بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
و بعد؛
فإن السنة النبوية هي الأصل الثاني عند المسلمين، و عليها المعتمد في شريعة رب العالمين، إذ الله تبارك و تعالى جعل الحبيب محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء و المرسلين، و أمره بتبليغ دينه و توضيحه بالسنة المباركة، فقال سبحانه و تعالى: (و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر: 7) و قال جل شأنه: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (آل عمران: 164) .
قال الإمام الشافعي: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . ثم أخرج بأسانيده عن الحسن و قتادة و يحيى بن أبي كثير أنهم قالوا: الحكمة في هذه الآية السنة (2) .
و قد اختار الله سبحانه و تعالى لصحبة نبيه خيرة خلقه فبلغوه باللسان و جاهدوا لنشره بالسيف و السنان، كما قال عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، في وصفهم: "إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، و ابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، و ما رأوه سيئًا فهو عند الله سئ" (3) .(1/1)
و قال أيضًا رضي الله عنه: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبًا، و أعمقها علمًا، و أقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه و لإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، و اتبعوهم على آثارهم، و تمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم و سيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (4) .
و قد ابتلينا هذه الأيام بشرذمة من العلمانيين و جماعة من المبتدعة الضالين، همهم التشكيك في المقدسات، و الطعن في الأئمة الثقات، سلوا سيوف الحقد على العمود الثاني من أعمدة الإسلام، و ذلك بالطعن في رجال السنة الأعلام، فعمدوا إلى أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وهو» صحيح الإمام البخاري « فأعملوا فيه طعنًا و في صاحبه سبًّا و قدحًا، و اتجهوا إلى أكثر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية فجعلوا يسقطون عدالته بالشبه الواهية، و التُّرَّهَات الفارغة.
و إن الناظر إلى هذه الحملة الجديدة لا يشك أنها أمر دبر بليل، و أن مقصود أصحابها هدم السنة الشريفة ليتسنى لهم بعد ذلك هدم القرآن نفسه.
و لكن هيهات هيهات فقد قال سبحانه و تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون) .
و يا ناطح الجبل الأشم ليحطمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
فكما حفظ الله سبحانه و تعالى كتابه الكريم فقد حفظ سنة نبيه عليه الصلاة و أزكى السلام، بالعلماء الذين أفنوا أعمارهم في الذب عنها و الذود عن حماها.
كما قال صلى الله عليه و سلم: (يَحمِل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين و تحريف الغالين) (5) .
و عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين، إلى يوم القيامة) (6) .(1/2)
و عن عبد الله بن المبارك و يوسف بن أسباط قال: قال عبد الله بن مسعود: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًّا من أوليائه يذب عنها و ينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، و توكلوا على الله. قال ابن المبارك: و كفى بالله وكيلاً (7) .
و نحن في هذه الأبحاث المباركة، إن شاء الله تعالى، قد توكلنا على الله سبحانه و تعالى في رد شبهات المدعو مصطفى بوهندي في كتابه السقيم » أكثر أبو هريرة « الذي أعاد فيه تلك الأسطوانة المملة التي رددها أسلافه من المعتزلة و الخوارج و الرافضة، و تلقفها منهم المستشرقون و تلاميذهم العلمانيون فصدق فيهم ما قاله الإمام الحافظ أبو زرعة الرازي، رحمه الله تعالى:
"إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق، و القرآن حق، و إنما أدى إلينا هذا القرآن و السنة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و إنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب و السنة، و الجرح بهم أولى و هم زنادقة". (8)
و إن نظرة عاجلة إلى ما كتب هذا الشخص تبين أن الرجل يريد هدم السنة كلها لا هدم أبي هريرة رضي الله عنه – وحده – و ذلك صريح في قوله، عليه من الله ما يستحق:
"و لعلَّ هذا الوجود لمثل هذه الأخبار ليطرح على مصداقية هذه الكتب و نقلها للإسلام الحنيف شكوكًا كثيرة. كما يطرح على المنهجية المعتمدة في علوم الحديث و قواعده و رجالاته و تصحيحه و تضعيفه و تعديله و تجريحه و مصطلحاته أسئلة عميقة تدفع الباحثين إلى إعادة قراءة هذه العلوم بمنهجية جديدة تجاوز ما هي عليه الآن" (9) .(1/3)
و أساس منهج هذا الطاعن هو إنكاره للمعجزات و ما لم يقبله عقله القاصر، كما فعل أسلافه من الزنادقة و أصحاب الأهواء في الماضي، إذ بدل أن يعمل المنهج العلمي الفريد الذي أصله أئمتنا و نقحوه و هذبوه حتى أضحى صرحًا عاليًا سامقًا راح يعمل هواه و رأيه السقيم مع تطبيق الجزئي على الكلي و التضخيم و التهويل و إنكار جزء عظيم من الإسلام ألا و هو علم الغيب، قال تعالى: (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين، الذين يومنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ) (البقرة:1-2)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني و بينكم كتاب الله، فما وجدناه فيه حلالاً استحللناه، و ما وجدناه فيه حرامًا حرمناه، ألا و إن ما حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما حرم الله" (10) .
قال الإمام البيهقي: "و هذا خبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد" (11) .
و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إياكم و أهل الرأي فإنهم أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا و أضلوا" (12) .
و عن أبي قلابة الجرمي رحمه الله تعالى أنه قال: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا و هات كتاب الله، فاعلم أنه ضال" (13) .
و ليعلم القراء الكرام أن الكلام عن أبي هريرة رضي الله عنه إنما هو خداع السذَّج من النَّاس، إذ إنه ما من حديث رواه رضي الله عنه إلاَّ و قد شاركه فيه جماعة آخرون من الصحابة، و لا يكاد ينفرد إلاَّ بأشياء معدودة هي نقطة في بحر ما روي، و قد بين ذلك العلامة الشيخ عبد المنعم صالح العزى في كتابه الفريد "أقباس من مناقب أبي هريرة" بما لا مزيد عليه.(1/4)
و هذا لوحده كاف لنسف رسالة هذا الضَّال من أولها إلى آخرها. و لكن لكي لا يغتر من لا علم عنده بها سنخصص لذلك جولات بحول الله تعالى، خاصة و أن العلمانيين طاروا بهذا الكتاب كل مطار و كأنهم وقعوا على كنز عظيم، و الله يقول الحق و هو يهدي إلى السبيل.
الحسن بن علي الكتاني
مقدمات لا بد منها:
قبل الخوض في الموضوع الذي نحن بصدد مناقشة صاحب كتاب » أكثر أبو هريرة « فيه يجدر بنا أن نؤصل لقواعد هامة سنحتاج إليها في سائر هذه الردود، و هذه القواعد هي:
? من هو الصحابي؟.
? و ماذا يجب علينا نحو الصحابة؟.
? و ماهي سيرة و فضائل أبي هريرة - رضي الله عنه ؟.
و بَعد ذلك فكل ما سنذكره ما هو إلا فرع عن هذا الأصل.
مَنْ هُوَ الصَّحَّابِي؟
اختلف أهل العلم في تحديد مفهوم الصحابي على أقوال عدة، و لكنها جميعها تنطبق على أبي هريرة رضي الله عنه.
و أولى هذه الأقوال بالصواب و أشهرها ما عليه جماهير أهل الحديث من أن الصحابي هو كل مسلم رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - و لو لحظة و عقل عنه شيئًا، سواء كان ذلك قليلاً أو كثيرًا.
و هذا ما حكاه إمام المغرب القاضي عياض السبتي رحمه الله تعالى عن الإمام أحمد بن حنبل، و رواه عنه عبدوس بن مالك العطار: قال: سمعت أبا عبد الله – أحمد بن حنبل – رحمه الله يقول: "كل من صحبه سنة أو شهرًا أو ساعةً، أو رآه فهو من أصحابه" (14) .
و قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في »صحيحه «: "من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه" (15) .
و قال آخرون: إنه لا يكتفى بمجرد الرؤية، بل لابد مما يطلق عليه اسم الصحبة، و لو ساعة طفيفة، و هذا قول الإمام محمد بن عمر الواقدي و بعض الأصوليين (16) .(1/5)
و قال غيرهم: لا يعد الرجل صحابيًا حتى يقيم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، أو يغزو معه غزوة أو غزوتين. و هذا قول سيد التابعين سعيد بن المسيب (17) رحمه الله تعالى و هو أضيق الأقوال.
و أنت ترى أن أبا هريرة رضي الله عنه يدخل في جميع هذه الأقوال فقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - و لازمه أكثر من أربع سنوات من فتح خيبر سنة 7 هـ إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى صلوات ربي و سلامه عليه سنة 11هـ.
فضل الصحابة و عدالتهم:
أجمع أئمة الإسلام أهل السنة و الجماعة الذين عليهم المعول في الدين و عن طريقهم تفهم شريعة رب العالمين على أن أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم صحابته و أنهم عدول خيار لا نتكلم فيهم إلاَّ بالخير، و أن شانئهم أو مبغضهم ضال مضل يجب تأديبه.
و قال الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت. 321) في عقيدته المشهورة: "و نحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و لا نفرط في حب أحد منهم، و نبغض من يبغضهم، و بغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، و حبهم دين و إيمان و إحسان، و بغضهم كفر و نفاق و طغيان" (18) .
و قال الإمام ابن أبي زمنين الأندلسي المالكي (ت. 399) في رسالته »أصول السنة « (19) : " ومن قول أهل السنة أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - و أن ينشر محاسنهم و فضائلهم و يمسك عن الخوض فيما دار بينهم ".
و كذلك قال الحافظ أبو عمرو الداني الأندلسي (ت. 440) في »الرسالة الوافية « في اعتقاد أهل السنة و الجماعة (20) : "و من قولهم – أي أهل السنة – أن يحسن القول في السادات الكرام أصحاب محمد عليه السلام، وأن تذكر فضائلهم و تنشر محاسنهم و يمسك عما سوى ذلك مما شجر بينهم".(1/6)
و هذا قول جميع أئمة الإسلام الذين صنفوا في العقائد، لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع. لأن الله سبحانه مدح الصحابة في القرآن الكريم بقوله تعالى: ( محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) إلى قوله: ( وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرًا عظيمًا ) ( الفتح: 29) .
و قال سبحانه: ( و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) ( التوبة: 100) (21) .
أما السنة المطهرة فهي صريحة في هذا المعنى فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (22) .
و في رواية قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "أنا و من معي" ، قيل: ثم من يا رسول الله؟. قال: "الذي على الأثر" (23).
و عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، و أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، و أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" (24) .
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم، و من آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، و من آذى الله فيوشك أن يأخذه" (25) .
و قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، و الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم و لا نصيفه" (26) .(1/7)
و الأحاديث بهذا المعنى كثيرة متواترة، قال جد جدنا الإمام محمد بن جعفر رحمه الله تعالى: "ذكر اللقاني في شرحه لـ »جوهرته « أنها بالغة مبلغ التواتر، و إن كانت تفاصيلها آحادًا" (27) .
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد علم بالكتاب و السنة و النقل المتواتر محاسن الصحابة و فضائلهم و ما دل عليه الكتاب و السنة و إجماع السلف من المنقولات المتواترة عن أدلَة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء" (28) .
و قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: "قد ثبت إجماع الأئمة من أهل البيت على تحريم سبِّ الصحابة و تحريم التكفير و التفسيق لأحد منهم" ثم ذكر النقول عنهم من اثنتي عشر طريقًا (29) .
و قد نقل القاضي عياض رحمه الله تعالى عن أيوب السختياني، أحد كبار التابعين من مشايخ الإمام مالك أنه قال: "و من انتقص أحدًا منهم – الصحابة – فهو مبتدع مخالف للسنة و السلف الصالح و أخاف ألاَّ يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعًا، و يكون قلبه سليمًا" ثم نقل عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "لم يومن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من لم يوقر أصحابه و لم يعز أوامره" (30) .
و قد أطال الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في تقرير عدالة الصحابة في كتابيه» العواصم و القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم «و مختصره » الروض الباسم « بما يشفي و يكفي. و من طلب الهداية تكفيه كلمة، و من غرق في الضلالة فلا تكفيه و لا تنفعه المجلدات ذوات العدد. و بالله نتأيد.
فصل:
فضل أبي هريرة رضي الله عنه:
أبو هريرة رضي الله عنه من خيرة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - – أسلم قديمًا في بلاده دوس على يد الطفيل بن عمرو الدوسي و له من العمر 26 سنة، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وآله و سلم سنة سبع بعد انتصاره في غزوة خيبر على اليهود بيوم (31) .(1/8)
ثم لزم النبي - صلى الله عليه وسلم - ملازمة تامة فحمل عنه علمًا كثيرًا و أضحى من أحفظ الصحابة، و أحد فقهائهم الذين تدور عليهم الفتيا مع الورع التام و العبادة و الزهد في الدنيا. و قد أخذ عنه العلم أكثر من 800 شخص ما بين صحابي و تابعي (32) .
و صفه الإمام الذهبي بقوله: "الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الحفاظ الأثبات". و الحافظ الذهبي موصوف بأنه صاحب استقراء تام في معرفة الرجال و الخبرة بهم.
و عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله و لم يكن من أفضلهم (33) .
و قال الذهبي أيضًا: "أبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول عليه السلام و أدائه بحروفه". ثم قال:"وقد كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث" (34) .
قلت: المحدثون يقارنون حديث الرجل بحديث أقرانه فيعلمون مستواه في الحفظ، و كذلك كان هدي الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى.
و قد ذكره الذهبي في » طبقات القراء « و في » تذكرة الحفاظ «، و في » السير«، و قال: فهو رأس في القرآن، و في السنة، و في الفقه (35) .
و عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "كان أبو هريرة جريئًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن أشياء لا نسأله عنها" (36) .
و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أعلمنا بحديثه (37) .
توفي أبو هريرة سنة 57 هـ و دفن بالبقيع رضي الله عنه.
فصل:
في نقض ادعائه انفراد أبي هريرة بعجائب:(1/9)
افتتح بوهندي كتيبه بالتهويل في رواية أبي هريرة، رضوان الله عليه للحديث النبوي، و زعم أن ربع الأحاديث المتعلقة بأخبار الأمم السالفة في الكتب التسعة راويها هو أبو هريرة رضي الله عنه ثم قال: "إن المتأمل في أحاديث أبي هريرة يجد أن مسألة إكثاره من الرواية، و انفراده بما لم يرو عن الصحابة مهاجرين و أنصارًا كانت محط جدل في عصره، و قد أثارها أبو هريرة في غير ما رواية، و رد عليها ردودًا تحتاج إلى غير قليل من التأمل و المدارسة" (38) .
و لنا مع هذا الكلام وقفات:
الوقفة الأولى:
لا شك أن العلماء اتفقوا على أن سبعة من الصحابة أكثروا من الروايةعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى زادت أحاديثهم على الألف، و هؤلاء السبعة هم: أبو هريرة و ابن عمر و أنس و عائشة و ابن عباس و جابر و أبو سعيد الخدري و ليس بعد ذلك في الصحابة رضي الله عنهم من يزيد حديثه على ألف (39) .
و اتفقوا على أن أكثرهم رواية هو أبو هريرة رضي الله عنه و حددوا عدد أحاديثه بـ (5374) كما جزم به ابن حزم و انفرد البخاري بـ (325) و مسلم بـ (189) (40) .
فإذا علمت أن المحدثين يطلقون على الإسناد المستقل و الاختلاف في الألفاظ أنها أحاديث و علمت أن أبا هريرة رضي الله عنه رزق البركة في التلاميذ فقد روى عنه ما يربو على الثمانمائة (800) من الصحابة و التابعين (41) ، تبين لك أن ذلك العدد الضخم الذي أورده بوهندي (8740) من الكتب التسعة ما هو في حقيقة أمره إلاَّ الطرق و الأسانيد و اختلاف الألفاظ، مع ما في ذلك من الأحاديث الضعيفة و الموضوعة التي لا يمكن أن تنسب إلى أبي هريرة رضي الله عنه.
و قد قام بعض العلماء الباحثين المعاصرين و هو الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي الهندي بدراسة مسند أبي هريرة من »مسند الإمام أحمد« مع ما رواه أصحاب الكتب الستة فلم يبلغ ذلك كله إلاَّ (1336) حديث فقط.(1/10)
ثم قال: "نعم توجد مرويات أخرى في »مستدرك « الحاكم و » سنن « البيهقي و الدارقطني و »مصنف « عبد الرزاق و غيرها من كتب الحديث، و لكنى جازم بأن هذا العدد لن يبلغ العدد الذي ذكره العلماء بل لا يتجاوز ألفي حديث على أكبر تقدير" (42) .
الوقفة الثانية:
صحيح أن العديد من الناس تعجبوا من قوة حافظة أبي هريرة رضي الله عنه و لا غرابة في ذلك فإن أي إنسان يتفوق على أقرانه يصبح حديث مجالسهم و عرضة للامتحان حتى يتأكدوا من صدقه، و هذا الذي حدث لأبي هريرة رضي الله عنه فإن كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فمن بعدهم سلموا له علمه و مدحوه و زكوه، لا كما يوهم كلام الكاتب " بوهندي " من أن التوجس من أحاديثه بقي كما هو!!.
و قد حدث هذا لجماعة من حفاظ الحديث بعد أبي هريرة رضي الله عنه كما حدث للإمام البخاري رحمه الله في بغداد ثم ثبت لهم حفظه و جلالة قدره.
فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة أتاه رجل فقال: يا أبا محمد، أرايت هذا اليماني – يعني أبا هريرة – أهو أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، أم هو يقول على رسول الله ما لم يقل؟.
فقال: أمَّا أن يكون سمع ما لم نسمع، فلا شك. سأحدثك عن ذلك: إنَّا كنَّا أهل بيوتات و غنم و عمل، كنا نأتي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم طرفي النهار، و كان مسكينًا، ضيفًا على باب رسول الله، يده مع يده، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع، و لا تجد أحدًا فيه خير يقول على رسول الله ما لم يقل (43) .(1/11)
و شهد له الزبير بن العوام، حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة قال: قال لي أبي الزبير: ادنني من هذا اليماني –يعني أبا هريرة- فإنه يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث و جعل الزبير يقول: صدق، كذب، صدق، كذب! قال: قلت: يا أبت ما قولك: صدق كذب؟ قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا شك، و لكن منها ما يضعه على مواضعه و منها ما وضعه على غير مواضعه (44).
و أخرج البخاري في »التاريخ « و البيهقي في »المدخل « من حديث محمد بن عمارة بن حزم أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارًا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس (45) .
و أخرج أحمد و الترمذي عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله و أعرفنا بحديثه. قال الترمذي: حسن (46) .
و قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "أبو هريرة أكثرهم حديثًا و حمل عنه الثقات" (47) .
و أسند البيهقي في » المدخل « عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره" (48) .
و لو ذهبنا نتتبع ما قاله الصحابة و التابعون و من بعدهم في صدق أبي هريرة و حفظه لطال بنا المقام و خرجنا عمَّا قصدنا له من الاختصار.
فقارن بين هذه الشهادات المفصلة و بين ما هول به الكاتب الشانئ من أن الناس كلهم كانوا يستنكرون على أبي هريرة يتبين لك حقيقة الأمر، نعم كان يستنكر عليه بعض الظلمة أمثال مروان بن الحكم و غيره فكان يجيبهم بأجوبة مسكتة و يلقمهم الحجارة فلا يعودون لما قالوا (49) .
الوقفة الثالثة:(1/12)
أمَّا زعمه أن أبا هريرة رضي الله عنه انفرد عن الصحابة مهاجرين و أنصارًا فهذا من تهويلاته التي بينت لك حقيقتها، و أنه لم ينفرد بحديث عن غيره إلاَّ أشياء معدودة تحدث لكل عالم محدث يتفق له ما لم يتفق لغيره و بنظرة متفحصة إلى النقول التي ذكرتها قبل قليل يتبين أن الصحابة كانوا إذا راجعوا محفوظاتهم و تذاكروها تبينوا أنهم يشاركون أبا هريرة فيما يحفظ. و قد عمد الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي، جزاه الله عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل خير فجمع أحاديث في الحلال و الحرام من رواية أبي هريرة ثم ذكر شواهدها من طرق صحابة آخرين. فتبين أنه ما من حديث يرويه إلا و يشاركه فيه جمع آخر من الصحابة (50) ، و كذلك صنع الشيخ عبد المنعم بن صالح العزي العراقي حفظه الله. و كتب هؤلاء موجودة فإمَّا أن الكاتب لم يطلع عليها فهذا قصور منه شديد وهو قد ارتقى مرتقًى صعبًا كهذا فنصب نفسه لثلم عرض صحابي جليل، و إمَّا أنه اطلع عليه فكتم ما علم، و هذه خيانة و جريمة.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الوقفة الرابعة:
و أي عيب في أن يكثر أبو هريرة رضي الله عنه أو غيره من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يؤديه على وجهه؟ و الرجل يمدح إذا كان غزير العلم كثير التدريس و التصنيف و كان مؤهلاً لذلك و تكلم بعلم.
و إلاَّ فقل لي بربِّك هل ستذم بقية المكثرين من رواية الحديث ممن ذكرنا آنفًا؟ و ماذا تقول في أئمة الإسلام الذين كان أحدهم يحفظ مائة ألف حديث بل و ألف ألف حديث كالإمام أحمد أو البخاري أو مسلم أو غيرهم ممن حفظوا على المسلمين دينهم؟!(1/13)
و قد عقد الإمام الحجة أبو محمد بن حزم الأندلسي رحمه الله فصلاً ماتعًا في كتابه » الإحكام في أصول الأحكام « بعنوان » فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن « (51) ، و مما قال فيه: "يقال لمن ذم الإكثار من الرواية لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخير هي أم شر؟ و لا سبيل إلى وجه ثالث، فإن قال هي خير، فالإكثار من الخير خير، و إن قال هي شر، فالقليل من الشر شر، وهم قدأخذوا منه بنصيب، فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر و يعملون به. و أمَّا نحن فلسنا نقر بذلك. بل نقول: إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله" (52)
و كذلك فعل حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى فقال: "احتج بعض من لا علم له و لا معرفة من أهل البدع و غيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا " أقلوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " و فيما ذكرنا في هذا الباب من الأحاديث و غيرها، و جعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لا توصل إلى مراد كتاب الله عز و جل إلا بها، و الطعن على أهلها، و لا حجة في هذا الحديث و لا دليل على شئ مما ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم" ثم شرع يبينها (53)
الوقفة الخامسة:
من الأمور التي استنكرها الكاتب أن الغالب على رواية أبي هريرة رضي الله عنه هو طابع القصص و أخبار الأمم السالفة.(1/14)
فيقال له: و ما العيب في ذلك إذا صح الإسناد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بها؟! و قد حدثنا القرآن الكريم عن العديد من القصص و ضرب لنا بها الأمثلة و العبر، و كذلك الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - خصص حيزًا كبيرًا من أحاديثه لذلك ربطًا للدعوة بأئمتها و هم الأنبياء عليهم السلام، و تحفيزًا للصحابة. قال تعالى: ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن و إن كنت من قبله لمن الغافلين ) (يوسف:3) و قال سبحانه: ( و كلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك و جاءك في هذه الحق و موعظة و ذكرى للمؤمنين ) ( هود:120) .
و يرد الشيخ الأعظمي على هذه الشبهة فيقول: ". . . فإنهم لم يدرسوا هذا الموضوع دراسة فحص دقيق و إلاَّ لما وقعوا في هذه الشبهة الواهية، فإن أبا هريرة لم يرو الأحاديث الغريبة التي لا يقبلها العقل و المنطق، بل إن هذه الغرائب نسبت إليه على رغمه، فهو برئ من هذا كله، و إذا وجد هناك حديث يتصعب فهمه و هو حديث صحيح فإن أبا هريرة لم يكن منفردًا بروايته، بل شاركه فيه جماعة من الآخرين، فتكون المسؤولية مجزأة بين هؤلاء جميعًا" (54)
و هذه الشبهة الخبيثة كان قد سبق الكاتب إليها سلفه من غلاة الجهمية و المعتزلة الذين كفرهم السلف كالنظام و المريسي، و أئمة المستشرقين من يهود و نصارى أمثال جولدزيهر و شاخت، و بعض الزنادقة المعاصرين كمحمود أبو رية و الرافضي عبدالحسين شرف الدين.
فانظر إلى سلفنا من العلماء الربانيين و الأيمة المصلحين ماذا قالوا في أبي هريرة رضي الله عنه، و انظر إلى سلف هذا الضال ثم احكم عليه بما شئت!!.
فصل:
ضعف في اللغة:(1/15)
الملاحظ أن الكاتب جل شبهاته جاءت إما من فهم خاطئ أو تحريف متعمد فانظر إلى قوله: "إن أبا هريرة كان على علم بما في أحاديثه من الاختلاف عن أحاديث غيره من الصحابة الآخرين مهاجرين و أنصارًا، فهم لا يحدثون مثل حديثه و لا يكثرون مثل إكثاره، و هو ما دعاه إلى الرد على الناس و تبرير إكثاره و مخالفته" (55) .
فانظر كيف فهم الآثار التي تقول: "لا يحدثون مثل أحاديثه" فهمًا أعجميًا يدل على ضعفه في اللغة العربية، و هي لغة الإسلام التي يفهم بها الدين. و إلاَّ فإن معنى تلك الآثار أن عدد أحاديث أبي هريرة التي يرويها يختلف عن عدد غيره، لا أن نفس ما يحدث به مختلف عن أحاديث غيره، و شتَّان بين الأمرين!!.
و هذا بحمد الله بين واضح، و قد بينَّا في الصفحات السابقة كيف أن الصحابة كانوا إذا سمعوا حديثًا من أبي هريرة رضي الله عنه سأل بعضهم بعضًا فيجدون الأمر كما قال رضوان الله عليه.
و للكاتب مثل هذا الفهم الأعجمي في مواطن أخرى، و لذلك حذر العلماء من الخوض في دين الله تعالى لمن كان ضعيفًا في اللغة إذ أنه يقع في البدع و الضلالات و هو لا يشعر.
قضية كتمان العلم:
أورد الكاتب روايات عن أبي هريرة يعتذر فيها عن كثرة أحاديثه بالخوف من كتم العلم مع ما ورد في ذلك من ترهيب في القرآن الكريم، ثم أورد على ذلك جملة من الشبه ملخصها:
1. كيف يكون هذا مع كتم أبي هريرة لجملة من الأحاديث "خوفًا من أن يقطع بلعومه"؟! و يتساءل الكاتب بجهل و بلاهة: " فهل يخشى أبو هريرة الله أم الناس؟!!" (56) .
2. و كيف يستقيم هذا مع نهي عمر و عثمان رضي الله عنهما عن التحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم؟.
3. و هل كتم المهاجرون و الأنصار العلم و بثه أبو هريرة؟!.
4. و لماذا لم يكن أبو هريرة مرجعًا للصحابة في هذا العلم الخاص الذي آثره دونهم؟!.
و الجواب عن هذا المسكين و بالله نستعين كالتالي:(1/16)
كلاَّ لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه ليخشى الناس في الله سبحانه و تعالى و هو المعروف بصرامته في الحق و مواجهته للحكام بما يكرهون، و لكنك أيها الشانئ قلَّ علمك فكثر اعتراضك، فاسمع ما قاله العلماء الأعلام في تأويل هذا الحديث، فقد قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول، أو الفروع، أو المدح و الذم، أمَّا حديث يتعلق بحل أو حرام فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات و الهدى. و في »صحيح البخاري « قول الإمام علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون و دعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله و رسوله؟! و كذا لو بث أبو هريرة ذلك الوعاء لأوذي، بل لقتل، و لكن العالم قد يؤديه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياءً للسنة، فله ما نوى و له أجر –و إن غلط– في اجتهاده" (57) .
و هذا الأثر عن علي كرم الله وجهه أسنده البخاري (رقم127) في باب: "من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا" . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله -: "و ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، و مالك في أحاديث الصفات، و أبو يوسف في الغرائب. و من قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين و أن المراد ما يقع من الفتن، و نحوه عن حذيفة و عن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. و ضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة و ظاهره في الأصل غير مراد. فالإمساك عنه عند من يُخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب" (58) .
و هذا كلام يكتب بماء الذهب، فللَّه در أئمتنا الأعلام ما كان أفقههم لمقاصد الشريعة و لَحَى الله الجهلة الطِّغام الذين يريدون أن يفسدوا علينا ديننا بالجهل و الشبه التافهة.(1/17)
و مع ذلك نقول إن أبا هريرة رضوان الله عليه ما كتم من ذلك شيئًا بل كان يوري و يشير إلى ذلك، فقد قال الحافظ أيضًا، رحمه الله تعالى: "و حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء و أحوالهم و زمنهم، و قد كان أبو هريرة يكني عن بعضه و لا يصرح به خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين و إمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة. . . " (59) .
و أما الجواب عن الشبهة الثانية وهي منع عمر و عثمان رضي الله عنهما الناس من التحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان لعمر رضي الله عنه في ذلك سياسة خاصة، و هي توجيه الناس للاهتمام بالقرآن أولاً ثم السنة مع التثبت و التدبر ثانيًا، لا أنه كان يأمر بكتم الحديث و ينهى عن بثه.
و قد بين ذلك أئمتنا جيدًا فقد أورد الحافظ ابن عبد البر الآثار عن عمر رضي الله عنه، بذلك تحت باب "ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له و التفقه فيه". ثم قال: "و لا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من أن يكون خيرًا أو شرًّا، فإن كان خيرًا – ولا شك فيه أنه خير – فالإكثار من الخير أفضل، و إن كان شرًّا فلا يجوز أن يتوهم أن عمر رضي الله عنه يوصيهم بالإقلال من الشر، وهذا يدلك على أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و خوف الاشتغال عن تدبر السنن و القرآن لأن المكثر لا تكاد تراه إلاَّ غير متدبر و لا متفقه (60) .
و كذلك قال الإمام ابن كثير: "و هذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي يضعها الناس على غير مواضعها، و أنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، و أن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك" (61) .(1/18)
و بكل حال فهذه سياسة عمرية ارتأى فيها المصلحة و ليست من كتم العلم في شئ بل هي من باب تنظيم مدارسة العلم، و مع هذا فقد ورد أن عمر أذِن لأبي هريرة رضي الله عنهما بالتحديث فعن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إلي فقال كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في بيت فلان؟ قلت: نعم، و قد علمت لأي شئ سألتني قال: و لم سألتك ؟ قلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: "من كذب عليًّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". قال: أمَّا لا، فاذهب فحدث (62) .
و قد أورد الحافظان ابن عبد البر و ابن حزم آثارًا كثيرة عن عمر رضي الله عنه في الحض على نشر السنن والعمل بها يكفي أن نمثل لها بما جاء عن بكير بن الأشج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز و جل" (63) .
و هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه رد صريح و جواب مفحم لهذا الكاتب و أمثاله من أعداء السنن و الآثار.
و أما عثمان رضي الله عنه فالثابت عنه بخلاف هذا و لا ندري من أين استقى الكاتب هذه الشبهة عنه؟! إلا إذا كان يعني أن عثمان رضي الله عنه نهى أبا هريرة عن التحديث فهذا أيضًا لم يأت بسند متصل تقوم به الحجة، و لو ثبت لكان من باب تنظيم العلم كما فعل في قضية المصاحف و غيرها. رضي الله عن الصحابة أجمعين.
و أما الجواب عن الشبهة الثالثة فيقال لهذا المتهكم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: قد بينا مرارًا أن أبا هريرة لم ينفرد بشئ عن غيره من الصحابة، و إنما جمع محفوظات تفرقت عند غيره، و أنه ما من شئ حفظه هو إلا و شاركه فيه غيره، و أن مخالفته لهم هي في كثرة محفوظه دونهم ليس إلاَّ فافهم و لا تكن من الغلفلين!!(1/19)
و يوضح هذا و يبينه ما رواه عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه كان قاعدًا عند عبد الله بن عمر، إذ طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خرج مع جنازة من بيتها و صلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، و من صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد". فأرسل ابن عمر خبابًا إلى عائشة فسألها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، و أخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة" (64) .
و في رواية قال ابن عمر: "أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أحفظنا لحديثه" (65) .
فهذه عائشة رضي الله عنها تصدق أبا هريرة، و هذا ابن عمر على جلالته و إكثاره من الرواية يعزب عنه حديث هام كهذا، بل قد قال الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى: "هذا الحديث رواه اثنا عشر صحابيًّا" (66) ، فيهم ثوبان و أبي بن كعب و أبو سعيد الخدري و عبد الله بن مغفل و أنس بن مالك و ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين (67) . فهؤلاء علماء المهاجرين و الأنصار.
و قد كان أبو هريرة يجلس إلى حجرة عائشة فيحدث ثم يقول: " يا صاحبة الحجرة، أتنكرين مما أقول شيئًا؟ " فلما قضت صلاتها لم تنكر ما رواه، لكن قالت: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد الحديث سردكم (68).
و معلوم أن عائشة من المكثرات في الرواية، فقد ذكر لها المحدثون ألفين و مائتين و عشرة أحاديث، اتفق الشيخان منها على مائة و أربعة و سبعين و انفرد البخاري بأربعة و خمسين و مسلم بثمانية و ستين (69) .
و هذا طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة يقول عنه " لا نشك أنه سمع ما لم نسمع " (70) .(1/20)
فتأمل هذا جيدًا ثم أخبرني بربك أليست هذه الآثار و النصوص، و غيرها كثير، تدل على أن أبا هريرة كان باتفاق كبار الصحابة و علمائهم أوسعهم رواية، و أنهم كانوا يقرون له بذلك، و أنه لم ينفرد عن جملتهم بعلم لا يعلمونه، و أنَّ كلاًّ بلَّغ ما عنده من علم على قدر طاقته و جهده و أدائه فرض الكفاية عليه، إذ تبليغ العلم باتفاق العلماء فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. و بالله التوفيق.
و بهذا يظهر لك أيضًا الجواب عن سؤال الكاتب الأخير و أن أبا هريرة بالفعل كان مرجعًا للصحابة في روايته بل و في فهمه كما سيأتي في المباحث التالية بحول الله تعالى و قوته. و بالله نتأيد.
ملازمة أبي هريرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن ملازمة أبي هريرة رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مسألة بدهية في سيرته رضي الله عنه، و مع هذا فقد عقد الضال بوهندي لذلك فصلاً جعل يناقش فيه بأسلوب السفسطة و المكابرة التي ترد الحقائق الواضحة التي لا شك فيها ولا مين، و ادعى أن ملازمة أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ادعاه أبو هريرة نفسه و لم يشهده أحد إلاَّ ما كان من حسان بن ثابت و عبد الله بن عمر رضي الله عنهما و هي أيضًا رواية تحتاج لمدارسة (71) .
و هذا الكلام قد مللنا من تكراره و الرد عليه، إذ قد قدمنا أن جمعًا من الصحابة الكبار شهدوا له بأنه سمع ما لم يسمعوا و شهد ما لم يشهدوا، و أنهم أقروا بصدقه في كل ما يرويه، و أن هؤلاء الذين شهدوا له فيهم جمع كبير من شيوخ الصحابة و أهل السابقة كطلحة و الزبير و عائشة و غيرهم، رضوان الله عليهم جميعًا. لا كما يدعي هذا المفتري الأفاك.(1/21)
ثم إنه انتهى في آخر الفصل إلى إيراد جملة من الشبه على قضية الملازمة هذه حتى ينسفها من أصلها و من هذه الشبه التافهة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن كحال العلماء الذين يجلسون للدروس ثم ينصرفون لمشاغلهم فمن حضر الدرس استفاد و من لم يحضره ضاعت عليه الفائدة، بل كان كثير المهام و الأشغال و كانت الدعوة و التدريس جزءًا صغيرًا من مهامه الشريفة.
و الجواب عن هذا أن يقال و ماذا في ذلك؟ و أبو هريرة يقول إنه كان يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في جل أموره و يلازم مجالسه العلمية و يوقف نفسه على ذلك، و هذا كان ديدن طلبة العلم قديمًا في ملازمة المشايخ أنى حلوا و ارتحلوا حتى جمعوا بين العلم و العمل، و سيرهم في ذلك معروفة معلومة لمن اهتم بها.
و من طالع السنة تبين له صدق أبي هريرة رضي الله عنه، و تفاهة شبه هذا الضال، فهذا الإمام البخاري رحمه الله تعالى يعقد بابًا في »الصحيح « بعنوان: "باب التناوب في العلم". وأورد تحته هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه قال : " كنت أنا و جار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد – و هي من عوالي المدينة – و كنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يومًا و أنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي و غيره و إذا نزل فعل مثل ذلك (72) .
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى: "و فيه أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على طلب العلم و غيره، مع أخذه الحزم في السؤال فيما يفوته يوم غيبته، لما علم من حال عمر أنه كان يتعانى التجارة إذَّاك" (73) .
فهذا الحديث و غيره كثير يدل على تناوب الصحابة في حضور مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - لمشاغلهم، و يدل على وجود مجالس علمية يعقدها صلوات ربي و سلامه عليه.(1/22)
على أن أبا هريرة يقول إنه كان يحضر ما لا يحضر غيره و هذا عام في كل موقف و اجتماع و أمر يفعله الحبيب المصطفى، و نحن نعلم بعض العلماء المجاهدين و غيرهم و لهم أصحاب لازموهم في الحل و الترحال حتى أضحوا يعلمون عنهم ما لا يعلمه نساؤهم و أبناؤهم، و لكن بوهندي لما حُرم صحبة العلماء، و كان قصارى علمه الصحف و شهادات الزور لم يتقبل عقله القاصر هذا فصار يرد الأمورالبينة و قديمًا قيل: "إنكار الواضحات من الفاضحات".
فصل:
مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
عقد الخبيث فصلاً يتدخل فيه لينافح بزعمه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و ادعى أن أبا هريرة قلل أدبه عليها.
فقد افتتح الفصل بأثر ابن سعد عن سعيد بن العاص الأموي قال: قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا ما سمعته منه فقال أبو هريرة: يا أمَّه طلبتها و شغلك عنها المرآة و المكحلة، و ما كان يشغلني عنها شئ.
و في رواية قالت: لعله – أي لعل ذلك هو السبب" (74) .
و بوهندي هنا يلبس لبوس النسَّاك و يظهر الورع الكاذب، و لو اتقى الله تعالى لعلم أن هذين علمين كبيرين و أنه قزم صغير قصارى أمره أن يترضى عليها لأنه لا يدخل بين الجلد و الظفر إلاَّ الوسخ كما يقول المثل المغربي.
و لقد طالت حياة السيدة عائشة أم المؤمنين و حياة أبي هريرة، فكانت حاجة الناس إليهما بمقدار حياتهما فيهم. و لهذا روي عنهما من الحديث ما لم يرو عن غيرهما، و قد كان أبو هريرة يحدث فتستدرك عليه السيدة عائشة تارة، و توافقه تارة أخرى، كما كان يحدث مع غيره من الصحابة. فقد استدركت السيدة عائشة على أبي بكر و عمر و عثمان و علي و ابن عمر و أبي هريرة، و قد جمع ذلك كله الإمام الزركشي في كتاب مفرد سماه " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " بين وجه الصواب في كل مسألة من تلك المسائل.(1/23)
و في كل هذا لم يشعر الصحابة بغضاضة أو حرج لأن هدفهم جميعًا واحد، و هو تطبيق الشرع، و ما كان الصحابة يكذب بعضهم بعضًا، إلاَّ أن من جاء بعدهم من أهل الأهواء الذين استغلوا ما دار بين الصحابة من نقاش علمي، أو تثبت في الحديث و جعلوا منه مادة ينفذون من خلالها لمآربهم. و ما من حادثة و نعت لأبي هريرة مع أمنا عائشة رضي الله عنها إلاَّ بين العلماء وجه الحق فيها، و لم يروا في عائشة موقف المكذب لأبي هريرة، و لم يفهم أحد فيما دار بينهما أن أبا هريرة كذاب يتهمه الصحابة في صدقه و علمه، إلاَّ ما كان من أعداء السنة، أهل البدع و الأهواء (75) .
و قد تقدم معنا بعض الروايات التي تشهد فيها عائشة بصدق أبي هريرة و تبين أنها إنما تنكر سرده للحديث و طريقة حكايته.
و قد كان بين عائشة و أبي هريرة من الود و الاحترام و التقدير ما هو معلوم في سيرتهما، و يكفي أنه هو الذي صلى عليها بعدما توفيت رضي الله عنها (76) .
و أما مقارنة هذا الجاهل أحاديث أبي هريرة ذات الطابع العجائبي بزعمه مع أحاديث السيدة عائشة العلمية، فهذا من فرط ضلاله و رده السنة بالهوى و الرأي، و ما أحوجه أن يصنع به ما صنع عمر رضي الله عنه بصبيغ العراقي لما جعل يناقش معاني القرآن بالهوى (77) .
و نحن لا نستبعد أن يخرج علينا هذا الرجل بكتاب آخر عنوانه »أكثرت عائشة«؛ فإنها من المكثرات رضي الله عنها، فيعمد إلى ما كتبه عنها أسياده من الرافضة لعنهم الله فيجمعه كما فعل في هذا الكتاب الخبيث، و إلاَّ فنحن نعلم أنه لا يهمه لا أبو هريرة و لا عائشة، إنما همه هدم السنة كلها، و هيهات فقد فشل في ذلك كبار أئمة الضلال الذين مروا في التاريخ فبقيت السنة صامدة محفوظة بحفظ الله، و ذهب الضالون و الزنادقة مقبوحين ملعونين على لسان كل مخلص صادق.
فصل:
طعن المؤلف في الأحاديث المتواترة:(1/24)
الأحاديث المتواترة: هي التي رواها جمع من الناس عن من قبلهم بحيث يستحيل أن يتفقوا فيها على الكذب، و هي تفيد القطع، و منكرها منكر لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و هذا كفر و العياذ بالله تعالى (78) .
... و قد عمد بوهندي إلى جملة من الأحاديث التي يستنكرها على أبي هريرة رضي الله عنه و يزعم أنها من العجائب و الغرائب مع أنها أحاديث متواترة.
فمن ذلك:
1. أحاديث تكثير القليل من الطعام للنبي صلى الله عليه وآله و سلم، أشار لتواترها القاضي عياض في » الشفا « و قال: "وقد اجتمع على معنى هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة و رواه عنهم أضعافهم من التابعين، ثم من لا يعد بعدهم، و أكثرها في قصص مشهورة ومجامع مشهودة لا يمكن التحدث عنها إلا بالحق و لا يسكت الحاضر لها على ما أنكره" (79) .
2. حديث الشفاعة العظيم الجليل: و هو في » المسند « و الصحيحين و سائر كتب السنة، و أطال ابن خزيمة رحمه الله في كتاب » التوحيد « (2/588) في تخريجه، و قد رواه غير أبي هريرة: ابن عمر و ابن عباس و أنس و حذيفة، رضي الله عنهم أجمعين، و نص على تواتر أحاديث الشفاعة جمع من الأعلام (80) .
3. أحاديث الفتن و أعلام النبوة: لم ينفرد بها أبو هريرة رضي الله عنه، بل أفرد لها الحفاظ مصنفات خاصة لذكرها، و قد جمع جملة صالحة مما تواتر منها جد جدنا الإمام محمد بن جعفر، رحمه الله تعالى في » نظم المتناثر « و عم والدنا العلامة محمد الناصر بن محمد الزمزمي الكتاني في: » عيون الآثار فيما تواتر من الأحاديث و الأخبار «.(1/25)
4. أحاديث أن الأئمة من قريش، رواها الإمام أحمد في »المسند« وهي في الصحيحين و السنن عن جمع من الصحابة غير أبي هريرة رضي الله عنه كأبي برزة وأنس و علي و أبي بكر الصديق و ابن عمر و عمرو بن العاص و معاوية و جبير بن مطعم و عبد الله بن السائب و عبد الله بن حنطب و جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، و نص على تواترها الحافظان ابن حجر والسخاوي، و أجمع أئمة الإسلام على العمل بمضمونها (81) .
5. أحاديث وجوب الخضوع للإمام المسلم الحاكم بالشريعة و ملازمة الجماعة: نص على تواترها جمع من أهل الحديث، و قد ذكر الإمام أبو الطيب القنوجي في كتاب » العبرة فيما جاء في الغزو و الشهادة و الهجرة « أنها متواترة و ممن رواها غير أبي هريرة وائل ابن حجر وأبو مالك و ابن عمر و أبو ليلى رضي الله عنهم (82) .
و بهذا يتبين صدق أبي هريرة رضي الله عنه فيما حدث به و أن تلك الأحاديث نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و رواها عنه الثقات الأثبات، و من رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان للكفر أقرب منه للإيمان، نسأل الله السلامة و العافية.
فصل:
حفظ أبي هريرة رضي الله عنه:
قد تمهد بما قدمناه – بحمد الله تعالى – صدق أبي هريرة - رضي الله عنه- فيما يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و تقرر عند كافة أهل العلم أنه أحفظ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، و أن السبب في ذلك كثرة ملازمته النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اهتمامه و قوة حفظه، و يضاف إلى ذلك ما أكرمه الله تعالى به من المعجزة النبوية التي رواها المحدثون في » المسند « و » الصحيحين « و » السنن « و اللفظ للبخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: "قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: "أبسط رداءك". فبسطته. قال: فغرف بيديه ثم قال: "ضمَّه"، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده" (83) .(1/26)
و عند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا من رجل يأخذ بما فرض الله و رسوله، كلمة أو كلمتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا فيجعلهن في طرف ردائه فيتعلمهن و يعلمهن"، قال أبو هريرة فقلت: أنا يا رسول الله، قال: "فأبسط ثوبك"، قال: فبسطت ثوبي فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال: "ضم إليك"، فضممت ثوبي إلى صدري (84) .
قال الحافظ في » الفتح « (85) : "في هذين الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة و معجزة واضحة من علامات النبوة، لأن النسيان من لوازم الإنسان، و قد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه ثم تخلف عنه ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
إلا أن هذا كله لم يرق لصاحبنا بوهندي، فعقد فصلاً يتهكم فيه من هذا الصحابي الجليل بعنوان "يحفظ فلا ينسى"، و أورد جملة من هذه الأحاديث التي تقرر هذا المعنىالذي ذكرته ثم عقب عليها بعدة شبه ملخصها:
1. أن هذه المعجزة لم ترو إلا عن أبي هريرة و لم يشهد له بها أحد، و هو في نفسه غير مقبول الشهادة!!.
2. أنه من غير المعقول أن يحجم الصحابة عن بسط أرديتهم في هذا الموقف مع دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم لذلك و لا يقدم على ذلك إلا أبو هريرة.
3. أن هذا لو حدث لكان أبو هريرة مرجعًا للصحابة و لسموه "صاحب النمرة أو الرداء" تخليدًا لهذه المعجزة، لا أن يكنوه بأبي هريرة!!.
هذا ملخص هراء هذا الرجل الذي لا يدري ما يخرج من رأسه، و ردًّا عليه نقول، و بالله نتأيد و نستعين:
أولاً: ثبت للقارئ الكريم مرارًا في هذه الأبحاث المسدَّدة، بتوفيق من الله سبحانه، ثقة و عدالة أبي هريرة، بل و جميع الصحابة الكرام، رضوان الله و رحمته عليهم أجمعين.
و ثانيًا: قد ثبتت هذه الكرامة لأبي هريرة من طريق غيره من الصحابة رضي الله عنهم.(1/27)
فقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في » المستدرك على الصحيحين « من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "كنت أنا و أبو هريرة و آخر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ادعو". فدعوت أنا و صاحبي و أمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم دعى أبو هريرة فقال : اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، و أسألك علمًا لا ينسى، فأمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: و نحن كذلك يا رسول الله، فقال: "سبقكما الغلام الدوسي" (86) .
و هذا الحديث ذكره الحافظ في » الفتح « (1/285) و سكت عنه، و هو أيضًا في » السنن الكبرى « للنسائي بسند جيد في كتاب العلم.
و ثالثًا: هب أن أحدًا لم يذكر هذه الكرامة غير أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ثبتت كثير من القصص عن جمع من الناس لم تُعلم إلا من طريقهم، و لمَّا تلقاها الناس بالقبول علمنا صدقهم فيما رووا، و كذلك الحال مع أبي هريرة رضي الله عنه، فقد وردت هذه القصة عنه بروايات كثيرة عن جماعة من التابعين، و ما علمنا أحدًا كذبها و لا أنكرها، بل ما زالوا يذكرونها في مناقبه و يردون بها على من سأل من التابعين عن سبب كثرة روايته.
و الدليل على صدق أبي هريرة في تلك القصة واقع الحال فقد روى حماد بن زيد: حدثني عمرو بن عبَيد الأنصاري: حدثني أبو الزعيزعة – كاتب مروان، أن مروان أرسل إلى أبي هريرة، فجعل يسأله، و أجلسني خلف السرير، و أنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعا به، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد و لا نقص، و لا قدم و لا أخر.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "هكذا فليكن الحفظ" (87) .(1/28)
قال أبو محمد كاتب هذه السطور-: قد كان جولدزيهر اليهودي المستشرق أكثر إنصافًا من بوهندي، فإنه زعم أن هذه الكرامة وضعها العامة ليرفعوا بها من قيمة أبي هريرة (88) . و أما بوهندي فزعم أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي افتراها، (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا) .
و أما قوله إنه من المستحيل أن يُقْدِم أبو هريرة على بسط ثوبه و يُحْجِم بقية الصحابة، فيقال: كلا، فلا عجب و لا استحالة في ذلك، و لهذا نظائر عدة في مواقف أشد من هذه.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفًا يوم أحد فقال: "من يأخذ مني هذا؟" فبسطوا أيديهم، كل إنسان يقول: أنا، أنا، قال: "فمن يأخذه بحقه؟". قال فأحجم القوم، فقال سِماك بن خرشة –أبو دجانة-: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين (89) .
و أشد من ذلك ما حدث يوم الأحزاب، فعن محمد بن كعب القرظي قال: "قال فتى منا من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و صحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: و الله كنا نجتهد، قال: و الله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض و لجعلناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي، و الله لقد رأيتُنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق، و صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل هُويا، ثم التفت إلينا فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، يشترط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يرجع أدخله الله الجنة"، فما قام رجل، ثم قال في المرة الثانية: "أن يكون رفيقي في الجنة"، فما قام رجل من القوم مع شدة الخوف و شدة الجوع و شدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الحديث (90) .(1/29)
و هناك نظائر أخرى لهذه ذكرها أهل العلم أحجم فيها صحابة و خص الله فيها آخرين بكرامة و فضل {ذلك فضل الله يوتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم} .
و ثالثًا: فقد تقدم معنا مرارًا أن أبا هريرة كان مرجعًا للصحابة و التابعين في الرواية و أما لماذا لم يلقب الصحابة أبا هريرة بصاحب النمرة أو ما شابه هذا، فهو سؤال سخيف إذ الألقاب و الكنى أمور تتفق دون أن يسأل عنها الناس و ليس بهذا ترد الأحاديث الصحيحة و الروايات الثابتة.
أوردها سعد و سعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
فصل:
أبو هريرة و عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:
روى البخاري في » الصحيح « (113) عن وهب بن منبه عن أخيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب و لا أكتب.
و أخرج الإمام أحمد (6947) بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال: "نعم"، قلت: في الرضا و الغضب؟ قال: "نعم؛ فإني لا أقول إلا حقًّا" .
و قد أورد بوهندي على قضية كتابة ابن عمرو الحديث و أنه أكثر حديثًا من أبي هريرة عدة إشكالات و شبها هذا ملخصها:
1. تأخر إسلام ابن عمرو عن أبي هريرة و قلة ملازمته النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2. واقع الحال أن أحاديث أبي هريرة أكثر بكثير من أحاديث ابن عمرو ثم استنتج بأسلوب شيطاني ماكر أنه عندما كان ابن عمرو أكثر رواية ذكر أبو هريرة هذا الحديث، فلما تجاوزت روايات أبي هريرة كل الصحابة – و هو ما كان يطمح إليه- و ملأت رواياته الآفاق ادعى هذه الدعاوى!! (91) .
فأقول: ما أشد جرأتك في الباطل و أقل حياءك أيها المكذب لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبتغي لنا الفتنة في الدين.(1/30)
فعبد الله بن عمرو بن العاص أسلم قبل أبيه الذي هاجر مسلمًا أوائل سنة 8 فيكون إسلامه قريبًا من قدوم أبي هريرة (92) على النبي - صلى الله عليه وسلم - و تلك الفترة كانت ذات شأن عظيم تفرغ فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - للدعوة و التوجيه بعد مهادنته لقريش، ثم إن الصحابة يروي بعضهم عن بعض فليس كل ما رووه بالضرورة سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة (93).
أما الشبه الأخرى فقد تكفل بالرد عليها خاتمة الحفاظ الإمام ابن حجر رحمه الله فقال: "هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو على ما عنده و يستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان جازمًا بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة، فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال، إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله و هو الكتابة لم يكن مني، سواء لزم كونه أكثر حديثًا لما تقتضيه العادة أم لا. و إن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات:
أحدها: أن عبد الله كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلت الرواية عنه.
ثانيها: أنه كان أكثر مُقامِه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف و لم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة للمدينة، و كان أبو هريرة متصديًا للفتوى و التحديث إلى أن مات. و يظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، و قد ذكر البخاري أنه روى عنه 800 نفس من التابعين و لم يقع هذا لغيره.
ثالثها: ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بأن لا ينسى ما يحدث به.
رابعها: أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحَمْل جَمَلٍ من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها و يحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين".(1/31)
ثم قال بعد: "و يحتمل أن يقال تحمل أكثرية عبد الله بن عمرو على ما فاز به عبد الله من الكتابة قبل الدعاء لأبي هريرة، لأنه قال في حديثه: فما نسيت شيئًا بعد. فجاز أن يدخل عليه النسيان فيما سمعه قبل الدعاء، بخلاف عبد الله فإن ما سمعه مضبوط بالكتابة" (94).
و يضاف إلى هذا أن عبد الله بن عمرو لم يكن على وفاق مع معاوية و ابنه يزيد فلم يفسح له مجال التحديث و الاشتغال بالتعليم.
فعن عبد الله بن أبي الهذيل، عن شيخ من النخع قال: دخلت مسجد إيليا – بيت المقدس – فصليت إلى سارية ركعتين، فجاء رجل فصلى قريبًا مني، فمال إليه الناس، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فجاءه رسول يزيد بن معاوية: أن أجب، فقال: هذا ينهاني أن أحدثكم كما كان أبوه ينهاني. و إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أعوذ بك من نفس لا تشبع و من قلب لا يخشع و من دعاء لا يسمع و من علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع" (95) .
فهذا هو جواب أهل العلم و الإيمان فيه الجمع بين النصوص و التعظيم لأصحاب الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - . أما غيرهم فقد حرموا ذلك كله فضلوا ضلالاً مبينًا، نسأل الله الهداية و السلامة.
فصل:
إنكار بوهندي وجود أصحاب الصفة:
أقدم بوهندي على إنكار جملة من الواضحات التي لا شك فيها، مكابرة منه و دفعًا بالصدر، ففضح بذلك نفسه.
و من الأمور المستفيضة المشهورة التي أنكرها وجود أصحاب الصفة رضي الله عنهم، فقال: "و من هم أضياف الإسلام هؤلاء، الذين سموا بأصحاب الصفة؟ إننا لا نعرف عنهم شيئُا إلا من روايات أبي هريرة. ما هي أسماؤهم؟ أو أسماء بعضهم غير أبي هريرة؟ لماذا لا يتحدثون عن أنفسهم و يقولون: نحن أضياف الإسلام الذين لا شغل لنا إلا انتظار الصدقات في المسجد النبوي؟ و هل كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يبارك تجمعهم هذا؟" إلخ هرائه و هذيانه (96) ??(1/32)
و أقول: إني لأكثر الاستغراب و التعجب من هذا الجاهل كيف يجعل عدم علمه و اطلاعه حجة على الناس، و أعجب من ذلك أن يجعل مدرسًا و "دكتورًا" في الجامعة بقسم الدراسات الإسلامية فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، و لله در الإمام الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى لما قال:
تصدر للتدريس كل مهوس ... جهول يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها و حتى سامها كل مفلس
أما أصحاب الصفة – يا عدو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم الذين كانوا يجاورون بيت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - و يكونون على دكة من المسجد يتدارسون القرآن، و يتفقهون في الدين و يأتيهم رزقهم مما تجود به جعاب الناس من تمر و أقط و سويق، و يشاركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زاده، و كانوا يزدادون و يكثرون، فربما بلغوا أكثر من سبعين رجلاً، و يقلون إلى أن يكونوا نحوًا من ثلاثين، وسبب ذلك أن أحدهم إذا وجد عملاً اشتغل به و ترك مكانه من الصفة و لجأ إلى الاكتساب و طلب المعيشة (97) .
و مكان الصفة اليوم هو الدَّكَّة المرتفعة الموجودة وراء المواجهة الشريفة من جهة الداخل من باب عثمان رضي الله عنه، و تسمى دكَّة الأَغَوَات، و عهدي بها لا يجلس فيها إلا الأخيار و العلماء و الصالحون، و هكذا تلقينا عن سيدنا الجد الإمام محمد المنتصر رحمه الله تعالى، و كان من الملازمين للجلوس بها.
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، رحمه الله تعالى، في » حلية الأولياء«: "و كان عدد قاطني الصفة يختلف على حسب اختلاف الأوقات و الأحوال، فربما تفرق عنها و انتقص طارقوها من الغرباء و القادمين فيقل عددهم، و ربما يجتمع فيها واردوها من الوراد و الوفود فينضم إليهم فيكثرون، غير أن الظاهر من أحوالهم، و المشهور من أخبارهم غلبة الفقر عليهم، و إيثارهم القلة، و اختيارهم لها" (98) .(1/33)
و قد اعتنى الحافظ أبو نعيم، رحمه الله تعالى، بأصحاب الصفة في كتابه » الحلية « فذكر أسماءهم و أحوالهم، و لخص ذلك الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في » صفة الصفوة «، و تراجم القوم مبثوثة في » الاستيعاب « لابن عبد البر -حافظ المغرب-، و » أسد الغابة « لابن الأثير، و » الإصابة « لخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني و غيرها من المراجع كالطبقات و كتب التاريخ.
و أما أنك أيها الجاهل لا تعرف عنهم شيئا إلا من روايات أبي هريرة رضي الله عنه، فذلك لضعف همتك عن مطالعة الكتب التي قدمت لك، و لكن قصارى أمرك التقميش و التهويش و التشويش.
فقد ورد ذكر أصحاب الصفة عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم فمن ذلك ما جاء عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما قال: "إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، و إن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: "من كان له طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس". أو كما قال. و إن أبا بكر جاء بثلاثة، و انطلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعشرة. " و هذا حديث صحيح متفق على صحته (99) .
و عن طلحة بن عمرو قال: كان الرجل إذا قدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - و كان له بالمدينة عريف نزل عليه، و إذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة، قال: و كنت فيمن نزل الصفة، فوافقت رجلا و كان يجري علينا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل يوم مد من تمر بين رجلين.
و عن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لماولدت فاطمة حسينًا قالت: يا رسول الله ألا أعق عن ابني؟ قال: "لا و لكن احلقي رأسه و تصدقي بوزن شعره ورِقًا على الأوفاض و المساكين"، يعني بالأوفاض أهل الصفة (100) .(1/34)
و عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و نحن في الصفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان و العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم و لا قطيعة رحم؟" فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك. قال: "أو لا يغدوا أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله تعالى خير له من ناقتين، و ثلاث، و أربع، خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل" (101) .
و الأحاديث و الآثار بهذا المعنى كثيرة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، تركتها رومًا للاختصار، و يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
أما أسماء أصحاب الصفة فكثير سأسرد لك بعضها {ليهلك من هلك عن بينة و يحي من حي عن بينة}، و ليظهر للقارئ الكريم مدى جهل هذا الكويتب الذي ابتلي به المسلمون، و فرح به العلمانيون و أهل اليسار، لا بارك الله فيهم و لا فيمن انتمى إليهم.
فمن أهل الصفة أسماء بن حارثة الأسلمي (102) و الأغر المزني (103) و بلال بن رباح (104) و البراء بن مالك –شقيق أنس بن مالك- كما حكى ذلك محمد بن اسحق صاحب المغازي، رحمه الله تعالى (105) و أبو ذر الغفاري (106) و جرهد الأسلمي - صاحب حديث: "الفخد عورة" (107)، و جُعَيْل بن سراقة الضمري و حذيفة بن اليمان –خالط أهل الصفة مدة فنسب إليهم- و حذيفة بن اسيد الغفاري و حارثة بن النعمان الأنصاري، حكى النسائي أنه من أهل الصفة، و هو من أهل بدر، و حازم بن حرملة الأسلمي، حكى ذلك الحسن بن سفيان الفسوي رحمه الله تعالى (108).
و يطول بنا المقام في تعداد أسماءبقية أهل الصفة، و لكن من أراد ذلك فعليه بكتاب » أصحاب الصفة « لعلامة الحجاز الأديب اللغوي أبي تراب الظاهري، رحمه الله تعالى، ففيه الكفاية و السداد.
و لك أن تقارن هذا مع ما كان عليه أصحاب الصفة من الاجتهاد في العبادة و العلم، و الزهد في الدنيا، و ما قاله بوهندي الجاهل من أنهم كانوا متسولين عالة على المسلمين...(1/35)
فحقيقة أهل الصفة هي أنهم كانوا أضيافًا على المسلمين، و كانت الصفة مَضافة و مدرسة لهم، و لذلك فقد كانوا يقلون و يكثرون بحسب الظروف و الأحوال، فمن وجد منهم عملاً انشغل به و انصرف إليه، و من كان حديث الهجرة و لا مال له و لا أحد ينزل عليه كان ينزل على المسلمين في الصفة.
و عليه فلا مكان لما هذى به بوهندي من قوله السخيف: "ألم يقل لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا: اخرجوا من هذه المسكنة و الذلة التي أنتم فيها، و اكسبوا قوتكم من عرق جبينكم فإن الإسلام الذي جئتم به لا يصنع المعتكفين المتسولين، و إنما يصنع العباد العاملين ذوي الأيد؟.." (109) .
وقوله: "و لم آتكم لأجدكم أوعية لنقل أخبار الحاضرين و السالفين دون أن يكون لذلك أي تأثير في حياتكم و سلوككم" (110) .
لأن واقع حال أصحاب الصفة، رضوان الله عليهم، يكذب هذا و يدل على أنهم كانوا من خيار الصحابة علمًا و عملاً فكم واحد منهم أصبح من كبار علماء الصحابة و عامتهم أبلوا البلاء الحسن في الجهاد في سبيل الله تعالى. و لكن إذا قل علم المرء و اغتر بنفسه و صادف شياطين من الإنس و الجن يزينون له ضلاله تتايع في الباطل و غرق في الضلالة. نسأل الله العافية و السلامة.
و قد أنكر –هذا الجاهل- كذلك معجزة تكثير اللبن الذي شرب منه أصحاب الصفة بأجمعهم ثم أبو هريرة ثم بقيت فضلة شربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: "و قصة تكثير اللبن هذه من خصوصيات رواية أبي هريرة، و المشكلة أننا لا نعرف أحدًا من أهل الصفة حتى نسأله عن هذه المعجزة التي لا يشهدها أحد إلا أبو هريرة" (111) .(1/36)
و قد بان للقارئ الكريم قيمة هذا الهراء الذي يهرف به بوهندي و تقدم معنا قبل صفحات قليلة إنكاره للأحاديث المتواترة، ومنها تكثير الطعام ببركته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد قال جد جدنا الإمام محمد بن جعفر، رحمه الله تعالى: "وردت من رواية جماعة من الصحابة حتى قال بعضهم: إنها متواترة تواترًا معنويًا و أشار لتواترها أيضًا عياض فيما تقدم قريبًا عنه، بل أشار إلى أن القصص المشهورةعنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى كلها معلومة على القطع، ثم قال بعد كلام في الاستدلال على ذلك: و هذا حق لا غطاء عليه، و قد قال به من أئمتنا القاضي (الباقلاني) و الأستاذ أبو بكر بن فورك و غيرهما، و ما عندي أوجب قول القائل: إن هذه القصص المشهوة من باب الخبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار و روايتها و شغله بغير ذلك من المعارف، و إلا فمن اعتنى بطرق النقل و طالع الأحاديث و السير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه" (112) .
و قال شيخ مشايخنا الحافظ الشريف أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله واصفًا أمثال هذا المتلاعب بدينه:
"و لعلمهم أن السنة النبوية مبينة للشريعة و أن فيها جميع ما يحتاج إليه في الدين، يطعنون في صحة الأحاديث بعقلهم و هواهم لا بحجة و دليل، فقائل منهم يقول: لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أربعة أحاديث، و قائل يقول: إن الأحاديث اختلطت فلا يعرف صحيحها من سقيمها فلا يلزم العمل بشئ منها، و قائل يقول: إن جميع الأحاديث التي في »صحيح البخاري « كذب... و قائل يقول: إن الأحاديث ظنية و إنما القاطع هو القرآن، فكل ما لم يرو فيه صريحًا فنحن لا نقول به" (113) . ثم ذكر أحاديث تشير إلى هذا كله. نسأل الله سبحانه الهداية و الثبات على الحق.
فصل:
قاصمة الظهر: بوهندي ينكر صحبة أبي هريرة:(1/37)
ما كنت أظن أن يصل الحال بالمردود عليه لهذه الدرجة من السقوط العلمي و إنكار البدهيات، و قد كان منذ بداية كتيبه يمهد لنتيجة ما سبقه إليها أحد من أعداء الإسلام و السنة المحمدية و هي إنكار أن يكون أبو هريرة قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و أنه ما أسلم إلاََّّ زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، و أنه لم يشهد له أحد بالصحبة، إلى غير ذلك من الطوام و المصائب.
و نحن نرثى لحال العلم ببلادنا و التدهور الذي وصل إليه البحث العلمي، و لو كان هذا الكويتب في زمن كبار العلماء لأجروا له محاكمة قاسية و حكموا عليه بما يستحقه جزاء تلاعبه بدين المسلمين، و لكن كما قيل:
خلا لك الجو فبيضي و اصفري
و الناظر في الصفحات السابقة التي وفقنا الله سبحانه و تعالى لكتابتها لا يجد صعوبة في تكذيب ما يقوله هذا الكويتب، و لكن لزيادة الأمور وضوحًا لا بد من الرد على هذه النتيجة و المكابرة التي خرق بها إجماع الناس.
فنقول: يا هذا، إنك لا تتكلم عن نكرة لم يعرف في التاريخ، أو مجهول شحت المصادر التاريخية أن تعطينا أخباره، أو رجل مغمور لا يكاد يعرفه إلاَّ الباحثون الكبار، و لكنك تتكلم عن صحابي عرفه الخاص و العام و اشتهر لا بكثرة الرواية فقط، بل و بالفتوى و العلم و المعرفة بالقرآن الكريم، و بكلمة أخرى أنت تتحدث عن إمام علاَّمة ملأ حياته بالمعرفة و أفاد المسلمين كثيرًا.
فهل يقول قائل إن سائر أئمة المسلمين و علمائهم من فقهاء و محدثين و قراء و صوفية و مدرسين كلهم جهلوا و غفلوا و لم يتبين لهم الحق حتى جاء هذا الرجل التافه في قومه المغمور في نفسه فأراد أن يظهر الحق الذي كان مكتومًا و تتابعت الأمة خمسة عشر قرنًا على عدم معرفته ...إن هذا لأمر عجاب.(1/38)
و قد بنى المذكور هذه النتيجة على روايات ضعيفة و حسابات خاطئة. قال الإمام محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر- و هو الواقدي- حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: "و الله ما أنت وال و إن الوالي لغيرك فدعه – يعني حين أرادوا دفن الحسن بن علي عليهما السلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - – و لكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بها إرضاء من هو غائب عنك – يعني معاوية – فأقبل عليه مروان مغضبًا و قال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا: أكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و إنما قدم قبل وفاته بيسير، فقال: قدمت و الله و رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر و أنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات و أقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه و أخدمه و أغزو و أحج معه و أصلي خلفه فكنت و الله أعلم الناس بحديثه" (114) .
و بما أن المؤرخين قد ذهبوا إلى أن عمره بلغ ثمانيًا و سبعين سنة، و وفاته كانت حوالي سنة سبع و خمسين، فقد استنتج هذا الكويتب بحسابات نقص و زيادة أنه إنما أسلم في خلافة عمر بن الخطاب، و لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - و لو سنة واحدة.
و الرد عليه سهل بحمد الله واضح جلي من أوجه:
الوجه الأول: أن هذا من كلام أبي هريرة نفسه، و أنت عقدت كتابك كله لتكذبه، فكيف صدقته هنا و كذبته في أحاديث أخرى؟
الوجه الثاني: أن هذا الأثر الذي بنى عليه الكويتب هذه الجبال من الجهالات باطل شديد الضعف فهو من رواية محمد بن عمر الواقدي، و هو ضعيف، بل كذبه جماعة من أهل الحديث، و توسط الحافظ ابن حجر فقال: "محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني القاضي، نزيل بغداد، متروك مع سعة علمه، مات سنة سبع و مائتين، و له ثمان و سبعون" (115) .(1/39)
و يروى عن كثير بن زيد، و قد ضعفه أغلب أئمة الجرح و التعديل، قال ابن حبان في » المجروحين« (2/222) :" كان كثير الخطأ على قلة روايته لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد. سمعت الحنبلي يقول سمعت أحمد بن زهير يقول: سئل يحيى بن معين عن كثير بن زيد فقال: ليس بذلك القوى. و قال: كان لا شئ ثم ضرب عليه".
و توسط الحافظ ابن حجر أيضًا فقال فيه: "صدوق يخطئ، مات في آخر خلافة المنصور" (116) ، و معنى صدوق إذا توبع و إلا فإن روايته ضعيفة.
الوجه الثالث:أن تحديد عمر أبي هريرة، رضي الله عنه، لما مات هو مأخوذ من هذه الرواية كما قال الحافظ في » الإصابة «: قال أبو سليمان بن زبر في » تاريخه « عاش أبو هريرة ثمانيًا و سبعين سنة. قلت: و كأنه مأخوذ من الأثر المتقدم عنه أنه كان في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ابن ثلاثين سنة و أزيد من ذلك.
و قد تفرد الواقدي أيضًا بأن عمر أبي هريرة رضي الله عنه كان ثمان و سبعين سنة لما مات، و مما يدل على خطئه في ذلك أنه زعم أن أبا هريرة صلى على أم سلمة رضي الله عنها لما ماتت، مع أنه مات قبلها بسنين إذ وفاتها كانت زمن يزيد بن معاوية (117) .
الوجه الرابع:أن القاعدة الأصولية المنطقية تقررأن اليقين مقدم على الشك، و المحكم مقدم على المتشابه، و اليقين المحكم هنا هو الذي تتابع عليه الناس جيلاً بعد جيل، و قرنا بعد قرن، عالمهم و جاهلهم، مسلمهم و كافرهم، كبيرهم و صغيرهم أن الرجل المكنى بأبي هريرة صحابي معروف و حياته مدونة في التواريخ، و جل أموره معروفة.
و الشك و المتشابه هو حساب الأعمار الذي لم يكن في ذلك الوقت دقيقًا لانعدام (الحالة المدنية) وقتذاك، و عدم وجود ديوان المواليد و الأموات و ما إلى ذلك. و قد قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تاويله} (آل عمران:7) .(1/40)
الوجه الخامس:أن المثبت مقدم على النافي لأن معه زيادة علم، و هذه قاعدة حديثية منطقية أيضًا. و هنا لا نعلم أحدًا من الصحابة على كثرتهم و لا التابعين و لا من بعدهم حتى من أعداء أبي هريرة بل حتى الذين زعم الكويتب أنهم قالوا: أكثر أبو هريرة، أقول: لا نعلم واحدًا منهم أنكر صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و قد كانوا ينكرون أمورًا مخالفة للشرع أصغر من ذلك و أدق، فهل يتصور أن يجلس أبو هريرة المجالس تلو المجالس و هو يقول حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و قد أخذ عنه أكثر من 800 صحابي و تابعي ثم لا ينكر عليه أحد و يقول: أنت كاذب و إنما أسلمت حديثًا و لم تسمع أي شئ من رسول الله ...
الوجه السادس: أن الكويتب لقلة اطلاعه و مداركه العلمية يظن جهله بالشئ علمًا، و ينفي ما يكون قد أثبته العلماء الكبار كما قد مر معنا مرارًا.
و هاهنا يقول: "الملاحظ أن الحديث عن هذه الملازمة إنما كان من أبي هريرة عن نفسه، و لم نجد أحدًا من الصحابة يتحدث عن هذه الملازمة و هذا الحضور، بل لم نجد له عندهم ذكرًا و لو عارضًا، أو أن أحدهم قد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و كان أبو هريرة ملازمه حاضرًا و لو مرة واحدة إلا ما كان من رواية حسان الشاعر و عبد الله بن عمر و هي تحتاج إلى مدارسة خاصة" (118) .
و قال: "و من هذه الإشكالات أن هذه الملازمة لا يشهد بها المهاجرون و الأنصار و لو كان الأمر كذلك لشهدوا و لكنهم لا يعلمون عنه شيئًا" (119) .
و الكويتب هنا يتحدث بثقة كبيرة و كأنه من أهل الاستقراء التام في معرفة الرجال كابن عساكر أو الذهبي أو ابن حجر..(1/41)
و قد تقدم معنا أكثر من مرة شهادات جمع من الصحابة لأبي هريرة بالحفظ و الصدق في الرواية فيها مشيخة من المهاجرين و الأنصار، و طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و عائشة الصديقة مع عبد الله بن عمر و حسان بن ثابت التي اعترف بها الكويتب.
و الرجل نفسه أورد العديد من الروايات التي تضحد شبهاته تجعلها كالريح لا قيمة لها و صدق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: "إني أضمن ألاَّ يأتيني أحد بكلام لمبتدع إلا و في كلامه ما يبطله".
فقد مر معنا أثر أبي هريرة مع أمنا عائشة رضي الله عنها لما قال لها: "ما كانت تشغلني عنه المرآة و المكحلة و الدهن" قالت: "لعله" (120).
بل كل استدراكات السيدة عائشة رضي الله عنها إنما هي تصحيح أو مؤاخذة على فهم أبي هريرة و لكنها تقر بصحبته في كل ذلك.
و نضيف شهادات صحابة آخرين فمنها: شهادة أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنه، فعن أشعث بن سليم عن أبيه قال: "أتيت المدينة فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة فقلت: تحدث عن أبي هريرة و أنت صاحب رسول الله ؟ قال إنه قد سمع ما لم نسمع و أن أحدث عنه عن رسول الله أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (121) .
و روى هذا الأثر الحاكم في » المستدرك « (6175) و قال: "قال أبو بكر -هو ابن خزيمة إمام الأئمة-: و قد روى عنه أبو أيوب الأنصاري مع جلالة قدره و نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده".
و ممن شهد له أبي بن كعب كما عند أحمد في » المسند « (20307) و أم الدرداء عنده أيضًا (10552) . رضي الله عن جميع الصحابة الكرام.
فصل:
أبو هريرة مقرئ فقيه:
تقدم معنا أن أبا هريرة ليس بالمحدث فقط بل هو مقرئ أيضًا. قال الذهبي: "و قد ذكرته في "طبقات القراء" و أنه قرأعلى أبي بن كعب. أخذ عنه: الأعرج و أبو جعفر، و طائفة و ذكرته في "تذكرة الحفاظ" فهو رأس في القرآن و في السنة و في الفقه".(1/42)
و نقل عن أبي محمد بن حزم الأندلسي رحمه الله في "الأحكام" أنه قال: "المتوسطون فيمن روى عنهم من الفتاوى: عثمان و أبو هريرة و عبد الله بن عمرو بن العاص و أم سلمة و أنس و أبو سعيد و أبو موسى و عبد الله بن الزبير و سعد بن أبي وقاص وسلمان و جابر و معاذ و أبو بكر الصديق. فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير" (122) .
فأين هذا من قول هذا الضال المفتري : "و لم يكن أبو هريرة عالمًا و لا فقيهًا و لا حتى كاتبًا يمكن الاعتماد على علمه و فقهه في تمحيص النصوص و نقدها و مدارستها، إنما كان راوية قصاصًا كتبت له الإمامة بحسن وعظه وكثرة تحديثه وجرأته حتى أصبح واحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يحضر ما لا يحضرون و يحفظ ما لا يحفظون، وكتبت له الشهرة بولائه لبني أمية و آل مروان، و خدمته لهم و دفاعه عن حكمهم و ملكهم و جماعتهم و قبيلتهم، حتى أصبح صهرًا لهم، و أميرًا من أمرائهم وإمامًا من أئمتهم.." (123) .
فأقول: قد بين حالك أنت و مخازيك من هو أعرف مني بك فأترك له وصفك بالحق كما وصفت هذا الصحابي الجليل بالباطل، فقد قال أخونا الأستاذ حسن العلمي عن هذا الضال: "عرفت هذا المغبون جاهلا مغرمًا بشبه المستشرقين، صفر اليدين من علوم الدين، التي يعد بها المرء في ديوان أهل العلم، حاورته منذ سنتين فألفيته مولعًا بسخافات المعتزلة و العقلانيين الجدد، ومنها الطعن في عصمة الأنبياء، و إنكار نزول المسيح عليه السلام، و إنكار النسخ في القرآن الكريم، و التشكيك في عدالة الصحابة، و الاستهزاء بمناهج المفسرين، و كتب التفسير، و الاستهانة بكتب السنة، مع صفاقة وجه و قلة حياء في مطاولة الأكابر" (124) .(1/43)
ثم قال: " وقد بلغني أنه يسير وفق مشروع مخطط له سلفًا، فهو حسب زعمه بعد أن انتهى من محو اسم أبي هريرة من ديوان الصحابة و الطعن في السنة سيستل صحفا أخرى من جرابه في موضوع » نحن و القرآن « لبيان فساد مناهج المفسرين، و ليقترح على الأمة منهج تفسير جديد للقرآن على سنة محمد شحرورالمهندس الحروري الكذاب" (125) .
فيا أنصار الإسلام، و أهل العلم و الإيمان هبوا لنصرة الدين في المغرب، قبل أن نلتحق بحال إخواننا في الأندلس أو في غيرها، فنبكي ولات حين مندم فقد تحزم العلمانيون و اليساريون لهدم الدين فهل من ناصر؟! و هل من غيور ؟!. اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد.
فصل:
هل كان أبو هريرة مدلسا؟
عقد الكويتب بوهندي فصلا بعنوان: "تدليس أبي هريرة"، حشاه بالمغالطات المبنية على مقدمات باطلة؛ بينا – بفضل الله – قيمتها في الميزان العلمي. وقبل أن نخوض في الرد عليه؛ نبين للقارئ الكريم معنى التدليس عند علماء الحديث وحكمه. فنقول :
هو أن يروي الرجل عمن عاصره وسمع عنه ما لم يسمعه منه، بصيغة تحتمل السماع؛ كـ (عن) ، و (أن) ، وهو أنواع ذكرها أهل العلم في كتب مصطلح الحديث. وهو مأخوذ من الدلس؛ وهو: اختلاط الظلام.
والتدليس بجميع أنواعه مكروه عند أكثر أهل العلم بالحديث، وبعضه أشد كراهة من بعض، والسبب في ذلك هو: أن الراوي عليه أن يبين رجال السند حتى يعرف المحدث صحة الحديث بمعرفة تواريخهم وثقتهم وعدالتهم (126) .
إلا أنهم لما اتفقوا على عدالة الصحابة الكرام؛ لم يبالوا بعد ذلك بتدليس بعضهم عن بعض؛ لأنهم كلهم عدول؛ فجهالتهم في الإسناد لا تضر. ولذلك قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم؛ سوى الصحابة. . . لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم" (127) .(1/44)
هذا ما قاله أئمة علم الحديث ومقعدوه، أما الكويتب الشانئ فقد أبى إلا مخالفتهم، وتكلم في هذا الفصل بجهل كبير لا يطاق، وخلط تخليطا فاحشا في القواعد العلمية.
والحق أنه في هذا الفصل إنما جارى عبد الحسين شرف الدين الرافضي وتابِعِه أبي رية المصري.
قال بوهندي: "روى الذهبي بسنده قال: سمعت الشعبي يقول: كان أبو هريرة يدلس...قلت: تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه؛ فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول.." (128) .
ثم أتبع هذا بشبهات حاصلها:
1. أن أبا هريرة يدعي الصحبة كذبا، فيخفي شيوخه حتى يقال : إنه صحابي سمع من النبي صلى الله عليه وأله وسلم بنفسه.
2. أن شيوخ أبي هريرة فيهم الصحابي والتابعي وأهل الكتاب، ولم يسمع ذلك كله من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كان ينكشف أمره كان يعترف بهذا التدليس. ثم ضرب لذلك مثالا برواية أبي هريرة : " من أصبح جنبا فلا صوم له "، وأنه كان يدعي أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما افتضح أمره برد أم المؤمنين عائشة وأم سلمة عليه؛ اعتذر بأنه سمعه من الفضل بن العباس، ثم رجع عن فتواه - .
والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا كلام جاهل أجنبي عن هذا العلم الشريف؛ فإن أول كلمة من كلامه تبين ذلك؛ إذ الذهبي لم يرو شيئا عن الشعبي ... إنما قال: " قال يزيد بن هارون. . . إلخ "، ولو رواه؛ لذكر إسناده منه إليه. فتأمل جيدا ...
الوجه الثاني: قد أجاب الذهبي نفسه عن ذلك كما نقله بوهندي، ورده الحافظ ابن عساكر كما أسنده في تاريخ دمشق (129) ؛ فإنه أصل هذه الرواية، وردها الإمام ابن كثير بقوله: " كان شعبة يشير إلى حديثه: من أصبح جنبا فلا صيام له. فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . ثم قال: وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم (130) .(1/45)
وقال الحافظ الذهبي: " هذا لا شئ؛ بل احتج المسلمون بحديثه قديما وحديثا، لحفظه وجلالته وإتقانه وفقهه. وناهيك أن مثل ابن عباس يتأدب معه ويقول: افت يا أبا هريرة.." (131) ، ووصفه أول الترجمة بقوله: " الإمام الفقيه المجتهد الحافظ؛ سيد الحفاظ الأثبات..." (132) .
وقال الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله تعالى: " وكلام شعبة ظاهر في أنه لم يرد التدليس بمعناه المعروف عند المحدثين، وإنما أراد شيئا آخر اعتبره هو تدليسا وليس بمعناه. . . ثم قال: وهذا ما يسمى في اصطلاح المحدثين: مرسل الصحابي. وهو حجة باتفاق الأئمة، لأن الغالب أن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي، والصحابة كلهم عدول... (133) .
الوجه الثالث: أن هذاه الرواية أخرجها الحافظ ابن عساكر من طريق الحسن بن عثمان التستري عن سلمة بن حبيب قال: سمعت يزيد بن هارون قال: سمعت الشعبي يقول: " كان أبو هريرة يدلس.." (134) .
وهذا إسناد باطل لا يحتج به البتة، فيه الحسن بن عثمان التستري، قال فيه ابن عدي: كان عندي يضع الحديث ويسرق حديث الناس، وسألت عنه عبدان الأهوازي فقال: كذاب.. وقال أبو علي النيسابوري: هذا كذاب يسرق الحديث...فتأمل هذا جيدا، ولاحظ كيف اعتمد بوهندي الجاهل روايات موضوعة لإسقاط عدالة أناس لا شك في عدالتهم ولا ريب. وقد حدث له هذا – كذلك – فيما جلبه ليبين متى أسلم أبو هريرة رضي الله عنه. ووالله لولا مخافة أن تنطلي شبهات هذا الجاهل على الناس، ولولا ما طلبه مني بعض الأحبة من التصدي له ما أعرته انتباها؛ لأنه أقل من أن يرد عليه، لكن الجهل قد عم وطم، وأصبحت أي شبهة تجد لها آذانا صاغية، وطبل العلمانيون لهذا الكتاب ونوهوا به في صحفهم؛ فوجب الرد عليه، إذ هو – في حقيقة الأمر – رد على العلمانيين، وفضح لمخططاتهم الخطيرة في بلاد المسلمين، والله المستعان.(1/46)
الوجه الرابع: أن أبا هريرة رضوان الله عليه صحابي لا شك في صحبته؛ كما بينت في الصفحات الماضية، وهو عدل ضابط ثقة، لا شك في ذلك، كما أشبعت ذلك بالحجج في ثنايا هذه الأبحاث المباركة.
أما أنه يروي عن صحابة وتابعين وأهل كتاب؛ فهذا من تهويلات هذا الكويتب الجاهل المعتادة، وإلا؛ فحقيقة الأمر أن جل أحاديثه سمعها مباشرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعضها من صحابة آخرين، كما كان يفعل كثير من الصحابة الآخرين – خاصة من صغر سنه أو تأخر إسلامه.
وقد روى الحاكم في » المستدرك « وصححه على شرط الشيخين عن البراء بن عازب قال: " ليس كلنا سمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانت لنا ضيعة واشتغال، ولكن الناس كانوا لا يكذبون يومئذ؛ فيحدث الشاهد الغائب".
والأمثلة عن الصحابة في رواية الأصاغر عن الأكابر أكثر من أن تحصر، وليس الأمر خاصا بأبي هريرة حتى يجعجع به هذا الشانئ المبطل لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الخامس : إن مسألة قضاء من أصبح على جنابة ليومه وهو صائم ليومه؛ إنما كانت فتوى يفتي بها أبو هريرة لحديث سمعه من الفضل بن العباس وأسامة بن زيد وقد كان ذلك حكما شرعيا ثم نسخ بعد ذلك، فلما بلغ أبا هريرة النسخ عن أمي المؤمنين أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما رجع إلى الصواب كما هو شأن أي عالم منصف يرجع للحق إذا علم الحكم فيه.
ولم ينفرد أبو هريرة رضي الله عنه بهذه الفتيا، بل قد قال بها بعض أهل العلم ولم يبلغهم حكم النسخ، أو لم يسلموه؛ منهم إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاووس اليماني والحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر. وكان الحسن بن صالح بن حي يستحب لمن أصبح جنبا أن يقضي ذلك اليوم (135).
فأين هذا من زعم بوهندي من أن أباهريرة تعمد الكذب وألصقه بصحابي مات قديما؛ وهو الفضل، حتى لا يفتضح أمره؟، مع أنه قد رواه – أيضا عن أسامة بن زيد وهو قد مات بعد أبي هريرة بزمن (136) .(1/47)
أما أن هذا الحكم كان في أول الإسلام ثم نسخ؛ فهو الذي عليه جماعة أهل العلم وفقهاء الأمصار، وقد أدخلوا هذا الحديث في حكم المنسوخ كما فعله ابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه"، وأبوبكر الحازمي في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار "، وسائر شراح الحديث رحمهم الله تعالى.
فأي ذنب لعالم فقيه عمل بما وصل إليه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بلغه نسخه؛ رجع عن فتياه؟، اللهم غفرانك من تطاول السفهاء على العلماء، وتجرؤ الجهال للكلام في دينك وشريعة نبيك - صلى الله عليه وسلم - .
وقد أسند الحافظ أبو بكر الحازمي عن الإمام الخطابي أنه قال: فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا: أن يكون ذلك محمولا على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم – كالطعام والشراب – فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر؛ جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر المتقدم، فيكون تأويل قوله: من أصبح فلا يصوم. أي: من جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزيه صوم غده؛ لأنه لا يصبح جنبا إلا وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة عين. وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه. . . وقد روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: رجع أبو هريرة عن فتياه فيمن أصبح جنبا أنه لا يصوم" (137) .
فصل:
أبو هريرة و الإسرائيليات:
سبق أن ادعى الكويتب بوهندي أن أبا هريرة رضي الله عنه مدلس و أنه دلس شيوخًا له من أهل الكتاب ثم زاد فحددهم بثلاثة و هم بصرة الغفاري، و عبد الله بن سلام، و كعب الاحبار.
و قد تخيل هذا الرجل من رحلة أبي هريرة رضي الله عنه للطور و مناقشاته العلمية لكعب و ابن سلام أسطورة طويلة الذيول و بنى عليها بناء فاسدًا سرعان ما يتهاوى تحت مطارق العلم.(1/48)
قال الكويتب (ص. 83): "إن رحلة أبي هريرة كانت من أجل عرض أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كعب الأحبار ليصدقها بالتوراة و لقد نجح أبو هريرة في مهمته رغم خداع كعب و صدق ما يحمله من أحاديث بما في توراة كعب ثم قفل راجعًا من حيث أتى".
ويقول (ص. 84): "إن رحلة أبي هريرة و كعبه و طوره و ما تحمله من رمزية إسرائيلية، لتجعل من معابد اليهود قبلة لنا تشد إليها الرحال و من أحبارهم علماء لنا تعرض عليهم الأخبار و من كتابهم ميزانا لما عندنا يقوم بدور التصديق و الهيمنة".
و الناظر في الفصول الأخيرة للكتاب يخرج بالنتائج التالية:
محرم - أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يروي الإسرائيليات على أنها أحاديث نبوية.
صفر - أن أبا بصرة الغفاري شخصية وهمية اخترعها أبو هريرة ليروي بها حديثًا فيه تعظيم لمعابد اليهود.
ربيع أول - كذب كعب الأحبار.
ربيع ثان - التشكيك في إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام – رضي الله عنه.
5. الطعن في صحة حديث النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، و حديث آخر ساعة يوم الجمعة.
و كل هذا قرره بجهل عجيب و فهم سقيم، كأنه قرر شيئًا في ذهنه ثم جعل يبحث عن حججه بفهم أعجمي لا يخطر على بال أحد و سنرد عليه في النقاط التالية:
? أبو هريرة يروي الإسرائيليات على أنها أحاديث:
هذه تهمة باطلة تلقفها الكويتب عمن سبقه كعبد الحسين الرافضي و أبي رية المصري و غيرهما.
و المقصود بالإسرائيليات هي الروايات التي يرويها من أسلم من أهل الكتاب عن علمائهم من أخبار و قصص و الأصل في ذلك ما رواه البخاري (3461) و الترمذي (2669) في باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بلغوا عني و لو آية و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج و من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".(1/49)
و عند أبي داود (3662) في باب الحديث عن بني إسرائيل من رواية أبي هريرة مرفوعًا: "حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج". و عن عبد الله بن عمرو (3663) بإسناد صحيح أنه قال كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح ما يقوم إلا إلى عظم صلاة.
و بذلك تقرر عند أهل العلم جواز الرواية عن بني إسرائيل شرط ألا يخالف ذلك ما عندنا و إلا فإنه يرد.
و لذلك فقد روى جمع من الصحابة و التابعين عن بني إسرلئيل كما هو معروف في كتب العلم و كما عرف ذلك عن عبد الله بن عمرو و وهب بن منبه و غيرهما و بكل حال لم يثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قط أنه زعم رواية إسرائيلية حديثا نبويا إلا ما كان في مخيلة بوهندي كذبًا منه و افتراء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أما أن يجمع المجلس أبا هريرة مع عالم آخر من أهل الكتاب فيصدق أحدهما الآخر فيما يتذاكرانه من العلم فهذا أي عيب فيه؟. و ما زال العلماء يتذاكرون في العلم و كل يدلي بما عنده من علم دون أن يكون في ذلك غضاضة على أحد.
? أبو بصرة الغفاري شخصية وهمية!.
مرة أخرى يزعم الكويتب الجهول انفراد أبي هريرة بذكر هذا الصحابي، و بذلك نفاه من الوجود، وزاد تخليطا شديدا في اسمه و كنيته.
و حقيقة الأمر أن بوهندي أتي من جهله و قلة اطلاعه، فإن أبا هريرة لم ينفرد بذكر هذا الصحابي الجليل، بل قد روى عنه نفس حديث النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة مرثد بن عبد الله كما عند أحمد في "المسند" (6/397) و عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كما عنده أيضًا (6/7) و عند البخاري في » التاريخ « و الطبراني في » المعجم الكبير«.(1/50)
و ما خلط به الكويتب في اسم هذا الصحابي الجليل فلعدم اهتدائه لشيخ متقن يأخذ بيده في العلم، و لذلك حذر العلماء أخذ العلم عن الصحف. و الصحيح أنه أبو بصرة جميل بن بصرة بن وقاص بن حبيب بن غفار. قال على بن المديني: "اسم أبي بصرة الغفاري جميل بن بصرة، قاله لي بعض ولده" روى عنه أبو تميم الجيشاني مرفوعا في المحافظة على صلاة العصر و أنه لا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، و الشاهد النجم. سكن أبو بصرة الحجاز ثم تحول إلى مصر (137) .
? كذب كعب الأحبار!.
كعب الأحبار من التابعين، و أئمة الجرح و التعديل اتفقوا على توثيقه، و قد ترجم له الذهبي ترجمة قصيرة في » تذكرة الحفاظ « و أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته في » تاريخ دمشق « و كذلك فعل أبو نعيم في » الحلية «في أخباره و عظاته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، و ترجم له الحافظ ابن حجر في » الإصابة « و» تهذيب التهذيب « و قال عنه في » التقريب « (5674) : " كعب بن ماتع الحميري، أبو إسحق، المعروف بكعب الأحبار، ثقة، مخضرم، كان من أهل اليمن فسكن الشام، مات في آخر خلافة عثمان، و قد زاد على المائة " اهـ. و قد اتفقت كلمة النقاد على توثيقه. فلا عبرة باتهامات بوهندي فإنها عند التحقيق اتهام له.
? التشكيك في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه:
و هذه أيضًا من المسائل التي سيبوء بإثمها بين يدي الله تعالى إن لم يتب. فإن هذا الصحابي الجليل من أفراد بني إسرائيل الذين أسلموا لما قدم النبي صلى الله عليه و آله و سلم المدينة. و له فضائل جمة عقد لها أئمة الحديث أبوابًا في مصنفاتهم. من ذلك ما رواه مسلم في » الصحيح « (2483) من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحي يمشي إنه في الجنة إلا لعبد الله بن سلام.
و روى من حديث قيس بن عباد (2484) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عنه: "يموت عبد الله و هو آخذ بالعروة الوثقى".(1/51)
إلى غير ذلك كثير. و ترجمته و فضائله مبسوطة عند علمائنا، و لا عبرة بهراء هذا الجاهل.
? الطعن في حديث "لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد":
و هذا أمر عجيب، إذ قد تقرر عند المسلمين أن المسجد الأقصى هو ثالث الحرمين الشريفين، و هذا الجاهل يقول إنه من معابد اليهود، فلا أدري هل هو بذلك ينسف جهاد المسلمين في فلسطين و يوافق على المشروع الصهيوني أمَّاذا؟!!
أما هذا الحديث فلا شك في صحته، بل هو حديث متواتر له طرق متعددة عن أبي سعيد الخدري و أبي بصرة الغفاري و جابر بن عبد الله و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص و علي بن أبي طالب و أبي الجعد الضمري و واثلة بن الأسقع و المقدام بن معدي كرب و أبي أمامة و عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم جميعًا.
أخرج ذلك عنهم أصحاب الصحاح وكتب السنة والمسانيد و المعاجم والأجزاء والطبقات والتواريخ.
و بقيت مسألة خلط و خبط فيها هذا الكويتب و هي حديث آخر ساعة يوم الجمعة، و لو أنصف نفسه ورحمها لطالع ما قاله شراح الحديث ففيه الشفاء لمن أراد الهداية، و أما الضال فلا علاج ينفعه.
و بهذا نأتي إلى نهاية هذه الأبحاث المسددة و أختمها بكلمة نفيسة نقلها الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في »المستدرك على الصحيحين « (3/513) عن إمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة (223-311 هـ) رحمهما الله تعالى و رضي عنهما، قال: "و إنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم، فلا يفهمون معاني الأخبار:
"إما معطل جهمي، يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم، الذي هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، و يرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه، تمويهًا على الرعاء و السفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة".(1/52)
"و إما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم و لا يرى طاعة خليفة و لا إمام، إذا سمع أخبار أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم الذي هو ضلال، لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة".
"أو قدري، اعتزل الإسلام و أهله، و كفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى و قضاها قبل كسب العباد لها، إذ تنظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر لم يجُد بحجة تؤيد صحة مقالته التي هي كفر و شرك كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها".
"أو جاهل يتعاطى الفقه و يطلبه من غير مظانه، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه و اختاره تقليدًا بلا حجة و لا برهان تكلم في أبي هريرة و دفع أخباره التي تخالف مذهبه و يحتج بأخباره عن مخالفيه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه".
"و قد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخبارًا لم يفهموا معناها أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله عز و جل" اهـ.
و أقول: و ينكر عليه علماني خبيث، قد رفض شريعة الله رأسًا، و خاف أن يفتضح أمره عند المسلمين، و نفاقه عند المؤمنين، و افتتن بأفكار و آراء المستشرقين و زبالة أذهان المستغربين، فجعل يطعن في هذا الصحابي الجليل.
فعذرًا يا سيدي أبا هريرة رضوان الله عليك من سفه هؤلاء المجرمين فلن يزيدك ذلك إلا رفعة في أعين المسلمين.
و أما انتم يا أعداء السنن و الآثار و الشريعة و الأخبار فباب التوبة مفتوح، و رحمة الله واسعة، و إلا؛ {ويمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين}، {يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره و لو كره الكافرون} .
و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.(1/53)
كتبه الحسن بن علي بن محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي بن محمد بن جعفر الكتاني الإدريسي الحسني بمدينة رباط الفتح بالمغرب الأقصى أدامها الله دار إسلام و سنة 26 جمادى الأولى عام 1423 هـ.
الهوامش
( 1) "السنة" لابن نصر المروزي ( 431) و "مفتاح الجنة" للسيوطي ( ص. 26).
( 2) "التفسير"للطبري ( 4/163) و "شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة" للاَّلكائي ( 1/7) و "جامع العلم " لابن عبد البر ( 1/17) و "الفقيه و المتفقه" للخطيب ( 1/88) و "مفتاح الجنة " ( ص. 62).
( 3) أحمد في "المسند" ( 1/379) و "فضائل الصحابة" ( 541) و الطبراني ( 8582) و الخطيب في "الفقيه و المتفقه" ( 1/166) و صححه الحاكم في "المستدرك" ( 3/78) و وافقه الذهبي.
( 4) ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" و أبو نعيم في "الحلية" ( 1/305) بلفظ مقارب عن ابن مسعود رضي الله عنه، و الأثر لا بأس به.
( 5) رواه البيهقي في "السنن" ( 10/209) و ابن عبد البر في "التمهيد" ( 1/58) و الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" ( 29) و ابن وضاح في "البدع" ( 1، 2) و غيرهم. و صححه الإمام أحمد و الحافظ العلائي.
( 6) رواه مسلم في "صحيحه" ( 173) و غيره، وله طرق و روايات عن جماعة من الصحابة في كتب السنة.
( 7) رواه ابن وضاح القرطبي في "البدع و النهي عنها" ( 4).
( 8) الخطيب في "ااكفاية في علوم الرواية" ( 1/49).
( 9) ( ص. 92).
(10) أحمد ( 4/142) و الترمذي ( 2664) و حسنه، و ابن ماجه ( 12) و الدارمي ( 592) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه بسند صحيح، و له طرق و روايات عن جمع من الصحابة.
( 11) " المدخل إلى الدلائل" ( 1/65).
( 12) اللاَّلكائي ( 1/123) و الخطيب في "الفقيه و المتفقه" ( 1/180) و غيرهم.
( 13) ابن سعد في "الطبقات" ( 7/184).
( 14) " تحقيق منيف الرتبة لمن تبث له شريف الصحبة " للحافظ العلائي ( ص.33).
( 15) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر ( 7/3).(1/54)
( 16) " تحقيق منيف الرتبة " ( ص.35).
( 17) نفس الصدر ( ص.38) و انظر " المستصفى " للغزالي ( 1/105) و " عمدة القاري " ( 16/169) و " تدريب الراوي " ( ص.396) و " شرح الألفية " للعراقي ( 3/4).
( 18) " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز ( ص.689).
( 19) ( ص.263).
( 20) ( ص.132)
( 21) انظر آيات أخرى في هذا المعنى في كتاب " فضائل الصحابة " ( ص.37) لشيخنا العلاَّمة عبد الله التليدي حفظه الله، و " منيف الرتبة " ( ص. 75).
( 22) رواه أحمد ( 4/426) و البخاري ( 3673) و مسلم ( 2541) و غيرهم.
( 23) رواه أحمد ( 2/297) بسند حسن.
( 24) رواه أحمد ( 4/399) و مسلم ( 2531).
( 25) رواه أحمد ( 4/87) و الترمذي ( 3862) و قال: هذا حديث حسن غريب.
( 26) رواه أحمد ( 3/266) و مسلم ( 2540) عن أنس رضي الله عنه.
( 27) "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ( ص.210)، و راجع "فضائل الصحابة" للتليدي ( ص.5) و "منيف الرتبة " ( ص.80).
( 28) "منهاج السنة" ( 3/291) و ( 4/210) و انظر"عيون الآثار" لعم والدنا محمد الناصر الكتاني ( ص.77).
( 29) " إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي " ( ص.51).
( 30) " الشفا في حقوق المصطفى " ( 2/39)، و كلام أيوب رواه ابن أبي زمنين في " أصول السنة " ( 189) و اللآلكائي ( 2333) بأتم من هذا.
( 31) " صفة الصفوة" لابن الجوزي ( 1/245).
( 32) انظر " الاستيعاب " لابن عبد البر ( 4/1768) و" سير أعلام النبلاء " ( ترجمة 222) و " حلية الأولياء " ( 1/376) و تهذيب الكمال ( 8275) و غيرهم كثير.
( 33) " الاستيعاب " ( 4/1771).
( 34) " السير " ( 4/198).
( 35) نفس المصدر ( 4/203).
( 36) " تاريخ دمشق " لابن عساكر ( 29/194).
( 37) الترمذي ( 3836) و حسنه.
( 38) ( ص.3).
( 39) " تدريب الراوي " للسيوطي ( 2/217).(1/55)
( 40) " جامع السيرة " لابن حزم ( 275) و " تلقيح فهوم أهل الأثر " لابن الجوزي ( 184) و " تدريب الراوي " ( 216) و " قواعد التحديث " للقاسمي ( 72).
( 41) " السير" ( 4/176).
( 42) " أبو هريرة في ضوء مروياته " للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي ( 76).
( 43) أخرجه الحاكم في " المستدرك " ( 6175) و ذكره الذهبي في " السير " ( 4/191)، و رواه الترمذي بنحو من هذا.
( 44) " البداية و النهاية " لابن كثير ( 8/503).
( 45) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر ( 1/283) " التاريخ الكبير " ( 574) و " تاريخ دمشق " ( 29/190).
( 46) " فتح الباري " ( 1/283) أحمد ( 4453) و الحاكم ( 6167) و صححه و أقره الذهبي.
( 47) " علوم الحديث " ( 296).
( 48) " تدريب الراوي " ( 2/217).
( 49) انظر شيئًا من ذلك في " البداية و النهاية " ( 8/502) و " سير النبلاء " ( 4/187).
( 50) كتاب " أبو هريرة في ضوء مروياته " و هو نفيس في بابه
( 51) "الإحكام " ( 2/134).
( 52) نفس المصدر ( 2/135).
( 53) " جامع بيان العلم و فضله " ( 1/1004) بتحقيق الزهيري.
( 54) " أبو هريرة في ضوء مروياته " ( 77).
( 55) ( ص.6).
( 56) ( ص.8).
( 57) " سير أعلام النبلاء " ( 4/186).
( 58) " فتح الباري " ( 1/297).
( 59) " فتح الباري " ( 1/286).
( 60) " جامع بيان العلم " ( 2/1001)، و انظر " الإحكام " لابن حزم ( 2/140).
( 61) " البداية و النهاية " ( 8/501).
( 62) " تاريخ دمشق " ( 29/192) و فيه يحيى بن عبيد الله وثقه الإمام يحيى بن سعيد القطان و ضعفه غيره.و للأثر طريق آخر . " السير " ( 4/189) و " البداية " ( 8/501).
( 63) " جامع بيان العلم " ( 1927)، و اللالكائي ( 202) و " أصول السنة " ( رقم 7) و سنده لا بأس به.
( 64) رواه البخاري ( 1325) و مسلم ( 945).
( 65) " طبقات ابن سعد " ( 2/118 قسم 2) و انظر " البداية " ( 8/503).
( 66) "سبل السلام" ( 3/296).(1/56)
( 67) "أبو هريرة في ضوء مروياته" ( ص.181).
( 68) رواه مسلم ( 2493) في فضائل أبي هريرة بلفظ قريب، و رواه ابن عساكر في "التاريخ" ( 29/195).
( 69) "تدريب الراوي" ( 2/217) و "الرياض المستطابة" (ص 310).
( 70) "تاريخ الإسلام" ( 3/336).
( 71) ( ص.11).
( 72) أخرجه البخاري ( 89).
( 73) "فتح الباري" ( 1/245).
( 74) ( ص.18).
( 75) انظر: 'السنة قبل التدوين' ( ص.46) و "أبو هريرة رواية الإسلام" فقرة ( أبو هريرة و عائشة) لمحمد عجاج الخطيب.
( 76) "الاستيعاب" ( 4/1885 )..
( 77) انظر "الشريعة" للآجري ( 143 ، 144).
( 78) "نزهة النظر" للحافظ ابن حجر ( ص.22) ط. الرشاد الحديثة.
( 79) "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ص. ( 224).
( 80) "نظم" ( ص.305) و "عيون الآثار" ( ص.401) و "الشفاعة" لمقبل بن هادي و قد استوعب كل ما ورد في الباب.
( 81) "نظم المتناثر " ( ص.129).
( 82) المصدر نفسه ( ص.170) و "اتحاف ذوي الفضائل المشتهرة" لشيخنا عبد العزيز بن الصديق ( ص.116).
( 83) رواه البخاري ( 119).
( 84) رواه أحمد في "المسند" ( 8081)، بسند ضعيف، لكن له شواهد تقويه.
( 85) "فتح الباري" ( 1/285).
( 86) "المستدرك " كتاب "معرفة الصحابة" ( 6158)، و فيه حماد بن شعيب و هو ضعيف، لكن تابعه الفضل بن علاء و هو صدوق فصح بذلك الحديث ولله الحمد.
( 87) "سير أعلام النبلاء " ( 4/187) و الأثر أخرجه الحاكم في " المستدرك" ( 6164) و صححه و أقره الذهبي.
( 88) "السنة و مكانتها في التشريع" ( ص 272) لمصطفى السباعي.
( 89) رواه أحمد ( 3/123) و مسلم ( 2470) و الحاكم ( 3/230).
( 90) رواه أحمد ( 5/392) و مسلم ( 1788) و الحاكم ( 3/31) و قال: صحيح الإسناد و وافقه الذهبي.
( 91) "أكثر أبو هريرة " ( ص.32).
( 92) "سير أعلام النبلاء" ( 4/241) ، ( 4/257) و "الاستيعاب" ( 3/957).
( 93) "السنة قبل التدوين" ( ص.450).
( 94) "فتح الباري" ( 1/274).(1/57)
( 95) رواه أحمد في "المسند" ( 6865) و انظر: ( 6952) و "السنة قبل التدوين" ( ص.455).
( 96) "أكثر أبو هريرة" ( ص. 37).
( 97) "أصحاب الصفة" لأبي تراب الظاهري ( ص.7).
( 98) "حلية الأولياء و طبقة الأصفياء" ( 1/373).
( 99) رواه أحمد ( 1/198) و البخاري ( 602) و مسلم ( 2057).
( 100) أخرجه أحمد في "المسند" ( 6/390) و البيهقي في "السنن الكبرى" ( 9/304) بسند حسن.
( 101) أخرجه مسلم في "الصحيح" ( 803).
( 102) "الإصابة" ( 1/54) و "أسد الغابة" ( 1/78).
( 103) "الإصابة" ( 1/70) و "الأسد" ( 1/104).
( 104) "أصحاب الصفة" ( ص.20).
( 105) نفس المصدر.
( 106) "صفة الصفوة" ( 1/237) و "الإصابة" ( 4/63).
( 107) "الإصابة" ( 1/233) و "الأسد" ( 1/277).
( 108) "أصحاب الصفة" ( ص.35،36).
( 109) "أكثر أبو هريرة" ( ص.37).
( 110) نفس المصدر ( ص.38).
( 111) نفس المصدر ( ص.40).
( 112) "نظم المتناثر" ( ص.224).
( 113) "مطابقة الاختراعات العصرية" ( ص.108).
( 114) "أكثر أبو هريرة" ( ص.45).
( 115) "تقريب التهذيب" ( رقم 6215).
( 116) "التقريب" ( رقم 5646).
( 117) "السير" ( 4/202) و "تهذيب التهذيب" ( 12/290).
( 118) "أكثر أبو هريرة" ( ص 11).
( 119) "أكثر أبو هريرة" ( ص 16).
( 120) "أكثر أبو هريرة" ( ص 18).
( 121) "طبقات ابن سعد" ( 2/372).
( 122) "السير" ( 4/203-205).
( 123) "أكثر أبو هريرة" ( ص.61).
( 124) "التشيع و العلمانية بالمغرب" ( ص.100).
( 125) نفس المصدر ( ص.102). و قد صدر كتابه الذي حذر منه أخونا المذكور.
( 126) انظر: "التقييد والإيضاح" ص 78، و"الباعث الحثيث" ( ص 50)، و"النكت" لابن حجر ( 2: 612) ، و"فتح المغيث" للسخاوي ( 1 : 179 ) ، و"تدريب الراوي" ( 1 : 223 ) .
( 127) "الكفاية" ( 1 : 63 ) .
( 128) "أكثر أبو هريرة" ص 49 .
( 129) "مختصر تاريخ دمشق" ( 29 : 198 ) .
( 130) "البداية والنهاية" ( 8 : 504 ) .(1/58)
( 131) "سير أعلام النبلاء" ( 4 : 193 ) .
( 132) "سير أعلام النبلاء" ( 4 : 175 ) .
( 133) "دفاع عن السنة" ص 11 .
( 134) "تاريخ دمشق" ( 67 : 397 ) .
( 135) "الاستذكار" لابن عبد البر ( 3 : 290 ) . ط العلمية .
( 136) شرح الزرقاني على "الموطأ" ( 2 : 216 ) ، و"فتح الباري" ( 4 : 146 ) .
( 137) "الاعتبار" للحازمي ص 346 .
( 137) هذا كله كلام ابن عبد البر في "الاستيعاب" ( 4/1612) و انظر كلامه في تحقيق اسمه و كنيته و من غلط في ذلك في "التمهيد" ( 23/37).(1/59)