غير الله تعالى ، وأن هذا الواحد الذي لا يصدر عنه إلا واحد إنما هو أمر مقدّر في الذهن ، لا حقيقة له في الخارج. (3)"
وقال – رحمه الله- :
"فلا يصدر في العالم العلوي والسفلي أثر إلا عن سببين فأكثر ، فالنار إذا أحرقت إنما تحرق بشرط قبول المحل لإحراقها، فالاحتراق حاصل بسببين ، لا بسبب واحد ، وكذلك الشعاع ، وكذلك جميع الأمور. (4)"
25 – إذا تقرر أن السبب لا يستقل بالمطلوب ، فهذا يؤكد وجوب التوكل على الله تعالى وحده ، وإفراده بالاستعانة والدعاء وسائر العبادات ..
كما جاء مبيّناً في قوله : "فغير الله لا يجوز أن يكون مستعاناً به متوكلا عليه ؛ لأنه لا يستقل بفعل شيء أصلاً ، فليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب ، لكن له شريك فيه ، وما ثم علة تامة إلا مشيئة الله ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . (5)"
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 211 .
(2) . انظر : الرد على المنطقيين صـ 215 ، 218 ، ومنهاج السنة 1/400 ، والصفدية 1/159 ، وشرح الأصبهانية 2/400 ، وأقوم ما قيل في القدر (مجموع الفتاوى ) 8/133 .
(3) . انظر : الدرء 7/127 ، 9/339 – 341 .
(4) . الصفدية 1/216 .
(5) . نقض التأسيس 2/457 .(1/85)
وقال – في موضع آخر –:- "إن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله ، وكل شر ومصيبة تندفع عنه، أو تكشف عنه ، فإنما يمنعها الله ، وإنما يكشفها الله ، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه ، فالله سبحانه هو خالق الأسباب كلها .. فإنه لا حول ولا قوة إلا به ، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن ، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب ، والتوكل عليه ، والدعاء له ..
وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلاً بالمطلوب ، فإنه لو قدر مستقلاً بالمطلوب - وإنما يكون بمشئة الله وتيسيره - لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يسأل إلا هو ، فله الحمد ، وإليه المشتكى ، وهو المستعان ، وهو المستغاث .. فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب ، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه ، ولابد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه ، حتى يحصل المطلوب ..
ومن عرف هذا حق المعرفة ، انفتح له باب توحيد الله ، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً أن يعبد غيره ، ولا يتوكل على غيره ، ولا يرجى غيره. (1)"
26 – تحدّث المؤلف – في غير موضع – عن ضوابط الأسباب ، والأمور التي ينبغي مراعاتها تجاه الأسباب . (2)
ومن ذلك قوله : "ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور :
أحدها : أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب ، بل لابد معه من أسباب آخر ، ومع هذا فلها موانع.
الثاني : لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم (3)، فمن أثبت سبباً بلا علم ، أو بخلاف الشرع ، كان مبطلاً ، كمن يظن أن النذر سبب في رفع البلاء ..
__________
(1) . مجموع الفتاوى 8/166 – 168 = باختصار
(2) . انظر : الاستقامة 1/ 153 ، واقتضاء الصراط المستقيم 2/692 ، والردّ على البكري ت: السهلي صـ 206 ، 221، 274 .
(3) في الأصل : لا يعلم ، ولعل الصواب ما أثبته .(1/86)
الثالث : أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ شيء منها سبباً للدنيا ، إلا أن تكون مشروعة ، فإن العبادة مبناها على الإذن من الشارع . (1)"
27 – قرر المؤلف أن الإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا (2) ، وجاء ذلك في غير موطن. (3)
ومن تقريرات المتمة لهذه المسألة ، قوله :
"اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعاً إلا بشرع يستلزمونه ، ولو بوضع بعض رؤساتهم بفعلون ما يأمر به ، ويتركون ما ينهي عنه ، فإن تركهم بدون ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه ، وذلك يمنع بقاءهم ، ويوجب فسادهم وهلاكهم ؛ لأن أهواءهم وإرادتهم إذا لم يُتعاون ويُتناصر فإنها تتمانع تارة ، وتتخاذل تارة أخرى..
فإن تخاذلت فلم ينصر هذا هذا ، ولا هذا هذا ، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم ، بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم .
وإذا تمانعت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة ، وهؤلاء هؤلاء تارة ، لزم فساد كل فريق إذا غُلبوا ، بل وإذا غَلبوا أيضاً ، إذا لم يكن لهم شرع يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم وأمثال ذلك .
وبهذا وأمثاله يتبين أن الدين والشرع ضروري لبني آدم ، لا يعيشون بدونه . (4) "
__________
(1) . مختصر الفتاوى المصرية صـ 268 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 213 .
(3) . انظر: الاستقامة 2/292 ، وقاعدة في المحبة (جامع الرسائل ) 2/221 ، ومجموع الفتاوى 8/289، 11/402 .
(4) . فصل في أن التوحيد أصل كل خير (المجموعة العلية ) 2/201 = باختصار(1/87)
28 – أشار المؤلف إلى أقوال الناس في مسألة التحسين والتقبيح العقليين (1)، وأفاض الحديث عنها في مواطن كثيرة. (2)
ومن تقريرات المؤلف التي تعرض هذه الأقوال بوضوح وجلاء ، قوله :
"والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال ..
طائفة تقول : إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ، ولا سيئة ألبتة ، وكون الفعل حسناً و سيئاً إنما معناه أنه منهي عنه ، أو غير منهي عنه ، وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع ، وهذا قول الأشعري ومن اتّبعه ..
وطائفة تقول : بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة ، وأن ذلك قد يُعلم بالعقل ، ويستحق العقاب بالفعل ، وإن لم يرد سمع ، كما يقول ذلك المعتزلة ، ومن وافقهم ..
وطائفة تقول : بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة ، تقتضي الحمد والذم ، ولكن لا يُعاقب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة ، كما دل عليه القرآن في قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } ( الإسراء، آية 15 ) .
وهذا أصح الأقوال ، وعليه يدل الكتاب والسنة ، فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة ، قبل مجيء الرسول إليهم ، وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم. (3)"
29 – قوله : "اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل ، أن ينافره يعلم بالعقل ، وهو أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذّ به ، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه . (4) "
__________
(1) . انظر : التدمرية صـ 215 – 217 .
(2) . انظر : الدرء 7/457 ، 8/22 ، 9/49 ، والنبوات 1/ 452 ، ومنهاج السنة 2/295 ، 3/179 ، والاستقامة 2/175، وشرح الأصبهانية 2/390 ، 394 ، 618 ، والردّ على المنطقيين صـ 420 ، 430 – 432 ، وقاعدة في المعجزات (جامع الفتاوى ) 11/ 353 ، ومجموع الفتاوى 15/8 ، 16/498 ، وفصل في أن التوحيد أصل كل خير (المجموعة العلية) 2/208 .
(3) . الدرء 8/492 ، 493 = باختصار ، ومجموع الفتاوى 11/676 .
(4) . التدمرية صـ 215 .(1/88)
ثم أشار المؤلف إلى غلطهم في هذه المسألة .
وقد ذكر المؤلف – في موطن آخر – أن المراد بتلك الطوائف : المعتزلة والأشاعرة (1)، وأن سبب غلطهم أنهم ظنوا أن الحسن والقبح الشرعيين خارج عن الحسن والقبح بمعنى الملائمة والمنافرة، وليس الأمر كذلك ، كما بيّنه المؤلف قائلاً :
"واتفق الفريقان على أن الحسن والقبيح إذا فسّر بكون الفعل نافعاً للفاعل ، ملائما له ، ولكونه ضاراً للفاعل منافراً أنه يمكن معرفته بالعقل ..
وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبيح المعلوم بالشرع خارج عن هذا ، وهذا ليس كذلك ، بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى ، وندب إليها هي نافعة لفاعلها ، ومصلحة لهم ، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم. (2) "
وقال أيضاً : "والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائماً للإنسان ، وبعضها منافياً له ، إذا قيل : هذا حسن وهذا قبيح ، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء ، وتنازعوا في الحسن والقبح ، بمعنى كون الفعل سبباً للذم والعقاب ، هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع ، وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول ، وليس هذا خارجاً عنه ، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم ، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي ، والمدح والثواب ملائم ، والذم والعقاب مناف. (3)"
30- ذكر المؤلف اتفاق الطائفتين على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح ، ثم أشار إلى نزاعهم. (4)
وبيّن المؤلف – في عدة مواطن – أن الطائفة الأولى هم الأشاعرة والجهمية ، القائلون : إن القبيح والظلم ممتنع عليه ، فهو محال لذاته ، كالجمع بين النقيضين .
__________
(1) . انظر : أقوم ما قيل في القدر (مجموع الفتاوى ) 8/90 .
(2) . المرجع السابق 8/90 = باختصار يسير .
(3) . الاحتجاج بالقدر (مجموع الفتاوى ) 8/309 ، وانظر : منهاج السنة 3/28 ، والدرء 8/22 .
(4) . انظر : التدمرية صـ 217 .(1/89)
ويجوّزون أن يأمر بكل شيء ، وينهى عن كل شيء ، فكل ما يقدر ممكناً من الأفعال فهو حسن. (1)
قال المؤلف – راداً عليهم –:- "قال تعالى : { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } (الأنعام، آية 130) .
فلو كان الظلم هو الممتنع لم يتصور ، بل كيفما أهلكهم فإنه ليس بظلم عند الجهمية الجبرية ..
وهذا الظلم الذي نزّه نفسه عنه ، إن كان هو الممتنع الذي لا يمكن فعله فأي فائدة في هذا ؟ وهل أحد يخاف أن يفعل به ذلك ؟ وأي تنزيه في هذا ؟ (2)"
وقال – في شرحه الحديث القدسي : "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا" -
"إن الله لا يريد الظلم ، والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته ، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادراً عليها، فعلم أن الله قادر على ما نزّه نفسه عنه من الظلم ، وأنه لا يفعله ، وبذلك يصح قوله : "إني حرمت الظلم على نفسي " ، وأن التحريم هو المنع ، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته ، فلا يصلح أن يقال : حرمت على نفسي ، أو منعتُ نفسي من خلق مثلي ، أو جعل المخلوقات خالقة ، ونحو ذلك من المحالات. (3)"
وأما الطائفة الأخرى فهم المعتزلة ، حيث زعموا أنه لا يتم تنزيه الله تعالى إلا بإنكار القدر ، وأن الله لا يخلق أفعال العباد. (4)"
__________
(1) . انظر : النبوات 1/463 ، والدرء 10/28 ، ومنهاج السنة 1/134 ، 2/304 ، وشرح الأصفهانية 2/617 ، ورسالة في معنى كون الربّ عادلاً (جامع الرسائل ) 1/121 .
(2) . منهاج السنة 5/103 ، 104 = باختصار ، وانظر : جامع المسائل 1/154 .
(3) . شرح حديث "إني حرّمت الظلم " (مجموع الفتاوى ) 18/144 ، وانظر : مجموع الفتاوى 8/507 ، 508 ، ومنهاج السنة 2/311 .
(4) . انظر : منهاج السنة 5/96 ، ورسالة في معنى كون الربّ عادلاً (جامع الرسائل ) 1/123 .(1/90)
وتضمت مقالة المعتزلة جملة من المزالق .. منها : أنهم شبهوا الله تعالى بخلقه ، فقاسوا الخالق بالمخلوق ، وأوجبوا على الله تعالى ما يوجبون على العبد .
ومع أنهم يثبتون الحسن في أفعال الله ، وأنه لا يفعل القبيح ، إلا أنهم أنكروا الحكمة وسائر الصفات، فلا يقوم بذاته – سبحانه – وصف ولا فعل ..
إضافة إلى عدم إقرارهم بأن الله تعالى خالق كل شيء ، كما بسطه المؤلف في موضعه. (1)
31 – قرر المؤلف أن الذين يشهدون القدر ، ويقفون عند الحقيقة الكونية ، هم مخالفون للشرع والحسّ والعقل ، وبيّن في هذا الرسالة وجه مخالفتهم للحسّ والعقل (2)، وأما مخالفتهم للشرع فقد بيّنها في موضع آخر فقال :
__________
(1) . انظر : مجموع الفتاوى 8/38 ، 89 ، 91 ، 125 ، 387، وقاعدة في المعجزات (مجموع الفتاوى) 11/ 353 ، وشرح حديث "إني حرّمت الظلم " (مجموع الفتاوى ) 18/138 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 218 ، 219 ، 223 .(1/91)
"فهذا القول لوازمه قول مخالف للكتاب والسنة ، ولإجماع السلف والفقهاء ، ومع مخالفته أيضاً للمعقول الصريح ، فإن الله نزّه نفسه عن الفحشاء ، فقال : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } (الأعراف، آية 28 ) ، كما نزّه نفسه عن التسوية بين الخير والشر ، فقال تعالى : { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } ( الجاثية ، آية 45 ) ، وقال : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ( القلم، آية 35 ، 36 ) وقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ( ص، آية 28 ). (1)"
32 – أشار المؤلف إلى "الاصطلام " (2)، وقد بيّن معناه في موضع آخر ، فقال : "والاصطلام أن يبقى في عين الجمع ، بحيث لا يفرق بين ما يؤلم أو ما يلذ. (3)"
وقال أيضاً : "مقام الاصطلام أن يغيب بموجودة عن وجوده ، وبمعبوده عن عبادته ، وبمشهوده عن شهادته ، وبمذكوره عن ذكره ، فيفني من لم يكن ، ويبقى من لم يزل . (4) "
فالاصطلام بمعنى السكر ، والفناء عن شهود السوى من جهة زوال التمييز ، وفقدان الإحساس .
33 – أورد المؤلف مقالة بعض الشيوخ : أريد أن لا أريد. (5)
__________
(1) . مجموع الفتاوى 8/433 ، 434 = باختصار يسير ، واقتضاء الصراط المستقيم 2/347 ، وشرح الأصبهانية 2/394، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (مجموع الفتاوى ) 11/245 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 219 .
(3) . الاحتجاج بالقدر (مجموع الفتاوى ) 8/310 .
(4) . حقيقة مذهب الاتحاديين (مجموع الفتاوى )2/313 .
(5) . انظر : التدمرية صـ 220 .(1/92)
وعزاها – في موطن آخر – إلى أبي يزيد البسطامي . (1)
وبسط المؤلف التعليق على هذه العبارة ، فكان مما قاله :
"قول أبي يزيد: "أريد أن لا أريد" لما قيل له: "ما ذا تريد ؟" نقص وتناقض ؛ لأنه قد أراد .
فإن الحي لابد له من إرادة ، فلا يكون حي إلا أن تكون له إرادة ، والإرادة التي يحبها الله ورسوله، ويأمر بها أمر إيجاب ، أو أمر استحباب ، لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة ، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركاً لما هو خير له ..
والله تعالى قد وصف الأنبياء والصِّديقين بهذه الإرادة ، فقال تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } (الأنعام، آية ، 25 ) وقال تعالى : { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } (الأحزاب، آية 29 ) ، وقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (البينة، آية 5) وإخلاص الدين له هو إرادته وحده بالعبادة. (2)"
34 – أورد المؤلف أنواع الفناء في كلام الصوفية (3) ، وقد تحدث عنها في مواطن متعددة.(4)
__________
(1) . انظر : الاستقامة 2/33 ، وشرح كلمات من فتوح الغيب (جامع الرسائل ) 2/120 ، وقاعدة في الإخلاص (المجموعة العلية ) 2/57 .
(2) . شرح كلمات من فتوح الغيب (جامع الرسائل ) 2/120 ، 121 = باختصار .
(3) . انظر : التدمرية صـ 221 ، 222 .
(4) . انظر : الاستقامة 2/142 ، ومنهاج السنة 5/356 ، والرد على المنطقيين صـ 516 ، 522 ، والحجج العقلية .. (مجموع الفتاوى ) 2/ 343 ، والردّ الأقوم (مجموع الفتاوى ) 2/369 ، والعبودية (مجموع الفتاوى ) 10/218- 222 .(1/93)
ومن التقريراته المهمة ، ما ذكره المؤلف من الفرق بين الفناء عن محبة السوى ، وبين الفناء عن شهود السوى.. فالأول فناء عن المحبة والإرادة ، والآخر فناء عن الشهادة ، والأول محض التوحيد والإخلاص ، وهو أول الدين وآخره ، والآخر فناء فيه نقص ، لم يعرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، والأول فناء عن عبادة الغير ، والآخر فناء عن العلم بالغير والنظر إليه. (1)
35 – قرر المؤلف أن العباد جميعاً محتاجون إلى الاستغفار. (2)
وجاء ذلك في موضع آخر ، فقال :
"ليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله ، والاستغفار من الذنوب ، بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً، قال الله تبارك وتعال : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } (الأحزاب، آية ، 72 ، 73 ) .
فالإنسان ظالم جاهل ، وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة ، وقد أخبر الله تعالى في كتابة بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم. (3)"
وقال أيضاً: "الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب ، ومن العمل الناقص إلى العمل التام ، فإن العابد لله يرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية ، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل و أطراف النهار ، بل هو مضطر إليه دائماً في الأقوال والأحوال .. (4)"
وأشار المؤلف في هذه الرسالة إلى اقتران التوحيد بالاستغفار ، وساق الأدلة على ذلك. (5)
__________
(1) . انظر : مجموع الفتاوى 10/337 ، 338 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 226 .
(3) . الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (مجموع الفتاوى ) 11/ 255 ، 256 .
(4) . مجموع الفتاوى 11/ 696 .
(5) . انظر : التدمرية صـ 226 ، 227 .(1/94)
وقرر المؤلف في موضع آخر أن الدين مجموع في التوحيد والاستغفار. (1)
وقال أيضاً : "فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين تذهب الشرك كله ، دقه وجله ، وخطأه وعمده ، سره وعلانيته .
والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ، ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك ، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك ، فالتوحيد يذهب أصل الشرك ، والاستغفار يمحو فروعه ، فأبلغ الثناء قول : لا إله إلا الله ، وأبلغ الدعاء قول : أستغفر الله . (2)"
36 – أورد المؤلف مسألة احتجاج آدم وموسى عليهما السلام. (3)
وبسط الكلام عنها في عدة مواطن . (4)
ومن تحريراته المهمة في هذه المسألة قوله :
"هذا الحديث ظن طوائف أن آدم احتج بالقدر على الذنب .. وطائفة يقولون : الاحتجاج بهذا سائغ في الآخرة لا في الدنيا .. وطائفة كذّبت هذا الحديث كالجبائي وغيره ، وطائفة تأولته تأويلات فاسدة، مثل قول بعضهم : إنما حجّه ؛ لأنه كان قد تاب ، وقول آخر : لأنه كان أباه ، والابن لا يلوم أباه ..
__________
(1) . انظر : مجموع الفتاوى 28/ 34 .
(2) . مجموع الفتاوى 11/ 697 = باختصار يسير
(3) . انظر : التدمرية صـ 230 .
(4) . انظر : اقتضاء الصراط المستقيم 2/848 ، والرد على البكر ت: السهلي صـ 425 ، ومجموع الفتاوى 2/108 ، والحجج العقلية (مجموع الفتاوى ) 2/325 ، والاحتجاج بالقدر (مجموع الفتاوى ) 8/304 ، 321 ، العبودية (مجموع الفتاوى) 1110/160 ، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/258 ، وجواب أهل العلم (مجموع الفتاوى ) 17/97 .(1/95)
وهذا كله تعريج عن مقصود الحديث ، فإن الحديث إنما تضمن التسليم للقدر عند المصائب ، فإن موسى لم يلم آدم لحق الله الذي في الذنب ، وإنما لامه لأجل مالحق الذرية من المصيبة .. فإن آدم كان قد تاب من الذنب ، وموسى أعلم بالله من أن يلوم تائباً .. وأيضاً فآدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على الذنب بالقدر ، ويقبله الآخر ، فإن هذا لو كان مقبولاً لكان لإبليس الحجة بذلك أيضاً ..
فتبين أن آدم احتج على موسى بالقدر من جهة المصيبة التي لحقته ولحقت الذرية ، والمصيبة تورث نوعاً من الجزع يقتضي لوم من كان سببها ، فتبين له أن هذه المصيبة وسببها كان مقدوراً مكتوباً. (1)"
37 – قوله : "قد جمع الله بين هذين الأصلين في غير موضع. (2)"
يعنى : العبادة والاستعانة ، وجاء – في موضع آخر – ما يزيد ذلك بياناً ، حيث قال : " وقد جمع بين هذين الأصلين في مواضع ، كقوله في آخر سورة هود { فاعبده وتوكل عليه } (هود ، آية 123) وقول إبراهيم والذين معه { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (الممتحنة، آية 4) ، وإلى هذين الأصلين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد في عباداته وأذكاره ومناجاته ، مثل قوله في الأضحية: (اللهم هذا منك ولك ) فإن قوله "منك" هو معنى التوكل والاستعانة ، وقوله "لك" هو معنى العبادة. (3)"
38 – جعل المؤلف الناس في عبادة الله تعالى واستعانته على أربعة أقسام (4) ، وقرره وبسطه في غير موضع. (5)"
__________
(1) . منهاج السنة 3/79 – 83 = باختصار.
(2) . التدمرية صـ 231 ، 232 .
(3) . مجموع الفتاوى 14/8 ، 9 = باختصار.
(4) . انظر : التدمرية صـ 234 ، 235 .
(5) . انظر : التحفة العراقية (مجموع الفتاوى ) 10/ 32 – 34 ، ومجموع الفتاوى 10/ 673 ، ومسألة في التصوف (مجموع الفتاوى) 11/ 29 - 31 ، وأقسام القرآن (مجموع الفتاوى ) 13 / 323 ، ومجموع الفتاوى 14/ 10 .(1/96)
ومما يحتاج إلى بيان ، قوله عن الصنف الثالث – أرباب الاستعانة دون العبادة -: "ويعطي من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول. (1) "
حيث بيّن معنى المكاشفات والتأثيرات – في موطن آخر فقال :
"ما كان من الخوارق من "باب العلم" فتارة أن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره ، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً ، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً ، أو إنزال علم ضروري ، أو فراسة صادقة ، ويسمى كشفاً ومشاهدات ، ومكاشفات ومخاطبات ، فالسماع مخاطبات ، والرؤية مشاهدات ، والعلم مكاشفة ، ويسمى ذلك كله كشفاً ومكاشفة أي كشف له عنه ..
وما كان من "باب القدرة" ، فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقاً ، ودعوة مجابة ، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال. (2)"
والمقصود أن المكاشفات والتأثيرات من خوارق العادات ، فهي نوع من العلوم والقدرات التي يهبها الله تعالى بعض العباد .
وقول المؤلف: "فالأولون لهم دين ضعيف ، ولكنه مستمر باق ، إن لم يفسده صاحبه الجزع والعجز.. (3)"
يعنى بالأولين هاهنا – أرباب العبادة من غير الاستعانة ، وأما المراد بالعجز ، فقد بيّنه المؤلف بقوله :
"وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز .." الحديث .
__________
(1) . التدمرية صـ 234 .
(2) . قاعدة في المعجزات (مجموع الفتاوى ) 11/ 313 ، 314 .
(3) . التدمرية صـ 234 ، 235 .(1/97)
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرص العبد على ما ينفعه والاستعانة بالله ، ونهاه عن العجز ، وهو الإضاعة والتفريط والتواني .. فليس المراد بالعجز في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يُضاد القدرة ، فإن من لا قدرة له بحال لا يُلام ، ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال. (1)"
39- وذكر المؤلف أن نشأة التصوف والاعتزال في البصرة . (2)
وبيّنه في موضع آخر فقال :
"وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة ، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين بقليل ظهر عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، ومن اتبعهما من أهل الكلام والاعتزال .
وظهر أحمد بن علي الهجيمي الذي صحب عبدالواحد بن زيد ، وعبدالواحد صحب الحسن البصري ومن اتبعه من المتصوفة ..
- إلى أن قال – ولهذا تجد كتب الكلام والتصوف إنما خرجت في الأصل من البصرة ، فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون مثل أبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ..
وكذلك كتب المتصوفة ككتب الحارث المحاسبي ، وأبي الحسن بن سالم ، وأبي طالب المكي. (3)"
40 – أورد المؤلف أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - "من كان مستنّاً فليستنّ بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبرّ هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً" .. الأثر. (4)
"وقد علّق المؤلف في موضع آخر – على هذا الأثر ، حيث قال :
__________
(1) . شرح كلمات من فتوح الغيب (جامع الرسائل) 2/ 135 ، 136 = باختصار
وانظر : الاحتجاج بالقدر (مجموع الفتاوى ) 8/320 .
(2) . انظر : التدمرية صـ 235 .
(3) . مجموع الفتاوى 10/ 358 – 361 = باختصار.
(4) . انظر : التدمرية صـ 237 .(1/98)
"وقول عبدالله بن مسعود : كانوا أبر هذه الأمة قلوباً ، أعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، كلام جامع بيّن فيه حسن قصدهم ونياتهم ببرّ القلوب ، وبيّن فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبيّن فيه تيسر ذلك عليهم ، وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف.
والذي قاله عبدالله حق ، فإنهم خير هذه الأمة ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهوائهم ، ولا من الضالين الجاهلين ، بل لهم كمال العلم وكمال القصد . (1)
__________
(1) . منهاج السنة 2/79 ، 80 = باختصار .
خاتمة
نخلص من خلال هذه البحث إلى أن ما في " الرسالة التدمرية " من إجمال ، أو اختصار، أو إشكال ، فإن في سائر مؤلفات ابن تيمية التفصيل والبسط والإيضاح ، كما أن في تلك المؤلفات ما يستكمل بها وجوه المسائل وأجوبتها ، ويتحقق فيها التعريف بالمصطلحات ، وعزو المقالات إلى أصحابها ..
فعلى الراغب في فهم كلام المؤلف – رحمه الله – أو شرحه ، أن يبتدئ ببقية مصنفاته ورسائله الأخرى.
ولو احتج بعض أهل الأهواء بعبارات موهمة ، أو جمل مشتبهة - من كلام المؤلف - فالعلم والإنصاف يوجب الرجوع إلى تقريراته المحكمة وتحريراته البيّنة ..
إن المسائل المشكلة من كلام المؤلف ، يمكن تجارزها وحلّها بمراجعة هذه المسائل في كتبه الأخرى ، فالعبارات التي يتعسر فهمها ، يمكن استيعابها بإعادة قراءتها أكثر من مرة ، وأما مراجعتها في غير موطن وبأساليب متنوعة ، فسيكون فهمها آكد وأظهر ..
ونلحظ – عبر هذا البحث – أن منهجية المؤلف وتقعيده لمذهب السلف في الاعتقاد ، نجدها متحققة وواقعة، فالمؤلف يوائم بين التنظير العملي ، والتطبيق العملي ، فما قرره من الاعتماد على نصوص الوحيين ، والاحتجاج بالعقل في مسائل الاعتقاد وشروطه ، ووسطية أهل السنة ..، والموقف تجاه الألفاظ المجملة ..ونحو ذلك ، فما قرره وحرّره من هذه المسائل وأشباهها ، نجد أن المؤلف يحقق ذلك عملاً وتطبيقاً ..
كما أن المؤلف – رحمه الله – مطرّد في منهجه ، يسير وفق قواعد راسخة ، ومعالم ظاهرة ، فمع كثرة مؤلفاته ، وتعدد رسائله ، تنوع سياقها ومناسبتها ، وخلال عمر حافل بالأحداث الكبار ، مع ذلك فلا تضطرب ثوابته أو تتذبذب قناعاته ، فضلاً أن يتناقض تقريره ، أو يتعارض تأليفه .
فرحم الله ابن تيمية ، ورفع درجته في المهديين ، وجعله مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
فهرس المصادر والمراجع
أ – مؤلفات ابن تيمية
1
الاحتجاج بالقدر والكرامات (مجموع الفتاوى)
2
الاستغاثة في الردّ على البكري ، ت: عبدالله السهلي ، ط1 ، 1426هـ ، مكتبة دار المنهاج ، الرياض .
3
الاستقامة ، ت: محمد رشاد سالم ، ط2 ، 1411هـ من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض .
4
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ، ت: ناصر بن عبدالكريم العقل ، ط 1 ، 1404هـ، مكتبة الرشد ، الرياض .
5
أقوم ما قبل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل (مجموع الفتاوى)
6
الإكليل في المتشابه والتأويل (مجموع الفتاوى)
7
أمراض القلوب وشفاؤها (مجموع الفتاوى)
8
الإيمان ، ط 3 ، 1401هـ ، المكتب الإسلامي ، بيروت .
9
الإيمان الأوسط (مجموع الفتاوى)
10
التحفة العراقية في الأعمال القلبية (مجموع الفتاوى)
11
التدمرية تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، ت : محمد بن عودة السعوي ، ط 1 ، 1405هـ ، مكتبة العبيكان ، الرياض .
12
التسعينية ، ت: محمد العجلان ، ط1 ، 1420هـ مكتبة المعارف ، الرياض .
13
تفسير سورة الإخلاص (مجموع الفتاوى)
14
تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل ، ت: علي العمران ، ومحمد عزيز شمس ، ط1 ، 1425هـ ، دار عالم الفوائد ، مكة المكرمة .
15
جامع المسائل ، تحقيق : محمد عزيز شمس ، ط 1 ، 1422هـ، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.
16
جواب أهل العلم والإيمان أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن (مجموع الفتاوى ) .
17
الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ، مطبعة المدني ، القاهرة .
18
الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الإسلام من بدع الجهمية والصوفية (مجموع الفتاوى)
19
حقيقة مذهب الاتحاديين ووحدة الوجود (مجموع الفتاوى ) .
20
الحقيقة والمجاز (مجموع الفتاوى)
21
حكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى)
22
درء تعارض العقل والنقل ، ت : محمد رشاد سالم ، ط 2 ، 1411هـ ، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض .
23
الردّ على المنطقيين ، ط 2 ، 1396هـ ، إدارة ترجمان السنة ، لاهور ، باكستان .
24
الرسالة الأكملية ، (مجموع الفتاوى)
25
رسالة إلى نصر المنبجي (مجموع الفتاوى)
26
الرسالة العرشية ( مجموع الفتاوى )
27
رسالة في معنى كون الربّ عادلاً (جامع الرسائل)
28
الرسالة المدنية ، ت: الوليد الفريان ، ط1 ، 1408هـ ، دار طيبة ، الرياض .
29
السبعينية (بغية المرتاد في الردّ على المتفلسفة والقرامطة ) ، ت: موسى الدويش ، ط1 ، 1408هـ مكتبة العلوم والحكم ، المدينة النبوية .
30
شرح الأصبهانية ، وهو شرح عقيدة مختصرة لأبي عبدالله محمد بن محمود الأصبهاني الأشعري (ت: 688هـ ) ، ت: محمد بن عودة السعوي ، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوره ، سنة 1407هـ ، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (غير مطبوعة ) .
31
شرح حديث أبي ذر "يا عبادي إني حرّمت الظلم .." (مجموع الفتاوى)
32
شرح حديث النزول (مجموع الفتاوى ) أو شرح حديث النزول ، ت: محمد الخميّس ، ط 1 ، 1414هـ ، دار العاصمة ، الرياض .
33
شرح كلمات من فتوح الغيث لعبدالقادر الجيلاني (مجموع الفتاوى)
34
الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ت: محمد الحلواني ، ومحمد شودري ، ط1 ، 1417هـ ، رمادي للنشر ، الدمام .
35
الصفدية ، ت: محمد رشاد سالم ، ط 2 ، 1406هـ ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة .
36
العبودية (مجموع الفتاوى)
37
الفتوى الحموية الكبرى، ت: حمد التويجري ، ط1 ، 1419هـ ، دار الصميعي ، الرياض . أو الحموية (مجموع الفتاوى).
38
فتوى في الغوث والقطب والابدال والأوتاد (جامع المسائل)
39
فتوى في القيام والألقاب ت : صلاح الدين المنجد ، ط2، 1980م. دار الكتاب الجديد، بيروت.
40
الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليان الشيطان (مجموع الفتاوى)
41
الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى)
42
فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير (المجموعة العلية)
43
فصل في أن دين الأنبياء واحد (جامع الرسائل)
44
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (مجموع الفتاوى)
45
قاعدة شريفة في الرضا الشرعي (جامع المسائل)
46
قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق ، ت: سليمان الغصن ، ط2 ، 1418هـ دار العاصمة ، الرياض .
47
قاعدة في الإخلاص لله تعالى (المجموعة العلية )
48
قاعدة في توحّد الملة وتعدد الشرائع (مجموع الفتاوى)
49
قاعدة في المحبة ، (ضمن جامع الرسائل )، ت : محمد رشاد سالم ، ط 1 ، 1405هـ ، دار المدني ، جدة .
50
قاعدة في المعجزات والكرامات (مجموع الفتاوى)
51
القاعدة المراكشية (مجموع الفتاوى)
52
الكيلانية (مجموع الفتاوى)
53
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، جمع وترتيب : عبدالرحمن بن قاسم ، وابنه محمد 1416هـ ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف ، المدينة النبوية .
54
المجموعة العلية من كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، ت: هشام بن إسماعيل الصيني، ط1 ، دار ابن الجوزي ، الدمام .
55
مسألة في تأويل الآيات وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت (جامع المسائل)
56
مسألة في الفقر والتصوف (مجموع الفتاوى)
57
مسائل في العلو (جامع المسائل )
58
المرشدة أصلها وتأليفها (مجموع الفتاوى)
59
المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، جمع : محمد بن قاسم ط1، 1418هـ.
60
معارج الوصول (مجموع الفتاوى)
61
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية ، ت: محمد رشاد سالم ، ط 2 ، 1411هـ، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض .
61
مقدمة في أصور التفسير (مجموع الفتاوى)
62
النبوات، ت: عبدالعزيز الطويان ، ط1 ، 1420هـ ، مكتبة أضواء السلف ، الرياض.
63
نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان (مختصر الرد على المنطقيين)
64
نظرية العقد (كتاب العقود ) ، 1368هـ ، مطبعة السنة المحمدية ، القاهرة .
65
نقض تأسيس الجهمية (بيان تلبيس الجهمية ) ، ت: محمد بن قاسم ، ط1 ، 1391هـ ، مطبعة الحكومة ، مكة المكرمة .
ب . المؤلفات الأخرى
1
الأجوبة المرضية لتقريب التدمرية ، لبلال الجزائري ، ط1 ، 1417هـ ، دار هجر ، أبها .
2
الإبانة عن أصول الديانة ، لأبي الحسن الأشعري ، تقديم : حماد الأنصاري ، ط5 ، 1409هـ ، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية .
3
الإيضاح في أصول الدين ، لأبي الحسن الزاغواني ، ت: عصام محمود ، ط1 ، 1424هـ ، من مطبوعات مركز الملك فيصل للبحوث ، الرياض .
4
تحريم النظر في كتب الكلام ، لابن قدامة المقدسي ، تقديم : عبدالرحمن دمشقية ، تحقيق جورج المقدسي ، ط1 ، 1410هـ ، دار عالم الكتب ، الرياض .
5
التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية ، لفالح بن مهدي آل مهدي ، تصحيح : عبدالرحمن المحمود ، ط 1 ، 1414هـ ، دار الوطن ، الرياض .
6
تقريب التدمرية ، لمحمد بن صالح العثيمين ، ط1 ، 1412هـ ، دار الوطن ، الرياض .
7
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، لأبي عمر بن عبدالبر ، من مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب .
8
الجامع لسيرة ابن تيمية خلال سبعة قرون ، لمحمد عزيز شمس وعلي العمران ، ط1 ، 1420هـ ، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة .
9
الدليل إلى المتون العلمية ، لعبدالعزيز بن إبراهيم بن قاسم ، ط1 ، 1420هـ دار الصميعي ، الرياض .
10
شرح الرسالة التدمرية ، لعبدالرحمن بن ناصر البراك ، إعداد : سليمان الغصن ، ط1، 1425هـ ، دار كنوز إشبيليا ، الرياض .
11
شرح الرسالة التدمرية ، لمحمد بن عبدالرحمن الخميّس ، ط1 ، 1425هـ ، دار أطلس الخضراء، الرياض .
12
العقود الدرية ، لابن عبدالهادي ، مطبعة المدني ، القاهرة .
أو الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين ابن تيمية ، لابن عبدالهادي ، ت: محمد السيد الجليند ، ط1، 1424هـ ، القاهرة .
13
عقيدة السلف أصحاب الحديث ، لأبي إسماعيل الصابوني ، ت: ناصر الجديع ، ط1 ، 1415هـ ، دار العاصمة ، الرياض .
14
موقف ابن تيمية من الأشاعرة ، لعبدالرحمن المحمود ، ط1، مكتبة الرشد ، الرياض .
فهرس الموضوعات
المقدمة : تعريف الرسالة التدمرية
2
التمهيد : الشروح والتعليقات على الرسالة التدمرية
5
الفصل الأول : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من مقدمة التدمرية
7
الفصل الثاني : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من أصليّ الصفات
14
الفصل الثالث : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من مثاليّ الجنة و الروح
19
الفصل الرابع : تقريرات ابن تيمية في بيان ما يشكل من قواعد في باب الأسماء والصفات
22
الفصل الخامس : تقررات ابن تيمية في بيان ما يشكل من أصل الشرع والقدر
44
الخاتمة
83
فهرس المصادر والمراجع
90(1/99)
"(1/100)