المقدمة
الحمد الله الكريم الملك الوهاب ، مقلب القلوب ومسبب الأسباب ، يهدي إليه من أناب ، ويحرم الهداية من هو مسرف مرتاب ، بيده مقاليد كل شيء ، وإليه يرجع الأمر كله ، فلا يخفى عليه شيء ، ولا يعجزه شيء { هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }(1).
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل على عبده الكتاب ، وأمر الناس أن يقرأوه ويدبروا ما فيه ويعملوا به : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }(2)، فمن قرأه أجر ومن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن دعا إليه فقد هدي إلى صراط مستقيم ، ومن عمل بما فيه { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }(3)، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله .. أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وآتاه فصل الخطاب ...
وبعد
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرح للناس – بأفعاله – دستور القرآن .. فكان - صلى الله عليه وسلم - قرآناً يمشي على الأرض وبين لهم – بأقواله – بعض معاني القرآن كما قال سبحانه : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }(4)، ونرك للناس الكثير من آياته ليتفكروا فيها ويتعلموا منها ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم : { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ( 5 ) ، { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }(5)فكان الناس في تعاملهم مع هذا الكتاب درجات ،
__________
(1) 1 ) ... الرعد : 30 .
(2) 2 ) ... ص : 29 .
(3) 3 ) ... غافر : 40 .
(4) 4 ) ، ( 5 ) النحل : 44 .
(5) 6 ) ... النساء : 83 .(1/1)
فمنهم من لا يعرف من القرآن إلا اسمه ، هجروه واتخذوه وراءهم ظهرياً واشتروا به ثمنا قليلاً فبئس ما يشترون .
ومنهم من أنعم الله عليهم بحفظه وجعل صدورهم أوعية لكتابه ... ينتفع بهم الناس أنى وجدوهم .
ومنهم من آتاهم الله فهما لكتابه ، فنور قلوبهم بحفظه ، ونور عقولهم بفهمه ، ونور وجوههم بالعمل به ... فكانوا في الناس كالغيث أينما وقع ونفع ، ثم إنه سبحانه وتعالى ربط سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بكتابه ربطاً وثيقاً فهي المبينة لما غمض منه ، والمتصلة لما أجمل ، والموضحة لما أشكل ، والمقيدة لما أطلق ... وهي بعد ذلك كله تستقل بالتشريع ، فهي واجبة الاتباع ... وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله .
ومن هنا فإن القرآن والسنة قرينان لا ينفصلان ، ولقد من الله على أناس من خلقه جمعوا بين علوم القرآن وعلوم السنة فكانوا في الناس منارات هدى ومصابيح رشد ، فجعلت أفئدة الناس تهوى إليهم من كل زمان ، ورحلات طلاب العلم تيمم نحوهم من كل مكان ... فحدثوا وأجادوا وعلموا وأفادوا ، وكان من هؤلاء العلماء الكرام والأئمة الأعلام الإمام الشيخ الورع الحافظ أبو العلي محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري الأعظم كرهي ، الهندي الأصل ، المولود سنة 1283 هـ ثلاث وثمانين ومائتين وألف ، والمتوفى سنة 1353 ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية ، قضى ثلثي عمره في الإفادة والتعليم – أي نحواً من ست وأربعين سنة – وكف بصره وهو يؤلف كتابا [ لم تخط المكتبة الإسلامية – في مجاله – بمثله ] ألا وهو كتاب تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي .
أهمية الموضوع :(1/2)
وقد بحثت فيما توفر لي من مكتبات عن شرح – لسنن الترمذي – مخطوط أو مطبوع ينافس هذا الشرح في تمامه ووفائه فأعياني البحث ، ورجع إلى البصر كليلاً ، ثم فتشت في هذا الكتاب نفسه فوجدته قد جمع – إلى جانب سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مسائل كثيرة تتعلق بكتاب الله - عز وجل - منتشرة في ثنايا الكتاب كأنها اللؤلؤ المنثور .
فاستخرت الله - عز وجل - وشمرت عن ساعد الجد والاجتهاد واقتربت من هذا البستان اليانع الثمر ، الجميل المنظر ، الطيب الرائحة ... لعلي أصيب من نفحاته وأنال من خيراته ، فكان هذا البحث ، سميته { جهود الإمام المباركفوري في الدراسات القرآنية من خلال كتابه تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي " عرض ودراسة " } .
وقد دفعني لاختيار هذا الموضوع بعينه أسباب منها :
أولاً : طلب العلم من مظانه ... فالكتاب الذي يجمع بين التفسير والحديث واجتهاد العلماء خليق أن يؤخذ منه العلم ... ولا شك أنه سيكون مادة ثرية للبحث والمعرفة خاصة للمبتدئين مثلي .
ثانياً : تعلم الهمة العالية ، فهذا الرجل – المباركفوري – غير عربي ، وعاش في عصر مليء بالحروب والفتن ، في بلدٍ خيراته نهب للاحتلال الإتجليزي ... ومع ذلك استطاع أن يقوم بهذا العمل الضخم الجليل .
ثالثاً : إن هذا الكتاب – تحفة الأحوذي – من شروح أحد الكتب الستة المشهورة وهي الصحيحان وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .
وقد أدهشني – أثناء بحثي عن هذا الموضوع في سجلات الدراسات العليا بكليات الجامعة – أن مثل هذه الكتب لم يطرق أحد بابها ليأخذ ما فيها من مسائل تتعلق بالقرآن الكريم إلا قليلاً .
خطة البحث
وقد جاء هذا البحث في مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة .
المقدمة تتناول
أهمية الموضوع ، أسباب اختياره ، ومنهج البحث فيه .
الباب الأول :التعريف بمفردات البحث و فيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : التعريف بالإمام المباركفوري(1/3)
تحدثت فيه عن الشيخ من حيث : اسمه ، مولده ، نشأته العلمية ، وظائفه وأعماله ، علمه وصفاته ، ظروف عصره الذي نشأ فيه ، مؤلفاته ، شيوخه وتلاميذه ، مرضه ووفاته .
الفصل الثاني : التعريف بكتاب تحفة الأحوذي :
تحدثت فيه عن الكتاب من حيث : بيان معنى الاسم ( تحفة الأحوذي ) ، وصف الكتاب ، منهج المباركفوري فيه ، مكانة الكتاب بين شروح الترمذي ، مصادر المباركفوري في الشرح .
الفصل الثالث : كتاب سنن الترمذي :
تناولت فيه ترجمة مختصرة للإمام الترمذي من حيث اسمه ، نسبته ، فضله ، حفظه ، شيوخه وتلاميذه ، مؤلفاته عموماً ، كتابه جامع الترمذي بشكل خاص من حيث: اسمه ، الشروح عليه ، قيمة الكتاب وفضله ، بيان هل في الترمذي حديث موضوع .
الباب الثانى جهود المباركفوري في التفسير . وفيه فصلان :
الفصل الأول : جهوده في التفسير بالمأثور .
الفصل الثاني : جهوده في التفسير بالرأي .
الباب الثالث : جهود المباركفوري في علوم القرآن . وفيه أربعة فصول :
الفصل الأول. في مبحث نزول القرآن
الفصل الثاني :. : في القراءات
الفصل الثالث :فى مباحث متفرقة وفيه مبحثان: .
المبحث الأول : فى فضائل القرآن المبحث الثانى : في المكي والمدنى
الخاتمة : وتتناول :
نتائج البحث ، بعض التوصيات المقترحة ، فهارس البحث .
منهج البحث :
هذا وقد تمثل منهج البحث في هذه الرسالة في عدة نقاط هي :
أولاً : قمت بتقسيم البحث إلى أبواب ثم إلى فصول .
ثانيا : عرضت كلام المباركفوري بخط مميز أعلى الصفحة الأولى من المسألة
ثالثاً : عنونت لكل مسألة عنواناً مناسباً .
رابعاً : قمت بدراسة كلام المباركفوري مبيناً أقوال العلماء المخالفة أو الموافقة له .
خامساً : رجحت ما أميل إليه معضداً رأيي بالدليل .
سادساً : إذا كان في كلام المباركفوري إشارة إلى الحديث الذي يشرحه في الترمذي ذكرت الحديث براويه مع كلام الترمذي عليه وذلك كثير في الباب الثاني(1/4)
سابعاً رقمت الآيات القرآنية وبينت مواطنها ذاكراً رقم الآية واسم السورة
ثامناً : خرجت الأحاديث الواردة في البحث بادئاً في ذلك بالصحيحين ثم باقي الكتب الستة ثم التسعة ، ثم باقي الكتب .
تاسعاً : عزوت الحديث إلى الكتاب والباب – واكتفيت بذلك إن كان في الصحيحين – وذكرت حكم العلماء عليه – ما أمكن – إن كان في غيرهما .
عاشراً : خرجت الأبيات الشعرية وعزوتها إلى قائليها .
حادي عشر : عزوت كل قول إلى قائله معتمداً في ذلك على طبعة واحدة للكتاب .
ثاني عشر : قدمت لكل فصل من الفصول تقديماً مناسباً ... فعند الكلام عن جهود المباركفوري في التفسير بالمأثور – مثلاً – قدمت تقدمة بسيطة عن التفسير المأثور نشأته وقيمته وأشهر المؤلفات فيه وهكذا في سائر الفصول .
ثالث عشر : ترجمت للأعلام الواردة أسماؤهم ذاكراً عن كل منهم اسمه ، مولده ، وفاته ، وبعض كتبه ، كلام العلماء فيه سواء المشهور منهم والمغمور .
رابع عشر : وضحت معاني الكلمات الغامضة .
خامس عشر : قمت بعمل فهارس عامة للبحث تناولت فيها فهارس الآيات القرآنية مرتبة حسب ترتيبها المصحفي ، وفهارس الأحاديث والآثار مرتبة حسب ورودها في البحث ، وفهارس التراجم والأعلام مرتبة على حروف الهجاء ، وفهارس المصادر والمراجع على الموضوعات ( كتب التفسير أولاً ، ثم علوم القرآن ، ثم الحديث ، ثم التاريخ فالفقه فاللغة ) .
والله أسأل أن يحقق بغيتي ... بصواب قول واكتساب ثواب
ويكون هذا البحث مني خالصاً ... ألفاه عند الحق يوم حسابي
يا رب فاقبل فيك سعي واهدني ... وارحم جميع الصحب والأحباب ...
رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
الباحث
محسن عبد العظيم الشاذلي
ترجمة المباركفوري رحمه الله
** اسمه :(1/5)
هو الشيخ الإمام الحافظ الحجة سيدنا أبو العلي محمد عبد الرحمن ابن العلامة الحافظ الحاج الشيخ عبد الرحيم ابن الحاج الشيخ بهادر المباركفوري(1)الأعظم كدهي(2).
** مولده ونشأته العلمية :
ولد ببلدة مبارك بور من أعمال أعظم كده سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين من الهجرة ، نشأ في موطنه في حجر والده وتربى في كنفه(3)وقرأ المختصرات عليه(4)، واشتغل بالقراءة في صباه فختم القرآن الكريم وعدة رسائل باللغة الأردوية والفارسية ، ثم أخذ في قراءة الكتب الفارسية في الأدب والإنشاء والأخلاق على والده وبعض علماء بلده فنبغ فيها وبرع حتى فاق الأقران .
__________
(1) 1 ) ... مقدمة تحفة الأحوذي 461 ، ط : دار الحديث .
(2) 2 ) ... الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام المسمى بنزهة الخواطر وبهجة المسامع والمناظر لمؤرخ الهند الكبير العلامة الشريف عبد الحي بن فخر الدين الحسيني 3 / 1272 ، ط : دار ابن حزم .
(3) 3 ) ... المقدمة : 642 .
(4) 4 ) ... الأعلام 3 / 1273 .(1/6)
وقرأ العلوم العربية والمنطق والفلسفة والهيئة والفقه وأصول الفقه على علماء كثيرين(1). ثم ارتحل بعد ذلك إلى ما يجاور موطنه من القرى والبلاد فطاف على علمائها وحضر دروسهم فقرأ العلوم العربية وغيرها من الصرف والنحو والفقه وأصوله والمنطق على العلامة الشيخ حسام الدين المئوي ، والعلامة الشيخ فيض الدين المئوي ، والعلامة التقي الأورع الشيخ سلامة الله الجيراج فوري رئيس المدارس الدينية وناظرنا ببوفال في عهد العلامة النواب السيد صديق حسن القنوجي(2)ملك بوفال وغيرهم من العلماء المشهورين .
__________
(1) 5 ) ... معجم المؤلفين للشيخ رضا كحالة 5 / 166 ، ط : المتنبي .
(2) 1 ) ... الأمير نواب / صديق حسن بن أولاد حسن بن أولاد علي الحسيني البخاري القنوجي علامة الزمان وترجمان الحديث والقرآن ، ولد يوم الأحد 19 جمادى الأولى سنة 1248 هـ ببلدة بانس بربلي ، ولي نظارة المعارف في بوفال سنة 1286 هـ ، فقذف الله حبه في قلب ملكة بوفال وكانت أيماً فتزوجها ، بلغت مؤلفاته اثنين وعشرين ومائتين عدا الرسائل . الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام 3 / 8 / 1246 ، ط : دار ابن حزم .(1/7)
ثم اشتغل على مولانا عبد الله الغازيفوري(1)وقرأ عليه ، ثم سافر إلى دهلي وأخذ الحديث عن الشيخ نذير حسين الدهلوي(2)المحدث ، وأسند عن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليماني(3)والقاضي محمد بن عبد العزيز الجعفري(4)
__________
(1) 2 ) ... الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحيم بن دنيال الموي الأعظمكدهي ثم الغازيبوري ، أحد العلماء المبرزين في الفقه والحديث ، ولد سنة 1261 هـ ، وحفظ القرآن ودرس ، ودرس أكثر من خمس وعشرين سنة في شتى العلوم ، له مؤلفات عديدة ، وله رسائل في النحو والصرف والمنطق والمواريث وغيرها ، مات يوم الثلاثاء 21 من صفر سنة 1337 . الإعلام بنم في تاريخ الهند من الأعلام 3 / / / 1292 .
(2) 3 ) ... الإمام العالم الكبير نذير حسين بن جواد علي بن عظمة الله بن الله نخش الحسيني البهادري الدهلوي ، المتفق على نبالته وجلالته في العلم والحديث ، ولد سنة 1225 هـ بقرية سروج كدها ونشأ بها وتعلم الخط والإنشاء ، انتقل بين سائر البلدان يطلب العلم حتى بلغ في ذلك منصب التدريس والافتاء ، وكانت وفاته يوم الاثنين لعشر ليال مضين من رجب سنة 1320 هـ . المصدر السابق 3 / 8 / 1391 .
(3) 4 ) ... الإمام العلامة القاضي حسين بن محسن بن محمد بن مهدي ... ينتهي نسبه إلى عوف بن مالك الخزرجي الأنصاري الصحابي ، ولد 16 جمادى الأولى سنة 1245 ، وحفظ القرآن صغيراً ، لكنه لم يشغل نفسه بالتأليف ، تولى القضاء باليمن نحو أربع سنين ، توفي ليلة الأربعاء سنة 1327 المصدر السابق 3 / 8 / 1214 .
(4) 5 ) ... العالم المحدث شمس الدين أبو عبد الله القاضي محمد بن عبد العزيز الجعفري المجهلي شهري أحد العلماء المشهورين في الهند ، ولد لخمس بقين من شوال سنة 1252 هـ ، وكان بارعاً في الحديث ، شديد التعصب على مخالفيه خاصة الأحناف ، عفيفاً ديناً صالح العمل ، توفي يوم الثلاثاء 13 جمادى الآخرة سنة 1320 هـ . نفس المصدر 3 / 8 / 1343 ..(1/8)
(1).
** وظائفه وأعماله :
تولى التدريس بالمدرسة الأحمدية ببلدة آره فدرس وأفاد زمانا ، ثم انتقل إلى مدرسة دار القرآن والسنة في كلكتة فدرس بها مدة ثم اعتزل التدريس وانقطع إلى التأليف وأقام عند العلامة الشيخ شمس الحق العظيم أبادي(2)ثلاث سنين وأعانه في تكميل عون المعبود .
ثم عاد إلى وطنه مباركبور ولزم بيته عاكفاً على التصنيف والتأليف والدرس والإفادة والذكر والعبادة ، وقد نفع الله به جماعة من الطلبة والفضلاء(3)
وأسس مدارس دينية كثيرة درس فيها هو نفسه ، منها مدرسة دار التعليم ببلدة مباركفور لخدمة السنة النبوية وتجديد معالمها .
ومنها مدرسة عربية في بلرامفور من توابع كونده درس فيها مدة ثم اتفق أن دعاه رئيس القرية المعروفة " الله نكر " ليدرس بها ، فانتقل إليها سنة 1329 يدرس ويفيض من بحره لآلئ الحكم ودرر المعارف
__________
(1) 6 ) ... الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام .
(2) 1 ) ... الشيخ العالم الكبير المحدث شمس الحق بن أمير علي بن مقصود بن علي بن غلام حيدر بن هداية الله بن محمد زاهد بن نور محمد بن علاء الدين البكري الديانوي العظيم أبادي ، ولد لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 1273 ، وارتحل في طلب العلم مدة ، ثم رجع إلى بلدته وعكف على التدريس والتصنيف ، ومن مصنفاته : " غاية المقصود في شرح سنن أبي داود ولم يتم " ومنها عون المعبود شرح سنن أبي داود ، والتعليق المغني على سنن الدارقطني ، أعلام أهل العصر بأحكام ركني الفجر وغيرها ، توفي في التاسع والعشرين من ربيع الأول سنة 1329 . نفس المصدر 3 / 8 / 1243 .
(3) 2 ) ... الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام .(1/9)
ومنها مدرسة كبيرة في القرية المشهورة كوندؤ بونديها اسمها سراج العلوم ، وجلس فيها للتدريس والتعليم وهي أكبر المدارس في تلك الناحية ، ودرس فيها مدة كثيرة وانتفع به غيها خلق كثير ، واجتمع عليه لأخذ العلم جمع كبير ، ولا تزال المدرسة إلى الآن معمورة مشهورة ، وكان موضع ثقة جميع نظام المدارس - يستشيرونه في مهماتهم وفيما يتعلق بالأمور التعليمية والانتظامية – وجعلوا أمر نصب المدرسين وعزلهم إليه وبيده ، ولا يقطعون أمراً ولا يحكمون بشيء إلا بعد مشاورته وأمره وإذنه ، وإذا عرض لهم خطب أو نابهم أمر أو كانت لهم حاجة دينية أو دنيوية أو وقعت فيهم مشاجرة وخصومة استدعوه فأمرهم بما يصلح لهم وقضى حاجتهم وأصلح بينهم ، وهم ينقادون له ويسلمون لحكمه ، ويصدرون عن رأيه وتدبيره ، ولم يكن لهم أن يخالفوه(1).
** علمه وصفاته :
كان رحمه الله متضلعاً(2)من علوم الحديث متميزاً بمعرفة أنواعه وعلله ، وكان له كعب عال في معرفة أسماء الرجال ، وفن الجرح والتعديل ، وطبقات المحدثين ، وتخريج الأحاديث(3). وكان من العلماء الربانيين عالما عاملاً خاشعاً متواضعاً رقيق القلب سريع الدمعة كثير البكاء ، سخياً صاحب إيثار وكرم وبر بطلبة العلم ، بعيداً عن التكلف في الملبس والمأكل والمظهر والمخبر ، زاهداً متقللاً من الدنيا ، قانعاً باليسير زاهداً في المناصب والرواتب الكبيرة مكباً على العلم والتأليف والمطالعة ، ذاكراً الله تعالى في كل حال ، سليم الصدر نزيه اللسان كثير الصمت(4).
__________
(1) 1 ) ... المقدمة : 464 .
(2) 2 ) ... تضلع الرجل امتلأ ما بين أضلاعه شبعاً ورياً ، كناية عن غزارة العلم . اللسان ( ضلع ) .
(3) 3 ) ... الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام .
(4) 4 ) ... المصدر السابق .(1/10)
وقد شهد له شيخه الشيخ عبد الله المئوي(1)بالفضل والكمال لما شاهد فيه ما جمع الله له من العلم والعمل والورع والتقوى والزهد ، وإصابة الرأي وثقب العقل ، وقوة الذكاء ، وجودة الفهم ، ودقة النظر ولما أحر(2)فيه من مخائل النجابة الباهرة ، وأبصر فيه من سمات الرزانة الكاملة الظاهرة ، وأمارات المجد والعلى .
وقد نال شيخنا – رحمه الله – من الفضل والكمال مبلغ من العلو والشرف ما كان المتقدمون من المحدثين يعتنون به ويرغبون فيه ويتجشمون لأجله ، ويبذلون جهدهم لتحصيله من تكثير الشيوخ الثقات ، وطلب علو الأسانيد المعتبرة المعتمدة ، وهو من مهمات أصول الحديث ، ومن أسباب تقوية الحديث وتأييده ، فقد سئل بعض المحدثين : أي شيء أحب إليك ؟ فقال : القلب الخالي والسند العالي(3).
كان – رحمه الله – وحيداً في جمع العلوم العقلية والنقلية ، متضلعاً منها وماهراً بها ، ولكن كانت له مزية واختصاص بالحديث وفنونه من التمييز بين الصحيح والضعيف ، والراجح والمرجوح ، والمرفوع والموقوف ، ومعرفة المحفوظ والمعلول ، والمتصل والمنقطع ، وسائر أنواع الحديث ، وبمعرفة معاني الحديث وفقه ودقائق الاستنباط منه بمرتبة لم يكن أحد من معاصريه يقاربه ويدانيه ، وكانت له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ، وحظ وافر وقدرة واسعة في شرح الحديث وكشف العبارات ، كما لا يخفى على من طالع مصنفاته العربية وتأمل فيها(4).
__________
(1) 5 ) ... هو الشيخ الغازيفوري . سبقت ترجمته .
(2) 6 ) ... من التحري ومعناه التوخي وهو الطريق المعتمد ، يقال هذا وَخْيُ أهلك أي سمتهم حيث ساروا ، واستوخ لنا بني فلان أي استخبرهم . انظر اللسان ( وخي ، حرى ) .
(3) 1 ) ... المقدمة : 47 .
(4) 2 ) ... المقدمة : 47 .(1/11)
كما كان – رحمه الله – إماماً في الزهد ، عرضت عليه الأموال وهو يرد ذلك بتعفف ، ومن زهده أنه وصلت إليه الدعوة من ملك السعودية آنذاك لتدريس علوم الحديث براتب يليق بجلاله شأن الشيخ وجلالة ملك الحكومة السعودية فلم يجب دعوته ، وقال يكفيني ما يحصل لي من الكفاف .
وكان إماماً في الورع والسنة ، اتفقت عليه الألسنة بالصلاح والفلاح ، فإذا ذكر بحضرة من الناس على اختلاف مذاهبهم في مجالسهم قالوا : هو رجل من أهل الحديث صالح ، كان الناس يتهافتون على وعظه ، وكان بكاء يبكي ويبكي الناس وقافاً عند حدود الله وأوامره آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر ..
كان مذهبه في العبادات التمسك بالقرآن والسنة والقياس الصحيح من عير أن يقلد أحداً من الأئمة ، وفي الاعتقاد التمسك بكتاب الله - عز وجل - واتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ما روي عن الصحابة ، ثم ما روي عن التابعين رضوان الله عليهم وهو الإيمان والتصديق بما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع ترك البحث ، والتسليم لذلك من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تفسير ولا تأويل .
بالجملة كان – رحمه الله – إماماً في الحديث وفي الفقه والصلاح والزهد والورع والتقوى والعفاف والقناعة بالكفاف ، والصبر على المكاره والتواضع والحلم والأناة والصدق والأمانة وحسن القصد والإخلاص والإنابة إلى الله تعالى وشدة الخوف منه والتمسك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً وعملاً واعتقاداً في السر والعلانية وحسن الأخلاق ونفع الخلق والإحسان إليهم ومواساتهم والاستغناء عنهم ... ولقد اعترف باجتماع هذه الخصال فيه كل من جالسه ولازمه أو صحبه ، ولقد صدق القائل(1/12)
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد(1)(2)
** ظروف عصره الذي نشأ فيه **
** الهند :
هي بلاد واسعة تزيد مساحتها على ... ر280 ر3 كم ويبلغ عدد سكانها 585 مليون نسمة يعيش بينهم أكثر من 94 مليون مسلم يمثلون نسبة 14% من السكان .
وصل الإسلام إلى الهند عن طريق الفتح إذ دخل محمد بن القاسم الثقفي الجهات الشمالية الغربية عام 94 هـ ، وتقف بعدئذ الفتح ، ثم كان انتشار الإسلام في باقي البلاد نتيجة التجارة والدعوة ، وأثناء حكم المسلمين للهند وانتقال الدعاة في مناطقها المختلفة . ولولا المستعمرون الذين دخلوا البلاد مغتصبين ووقفوا في وجه الإسلام وحاربوه بكل وسيلة امتلكوها لعم المناطق كلها(3).
كانت اللغات المعروفة في الهند عدا لغات الهنود الأصليين ثلاثاً : العربية لغة الدين الإسلامي والتركية لغة الأسرة التيمورية ، والفارسية لغة البلاط والدولة(4)
أما السكان الأصليون فيتكلمون لغات مختلفة وكثيرة تزيد على مائتي لغة أهمها اللغة الهندية ، والبنغالية(5).
__________
(1) 1 ) ... البيت من بحر السريع ، وهو لأبي نواس في ديوانه تحت عنوان ( قولا لهارون ) ص : 179 ، ط : دار الكتب العلمية – بيروت .
(2) 2 ) ... المقدمة : 477 ، 478 .
(3) 1 ) ... التاريخ الإسلامي . الشيخ محمود شاكر 22 / 27 ، طبعة المكتب الإسلامي .
(4) 2 ) ... حاضر العالم الإسلامي 2 / 4 / 305 ، طبعة دار الفكر ، تأليف : لوثروب ستودارد الأمريكي ، نقله إلى العربية الأستاذ عجاج نويهض ، وفيه فصول وتعليقات بقلم الأمير شكيب أرسلان .
(5) 3 ) ... التاريخ الإسلامي 22 / 36 .(1/13)
ونظراً لكثرة السكان فقد انتشرت بينهم ديانات كثيرة ، فكانت هناك الديانة الهندوسية ، الوثنية ، البوذية ، الإسلام ، المسيحية ، وتعتبر الديانتان الأخيرتان ( الإسلام ، المسيحية ) وافدتين على الهند ، أما المسيحية فقد اصطدمت بعقيدة ألوهية الكون الهندية ، وبالمواقع التي استولى عليها الإسلام ، فلم يجاوز أتباعها المليونين ، وإن كانت شوكتهم قد قويت بمجيء الاحتلال الانجليزي للبلاد .
وأما الإسلام فقد استمر في تقدمه في السهول حيث بلغ مشايعوه 60 مليون نسمة حوالي سنة 1900(1).
** الحالة الدينية :
كانت هناك ديانات كثيرة في الهند – كما تقدم – كان أقواها الهندوسية ( البراهميون ) ، وقد كانوا يحقدون على المسلمين كثيراً لسببين :
السبب الأول : أن الديانة الهندوسية تقوم على تقسيم المجتمع إلى طبقات خمس هي : الكهنة ، المحاربون ، المزارعون ، الخدم ، الشودرا . فالمسلمون – بناءّ على هذا التقسيم – غرباء على هذا المجتمع البراهمي ، لذا فإن البراهمة ينظرون إلى المسلمين على أنهم دخلاء على بلادهم .
السبب الثاني : أن المسلمين يعدون البقرة حيواناً سخرها الله للإنسان للإفادة من لبنها ولحمها والحراثة عليها ، على حين أن البراهميين يعدون البقرة لإلههم فيقدسونها ... ومن هذا التباين لابد من وقوع الخلاف بين الطرفين ... لذا كانت مخططات البراهمة محاولة القضاء على المسلمين بأي صورة كانت سواء بالحرب أو بالإبادة أو بالارتداد عن دينهم ، ووجد مخطط من هذه المخططات يقضي بالعمل على الانتهاء منهم بقطع نسلهم عن طريق إعطاء النساء حقنا تحول بينها وبين الحمل ، وقد بدأ التنفيذ وتنبه المسلمون إلى هذا ووقعت أحداث دموية إثر ذلك(2).
__________
(1) 4 ) ... تاريخ الحضارات العام ( القرن التاسع عشر ) تأليف روبير شنير 6/462 ، ط منشورات عويدات
(2) 1 ) ... التاريخ الإسلامي 22 / 37 .(1/14)
ومما أزاد الضغط على المسلمين هناك وقوع الهند تحت الاحتلال الإنكليزي ، ثم وقوف الإنجليز إلى جانب البراهمة ضد المسلمين ، وبذا وقع المسلمون بين نارين ، نار العداوة الداخلية ، ونار الاحتلال الخارجية .
ثم كان توجه الاحتلال بعد ذلك إلى تنصير المسلمين لكنهم لم ينجحوا في ذلك فعملوا على تنصير الهندوس ليكونوا أعواناً لهم في المستقبل(1).
** الحالة الاقتصادية :
لاشك أن أي بلد يقع تحت نار الاحتلال يفقد كثيراً من مقدراته ، كما أن كثرة عدد السكان تقضي على خيرات البلاد مهما كثرت ، وأيضاً توجه السكان جميعاً إلى نشاط إنتاجي واحد وإهمالهم سائر الأنشطة الأخرى يقلل من النتاج الاقتصادي في جملته .
وقد اجتمعت كل هذه العوامل في الهند ، فهم قد وقعوا تحت الاحتلال الإنجليزي ، وهم من أكثر دول العالم سكاناً ، والكثير منهم ينزع إلى الزراعة .. من هنا ساءت الحالة الاقتصادية ونتج عن ذلك أن ساءت الأحوال المعيشية ، فلم يتوفر لكل الأسر المسكن المناسب ، وساءت الأحوال الصحية " فانتشرت الأمراض مثل الكوليرا التي فتكت – بين عامي 1882 ، 1890 – بـ 6 % من السكان ، والطاعون الذي هلك – به زهاء مائة ألف شخص سنوياً بين عامي 1878 ، 1887 ، وثمانمائة ألف شخص سنة 1891 فقط ، وسبعمائة وواحد وعشرين ألفا سنة 1892 "(2)، ناهيك عن أن المستعمر استولى على أحسن أراضي المسلمين خصوصاً ، فعاش المسلمون في فقر مدقع وجهل شديد .
** الحالة العلمية :
__________
(1) 2 ) ... المصدر السابق .
(2) 1 ) ... تاريخ الحضارات العام 6 / 460 .(1/15)
لقد انحاز المحتلون انحيازاً كاملاً ضد المسلمين ... فصادروا أملاكهم وهدموا مساجدهم ومنعوهم من التعليم إلا على طريقتهم ، وهنا قام بعض المفكرين المسلمين يعملون لسد الثغرة التي حصلت وأدت إلى تأخر المسلمين فنادوا بالعمل والتعليم ، فأنشئت المدارس والجامعات والمراكز الإسلامية الخاصة بالمسلمين التي يربون فيها أبناءهم حسب المناهج التي يختارونها لهم ... وكانت هذه المؤسسات التعليمية شاملة مختلف مراحل التعليم ، ومن أهم هذه المؤسسات :
أ – في شمالي الهند :
* دار العلوم في لكنو ، وتتبع ندوة العلماء ... وتصدر هذه الدار ثلاث مجلات ( الرائد ، البعث الإسلامي ، تعمير الحياة ) .
* مدرسة الإصلاح في أعظم كره .
* الجامعة الرحمانية في بيهار .
* المدرسة العالية النظامية في لكنو وتدرس القرآن الكريم والتفسير والحديث والفقه والمنطق والنحو والصرف والتجويد .
ب – في غرب الهند :
* دار العلوم الأشرفية وهي أقدم المدارس العربية .
* الجامعة الحسينية . ... ... * الجامعة العربية الإسلامية .
ج – في جنوب الهند :
* جامعة دار السلام . ... * مدرسة الباقيات الصالحات .
* روضة العلوم . ... ... * الكلية العثمانية .
د – في وسط الهند :
* الجامعة النظامية . ... ...
* الجامعة العثمانية وقد تأسست عام 1306 هـ وتضم اليوم إحدى وستين كلية ، وفيها دار للنشر والتوزيع للعلوم الشرفية والمعروفة باسم ( دائرة المعارف العثمانية – حيدر آباد ) وغير ذلك مئات من المدارس والجمعيات .
ويلاحظ أن كل هذه المؤسسات – وغيرها – لم تقم في المناطق التي ترتفع فيها نسبة المسلمين ، إنما في المناطق التي كانت مقراً للحكم الإسلامي أو لحكومات إسلامية أو محطات تجارية(1).
__________
(1) 1 ) ... التاريخ الإسلامي 22 / 42 .(1/16)
ويمكن القول : أن تدهور الأحوال الاقتصادية في الهند والأزمات الدينية التي مر بها المسلمون لم تحل دون إيجاد مناخ علمي خالٍ من المؤثرات الأجنبية مما أتاح نهضة علمية كبيرة في هذا البلد ، كان من أطيب ثمراتها هذا العالم الإمام المباركفوري ، وإن قيمته لتعظم وشأنه ليجل إذ يخرج بعلمه هذا كله من بين هذه الظروف الصعبة والأزمات الطاحنة وينشره بين الناس .
* * مؤلفاته :
لشيخنا – رحمه الله – تصانيف مفيدة في بعض المسائل الاختلافية بين أرباب المذاهب جمعها وألفها للحاجة الدينية والخدمة الإسلامية ذَبَّا عن السنة النبوية ، وله تآليف أخرى بديعة حسنة حافلة بمباحث نادرة طارت إلى الآفاق .. ورزقت حسن القبول ... قد بث في كل مؤلف منها علوماً ومعارف وحكماً وحقائق تنشط القلوب والأذهان ، وتطرب المسامع والآذان ..
من هذه المؤلفات :
1 – تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي . وسيأتي الكلام عليه مبسوطاً في مبحث خاص به .
2 – مقدمة تحفة الأحوذي – في مجلد واحد – أودعها من الفوائد والأفكار ما يجل عن الوصف فلو أعيدت تسميتها لقيل إنها مقدمة علوم وهي في بابين .. تكلم في الباب الأول عن تعريف علم الحديث وفضله وتاريخه – نشأة وتدويناً – وأثبت حجية الأحاديث النبوية ، وتكلم عن أنواع كتب الحديث كالجوامع ، والسنن والمسانيد ، المستدركات ، والمسلسلات ، والمعاجم ، الأمالي ، الأجزاء .
كما تكلم عن علم أسماء الرجال وذكر أئمة الجرح والتعديل ، وتكلم أيضاً عن علم أصول الحديث ، وذكر الكتب المصنفة في تخريج الأحاديث كالأحاديث الموضوعة ، والناسخة والمنسوخة ، التوفيق بين الأحاديث الموهم ظاهرها للتناقض ، كما ذكر الكتب المصنفة في أنساب أهل الحديث ورجاله ، والمصنفة في وفيات المحدثين ، وأسماء الصحابة ... وكان ختام الباب الأول في تذكرة لكتب الحديث العلمية النادرة ، وبيان أمكنة وجودها ليستفيد منها من استطاع إليها سبيلاً .(1/17)
أما الباب الثاني من المقدمة فقد خصصه المباركفوري – رحمه الله – للكلام عن الإمام الترمذي وكتابه السنن ، بين فيه فضائل سنن الترمذي ورواته وشرط الترمذي - رضي الله عنه - فيه ، وبين مرتبة كتاب سنن الترمذي بين كتب الحديث ، كما شرح بعض الألفاظ التي استعملها الترمذي في كتابه ، وترجم لفقهاء المحدثين وأئمتهم الذين ذكرهم الترمذي ، وكذا أئمة التفسير واللغة المذكورين في جامع الترمذي . وكان ختام الباب شرحاً لبعض الألفاظ التي استعملها الشيخ المباركفوري في شرحه لسنن الترمذي كلفظ " الحافظ ، الفتح ، التقريب ، الخلاصة " ونحوها مما سيأتي الكلام عليه فيما بعد إن شاء الله .
3 – أبكار المنن(1)تنقيد آثار السنن :
وهو كما يتضح من عنوانه نقد لكتاب آثار السنن للشيخ ظهير أحسن النيموي(2)والذي انتصر فيه للمذهب الحنفي عن طريق تزييف وتوهين أحاديث تخالف المذهب الحنفي وإن كانت صحيحة ثابتة عند فيرهم ، وتقوية الأحاديث التي تؤيد المذهب الحنفي ولو بتأويل بعيد بارد ، فكان كتاب " أبكار المنن " نقداً لما جاء في هذا الكتاب ذباً عن حرم السنة النبوية . وهو كتاب حافل يضر من طالعه إلى الاعتراف بأن شيخنا بحر في علوم الحديث ليس له ساحل ، كأنه ذهبي زمانه في نقد الرجال ، وبخاري أوانه في معرفة علل الحديث ، وابن تيمية عصره في الاستبحار وشدة المعارضة والبحث .
4 – تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام :
__________
(1) 1 ) ... المُنن بضم الميم جمع مُنَّة وهي القوة ، انظر اللسان ( منن ) .
(2) 2 ) ... الشيخ العالم الفقيه ظهير أحسن بن سبحان علي الحنفي النيموي العظيم آبادي أحد العلماء المبرزين في الفقه والحديث ، ولد ونشأ بقرية نيمي ، واشتغل بالعلم من صغره وسافر في طلب العلم ، صنف آثار السنن – الذي انتقده المباركفوري - ، أوشحة الجيد في تحقيق الاجتهاد والتقليد وغيرهما توفي سنة 1325 . أعلام الهند 3 / 8 / 1255 .(1/18)
وهو في اللغة الأردية في جزئين كبيرين ، ذكر في الجزء الأول أدلة القائلين بوجوب القراءة خلف الإمام ، وفي الجزء الثاني أدلة المخالفين والرد عليها .
5 – خير الماعون في منع الفرار من الطاعون :
وهو باللغة الأردية أيضاً ويقع في جزئين متوسطين .
6 – المقالة الحسنى في سنية المصافحة باليد اليمنى .
7 – كتاب الجنائز . ... ... 8 – نور الأبصار .
9 – تأييد نور الأبصار ، أثبت فيهما وجوب الجمعة في القرى .
10 – ضياء الأبصار .
11 – القول السديد فيما يتعلق بتكبيرات العيد وكلها مطبوع باللفة الأردية
وللشيخ – رحمه الله – رسائل أخرى لم تطبع إلى الآن منها : " الدر المكنون في تأييد خير الماعون ، الوشاح الإبريزي في حكم الدواء الإنكليزي ، إرشاد الهائم إلى منع خصاء البهائم ، والكلمة الحسنى في المصافحة باليد اليمنى "
كما جمع الشيخ – رحمه الله – الفتاوى المتفرقة لشيخه العلامة السيد نذير حسين ، وأضاف إليها فتاواه في بعض المواضع ورتبها في مجلدين كبيرين ، وجمع أيضاً فتاوى شيخه الغازيفوري ورتبها على الأبواب الفقهية .
وكتب هو فتاوى أخرى كثيرة في علم المواريث وغيره(1).
** شيوخه وتلاميذه :
كان الشيخ – رحمه الله – شغوفاً بطلب العلم لا يضنيه في سبيل تحصيله جهد ، ولا يبخل عليه بمال أو وقت ... لذا كان ينتقل بين شيوخ عصره انتقال النحل بين الزهور يأخذ من كل شيخ ما عنده من العلم .
__________
(1) 1 ) ... المقدمة : 472 – 475 .(1/19)
وكان من أبرز شيوخه الشيخ بد الله الغازيفوري رئيس الأساتذة بمدرسة حشمئة رحمت ، لازمه شيخنا نحو خمسة أعوام يستغرف من بحاره ويقتبس من أنوار علومه ، فقرأ عليه العلوم العربية من النحو والصرف والمعاني والأدب ، والفنون الآلية العقلية من المنطق والهيئة والهندسة والحساب ، والعلوم الدينية الشرعية من الفقه والحديث والتفسير وأصولها ... حتى شهد له شيخنا بالفضل والكمال ، ثم أشار أ، يقصد حضرة الشيخ الإمام نذير حسن البهاري ثم الدهلوي فذهب إليه يستمطر من صوب مزنه ويرتوي من زلال معارفه ... فقرأ عليه صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، وسنن أبي داود كاملة ، وأواخر النسائي ، وأوائل ابن ماجة ، ومشكاة المصابيح ، وبلوغ المرام ، وتفسير الجلالين ، وتفسير البيضاوي ، وأوائل الهداية ، وأكثر شرح نخبة الفكر .
ثم توجه بعد ذلك إلى القاضي حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي اليماني فقرأ عليه الأطراف من الأمهات الست وغيرها من كتب الحديث كموطأ مالك ، ومسند الدارمي ، ومسندي الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل ، والأدب المفرد للبخاري ، ومعجم الطبراني الصغير ، وسنن الدار قطني ... فكتب له الإجازة برواية هذه الكتب بأسانيدها المتصلة إلى مؤلفيها ، بل أجاز له أن يروي عنه جميع ما حواه أتحاف الأكابر من الكتب الحديثية وغيرها . وهذا فضل عظيم لم يفز به كثير ممن عاصروه من الفضلاء ولم يشاركه فيها إلا قليل
ونتيجة طبيعية لتلقي الشيخ كل هذه العلوم عن هؤلاء الأشياخ الأجلاء قام هو بدوره في نشر العلم في شتى بقاع بلاده حتى قضى في التدريس والإفادة ثلث عمره ، وكان له في كل بلد تلامذة ومريدون يفيدهم ويسعف بمأمولهم وينور قلوبهم بأنوار معارفه ...
وكان منهم العلامة الشيخ أبو الهدى عبد السلام المباركفوري صاحب سيرة البخاري ، وابنه الشيخ عبد الله الرحماني أستاذ الحديث بالمدرسة الرحمانية بدهلي .(1/20)
ومنهم العلامة الأستاذ محمد بن عبد القادر الهلالي المراكشي أستاذ العربية بجامعة بن بألمانيا .
والعلامة الحافظ الشيخ عبد الله النجدي القويعي المصري ، والفاضلة رقية بنت العلامة الأستاذ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الأنصاري ، والشيخ محمد إسحاق الأدري صدر المدرسين بالمدرسة الأحمدية السلفية بدر بهنكة ، والفاضل الأديب الشيخ عبد الرحمن النكرنهوي أستاذ العربية بالمدرسة الرحمانية وغيرهم ممن يتعسر عد أسمائهم(1).
مرضه ووفاته :
كف بصر الشيخ في آخر عمره فصبر على ذلك راجياً الأجر والثواب من الله ، وكمل المجلدين الأخيرين من شرح جامع الترمذي آنذاك بمساعدة تلميذيه : الشيخ عبيد الله المباركفوري ، والشيخ عبد الصمد المباركفوري .
وقد عرض عليه أهله أن يعرض عينيه على طبيب حاذق في معالجة العيون فرفض ذلك لأنه آثر موعود الله في الآخرة .
ثم إنه أراد أن يسافر إلى دهلي لتكملة طبع شرح جامع الترمذي فألح عليه أصحابه أن يذهب إلى مستشفى يختص بمعالجة العين مستعيناً بالله .. وبعد زمان يسير من العلاج عاد إليه بصره ، ويشاء الله أن يبتليه بمرض آخر هو مرض ضعف القلب الذي غلب عليه حتى مضى نصف شعبان وأكثر رمضان في هذا المرض ، وأخذته الحمى أيضاً ، وكان كذلك إلى أن حان أجله المحتوم وغلب القضاء والقدر ، فانتقل إلى جوار ربه في ثلث الليل الأخير للسادس عشر من شوال سنة 1353 هـ ، الثاني والعشرين من يناير سنة 1935 م ، ووصل نعيه بالتلغراف إلى ما يجاوره من القرى والأمصار ، فورد كثير من أهلها للصلاة عليه ، فلم ير مثل الازدحام على جنازته في مباركفور ، ولم يكن للمسلمين في مباركفور جمع أكثر منهم على جنازته(2).
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ، آمين .
__________
(1) 1 ) ... مقدمة تحفة الأحوذي باختصار وتصرف من ص : 461 إلى ص : 479 كتبها تلميذه الشيخ أبو الفضل عبد السميع المباركفوري - رضي الله عنه - .
(2) 2 ) ... لم أقف على ترجماتهم .(1/21)
** معنى تحفة الأحوذي **
** التحفة : الطرفة من الفاكهة وغيرها من الرياحين .
والتحفة أيضاً : ما أتحفت الرجل به من البر واللطف والنغص(1)، وفي الحديث تحفة المؤمن الموت "(2)أي ما يصيب المؤمن في الدنيا من الأذى ، وماله عند الله من الخير الذي لا يصل إليه إلا بالموت "(3).
** الأحوذي :
مشتق من حاذ يحوذ حوذاً كحاط حوطاً ، والحوذ والأحواذ السير الشديد ، الأحوذي السريع في كل ما أخذ فيه وأصله في السفر .
والأحوذي : الخفيف في الشيء بحذقة .
والأحوذي : الذي يسير مسيرة عشر في ثلاث ليال .
والأحوذي : المشمر في الأمور القاهر لها ، الذي لا يشذ عليه منها شيء ، وفي حديث عائشة – رضي الله عنها – تصف عمر - رضي الله عنه - : " كان والله أحوذياً نسيج وحده "(4)(5).
ولعل معنى العنوان بعد هذا العرض لمعنى الكلمتين في اللغة " خلاصة ما فهمه المؤلف الفاهم المجتهد من سنن الترمذي ، والله أعلم " .
وصف الكتاب :
وكتاب تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي هو شرح لكتاب سنن الترمذي أودعه المؤلف الإمام المباركفوري خلاصة ما توصل إليه من أفهام ، وجميل ما آتاه الله وعلمه من الأخبار والأحكام .
__________
(1) 1 ) ... نغص الرجل لم تتم له هناءته - اللسان نغص – وهو إشارة إلى أن التحفة تكون بالخير وغيره والله أعلم .
(2) 2 ) ... عزاه العجلوني إلى ابن المبارك والطبراني والحاكم وأبي نعيم والبيهقي والديلمي . كشف الخفا 1 / 297 ، ط : مكتبة القدس . ... ... قلت : هو عند الديلمي بلفظ تحفة المؤمن ثلاث : الفقر والمرض والموت ، فمن أحب الله أحبه الله وكافأه الجنة . انظر الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 2 / 71 ، ط : دار الباز ، تحقيق / السعيد بن بسيوني زغلول .
(3) 3 ) ... اللسان مادة ( تحف ) .
(4) 4 ) ... ذكره ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 439 ، ط : دار الكتب العلمية
(5) 5 ) ... اللسان ( حاذ ) .(1/22)
وهو شرح قد فاق غيره من الشروح لما فتح الله لصاحبه من التجليات والفتوحات ، فأتى فيه من المباحث والمسائل ما يدهش الآراء والأفكار ويحير العقول والأنظار ، ويبصر ذوي الألباب والأبصار .
وهو شرح يقع في تسعة مجلدات من القطع المتوسط ، رتبه الشارح على أبواب الترمذي كما وردت في السنن ، يبدأ الجزء الأول بمقدمة المؤلف التي بين فيها سنده في كتاب الترمذي إلى مؤلفه ، وأجازه شيخيه – الشيخ محمد نذير حسن الدهلوي ، والشيخ حسين بن محسن الأنصاري – له برواية الكتب التي قرأها عليهما ، وتناول فيه كتاب الطهارة وجزء من كتاب الصلاة .
وفي الجزء الثاني تناول بقية أبواب الصلاة ، وأبواب السهو ، وأبواب الوتر ، وكتاب الجمعة ، وأبواب العيدين ، والسفر .
وفي الجزء الثالث تناول كتاب الزكاة ، والصوم ، والحج ، والجنائز ، والنكاح .
وفي الجزء الرابع تناول كتاب الرضاع ، والطلاق ، واللعان ، والبيوع ، والأحكام ، والديات ، والحدود ، والصيد ، والذبائح ، والأطعمة ، والأحكام والفوائد ، والأضاحي ، والنذور ، والإيمان ، والسير .
وافتتح الجزء الخامس بكتاب فضائل الجهاد ، واللباس ، والأطعمة ، والأشربة ، والبر والصلة ، والطب ، والفرائض ، والوصايا ، والولاء والهبة ، وكتاب القدر .
وتناول في الجزء السادس كتاب الفتن ، والرؤيا ،والشهادات ، والزهد ، وصفة القيامة ، وصفة الجنة ، وصفة جهنم .
وفي الجزء السابع كتاب الإيمان ، والعلم ، والاستئذان والآداب ، والأدب ، الأمثال ، وفضائل القرآن ، والقراءات ، وافتتح في نهايته كتاب التفسير .
وأكمل في الجزء الثامن كتاب التفسير وتناول معه جزءاً من كتاب الدعوات .
وكان الجزء التاسع ختاماً لهذا المؤلف العظيم الفائدة ، وقد أكمل فيه المؤلف كتاب الدعوات وشرح كتاب المناقب . فجملة ما في الكتاب من أبواب تسعة وأربعون باباً مرتبة في التحفة على ترتيبها في سنن الترمذي .(1/23)
وقد سار في شرحه هذا على نهج خاص يتمثل في عدة نقاط :
أولاً : قدم للشرح بمقدمة رائعة – أحسب أنه لا غنى عنها لطلاب الحديث – تناول في الباب الأول منها جميع ما يتعلق بعلوم الحديث ، وفي الباب الثاني ما يتعلق بكتاب الترمذي على وجه الخصوص ، وختمها بشرح لبعض الألفاظ التي استعملها في الشرح وهي محتاجة للإيضاح .
ثانياً : يذكر أولاً حديث الترمذي ثم يبدأ بعد ذلك في ذكر شرحه .
ثالثاً : يضبط الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط سواء كانت أعلاماً أو ألفاظاً في الحديث .
مثال : باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور ، قال الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد أحدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب ... عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول "(1).
قال المباركفوري قوله حدثنا قتيبة بضم القاف وفتح المثناة الفوقية ... عن سماك بكسر السين المهملة وتخفيف الميم(2)، ثم قال : قوله " لا تقبل صلاة بغير طهور بضم الطاء "(3).
رابعاً : يعرف بالأعلام المذكورين في السند ويذكر حكم علماء الرجال فيهم ...
فمثلاً : في الموضع السابق قال : قوله حدثنا ( قتيبة بن سعيد ) الثقفي مولاهم أبو رجاء النبلاني محدث خراسان ولد سنة 149 تسع وأربعين ومائة وسمع من مالك والليث وابن لهيعة وشريك وطبقتهم ، وعنه : الجماعة سوى ابن ماجة وكان ثقة عالما صاحب حديث ورحلات ... قال ابن معين : ثقة ، وقال النسائي : ثقة مأمون . مات سنة 240 أربعين ومائتين ...
" أبو عوانة " اسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز أحد الأعلام روي عن قتادة وابن المنكدر وخلق ، وعنه : قتيبة ومسدد وخلائق ، ثقة ثبت مات سنة 176 ست وسبعين ومائة ...
__________
(1) 1 ) ... رواه الترمذي ك : الطهارة ، باب : ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور ، قال أبو عيسى هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن .
(2) 1 ) ... التحفة 1 / 22 .
(3) 2 ) ... التحفة 1 / 24 .(1/24)
" عن سماك " بكسر السين المهملة وتخفيف الميم ( ابن حرب ) بن أوس بن خالد الذهلي البكري الكوفي ، صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة ، وقد تغير بآخره فكان ربما يلقن(1).
خامساً : يوضح الألفاظ التي تحتاج إلى توضيح .
مثال ذلك : في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا تخفروا الله في ذمته "(2).
قال : " فلا تخفروا الله في ذمته " قال في النهاية : خفرت الرجل أجرته وحفظته ، وأخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه ، والهمزة فيه للإزالة ..(3)
سادساً : يذكر شواهد للحديث ، أو روايات أخرى له عند غير الترمذي .
مثال ذلك عند شرحه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ليليني منكم أولو الأحلام والنهي(4)قال الترمذي : وفي الباب عن أبي بن كعب وأبي مسعود وأبي سعيد والبراء وأنس ، قال المباركفوري : أما حديث أبي بن كعب فأخرجه أحمد والنسائي ، وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة ، وأما حديث أبي سعيد والبراء فأخرجه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وسعيد بن منصور ... وأما حديث أنس فأخرجه أحمد وابن ماجة بلفظ : قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه(5).
وعند قول ابن عباس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشر ركعة ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ...(6).
__________
(1) 3 ) ... التحفة 1 / 22 .
(2) 4 ) ... رواه الترمذي . ك : الصلاة ، ب : فضل العشاء والفجر في جماعة ، وقال حسن صحيح .
(3) 1 ) ... التحفة 1 / 480 .
(4) 2 ) ... ك : الصلاة ، ب : [ الحديث ] قال أبو عيسى حديث حسن صحيح غريب .
(5) 3 ) ... التحفة 1 / 485 ، 486 وهو عند أحمد .
(6) 4 ) ... ك الصلاة ، ب ما جاء في وصف صلاة النبي بالليل .(1/25)
قال المباركفوري : قوله : " هذا حديث حسن صحيح " أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : " بت عند خالتي ميمونة(1)ليلة ... الحديث وفيه فقام فصلى فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة "(2)(3).
سابعاً : يصدر شرحه للحديث وما يتعلق به بقوله : " قوله كذا " .
ثامناً : يذكر الخلاف – في المسائل المختلف فيها – بين العلماء فإن كان له ميل إلى أحد أطراف الخلاف ذكر ذلك بقوله : والظاهر كذا ، أو ويؤيد هذا القول كذا ، أو يذكر الأقوال التي لا يراها صحيحة بصيغة التضعيف بقوله وقيل كذا ، أو يؤخرها في الذكر .
مثال ذلك : عند قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الصدقة لا تحل لنا وإن موالي القوم من أنفسهم "(4)، قال " والحديث يدل على تحريم الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحريمها على آله ، ويدل على تحريمها على موال آل بني هاشم ولو كان الأخذ على جهة العمالة ... وبه قال أحمد وأبو حنيفة وبعض المالكية وهو الصحيح عند الشافعية ، وقال الجمهور ويجوز لهم ... والظاهر ما ذهب إليه أحمد وأبو حنيفة وغيرهما والله تعالى أعلم "(5).
وكان هذا المنهج ملتزماً في الكتاب إلى آخره .
** مكانة الكتاب بين شروح الترمذي :
__________
(1) 5 ) ... أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير الهلالية ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، خالة خالد بن الوليد ، تزوج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من عمرة القضاء سنة 7 هـ ، وكانت من سادات النساء ، ورت عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ماتت في حياة عائشة رضي الله عنها . السير 2 / 238 .
(2) 6 ) ... البخاري ك الوضوء ، باب التخفيف في الوضوء .
(3) 7 ) ... التحفة 2 / 294 .
(4) 1 ) ... سنن الترمذي ك الزكاة ، باب ما جاء من تحل له الصدقة ، وقال هذا حديث حسن صحيح .
(5) 2 ) ... التحفة 3 / 64 .(1/26)
كتاب سنن الترمذي كتاب عظيم النفع جم الفوائد جليل القدر(1)لذا كان محط أنظار العلماء في كثير من الأوقات ، فتناولوه بالشرح والتحليل ، وانتفعوا بما فيه من علوم ، وأفادوا من صنعته الحديثية كثيراً ، وكانوا في ذلك درجات فمنهم من شرع في الشرح ولم يكمله ومن هؤلاء :
* ابن سيد الناس(2)وشرحه يسمى " النفح الشذي في شرح جامع الترمذي " وصل فيه إلى باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام وهو الباب التاسع عشر بعد المائة من أبواب الصلاة البالغ مجموع أبوابها مائتين وثلاثة عشر باباً غير أبواب الوتر والجمعة وهي مائة باب وباب(3)
وتوجد منه نسخة خطية بالمكتبة المحمودية ، وقد قام أحد الباحثين وهو الدكتور / أحمد معبد عبد الكريم بالشروع في تحقيق الموجود من هذا الكتاب فجزاه الله خيراً ونسأل الله له التوفيق والسداد .
وقد قام الشيخ زين الدين العراقي بتكملة هذا الشرح بعد ابن سيد الناس فوصل فيه إلى آخر كتاب اللباس ، ثم توفي بعده(4).
ومن هؤلاء أيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني .. وقد أشار هو بنفسه إليه في كتاب فتح الباري حين قال : " ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء في النهي عنه أي عن البول قائما كما بينته في أوائل شرح الترمذي "(5)، ويبدو أن ما كتبه الشيخ من هذا الشرح قد ضاع .
__________
(1) 3 ) ... سيأتي ذكر فضائل جامع الترمذي عند الكلام عليه . إن شاء الله .
(2) 4 ) ... الحافظ العلانة البارع محمد بن محمد بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الأندلسي الأشبيلي ثم المصري ، ولد في ذي الحجة سنة 671 واشتغل بالعلم فبرع وساد أقرانه في علوم شتى . توفي فجأة يوم السبت 11 شعبان سنة 734 هـ . شذرات الذهب 7 / 54 .
(3) 1 ) ... النفح الشذي في شرح جامع الترمذي دراسة وتحقيق وتعليق د / أحمد معبد عبد الكريم 1 / 68 ، دار العاصمة – الرياض .
(4) 2 ) ... شذرات الذهب 7 / 54 .
(5) 3 ) ... فيتح الباري 1 / 395 .(1/27)
* ومنهم من أكمل الشرح إلى نهايته لكنه لم يصل إلينا أيضاً " ومنهم الشيخ سراج الدين البلقيني ، فقد جاء في ذيل طبقات الحفاظ أن له شرحا في سنن الترمذي اسمه العرف الشذي على جامع الترمذي "(1).
* ومنهم من شرح الزوائد على كل من الصحيحين وسنن أبي داود ، مثل : إنجاز الوعد في بشرح جامع الترمذي(2)لابن الملقن ، قال الإمام السخاوي ، قال الإمام السخاوي : إنه كتب منه قطعة صالحة وآخر ما فيها باب : كيف الجلوس إلى التشهد(3).
ومنهم من شرح الجامع كله إلا إن شرحه كان مختصراً لا يتناسب مع ما في جامع الترمذي من علوم ... ومنهم الإمام السيوطي وسمى شرحه قوت المعتذي ، وهو شرح بالقول تكلم فيه على نبذ من الألفاظ فقط(4).
الإمام أبو الطيب السندي وهو شرح بالقول أيضاً لم يوف بما في الترمذي من ألفاظ ومتون(5).
والقاضي أبو بكر بن العربي المالكي وشرحه يسمى عارضة الأحوذي ، والمطاع على هذا الشرح يلاحظ أنه لم يتعرض لكثير من أحاديث الترمذي ، وأن ما فيه هو انتصار لمذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - .
* ويأتي شرح المباركفوري بعد هذا العرض ليبين لنا بتمامه ووفائه بكل ما في الترمذي من أحاديث – أنه أقوى ما وقع للترمذي من شروح كاملة على الإطلاق .
** مصادر المباركفوري في شرح السنن :
لقد استفاد الشيخ – رحمه الله – في هذا الشرح من مؤلفات كثير ممن سبقه من علماء في شتى فروع الدين على تفاوت بينها في أخذه منها ورجوعه إليها ، فمن مصادره من كتب التفسير بالمأثور :
__________
(1) 4 ) ... مقدمة تحقيق النفح الشذي : 78 . ومنهم ابن رجب الحنبلي ، وقد جاء شرحه في نحو عشرين مجلداً . الدرر الكامنة 2 / 321 .
(2) 5 ) ... مقدمة تحقيق النفح الشذي : 79
(3) 1 ) ... الضوء اللامع 6 / 102 ، وشذرات الذهب 7 / 44
(4) 2 ) ... تحقيق النفح الذي 1 / 82 .
(5) 3 ) ... كشف الظنون 1 / 559 .(1/28)
- تفسير القرآن العظيم للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ، وكثيراً ما يرجع إليه ويستشهد بكلامه ويقدم قوله على قول من سواه ، ومن أمثلة ذلك :
عند قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ }(1)قال رحمه الله : " قال الحافظ ابن كثير في تفسيره يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم ... وذكر كلام الحافظ في الآية إلى نهايته ثم قال : " قلت : ويؤيد القول الأرجح – يعني قول ابن كثير – حديث أبي هريرة هذا فإنه نص صريح في أن المراد بقوله بإمامهم كتاب أعمالهم "(2).
- ومنها تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تأويل آي القرآن ، ومن أمثلة ذلك :
عند قوله تعالى { وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ }(3)الآية قال – رحمه الله - : " وقد وردت في ذلك – في المراد بيوم الحج الأكبر – أحاديث أخرى ذكرها الحافظ ابن كثير وغيره ، واختاره ابن جرير وهو قول مالك والشافعي والجمهور وقال آخرون منهم عمر وابن عباس وطاوس إنه يوم عرفة والأول أرجح "(4).
ومن مصادره في التفسير بالرأي :
- تفسير الرازي المسمى بالتفسير الكبير أو مفاتيح الغيب .
__________
(1) 1 ) ... الإسراء : 71 .
(2) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 106 ، ط : دار الحديث .
(3) 3 ) ... التوبة : 3 .
(4) 4 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 41 .(1/29)
ومن أمثلة ذلك : رجوعه إليه – وهو كثير – عند قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا }(1)قال – رحمه الله - : " قال صاحب فتح البيان استشكل هذه الآية جمع من أهل العلم لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم - عليه السلام - ، والأنبياء معصومون عن الشرك ، ثم اضطروا إلى التفصي من هذا الإشكال ، فذهب كل إلى مذهب واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافا كثيراً حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي ... ثم قال : وأقوى الأقوال وأصحها عندي هو ما اختاره الرازي .. "(2).
- ومنها أيضاً تفسير الخازن المسمى لباب التأويل
ومن أمثلة ذكره له عند قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي }(3)قال – رحمه الله - : " وأقم الصلاة لذكري أي لتذكرني فيها ، وقيل لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري ، وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي ، ولا يرائي فيها ولا تقصد بها غرضاً آخر . وقيل معناه إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها كذا في الخازن "(4).
وهو في رجوعه إلى هؤلاء المفسرين أو غيرهم محقق يتوخى الحق ويدافع عنه فما يذكره عن واحد منهم إما للاستئناس به على قوله له ، أو للرد عليه إن كان يخالف مذهبه .
ومن مصادره من كتب الحديث وعلومه :
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، وكثيراً ما كان يرجع إليه ويقدمه على غيره ، وينوه عليه بقوله : " قال الحافظ " أو " قال في الفتح " ، بل إنه كان أحيانا يذكر قوله بتمامه دون أن ينسبه إليه ، ولست أدري هل بعد هذا اتفاقاً غير مقصود بين الشيخين جمعهما عليه فهم واحد للنصوص المشروحة ؟
__________
(1) 5 ) ... الأعراف : 189 .
(2) 1 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 24 .
(3) 2 ) ... طه : 14 .
(4) 3 ) ... التحفة 8 / 136 .(1/30)
أو إنه تعمد من الشيخ – رحمه الله – اعتماداً منه على معرفة القارئ لأسلوب الحافظ ابن حجر ، مما يجعله يميز بين القولين دون حاجة لنسبة الكلام المذكور لابن حجر ؟ ! كلاهما محتمل والله أعلم بالصواب .
ومن أمثلة ذلك : عند قوله تعالى : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ }(1)قال : " قال الحافظ ظاهره(2)إن عدياً(3)كان حاضراً لما نزلت هذه الآية ، وهو يقتضي تقدم إسلامه وليس كذلك ، لأن نزول فرض الصوم كان متقدما في أوائل الهجرة وإسلام عدي كان في التاسعة أو العاشرة ، فإما أن يقال إن الآية التي في حديث الباب تأخر نزولها عن نزول فرض الصوم وهو بعيد جداً ، وإما أن يأول قول عدي هذا على أن المراد بقوله لما نزلت أي لما تليت علي عند إسلامي ، أو لما بلغني نزول الآية ، أو في السباق حذف تقديره : لما نزلت الآية ثم قدمت فأسلمت وتعلمت الشرائع ، قال لي [ إنما ذلك أي الخيط الأبيض من الخيط الأسود بياض النهار من سواد الليل ، وفي رواية مسلم " إنما هو سواد الليل وبياض النهار ]
__________
(1) 1 ) ... البقرة : 187 .
(2) 2 ) ... يقصد حديث عدي في الآية ، لما نزلت الآية قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل " ، رواه الترمذي وقال حسن صحيح . أبواب التفسير رقم [ 2970 ] .
(3) 3 ) ... عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس الطائي ، صحابي جليل ، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة 9 هـ فأسلم ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة ، وشهد صفين مع علي - رضي الله عنه - توفي سنة 67 وله 120 سنه . أسد الغابة لابن الأثير 3 / 233 ، دار المعرفة .(1/31)
فإن قلت الظاهر أن قوله من الفجر كان نزل حين سمع عدي بن حاتم هذه الآية وهو بيان لقوله الخيط الأبيض من الخيط الأسود فكيف خفي عليه معناه ؟ قلت كان عدياً لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط للصبح وحمل قوله من الفجر على السببية فظن أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر ، أو نسي قوله من الفجر حتى ذكره بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الاستعارة معروفة عند بعض العرب(1).
والمتتبع لهذا القول يجد أن ما بين القوسين ليس من كلام الحافظ بن حجر وما بعدهما من قوله إلا أنه لم ينسب إليه .
ومن مصادره من كتب الحديث أيضاً : شرح البخاري للعلامة الكرماني(2)، وكتاب شرح مشكاة المفاتيح للإمام القاري(3)، وكتاب عارضة الأحوذي لابن العربي المالكي ، وكتاب إرشاد الساري للقسطلاني(4)وغيرها كثير ...
ومن مصادره من كتب علوم الحديث والرجال :
__________
(1) 4 ) ... التحفة 7 / 395 .
(2) 1 ) ... محمد بن يوسف بن علي بن سعيد شمس الدين الكرماني عالم بالحديث ، أصله من كرمان ، اشتهر ببغداد ، تصدى لنشر العلم بها ثلاثين سنة وأقام مدة بمكة ، توفي في طريق إلى بغداد عائداً من الحج سنة 786 هـ ، انظر الأعلام لخير الدين الزركلي 7 / 153 ، ط : دار العلم للملايين .
(3) 2 ) ... علي بن سلطان محمد الهروي القاري الحنفي نور الدين عالم مشارك في أنواع العلوم ، ولد بهراه ورحل إلى مكة واستقر بها إلى أن توفي سنة 1014 هـ ، من تصانيفه : " مرقاة المفاتيح لمشكاة المصابيح ، شرح الرسالة القشيرية وغيرها " . معجم المؤلفين 7 / 100 .
(4) 3 ) ... الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر ... بن علي القسطلاني الشافعي ، الإمام المعلم الحجة ، ولد في ذي القعدة سنة 851 بمصر ، ونشأ بها وحفظ القرآن وتلا للسبع ، وكان إماماً حافظاً متقناً جليل القدر حسن التقرير والتحرير ت سنة 923 هـ . شذرات الذهب 8 / 121 .(1/32)
كتاب تدريب الراوي للسيوطي ، وكتاب مقدمة ابن الصلاح(1)، وكتاب تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ المزي(2)، النهاية في غريب الأثر لابن الأثير(3)، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر ، والضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للسخاوي(4)، والطبقات الكبرى لابن سعد(5)وغيرها .
ومن مصادره من كتب الفقه :
__________
(1) 4 ) ... عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الإمام العلامة مفتي الشام ومحدثها الشهرزوري ثم الدمشقي تقي الدين ابن الصلاح ، سمع الحديث ببلاد الشرق وتفقه هناك بالموصل وحلب وغيرهما ، زظل ديناً زاهداً ورعاً ناسكاً حتى توفي ليلة الأربعاء 25 ربيع الآخر سنة 643 هـ . البداية والنهاية 13 / 168
(2) 5 ) ... الحافظ الكبير جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن يوسف بن علي بن أبي الزهر الإمام العلامة الحافظ الكبير المزي الشافعي ، شيخ المحدثين ، ولد في ربيع الآخر سنة 654 بحلب ، ت سنة 742 هـ . شذرات الذهب 6 / 136 .
(3) 6 ) ... المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم .. أبو السعادات الجزري المعروف بابن الأثير ، ولد سنة 544 ، وقرأ القرآن وأتقن علومه وسمع الحديث الكثير ، له : جامع الأصول الستة ، النهاية في غريب الحديث ، وشرح مسند الشافعي وغيرها ، ت سنة 606 هـ . البداية والنهاية 13 / 54
(4) 1 ) ... شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي الشافعي ، ولد سنة 831 بالقاهرة ، حفظ القرآن ، وبرع في الفقه والعربية والقراءات والحديث والتاريخ والتفسير ، ت بالمدينة المنورة سنة 902 . شذرات الذهب 8 / 15 .
(5) 2 ) ... أبو عبد الله محمد بن سعد الحافظ كاتب الواقدي وصاحب الطبقات والتاريخ ، قال أبو حاتم : صدوق ، وقيل إنه مكث ستين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ، ت في جمادى الآخرة سنة 230 هـ انظر شذرات الذهب 2 / 69 .(1/33)
كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، وكتاب الشرح الكبير للرافعي(1)، وكتاب نيل الأوطار للشوكاني ، ومنها أيضاً شرح النووي على صحيح مسلم .
ومن أمثلة ذلك عند قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى ... وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ... }(2)
قال بعد أن ساق حديث أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لها في النياحة : قال النووي " هذا محمول على الترخيص لأم عطية – رضي الله عنها – في آل فلان خاصة كما هو الظاهر ولا تحل النياحة لغيرها ، ولا لها في غير آل فلان كما هو صريح في الحديث ، وللشارع أن يخص من العموم ما شاء فهذا صواب الحكم في هذا الحديث "(3).
** الإمام الترمذي **
** اسمه : محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك ،
وقيل هو : محمد بن عيسى بن يزيد بن سورة بن السكن ، الحافظ العلم الإمام البارع ابن عيسى السلمي الترمذي الضرير ، مصنف الجامع وكتاب العلل وغير ذلك .
اختلف فيه فقيل ولد أعمى ، والصحيح أنه أضر في كبره بعد رحلته وكتابته العلم ، ولد في حدود سنة عشر ومائتين(4).
والترمذي : نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون ، خرج منها جماعة كثيرون من العلماء ، والناس يختلفون في كيفية هذه النسبة ... بعضهم يقول بفتح التاء ، وبعضهم يقول بضمها ، وبعضهم يقول بكسرها ، فالمتداول بين تلك أهل المدينة بفتح التاء وكسر الميم ، والمعروف قديماً كسر التاء والميم ، والذي بقوله أهل المعرفة بضم التاء والميم ... وكل يقول معنى لما يدعيه(5).
__________
(1) 3 ) ... انظر ترجمته عند الكلام على قوله تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " ب 1 ، ف 1 ، مبحث 2 .
(2) 4 ) ... الممتحنة : 12 .
(3) 5 ) ... التحفة 8 / 297 .
(4) 1 ) ... سير أعلام النبلاء 13 / 270 .
(5) 2 ) ... اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير الجزري 1 / 212(1/34)
ومعنى ترمذ بالكسر : المستفيض على الألسنة حتى يكون كالمتواتر(1).
** فضله :
هو أحد أئمة الحديث في زمانه(2)، كان – رحمه الله – ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر ، وكان يضرب به المثل في الحفظ(3).
حكى الذهبي عن بعضهم قوله : مات البخاري فلم يخلف بخرسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد(4).
وقال ابن كثير : وجهالة ابن حزم(5)بأبي عيسى لا تضره حيث قال في محلاه : ومن محمد بن عيسى بن سورة ؟ فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم ، بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ(6).
** حفظه :
__________
(1) 3 ) ... سير أعلام النبلاء 13 / 274 .
(2) 4 ) ... البداية والنهاية 11 / 66 .
(3) 5 ) ... القات لابن حبان 9 / 154 .
(4) 1 ) ... تذكرة الحفاظ 2 / 634 .
(5) 2 ) ... علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف ... الفارسي الأندلسي القرطبي اليزيدي أبو محمد ، فقيه أديب أصولي محدث متكلم حافظ ، ولد آخر رمضان بقرطبة سنة 384 ، كان شافعياً ثم انتقل إلى مذهب أهل الظاهر ، ت سنة 456 . وفيات الأعيان 3 / 325 .
(6) 3 ) ... البداية والنهاية 11 / 66 .(1/35)
قال الذهبي : ونقل أبو سعد الإدريسي(1)بإسنادٍ له أن أبا عيسى قال : " كنت في طريق مكة فكتبت جزأين من حديث شيخ فوجدته فسألته وأنا أظن أن الجزأين معي فسألته فأجابني ، فإذا معي جزأن بياض فبقي يقرأ عليّ من لفظه فنظر فرأى في يدي ورقاً أبيض ، فقال أما تستحي مني ؟ ! فأعلمته بأمري ، وقلت أحفظه كله ، قال اقرأ فقرأته عليه فلم يصدقني ، وقال استظهرت قبل أن تجيء ؟ فقلت حدثني بغيره ، قال فحدثني بأربعين حديثاً ، ثم قال : هات فأعدتها عليه ما أخطأت في حرف ... ، وجامعه قاض له بإمامته وحفظه وفقهه "(2).
** شيوخه وتلاميذه :
__________
(1) 4 ) ... الحافظ أبو سعد عبد الرحمن بن محمد الاستراباذي ، نزيل سمرقند ومحدثها ومؤرخها ، سمع الأصم فمن بعده ، كان حافظاً متقناً راسخاً ، ت سنة 405 . شذرات الذهب 3 / 175 .
(2) 5 ) ... سير أعلام النبلاء 13 / 276 .(1/36)
سمع – رحمه الله – من قتيبة بن سعيد(1)وأبي مصعب الزهري(2)وإبراهيم بن عبد الله الهروي(3)، وأخذ علم الحديث من أبي عبد الله البخاري ، وروى عنه حماد بن شاكر(4)ومكحول بن الفضل(5)وآخرون .
وقد كتب عنه شيخه أبو عبد الله البخاري فقال : الترمذي في حديث عطية عن أبي سعيد : " يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك "(6)سمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث(7).
** مؤلفاته :
__________
(1) 1 ) ... قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي أبو رجاء البلخي البغلاني ، روى عن خلق كثيرين ، وروى عن الجماعة سوى ابن ماجة ، قال أبو حاتم : ثقة ، وقال النسائي : صدوق ، ولد سنة 150 ، ت سنة 240 هـ . تهذيب الكمال 23 / 523 .
(2) 2 ) ... الإمام الثقة شيخ دار الهجرة أبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن القاسم ... ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري - رضي الله عنه - ، ولد سنة 150 ، لازم مالك بن أنس وسمع منه الموطأ ، احتج به أصحاب الصحاح ، مات سنة 241 . السير 11 / 436 .
(3) 3 ) ... الحافظ إبراهيم بن عبد الله بن حاتم أبو إسحاق البغدادي الهروي ، حدث عنه الترمذي وابن ماجة وغيرهما ، وكان صالحاً زاهداً عابداً كبير القدر ، ت في رمضان سنة 244 هـ . سير أعلام النبلاء 11 / 478 .
(4) 4 ) ... حماد بن شاكر بن سوية الإمام المحدث الصدوق أبو محمد النسفي ، حدث عن عيسى بن أحمد العسقلاني والبخاري والترمذي وطائفة . ت سنة 311 هـ . السير 15 / 5 .
(5) 5 ) ... الحافظ الرحال الفقيه أبو مطيع النسفي صاحب كتاب اللؤلئيات في الزهد والآداب ، روى عن داود الظاهري والترمذي وأحمد بن حنبل وآخرين ، ويقال أن اسمه محمد ومكحول لقب له ، ت : في صفر سنة 308 هـ . السير 15 / 33 .
(6) 6 ) ... لم أقف عليه في الصحيح . وهو في سنن الترمذي ، أبواب المناقب ، باب مناقب علي ، قال سمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث فاستغربه .
(7) 7 ) ... السير 13 / 272 .(1/37)
له مؤلفات كثيرة ، أجلها وأنفعها هو كتابه " الجامع " وفي آخره كتاب العلل ، وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها .
ومن تصانيفه : " العلل الكبير " ومعظم النقل فيه عن شيخه البخاري ، ومنها شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من أحسن الكتب المؤلفة في هذا الباب كثير الميامن والبركات ، وله كتاب جليل في التفسير .
وله من التصانيف : التاريخ والزهد والأسماء والكنى كما في التدريب(1)توفي رحمه الله في ثالث عشر رجب سنة تسع وسبعين ومئتين بترمذ(2)(3).
** جامع الترمذي **
اسمه : قال صاحب كشف الظنون في ذكر جامع الترمذي : " وقد اشتهر بالنسبة إلى مؤلفه فيقال جامع الترمذي ، ويقال له السنن أيضاً والأول أولى .
شروحه :
قال في المقدمة : اعلم أن للجامع شروحاً وتعليقات وله مختصرات وعليه مستخرجات فأذكرها هنا ما وقفت عليه من ذلك :
فمن شروحه شرح للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي سماه عارضة الأحوذي
ومنها شرح للحافظ بن سيد الناس(4)بلغ فيه إلى دون ثلثي الجامع في نحو عشرة مجلدات ولم يتم .
__________
(1) 1 ) ... انظر مقدمة التحفة : 236 .
(2) 2 ) ... السير 13 / 277 .
(3) 3 ) ... انظر ترجمته في وفيات الأعيان 4 / 278 ، دار صادر – بيروت ، والأنساب للسمعاني 1 / 459 ، ط : دار الكتب العلمية . شذرات الذهب 2 / 174 ، والثقات لابن حبان 9 / 153 مؤسسة الكتب الثقافية ، والوافي بالوفيات للصدفي 4 / 207 ، ط : دار إحياء التراث العربي .
(4) 4 ) ... الحافظ العلانة البارع محمد بن محمد بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الأندلسي الأشبيلي ثم المصري ، ولد في ذي الحجة سنة 671 واشتغل بالعلم فبرع وساد أقرانه في علوم شتى . توفي فجأة يوم السبت 11 شعبان سنة 734 هـ . شذرات الذهب 7 / 54 .(1/38)
ومنها شرح للحافظ زين الدين العراقي(1)وهو تكملة شرح ابن سيد الناس
ومنها شرح للحافظ ابن الملقن(2)وهو شرح زوائده على الصحيحين وأبي داود .
ومنها شرح للشيخ الإمام الحافظ أبي الفرج البغدادي(3). ذكره الحافظ ابن حجر في كتاب الدرر الكامنة .
ومنها شرح الحافظ ابن حجر العسقلاني – قال في فتح الباري – في شرح حديث حذيفة : " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائماً "(4)ما لفظه : ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عنه – أي عن البول قائماً – شيء كما بينته في أوائل شرح الترمذي(5).
__________
(1) 1 ) ... الحافظ زين الدين العراقي عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي الشافعي ، ولد في جمادى الأولى سنة 725 ، واشتغل بالقراءات ولازم المشايخ ، ولي قضاء المدينة سنة 788 هـ فأقام بها نحو ثلاث سنين ، ثم سكن القاهرة إلى أن توفي سنة 806 . شذرات الذهب 7 / 54 .
(2) 2 ) ... سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الملقن ، ولد يوم السبت 14 ربيع الأول ، ونسبته – ابن الملقن – لمن رباه ولقنه كتاب الله بعد وفاة والده ، بلغت مصنفاته نحو ثلاثمائة واحترق غالبها قبل موته ، ت سنة 804 هـ . المصدر السابق 7 / 44 .
(3) 3 ) ... عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن أبي البركات مسعود البغدادي الدمشقي الحنبلي المحدث الحافظ زين الدين ، ولد ببغداد في ربيع الأول سنة 706 ، صنف شرح الترمذي وقطعة من البخاري وذيل الطبقات للحنابلة وغيرها ، ت في رجب سنة 795 . الدرر الكامنة 2 / 321 ، شذرات الذهب 6 / 329 ، البدر الطالع 1 / 328 .
(4) 4 ) ... البخاري ك : الوضوء ، باب البول عند سباطة قوم 1 / 395 .
(5) 5 ) ... فتح الباري 1 / 395 .(1/39)
ومنها شرح الحافظ عمر بن رسلان البلقيني(1). وذكر صاحب كشف الظنون(2).
ومنها شرح العلامة محمد طاهر(3)صاحب مجمع البحار .
ومنها شرح أبي الطيب السندي(4).
ومنها شرح الشيخ سراج أحمد السرهندي(5)وهو بالفارسية .
ومنها شرح أبي الحسن بن عبد الهادي السندي المدني(6).
__________
(1) 6 ) ... عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن محمد البلقيني الكناني الشافعي شيخ الإسلام ، ولد في شعبان سنة 724 ، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ، وأجيز للإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة ، له شرحان على الترمذي ، ت سنة 805 . شذرات الذهب 7 / 51 .
(2) 1 ) ... 1 / 559 .
(3) 2 ) ... محمد طاهر بن علي بن أحمد الإمام الحافظ الجوال الرحال ذو التصانيف ، ولد ببيت المقدس في شوال سنة 408 هـ ، ت سنة 507 هـ عند قدومه من الحج لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول . السير 19 / 361 .
(4) 3 ) ... الشيخ العالم الصالح أبو الطيب محمد بن عبد القادر السندي المدني أحد العلما المحدثين ، أخذ الحديث عن الشيخ حسن بن علي العجمي وقرأ عليه الصحاح والسنن ، كان صادقاً صالحاً حنفي المذهب ، أخذ عنه خلق كثير من العلماء . إعلام الهند 6 / 289 .
(5) 4 ) ... الشيخ العالم المحدث سراج أحمد بن مرشد بن أرشد بن فرخ بن سعيد بن أحمد بن عبد الأحد العمري السرهندي ، كان من كبار العلماء ، ولد في شعبان سنة 1276 ، ونشأ في مهد أبيه وانتفع بعلومه وشروحه للسنة كلها بالفارسية ، مات في ذي الحجة سنة 1230 . إعلام الهند 7 / 980 .
(6) 5 ) ... محمد بن عبد الهادي التتوي أبو الحسن نور الدين السندي فقيه حنفي عالم بالحديث والتفسير واللغة ، أصله من السند ومولده فيها ، توطن المدينة حتى توفي سنة 1138 . إعلام الزركلي 6 / 253 .(1/40)
- كما أن لجامع الترمذي ثلاث مختصرات ذكرها صاحب كشف الظنون قائلاً : له – أي لجامع الترمذي – مختصرات منها مختصر الجامع لنجم الدين محمد بن عقيل البالسي الشافعي(1)، ومختصر الجامع أيضاً لنجم الدين سليمان ابن عبد القوي الطوفى الحنبلي(2)ومائة حديث منتقاة منه للحافظ صلاح الدين خليل كيكلدي العلائي (3 )(3).
** قيمة الكتاب وفضله :
قال ابن كثير : ... قال أبو عيسى صنفت هذا الكتاب وعرضته على علماء الحجاز فرضوا به ، وعرضته على علماء العراق فرضوا به ، وعرضته على علماء خراسان قرضوا به ، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي ينطق(4).
ونقل الذهبي عن بعضهم قوله : الجامع على أربعة أقسام :
__________
(1) 6 ) ... نجم الدين محمد بن عقيل بن أبي الحسن البالسي ثم المصري ، أحد أعيان الشافعية ، كان ديناً ورعاً ، سمع بدمشق والقاهرة وولي القضاء بمحافظات مصر ومات بها سنة 729 عن تسع وستين سنة تقريباً . طبقات الشافعية للسبكي 9 / 252 ، دار إحياء الكتب العربية .
(2) 7 ) ... سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد ابن الصفي الحنبلي ، ولد سنة 657 بالطوف ببغداد كان قوي الحافظة شديد الذكاء ، اتهم بالرفض أول مرة ثم استقام بعد ذلك ، شرح الأربعين النووية ، واختصر الترمذي ، ت سنة 716 . الدرر الكامنة لابن حجر 2 / 154 ، دار الجيل .
(3) 2 ) ... كشف الظنون 1 / 559 ، 560 . ومقدمة التحفة : 255 – 266 باختصار .
(4) 3 ) ... البداية والنهاية 11 / 66 .(1/41)
قسم مقطوع بصحته ، وقسم على شرط أبي داود والنسائي ، وقسم أخرجه للضدية وأبان عن علته ، وقسم رابع أبان عنه فقال : ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثاً قد عمل به بعض الفقهاء سوى حديث " فإن شرب في الرابعة فاقتلوه "(1)وسوى حديث جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر(2)
ونقل عن آخر قوله : " جامع الترمذي أنفع من كتاب البخاري ومسلم ، لأنهما لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم ، والجامع يصل إلى فائته كل أحد "(3).
وقال ابن العربي في أول شرح الترمذي : " وليس في قدر كتاب أبي عيسى مثله حلاوة مقطع ونفاسة منزع وعذوبة مشرع ، وفيه أربعة عشر علماً على فوائد : صنف – وذلك أقرب إلى العمل – وأسند ، وصحح وأسقم ، وعدد الطرق ، وجرح وعدل ، وأسمى وأكنى ، ووصل وقطع ، وأوضح المعمول به والمتروك ، وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره ، وذكر اختلافهم في تأويله ، وكل من هذه العلوم أصل في بابه وفرد في نصابه ، فالقارئ له لا يزال في رياض موفقة وعلوم متدقفة "(4).
وإنما نال الجامع هذه المنزلة من وجوه :
الأول : من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار .
الثاني : من جهة ذكر مذاهب الفقهاء ووجوه الاستدلال لكل أحد من أهل المذهب
والثالث : من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل .
__________
(1) 4 ) ... سنن الترمذي ، أبواب ، باب ما جاء في شرب الخمر فاجلدوه ، وهو عن معاوية - رضي الله عنه - ، وقال هو أصح من غيره في هذا الباب .
(2) 5 ) ... عند الترمذي من حديث ابن عباس ولفظه : جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير ولا مطر " ك الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر .
(3) ... السير 13 / 274 . خوف
(4) 2 ) 3) ... مقدمة تحفة الأحوذي : 247 ، وعارضة الأحوذي المقدمة : 5 ، 6 ، ط : مكتبة المعارف .(1/42)
والرابع : من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم والفرائد الأخرى المتعلقة بعلم الرجال "(1).
ولقد صدق القائل حين قال :
كتاب الترمذي رياض علم ... جلت(2)أزهاره زهر النجوم
به الآثار واضحة أبينت ... بألقاب أقيمت كالرسوم
فأعلاها الصحاح وقد أنارت ... ... نجوماً للخصوص وللعموم
ومن حَسَنٍ يليها أو غريب ... وقد بان الصحيح من السقيم
فعلله أبو عيسى مبيناً ... معالمه لطلاب العلوم
وطرزه بآثار صحاح ... تخيرها أولو النظر السليم
من العلماء والفقهاء قِدَماً ... وأهل الفضل والنهج القويم
فجاء كتابه عقداً نفيساً ... تنافس فيه أرباب العلوم
ويقتبسون منه نفيس علم ... يفيد نفوسهم أسنى الرسوم
جزى الرحمن خيراً بعد خيرٍ ... ... أبا عيسى على الفعل الكريم(3)
هل في كتاب الترمذي حديث موضوع ؟ !
في هذا الأمر خلاف : فيرى الإمام الذهبي وجود الموضوع فيه – وإن لم يبن عنه – إذ يقول : " في الجامع علم نافع وفوائد غزيرة ورءوس المسائل وهو أحد أصول الإسلام لولا ما كدره بأحاديث واهية بعضها موضوع وكثير منها في الفضائل "(4).
وجاء الإمام أبو الفرج ابن الجوزي فأبان عما أجمله الذهبي إذ ذكر في موضوعاته ثلاثة وعشرين حديثاً مما أخرجه الترمذي في جامعه وحكم عليها بالوضع .
على حين أننا نرى شيخ الإسلام ابن حجر اعترض على ذلك وقال : " غالب ما في كتاب ابن الجوزي موضوع والذي ينتقد عليه بالنسبة إلى ما ينتقد قليل جداً "(5).
__________
(1) 2 ) ... مقدمة التحفة : 248 .
(2) 3 ) ...
(3) 1 ) ... هذه الأبيات مذكورة في المقدمة دون نسبة
(4) 2 ) ... سير أعلام النبلاء 13 / 274 .
(5) 3 ) ... انظر مقدمة التحفة : 252 .(1/43)
وجاء الإمام السيوطي فقال : " قد اختصرت هذا الكتاب – يعني موضوعات ابن الجوزي – فعلقت أسانيده وذكرت منها موضع الحاجة ، وأتيت بالمتون وكلام ابن الجوزي عليها ، وتعقبت كثيراً منها ، ... ثم ألفت ذيلاً لهذا الكتاب سميته " القول الحسن في الذب عن السنن " أوردت فيه مائة وبضعة وعشرين حديثاً ليست بموضوعة منها ما هو في سنن أبي داود وهي أربعة أحاديث ، ومنها ما هو في جامع الترمذي وهو ثلاثة وعشرون حديثاً ... إلى أن قال : وقد حررت الكلام على ذلك حديثاً حديثاً فجاء كتاباً حافلاً "(1).
قال المباركفوري : " الأحاديث الضعاف موجودة في جامع الترمذي وقد بين الترمذي نفسه ضعفها وأبان عليها ، وأما وجود الموضوع فيه فكلا ثم كلا والله اعلم "(2).
__________
(1) 1 ) ... تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1 / 279 ، ط : مكتبة دار التراث للإمام جلال الدين السيوطي . بتصرف .
(2) 2 ) ... مقدمة تحفة الأحوذي : 254 .(1/44)
علم التفسير
لغة : مصدر فَسَّر بمعنى الإيضاح والتبيين ، يقال : استفسرته كذا : سألته أن يفسره لي .
والفَسر : نظر الطبيب إلى الماء لينظر عِلَّتَه ، وكذلك التَّفْسِرَة ، وكل شيء يعرف به تفسير الشيء ومعناه هو تفسرته .
ويطلق التفسير على التعرية للانطلاق ، يقال فَسَرتُ الفرس عَرَّيتُهُ لينطلق ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريد منه من الجري(1)
وفي الاصطلاح : علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ(2).
وقيل : هو علم نزول الآيات وشئونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وعبرها وأمثالها(3).
وقيل غير ذلك مما يدخل ضمن التعريفين السابقين ، فلا داعي لذكرها هنا وارجع إليها إن شئت(4).
أما التأويل :
فهو لغة : من أَوَّل يُؤَوَّلُ تأويلاً ، وثلاثيه آل يَؤُوْل أي رجع وعاد ، يقال آل الشيء جمعته وأصلحته ... فكأن التأويل جمع معان مشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه .
ويقال : تأولت في فلان الأجر تحريته وطلبته .
وعن الليث : التأول والتأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه(5).
__________
(1) 1 ) ... لسان العرب لابن منظور . مادة فسر .
(2) 2 ) ... البرهان في علوم القرآن . لبدر الدين الزركشي 1 / 13 .
(3) 3 ) ... الإتقان في علوم القرآن . للسيوطي . ص : 544 . ط : دار مصر للطباعة .
(4) 4 ) ... انظر الإتقان : 543 .
(5) 1 ) ... معجم تهذيب اللغة . لأبي منصور الأزهري .(2/1)
وأول الكلام تأوله دبره وقدره ، وأوله وتأوله : فسره(1).
أما في الاصطلاح : فهو عند السلف له معنيان :
أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه سواء أوافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير على هذا مترادفين .
ثانيهما : هو نفس المراد بالكلام ... فإن كان الكلام طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب ، وإن كان خبراً كان تأويله نفس الشيء المخبر به ، وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر .
وأما التأويل عند المتأخرين : فهو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وعلى هذا فالمتأول مطالب بأمرين :
الأمر الأول : أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد
الأمر الثاني : أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح ، وإلا كان تأويلاً فاسداً أو تلاعباً بالنصوص(2).
الفرق بين التفسير والتأويل
اختلف العلماء في بيان الفرق بين التفسير والتأويل ، فمنهم من قال إنهما بمعنى واحد ، ومن هؤلاء الإمام أبو عبيدة(3)،(4)
ومنهم من قال التفسير أعم من التأويل ، وقال :
التفسير يستعمل في الألفاظ والتأويل في المعاني .
التفسير يستعمل في مفردات الألفاظ ، والتأويل أكثره يستعمل في الجمل .
__________
(1) 2 ) ... لسان العرب لابن منظور ( أول ) .
(2) 3 ) ... التفسير والمفسرون 1 / 19 ط : مكتبة وهبة .
(3) 1 ) ... أبو عبيدة : معمر بن المثنى البصري النحوي العلامة ، له أكثر من مائتي تصنيف منها " مجاز القرآن ، غريب القرآن ، غريب الحديث الديباج وغيرها " ولد في رجب سنة 110 وتوفي في سنة 210 هـ . وفيات الأعيان 5 / 235 ، ط : دار صادر .
(4) 2 ) ... مجاز القرآن 1 / 86 ، تحقيق : شزكين ، ط : الخانجي .(2/2)
التفسير يستعمل في كل الكتب ، والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية فقط ، ومن هؤلاء الراغب الأصفهاني(1)،(2).
ومنهم من قال التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا ، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون القطع ، ومن هؤلاء أبو منصور الماتريدي(3)(4)
ويرى آخرون أن التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازاً ، والتأويل تفسير باطن اللفظ . فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد ، والتفسير إخبار عن دليل المراد ،
ويرى البغوي أن التأويل : هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها ، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط ، والتفسير : هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها(5).
وذكر السيوطي عن بعضهم قوله : التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية . قال : وقيل : التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة ، والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة(6).
والذي أميل إليه :
أولاً : أن التأويل أعم من التفسير ، وذلك لأن كلمة التأويل جاءت في القرآن الكريم بأكثر من معنى ...
__________
(1) 3 ) ... أبو القاسم الحسين بن محمد بن الفضل المعروف بالراغب الأصفهاني . له : المفردات في غريب القرآن ، توفي في رأس المائة الخامسة . انظر كشف الظنون 447 .
(2) 4 ) ... المفردات : 380 ، ط : دار المعرفة .
(3) 5 ) ... محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي . من أئمة علماء الكلام ، من كتبه : التوحيد ، مآخذ الشرائع وغيرها . ت : 333 . الأعلام للزركلي 7 / 11 ، ط : دار العلم للملايين .
(4) 6 ) ... مقدمة تأويلات أهل السنة 26 . ط : مكتبة القاهرة .
(5) 1 ) ... تفسير البغوي 1 / 9 ، ط : دار الكتب العلمية .
(6) 2 ) ... الإتقان في علوم القرآن 543 ، ط : مكتبة مصر بالفجالة .(2/3)
فنجدها مرة بمعنى ترجيح أحد المحتملات على الآخر كما في قوله تعالى { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }(1).. فما يراه الإنسان في نومه يحتمل أكثر من معنى فسُمَّيَ تخصيص أحد هذه المعاني دون غيره تأويلاً .
ونجدها مرة بمعنى كشف الحكمة من وراء العمل كما في قوله تعالى : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا }(2).
ومرة نجدها بمعنى صرف اللفظ إلى غير المراد منه كما في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ }(3)
ومرة نجدها بمعنى بيان المراد باللفظ كما في قوله تعالى في نفس الآية : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ }(4)وقوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ }(5)إلى غير هذه المعاني التي جاءت بها كلمة التأويل ، في حين أنه سبحانه لم يذكر كلمة التفسير ومشتقاتها إلا مرة واحدة فقط في القرآن كله في قوله تعالى : { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }(6).
ثانيا : إذا ذكر أحد اللفظين منفرداً قصد به المعنى الشامل للفظين معاً .
ثالثاً : إذا اجتمع اللفظان معاً " التفسير والتأويل " في شيء يخص القرآن الكريم كان المراد – والله أعلم – بالتفسير بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة ، وبالتأويل بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة .
هذا ما عندي والله تعالى أعلم
أقسام التفسير باعتبار مصدره
ينقسم التفسير باعتبار مصدره إلى نوعين :
الأول : التفسير بالمأثور ... ... الثاني : التفسير بالرأي
__________
(1) 3 ) ... يوسف : 6 .
(2) 4 ) ... الكهف : 78 .
(3) 5 ) ... آل عمران : 7 .
(4) 1 ) ... آل عمران : 7 .
(5) 2 ) ... يونس : 39 .
(6) 3 ) ... الفرقان : 33 .(2/4)
ولنلق ضوءاً – في عجالة – على النوع الأول وهو:
أولاً : التفسير بالمأثور
هو التفسير بما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته ، وما نقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم ، وما نقل عن التابعين من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم(1).
نشأته :
نزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بين صحابته الكرام ، وأوكل الله سبحانه بيان الكثير من معاني هذا الكتاب الكريم إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فكان الصحابة إذا غمض عليهم شيء من كتاب الله سألوا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينه لهم عن طريق الوحي مصداقاً لقوله سبحانه : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(2)، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفسر القرآن تارة بالقرآن ذاته ..
مثال ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال : " لما نزلت هذه الآية { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ }(3)شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه ليس بذاك ألا تسمع إلى قول لقمان لابنه { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }(4)،(5)وهذا ما يسمى تفسير القرآن بالقرآن .
__________
(1) 1 ) ... التفسير والمفسرون 1 / 163 ، ط : مكتبة وهبة .
(2) 2 ) ... النحل : 44 .
(3) 3 ) ... الأنعام : 82 .
(4) 1 ) ... لقمان : 13 .
(5) 2 ) ... البخاري . ك : التفسير ، باب : تفسير سورة لقمان ، رقم { 4776 } .(2/5)
وكان - صلى الله عليه وسلم - تارة أخرى يفسر القرآن بما آتاه الله من علم مصداقاً لقوله تعالى { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(1). مثال ذلك ما روي عن عقبة بن عامر(2) - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ }(3)ألا وإن القوة الرمي ، ألا وإن القوة الرمي ، ألا وإن القوة الرمي "(4)، وهذا التفسير يسمى تفسير القرآن بالسنة .
فكان - صلى الله عليه وسلم - مرجع الصحابة في فهم ما يصعب عليهم فهمه من كتاب الله ، وكان الصحابة في سؤالهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معاني القرآن درجات .. فمنهم المكثر ومنهم المقل .. وبين ذلك وهذا درجات
فاشتهر بالتفسير بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كان مشتهراً بكثرة الأخذ عنه في حياته ، وكان هؤلاء الصحابة مرجعاً لغيرهم في تفسير القرآن لأنهم – لكثرة سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معاني القرآن – استطاعوا أن يفهموا كثيراً من الآيات الأخرى التي لم يُسْأَلْ عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولما كثرت الفتوحات واتسعت رقعة الإسلام وتفرق هؤلاء الأصحاب – المشهورون بالتفسير – في الأمصار .. قَيَّضَ الله لكل منهم من يأخذ عنه هذا العلم تصديقاً لوعد الله بحفظ كتابه حين قال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(5).
__________
(1) 3 ) ... النجم : 3 ، 4 .
(2) 4 ) ... عقبة بن عامر بن عبس الجهني ، صحابي جليل يكنى أب حماد ، وقيل أبا عامر ، وقيل غير ذلك ، سكن مصر وكان والياً عليها ، وابتنى بها داراً ، وتوفي في آخر خلافة معاوية . الاستيعاب 3 / 1073 .
(3) 5 ) ... الأنفال : 60 .
(4) 6 ) ... مسلم ك : الإمارة ، ب : فضل الرمي والحث عليه رقم [ 1917 ] .
(5) 1 ) ... الحجر : 9 .(2/6)
فكانت بمكة مدرسة عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - ، وكانت أهم المدارس التفسيرية وكان من تلامذة هذه المدرسة سعيد بن جبير(1)ومجاهد بن جبر(2)وعكرمة(3)وطاووس بن كيسان(4)وعطاء بن أبي رباح(5).
__________
(1) 2 ) ... سعيد بن جبير بن هشام الإمام العلم أبو عبد الله الأسدي الوالبي مولاهم الكوفي ، من سادة التابعين علماً وفضلاً وصدقاً وعبادة ، توفي بواسط في شعبان سنة 95 هـ . معرفة القراء الكبار للذهبي 1 / 68 ، مؤسسة الهالة .
(2) 3 ) ... أبو الحجاج مجاهد بن جبر الإمام المكي الأسود مولى أبي السائب المخزومي ، روى عن ابن عباس فأكثر وأطاب ، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه ، توفي بعد المائة ببضع سنين . سير أعلام النبلاء 4 / 446 .
(3) 4 ) ... عكرمة مولى ابن عباس أبو عبد الله المفسر ، وردت الرواية عنه في حروف القرآن ، وقد تكلم فيه لرأيه لا لروايته ، اعتمده البخاري وخرج له مسلم ، ت : سنة 105 . طبقات القراء لابن الجزري 1 / 514 .
(4) 5 ) ... طاووس بن كيسان أبو عبد الرحمن اليماني التابعي الكبير المشهور ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، أخذ القرآن عن ابن عباس ، مات بمكة قبل يوم التروية بيوم سنة 106 . المصدر السابق
(5) 6 ) ... واسم أبي رباح أسلم ، وكان عطاء يكنى أبا محمد ، نشأ بمكة ، وكان فقيهاً ثقة عالماً كثير الحديث مات بمكة سنة 115 وعمره يوم مات 88 سنة . الطبقات الكبرى 6 / 20 ، دار الكتب العلمية .(2/7)
وكانت بالمدينة مدرسة أبي بن كعب(1)وكان من تلامذتها زيد بن أسلم(2)وأبو العالية(3)، ومحمد بن كعب القرظي(4).
__________
(1) 7 ) ... أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن البخار بن ثعلبة الأنصاري ، يكنى أبا الطفيل وأبا المنذر ، من كتبة الوحي ، شهد بيعة العقبة ، ثم شهد بدراً وغيرها ، توفي سنة 19 هـ . الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1 / 65 ، دار الجيل .
(2) 8 ) ... الإمام الحجة القدوة أبو عبد الله العدوي العمري المدني الفقيه ، من العلماء العاملين ، وكان له حلقة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ت : في ذي الحجة سنة 136 هـ . السير 5 / 316 .
(3) 1 ) ... رفيع أبو العالية الرياحي البصري من بني تميم ، أدرك الجاهلية ، قال يحيى بن معين وأبو زرعة : رفيع أبو العالية ثقة . التاريخ الكبير 3 / 326 ، الجرح والتعديل 3 / 501 .
(4) 2 ) ... محمد بن كعب بن سليم بن عمرو أبو حمزة ، ويقال أبو عبد الله القرظي تابعي ، ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل رآه ، نزل الكوفة سنة 40 هـ ورجع إلى المدينة فمات بها سنة 108 . طبقات القراء لابن الجزري 2 / .(2/8)
وكانت بالعراق مدرسة عبد الله بن مسعود(1)وكان من تلامذتها علقمة بن قيس(2)ومسروق(3)والأسود بن يزيد(4)وعامر الشعبي(5), الحسن البصري(6)وقتادة بن دعامة السدوسي(7).
__________
(1) 3 ) ... عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي أسلم قديماً ، واشتهر بقراءة القرآن ، آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين ابن الزبير بعد الهجرة ، ت : بالمدينة في خلافة عثمان سنة 32 هـ ، ودفن بالبقيع . الاستيعاب 3 / 987 .
(2) 4 ) ... علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك أبو شبل النخعي الفقيه الكبير ، ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ القرآن عن ابن مسعود وسمع علي وعمر وأبا الدرداء ، مات سنة 62هـ . طبقات القراء 1 / 516
(3) 5 ) ... مسروق بن الأجدع بن مالك أبو عائشة ، ويقال أبو هشام الهمداني الكوفي ، أخذ القراءة عن ابن مسعود ، وروى عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل – رضي الله عنهم – ت : سنة 63 هـ . طبقات القراء 2 / 294 .
(4) 6 ) ... الأسود بن يزيد بن قيس بن يزيد أبو عمرو النخعى الكوفي الإمام الجليل , قرأ علي ابن مسعود وروى عن الخلفاء الأربعة ، وكان يختم القرآن كل ست ليال ، وفي رمضان كل ليلتين . ت : سنة 75 هـ . طبقات القراء 1 / 171 .
(5) 7 ) ... عامر بن شراحبيل بن عبد بن ذي كبار . الإمام علامة العصر أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي , ولد سنة 28 ، وتوفي سنة 117 . طبقات ابن سعد 7 / 229 ، ط : .
(6) 8 ) ... الحسن ابن أبي الحسن البصري أبو سعيد . إمام أهل البصرة وخير أهل زمانه , ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، وسمع خطبة عثمان , كان جامعاً عالما رفيعاً فقيهاً حجة مأمونا عابدا ناسكاً كثير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً . ت سنة 110هـ . شذرات الذهب 1 / 136 ط : دار الآفاق - بيروت
(7) 9 ) ... قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز ..حافظ العصر وقدوة المفسرين والمحدثين أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه ، ولد سنة 60 وتوفي سنة 117 . طبقات ابن سعد 7 / 229 .(2/9)
على أن أخذ التابعين للتفسير كان أقوى من أخذ الصحابة للتفسير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لما يلي :
أولا : كثرة المصادر التفسيرية للتابعين .. ففي الوقت الذي كان يسأل فيه التابعون كل من وجدوهم من الصحابة الكرام – ولا شك أنه كان عند كل صحابي ما لم يكن عند الآخر لتفاوت ملازمتهم وأسئلتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلة وكثرة – لم يكن للصحابة مرجع تفسيري إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فكان جميع ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفسير للقرآن عند مجموع الصحابة , وكان جميع ما عند الصحابة عند جميع التابعين .
ثانياً : كثرة الكتاب من التابعين وتوافر أدوات الكتابة مما جعل التفسير في عهد التابعين محفوظاً في السطور والصدور علي عكس ما كان الحال عليه في عصر الصحابة – رضي الله عنهم .
وبهذا انتقل التفسير من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى صحابته ومن هؤلاء إلي التابعين ثم شاع العلم فيما بعد .(2/10)
وانتقل التفسير أيضاً من مرحلة التلقين إلى مرحلة التدوين قال الحافظ ابن كثير(1): " فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر .. فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له .. وإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها , ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح , والعمل الصالح لاسيما علماءهم وكبراءهم ، فإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عند الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب(2)والضحاك بن مزاحم(3)وغيرهم من التابعين(4).
ثانيا : التفسير بالرأي
الرأي في اللغة يطلق على الاعتقاد والنظر والتأمل .
__________
(1) 1 ) ... الحافظ الكبير عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير .. البصري ثم الدمشقي ، ولد سنة 700 وقدم دمشق وله سبع سنين , من مصنفاته : " البداية والنهاية في التاريخ , تفسير القرآن العظيم , جمع المساند العشرة في الحديث " وغيرها ، ت : سنة 774 . شذارت الذاهب 6 / 231 .
(2) 1 ) ... سعيد بن المسيب بن حمزة المخزومي أبو محمد ، عالم التابعين ، وردت الرواية عنه في حروف القرآن ، قرأ على ابن عباس وأبي هريرة ، وروى عن عثمان وسعيد بن زيد ، ت : سنة 94 . طبقات القراء 1 / 308 .
(3) 2 ) ... الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو محمد وقيل أبو القاسم ، صاحب التفسير كان من أوعية العلم ، صدوقاً في نفسه وليس بالمجود لحديثه ، مات سنة 102 . السير 4 / 598 ، وطبقات المفسرين للأدنوري : 10 .
(4) 3 ) ... انظر مفدمة تفسير ابن كثير 1 / 35 . ط : مكتبة الإيمان – المنصورة .(2/11)
وهو عند الأصوليين : استنباط الأحكام الشرعية في ضوء قواعد مقررة(1)
وفي اصطلاح المفسرين : تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها ، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ، ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر(2)
نشأته :
بعد أن مضى عهد التابعين الذي شهد تدوين التفسير بالمأثور وجاء عصر تابعي التابعين تعددت اتجاهات التفسير إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية هي :
أولاً : الاتجاه الأثري : " التفسير بالمأثور " .
__________
(1) 4 ) ... المعجم الوجيز . ط : وزارة التربية والتعليم ، مادة : " رأى " .
(2) 5 ) ... التفسير والمفسرون 1 / 265 .(2/12)
ثانيا : الاتجاه اللغوي .. وقد بدا هذا الاتجاه واضحاً في القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث إذ نشأ علم النحو ونضجت علوم اللغة على أيدي الرواد أمثال أبي عمرو ابن العلاء(1)ويونس بن حبيب(2)والخليل بن أحمد الفراهيدي(3)وكان الغرض الأسمى من تأصيل هذه العلوم وتقعيدها خدمة القرآن الكريم صيانةً له من اللحن ، ولاسيما بعد اتصال العرب بالعجم .
وقد أثرت هذه الدراسات في تفسير القرآن تأثيراً كبيراً إذ اشتغل اللغويون – أنفسهم – بالقرآن ولغته ، وكان من أشهر هؤلاء العلماء أبو عبيدة(4)صاحب كتاب " مجاز القرآن " الذي يعد أقدم مؤلف في معاني القرآن وصل إلينا .
ثالثاً : الاتجاه البياني : وبذور هذا الاتجاه نجدها في تفسير ابن عباس المبثوث في ثنايا التفسير الأثري ..
__________
(1) 1 ) ... اسمه زَبَّان بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحسين بن الحارث الإمام أبو عمرو البصري ، أحد القراء السبعة ، ولد بمكة سنة 68 ، ونشأ بالبصرة ، وت : بالكوفة سنة 154 . طبقات القراء 1 / 288 .
(2) 2 ) ... يونس بن حبيب أبو عبد الرحمن الضبي مولاهم البصري النحوي ، روى القراءة عن أبان بن يزيد ابن العطاء وأبي عمرو بن العلاء ، وأخذ العربية عنه وعن حمار بن سلمة ، ت سنة 185 . المصدر السابق 2 / 406 .
(3) 3 ) ... أبو عبد الرحمن الخليل أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي ، كان إماما في علم النحو ، وهو الذي استنبط علم العروض ، كان رجلاً صالحاً عاقلاً حليماً وقوراً ، له : " العين ، العروض ، الشواهد وغيرها " . ت سنة 170 . وفيات الأعيان لابن خلكان 2 / 244 .
(4) 4 ) ... سبقت ترجمته ص : 3 .(2/13)
ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن جرير(1)في تفسيره أن عمر - رضي الله عنه - سأل الناس عن تفسير هذه الآية { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }(2)فما وجد أحداً يشفيه حتى قال ابن عباس يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها شيئاً فَتَلَفَّتَ إليه فقال : تَحَوَّل ها هنا لم تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله - عز وجل - فقال أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير – حين فنى عمره واقترب أجله – ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرقه أحوج ما يكون إليه(3)(4)..
والذي أميل إليه – والله أعلم بالصواب – أن نوعي التفسير قد نشآ معاً .. وهذا التفسير الوارد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير آية سورة البقرة خير دليل فأنت ترى فيه :
__________
(1) 5 ) ... محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب أبو جعفر الطبري شيخ المفسرين وإمامهم ، استوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته ، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وكان حافظاً لكتاب الله عارفاً بالقراءات بصيراً بالمعاني ، له : " تاريخ الأمم والملوك ، تهذيب الآثار والتفسير وغيرها " . ولد سنة 225 ، ت سنة 310 . تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 2 / 159 ط : دار الكتب العلمية .
(2) 1 ) ... البقرة : 226 .
(3) 2 ) ... صحيح البخاري ك : التفسير ، ب : الآية رقم الباب [ 47 ] حديث رقم [ 4538 ] .
(4) 3 ) ... بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي 1 / 44 – 48 باختصار – ط : دار الكتب العلمية .(2/14)
أولاً : طلب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تفسير الآية من الصحابة " فلم يجد ما يشفيه " ولاشك أن عدم قناعته - رضي الله عنه - بما قالوه فيه دليل على أنهم لم يقولوا فيها بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما صدروا فيما قالوه عن آرائهم .
ثانيا: أن الصحابة اختلفوا في تفسير الآية .. وهذا دليل على أنهم لم يسمعوا ما قالوه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلا لما اختلفوا – إنما قالوه بآرائهم .
ثالثاً : قول ابن عباس - رضي الله عنه - " في نفسي منها شيء " دليل على أنه قال هذا التفسير بناء على رأيه لا على ما علمه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الآية .
ولكن قد يقال : إن هذا – أعني كلام الصحابة في الآية – يعد من التفسير بالمأثور – بناءً على التعريف السابق – فكيف يتخذ دليلاً على التفسير بالرأي ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن تصنيف هذا التفسير في عداد التفسير بالمأثور إنما هو من عمل المتأخرين ولم يكن الصحابة – رضي الله عنهم – لِيُسَوُّوابين ما يقولون وبين ما يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان معاني كتاب الله سبحانه .
الثاني : أن هذا التفسير يعد من التفسير المأثور بالنسبة لنا ، ويعد من التفسير بالرأي بالنسبة للصحابة – رضي الله عنهم .
موقف العلماء من التفسير بالرأي :
وقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين
فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن ولم يبيحوه لغيرهم ، وقالوا لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار .. إنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة – رضوان الله عليهم – أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين .(2/15)
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك فلم يروا بأساً أن يفسروا القرآن باجتهادهم ، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده
قال الراغب الأصفهاني بعد ذكر المذهبين : " وذكر بعض المحققين أن المذهبين هما الغلو والتقصير ... "
فمن اقتصر على المنقول إليه فقد ترك كثيراً مما يحتاج إليه ، ومن أجاز لكل أحد الخوض فيه فقد عرضه للتخليط ، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى : { لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }(1).
هذا .. وقد استدل كل فريق لمذهبه بأدلة كثيرة .. الكثير منها لا يقوم عند التحقيق ، والباقي يمكن الجمع بينه بأيسر سبيل ، ولبيان ذلك نقول :
الرأي قسمان : قسم جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول مع موافقة الكتاب والسنة ومراعاة سائر شروط التفسير ، وهذا القسم جائز لاشك فيه وعليه يحمل كلام المجيزين ، وقسم غير جار على قوانين العربية ولا موافق للأدلة الشرعية ولا مستوف لشرائط التفسير وهذا هو مورد النهي ومحط الذم ، وهذا هو الذي يحمل عليه كلام المانعين "(2)، غير أن هذا الجمع تعوزه الدقة لأن من منع التفسير بالرأي منعه على كل إنسان وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار ، فكيف يتأتى ممن هذا شأنه – تفسير يخالف قوانين العربية ولا يوافق الأدلة الشرعية ؟!
__________
(1) 1 ) ... سورة ص : 29 .
(2) 1 ) ... التفسير والمفسرون 1 / 265 : 273 باختصار شديد .(2/16)
ولعل الأوفق في الجمع بين الاتجاهين : أن تحمل الإجازة – ممن أجاز – على تفسير المحكم(1)الذي يمكن التوصل إلى فهمه بمعرفة قوانين العربية والأدلة الشرعية وغيرها .
ويحمل المنع – ممن منع – على تفسير المتشابه(2)الذي لا يعلم تأويله إلا الله ولا يمكن التوصل إلى معرفة المراد منه مهما أوتي الإنسان من علوم ومعارف ، والله أعلم .
على أن الطريقة المثلى التي توصل إلى الغاية في فهم القرآن وتَعَرُّفِ معانيه وإدراك دلائل إعجازه هي الاعتماد على النقل والعقل ، فلا يصح الاقتصار على النقل وحده ولا على العقل وحده ...
وإنما النظر الأمثل أن يعتمد على العقل والرأي وعلى السماع من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فهم القرآن ، فظواهر القرآن من الألفاظ ، والآثارُ التي تعاضد الظاهر لا تكفي وحدها بل تساعد العقل وتفتح له السبيل لاستخراج معاني القرآن المتسعة الأفق البعيدة المدى التي توجه الفكر إلى أعمق الحقائق العلمية والكونية والنفسية ، وكلما تفتح العقل في ظل إدراك الألفاظ وظواهر اللغة أدرك إدراكاً صحيحاً ما تشير إليه الحقائق الكونية وما يشير إليه القرآن(3).
__________
(1) 2 ) ( 3 ) اختلف في تعريفهما اختلافاً كبيراً وأهم ما قيل فيهما أن المحكم ما عرف المراد منه ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه ، المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل أوجهاً ، المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان ، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه واحتاج إلى بيان ... انظر مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان . ص : 207 ، ط : مكتبة وهبة .
(3) 1 ) ... زهرة التفاسير للإمام محمد أبو زهرة 1 / 35 ، ط : دار الفكر .(2/17)
وهذه الطريقة من التفسير هي التي اختارها وأجازها المباركفوري – رحمه الله – فعند شرحه لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " .. ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار "(1)قال :
" ( ومن قال ) أي من تكلم ( في القرآن ) أي في معناه ( برأيه ) أي من تلقاء نفسه من غير تتبع أقوال الأئمة من أهل اللغة العربية المطابقة للقواعد الشرعية بل بحسب ما يقتضيه عقله وهو مما يتوقف على النقل بأنه لا مجال للعقل فيه كأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ وما يتعلق بالقصص والأحكام ، أو بحسب ما يقتضيه ظاهر النقل وهو مما يتوقف على العقل كالمتشابهات التي أخذ المجسمة(2)بظواهرها وأعرضوا عن استحالة ذلك في العقول ، أو بحسب ما يقتضيه بعض العلوم الإلهية مع عدم معرفته ببقيتها ... فعلم أن علم التفسير إنما يتلقى من النقل ، أو من أقوال الأئمة أو من المقاييس العربية أو القواعد الأصولية المبحوث عنها في علم أصول الفقه أو أصول الدين "(3).
أشهر كتب التفسير(4)
أولاً : أشهر كتب التفسير بالمأثور
[ 1 ] التفسير المنسوب إلى ابن عباس جمعه الفيروز أبادي وسماه تنوير المقباس من تفسير ابن عباس .
[ 2 ] تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم .
[
__________
(1) 2 ) ... سنن الترمذي ، أبواب التفسير ، باب : ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه 23 . ع ، وقال هذا حديث حسن.
(2) هم الذين قالوا إن لله تعالى جسما وقلوا إن له تعالى يدين ورجلين وغير ذلك من اللحم والدم وسائر الأعضاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا معجم الفرق الإ سلامية /شريف يحى الأمين ص213
(3) 1 ) ... تحفة الأحوزي 8 / 278 ، 279 .
(4) 2 ) ... وهذه إشارة إلى بعض الكتب المؤلفة وأسماء مؤلفيها ومن أراد زيادة أو تعليقاً على أي من هذه الكتب فلينظر كتاب التفسير والمفسرون للدكتور الذهبي 1 / 214 : 370 ، وأما ترجمة أصحاب الكتب فبعضها مضى والباقي سيأتي تباعاً في ثنايا البحث إن شاء الله .(2/18)
3 ] جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري .
[ 4 ] تفسير القرآن العظيم لابن كثير .
[ 5 ] الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي .
ثانياً : أشهر كتب التفسير بالرأي
[ 1 ] مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير للإمام الرازي .
[ 2 ] تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي .
[ 3 ] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري .
[ 4 ] لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن .
[ 5 ] أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي .
ثالثاً : من كتب التفسير في العصر الحديث
[ 1 ] الجواهر في تفسير القرآن للشيخ طنطاوي جوهري .
[ 2 ] في ظلال القرآن للشيخ الشهيد سيد قطب .
[ 3 ] أضواء البيان للشيخ الشنقيطي .
[ 4 ] التفسير البياني للقرآن الكريم لبنت الشاطئ .
[ 5 ] زهرة التفاسير للشيخ الإمام محمد أبي زهرة .
هذا .. وقد تتبعت أقوال الإمام المباركفوري التفسيرية في كتابه تحفة الأحوذي – محل البحث فوجدتها في كتاب التفسير فقط تربو على المائة مسألة منها في التفسير بالمأثور أكثر من سبعين مسألة .
وفي المسائل الفقهية والاعتقادية وغيرها من التفسير بالرأي أكثر من أربعين مسألة ، هذا غير جهوده في علوم القرآن ، وعلوم القراءات .. وهي منتشرة ومتناثرة في ثنايا الكتاب والتي تربو على مائة وخمسين مسألة في شتى علوم القرآن ، وها أنا أعرضها كلها مجملة بين يدي القارئ مع بيان مواطنها في القرآن ومواضعها في الكتاب ، ثم أتناول شيئاً منها بشيء من التفصيل ، والله المستعان.
م ... اسم السورة ... رقم الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة
1 ... الفاتحة ... 6 ... ما المراد بالصراط المستقيم ؟ ... 8 ... 279
" " ... هل تجزئ صلاة بغير فاتحة الكتاب ؟ ... 283
البقرة ... 58 ... ما معنى { وادخلوا الباب سجداً } ؟ ... 291
" " ... " ... ما هو التبديل الذي وقع من بني إسرائيل ؟ ... 292
" " ... 143 ... علام عطف قوله " وكذلك جعلناكم " ، وما معنى وسطاً ؟ ... 296
م ... السورة ... رقم الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة(2/19)
البقرة ... " ... هل تكون الشهادة مخصوصة بأشخاص وزمن معينين ؟ ... 298
" " ... 159 ... هل نفي الجناح يعني نفي الوجوب ؟ ... 301
" " ... 195 ... ما المراد بإلقاء الأيدي إلى التهلكة ؟ ... 312
" " ... 203 ... ما المراد بالتعجيل والتأخير في شعائر الحج ؟ ... 317
" " ... 222 ... ما معنى الاعتزال في المحيض ، وما حدوده ؟ ... 319
" " ... 223 ... ما هي آداب المعاشرة بين الزوجين ؟ ... 321
" " ... 232 ... ما حق كل من الولي والمرأة في عقد النكاح ؟ ... 326
" " ... 238 ... ما هي الصلاة والوسطى ؟ ... 327
" " ... 238 ... ما معنى قانتين ... ؟ ... 328
" " ... 286 ... كيف يكون تكليف ما لا يطاق ؟ ... 339
النساء ... 31 ... ما معنى الكبيرة ؟ ... 375
" " ... 32 ... ما هو التمني المنهي عنه ... 376
" " ... 93 ... هل للقاتل توبة ... 385
" " ... 101 ... ما حكم قصر الصلاة في السفر ... 393
" " ... 116 ... ما حكم مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب ... 400
" " ... 176 ... ما معنى الكلالة ... 405
المائدة ... 64 ... ما المقصود بقوله تعالى "وقالت اليهود يد الله مغلولة ... 410
" " ... 67 ... ما المقصود بالعصمة في الآية ... 411
م ... السورة ... رقم الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة
المائدة ... كيف توفق بين الآية وبين إصابته - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ... 411
" " ... 87 ... ما معنى لا تحرموا ... 415
" " ... 92 ... ما تفسيرها ... 418
" " ... 105 ... هل يجوز بناء – على الآية – ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ ... 423
" " ... 106 ... ما تفسيرها ... 428
" " ... 115 ... هل أنزلت المائدة من السماء فعلاً ... 434
" " ... 116 ... متى يكون قول الله لعيسى " أأنت قلت للناس " ؟ ... 435
الأنعام ... 65 ... هل سيقع الرجم والخسف في هذه الأمة ؟ ... 439
" " ... 103 ... هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ ... 441
" " ... 151 ... لم أفرد القتل بالذكر مع أنه ضمن الفواحش ؟ ... 447
" " ... 152 ... هل يجوز الأكل من مال اليتيم ؟ ... 448
" " ... 152 ... ما هو بلوغ الأشد ؟ ... 448
الأعراف ... 172 ... كيف وقع الاستخراج من ظهر أبينا آدم ؟ ... 453
" " ... 172 ... كيف وقع المسح على ظهر آدم ؟ ... 453
" " ... 189 ... علام يعود الضمير في قوله جعلا له شركاء ... 462
الأنفال ... 1 ... ما المفصود من السؤال ... 467(2/20)
" " ... 67 ... ما تفسيرها ورد فيه حديثان متعارضان فكيف توفق ... 476
185
غ
م ... السورة ... رقم الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة
التوبة ... 3 ... ما هو يوم الحج الأكبر ؟ ... 481
" " ... 80 ... ما تفسيرها ؟ ... 498
" " ... 84 ... كيف توجه الآية مع ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة على ابن أبي بن سلول ؟ ... 500
" " ... 108 ... ما هو المسجد الذي أسس على التقوى ؟ ... 234
" " ... 108 ... من هم المقصودون بالآية ؟ ... 504
" " ... 117 ... يفهم منها وقوع الذنب من النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف توجه ذلك مع عصمته - صلى الله عليه وسلم - ... 508
" " ... 117 ... ما الفرق بين رءوف ، رحيم ... 508
" " ... 118 ... من هم الثلاثة الذين خلفوا ... 510
" " ... 118 ... هل يجوز تحريق الكتب – التي فيها اسم الله – بالنار ... 519
يونس ... 64 ... ما هي البشرى في الدنيا للمؤمنين ... 523
هود ... 80 ... ما المقصود بالركن الشديد ... 541
" " ... 114 ... طرفي النهار وزلفاً من الليل – ما هي هذه الأوقات ... 534
إبراهيم ... 48 ... هل وقوع التبديل على الذات أم على الصفة ؟ ... 548
الحجر ... 24 ... ما معنى الآية ؟ ... 550
" " ... 75 ... ما معنى المتوسمين ؟ ... 555
" " ... 87 ... ما هي السبع المثاني ، وما معنى مثاني ؟ ... 553
الإسراء ... 1 ... هل صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الأقصى ؟ ... 583
م ... السورة ... رقم الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة
الإسراء ... هل حمل لواء الحمد يوم القيامة حقيقة أم مجاز ؟ ... 585
" " ... 60 ... ما هي الشجرة الملعونة وأين لعنت ؟ ... 569
" " ... 71 ... ما المقصود بإمامهم ... 571
" " ... 79 ... هل التهجد أفضل من أداء السنن الرواتب ... 559
" " ... 80 ... أين يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أين يخرج " أدخلني وأخرجني" ... 574
" " ... 81 ... ما المراد بالباطل في الآية ... 574
مريم ... 57 ... هل تتعارض الآية مع كون غيره - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء أعلى منه مكاناً ؟ ... 603
" " ... 71 ... كيف يكون الورود ؟ ... 606
" " ... 71 ... هل يرد المؤمنون النار ... 608
طه ... 14 ... ما معنى الآية ؟ ... 612
" " ... 14 ... كيف نام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة ؟ ... 613(2/21)
الأنبياء ... 104 ... في تفسيرها " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " فما المراد بالإحداث ... 8
الحج ... 2 ... هل هذا في الدنيا أم في الآخرة ؟ ... 9
" " ... 2 ... ما المثبت وما المنفي في قوله سكارى وما هم بسكارى ... 10
" " ... 29 ... لماذا وصف بالعتيق ... 14
النور ... 2 ... هل الآية خبر أم نهي ... 23
" " ... 2 ... هل المحرم نكاح المشركين والمشركات أم المحرم هو الزنا ... 23
م ... السورة ... رقم الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة
النور ... 11 ... هل أقيم الحد على قاذفي السيدة عائشة ومنهم ابن سلول ... 37
الفرقان ... 68 ... ما معنى أثاما ... 39
النمل ... 82 ... ما معنى وقوع القول ... 45
" " ... 82 ... هل هذا لفظ كلام الدابة أم معناه ... 46
" " ... 82 ... ما المراد بالناس في الآية ... 46
القصص ... 56 ... هل نطق أبو طالب بالشهادتين قبل موته ؟ ... 48
العنكبوت ... 29 ... ما المقصود بالمنكر في الآية ؟ ... 50
لقمان ... 6 ... ما المراد بلهو الحديث ... 503
" " ... 6 ... هل ثمن الجارية المغنية حرام ... 503
الأحزاب ... 33 ... ما المقصود بالرجس ... 66
" " ... 33 ... من المقصود بأهل البيت ... 67
" " ... 37 ... ما الذي كان يخفيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه ؟ ... 69
" " ... 37 ... ما معنى قوله تعالى " زوجناكها " ؟ ... 70
سبأ ... 23 ... من المجيب بقول " قالوا الحق وهو العلي الكبير " ... 90
فاطر ... 32 ... هل الظالم لنفسه من الأنبياء أو من الأمم عموماً أو من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ ... 93
الزمر ... 31 ... بين من - ومتى – يكون التخاصم ؟ ... 110
" " ... 52 ... هل الشرك بالله مغفور ؟ ... 111
" " ... 67 ... ما معنى أصبغ في الحديث الوارد في تفسير الآية ... 114
م ... السورة ... الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة
فصلت ... 30 ... ما معنى استقاموا ؟ ... 125
الشورى ... 23 ... ما المقصود بالآية ؟ ... 127
الدخان ... 10 ... هل وقع الدخان بالفعل ؟ ... 133
" " ... 29 ... هل بكاء السماء والأرض حقيقة أم مجاز ؟ ... 136
محمد ... 19 ... هل نقع المعصية من الأنبياء ؟ ... 306
الفتح ... 1 ... ما المراد بالفتح ؟ ... 148
" " ... 26 ... ما هي كلمة التقوى ؟ ... 150
ق ... 30 ... في تفسيرها وضع الرحمن قدمه فيها فما معناها ... 276
النجم ... 32 ... ما هو اللمم ؟ ... 172
الواقعة ... 35 ... ما مرجع الضمير في الآية ؟ ... 183(2/22)
المجادلة ... 2 ... ما حكم الظهار المؤقت ؟ ... 189
" " ... 2 ... هل تسقط كفارة الظهار بالعجز عنها ؟ ... 191
الممتحنة ... 12 ... ما حكم النياحة على الميت ؟ ... 205
الجمعة ... 3 ... ما تفسير الآية ؟ ... 210
الحاقة ... 17 ... هل الله سبحانه وتعالى فوق العرش وكيف ذلك ؟ ... 235
القيامة ... 24 ... هل ستقع رؤية الله سبحانه في الآخرة ؟ ... 265
المطففين ... 14 ... ما هو الران ؟ ... 255
الانشقاق ... 8 ... كيف تجمع بينها وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - من نوقش الحساب عُذَّب ... 271
الليل ... 5 :15 ... ما معنى الآيات ؟ ... 273
م ... السورة ... الآية ... المسألة ... مجلد ... صفحة
التين ... 8 ... هل الإجابة عليها وعلى نظائرها تكون في الصلاة ؟ ... 277
القدر ... 1 ... هل ليلة القدر ليلة السابع والعشرين ؟ ... 283
الكوثر ... ما المراد بالصلاة هنا ، وما معنى قوله انحر ؟ ... 93
الفاتحة ... - ... ما حكم قراءتها في الصلاة عموماً ؟ ... 235
" " ... - ... ما حكم قراءتها في صلاة الجنازة ؟ ... 108
" " ... - ... هل يجوز أخذ الأجر على القرآن الكريم ؟ ... 235
" " ... - ... حكم التوجه لغير القبلة في صلاة النافلة على الراحلة ... 292
{ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }(1)
ما المراد به ؟
قال المباركفوري :
اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ أي ثبتنا على دين الإسلام أو طريق متابعة الحبيب عليه الصلاة والسلام(2)
يقول ابن العربي المالكي(3): " الصراط المستقيم هو السبيل الموصلة إليه سبحانه وهو ما عليه من الكتاب والسنة دليل وليس للبِدْعة(4)عليه سلطان ولا سبيل , وهو ما شرعه سبحانه وما كان عليه السلف منا "(5).
__________
(1) 1 ) ... سورة الفاتحة : 6 .
(2) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 229 .
(3) 3 ) ... الحافظ محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد الأمام أبو بكر المعافري الأندلسي الأشبيلي الحافظ . ت : 543 بمدنية فاس .
(4) 4 ) ... هي لغة الإنشاء والابتداء , ويقصد بها إحداث أمر جديد في الدين- المحكم لابن سيده (ع . د . ب) 2 / 3 ، دار الكتب العلمية .
(5) 5 ) ... عارضة الأحوذي لابن العربي 6 / 54 ، دار الكتب العلمية .(2/23)
ولم أقف - فيما اطلعت عليه - على خلاف - حقيقي – بين المفسرين في معني هذا الدعاء .
قال أبو جعفر(1)أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ... ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه .
والذي هو أولى بتأويل الآية عندي - أعني ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) - أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما أرتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل .
وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وُفَّق لما وُفَّق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمر الله به والانزجار عما زجره عنه واتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكل عبد لله صالح وكل ذلك من الصراط المستقيم(2).
أقول : ولا مخالفة بين ما قاله المباركفوري وما أجمع عليه أهل التأويل كما قال الطبري في المعنىّ بالصراط المستقيم .
وقد يتوهم الخلاف بينه وبين غيره في معنى " اهدنا " – إذ هي عنده بمعنى " ثبتنا " وعند الطبري " وفقنا للثبات " – ولكن هذا لا يعدو كونه خلافاً لفظياً حيث إن " ثبتنا " بمعنى " وفقنا للثبات " فهما بمعنى واحد .
والله أعلم
{
__________
(1) 6 ) ... الإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب أبو جعفر الطبري . استوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته . له كتب في التفسير , والتاريخ وأصول الفقه وفروعه . مات يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة 310 هـ ودفن بداره – تاريخ بغداد 2 / 162 . المكتبة السلفية .
(2) 1 ) ... تفسير الطبري 1 / 103 ، 104 ، دار الكتب العلمية – باختصار .(2/24)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }(1).
ما معنى سجداً ؟!
قال المباركفوري : " سجداً أي ساجدين لله تعالى شكراً على إخراجهم من التيه ، وقال ابن عباس منحنين ركوعاً ، وقيل خشوعاً وخضوعاً "(2).
ذكر العلماء في المراد بكلمة { سُجَّداً } في الآية أقوالاً كثيرة :
فقال ابن العربي : " قيل معناه خضعاناً أذلاء وهو معنى السجود الحقيقي .. وقد قال شاعر العرب :
بِجيِشٍ تضل البُلق في حجراته ... ترى الأُكُمَ فيه سُجَّداً للحوافر(3)
وقيل معناه مميلين رءوسهم كهيئة الركوع ، وذلك كله محتمل وربما كان الأول أظهر لأن مشي الراكع والساجد شاق أو متعذر(4).
واختار الرأي الثاني الإمام الرازي قال : " وهو الأقرب لأنه لما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع لأنهم إذا أخذوا في التوبة فالتائب عن الذنب لابد أن يكون خاضعاً مستكيناً "(5).
__________
(1) 1 ) ... البقرة : 58 .
(2) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 234 .
(3) 3 ) ... بجيش بالكسر نبات له قضبان طوال خضر له سنَفَةٌ كثيرة طوال مملوءة حباً صغاراً ، البلق : جمع أبلق ( وصف لفرس ) ، الأكم : جمع أكمه وهي الموضع المرتفع عما حوله ، والمأكمان اللحمتان على رءوس الوركين ، والمعنى وصف للنبات المذكور بالكثرة والنماء حتى إنه يتعب الأفراس القوية فتخق قواها إذا دخلته . انظر المحكم لابن سيده 7 / 497 ، 6 / 436 ، 7 / 98 دار الكتب العلمية – وذُكِر عجز البيت في اللسان ( سجد ) بلا نسب ، ولم أقف على صاحبه .
(4) 4 ) ... عارضة الأحوذي 9 / 59 .
(5) 1 ) ... تفسير الرازي 2 / 3 / 83 ، دار الكتب العلمية .(2/25)
وعند الحسن(1)المراد به نفس السجود الذي هو إلصاق الوجه بالأرض قال : " أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم "(2).
ورفضه الرازي واستبعده " لأنه يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك "(3).
وأجاز الإمام الآلوسي(4)حمل السجود على المعنى الشرعي والحال مقارنة أو مقدرة ، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب(5)
في معنى الآية : إذا دخلتموه فاسجدوا شكراً لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون(6)
قلت : الأولى بالقبول أن المراد حقيقة السجود وهو قول المباركفوري والحسن البصري وذلك لما يلي :
__________
(1) 2 ) ... الحسن بن أبي الحسن البصري أبو سعيد إمام أهل البصرة وخير أهل زمانه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وسمع خطبة عثمان ، ولما شيع الناس جنازته لم تقم صلاة العصر في الجامع ، ت : سنة 110 هـ . شذرات الذهب 1 / 136 .
(2) 3 ) ... تفسير الحسن البصري 1 / 95 ، ط : دار الحديث .
(3) 4 ) ... تفسير الرازي 3 / 83 .
(4) 5 ) ... محمود شكري بن عبد الله بن شهاب الدين محمود الآلوسي الحسيني أبو المعالي ، مؤرخ عالم بالأدب والدين ، ولد في رصافة ببغداد ، له 52 مصنف ما بين كتاب ورسالة ، ت : 1335 هـ ببغداد . الأعلام للزركلي 7 / 172 ، دار العلم للملايين .
(5) 6 ) ... هو أبو عبد الله وهب بن منبه بن كامل بن سيخ بن الأسوار الصنعاني ، من خيار علماء التابعين ، ولد سنة 34 هـ ، وتوفي سنة 110 ، كان صدوقاً عالماً ، قال العجلي وهب تابعي ثقة ، لبث عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءاً . تاريخ الإسلام 7 / 497 .
(6) 7 ) ... تفسير روح المعاني للآلوسي 1 / 266 ، ط : دار الكتب العلمية .(2/26)
أولاً : لما أورده الطبري في تفسيره عن الربيع بن أنس(1){ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } قال فكان سجود أحدهم على خده "(2). ودلالة هذا الأثر واضحة أنهم خالفوا هيئة السجود المعروفة إلى هيئة أخرى .
ثانياً : لما أورده الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى { وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } قال دخلوا متزحفين على أوراكهم أي منحرفين(3)ووجه دلالته كسابقه .
ثالثاً : لو كان المراد شيئاً غير السجود الحقيقي لكانوا بفعلهم هذا – من دخولهم متزحفين لا راكعين ولا منحنين – مطيعين خاضعين لأنهم أتوا بمعنى التكليف وزيادة ..كما تقول لأحد من الناس امش إليَّ فيأتيك جرياً ، ففعله هذا وإن كان ظاهره المخالفة إلا إنه في غاية الطاعة والاستجابة ، وأن هؤلاء لو كانوا قد أمروا بالدخول منحنين لكان دخولهم متزحفين على أوراكهم علامة على شدة الطاعة ، ولو كانوا قد أمروا بالتواضع لكان دخولهم على هذه الحالة علامة على شدة تواضعهم .. لكن الله سبحانه قد وصف فعلهم بالمخالفة والتبديل .. فدل هذا على أنهم أمروا بالسجود حقيقة فخالفوه إلى غيره .
__________
(1) 1 ) ... الربيع بن أنس البكري الخرساني ، سمع أنس بن مالك وأبا العالية ، سمع منه أبو جعفر الرازي وعبد العزيز بن مسلم وابن المبارك وغيرهم . التاريخ الكبير 2 / 1 / 72 ، دار الفكر .
(2) 2 ) ... تفسير الطبري 1 / 344 .
(3) 3 ) ... سنن الترمذي . أبواب التفسير . سورة البقرة جـ رقم [ 3132 ] وقال حسن صحيح .(2/27)
وأما ما قاله الإمام الرازي – رحمه الله – من أن " هذا بعيد لأنه يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك " فهو ... أولاً : مخالف لظاهر الآية " سجداً " ولو أراد الله غير ذلك لصرح به ، وهو ثانياً : غير متعذر على مذهب الإمام الرازي – رحمه الله – في جواز تكليف المحال(1)
فلم يبق إلا أنهم أمروا بالدخول ساجدين ، ولعل الأمر بالدخول على هذه الحال المتعذرة متعلق – والله أعلم – بطبيعة اليهود الخبيثة وعقوبة لهم على جبنهم أول الأمر عن دخول هذه الأرض .
والله تعالى أعلم
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }(2).
متى تكون شهادة المسلمين ؟ وبمن تتعلق ؟
قال المباركفوري : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } أي على من قبلكم من الكفار أن رسلهم بَلَّغَتْهُم ، { وَيَكُونَ الرَّسُولُ } أي رسولكم واللام للعوض أو اللام للعهد ، والمراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، { عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } أنه بَلَّغَكُم ( 2 ) .
هذا الكلام من المباركفوري رحمه الله – وإن أصاب جانباً من الحق – فقد ترك جوانب أخرى لأنه :
أولاً : قصر مجال الشهادة على وقوع البلاغ من الرسل لأقوامهم ، وهذا ما يتنافى مع الأخبار الكثيرة التي تثبت وقوع الشهادة في الدنيا – إلى جانب وقوعها في الآخرة – بين الناس بعضهم البعض .
من هذه الأخبار :
__________
(1) 4 ) ... انظر مذهب الرازي رداً على المعتزلة في جواز تكليف ما لا يطاق في تفسير قول الله تعالى : = = { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } 4 / 7 / 221 ، 222 .
(2) 1 ) ... البقرة : 143 . ... ... ... ( 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 238 .(2/28)
** ما رواه الحاكم(1)- وغيره – وصححه عن جابر(2)قال : " شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة في بني سلمة وكنت إلى جانبه فقال بعضهم : والله يا رسول الله لنعم المرء لقد كان عفيفاً مسلماً وكان .. وأثنوا عليه خيراً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وجبت . قال وكنا معه في جنازة رجل من بني حارثة فقال رجل بئس المرء ما علمنا إن كان لفَظَّاً غليظاً ، إن كان ... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنت الذي تقول ؟ فقال : يا رسول الله الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا فذاك ، فقال : وجبت . ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ }(3)
__________
(1) 3 ) ... محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحاكم أبو عبد الله الحاكم ، يعرف بابن البيع ، ولد سنة 311 ، كان من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع لكنه كان يميل إلى التشيع ، ت : 405 . البداية 11 / 355 .
(2) 4 ) ... جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي ، كنيته أبو عبد الله ، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير وكان يسقي الجند في بدر ، شهد 18 غزوة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من المكثرين للرواية ، ت سنة 74 بالمدينة وهو ابن 94 سنة . الاستيعاب 1 / 219 ، دار الجيل .
(3) 1 ) ... المستدرك على الصحيحين . ك : التفسير ، ب : من سورة البقرة ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه . رقم [ 3061 ] .(2/29)
** وما رواه البخاري ومسلم وغيرهما – واللفظ لمسلم – عن أنس(1)قال " مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت وجبت وجبت ، ومروا بجنازة فأثني عليها بشر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت وجبت ، فسأله عمر فقال : من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض "(2).
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فسر الآية مرة بوقوع الشهادة على الكفار يوم القيامة ومرة أخرى بوقوع الشهادة في الدنيا بين المسلمين فلا مانع من إرادة المعنيين معاً في الآية بل هو المتعين لأنه ليس في الآية ما يفيد قصر ذلك على زمان بعينه أو أقوام بأعينهم ...
ولعل الفارق بين وقوع الشهادة في الدارين – والله أعلم – أن ما يقع في الآخرة إنما هو شهادة أمة على أمة ، أما ما يقع في الدنيا فهو شهادة أفراد .
قال الإمام الرازي – بعد أن ذكر الدليل على وقوع الشهادة في الدارين : " واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل غيره لأنه يفيد أن الأمة لابد وأن يكونوا شهوداً في الدنيا وهذا لا ينافي كونهم شهوداً يوم القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به "(3)
{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }(4)
المراد بإلقاء الأيدي في التهلكة ؟
__________
(1) 2 ) ... الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضير بن ضمضم بن زيد .. ابن البخار يكنى أبا حمزة ، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآخر أصحابه موتاً ، حضر بيعة الشجرة وشهد بدراً وهو غلام ، ت سنة 93 عن 103 سنة . السير 3 / 395 .
(2) 3 ) ... ك : الجنائز ، باب : فيمن يثنى عليه خيراً وشراً من الموتى .
(3) 4 ) ... تفسير الرازي 2 / 4 / 93 .
(4) 1 ) ... البقرة : 195 .(2/30)
قال المباركفوري : " والحديث(1)يدل على أن المراد بإلقاء الأيدي إلى التهلكة هو الإقامة في الأهل والمال ترك الجهاد ، وقيل : هو البخل وترك الإنفاق في الجهاد "(2).
ما قاله الإمام المباركفوري – رحمه الله – صحيح لكنه ليس كل ما قيل في الآية ، وإذا كان ما ذكره – رحمه الله – يفهم من الحديث الذي أشار إليه فهناك أحاديث أخرى يفهم منها غير هذا ، من ذلك :
__________
(1) 2 ) ... يقصد به ما أخرجه الترمذي عن أسلم بن عمران النجيبي قال : " كنا بمدينة الروم .. ( وفيه ) .. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس إنكم لتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض – سراً دون رسول الله – إن أموالنا قد ضاعت وإن الله أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يرد علينا ما قلنا { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ... } فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو " . سنن الترمذي أبواب التفسير رقم [ 3154 ] .
(2) 3 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 250 .(2/31)
** ما رواه ابن أبي حاتم(1)من طريق زيد بن أسلم(2)أنها كانت نزلت في ناس كانوا يغزون بغير نفقة(3).
فهذا يفهم منه أن التهلكة : الإقدام على الغزو دون زاد يعين أو بذل النفس دون المال .
__________
(1) 4 ) ... الإمام الحافظ الناقد شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي ، ولد سنة 240 هـ ، له كتاب في الجرح والتعديل وكتاب التفسير ، ومصنف كبير في الرد على الجهمية ، قال الباجي : ابن أبي حاتم ثقة حافظ ، ت في المحرم سنة 327 هـ . تذكرة الحفاظ للذهبي 3 / 829 .
(2) 5 ) ... الإمام القدوة أبو عبد الله العدوي العمري الفقيه ، حدث عن أبيه أسلم مولى عمر وعن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وغيرهم ، كان له حلقة في العلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ت في ذي الحجة سنة 136 هـ . السير 5 / 316 .
(3) 6 ) ... تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 1 / 331 . ط : مكتبة نزار مصطفى الباز .(2/32)
** وروى الإمام الطبري عن ابن سيرين(1)قال : سألت عبيدة السلماني(2)عن ذلك فقال " هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويلقي بيده إلى التهلكة ويقول لا توبة له "(3). فهذا يفهم منه أن التهلكة هي اليأس من رحمة الله .
** وأخرج أيضاً عن عامر(4)أن الأنصار كان احتبس عليهم بعض الرزق وكانوا قد أنفقوا نفقات قال : فساء ظنهم وأمسكوا ، قال : فأنزل الله : { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال : وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم(5).
** وقال الحافظ في الفتح وروى ابن جرير بإسناد صحيح عن مدرك بن عوف(6)قال : إني لعند عمر فقلت " إن لي جاراً رمى بنفسه في الحرب فقتل فقال ناس ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال عمر كذبوا لكنه اشترى الآخرة بالدنيا(7)
__________
(1) 1 ) ... محمد بن سيرين أبو بكر الأنصاري البصري الإمام الرباني مولى أنس بن مالك ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، سمع أبا هريرة وابن عباس وابن عمر وآخرين ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان أصماً ، ت سنة 110 هـ ، وعاش بضعاً وثمانين سنة . تاريخ الإسلام للذهبي 7 / 239 ط : دار الكتاب العربي .
(2) 2 ) ... عبيدة بن قيس بن عمرو ، كنيته أبو مسلم ، أسلم قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنتين وسمع عمر وعلي وابن مسعود وابن الزبير ، وروي عنه الشعبي والنخعي وابن سيرين وغيرهم . ت سنة 72 هـ . تاريخ بغداد 11 / 119 ، ط : دار الكتب العلمية .
(3) 3 ) ... تفسير الطبري 2 / 209 ، 210 .
(4) 4 ) ... عامر بن شراحبيل بن عبد بن ذي كبار ، وذو كبار قيل من أفيال اليمن الإمام علامة العصر أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي , كانت أمه من سي جلولاء ، ولد سنة 28 ، وتوفي سنة 117 . سير أعلام النبلاء 4 / 294 ، ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم 267 .
(5) 5 ) ... الطبري 2 / 207 .
(6) 6 ) ...
(7) 1 ) ... فتح الباري 8 / 33 .(2/33)
ولأن هذه الآثار توهم التعارض مع حديث أبي أيوب فقد حاول إزالة هذا الوهم الإمام ابن حجر(1)فقال - ليجمع بينها - فالذين قيل لهم أنفقوا وأحسنوا أصحاب الأموال ، والذين قيل لهم ولا تلقوا : الغزاة بغير نفقة "(2)، وهذا الجمع لا يخلو من مقال(3)لأنه لا يجمع بين كل ما جاء من آثار في معنى الآية
والأولى - والله أعلم – أن يقال : إن الخطاب عام في الآية لكل الناس يفهم كل واحد منهم ما يعنيه منه ، وإن كان الأمر بالنفقة في سبيل الله هو الأصل فيها ... فهي خطاب لمن قعد في أهله وماله وترك الغزو ، كما أنها خطاب لمن غزا دون نفقة ، وهي في ذات الوقت خطاب لمن يئس من توبة الله عليه ، وخطاب لمن ساء ظنه بربه أن لن يخلف عليه ما أنفقه ... والآية تحتمل كل هذه المعاني
قال الطبري .. فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله تعالى { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ولم يكن الله - عز وجل - خص منها شيئاً دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا .. غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية : وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم – بترككم ذلك – عذابي ( 4 )
__________
(1) 2 ) ... أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني أبو الفضل شهاب الدين ابن حجر من أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان بفلسطين ، ومولده ووفاته بالقاهرة بين عامي 773 : 852 ، له الدرر الكامنة ، لسان الميزان ، الإصابة في تمييز الصحابة وغيرها . الأعلام للزركلي 1 / 178 .
(2) * ) ... الفتح 8 / 33 .
(3) 3 ) ... قال الحافظ بعد ما ذكره : ولا يخفي ما فيه . ... ... ( 4 ) ... تفسير الطبري 2 / 211 .(2/34)
وقال ابن العربي " وهذه الأقوال متقاربة ولا يعارض القرآن منها بشيء والمختص بالآية ترك الإنفاق في الغزو ، وعليه يحمل غيره لأنه كله دخول في التهلكة "(1).
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى }(2)
ما هي الصلاة الوسطى ؟
قال المباركفوري :
قلت : " لاشك في أن القول الراجح المعول عليه هو قول من قال إنها صلاة العصر ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في باب ما جاء في الصلاة الوسطى أنها العصر "(3)(4).
** الدراسة **
قال القرطبي : اختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال :
الأول : أنها الظهر لأنها وسط النهار .. وممن قال إنها الوسطى زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو وعائشة وأسامة بن زيد وعبد الله بن شداد وعلي بن أبي طالب .
ومما يدل على أنها الوسطى ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر "(5).
وروى أبو داود عن زيد قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة ولم تصل صلاة أشد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها فنزلت { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى }(6).
__________
(1) 5 ) ... عارضة الأحوذي 6 / 73 . ط : دار الكتب العلمية .
(2) 1 ) ... البقرة : 238 .
(3) 2 ) ... قال المباركفوري : " وفي الباب أقوال أخرى ذكرها الشوكاني في النيل ، وقال المذهب الذي يتعين المصير إليه ولا يرتاب في صحته هو أن الصلاة الوسطى هي العصر – انتهى - قلت : لاشك أن هذا هو الصواب يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة " 1 / 535 ، 536 .
(4) 3 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 327 .
(5) 4 ) ... صحيح مسلم . ك : المساجد ، باب : الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر . حديث رقم [ 629 ] .
(6) 1 ) ... سنن أبي داود . ك : الصلاة ، باب : في وقت صلاة العصر حديث رقم [ 411 ] .(2/35)
وروى مالك في موطئه(1)وأبو داود الطيالسي في مسنده ( 3 ) عن زيد بن ثابت قال : " الصلاة الوسطى صلاة الظهر " ، زاد الطيالسي " وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصليها بالهجير "
الثاني : أنها العصر ، وممن قال بذلك علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره وأنصها حديث ابن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الصلاة الوسطي العصر "(2)
الثالث : أنها المغرب قاله قبيصة بن أبي ذؤيب(3)في جماعة والحجة لهم أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها , وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر .
الرابع : صلاة العشاء الآخرة لأنها بين صلاتين لا تقصران
الخامس : أنها الصبح وممن قال ذلك علي بن أبي طالب وابن عباس لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما .
السادس : صلاة الجمعة .
السابع : أنها الصبح والعصر معاً .
الثامن : أنها العتمة والصبح معاً .
__________
(1) 2 ) ، ( 3 ) ... لم أقف عليه في الموطأ , ولا عند الطيالسي من حديث زيد , وإنما فيه من حديث علي . " الصلاة الوسطي صلاة العصر " . ص : 24 ، حديث رقم [ 164 ] ، ط : دار المعرفة , فلعله ضاع مع ما ضاع من مسند الطيالسي - رحمه الله .
(2) 4 ) ... الترمذي ونصه ( صلاة الوسطي صلاة العصر ) التفسير ، حديث 2985 وقال هذا حديث صحيح
(3) 5 ) ... قبيصة بن أبي ذؤيب الإمام الكبير الفقيه أبو سعيد الخزاعي المدني ثم الدمشقي الوزير ، مولده عام الفتح سنة 8 هـ , مات أبوه في آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى بقبيصة بعد موت أبيه فيما قيل فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يع هو ذلك , كان ثقة مأمونا كثير الحديث توفي سنة 86 . سير أعلام النبلاء 4 / 282(2/36)
التاسع : أنها الصلوات الخمس بجملتها قاله معاذ بن جبل(1).
العاشر : أنها غير معينة . قاله نافع عن ابن عمر ، وقاله الربيع بن خثيم(2)فخبأها الله تعالي في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان .
ومما يدل علي أنها مبهمة غير معينة ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الباب عن البراء بن عازب(3) - رضي الله عنه - قال نزلت هذه الآية " حافظوا علي الصلوات وصلاة العصر " فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت : { حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطى } فقال رجل هي إذاً صلاة العصر ؟
__________
(1) 1 ) ... معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو .. بن جشم بن الخزرج . كنينه أبو عبد الرحمن شهد بيعة العقبة الثانية , وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين ابن مسعود ، شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضياً إلي اليمن ، ومات في طاعون عمواس بالأردن سنة 18 هـ ، يولد له قط .
(2) 2 ) ... الربيع بن خثيم المخبث الورع المتثبت القنع من بن ثعلبة بن عامر بن مكان بن نور , يكنى أبا يزيد , قال له ابن مسعود - رضي الله عنه - : 3 / 1402 لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك , مات في أواخر أيام معاوية سنة 67 هـ . طبقات الصوفية 1 / 280 , طبقات ابن سعد 6 / 219 .
(3) 3 ) ... البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر يكنى أبا عمارة ، غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة ونزل الكوفة بعده فله روايات كثيرة , ومات في ولاية مصعب بن الزبير . تاريخ بغداد 1 / 188 .(2/37)
قال البراء قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالي(1)فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعينيها وأبهمت فارتفع التعيين والله أعلم , وهذا اختيار ( مسلم ) لأنه أتى به في آخر الباب وقال به غير واحد من العلماء وهو الصحيح إن شاء الله تعالي لتعارض الأدلة وعدم الترجيع فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأداؤها في أوقاتها والله أعلم "(2).
وقد أوصل الإمام الشوكاني(3)الأقوال في تعينها إلى سبعة عشر قولاً(4)
قال النووي(5): " الصحيح من هذه الأقوال قولان : العصر , والصبح وأصحها العصر للأحاديث الصحيحة(6).
قلت : الأولى عندي بالقبول ما اختاره القرطبي وهي أنها مبهمة وذلك لما يلي
أولاً : لا شك أن كل صلاة من الصلوات الخمس صلاة وسطى(7)في نفسها
فالصبح : وسطى بين جهريتين وسريتين . ،
الظهر : وسطى لأنها وسط النهار . ،
العصر : وسطى بين صلاتي النهار وصلاتي الليل . ،
المغرب : وسطى في عدد ركعاتها .
__________
(1) 4 ) ... صحيح مسلم ، ك : المساجد ومواضع الصلاة ، باب : الدليل لمن قال الصلاة الوسطي هي صلاة العصر جـ 630 .
(2) 1 ) ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي . باختصار 2 / 2 / 207 وما بعدها ، ط : دار الحديث .
(3) 2 ) ... علي بن محمد بن علي بن عبد الله اليمن الصنعاني الحنبلي المعروف بابن الشوكاني ، فاضل . توفي قبل سنة 1250 , ومن تصانيفه تكميل الحجة والبيان في شرح بيتي إمام الزمان , والقول الشافي السديد في نصح المقلد إرشاد المستفيد وغيرها . هدية العارفين 1 / 775 .
(4) 3 ) ... انظر نيل الأوطار للشوكاني 1 / 2 / 36 ، 37 .
(5) 4 ) ... الإمام محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الحزامي الحوراني الشافعي ، صاحب التصانيف النافعة , مولده في المحرم سنة 631 ، وتوفي في 24 رجب سنة 676 . تذكرة الحفاظ 4 / 1471 ، 1472 .
(6) 5 ) ... صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 112 ، ط : مكتبة الإيمان .
(7) 6 ) ... الوسطى : أي الفُضْلَى .(2/38)
والعشاء : وسطى بين صلاتين لا تقصران .
ثانياً : ولا شك أيضاً أن كل صلاة من هذه الصلوات فرض عين وأن لكل منها ثواباً مخصوصاً بها ، ولذا فإنه لا يصح أن يقال إن صلاة الظهر مثلاً أفضل من صلاة العصر أو غير ذلك .
ثالثاًَ : إن تعيين الصلاة الوسطى أمر تعارضت فيه الأدلة , فهناك من الآثار ما يدل على أنها الظهر كحديثي زيد بن ثابت عند أبي داود ومالك ، وهناك ما يدل على أنها العصر كحديث ابن مسعود . وهناك ما يدل علي أنها الصبح .
وما من شك أن الجمع بين النصوص لإعمالها معاً أولى من إهمال بعضها وإعمال الأخر . وطريق الجمع : إن تكون " صلاة العصر " نزلت بدل " الصلاة الوسطى " أول الأمر كما يشير حديث البراء ، وأكد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى ابن مسعود ثم نسخ تعيينها بعد ذلك ، قال في العارضة : الصحيح أنها مخفية لأن الأحاديث التي ساقها أبو عيسى لم يصححها أبو عبد الله ويعارضها حديث عائشة وسائر الأدلة ضعيفة فلا يبقي فيها إلا الإخفاء لها زيادة في فضلها(1).
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }(2)
المباركفوري :
أي لا تُكلفنا من الأعمال مالا نطيق القيام به لثقل حمله علينا , وتكليف مالا يطاق علي وجهين :
أحدهما : ما ليس في قدرة العبد احتماله كتكليف الأعمى النظر والزمن العدو فهذا نوع من التكليف الذي لا يكلف الله به عبده بحال .
الوجه الثاني من تكليف مالا يطاق هو ما في قدرة العبد احتماله مع المشقة الشديدة والكلفة العظيمة كتكليف الأعمال الشاقة والفرائض الثقيلة كما كان في ابتداء الإسلام صلاة الليل واجبة ونحوه فهذا الذي سأل المؤمنون ربهم لا يحملهم مالا طاقة لهم به(3)
** الدراسة **
__________
(1) 1 ) ... عارضة الأحوذي 1 / 239 .
(2) 1 ) ... سورة البقرة : 286 .
(3) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 271 .(2/39)
قال الإمام الطبري : يعني بذلك جل ثناؤه : وقولوا أيضاً ربنا لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيق القيام به لثقل حمله علينا .. ثم قال .. وإنما قلنا بهذا التأويل لأنه عقيب مسألة المؤمنين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا وأن لا يحمل عليهم إصراً كما حمله على الذين من قبلهم فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسير في الدين أولى مما خالف ذلك المعنى(1).
قال ابن كثير : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلينا بما قبل لنا به وقد قال مكحول في قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال العزبة والغلمة(2)رواه ابن أبي حاتم(3)
__________
(1) 3 ) ... تفسير الطبري 3 / 158 .
(2) 1 ) ... العزبة والغلمة , كلاهما بضم الأول وسكون الثاني ، والأولى تعني من لا زوج له ، والثانية قوة شهوة الضراب - اللسان ( عزب ، غلم )
(3) 2 ) ... شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن بن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي ، ولد سنة 240 ، له كتاب في الجرح والتعليل ، وكتاب في التفسير ، ومصنف كبير في الراد علي الجهمية ، قال أبو الوليد الباجي : ابن أبي حاتم ثقة حافظ ، مات في المحرم سنة 327 هـ . انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 3 / 829 , 830 , 831 .(2/40)
وقال أبو السعود(1): { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عطف علي ما قبله واستعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها التفريط فيها من التكاليف الشاقة التي لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها ، كأنه قيل لا تكلفنا تلك التكاليف ولا تعاقبنا بتفريطنا في المحافظة عليها فيكون التعبير عن إنزال العقوبات بالتحميل باعتبار ما يؤدي إليها .
وقيل : هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة مالا يستطاع مبالغة .
وقيل هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به الطاقة البشرية حقيقة فيكون دليلاً علي جوازه عقلا وإلا لما سئل التخلص عنه(2)
وقريب من هذا المعنى ما ذكره صاحب الميزان(3)في تفسيره(4).
__________
(1) 3 ) ... محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي الإمام العلامة ، ولد سنة 898 بقرية قريبة من قسطنطينية ، تولى القضاء والفتيا ، له إرشاد العقل السليم في التفسير ، وحاشيته علي العناية من أول كتاب البيع ، وبعض حواش على الكشاف ، توفي بالقسطنطينية في أوائل جمادى الأولى سنة 982 هـ . شذرات الذهب 8 / 398 .
(2) 4 ) ... تفسير أبي السعود 3 / 321 . ط : دار الفكر .
(3) 5 ) ... محمد حسين بن السيد محمد ابن السيد محمد حسين بن الميزرا علي أصغر شيخ الإسلام الطباطبائي التبريزي القاضي ، ولد في 29 ذي الحجة سنة 1321 في مدينة تبريز ، وله رسائل كثيرة ، ت : بإيران . مقدمة الميزان .
(4) 6 ) ... تفسير الميزان 2 / 451 . ط : مؤسسة الأعلمي .(2/41)
قال الواحدي(1): ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به أي لا تعذبنا بالنار(2)
وقال الزمخشري(3): ولا تحملنا مالا طاقة لنا به " من العقوبات النازلة بمن قبلنا طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها ، وقيل المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف(4).
... قال أبو حيان : وينبغي أن تحمل هذه التفاسير على أنها على سبيل التمثيل لا على سبيل تخصيص العموم و(ما) في قوله { مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عام وهذا أعم من الذي قبله في الآية لأنه قال في تلك : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } فشبه الإصر بالإصر الذي حمله على من قبلهم وهنا سألوا ألا يحملهم مالا طاقة لهم به وهو أعم من الاصر السابق لتخصيصه بالتشبيه وعموم هذا(5)
قلت معلقاً علي هذه المسألة : في معني( مالا طاقة لنا به) أقوال :
الأول : لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيق وهو قول الطبري ,
__________
(1) 1 ) ... علي بن أحمد النيسابوري ، تلميذ أبي إسحاق الثعلبي ، توفي في جمادى الآخرة سنة 468 هـ وكان من أبناء السبعين ، صاحب التفاسير الثلاثة البسيط والوسيط والوجيز وأسباب النزول وغيرها .. العبر للذهبي 2 / 342 ، البداية والنهاية لابن كثير 12 / 114 .
(2) 2 ) ... 1 / 197 ، ط : دار القلم , والدار الشامية . ( الوسيط ) .
(3) 3 ) ... محمود بن عمر بن محمد الزمخشري . المفسر النحوي صالح لكنه داعية إلى الاعتزال , ومن كتبه أساس البلاغة , الفائق في غريب الحديث , والفصل في النحو ، ولد يوم الأربعاء 17 رجب 467 هـ ، وكانت وفاته - عفا الله عنه - ليلة عرفة سنة 538 هـ . لسان الميزان 6 / 4 ، ميزان الاعتدال 4 / 78 , وفيات الأعيان 5 / 178 .
(4) 4 ) ... الكشاف 1 / 408 . ط : دار الفكر .
(5) 5 ) ... البحر المحيط 2 / 384 . ط : دار الكتب العلمية . ...(2/42)
الثاني : مالا طاقة لنا به من العذاب وهو قول الماوردي(1)والواحدي .
الثالث : العقوبات النازلة بمن قبلنا , وهو قول الزمخشري والنسفي(2)
الرابع : الابتلاء الشديد ، وهو قول ابن كثير .
الخامس : جزاء السيئات الواصلة إليهم , وهو قول أبي السعود والطباطبائي
السادس : كل المعاني السابقة ، وهو اختيار أبي حيان .
وقد اختار الإمام المباركفوري رأي الطبري , والصواب - والله أعلم - اختيار أبي حيان لأن لفظ { ما } في الآية عام يشمل كل ما هو فوق الطاقة من التكاليف والعقوبات وغير ذلك - والله أعلم .
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا }(3)
المباركفوري :
الكبائر جمع الكبيرة وهي السيئة العظيمة التي خطيئتها في نفسها كبيرة وعقوبة فاعلها عظيمة بالنسبة إلى معصية ليست بكبيرة
وقيل الكبيرة ما أوعد عليه الشارع بخصوصه .
وقيل ما عين له حد(4).
** الدراسة **
قال صاحب روح المعاني : واختلفوا في حد الكبيرة علي أقوال :
__________
(1) 6 ) ... النكت والعيون 1 / 365 .
(2) 1 ) ... مدارك التنزيل وأسرار التأويل 1 / 219 . ط : دار النفائس .
والإمام النسفي هو عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي علامة الدنيا أبو البركات ، أحد الزهاد المتأخرين ، صاحب التصانيف المفيدة له المستصفى في شرح المنظومة ، المنار في أصول الفقه , والعمدة في أصول الدين وكتاب التفسير المشهور باسمه , توفي ليلة الجمعة من شهر ربيع الأول سنة 701 هـ . انظر الدرر الكامنة لابن حجر 2 / 247 .
(3) 1 ) ... سورة النساء : 31 .
(4) 2 ) ... تحفه الأحوذي 6 / 26 .(2/43)
الأول : أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وإليه ذهب الشافعي(1).
الثاني : أنها كل معصية أوجبت الحد وبه قال البغوي(2)وغيره .
والثالث : أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد .
والرابع : أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وبه قال الإمام(3).
والخامس : أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد وبه قال الماوردي(4)في فتاويه .
والسادس : أنها كل محرم لعينة منهي عنه لمعنى في نفسه ، وحكى ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي(5).
__________
(1) 3 ) ... الإمام محمد بن إدريس بن العباس أبو عبد الله الشافعي , ولد بغزة بفلسطين , ونشأ بمكة وكتب العلم بها وبمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقدم بغداد مرتين وحدث بها وخرج إلى مصر فنزلها إلى حين وفاته في آخر رجب سنة 204 هـ من مؤلفاته : الرسالة , الأم , اختلاف الحديث وغيرها . تاريخ بغداد 2 / 54 : 70 .
(2) 4 ) ... الإمام الحافظ المحدث أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي المعروف بابن الفراء كان يقال له محيي السنة , وله تصانيف كثيرة منها : التهذيب في الفقه , وشرح السنة في الحديث , والجمع بين الصحيحين , والتفسير وغيرها , توفي في شوال سنة 510 هـ . النجوم الزاهرة 5 / 223 ، دار الكتب ، وفيات الأعيان 2 / 136 .
(3) * ) ... يقصد إمام الحرمين وستأتي ترجمته .
(4) 1 ) ... سبقت ترجمته .
(5) 2 ) ... أبو عبد الله الحليمي الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الفقيه الشافعي ، ولد سنة 338 هـ قال الحاكم : أوجد الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم وآدبهم بعد أستاذيه أبي بكر القفال والأودني وكان مفتيا فاضلاً ، له مصنفات مفيدة نقل منها الحافظ أبو بكر البيهقي كثيراً ، مات سنة 403 هـ من مصنفاته : شعب الإيمان , آيات الساعة وأحوال القيامة وغيرها . طبقات الشافعية لابن قاض شهبة 2 / 178 ، وفيات الأعيان 2 / 137 .(2/44)
السابع : أنها كل فعل نص الكتاب علي تحريمه بلفظ التحريم .
وقال الواحدي الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى(1)وليلة القدر وساعة الإجابة انتهي .
وقال شيخ الإسلام ( البارزي )(2)التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته , أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها ...
وقال بعضهم كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط مالا مطمع في ضبطه .
وذهب جماعة إلي ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد .
__________
(1) 3 ) ... هذا هو مذهب الإمام الواحدي - رحمة الله عليه - في الصلاة الوسطى والمسألة فيها خلاف قد تقدم ذكره . انظر المسألة الخامسة في قوله تعالي { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } . ص : .
(2) 4 ) ... البارزي(2/45)
فقيل هي سبع(1)وممن صرح بذلك علي وابن عباس وعطاء وعبيد بن عمير ، وقيل تسع(2), ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث(3)[ وعنه أيضاَ أنها عشرة(4), وقيل أربع عشرة ( 5 ) وقيل خمس عشرة ( 6 ) ] وقيل أربع(5)
__________
(1) 1 ) ... دليله حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اجتنبوا السبع الوبقات قالوا يا رسول الله وما هم قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات . متفق عليه مسلم مع شرح النووي ، ك : الإيمان ، باب : أكبر الكبائر .
(2) 2 ) ... دليله عن عبيد بن عمير عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الكبائر تسع . البيهقي [ الجامع لشعب الإيمان ] 2 / 75 .
(3) 3 ) ... دليله عن عبد الله بن مسعود قال سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله قال : أن تجعل الله نداً وهو خلقك ، قلت إن ذلك لعظيم ، قلت ثم أي ؟ قال : وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك ، قلت ثم أي ، قال : أن تزاني بحليلة جارك . البخاري ك التفسير باب قوله تعالي فلا تجعلوا لله أنداداً ..
(4) 4 ) ( 5 ) ( 6 ) ... لعل من قال ذلك جمع المتفرقات في الأحاديث وضمها إلى بعض والله أعلم .
(5) 7 ) ... روي الترمذي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الكبائر : الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور ، وقال حديث حسن غريب صحيح . ك : التفسير ، حديث رقم [ 3018 ] .(2/46)
وروي عبد الرزاق(1)عن ابن عباس أنه قيل له هل الكبائر سبع فقال هي إلي السبعين أقرب(2)
وروي ابن جبير أنه قال له هي إلي السبعمائة أقرب منها إلي السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار(3).
__________
(1) 8 ) ... عبد الرزاق بن همام العلامة الحافظ أبو بكر الصنعاني زاع صيته في العلوم حتى رحل الأئمة إليه إلى اليمن ، توفي في شوال سنة 211 هـ ، عاش بضعاً وثمانين سنة , انظر شذارت الذهب 2 / 27
(2) 9 ) ... أورده البيهقي في الجامع وقال المحقق إسناده رجال ثقات 2 / 93 . ط :دار الريان .
(3) 10 ) ... شعب الإيمان للبيهقي 5 / 456 ، تحقيق / محمد السعيد بسيوني زغلول ـ دار الكتب العلمية باب : معالجة كل ذنب بالتوبة ، فصل : في محقرات الذنوب .(2/47)
وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة , وقالوا بل سائر المعاصي كبيرة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني(1)والقاضي أبو بكر ألباقلاني(2)وإمام الحرمين في الإرشاد وابن القشيري(3)في المرشد .
قال البغوي : وقال عبد الله بن مسعود : ما نهى الله تعالى عنه في هذه السورة إلى قوله { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } فهو كبيرة , وقال علي بن أبي طالب : هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب , وقال الضحاك : ما أوعد الله عليه حداً في الدنيا أو عذابا في الآخرة , وقال الحسن بن الفضل : ما سماه الله في القرآن كبيراً أو عظيماً ..
__________
(1) 1 ) ... إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران أبو إسحاق ركن الدين , قال عنه السبكي أحد أئمة الدين كلاماً وأصولا وفروعاً , أقر له أهل العلم بالعراق وخراسان بالتقدم والفضل ، مات سنة 418 هـ له : الجامع في أصول الدين , والرد الملحدين وغيرها . انظر طبقات الفقهاء للشيرازي ص 134 طبقات ابن قاض شهبه 2 / 170 , طبقات السبكي 4 / 256 .
(2) 2 ) ... محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم البصري البغدادي ابن الباقلاني , قال القاضي عياض : هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة والمتكلم على لسان أهل الحديث ، مات سنة 403 هـ من مصنفاته : المجاز القرآن وغيره . انظر ترتيب المدارك 4 / 585 ، الأنساب 2 / 51 ، الديباج المذهب 2 / 228 .
(3) 3 ) ... الشيخ الإمام العلامة أبو نصر عبد الرحيم ابن الإمام شيخ الصوفية أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري النحوي المتكلم ، اعتنى به أبوه وأقرأه حتى برع في العربية والنظم والنثر والتأويل مات سنة 154 . سير أعلام النبلاء 19 / 424 ، طبقات الشافعية لابن هداية : 73(2/48)
قال سفيان الثوري(1)الكبائر ما كان فيه المظالم بينك وبين عباد الله تعالى ، والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى(2)...
وقال مالك بن مغول(3)الكبائر : ذنوب أهل البدع ، والسيئات : ذنوب أهل السنة , وقيل : الكبائر ذنوب العمد والسيئات الخطأ والنسيان وما أكره عليه وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة , وقيل : الكبائر ذنوب المستحلين مثل ذنب إبليس , والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم عليه السلام .
وقال السدي : الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبائر والسيئات مقدماتها مما يجمع فيه الصالح والفاسق , وقيل الكبائر ما يستحقره العباد والصغائر ما يستعظمونه فيخافون مواقعته , وقيل الكبائر الشرك وما يؤدي إليه وما دون الشرك فهو من السيئات "(4)
__________
(1) 4 ) ... سيد الحفاظ أمير المؤمنين في الحديث عالم الأمة في القديم والحديث الإمام الرضي والورع الزاهد الدُّري سفيان بن سعيد الثوري , العلم حليفة والزهد أليفة , كان سيد أهل زمانه , من أقواله : العالم طبيب الدين والدرهم داء الدين فإذا جَرَّه الطبيب إليه فكيف يداوي غيره . مات بالبصرة سنة 161 هـ عن ست وستين سنة . طبقات الصوفية 1 / 303 .
(2) 5 ) ... تفسير سفيان الثوري ( ) ، ط : .
(3) 1 ) ... هو أبو عبد الله مالك بن مغول بن عاصم بن غزية بن حارثة بن ضيج بن بجيلة ، ت سنة 157 حاشية تذكرة الحفاظ للشيخ زكريا عميرات 1 / 144 .
(4) 2 ) ... تفسير البغوي 1 / 333 ، دار الكتب العلمية .(2/49)
وقال ابن عطية(1): قال ابن عباس وغيره : الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك , وقال فرقة من الأصوليين هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال(2).
قال ابن عجيبة(3):
ذنوب الظاهر صغائر وذنوب الباطن كبائر(4).
وقال أبو الفرج الجوزي(5):
__________
(1) 3 ) ... هو عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن غالب بن تمام بن عطية . الإمام الكبير قدوة المفسرين أبو محمد الغرناطي الأندلس القاضي ، مولده سنة 480 هـ ، ووفاته في 15 رمضان سنة 514 هـ انظر طبقات المفسرين السيوطي 6 /61 ، ط : مكتبة وهبة . هدية العارفين للبغدادي 502 .
(2) 4 ) ... 2 / 44 من تفسير المحرر الوجيز .
(3) 5 ) ... أحمد بن محمد بن الجهدى بن عجيبة الحسني الإدريسي الشاذلي الفاسي أبو العباس ، صوفي مشارك في أنواع من العلوم ، توفي 7 شوال 1224 هـ ، له : البحر المديد في تفسير القرآن المجيد , إيقاظ الهمم في شرح الحكم , شرح علي الأجرومية في النحو وغيرها , معجم المؤلفين - كحالة 2 / 163 .
(4) 6 ) ... 1 / 495 من تفسير البحر المديد .
(5) 1 ) ... عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن عمادي بن محمد بن جعفر الجوزي الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي ، له : الأحاديث الموضوعة , العلل المتناهية في الأحاديث الواهية , وكتاب التفسير ، ولد سنة 510 وتوفي سنة 579 هـ . والبداية والنهاية 13 / 28 .(2/50)
وفي الكبائر أحد عشر قولاً ... والسابع(1)أنها كل ذنب يختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . رواه ابن أبي طلحة وابن عباس , والثامن أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة والحد في الدنيا . روى هذا المعني أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك , والتاسع أنها كل ما عصى الله به . روي عن ابن عباس وعبيده وهو قول ضعيف , والعاشر أنها كل ذنب أوعد الله عليه النار قاله الحسن(2)وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك في رواية والزجاج(3)(4)
الرافعي في الشرح الكبير(5):
__________
(1) 2 ) ... الأقوال ( 1 ، 2 , 3 , 4 , 5 , 6 , 11 ) في عد الكبائر لا في حدها , وقد ذكرت أنفاً فلا داعي لإعادة ذكرها .
(2) 3 ) ... سبقت ترجمته في المسألة الثانية .
(3) 4 ) ... إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق النحوي الزجاج صاحب كتاب معاني القرآن ، كان من أهل الفضل والدين ، حسن الاعتقاد جميل المذهب ، له مصنفات حسان في الآداب ، توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر جمادى الآخرة . تاريخ بغداد 6 / 87 : 90 .
(4) 5 ) ... زاد المسير في علم التفسير 2 / 42 ، ط : دار الكتب العلمية .
(5) 6 ) ... أبو القسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الحسين بن الحسن الإمام العلامة إمام الدين الشافعي صاحب الشرح الكبير علي المحرر , توفي في سنة 623 هـ وعمره نحو ست وستين سنة . شذارت الذاهب 5 / 108 .(2/51)
وللأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه أحدها أنها المعصية الموجبة للحد , والثاني أنها التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة وهذا أكثر ما يوجد لهم وهم إلى ترجيح الأول أميل ولكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر , والثالث : قال الإمام في الإرشاد وغيره : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة , والرابع : ذكر القاضي أبو سعيد الهروى(1)رحمه الله أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب علي تحريمه وكل معصية توجب في جنسها حداً .(2)
أقول - والله أعلم - : إن أقرب الأقوال - في الكبيرة - إلى الصحة ما نقله الإمام الآلوسي والإمام الرافعى عن الإمام الجويني أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة .. وذلك لما يلي :
[ 1 ] اختلاف الروايات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عد الكبائر ، فمرة قصرها على شتم الرجل والديه ، ومرة جعلها ثلاثاً ، ومرة أربعاً ، وأخرى خمساً وأخرى سبعاً ، وهذا يدل علي أن العدد - في ذاته - لا مفهوم له وأن المقصود من ذكرها ضرب المثل .
[ 2 ] ما روي عن ابن جبير - رضي الله عنه - أنه قال لابن عباس هل الكبائر سبع ؟ فقال هي إلى السبعمائة أقرب(3).
[
__________
(1) 1 ) ... يحي بن أبي مضر أبو سعيد الهروي , قدم بغداد فحدث بها وسمع منه أهلها , وكان ثقة حافظاً صالحاً ، توفي بهراه في شعبان سنة 287 . انظر طبقات الحنابلة 1 / 410 , العبر في خبر من غبر 2 / 10 .
(2) 2 ) ... العزيز في شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير 17 / 6 ، ط : دار الكتب العلمية .
(3) 3 ) ... ذكره البيهقي في الجامع لشعب الإيمان , وقال المحقق إسناده رجاله ثقات 2 / 93 ، ط : دار الريان للتراث .(2/52)
3 ] إن هذا التعريف جامع لكل التعريفات الواردة للكبائر سواء بالحد أو بالعد وعليه جاء قول بعضهم( كل ما ذكروا من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه )(1)
وخلاصة القول في ذلك أن :
ما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - كبيرة فهو كذلك ولكن ليس معناه أنه لا توجد كبائر غير ما سماه - صلى الله عليه وسلم - ... إذ إن الصغيرة قد تكون كبيرة إذا وقعت من عالم أو إذا استهين بها أو إذا داوم عليها مرتكبها . والله أعلم .
قال البيهقي(2)بعد ذكره حديث السبع الموبقات : قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وليس في تقييده ذلك بالسبع منع الزيادة عليهن وإنما فيه تأكيد اجتنابهن ثم قد ضم إليهن غيرهن(3).
... { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ }(4)
قال المباركفوري :
__________
(1) 4 ) ... انظر روح المعاني للآلوسي 3 / 18 ، ط : دار الكتب العلمية .
(2) 1 ) ... الإمام المعلم أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الخسروجردي الشافعي الحافظ ، كان واحد زمانه وفرد أقرانه حفظاً واتقاناً وهو شيخ خراسان ، له : السنن الكبرى والصغرى , والمعارف , والأسماء والصفات , ودلائل النبوة وغير ذلك ، توفي في 10 جمادى الأولي سنة 458 . كشف الظنون 377 .
(3) 2 ) ... الجامع لشعب الإيمان 2 / 75 , ط : دار الريان للتراث .
(4) 1 ) ... سورة النساء : 32 .(2/53)
وفي رواية أحمد في مسنده(1): يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء فأنزل الله تبارك وتعالى { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض(2).
عارضة الأحوذي : الفوائد المطلقة في ثلاث مسائل .
الأول : قول أم سلمة " يغزو الرجال ولا يغزو النساء " سؤال عما أعطى الله سبحانه للرجال وخصهم به دون النساء ولم خصهم بذلك دونهن ؟ فقال الله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } إذ ليس ينبغي لأحد أن يسأل حظ أحد بعينه , وإن جاز أن يسأل مثله ولا ينبغي أن يسأله أحد المعاني التي حكم الله بها في أصل الخلقة ولا التي رتبها في سبيل الحكمة , كما روي - ولم يصح - أن الرجال أيضاً قالوا أضعفت لنا يا ربنا الميراث فأضعف لنا كذلك الثواب فنزلت الآية ونهاهم الله عنه(3).
الثانية : التمني باب من أبواب الشريعة ... وجملته أن لا يتمنى الدنيا ولا ما عاد إليها ولا يتمنى إلا أجر الآخرة ولا يتمنى من أمر الآخرة ما قد قطعه الله عنك خبراً والله أعلم , وبالجملة فلا ينبغي للمرء أن يعول على التمني ولينظر في التعني فإن الأمر بالحكم والقضاء لا بالإرادة والمنى فاسلكوا سبل من تقدمكم في القيام بحق الله ولا تتمنوا ما خص به أحد من فضل الله(4).
__________
(1) 2 ) ... المسند للإمام أحمد شرح وتعليق أحمد محمد الزين 18 / 322 دار الحديث ، قال المحقق : إسناده صحيح , ورواه الترمذي في التفسير رقم [ 3022 ] , وقال هذا حديث مرسل ، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرسلاً أن أم سلمة قالت كذا وكذا ....
(2) 3 ) ... تحفة الأحوذي 8 , 376 .
(3) 4 ) ... قوله [ ولم يصح ] من كلام الإمام ابن العربي ، والأثر جاء معناه عند ابن جرير رقم [ 9247 ] وابن أبي حاتم .
(4) 1 ) ... عارضة الأحوذي ( 11 , 118 , 119 , 120 ) .(2/54)
قال الحافظ ابن كثير : قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال : " ولا يتمنى الرجل فيقول لو أن لي مال فلان وأهله ، فنهى الله عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله "(1).
وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا ، وهو الظاهر من الآية , ولا يرد علي هذا ما ثبت في الصحيح : " لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالاً فسلطه علي هلكته في الحق فيقول رجل لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الأجر سواء "(2)، فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه وذلك أن الحديث حض علي تمني مثل نعمة هذا ، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا يقول { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية(3)
قال الطبرسي(4): أي لا يقل أحدكم ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان لي فإن ذلك يكون حسداً ولكن يجوز أن يقول اللهم أعطني مثله
__________
(1) 2 ) ... انظر تنوير القياس من تفسير ابن عباس للفيروز أبادي حاشية علي المصحف الشريف .
(2) 3 ) ... جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة " لا تحاسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله القرآن فهو يتلوه أناء الليل وأناء النهار فهو يقول لو أرتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه فيقول لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل البخاري ك التوحيد باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل آتاه الله القرآن .. حديث رقم 7528 .
(3) 4 ) ... تفسير ابن كثير 1 / 488 .
(4) 5 ) ... أبو علي الفضل بن الحسين الطبرسي المشهدي الشيعي صاحب الأداب الدينية , ومن كتبه مجمع البيان في تفسير القرآن : اعلام الوري كشف الظنون : 126 .(2/55)
وقيل : إن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن تتمنى أن لو كانت رجلاً لأن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح(1)، فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح أو ما يكون مفسدة , ويمكن أن يقال في ذلك إنه يجوز ذلك بشرط ألا يكون مفسدة كما يقوله في حسن السؤال سواء(2).
ابن عاشور(3):
والذي يبدو أن هذا التمني هو تمني أموال المثرين وتمني أنصباء الوارثين وتمني الاستئثار بأموال اليتامى ذكورهم وإناثهم وتمني حرمان النساء من الميراث ليناسب ما سبق من إيتاء اليتامى أموالهم وإنصاف النساء في مهورهن وترك مضارتهن إلجاء إلي إسقاطها ومن إعطاء أنصباء الورثة كما قسم الله لهم وكل ذلك من تفضيل بعض الناس علي بعض في الرزق .
__________
(1) 1 ) ... هذا بناء علي المذهب القائل يجب علي الله فعل الصلاح والأصلح لعباده " وقد تعرض له الإمام ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل وله فيه كلام طيب 2 / 187 ، دار الكتب العلمية .
(2) 2 ) ... مجمع البيان في تفسير القرآن 3 / 254 .
(3) 3 ) ... محمد الطاهر بن عاشور الشريف التونسي المالكي المتوفى سنة 1284 هـ له : شفاء القلب الجريح في شرح بردة المديح , إيضاح المكنون 2 / 52 .(2/56)
وحاصل معني النهي في الآية أنه إما نهي تنزيه لتربية المؤمنين على أن لا يشغلوا أنفسهم بما لا قبل لهم بنواله ضرورة أنه سماه تمنياً ، لئلا يكون علي الحالة التي ورد فيها حديث , ويتمني علي الله الأماني(1)ويكون قوله , واسألوا الله من فضله " إرشاداً إلى طلب الممكن إذ قد علموا أن سؤال الله ودعاءه يكون في مرجو الحصول وإلا كان سوء أدب ، وإما نهي تحريم وهو الظاهر من عطفه علي المنهيات المحرمة فيكون جريمة ظاهرة أو قلبية كالحسد بقرينة ذكره بعد قوله { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ }(2)، { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }(3)(4)
قلت :
اختلف المفسرون في المنهي عن تمنيه .. هل هو الدنيا فقط , وهو قول الطبرسي وابن عاشور ؟ أم الدين فقط , وهو قول الطبري(5), وابن العربي ؟
والأولى ما اختاره المباركفوري وهو الجمع بين النهيين إذ ليس في ظاهر الآية ما ينافي ذلك بل إن القرائن في الآية نفسها تتحدث عن نصيب كلا النوعين - أعني الذكر والأنثى - في الدنيا والآخرة .
حيث يقول الله سبحانه وتعالي .
{
__________
(1) 4 ) ... الحديث عن شداد بن اوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني علي الله رواه ابن ماجه ك الزهد ـ حديث 4260 , وأحمد في مسنده 4 / 124 والترمذي كتاب صفة القيامة باب 25 حديث 2459 , وقال هذا حديث حسن .
(2) 1 ) ... البقرة : 6 .
(3) 2 ) ... النساء .
(4) 3 ) ... التحريم والتنوير 3 / 5 / 28 ، ط : دار سحنون .
(5) 4 ) ... تفسير الطبري 4 / 49 .(2/57)
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } وهذا عن نصيب الدنيا { وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } وهذا عن نصيب مطلق يشمل الدنيا والآخرة معاً .. وكون الآية نازلة في سبب مخصوص لا يوجب تخصيصها به لأن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , على أن محل النهي هنا عن تمني عين ما لفلان , بحيث تزول هذه النعمة عن غيره وتكون له إذ إن هذا هو الحسد بعينه ، أما تمني مثل ما لغيره فلا شيء فيه –
والله أعلم
... ...
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }(1)
قال المباركفوري
" وهذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لأنه قد ثبت أن المشرك إذا تاب من شركه وآمن قبلت توبته وصح إيمانه وغفرت ذنوبه كلها التي عملها في حال الشرك ويغفر ما دون ذلك أي ما سوى الإشراك من الذنوب " لمن يشاء " يعني من يشاء من أهل التوحيد ...
قال العلماء : لما أخبر الله أنه يغفر الشرك بالإيمان والتوبة علمنا أنه يغفر ما دون الشرك بالتوبة , وهذه المشيئة في من لم يتب من ذنوبه من أهل التوحيد فإذا مات صاحب الكبيرة أو الصغيرة من غير توبة فهو علي خطر المشيئة " إن شاء غفر له وأدخله الجنة بفضله ورحمته وإن شاء عذبه ثم يدخله الجنة بعد ذلك "(2)
قال ابن عطية : هذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد , وتلخيص الكلام فيها أن يقال الناس أربعة أصناف : كافر مات على كفره فهذا مخلد في النار بإجماع , ومؤمن محسن لم يذنب قط ومات على ذلك فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالي بإجماع , وتائب مات علي توبته فهو عند أهل السنة وجمهور علماء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة , ومذنب مات قبل توبته فهذا موضع الخلاف ,
__________
(1) 1 ) ... سورة النساء .
(2) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 317 .(2/58)
فقالت المرجئة هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته , وجعلوا آيات الوعيد كلها في الكفار وآيات الوعد عامة في المؤمنين تقيَّهم وعاصيهم .
وقالت المعتزلة : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولابد .
وقالت الخوارج : إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له لأنهم يرون أن كل الذنوب كبائر ، وجعلوا آيات الوعد كلها في المؤمن الذي لم يعص قط والمؤمن التائب , وقال أهل السنة هو في المشيئة .
وهذه الآية هي الحاكمة وهي النص في موضع النزاع , وذلك أن قوله تعالي إن { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } فصل مجمع عليه وقوله { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } , فصل قاطع للمعتزلة رادٌ علي قولهم رداً لا محيد لهم عنه , ولو وقفنا في هذا الموضع لصح قول المرجئة فجاء قوله { لِمَن يَشَاء } رداً عليهم مبيناً أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن .
ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلي قولها بأن قالوا { لِمَن يَشَاء } هو التائب ، وما أرادوه فاسد لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل إذ التائب من الشرك يغفر له .
ورامت المرجئة أن ترد الآية إلي قولها بأن قالوا { لِمَن يَشَاء } معناه يشاء أن يؤمن لا يشاء أن يغفر له فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن لا بغفران الله لمن يغفر .
ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } عام في كافر ومؤمن فإذا خصص المؤمنون بقوله { لِمَن يَشَاء } وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك ويجازون به(1).
__________
(1) 1 ) ... تفسير ابن عطية 2 / 64 ، وانظر البحر المحيط 3 / 279 , وتفسير الثعالبى 2 / 246 .(2/59)
قال الإمام البغوي : وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير(1)قال ابن عمر - رضي الله عنه - كنا علي عهد محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات الرجل علي كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ... } فأمسكنا عن الشهادات ...(2)، ثم روى عن جابر قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار "(3).
وروى أيضاً عن أبي ذر قال : " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ فقال : ما من عبد قال لا إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق ؟ قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر " وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وإن رغم أنف أبي ذر "(4)(5).
__________
(1) 2 ) ... مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري الحرشي أبو عبد الله البصري ، ثقة عابد فاضل ، مات سنة 95 . تقريب التهذيب 2 / 253 ، ط : دار المعرفة .
(2) 1 )
(3) 2 ) ... رواه مسلم ، ك : الإيمان ، باب : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات مشركاً دخل النار ، وهذا من حيث عبد الله .
(4) 3 ) ... رواه مسلم ، ك : الإيمان ، باب : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات مشركاً دخل النار , وهذا من حديث أبي ذر .
(5) 4 ) ... تفسير البغوي 1 / 349 .(2/60)
قال الآلوسي : والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما دونه بأن الله تعالى لا يغفر الأول البتة , ويغفر الثاني لمن يشاء , والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعاً ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد(1).
قلت : قد أجمع العقلاء من سلف الأمة وخلفها أن جميع الذنوب تغفر بالتوبة وأن رحمة الله تسع عباده إذا أذنبوا ولم يتوبوا { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } إلا أن يشركوا { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } ومن خالف العقلاء فلا عقل له ولا يعتد بخلافه والله أعلم .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ }(2)
قال المباركفوري :
وقالت اليهود لما ضيق عليهم بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كانوا أكثر الناس مالاً يد الله مغلولة عن إدرار الأرزاق علينا كنوابه عن البخل تعالي عن ذلك(3)
** الدراسة **
قال الشوكاني :
__________
(1) 5 ) ... روح المعاني 2 / 50 ، 51 , وانظر تفسير أبي السعود 1 / 533 .
(2) 1 ) ... المائدة : 64 .
(3) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 325 .(2/61)
اليد عند العرب تطلق علي الجارحة ومنه قوله تعالي " { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا }(1)، وعلى النعمة : يقولون كم يد لي عند فلان , وعلى القدرة ومنه قوله تعالي " { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله }(2)أو على التأييد ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - يد الله مع القاضي حين يقضي(3), وتطلق على معان أخرى .
وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالي { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ }(4)والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازاً ولا يريدون الجارحة , كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف(5)فمراد اليهود هنا - عليهم لعائن الله - أن الله بخيل ..(6)(7).
قال الحسن :
المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل(8).
قلت : جمهور المفسرين أن الآية كناية عن البخل , وهو ما اختاره المباركفوري عليه رحمة الله .
__________
(1) 3 ) ... سورة ( ص ) : 44 .
(2) 4 ) ... سورة آل عمران : 73 .
(3) 5 ) ... المسند للإمام أحمد تحقيق حمزة أحمد الزين 17 / 21 حديث رقم [ 23403 ] ولفظه عن أبي أيوب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد الله مع القاضي حين يقضي ويد الله مع القاسم حين يقسم " . قال المحقق إسناده حسن .
(4) 6 ) ... سورة الإسراء : 29 .
(5) 7 ) ... أساس البلاغة الزمخشري 2 / 141 ، ط : دار الكتب العلمية .
(6) 1 ) ... ممن قال بهذا القول أعني أن الآية على طريق التمثيل الإمام الآلوسي 3 / 346 ، 347 , ابن كثير 2 / 78 , البيضاوي 1 / 274 , النيسابوري 6 / 125 ، 126 .
(7) 2 ) ... فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير 2 / 57 .
(8) 3 ) ... تفسير الحسن البصري 1 / 232 دار الحديث .(2/62)
وقال بعضهم معناها أن يد الله مكفوفة عن عذابهم وهذا ليس صحيحاً لأنهم –اليهود- اعترفوا ضمناً أنهم سيعذبون حين قالوا : { ْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ }(1).
والراجح رأي الجمهور بقرينة قوله تعالى في آخر الآية : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } ... والله أعلم .
... ... ... { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }(2)
المباركفوري :
أي يحفظك يا محمد ويمنعك منهم والمراد بالناس هنا الكفار " فإن قيل أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله والله يعصمك من الناس ؟
قلت المراد منه أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل وقيل في الجواب عن هذا إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً(3).
** الدارسة **
قال ابن العربي المالكي : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على سيرة الأنبياء لا يأمن من نزول البلاء واعتداء الأعداء عليه وقد أصابه من ذلك ما شاء الله أن يصيبه ولم يكن آمناً على نفسه فجري علي السنة في الحراسة التي لا تصدف عن المقادير , ولكنها من حكمة الله في التدبير والتقدير حتى أعطاه الله هذه الخصَّيصة(4)من العصمة وضاعف عليه فيها السنة وأكمل له بها النعمة وأبان منها له شرف المنزلة وأغناه عن الخليقة(5).
وكلامه رحمه الله يشير إلي أن المراد بالعصمة في الآية حفظ الجسد من الأذى والقتل .
__________
(1) 4 ) ... سورة آل عمران : 64 .
(2) 1 ) ... المائدة : 64 .
(3) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 326 .
(4) 3 ) ... انظر المعجم الوسيط مادة خصص .
(5) 4 ) ... عارضة الأحوذي 9 / 131 ، 132 ، 133 .(2/63)
وهذا المعنى قد قرره الإمام الثعالبي(1)والشيخ الخطيب(2)حين قال : " وإنه لو اجتمع الناس جميعاً لما نالوا من محمد نيلاً هكذا كان وعد الله..(3)، وكذا صاحب الكشاف(4)والإمام الآلوسي(5)والإمام الواحدي(6)وغيرهم .
لكن الإمام الراغب كان له رأي آخر - أراه أقرب إلى الصواب من غيره لعمومه . وهو : أن عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل ثم بالنصرة وتثبيت الأقدام ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق(7).
ولا شك أن تعميم العصمة - لتشمل العصمة من القتل , والعصمة من الذنوب - هو الأليق والأوفق بحال النبوة , ولأن تعميمها لا يتعارض مع إرادة أحد معانيها , والله أعلم .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }(8)
هل يفهم من هذه الآية جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
قال المباركفوري :
__________
(1) 1 ) ... الجواهر الحسان في تفسير القرآن . للإمام الثعالبي .
(2) 2 ) ... شمس الدين محمد بن محمد الشربيني القاهري الشافعي الخطيب الإمام العلامة , دَرَّس وأفتى في حياة أشياخه وانتفع به خلائق لا يحصون وأجمع أهل مصر على صلاحه , توفي بعد عصر يوم الخميس 2 شعبان سنة 977 . شذرات الذهب 8 / 384 .
(3) 3 ) ... التفسير القرآني للقرآن 2 / 1138 ، 1139 ، ط : دار الفكر .
(4) 4 ) ... تفسير الكشاف . الزمخشري 1 / 630 ، 631 دار الفكر .
(5) 5 ) ... روح المعاني . الآلوسي 3 / 364 ، 365 دار الكتب العلمية .
(6) 6 ) ... الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1 / 328 دار القلم ، والدار الشامية .
(7) 7 ) ... المفردات في غريب القرآن 336 , 337 ، ط : دار المعرفة ، كتاب العين مادة " عصم " .
(8) 1 ) ... سورة المائدة : 105 .(2/64)
أي الزموا إصلاح أنفسكم واحفظوها عن المعاصي , والكاف والميم في ( عليكم ) في موضع جر لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور لا ( على ) وحدها , { لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } أي فإذا ألزمتم إصلاح أنفسكم وحفظتموها لم يضركم - إذا عجزتم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ضلال من ضل بارتكاب المناهي إذا اهتديتم إلى اجتنابها .
وليس في هذه الآية دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المكر إذا كان فعل ذلك ممكنا(1).
** الدراسة **
لا يشك مسلم سوىّ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ركائز الدين التي لا يقوم إلا بها ، وبناءً على ذلك فإن تحقيق هذه الركيزة من تمام الاهتداء إلى الإسلام لذا أجمع المفسرون على أن الآية الكريمة لا تتنافى مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل تشترطه - إذ اشترطت الهداية - لتحقيق الأمن للمسلمين أفراداً وجماعات ... ثم حاول كل منهم أن يبين معنى الآية .
فقال الإمام الشوكاني : وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن من تركه - مع كونه من أعظم الفروض الدينية - فليس بمهتد , وقد قال الله سبحانه { إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } , وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً(2)
__________
(1) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 335 .
(2) 1 ) ... الواجب المضيق : الذي أمر به الشارع وحدد له وقتاً مثل صيام رمضان ، ويقابله الواجب الموسع : الذي أمر به الشارع ولم يحدد له وقتاً ، مثل كفارة الإيمان .
قلت : ويجتمعان في الحج ، فهو موسع في كل العمر , ومضيق في أشهر معلومات . راجع المستصفى من علم الأصول لأبي حامد الغزالي 1 / 69 دار إحياء التراث العربي .(2/65)
متحتماً ، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضرراً يسوغ له معه الترك(1).
وقال النيسابوري - وهو رأي الطبري(2)- : فإن قيل : ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي ولهذا خطب أبو بكر - رضي الله عنه - فقال : " إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير مواضعها وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنَّ النَّاسَ إذا رأوا الظَّالمَ فلم يأخُذُوا على يديهِ أوشَكَ أنْ يَعُمهُمُ اللهُ بعقابٍ منهُ "(3).
__________
(1) 2 ) ... فتح القدير 2 / 84 عالم المعرفة .
(2) 3 ) ... تفسير الطبري 5 / 105 .
(3) 4 ) ... سنن الترمذي أبواب التفسير رقم [ 3057 ] , وقال حديث حسن صحيح .(2/66)
وعن عبد الله بن المبارك(1)أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } احفظوها والزموا إصلاحها بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات { لاَ يَضُرُّكُم } ضلال من ضل إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ }(2)وقيل إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان - عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - على نفسه أو على عرضه أو على ماله , وقيل إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ(3).
وقد مال - إلى القول الأخير - الإمام البيضاوي(4)فقال : " والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم ..(5).
__________
(1) 5 ) ... عبد الله بن المبارك بن واضح الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي . مولده سنة 128 طلب العلم وهو ابن عشرين سنة ، وحديثه حجة بالإجماع ، قال فيه ابن معين : أمير المؤمنين في الحديث , وقال مالك : هذا فقيه خراسان ، مات في 10 رمضان سنة 181 هـ . سير أعلام النبلاء 8 / 378 .
(2) 1 ) ... سورة النساء .
(3) 2 ) ... غرائب القرآن ورغائب الفرقان 4 / 45 .
(4) 3 ) ... هو القاضي الإمام العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي قاضيها وعالمها وعالم أذربيجان وتلك النواحي , له المنهاج في أصول الفقه , وشرح المحصول ، شرح المطالع , وشرح مصابيح السنة وغيرها . هدية العارفين 2 / 490 .
(5) 4 ) ... تفسير البيضاوي 1 / 286 .(2/67)
وابن العربي يرى أن هذه الآية كانت في ابتداء الإسلام حين كان غريباً ضعيفاً حتى مكن الله رسوله والمسلمين ثم عاد الأمر بعد الكمال إلى النقص والقوة إلى الضعف فعاد من الرفق بالخلق ما كان قبل ساقطاً بالقوة فيهم حتى روى أبو سعيد الخدري في الصحيح " من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وذلك أضعف الإيمان "(1)(2)وهو قول - علي غرابته(3)- لا يخالف ما عليه الجمهور في معنى الآية من أنها لا تخالف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال النووي المذهب الصحيح عند المحققين في معني الآية : أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(4)وإذا كان كذلك فما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا فعله ولم يمتثله المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه(5).
ويقول صاحب الظلال : وليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عند تكاليفها في دعوة الناس إلى الهدى والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة ، وأن تحاول هدايتهم وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم ...
__________
(1) 5 ) ... رواه مسلم ، ك : الإيمان ، باب : كون النهي عن المنكر من الإيمان ، حديث [ 49 ] .
(2) 6 ) ... عارضة الأحوذي 5 / 11 .
(3) 7 ) ... وجه غرابته كون هذه الآية في سورة المائدة , وهي من أواخر القرآن نزولاً .
(4) 1 ) ... سورة فاطر : 18 .
(5) 2 ) ... صحيح مسلم 6 / 328 .(2/68)
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية - كما فهم بعضهم قديماً وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثاً - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان , وأطغى الطغيان الاعتداء علي ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم(1).
__________
(1) 3 ) ... في ظلال القرآن 2 / 991 / 299 دار الشروق .(2/69)
ويؤيد ما قاله الأئمة الكرام : أن هذه الآية في آخر سور القرآن نزولاً , وهي موجهة للمخاطبين وقتها الذين استفرغوا جهدهم - بالفعل - في دعوة أهليهم إلي الإسلام لكنهم لم يستجيبوا لهم كقوله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ }(1)ويخاطب بها كل من عمل عمل الصحابة بأن استفرغ جهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ويشهد لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني(2)حين سأله أبو أمية الشعباني(3)كيف أصنع بهذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقال ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحَّاً مطاعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه [ ورأيت الأمر لا يدى لك به أو لا يد لك به }(4)فعليك بنفسك ودع العوام(5).
__________
(1) 4 ) ... سورة فاطر : 8 .
(2) 1 ) ... صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - جرهم بن ناشم , نزل الشام وله بها ذرية . الإصابة 7 / 58 .
(3) 2 ) ... اسمه محمد وقيل عبد الله بن آخامر يروي عن أبي ثعلبة الخشنى , وذكره ابن حبان في الثقات . انظر الجرح والتعديل 9 / 314 , والثقات لابن حبان 5 / 558 , والإصابة 7 / 28 .
(4) 3 ) ... من أمثلة العرب ويقال للشيء , إذا لم تستطعه . أساس البلاغة 2 / 388 .
(5) 4 ) ... صحيح البخاري ، ك : باب خلق أفعال العباد , وابن ماجة ، ك : الفتن باب " الآية " رقم [ 4014 ] .(2/70)
قال صاحب التحرير والتنوير : " قوله { إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ظرف يتضمن معنى الشرط يتعلق بـ { يَضُرُّكُم } , وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى ، ومن جملة ذلك : دعوة الناس إلى الخير , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له ، وسكتوا عن المنكر لضرهم من ضل لأن إثم ضلاله محمول عليهم ، فلا يتوهم من هذه الآية أنها رخصة المسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن جميع ذلك واجب بأدلة طفحت بها الشريعة فكان ذلك داخلاً في شرط : { إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }(1).
{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ }
متي هذا القول ؟ وما وجه السؤال ؟
المباركفوري :
اختلف المفسرون في وقت هذا القول ، فقال السدي : قال الله يا عيسى هذا القول حين رفعه إلى السماء بدليل أن حرف " إذ " يكون للماضي . وقال سائر المفسرين : إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله " يوم يجمع الله الرسل " وذلك يوم القيامة وبدليل قوله : { هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } , وذلك يوم القيامة , وأجيب عن حرف " إذ " بأنها قد تجيء بمعنى إذا كقوله تعالى " ولو ترى إذ فزعوا " وقال الراجز :
ثم جزاك الله عني إذ جزى .:. جنات عدن في السماوات العلا(2)
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسي - عليه السلام - من النصارى , لأن عيسى - عليه السلام - لم يقل هذه المقالة , فإن قلت : إذا كان عيسى - عليه السلام - لم يقلها فما وجه هذا السؤال له مع علمه بأنه لم يقله ؟
__________
(1) 5 ) ... التحرير والتنوير 4 / 76 , 77 , 78 .
(2) 1 ) ... نسبة الشوكاني إلي أبي النجم . فتح القدير ( 94 ) .(2/71)
قلت : وجه هذا السؤال تثبيت الحجة علي قومه وإكذاب لهم في ادعائهم ذلك عليه وأنه أمرهم به فهو كما يقول القائل للآخر أأنت فعلت كذا ؟ وهو يعلم أنه لم يفعله وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل , فنفى عن نفسه هذه المقالة , وقال { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } فاعترف بالعبودية وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت فيه النصارى(1).
** الدراسة **
مذهب جمهور المفسرين أن هذا القول منه سبحانه وإنما هو يوم القيامة , والنكتة توبيخ عُبَّاد المسيح وأمه من النصارى .
قال الرازي : وهو أصح لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله { هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } , والمراد به يوم القيامة .
وفي قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } سؤالان : أحدهما : أن الاستفهام كيف يليق بعلام الغيوب ؟ وثانيهما : أنه كان عالما بأن عيسى - عليه السلام - لم يقل ذلك فلم خاطبه به ؟ فإن قلتم : الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم , فيقول : إن أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول بنفي إلهية الله تعالى فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحداً لم يقل به منهم ؟
والجواب علي السؤال الأول أنه استفهام على سبيل الإنكار .
والجواب عن السؤال الثاني أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى - عليه السلام - ومريم ، والله تعالي ما خلقها البتة .
وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم والله تعالي ليس خالقها ، فصح أنهم أثبتوا في حق الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن الله تعالى ليس إلهاً له فصح بهذا التأويل هذه الحكاية والرواية(2)
__________
(1) 1 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 345 .
(2) 2 ) ... تفسير الفخر الرازي 6 / 111 , 112 .(2/72)
وقال القرطبي اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتاده وابن جريج واكثر المفسرين إنما يقول له هذا يوم القيامة ... وهو أصح يدل عليه ما قبله من قول { يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ } الآية ، وما بعده { هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال - وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام - على قولين :
أحدهما أنه سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأنشد في التوبيخ والتقريع .
والثاني : قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيرَّوا بعده وادعوا عليه ما لم يقله .. , فإن قيل : فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهاً فكيف قال ذلك فيهم ؟
قيل لما كان من قولهم لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له(1).
غير أن شيخ المفسرين الإمام الطبري كان له رأي آخر في وقت هذا السؤال إذ يقول : " وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك قول من قال بقول السدي وهو أن الله تعالى ذكره قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه , وأن الخبر خبر عما مضى لعلتين :
إحداهما : أن( إذ) إنما تصاحب- في الأعم الأغلب من كلام العرب المستعمل- الماضي من الفعل وإن كانت قد تدخلها أحياناً في موضع الخبر إذا عرف السامعون معناها وذلك غير فاش ولا فصيح في كلامهم وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر - ما وجد إليه السبيل – أولى من توجيهها إلي الأجهل الأنكر .
والأخرى : أن عيسى لم يشك – هو ولا أحد من الأنبياء - أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه فيجوز أن يتوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيباً لربه تعالى ذكره : إن تعذب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
__________
(1) 1 ) ... تفسير القرطبي 3 / 315 .(2/73)
فإن قال قائل : وما كان وجه سؤال الله عيسى أأنت قلت للناس ... ؟ وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك !
قيل يحتمل ذلك وجهين من التأويل :
أحدهما : تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيه كما يقول القائل الآخر : أفعلت كذا وكذا ؟ مما يعلم المقول له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له : أفعلته ؟ علي وجه النهي عن فعله والتهديد له فيه .
والآخر : إعلامه أن قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده وبدلوا دينهم بعده فيكون بذلك جامعاً إعلامه بحالهم بعده وتحذيراً له قبله(1).
قلت : ما ذكره الطبري هو الأقرب إلى الصحة إن شاء الله للعلتين اللتين ذكرهما ولعلة ثالثة هي أن الكلام معطوف على أحوال قد حدثت بالفعل كنزول المائدة فلا يصح - والله أعلم - توجيه الكلام - والحالة هذه - لما يستقبل
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }(2)
ما المقصود بالفواحش ولم أفرد القتل بالذكر ؟
المباركفوري :
ولا تقربوا الفواحش أي الكبائر كالزنا ما ظهر منها وما بطن أي علانيتها وسرها ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق إنما أفرده بالذكر تعظيماً لأمر القتل وأنه من أعظم الفواحش والكبائر , وقيل إنما أفرده بالذكر لأنه تعالى أراد أن يستثنى منه ولا يمكن ذلك الاستثناء من جملة الفواحش إلا بالإفراد فلذلك قال ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق كالقود(3)وحد الردة ورجم المحصن(4).
** الدراسة **
__________
(1) 1 ) ... تفسير الطبري 5 / 137 ، 138 .
(2) 1 ) ... سورة الأنعام : 151 .
(3) 2 ) ... القود : القصاص ، يقال رجل أقود : طلب القود من القاتل واستقدت الإمام من القاتل فأقادني منه . أساس البلاغة 2 / 107 ، قود .
(4) 3 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 355 ، 356 .(2/74)
قلت : قد فرق القرآن الكريم بين " الكبائر والفواحش " حين عطف إحداهما على الأخرى في قوله سبحانه { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }(1), وقوله { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ }(2)وفي الوقت ذاته أطلق القرآن الكريم لفظ " فاحشة " علي بعض " الكبائر " قال تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }(3), وقال أيضاً { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً }(4)وبناء على ذلك فإن من الممكن أن يقال إن " الفاحشة والكبيرة " لفظان يجتمعان إذا انفردا وينفردان إذا اجتمعا .
وعلى هذا فالمقصود بـ الفواحش في الآية الكريمة هي الكبائر - كما قال المباركفوري - ولا يتعارض هذا مع ما ذكره الرازي في تفسيره حين قال : عن ابن عباس كانوا يكرهون الزنا علانية ويفعلون ذلك سراً فنهاهم الله عن الزنا علانية وسراً " .
والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين بل يجري على عمومه في جميع الفواحش - ظاهرها وباطنها - لأن اللفظ عام والمعنى الموجب لهذا النهي - وهو كونه فاحشة - عام أيضاً ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل , ثم قال : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين إحداهما : أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم كقوله " وملائكته ورسله وجبريل وميكال " ، والثانية : أنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش(5).
__________
(1) 4 ) ... سورة الشورى : 37 .
(2) 5 ) ... سورة النجم : 32 .
(3) 6 ) ... سورة الإسراء : 32 .
(4) 1 ) ... سورة النساء : 22 .
(5) 2 ) ... تفسير الرازي 7 / 191 .(2/75)
وقد أورد البيهقي في شعب الإيمان عن الحليمى(1)قوله : إذا تتبع ما في الكتاب والسنة من المحرمات كثر وإنما أوردنا هذا لنبين الصغائر والكبائر , بياناً حاوياً نأتي به على ما نحتاج إليه في هذا الباب بإذن الله ، فنقول : قتل النفس بغير حق كبيرة فإن كان المقتول أباً أو ابناً أو ذا رحم من الجملة أو أجنبياً متحرماً بالحرم وبالشهر الحرام فهو فاحشة , وأما الخدشة والضربة بالعصا مرة أو مرتين فمن الصغائر .
والزنا كبيرة فإن كان بحليلة الجار أو بذات محرم أو لا بواحدة من هاتين ولكن يأتيه في شهر رمضان أو في البلد الحرام فهو فاحشة ... وأما ما دون الزنا الموجب للحد فإنه من الصغائر ..
وقذف المحصنات كبيرة وإن كانت المقذوفة أماً أو أختاً أو امرأة لأبيه كان فاحشة , وقذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر وكذلك القذف بالخيانة والكذب والسرقة .. , وعقوق الوالدين كبيرة فإن كان مع العقوق سب أو شتم أو ضرب فهو فاحشة ... , وإن كان العقوق بالاستثقال لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجهيهما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فهذا من الصغائر .
__________
(1) 3 ) ... أبو عبد الله الحليمي الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الفقيه الشافعي ، ولد سنة 338 قال الحاكم أوحد الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم وأدبهم بعد أستاذنه أبي بكر القفال والأودني , كان مفنناً فاضلاً وله مصنفات مفيدة . مات سنة 403 . وفيات الأعيان 2 / 137 , طبقات الشافعية لابن قاض شهبه 2 / 178 .(2/76)
وترك الصلاة من الكبائر فإن صار عادة فهو من الفواحش ، فإن كان أقامها ولم يؤتها حقها من الخشوع لكنه التفت فيها أو فرقع أصابعه أو استمع إلي حديث الناس أو سوَّى الحصى من غير عذر فذلك من الكبائر ، فإن اتخذه عادة فهو من الفواحش ، وإن ترك إتيان الجماعة لغيرها فهو من الصغائر(1)الخ ما ذكره - رضي الله عنه - .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا .... فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }(2)
عمن تتحدث الآيتان ؟
المباركفوري : تنبيه : أورد الترمذي حديث سمرة المذكور هنا(3)في تفسير قوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا .... فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
__________
(1) 1 ) ... الجامع لشعب الإيمان . للبيهقي 2 / 78 ، وما بعدها باختصار ، ط : دار الريان للتراث .
(2) 1 ) ... سورة الأعراف : 189 ، 190 .
(3) 2 ) ... روي الترمذي بإسناده عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فسمته عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ، قال الترمذي حسن غريب .(2/77)
قال صاحب فتح البيان(1): قد استشكل هذه الآية جمع من أهل العلم لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم - عليه السلام - , والأنبياء معصومون عن الشرك - ثم اضطروا إلي التفصي من هذا الإشكال فذهب كل إلى مذهب , واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافاً كثيراً حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي , وأبو السعود وغيرهما ، وقال الحسن : هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحاً هودوا أو نصروا(2), وقال ابن كيسان(3): هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد الشمس وعبد الدار ونحو ذلك .. وقيل هذا خطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم آل عقيل ، وحسنه الزمخشري وقال : هذا تفسير حسن لا إشكال فيه(4).
__________
(1) 3 ) ... الشيخ محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي " ابن الطيب " , ولد في قنوج بالهند في جمادى الأولى وتعلم في دهلي وشارك في أنواع من العلوم ، توفي في رجب سنة 1307 هـ ، من تصانيفه أبجد العلوم ، غصن البان المورق بمحسنات البيان ، الاقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد وغيرها معجم المؤلفين 10 / 90 ، الأعلام للزركلي 7 / 36 .
(2) 4 ) ... تفسير الحسن 1 / 397 , دار الحديث .
(3) 5 ) ... سبقت ترجمته في المدخل .
(4) 1 ) ... تفسير الرازي ( 8 / 71 ، 72 ) .(2/78)
وقيل معناه على حذف المضاف ، أي جعل أولادهما شركاء ويدل له ضمير الجمع في قوله { عَمَّا يُشْرِكُونَ } وإياه ذكر النسفي(1)والقفال وارتضاه الرازي , وقال هذا جواب في غاية الصحة والسداد(2), وبه قال جماعة من المفسرين ، وقيل معنى { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } من هيئة واحدة وشكل واحد { وَجَعَلَ مِنْهَا } أي من جنسها { زَوْجَهَا } { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } يعني جنس الذكر جنس الأنثى وعلى هذا لا يكون لآدم ولا حواء ذكر في الآية وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين ...
وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى ولا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف ...
والحاصل أن ما وقع من حواء لا من آدم - عليه السلام - ولم يشرك آدم قط , وقوله { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } بصيغة التثنية لا ينافى ذلك لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين بل إلى جماعة وهو شائع في كلام العرب , وعلي هذا فليس في الآية إشكال , والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث وصوناً لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى , والذي ذكروه في تأويل هذه الآية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة(3)
__________
(1) 2 ) ... تفسير النسفي ( 2 / 130 ) ، ط : دار النفائس .
(2) 3 ) ... تفسير الرازي ( 8 / 15 / 71 ) .
(3) 4 ) ... تفسير فتح البيان ( 3 / 477 ) ، ط : دار الفكر العربي .(2/79)
قلت : لو كان حديث سمرة المذكور صحيحاً ثابتاً صالحاً للاحتجاج لكان كلام صاحب فتح البيان هذا حسناً جيداً ولكنك قد عرفت أنه حديث معلول لا يصلح للاحتجاج(1)، فلابد لدفع الإشكال المذكور أن يختار من هذه الأقوال التي ذكروها في تأويل الآية ما هو الأصح والأقوى وأصحها عندي هو ما اختاره الرازي وابن جرير وابن كثير(2)
قلت : هذه الأقوال التي مال إليها المباركفوري " الرازي وابن جرير وابن كثير " تصب في معنى واحد وهو : أن المقصود بـ [ نفس , زوجها ] آدم وحواء وأن الإشراك وقع من ذريتهما من بعدها وذلك على: 1- تقدير مضاف في قوله تعالى { جعلا } , والتقدير [ جعلا أولادهما ](3).
2 - أو أن الكلام على سبيل الاستفهام محذوف الأداة , والتقدير أجعلا له شركاء ؟ وذلك على سبيل الإنكار(4).
3 - أو أن الكلام على سبيل الاستطراد من ذكر الشخص إلى ذكر الجنس كقوله تعالى { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } ومعلوم أن المصابيح - وهي النجوم التي زينت بها السماء - ليست هي التي يرمي بها وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها(5).
4 - أو أن الشرك المقصود إنما هو شرك في الأسماء لا في العبادة(6)
__________
(1) 1 ) ... قال ابن كثير " هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه ، أحدهما : أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري وقد وثقة ابن معين ، ولكن قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به ، ولكن رواه ابن مردوية من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً فالله أعلم ، الثاني : أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعاً , والثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه 1 / 322 .
(2) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 365 , 366 .
(3) 3 ) ... ذكر هذا الجواب الإمام الرازي في تفسيره 8 / 72 .
(4) 4 ) ... المصدر السابق .
(5) 5 ) ... وهو رأي المباركفوري .
(6) 1 ) ... تفسير الطبري 6 , 147 .(2/80)
إلا أن القول الأول : أن الكلام على حذف مضاف - يرده ظاهر اللغة إذ إنه لا يجوز حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إذا أوقع حذفه لبساً أو تغييراً في المعني - فإن مثل هذا الحذف لا يجوز قياساً ويجب الاقتصار فيه على المسموع من كلام العرب(1).
وأما القول الثاني ففيه تكلف لا يخفى , ولا شك أن اللفظ إذا أمكن فهمه وتوجيهه دون تأويل فلا يصار إلى تأويله .
وأما القول الرابع فمردود أيضاً ، لأنه – وإن كان ظاهره التنزيه - إلا إنه فيه اجتراء على جانب النبوة ولا أدري كيف لم يلتفت إلى ذلك حافظ حجة كالحافظ ابن جرير !
وأما ما ذكره ابن كثير ( 3 ) فهو أقرب الأقوال للصحة , وهو الذي حكاه الرازي عن القفال , وقال إنه جواب في غاية الصحة والسداد .
وقريب منه - إذا كان المراد من الآية غير آدم وحواء - ما حكاه الشيخ / سيد قطب - عليه رحمة الله - إذ يقول في هذه الآية .. ثم جولة جديدة في قضية التوحيد تأخذ في أولها صورة القصة لتصوير خطوات الانحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس .. كأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير وتختم بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده وليه وناصره هو الذي خلقكم من نفس واحدة ... وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون "(2)(3).
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ }(4)
هل هو سؤال استفتاء أو طلب ؟
المباركفوري :
__________
(1) 2 ) ... النحو الوافي مع ربطة بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة 3 / 157 , 161 ، ط : دار المعارف . ... ... ... ... ( 3 ) ... القول الثالث .
(2) 4 ) ... سورة الأعراف : 198 .
(3) 5 ) ... تفسير في ظلال القرآن 3 / 1411 .
(4) 1 ) ... سورة الأنفال : 1 .(2/81)
قلت : حديث سعد بن أبي وقاص يقتضي أنه سؤال طلب , وحديث ابن عباس وحديث عبادة يقتضيان أنه سؤال استفتاء وهو الراجح عندي(1).
** الدراسة **
أما حديث سعد بن أبي وقاص .. فهو ما رواه الترمذي بسنده عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت : يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين - أو نحو هذا - هب لي هذا السيف , فقال : هذا ليس لي ولا لك ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي ، فجاء الرسول فقال إنك سألتني وليس لي وإنه قد صار لي وهو لك ، قال فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ }(2).
وأما حديث ابن عباس فرواه الترمذي - أيضاً بسنده - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر : من فعل كذا وكذا فله كذا فتسارع إلى ذلك الشبان وثبت الشيوخ تحت الرايات ، فلما فتح عليهم جاءوا يطلبون شرطهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا كنا ردءاً لكم .. لو انهزمتم لانحزتم إلينا فأبى الشبان وقالوا : قد جعله رسول الله لنا فتنازعوا فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ }(3).
__________
(1) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 371 .
(2) 3 ) ... سنن الترمذي ، أبواب التفسير رقم [ 3079 ] , وقال حسن صحيح .
(3) 4 ) ... مسند الإمام أحمد 16 / 414 ، تحقيق حمزة أحمد الزين رقم [ 22661 ] , وقال إسناده صحيح(2/82)
وأما حديث عبادة ... فهو قوله : " خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدراً فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في أثرهم يهزمون ويقتلون ، وأكبت طائفة على الغنائم يحوون ويجمعون ، وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكي لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لستم بأحق منا .. نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ... } فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فواق بين المسلمين "(1)
أقول : المعنيان [ المختلف في توجه حقيقة السؤال في الآية إلى أحدهما ] غير متنافيين فالاستفتاء عن حكم شيء ما إنما هو مقدمة طبيعية لطلبه , أو أنهم طلبوا الغنائم فلما لم يعطوها استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حكمها فيكون السؤال بالمعنيين قد وقع من مجموع الصحابة – رضي الله عنهم - .
قال ابن العربي يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنيمة التي نفلتكها قل لهم هي لله والرسول فاتقوا الله ولا تختلفوا وأصلحوا ذات بينكم لئلا يرفع تحليلها عنكم باختلافكم(2).
__________
(1) 1 ) ... رواه الهيثمي في المجمع وقال : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات 6 / 95 ، ط : مؤسسة المعارف .
(2) 2 ) ... عارضة الأحوذي 6 / 152 , 153 .(2/83)
ويقول صاحب التحرير والتنوير : افتتاح السورة بـ يسألونك عن الأنفال مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم " الأنفال " وكان ذلك يوم بدر وأنهم حاوروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهماً في هذا الشأن(1)
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ }(2)
ما هو الحج الأكبر ؟
روي الترمذي بسنده عن علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه قال : " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم النحر "(3).
قال المباركفوري : " فيه دليل لمن يقول إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ولحديث عليَّ هذا شاهد من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - عند أبي داود وابن ماجه وذكره البخاري تعليقاً , وقد وردت في ذلك أحاديث أخرى ذكرها الحافظ ابن كثير وغيره واختاره ابن جرير وهو قول مالك والشافعي والجمهور , وقال آخرون منهم عمر وابن عباس وطاوس إنه يوم عرفة والأول أرجح(4).
** الدارسة **
قلت : يقصد بحديث ابن عمر - الذي أشار إلى وجوده عند أبي داود , وابن ماجة – قوله - رضي الله عنه - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم النحر قال هذا يوم الحج الأكبر(5).
__________
(1) 3 ) ... التحرير والتنوير 5 , 248 دار سحنون .
(2) 1 ) ... سورة التوبة : 3 .
(3) 2 ) ... الترمذي أبواب التفسير رقم [ 3088 ] .
(4) 3 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 384 .
(5) 4 ) ... أبي داود ، ك : المناسك ، ب : يوم الحج الأكبر .(2/84)
وقوله - رضي الله عنه - أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم النحر ، قال فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد الله الحرام , قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر الله الحرام ، قال : هذا يوم الحج الأكبر ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا الشهر في هذا اليوم ، ثم قال : هل بلغت ؟ قالوا نعم فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم اشهد ثم ودع الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع(1).
وقد ذكر هذين القولين وغيرهما الإمام الطبري وذكر الآثار المتعلقة بكل منها ، ثم قال : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال الحج الأكبر يوم النحر ، لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن علياً نادى بما أرسله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرسالة إلى المشركين وتلا عليهم براءة يوم النحر , هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم النحر أتدرون أي يوم هذا ؟ هذا يوم الحج الأكبر .
وبعد فإن اليوم قد يضاف إلى المعنى الذي يكون فيه كقول الناس : يوم عرفة وذلك يوم وقوف الناس بعرفة , ويوم الأضحى وذلك يوم يضحون فيه , ويوم الفطر وذلك يوم يفطرون فيه , وكذلك يوم الحج يوم يحجون فيه وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر ، لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر ، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج فأما يوم عرفة فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر والحج كله يوم النحر(2)"
__________
(1) 1 ) ... سنن ابن ماجة ، ك : المناسك ، باب : الخطبة يوم النحر .
(2) 2 ) ... تفسير الطبري 6 / 316 ولا يخفى أن الوقوف بعرفة ينتهي بغروب شمس يوم عرفة فتفكر !(2/85)
قلت : كلمة الأكبر في قوله تعالي { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } وقعت صفة لكلمة { الحج } وعليه يكون الحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحج الأكبر , ويوجه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم النحر هذا يوم الحج الأكبر(1)أحد توجيهين :
1 - أن الحجة التي حجها النبي - صلى الله عليه وسلم - صادفت موعدها الحقيقي بعكس الحج في الأعوام قبلها فلم تكن على موعدها نظراً لما كان المشركون قد أحدثوه من تأخير الأشهر الحرم عن موعدها وتسميتها بغير اسمها ، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يومها إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض(2).
2 - أن كلمة " يوم " كما تطلق على الفترة المعلومة من الزمان فهي تطلق على الحدث برمته وإن استغرق أكثر من هذه الفترة , وكان يقال " يوم القادسية " ومن المعلوم أن معركة القادسية استغرقت أكثر من شهر(3), وكما يقال " يوم مؤتة " ومعلوم أن معركة مؤتة استغرقت أكثر من خمسة أيام(4)، وهكذا وفي التنزيل العزيز { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا }(5)، ومعلوم أن يوم القيامة عند الله كألف سنة مما نعده ,
__________
(1) 3 ) ... جزء من حديث سبق تخريجه .
(2) 1 ) ... البخاري ، ك : المغازي ، باب : حجة الوداع [ 4406 ] .
(3) 2 ) ... راجع البداية والنهاية 7 / 37 وما بعدها .
(4) 3 ) ... راجع البداية والنهاية 4 / 241 ، وما بعدها .
(5) 4 ) ... النساء : 159 .(2/86)
فيجوز أن يحمل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر هذا يوم الحج الأكبر على هذا المعنى ، أي أن أعمال الحج كلها قد انتهت بدخول ذلك اليوم , ولعل هذا هو مقصود جمهور العلماء , ولا يجوز والله أعلم حمل الحديث على ظاهره وقصر هذا الوصف على يوم النحر لظاهر الآية – أولاً - التي أوقعت كلمة الأكبر صفة الحج لا ليوم ولأفضلية يوم عرفة على يوم النحر بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الحج عرفة "(1).
والله أعلم
{ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ }(2)
ما هو هذا المسجد ؟
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال تماري رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال رجل : هو مسجد قباء , وقال الآخر : هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو مسجدي هذا ...(3)
قال المباركفوري :
والحديث دليل على أن المسجد الذي أسس على التقوى هو المسجد النبوي .. وقوله تعالى في بقية الآية : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } يؤيد كون المراد مسجد قباء ، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نزلت { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } في أهل قباء(4)وعلى هذا فالسر في جوابه - صلى الله عليه وسلم - بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء(5)والله أعلم .
__________
(1) 5 ) ... سنن الترمذي ، أبواب : التفسير ، سورة البقرة [ 2975 ] وقال هذا حديث صحيح .
(2) 1 ) ... سورة براءة : 108 .
(3) 2 ) ... سنن الترمذي ، أبواب : التفسير ، رقم [ 3099 ] وقال حديث حسن صحيح غريب .
(4) 3 ) ... سنن أبي داود ، ك : الطهارة ، باب : الاستنجاء بالماء ، حديث رقم [ 44 ] .
(5) 4 ) ... تحفة الأحوذي 2 / 234 .(2/87)
قلت : لعل قصد الشيخ رحمه الله تعميم كلمة " مسجد " في الآية , وتوجيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده إلى أن المقصود به رفع توهم الاختصاص بمسجد بعينه , وهذا كلام جيد وهو مذهب الحافظ ابن كثير في الآية حيث قال : والسياق أي سياق الآية إنما هو في معرض مسجد قباء , ... وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي في جوف المدنية هو المسجد الذي أسس على التقوى , وهذا صحيح ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى "(1). وهو أولى بلا شك من تضعيف(2)الحديث الوارد في سبب النزول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , ويؤيد - كون كلمة مسجد في الآية غير مخصوصة - أمور منها :
أولاً : أن كلمة مسجد في الآية نكرة فهي عامة غير محددة بمسجد بعينه .
ثانياً : أن الله تعالى أثنى في مواضع أخرى على المساجد عامة وعلى عمارها ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ ... }(3)، وقال أيضاً { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآْصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } ( 4 ) .
__________
(1) 1 ) ... تفسير ابن كثير 2 / 389 .
(2) 2 ) ... أعني حديث أبي هريرة عند أبي داود السابق ذكره ، فقد حكم بعدم صحته الإمام ابن العربي في العارضة 6 / 179 .
(3) 3 ) ... سورة براءة : 18 . ... ... ... ( 4 ) ... سورة النور : 36 .(2/88)
ثالثاً : أن المسجد الحرام أفضل بلا خلاف من المسجد النبوي - على صاحبه أفضل الصلاة والسلام - فلم لا يكون هو المراد بالآية ؟ كيف لا ؟ وهو مؤسس على التقوى { أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ }(1)وزواره على طهارة دائمة ؟ !
رابعاً : إن الروايات - على التسليم بضعف بعضها - قد اختلفت في تعيينه فلا ينبغي إهمال بعضها وإعمال الآخر إذا كان يمكن توجيه معانيها كلها لأمر واحد , وهو ما فعله المباركفوري - وإمامه في ذلك الحافظ ابن كثير - في توجيه حديث الباب وإذا كان الأمر كذلك فإن الحمل على العموم أولى . والله أعلم
{ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ }(2)
قال المباركفوري :
أي أدام توبته على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما وقع منه من الإذن في التخلف , أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين , وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أو له لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار ، وقد تكون التوبة منه على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله تعالى { عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }(3)، ويجوز أن يكون ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها ....
ثم قال رحمه الله : والإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر ، وإما من باب ترك الأفضل(4).
** الدراسة **
__________
(1) 5 ) ... سورة آل عمران : 96 .
(2) 1 ) ... سورة براءة : 117 .
(3) 2 ) ... سورة التوبة : 43 .
(4) 3 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 508 .(2/89)
أقول – والله أعلم – قد صدرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأفعال – ليست ذنوباً – لكنه - صلى الله عليه وسلم - عدها كذلك لأن ربه سبحانه عاتبه فيها فمنها مثلاً موقفه - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم مكتوم(1)بمكة حين أعرض عنه وأقبل على سادات قريش طمعاً في إسلامهم ونزل في ذلك قوله تعالى : { أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى }(2)(3)فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رآه بعد ذلك يكرمه .
__________
(1) 4 ) ... اسمه عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة القرشي العامري ، كان ضريراً مؤذناً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بلال وغيره ، هاجر بعد وقعة بدر ، استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين على المدينة ، شهد القادسية ومعه الراية ثم رجع إلى المدينة فمات بها ، وقيل استشهد يوم القادسية . سير أعلام النبلاء 1 / 360 : 365 .
(2) 1 ) ... سورة عبس : 5 : 10 .
(3) 2 ) ... رواه الترمذي بإسناده عن سعيد بن يحيى الأموي ، أبواب : التفسير ، رقم [ 3331 ] وقال غريب(2/90)
ومنها أيضاً موقفه مع أبي طالب ، وعبد الله بن سلول ، حين استغفر لهما ، وصلى على الثاني فأنزل الله سبحانه : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }(1)وقال سبحانه : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ }(2)(3).
ومنها أيضاً موقفه - صلى الله عليه وسلم - من أسارى بدر حين اختار المن والفداء وكان رأي الكثير من الصحابة القتل فنزل قوله سبحانه : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(4)(5).
__________
(1) 3 ) ... سورة براءة : 113 .
(2) 4 ) ... سورة براءة : 84 .
(3) 5 ) ... كلاهما مذكور في البخاري ، ك : التفسير ، باب : ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ، حديث رقم [ 4675 ] .
(4) 6 ) ... الأنفال : 67 .
(5) 7 ) ... ذكره الترمذي بمعناه ، أبواب : التفسير ، رقم [ 3084 ] ، وقال حديث حسن .(2/91)
فهذه المواقف وغيرها عدها النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه كالذنوب وذلك من باب أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - كان يخشاها على نفسه فبين الله له أن ما يعده هو في حق نفسه ذنباً – على فرض كونه كذلك – مغفور له ، وقد أنزل الله سبحانه قبل ذلك تطميناً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة الفتح وفي بدايتها : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا }(1).
ولا يمنع ذكر هذا الجواب من قبول هذه الأجوبة التي ذكرها الإمام المباركفوري رحمه الله فالهدف منها كلها واحد وهو تنزيه ساحة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإثم ، وصوناً لجانب النبوة عن الشك في عصمته - صلى الله عليه وسلم - .
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }(2)
ما المقصود بإمامهم ؟
قال المباركفوري :
__________
(1) 1 ) ... سورة الفتح : 1 ، 2 .
(2) 1 ) ... الإسراء : 71 .(2/92)
قوله : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } ، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم ، واختلفوا في ذلك ، فقال مجاهد و قتادة : أي نبيهم وهذا كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }(1)، وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ، لأن إمامهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال ابن زيد : بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع واختاره ابن جرير(2)، وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : بكتبهم(3)فيحتمل أن يكون أراد هذا ، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي بكتاب أعمالهم(4)، وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك ، وهذا القول هو الأرجح لقول الله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }(5)، وقال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ... }(6)، وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لابد أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها ، ولكن المراد بالإمام هنا هو كتاب الأعمال ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
__________
(1) 2 ) ... يونس : 47 .
(2) 3 ) ... لعل هذا وهم من الشيخ رحمه الله ، فإن اختيار ابن جرير : إمامهم الذي كانوا يقتدون به ويأتمون به في الدنيا 8 / 116 .
(3) 4 ) ... تفسير مجاهد 1 / 366 .
(4) 5 ) ... تفسير ابن عباس ، حاشيته على المصحف الشريف – للفيروز آبادي ، ط : الأنوار المحمدية .
(5) 1 ) ... سورة يس : 12 .
(6) 2 ) ... الكهف : 49 .(2/93)
انتهى(1).
قلت : ويؤيد القول الأرجح حديث أبي هريرة هذا فإنه نص صريح في أن المراد بقوله بإمامهم كتاب أعمالهم(2).
** الدراسة **
أما حديث أبي هريرة الذي أشار إليه المباركفوري فهو : عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } قال : " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمنه ويمد له في جسمه ستون ذراعاً ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ ويتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بُعد فيقولون : اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول لهم أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا ، وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعاً على صورة آدم ويلبس تاجاً فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا ، اللهم لا تأتنا بهذا قال فيأتيهم فيقولون اللهم اخزه ، فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا "(3)
والإمام هو كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إمام أمته وعليهم جميعاً الائتمام بسنته التي مضى عليها ، والخليفة إمام رعيته ، والقرآن إمام المسلمين ، وإمام الغلام في المكتب ما يتعلمه كل يوم(4). هذا عن معنى الإمام في اللغة .
أما معنى الإمام في الآية فما ذكره المباركفوري عن الحافظ ابن كثير ليس كل ما قيل فيه ، إلا أن ما ذكره غيره(5)
__________
(1) 3 ) ... تفسير ابن كثير 3 / 62 ، 63 ، ط : مكتبة الإيمان .
(2) 4 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 453 ، 454 .
(3) 5 ) ... رواه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب ، أبواب : تفسير القرآن ، سورة بني إسرائيل .
(4) 1 ) ... معجم تهذيب اللغة . الأزهري ، باب " أم " .
(5) 2 ) ... قال الماوردي قوله - عز وجل - : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } فيه خمسة تأويلات :
... أحدها : نبيهم ، قاله مجاهد . الثاني : بكتابهم الذي أنزل عليهم أوامر الله ونواهيه ، قاله ابن زيد . الثالث : بدينهم ، ويشبه أن يكون قول قتادة . الرابع : بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير أو شر ، قاله ابن عباس . الخامس : بمن كانوا يأتمرون به في الدنيا فيتبعونه في خير وشر على حق أو باطل ، وهو معنى قول أبي عبيدة . انظر النكت والعيون 3 / 258 .(2/94)
من أقوال أخرى في معنى الإمام داخلة فيها ضمناً ، على أن ترجيح أحد هذه الأقوال المذكورة على غيره – كما فعل الإمام رحمه الله – لا وجه له لأنه لا منافاة بينها وطريق الجمع أن يقال : إن الدعوة متنوعة في هذا اليوم ....
فهاك من يدعى بكتابه إن كانوا من أهل الكتاب وهذا أشمل نداء :
ويشهد له حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : " إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن : تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر وغبرات أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم : من كنتم تعبدون ؟ قالوا كنا نعبد عزير ابن الله ، فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، ثم يدعى النصارى ، فيقال لهم : من كنتم تعبدون ؟ قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد .... " الحديث(1).
وهناك من يدعون بنبيهم ، وهذا أخص من الأول :
ويشهد له حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل إلا وَدَ أنه منا أيتها الأمة ، ما من نبي كذبه قومه إلا ونحن شهداؤه يوم القيامة أنه قد بلغ رسالة الله ونصح لهم "(2)ويفهم منه أن كل أمة ستكون مع نبيهم .
وهناك من يدعون بكتاب أعمالهم ، وهذا أخص من سابقيه .
ويشهد لهذا ظاهر الآية الكريمة التي معنا ، وحديث أبي هريرة سابق الذكر ، وعليه فإن ما في الآية الكريمة والحديث الشريف إنما هو بيان لحالة من الحالات وليس جميعها .
{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا }(3)
قال المباركفوري :
__________
(1) 3 ) ... البخاري ، ك : التفسير سورة النساء ، باب : إن الله لا يظلم مثقال ذرة .
(2) 1 ) ... ذكره ابن حجر في الفتح عن جابر ولم يخرجه ولم يحكم عليه ، ولم أقف عليه إلا فيه .
(3) 1 ) ... مريم : 57 .(2/95)
قوله { وَرَفَعْنَاهُ } أي إدريس { مَكَانًا عَلِيًّا } وهو السماء الرابعة ، ولاشك في كونها مكاناً علياً .
واستشكل بأن غيره من الأنبياء أرفع مكانا منه وهذا الاستشكال ليس بشيء لأنه لم يذكر أنه أعلى من أحد(1).
قلت : ما أشار إليه الإمام رحمه الله من مكان إدريس ، وأنه السماء الرابعة هو الصحيح ..
ففي الحديث عن قتادة في قوله تعالى { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة "(2), وما أجاب به عن هذا الاستشكال المذكور أصح مما أجاب به غيره(3), وكلمة [ علياً ] ليست للتفضيل على أحد , وإنما هي صفة للمكان الموجود فيه سيدنا إدريس
والله أعلم .
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي }(4)
قال المباركفوري :
وأقم الصلاة لذكري أي لتذكرني فيها , وقيل لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري , وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي ولا ترائي فيها ولا تقصد بها غرضاً آخر ، وقيل معناه إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها - كذا في الخازن(5).
__________
(1) 2 ) ... تحفة الأحوذي ( 8 / 603 ) .
(2) 3 ) ... رواه الترمذي مختصراً ، وقال حديث حسن ، أبواب التفسير ، سورة مريم ، رقم [ 3157 ] .
(3) 4 ) ... قال المباركفوري : وأجاب بعضهم بأن المراد لم يرفع إلى السماء من هو حي غيره , ورد بأن عيسي - عليه السلام - أيضاً قد رفع وهو حي على الصحيح . انظر التحفة ( 8 / 603 , 604 ) .
(4) 1 ) ... سورة طه : 14 .
(5) 2 ) ... تفسير الخازن وبهامشه تفسير البغوي 4 / 265 ، ط . مصطفي البابي الحلبي .(2/96)
قلت : يؤيد المعنى الأخير حديث أبي هريرة هذا ، ويؤيده أيضاً حديث أنس بن مالك مرفوعاً إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } رواه أحمد ومسلم(1)
فإن قيل : كيف نام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة حتى طلعت الشمس مع قوله - صلى الله عليه وسلم - إن عيني تنامان ولا ينام قلبي ؟
فجوابه من وجهين : أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما , ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين وإنما يدرك ذلك العين والعين نائمة وإن كان القلب يقظان , والثاني : أنه كان له - صلى الله عليه وسلم - حالان أحدهما ينام فيه القلب وصادف هذا الموضع , والثاني لا ينام وهذا هو الغالب من أحواله " وهذا التأويل ضعيف والصحيح المعتمد هو الأول(2)
** الدارسة **
أما حديث أبي هريرة فهو :
عن أبي هريرة قال لما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر أسرى ليلة حتى أدركه الكرى اناخ فعرس ثم قال يا بلال : اكلأ لنا الليلة ، قال فصلى بلال ثم تساند إلى راحلته مستقبل الفجر فغلبته عيناه فنام فلم يستيقظ أحد منهم ، وكان أولهم استيقاظا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أي بلال ، فقال بلال بأبي أنت يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقتادوا ثم أناخ فتوضأ فأقام الصلاة ثم صلى مثل صلاته في الوقت في تمكث ، ثم قال : أقم الصلاة لذكري . رواه الترمذي في الآية ، وقال : هذا حديث غير محفوظ .
قلت : فيما قاله الإمام مسألتان
الأولى : ما معنى الآية ؟
__________
(1) 3 ) ... رواه أحمد في المسند 3 / 184 ، دار الفكر العربي , ورواه مسلم ، ك : المساجد ، باب : قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها .
(2) 1 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 612 , 613 .(2/97)
الثانية : كيف نام الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة مع قوله إن عيني تنامان ولا ينام قلبي ؟
أما المسألة الأولى : فقد رجح الإمام فيها كون معنى الآية إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها , واستدل بحديث أبي هريرة وأنس ، وسلفه في هذا الترجيح الحافظ ابن كثير(1).
وقد حكى الماوردي في معنى الآية الكريمة ثلاثة تأويلات :
أحدها : وأقم الصلاة لتذكرني فيها قاله مجاهد(2).
والثاني : وأقم الصلاة بذكرى لأنه لا يدخل في الصلاة إلا بذكره .
والثالث : وأقم الصلاة حين تذكرها(3).
ويقول صاحب التفسير القرآني للقرآن : أي اجعل الصلاة هي العبادة التي تذكرني بها , وخصت الصلاة بالذكر من بين العبادات لأنها هي المناجاة التي يناجي بها العبد ربه ويكشف فيها عن ولائه وما ينطوي عليه قلبه من تعظيم لله وولاء له وانقياد وخضوع لجلاله وعظمته(4).
قلت : لو أن المخاطب بهذه الآية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ابتداء لكان كلام المباركفوري في غاية الحسن , لكن المخاطب بها - كما تعلم - هو نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم - , ولو كان [ الوقت / الباء ] من معاني اللام لكان ما ذكره الماوردي - عن غير مجاهد - حسناً أيضاً ، ولكن الأمر ليس كذلك(5).
والأقرب إلى الصواب - والله أعلم - هو ما روي عن مجاهد - وحكاه الشيخ الشربيني - أن معنى الآية اجعل الصلاة هي العبادة التي تذكرني بها وذلك لأمور منها :
__________
(1) 2 ) ... تفسير ابن كثير 3 / 169 ، ط : مكتبة الإيمان .
(2) 3 ) ... تفسير مجاهد 1 / 394 وفيه عن مجاهد : إذا صلى عبد ذكر ربه .
(3) 1 ) ... النكت والعيون 3 / 397 .
(4) 2 ) ... التفسير القرآني 4 / 785 ، ط : دار الفكر العربي .
(5) 3 ) ... راجع معاني اللام في الجني الداني في حروف المعاني - للحسن بن قاسم المرادي [ 95 ] وما بعدها ، ط : دار الكتب العلمية ، تحقيق د / فخر الدين قباده ، أ / محمد نديم فاضل .(2/98)
أولاً : أن الصلاة في كل الأديان أساس لها ، فهي أشرف العبادات على الإطلاق كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل : " ... رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة .... "(1).
ثانياً : أن هذا المعنى أشمل من غيره فيتناول كل صلاة .. عندنا - كانت - أو عند من قبلنا، فريضة - كانت - أو نافلة , على وقتها - كانت - أو فائته .
أما المسألة الثانية المتعلقة بالآية : وهي في توجيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن عيني تنامان ولا ينام قلبي "
فقد ذكر المباركفوري - عليه رحمة الله - في ذلك وجهين واختار منهما أن متعلق العين يختلف عن متعلق القلب .. وهو كلام جيد ، غير أن في نسبته إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - نظرا : ... لأن كل البشر على هذه الحال - أعنى أن القلب عند أي إنسان يدرك الألم ( مثلاً ) حتى لو كان الإنسان نائماً - وإذا كان الأمر كذلك لم تظهر خصوصية لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - على غيره , أضف إلى ذلك أن " صلاة الفجر " تتعلق بها العين والقلب معاً ... ، أما العين فبظهور علاماته في الأفق , وأما القلب فبانتظاره والشوق إليه ، فإذا كانت عين النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُغْلِقَت فلم تر العلامات ... ، فأنىَّ لقلبه - صلى الله عليه وسلم - أن ينام عن لقاء رب الأرض والسماوات ؟!
وأحسب أن الأقرب إلى الصواب والأليق بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقام النبوة - والله أعلم - في توجيه الحديث مع الحادثة أحد توجيهين :
__________
(1) 4 ) ... جزء من حديث طويل أخرجه التزمذي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، ك : الإيمان ، باب : ما جاء في حرمة الصلاة رقم [ 2616 ] ، وقال هذا حديث حسن صحيح .(2/99)
الأول : أن الله سبحانه ألقى النعاس على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - فناموا عن الصلاة حتى خرج وقتها - لتتعلم الأمة الإسلامية ماذا عليها إذا نامت عن الصلاة ، ويؤيده : أن ترك الصلاة ذنب لا يرفع إلا عن المكره عليه , والقول بأن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقظان وقتها ولم ينتبه للصلاة فيه تلميح بوقوع هذا الذنب منه - صلى الله عليه وسلم - , والحكماء من هذه الأمة ينزهون - بالإجماع(1)- ساحة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصغائر فضلاً عن ترك الصلاة .
الثاني : أن يكون الحديث متأخراً قولاً ووجوداً عن الحادثة ويؤيد هذا التوجيه قول سيدنا بلال بن رباح - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك " ولو علم بلال - رضي الله عنه - بوجود هذه الصفة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سمعها عنه لقال أخذ بعيني الذي أخذ بعينك . والله أعلم
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ }(2)
المباركفوري :
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية :
فقال ابن عباس وغيره : هم زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة والمراد بالبيت بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومساكن زوجاته لقوله : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ } وأيضاً السياق في الزوجات من قوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } إلى قوله { لَطِيفًا خَبِيرًا }(3)
وقال أبو سعيد الخدري وغيره : هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة ومن حججهم : الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث , وهو قوله " عنكم " ، " يطهركم " .
__________
(1) 1 ) ... انظر كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2 / 308 ، وما بعدها ، ط : دار الكتب العلمية .
(2) 1 ) ... سورة الأحزاب : 33 .
(3) 2 ) ... تفسير ابن عباس بمعناه في الآية .(2/100)
وقد توسطت طائفة ثالثة : فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين , وأما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا ولكونهن الساكنات في بيوته - صلى الله عليه وسلم - النازلات في منازله .
ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره , وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب ، ويؤيد ذلك ما ورد من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول(1).
فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله(2).
** الدارسة **
وممن قال بالقول الثالث الإمام القرطبي حيث قال :
والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم , وإنما قال ويطهركم لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم وإذا اجتمع المؤنث والمذكر غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن , يدل عليه سياق الكلام(3)والله أعلم .
__________
(1) 3 ) ... من هذه الأحاديث روى الترمذي بإسناده قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمر بباب فاطمة – رضي = = الله عنها – ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وقال حسن غريب . انظر تفسير ابن كثير 3 / 259 : 263 ، مكتبة الإيمان .
(2) 1 ) ... تحفة الأحوذي 9 / 48 , 49 .
(3) 2 ) ... تفسير القرطبي 14 / 178 .(2/101)
والصواب - والله أعلم - أن تعميم لفظ الآية الكريمة ليشمل أمهات المؤمنين وسيدنا علي وزوجته وولديه وغيرهم هو الأولى لأن كلهم أهله - صلى الله عليه وسلم - , وذلك لما أورده الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم : " ... جاء فيه " ثم قال - أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " قالها ثلاثاً " فقال له - أي لزيد - حصين : ومَن أهل بيته ؟ يا زيد ! أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال : ومن هم ؟ قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال نعم(1)
والله أعلم
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }(2)
قال المباركفوري :
قيل المجيبون هم الملائكة المقربون كجبرائيل وميكائيل وغيرهم قلت : ويؤيده حديث ابن مسعود الآتي وهو العلي الكبير أي ذو العلو والكبرياء(3).
** الدارسة **
أما حديث ابن مسعود المشار إليه فهذا نصه :
عن عبد الله قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل , حتى إذا جاء جبريل فزع عن قلوبهم ، قال فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربك ؟ فيقول الحق : فيقولون الحق الحق(4).
ورغم أنك ترى من نص الحديث أنه يتحدث عن حال أهل السماء وقت وحي الله بأمر ما في الوقت الذي ترى فيه أن الآية تتحدث عن حال المخلوقين وقت الشفاعة ، إلا أن كثيراً من المفسرين ربطوا بين الأمرين ففسروا الآية بالحديث .
__________
(1) 3 ) ... صحيح مسلم ، ك : فضائل الصحابة ، ب : فضائل علي بن أبي طالب حديث رقم [ 2408 ] .
(2) 1 ) ... سورة سبأ : 23 .
(3) 2 ) ... تحفة الأحوذي 9 / 65 .
(4) 3 ) ... رواه أبو داود ، ك : السنة ، باب : الرد على الجهيمة .(2/102)
يقول الطبري بعد ذكر أوجه مختلفة :
" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكره الشعبي عن ابن مسعود لصحة الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتأييده , وإذا كان ذلك كذلك فمعنى الكلام لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع عنده ، فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع عنده فزع لسماعه إذنه حتى إذا فزع عن قلوبهم فجلي عنها ، قالوا : ماذا قال ربكم ، قالت الملائكة الحق وهو العلي على كل شيء الكبير الذي لا شيء دونه "(1).
وأرجع ابن كثير هذا الأمر إلى ما يحدث للملائكة حال الوحي فقال :
قال ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله - عز وجل - : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } قالوا : ماذا قال ربكم ، قالوا : الحق " .
يقول خلي عن قلوبهم ... فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً ، ماذا قال ربكم ، فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ولهذا قال تعالى : { قَالُوا الْحَقَّ } أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان(2).
فأنت ترى أن الإمام الطبري فسر الآية بالحديث والحالة - فيهما - مختلفة كما علمت ، وترى الإمام ابن كثير قد أحال الآية على الحديث وجعلها حديثاً عن حال الملائكة وقت وحي الله إليهم ، في الوقت الذي تنطق فيه الآية بما يحدث في الشفاعة وحال المخلوقين وقتها .
وقد مال المباركفوري رحمه الله إلى أن المجيبين هم الملائكة المقربون مستدلاً بحديث ابن مسعود السابق ذكره .
ولعل الأقرب إلى الصواب - والله أعلم - أن هذا الأمر يتكرر للملائكة عند سماع الوحي في كل وقت كما يكون من الملائكة ومن الشفعاء والمشفوع لهم في الآخرة ولا مانع من ذلك . والله أعلم
قال الآلوسي :
__________
(1) 1 ) ... تفسير الطبري 10 / 375 .
(2) 2 ) ... تفسير ابن كثير 3 / 321 ، مكتبة الإيمان .(2/103)
والظاهر أن البعض القائل المشفوع لهم ، وإن شئت فأعد الضمير إليهم من أول الأمر إذ هم الأشد احتياجاً إلى الإذن , والأعظم اهتماماً بأمره ... ماذا قال ربكم في شأن الإذن بالشفاعة قالوا - أي الشفعاء - فإنهم المباشرون للاستئذان بالذات المتوسطون لأولئك السائلين بالشفاعة عنده - عز وجل - : قال ربنا القول الحق ، أي : الواقع بحسب ما تقتضيه الحكمة وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى(1).
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ }(2)
هل الظالم لنفسه من هذه الأمة ؟
قال المباركفوري :
__________
(1) 1 ) ... تفسير الآلوسي 11 / 310 .
(2) 1 ) ... سورة فاطر : 32 .(2/104)
روي عن غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير ، وقال آخرون بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتب , والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة , وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية , وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق يشد بعضها بعضاً .. ومنها حديث أبي الدر داء - رضي الله عنه - قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ .. } فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب , وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً , وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون : { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }(1)(2).
** الدارسة **
__________
(1) 2 ) ... سورة فاطر : 34 ، 35 .
(2) 3 ) ... تحفة الأحوذي 9 / 67 .(2/105)
لقد صور الله سبحانه وتعالى شرعه بالأمانة وبين سبحانه مدى ثقل هذه الأمانة ، حتى إن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملنها وأشفقن منها ، فتكفل الإنسان بحملها رغم ضعفه وعدم تمكنه , ولذا وصفه الله سبحانه بالظلم والمقصود به ظلم نفسه قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً }(1), ومن هنا كان التقصير في إقامة شرع الله ، وتنفيذ أوامره ظلماً للنفس ...
وفي هذا المعنى جاءت الآية التي معنا تتحدث عن درجات الناس حيال تنفيذ شرع الله { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } والذي يترجح في معنى الآية - والله أعلم - أن المصطفين غير الأنبياء لما يلي :
أولاً : أن ميراث الكتاب أسنده الله سبحانه في القرآن لغير الأنبياء في أكثر من موضع قال تعالى { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ .. }(2)الآية ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ }(3)، وقال : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }(4)، فالآية الأولى جاءت بعد ذكر طائفة من الرسل " نوح , وهود , وصالح , شعيب , لوط , وموسى ) , والآية الثانية تتحدث عن قوم موسى خاصة ... فكل قوم نزل إلى نبيهم كتاب ورثوه من بعده واختلفت مواقفهم منه ثلاثة أصناف : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق .
__________
(1) 1 ) ... سورة الأحزاب .
(2) 2 ) ... الأعراف : 169 .
(3) 3 ) ... غافر : 53 .
(4) 4 ) ... الشورى : 14 .(2/106)
ثانياً : أن الأنبياء كلهم درجة واحدة قال تعالى { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }(1), وقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تفاضلوا بين الأنبياء "(2)، ومن هنا فلا يصح أن يقال بتفضيل نبي على نبي ، فضلاً عن أن يقال : إن منهم ظالماً لنفسه ، ومقتصداً وسابقاً ، بالخيرات .
ثالثاً : أن ظلم النفس يطلق على المعصية كبيرها وصغيرها , وهذا لا يجوز في حق الأنبياء - باتفاق العلماء - ، أما ما جاء على لسان بعض الأنبياء من أنهم ظلموا أنفسهم كما جاء على لسان آدم { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا .. }(3)الآية وعلى لسان موسى { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي }(4)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وأبوء بذنبي فاغفر لي " وغيره ... فهذا كله من باب التواضع وإظهار المسكنة لله سبحانه وتعالى .
وعليه يكون ما ذكره المباركفوري من أن الظالم لنفسه من هذه الأمة فقط فيه تخصيص للآية بغير مخصص لأن الله سبحانه حين تحدث عن الظالم لنفسه لم يقصره على أمة بعينها ، بل جعله عاماً قال تعالى { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا }(5), وقال تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }(6), وقال تعالى { إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(7)
{
__________
(1) 1 ) ... البقرة . 285 . ... ... ...
(2) 2 ) ... مسلم ، ك الفضائل ، ب : 42 .
(3) 3 ) ... الأعراف : 23 .
(4) 4 ) ... القصص : 16 .
(5) 5 ) ... النساء : 110 .
(6) 6 ) ... آل عمران : 135 .
(7) 7 ) ... يونس : 44 .(2/107)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }(1)
ما المقصود بالاستقامة ؟
قال المباركفوري :
قوله { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } وحده لا شريك له { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي وثبتوا على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله . قال جماعة من الصحابة والتابعين : معنى الاستقامة إخلاص العمل لله تعالى ، وقال قتادة وابن زيد : ثم استقاموا على طاعة الله ، وقال الحسن : استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه(2)، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا(3)وقيل غير ذلك .
قلت : قول ابن عباس ومن تبعه هو الظاهر الموافق لحديث أنس الذي نحن في شرحه(4).
** الدارسة **
أما حديث أنس فقد رواه الترمذي - رضي الله عنه - عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال : قد قال الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام(5).
__________
(1) 1 ) ... فصلت : 30 .
(2) 2 ) ... تفسير الحسن البصري 2 / 267 .
(3) 3 ) ... تفسير ابن عباس - بمعناه - في الآية ، ونصه " استقاموا على الإيمان ولم يكفروا " .
(4) 4 ) ... تحفة الأحوذي 9 / 125 .
(5) 1 ) ... سنن الترمذي ، أبواب التفسير ، باب : ومن سورة السجدة , وقال : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .(2/108)
والاستقامة على قوله { رَبُّنَا اللَّهُ ... } الاستقامة عليها بحقها وحقيقتها , والاستقامة عليها شعوراً في الضمير وسلوكاً في الحياة , الاستقامة عليها والصبر على تكاليفها أمر - ولا شك - كبير وعسير ، ومن ثم يستحق هذا الإنعام الكبير صحبة الملائكة وولاءهم ومودتهم هذه التي تبدو فيما حكاه الله عنهم وهم يقولون لأوليائهم المؤمنين { أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }(1).
والاستقامة المرتب عليها كل هذا الجزاء أعم من أن تكون معرفة مجردة عن العمل ، أو نظرية بعيدة عن التطبيق ... , ولذا كانت أقوال المفسرين فيها تصب كلها في معنى واحد هو العمل بالطاعات قدر الاستطاعة , واجتناب المعاصي قدر الاستطاعة ..
وعلى هذا المعنى يحمل ما ذكره الإمام الماوردي من أقوال في معنى الاستقامة(2)إذ الخلاف بينها لا يعدو كونه خلافاً لفظياً , ومما يشهد لعموم معنى الاستقامة ما يلي :
أولاً : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو ممن قال بأن معنى الاستقامة استقاموا على أن الله ربهم وحده(3)- هو الذي قاتل مانعي الزكاة رغم أنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله .
ثانياً : أن الآية وصفت المتحدَّث عنهم بأنهم { قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : دخلوا في الإسلام قولاً ، ثم وصفتهم بأنهم { اسْتَقَامُوا } أي : التزموا بالإسلام فعلاً ... فالاستقامة المذكورة تعنى الترجمة الفعلية لقولهم ربنا الله .
__________
(1) 2 ) ... في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب 5 / 3121 ، دار الشروق .
(2) 3 ) ... النكت والعيون 5 / 180 .
(3) 4 ) ... المصدر السابق 5 / 179 .(2/109)
ثالثاً : أن المنافقين يقولون لا إله إلا الله لكن عملهم خلا من الاستقامة الفعلية ، فهم كما وصفهم الله { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }(1)، ولذا لا يقول عاقل إن الآية تشملهم لمجرد قولهم لا إله إلا الله .
رابعاً : أن الكفار أنفسهم يقولون إن الخالق للكون هو الله { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }(2)فهل يعقل دخولهم تحت عموم الآية الكريمة ؟ اللهم لا
أما حديث أنس الذي أشار إليه المباركفوري رحمه الله فليس على ظاهره إذ الكفر - في الحديث - قد يراد به معناه اللغوي(3)وهو كثير(4)في الخطاب القرآني والنبوي فمن القرآن : قوله تعالى في شأن الدنيا { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } ِ(5)، قال ابن كثير : أي يعجب الزارع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث(6).
ومن السنة : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض(7)
قال الإمام النووي : قيل في معناه سبعة أقوال :
أحدها : أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق .
والثاني : المراد كفر النعمة وحق الإسلام .
والثالث : أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه .
والرابع : أنه فعل كفعل الكفار .
__________
(1) 1 ) ... النساء : 142 .
(2) 2 ) ... الزخرف : 87 .
(3) 3 ) ... الكفر في اللغة : التغطية , والكافر ذو كفر ، أي : ذو تغطية لقلبه بكفره , كما يقال للابس السلاح كافر , وهو الذي غطاه السلاح , والعرب تقول للزارع كافر لأنه يكفر البذر . معجم تهذيب اللغة ، مادة : كفر ، باختصار .
(4) 4 ) ... أعني استخدام كلمة الكفر بمعناها اللغوي .
(5) 5 ) ... الحديد : 20 .
(6) 6 ) ... تفسير ابن كثير 4 / 361 .
(7) 7 ) ... أخرجه البخاري ، ك : العلم ، ب : الإنصات للعلماء , ومسلم ، ك : الإيمان ، ب : الحديث .(2/110)
والخامس : المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين .
والسادس : حكاه الخطابي(1)وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح
والسابع : قال الخطابي معناه لا يكفر بعضكم بعضاً فتستحلوا قتال بعضكم بعضاً ، وأظهر الأقوال الرابع(2).
والله أعلم
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ }(3)
ما هو اللمم
قال المباركفوري :
واختلفت أقوال أهل العلم في تفسير اللمم : فالجمهور على أنه صغائر الذنوب , وقيل : هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة وكالكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر , وقيل غير ذلك , والظاهر الراجح هو قول الجمهور , والله تعالى أعلم(4)
** الدارسة **
__________
(1) 1 ) ... حمد بن محمد إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي الإمام العلامة المفيد المحدث الرحال أبو سليمان صاحب التصانيف ، أقام مدة بنيسابور يصنف فعمل غريب الحديث , ومعالم السنن , شرح الأسماء الحسنى وغيرها ، كان ثقة مثبتاً من أوعية العلم ، توفي بسبت في شهر ربيع الآخر سنة 338 . تذكرة الحفاظ 3 / 149 .
(2) 2 ) ... صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 261 .
(3) 1 ) ... سورة النجم : 32 .
(4) 2 ) ... تحفة الأحوذي 9 / 172 .(2/111)
قد حكي الإمام ابن كثير قول الجمهور فقال : يخبر تعالى أنه مالك السماوات , والأرض وأنه الغني عما سواه , الحاكم في خلقه بالعدل , وخلق الخلق بالحق ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .. ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، أي لا يتعاطون المحرمات والكبائر , وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأخرى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا }(1)، وقال هنا الذين يجتنبوا كبائر الآثم والفواحش إلا اللمم , وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال ... قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال : " ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه(2)( 2 ) .
وقد حكى الإمام الماوردي في تفسيره أقوالا أخرى في معنى اللمم فقال : وأما اللمم المستثنى ففيه ثمانية أقاويل :
أحدها : إلا اللمم الذي ألموا به في الجاهلية من الإثم والفواحش فإنه معفو عنه في الإسلام .
الثاني : هو أن يلم بها ويفعلها ثم يتوب منها قاله الحسن(3).
__________
(1) 3 ) ... سورة النساء : 31 .
(2) 1 ) ... متفق عليه واللفظ المسلم ، ك : القدر . ... ( 2 ) ... تفسير ابن كثير 4 / 294 .
(3) 3 ) ... تفسير الحسن 2 / 309 .(2/112)
الثالث : هو أن يعزم على المواقعة ثم يرجع عنها مقلعاً , وقد روى عمرو بن دينار(1)عن عطاء عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما(2).
السادس(3): أن اللمم ما لم يجب عليه حد في الدنيا ولم يستحق عليه في الآخرة عذاب .
والسابع : أن اللمم النظرة الأولى فإن عاد فليس بلمم ، قاله بعض التابعين فجعله ما لم يتكرر من الذنوب واستشهد بقول الشاعر .
وما يستوي من لا يرى غير لمة .:. ومن هو ناوٍ غيرها لا يريمها(4)(5)
ولا شك أنها أقوال لها وجاهتها ولا ينبغي إهمالها , ولعل أقواها - والله أعلم - قول الحسن لما يلي :
__________
(1) 4 ) ... عمرو بن دينار الحافظ الإمام عالم الحرم أبو محمد الجمحي المكي ، ولد سنة 46 وسمع ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وغيرهم , وثقه أحمد بن حنبل ويحيى القطان , وقال ابن عيينة ما عندنا أحد أفقه ولا أعلم ولا أحفظ بن دينار ، ت : سنة 126 , تذكرة الحافظ 1 / 85 .
(2) 5 ) ... رواه الترمذي وصححه 3284 ، قال الهيثمي في المجمع 7 / 115 ، رواه البراز ورجاله رجال الصحيح , وبيت الشعر ورد في شعر أمية بن أبي الصلت – اللسان : لمم .
(3) 6 ) ... القولان الرابع والخامس وهما قول الجمهور .
(4) 7 ) ...
(5) 8 ) ... النكت والعيون 5 / 400 , 401 .(2/113)
أولاً : ما أورده ابن جرير قال : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أراه رفعة - في الذين يجتنبوا كبائر الآثم والفواحش إلا اللمم ، قال اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود , واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود , واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود ، قال فذلك الإلمام(1). وما ذكره أيضاً عن الحسن في الآية قال كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا وشرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها(2). وذكر عن عطاء عن ابن عباس إلا اللمم يلم بها في الحين ، قلت : الزنا ؟ قال : الزنا ثم يتوب وغير ذلك من الأدلة(3).
ثانياً : أن من معاني اللمم في اللغة اللقاء اليسير ، يقال : هو يزور فإلماما في الأحايين ، وألم بالأمر لم يتعمق فيه ( 4 ) .
ثالثاً : أن مستند الجمهور فيما قالوه هو أن الاستثناء منقطع , وهذا أمر يعتمد على فهم المعنى فقط , ولا دليل صريحاً عليه ،
يقول صاحب الظلال : " والذي نراه أن هذا القول أكثر تناسباً مع قوله تعالي بعد ذلك " إن ربك واسع المغفرة " فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش ثم التوبة , ويكون الاستثناء غير منقطع ، ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعاً ولا يلجوا ولا يصروا كما قال الله سبحانه { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ... }(4)( 6 ) .
__________
(1) 1 ) ...
(2) 2 ) ... تفسير الحسن البصري 2 / 309 ، وفيه " فيخفيها بدل فيجتنبها " .
(3) 3 ) ... تفسير الطبري 11 , 527 . ... ( 4 ) ... المعجم الوجيز . مجمع اللغة العربية مادة لمم .
(4) 5 ) ... سورة آل عمران : 133 . ... ... ( 6 ) ... تفسير الظلال 6 / 3413 .(2/114)
هل يجوز أخذ الأجر على قراءة القرآن
روى الترمذى بسنده قال
عن عمران بن حصين (ض) أنه مر على قارئ يقرأ ثم سأل , فاسترجع ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرأون القرآن ثم يسألون به الناس (1).
قال المباركفورى :
قوله ( مر على قارئ يقرأ ) أى القرآن ( ثم سأل ) اى طلب من الناس شيئا من الرزق ( فأسترجع ) أى قال عمران إنا لله وإنا إليه راجعون لابتلاء القارئ بهذه المصيبة التى هى سؤال الناس بالقرآن , أو لابتلاء عمران بمشاهدة هذه الحالة الشنيعة وهى مصيبة , ( من قرأ القرآن فليسأل الله به ) أى فليطلب من الله تعالى بالقرآن ما شاء من أمور الدنيا والآخرة , أو المراد إذا مر بآية رحمة فليسألها من الله تعالى أو بآية عقوبة فيتعوذ إليه بها منها , وإما أن يدعو الله عقب القراءة بالأدعية المأثورة , وينبغى أن يكون الدعاء فى أمر الآخرة وإصلاح المسلمين فى معاشهم ومعادهم (2) .
- الدراسة -
إن تعليم الناس ورفع الجهالة عنهم عمل يحمده الله لصاحبه ويجزل له عليه العطاء , وهو بلا شك أمر تستشرفه النفوس وتتطلع إليه ,
كيف لا وقد أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن " العالم ليستغفر له من فى السماوات ومن فى الأرض حتى الحتيان فى البحر . " إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر(3)
__________
(1) 1- رواه الترمذى أبواب فضائل القرآن رقم 3084 وقال هذا حديث حسن .
(2) 2- تحفة الأحوذى ( 8 /235 )
(3) 3- رواه ابن ماجه فى المقدمة فضل العلماء والحث على طلب العلم رقم 223 .(3/1)
, وقد ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان أحدهما عابد والأخر عالم فقال فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم ثم قال " إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة فى حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلمى الناس الخير " (1)
وفى الحديث أيضا " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (2) .
ولأن الإنسان دائما يرغب فى أجر مقابل ما يقوم به من عمل وأعنى بالأجر هنا ما يكون فى الدنيا والآخرة – فإن الله سبحانه أباح للمعلم أن يطلب من الأجر ما شاء , ليس فى مقابل العلم الذى بذله , فالعلم لا يقدر بمال – إنما ترغيباً له فى بذل العلم ولذا قال موسى عليه السلام للعبد الصالح – حين " أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لا تخذت عليه أجرا (3)" , وجاء على لسان الناس بين السدين لذى القرنين " إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وينهم سداً (4)" .
وإذا كان طلب الأجر جائزا فى حق سائر المهن والعلوم فإنه فى حق أشرف العلوم – القرآن الكريم – ابلغ فى الجواز ولذا يقول النبى - صلى الله عليه وسلم - " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله (5)" .
__________
(1) 4- رواه الترمذى أبواب العلم رقم 2826 وقال حديث حسن غريب صحيح .
(2) 5- البخارى ك / فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه .
(3) 1- سورة الكهف 77 .
(4) 2- سورة الكهف 94 .
(5) 3- ذكره البخارى تعليقا عن ابن عباس ك الإجارة باب ما يعطى فى الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب .(3/2)
وقد روى البخارى عن سهل بن سعد قال أتت النبى - صلى الله عليه وسلم - " امرأة فقالت إنها قد وهبت نفسها لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال مالى فى النساء من حاجة فقال رجل زوجنيها . قال : أعطها ثوبا . قال : لا أجد . قال : أعطها ولو خاتما من حديد . فاعتلَّ له . فقال : ما معك من القرآن ؟ قال : كذا كذا . فقال : قد زوجنكما بما معك من القرآن (1)" .
فانظر كيف جعل تعليم القرآن مهراً للمرأة , والفقه يقضى أن المهر كل ما جاز أن يكون ثمنا وقيمة لشئ (2). هذا عن تعليم القرآن :. أما قراءة القرآن وطلب الأجر عليه ففيه تفصيل أذكره فى نقاط :-
أولاها : يكره جعل قراءة القرآن حرفة يتكسب منها الإنسان لأنه مختلف فى حكم طلب الأجرة عليها بدليل الحديث الذى معناه عن عمران بن حصين , وحديث ابن عباس عند ابن ماجه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أناساًمن أمتى سيتفقهون فى الدين ويقرأون القرآن ويقولون نأتى الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك . كما لا يجتنبى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنبى من قربهم إلا ....." (3)
قال محمد بن الصباح (4) كأنه يعنى الخطايا .
والثانية : إذا عرض على الإنسان مال بعد قراءته للقرآن . دون طلب منه – جاز له أخذه حتى لو علم أن ذلك فى مقابل قراءته ..
__________
(1) 4- ك فضائل القرآن – باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه حـ رقم 5029 .
(2) 5- انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد ( 2/49) ط المكتبة التوفيقية للإمام ابن رشيد القرطبى .
(3) 6- سنن ابن ماجه المقدمة باب 23 – قال فى مجمع الزوائد إسناده ضعيف .
(4) 7- محمد بن الصباح بن سفيان الجرجرائى الإمام المحدث مولى عمر بن عبد العزيز , روى عنه أبو داود وابن ماجه والفريانى والسراج , وثقه أبو زرعة مات ببلدة جرجرايا سنة 240 هـ . انظر تاريخ بغداد ( 10/672 )(3/3)
ذلك لأن المذموم فى الحديث إنما هو السؤال من الناس أما ما جاء بغير سؤال فلم يرد فيه نهى عنه , ولقد روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قد كان رسول الله يعطينى العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر منى.حتى أعطانى مرة مالاً فقلت : أعطه من هو أفقر منى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك (1)"
الثالثة : أن ما عليه القراء فى الديار المصرية الآن من [ تحديد الأجر على قراءتهم القرآن ] فى المناسبات لا يصح , قال الإمام القرطبى : ضل سعيهم وخاب عملهم .. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً , فهم فى غيهم يترددون , وبكتاب الله يتلاعبون فإنا لله وإنا إليه راجعون (2)"
الرابعة إذا كان القراءة بغرض التعليم جاز طلب الأجرة عليها وأخذها لقوله - صلى الله عليه وسلم - " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " .
__________
(1) 1- ك الزكاة باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إشراف حديث رقم ( 1045 ) .
(2) 2- الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبى ( 1 / 30 , 31 )(3/4)
الخامسة : إذا كان ما يقرأ من القرآن رقية مثلا جاز طلب الأجر عليها فعن أبى سعيد (ض) قال " انطلق نفر من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى سفرة سافروها حتى نزلوا على حى من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم , فلُدِغَ سيد ذلك الحى , فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ , فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله يكون عند بعضهم شئ ! فأتوهم ..فقالوا : يا أيها الرهط إن سيدنا قد لُدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه فهل عند أحدكم من شئ ؟ فقال بعضهم : نعم . والله إنى لأرقى ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جَعْلاً (1). فصالحوهم على قطيع من الغنم , فانطلق يتفل عليه ويقرأ { الحمد لله رب العالمين } فكأنما نشط من عقال , فانطلق يمشى وما به قَلَبة (2) قال فأوفوهم جُعْلَهُم الذى صالحوهم عليه .فقال بعضهم اقسموا . فقال الذى رقى لا تفعلوا حتى نأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذى كان فننظر ما يأمرنا . فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له فقال : وما يدريك أنها رقية ! ثم قال : قد أصبتم اقسموا واضربوا لى معكم سهما,وضحك النبى - صلى الله عليه وسلم - (3).
فالصحابة ( ض) مع علمهم وفقههم طلبوا أجراً على الرقية , وكانت وسيلتهم فى الرقية قرآناً , فيقاس على فعلهم أن إذا طُلبَ من شخص ما القيام بعمل معين فاستخدم فى قيامه به القرآن جاز له طلب الأجرة عليه . والله أعلم .
لمن الخطاب ؛ ماذا يترتب عليه
{
__________
(1) 3- الجُعْلُ هو الأجر على الشئ فعلاً أو قولاْ . لسان العرب ( جعل )
(2) 4- يقال ما بالعليل قلبة أى ما به شئ , لا يستعمل إلا فى النفى . اللسان ( قلب )
(3) 5- صحيح البخارى ك الإجارة باب ما يعطى فى الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب .(3/5)
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف(1) }
قال المباركفورى
" قال ابن جرير فى هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال : لا نكاح إلا بولى من العصبة , وذلك أن الله تعالى منع الولى من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها , أو كان لها تولية من أرادت توليته فى إنكاحها لم يكن لنهى وليها عن عضلها معنى مفهوم إذ كان لا سبيل له إلى عضلها , وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها فلا عضل هناك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها , وفى فساد القول بأن لا معنى لنهى الله عما نهى عنه صحة القول بأن لولى المرأة فى تزويجها حقاً لا يصح عقده إلا به "(2) انتهى
قلت / هذا مبنى على أن الخطاب فى " لا تعضلوهن " للأولياء , واعترض عليه / بأنه يلزم تفكك نظم كلام الله لو قيل : وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء , لأنه لا يبقى بين الشرط والجزاء نسبة , وأجيب / بأن الخطاب فى " لا تعضلوهن " وكذا فى قوله " وإذا طلقتم " للناس أى : وإذا وقع بينكم الطلاق فلا يوجد فيما بينكم العضل لأنه إذا وجد بينهم العضل من جهة الأولياء وهم راضون كانوا فى حكم العاضلين .
وتمسك الحنفية بقوله تعالى { أن ينكحن أزواجهن } على أن النكاح بغير ولى جائز , وذلك أنه تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره ونهى الولى عن منعها من ذلك , ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولى عن منعها منه ويتأكد ذلك النص بقوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } . ,
__________
(1) سورة البقرة 232 .
(2) تفسير الطبرى ( 2/501 )(3/6)
وأجيب / بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر فقد يضاف أيضا إلى السبب مثل : بنى الأمير داراً . قال الرازى فى تفسيره . بعد ذكر هذا الجواب . " وهذا وإن كان مجازاً إلا إنه يجب المصير إليه لدلالة
الأحاديث على بطلان هذا النكاح " ........"(1)
* العضل أصله المنع , يقال عضل المرأة منعها التزوج ظلما (2).
والخطاب فى هذه الآية فى قوله " فلا تعضلوهن " إما أن يكون للأزواج ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن ,
وإما أن يكون الخطاب للأولياء ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوجين لنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهن . (3)
وممن قال بالقول الأول الإمام الرازى ، الإمام الطوسى(4) ، ومن أدلتهم :
أولاً : أن قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } جملة واحدة مركبة من شرط وجزاء ولا شك أن الشرط وهو قوله { وإذا طلقتم النساء } خطاب للأزواج فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله { فلا تعضلوهن } خطاباً معهم إذ لو لم يكن كذلك لكان الكلام غير منتظم وتنزيه كلام الله عن النقص واجب .
ثانياً : أن من أول آية فى الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب كله مع الأزواج وما جرى الأولياء ذكر فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف النظم. (5)
__________
(1) تحفة الأحوذى (8/326 )
(2) المعجم الوجيز مادة عضل .
(3) أبو جعفر محمد بن الحسن بن على الطوسى ، فقيه الشيعة ، أصولى مجتهد متكلم محدث مفسر ، ولد بطوس فى رمضان وهاجر إلى العراق فهبط بغداد وتعلم الفقه والأصول ت فى المحرم سنة 460هـ البداية والنهاية ( 12 ، 97 )
(4) انظر تفسير الرازى (3/6/95) ، والتبيان للطوسى (2/252 ) ط دار إحياء التراث .
(5) معقل بن يسار المزنى كان من أصحاب الشجرة ، سكن البصرة ، مات فى ولاية عبيد الله بن زياد فى أخر سنى معاوية. الثقات لابن حيان (3/392) .(3/7)
ثالثاً : ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج فى كيفية معاملتهم مع النساء قبل انقضاء العدة ، فإذا جعلنا هذه الآية خطاباً للأولياء لم يحصل فيه مثل هذا الترتيب الحسن اللطيف ، فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى . (1)
وممن قال بالقول الثانى الإمام ابن العربى المالكى والإمام القرطبى وغيرهم ... وحجتهم
سبب نزول الآية فقد روى أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبى البداح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال وجهى من وجهك حرام إن تزوجيته فنزلت الآية . قال مقاتل فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معقلاً فقال إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك عن أبى البداح فقال أمنت بالله وزوجتها منه (2)" "قال القرطبى: فالخطاب إذاً فى قوله تعالى "فلا تعضلوهن" للأولياء .(3)
وتبعاً لاختلاف المفسرين فى المخاطب بالآية اختلفوا فيما للمرآة ولوليها فى عقد النكاح وما هى حدود سلطة الولى ، والمرأة فى إجراء النكاح ؟
فقال الجمهور – فى الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولى لأن أخت (معقل) كانت ثيباً ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها ولم تحتج إلى وليها .(4)
وقالوا أيضاً فى الآية . وهذا دليل قاطع على أن المرأة لا حق لها فى مباشرة النكاح وإنما هو حق الولى .. ولولا ذلك لما نهى الله عن منعها ، وإنما للمرأة حق الطلب للنكاح وللولى حق المباشرة للعقد .(5)
__________
(1) أبو البداح بن عاصم بن عدى بن الجد بن العجلان البلوى ثم الأنصارى ، له صحبة على الصحيح انظر الاستيعاب (4/1608) .
(2) البخارى ك التفسير ب / وإذا طلقتم النساء . ك النكاح ب / من قال لا نكاح إلا بولى .
(3) تفسير القرطبى (3/159) ، الجامع لأحكام القرآن لابن العربى (1/21) ط دار المعرفة .
(4) تفسير القرطبى ( 3/159) .
(5) أحكام القرآن لابن العربى (1/201) ط دار المعرفة .(3/8)
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يشترط الولى أصلاً ويجوز أن تزوج نفسها – ولو بغير إذن وليها – إذا تزوجت كفئاً .
وذهب الأوزاعى(1) وأبو ثور(2) إلى أن لها أن تزوج نفسها بإذن وليها ، ويتوقف ذلك على إجازة الولى- قياساً على البيع .
قال المباركفورى { قلت القول الراجح هو قول الجمهور والله تعالى أعلم } .(3)
قلت / أما المسألة الأولى " إلى من يتوجه الخطاب فى الآية "
فيمكن القول – والله أعلم – برجحان مذهب الرازى ومن تبعه فيها وهى أنها خطاب للأزواج لما ذكره الإمام الرازى من وجوه .
أما ما ذكره غيره من سبب نزول الآية فليس نصاً فى المسألة لأمرين :
الأول : أن منع الزواج – كما أنه وقع من معقل لأنه رفض تزوج أخته لزوجها الأول ، فقد وقع أيضاً من أبى البداح (الزوج السابق) لأنه تقدم بطلب خطبتها . وفى تقدمه هذا منع لغيره ، ومنع لها من أن تتزوج غيره ، وعليه يصح توجيه الخطاب له وهذا أوفق بالنظم وسبب النزول .
__________
(1) عبد الرحمن بن محمد أبو عمرو الأوزاعى ، ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيماً ، لم يكن أحد أعقل ولا أفصح ولا أروع منه ، أجمع المسلمون على عدالته وأمانته ، كان يقول من أطال القيام فى صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة . ت سنة 157 . شذرات الذهب (3/190) .
(2) إبراهيم بن خالد أبى اليمان أبو ثور ، وقيل كنيته أبو عبد الله ولقبه أبو ثور ، الكلبى البغدادى ، الفقيه العلامة ، أخذ الفقه عن الشافعى وغيره ، كان أحد الثقات المأمونين ، ومن الأئمة الأعلام فى الدين توفى فى صفر سنة 240 . ... تاريخ بغداد (6/65) طبقاً الشافعية لابن قاض شبهه (1/55)
(3) تحفة الأحوذى (4/232 ، 233 ) .(3/9)
الثانى : أن معقل بن يسار - رضي الله عنه - لم يصرح – إذ روى الحادثة أن الآية نزلت فيه خاصّة ، إنما نزلت فى الحادثة على عمومها ، وإنما قال " سمعاً وطاعة لله ورسوله " (1)على عهد الصحابة فى تلقى أوامر الله إذا نزلت على عمومها ، وغير خاف ، عليك ما كان منهم – مثلاً . عند نزول قوله تعالى فى شأن الخمر "فهل أنتم منتهون "(2) فقد دعى إليها عمر فقرئت عليه فقال انتهينا(3) ... فليس القائل فى آية الخمر هو من نزلت فيه الآية . لأن الآية على عمومها – ومع ذلك قال هذا الكلام وظن أنه المخاطب به وحده .
أما المسألة الثانية – وهى اشتراط الولى فى النكاح .،
فالذى أدين لله به أن موافقة الولى على النكاح شرط فى صحته وليس ركناً فيه وذلك للأحاديث الواردة فيه ومنها حديث عائشة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له } (4) .
فالنبى - صلى الله عليه وسلم - اشترط إذن الولى – لا مباشرته للعقد – لصحة الزواج .
ومن أدلة ذلك :-
أولاً / حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - { لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل } (5)
__________
(1) فى رواية الترمذى فى التفسير 3165 وقال هذا حديث حسن صحيح .
(2) سورة المائدة .
(3) الترمذى فى التفسير 3242 .
(4) فى مسند الإمام أحمد برقم 24253 قال المحقق إسناده حسن ، وبرقم 24087 وقال إسناده صحيح (17/259 ، 312 ) دار الحديث .
(5) ذكره البيهقى من عدة طرق . عن على صـ 111 ، وعن ابن عباس 124 ، وعائشة 125 ، وأبى هريرة وعمران بن حصين 125 الكبرى جـ7 ط دار المعرفة .(3/10)
وجه دلالته أن الشاهدين لا يباشران العقد إنما يشهدانه ويحضرانه فكذا الولى لأنهما مشتركان فى الحكم .(1)
ثانياً / حديث معقل فى إحدى رواياته أنه قال لأخته { وجهى من وجهك حرام إن تزوجيته } .(2)
ويفهم من هذه الرواية أن لها أن تباشر العقد بنفسها لكن ليس دون موافقة وليها .
وعلى هذا تحمل الروايات النافية لصحة الزواج دون ولى .
ثالثا / لم يرد عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن تتولى المرأة تزويج نفسها إذا وافق وليها ومن ادعى ذلك فعليه البينة (3)
رابعاً / ثبت فى الصحيح أن امرأة أتت النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إنى وهبت نفسى لله ورسوله فنظر إليها النبى - صلى الله عليه وسلم - ثم طأطأ برأسه (4)... الحديث. وهو صريح فى صحة تزويج المرأة نفسها ، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب منها أن يحضر وليها ليباشر العقد لها وإن كان النبى - صلى الله عليه وسلم - { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } .(5)
ولقد وجدت للإمام ابن حزم ما يؤيد هذا الرأى حيث قال رحمه الله
مسألة / وللأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر ما لم تبلغ بغير إذنها ولا خيار لها
__________
(1) بناء على ما هو معروف أن الواو تفيد مطلق التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه – شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك صـ246 ط المطابع الأميرية – عطف النسق .
(2) راجع تفسير القرطبى فى الآية (3/1/15)
(3) بناء على ما هو معروف أن الواو تفيد مطلق التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه – شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك صـ246 ط المطابع الأميرية – عطف النسق .
(4) مسلم ك / النكاح باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك .
(5) سورة الأحزاب " 6 " .(3/11)
فإن كانت ثيباً من زوج مات عنها أو طلقها لم يجز للأب ولا لغيره أن يزوجها حتى تبلغ ولا إذن لها قبل أن تبلغ .وإذا بلغت البكر أو الثيب لم يجز للأب ولا لغيره أن يزوجها إلا بإذنها فإن وقع فهو مفسوخ أبداً ، فأما الثيب فتنكح من شاءت وإن كره الأب ،
وأما البكر فلا يجوز لها نكاح إلا باجتماع إذنها وإذن أبيها
ودليله عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها فى نفسها وإذنها صمتها(1) } (2)
خامساً / إن القول بعدم صلاحية المرأة لمباشرة عقد زواجها ، وكذا القول بجواز تزويجها دون إذنها يؤدى إلى القول بتسوية المرأة بالمجنون والصبى والسفيه .. وهذا انقاص من مكانتها التى وضعها الله فيه وغمط لحقوقها التى قدرها الله لها حيث قال سبحانه { ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف ... } (3)
هذا ما اختار والله أعلم بالصواب .
{ وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } (4)
حكم قصر الصلاة فى السفر
__________
(1) الإمام العلامة أبو محمد على بن أحمد بن سعيد ابن حزم الظاهرى ، ولد بقرطبة سنة 384هـ وسمع العلم فى سنة 400هـ ، كان شافعياً ث انتقل إلى القول بالظاهر وقع القول بالياس ، من تصانيفه : الإحكام فى أصول الأحكام ، المحلى فى الفقه ، الفصل فى الملل والأهواء والنحل وغيرها ت 457هـ ... تذكرة الحفاظ (3/1146) ط دار الفكر العربى .
(2) صحيح مسلم ك النكاح ب استئذان الثيب فى النكاح بالنطق والبكر بالسكوت ح رقم (1421) .
(3) المحلى لابن حزم (9/458) ط دار الجيل ، دار الأفاق الجديدة بيروت .
(4) النساء " 101 " .(3/12)
روى الترمذى عن يعلى بن أمية(1) قال :
قلت لعمر إنما قال الله { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } وقد أمن الناس ، فقال عمر : عجبتُ مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال { صدقة نصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته } (2)
قال المباركفورى :
وقد استدل بقوله { فاقبلوا صدقته } من قال بوجوب قصر الصلاة فى السفر وقد تقدم الكلام فى هذه المسألة فى باب التقصير فى السفر من أبواب الصلاة .
وفى الموضع الذى أشار إليه وجدت له كلاماً مطولاً فى شرحه لقول ابن عمر- الذى رواه الترمذى : " سافرت مع النبى - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها وقال عبد الله لو كنت مصلياً قبلها أو بعدها لأتممتها " (3)
قال المباركفورى : قد اختلف أهل العلم هل القصر واجب أم رخصة والتمام أفضل ؟ فذهب إلى الأول الحنفية وروى عن على وعمر ونسبه النووى إلى كثير من أهل العلم .
وذهب إلى الثانى الشافعى ومالك وأحمد قال النووى وأكثر العلماء وروى عن عائشة وعثمان وابن عباس ، واحتج القائلون بوجوب القصر بحجج منها :-
__________
(1) يعلى بن أمية بن أبى عبيدة التميمى المكى حليف قريش ، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه وشهد الطائف وتبوك وله عدة أحاديث ، وهو أول من أرخ الكتب ، قال الذهبى ، بقى إلى قريب الستين فما أدرى أتوفى قبل معاوية أو بعده – سير أعلام النبلاء (3/100) .
(2) قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح .
(3) أبواب السفر باب التقصير فى السفر ح 542 .(3/13)
أولاً / ملازمته - صلى الله عليه وسلم - القصر فى جميع أسفاره ، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - بحديث صحيح أنه أتم الرباعية فى السفر البته كما قال ابن القيم .(1)
وأما حديث عائشة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر فى السفر ويتم ويصوم ويفطر . رواه الدارقطنى .(2)
فهو حديث فيه كلام لا يصلح للاحتجاج وإن صحح الدارقطنى إسناده .
وكذا حديثها قالت خرجت مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى عمرة فى رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت بأبى وأمى أفطرت وصمتُ وقصرت وأتممتُ فقال أحسنت يا عائشة رواه الدارقطنى(3) لا يصلح للاحتجاج وإن حسن الدارقطنى اسناده .
وقد بين الشوكانى عدم صلاحيتها للاحتجاج فى النيل بالبسط (4)
ويجاب عن هذه الحجة / بأن مجرد الملازمة لا يدل على الوجوب كما ذهب إلى ذلك جمهور أئمة الأصول وغيرهم .
ثانياً / حديث عائشة المتفق عليه بألفاظ منها { فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر } (5) قالوا هو دليل ناهض على الوجوب لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنه لا يجوز الزيادة على أربع فى الحضر .
ويجاب عنه / بأنه من قول عائشة غير مرفوع وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة .
__________
(1) شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبى بكر أيوب بن سعد بن حريز الزرعى ثم الدمشقى الفقيه الحنبلى الشهير بابن قيم الجوزية وولد سنة 691هـ له زاد المعاد ، أعلام الموقعين ، تهذيب سنن أبى داود وغيرها ت سنة 751هـ . ... ... شذرات الذهب (6/168) .
(2) الدارقطنى ك الصيام باب القبلة للصائم رقم 44 وقال هذا إسناد صحيح .
(3) المصدر السابق رقم 39 ، 40 .
(4) انظر نيل الأوطار ك صلاة المريض أبواب صلاة المسافر (3/202 ) ط مكتبة دار التراث .
(5) سنن النسائى بشرح السيوطى ك الصلاة باب كيف فرضت الصلاة (1/225) ط المكتبة العلمية .(3/14)
وفى هذا الجواب نظر ... أما أولاً / فهو لا مجال للرأى فيه فله حكم الرفع ، وأما ثانياً / فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة مرسل صحابى (1)ى وهو حجة .
وأجيب أيضاً بانه ليس هو على ظاهره فإنه لو كان على ظاهره لما أتمت عائشة .
ثالثاً / ومنها حديث ابن عباس أنه قال { إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعاً والخوف ركعة } .(2)
قالوا هذا الصحابى الجليل قد حكى عن الله تعالى أنه فرض صلاة السفر ركعتين وهو أتقى لله وأخشى من أن يحكى أن الله فرض ذلك بلا برهان .
رابعاً / حديث عمر - رضي الله عنه - أنه قال { صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - .(3)
واحتج القائلون بأن القصر رخصة والتمام أفضل بحجج منها :-
أولاً / قول الله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ونفى الجناح لا يدل على العزيمة بل على الرخصة وعلى أن الأصل التمام والقصر إنما يكون من شئ أطول منه .
وأجيب بأن الآية وردت فى قصر الصفة فى صلاة الخوف لا فى قصر العدد ، لما علم من تقدم شرعية قصر العدد .
ثانياً : قوله - صلى الله عليه وسلم - { صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته }
قالوا الظاهر من قوله ( صدقة ) أن القصر رخصة فقط .
وأجيب بأن الأمر بقبولها يدل على أنها لا محيص عنها وهو المطلوب .
__________
(1) الحديث المرسل هو ما سقط فيه الراوى الأعلى – فإذا كان من أسقطه تابعياً سمى مرسل تابعى وهو ضعيف عند أكثر أهل الحديث للجهل بالراوى المفقود ، وإذا كان من أسقطه صحابياً سمى مرسل صحابى وهو حجة باتفاق – شرح ألفية الحديث للحافظ العراقى (63 : 70 ) ط عالم الكتب .
(2) سنن النسائى بشرح ك تقصير الصلاة فى السفر ( 3/119) .
(3) المصدر السابق ( 3/118) .(3/15)
ثالثاً / ومنها ما فى صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم القاصر ومنهم المتمم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض .(1)
قلت / لم نجد هذا اللفظ(2) فى صحيح مسلم وإذا ثبت ذلك فليس فيه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وقرره عليهم وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك .
رابعاً / حديث عائشة { أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر فى السفر ويتم ويفطر ويصوم } وقد تقدم وقد عرفت هناك أنه لا يصلح للاحتجاج .
وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب ، وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته - صلى الله عليه وسلم - للقصر فى جميع أسفاره وعدم صدور التمام عنه ، ويبعد أن يلازم - صلى الله عليه وسلم - طول عمره المفضول ويدع الفاضل .(3)
قلت / من شأن متبعى السنة النبوية ومقتفى الآثار المصطفوية أن يلازموا القصر فى السفر كما لازمه . ولو كان القصر غير واجب . فاتباع السنة فى القصر فى السفر هو المتعين ولا حاجة لهم أن يتموا فى السفر ويتأولوا كما تأولت عائشة وعثمان - رضي الله عنه - . هذا ما عندى والله تعالى أعلم .(4)
أقول
القصر لغة خلاف الطول والمد ويطلق على معان كثيرة منها الحبس والعجز .(5)
ويطلق فى الشرع على معنيين :
أولهما القصر فى صفة الصلاة بأن تصلى ذات الأربع ركعات اثنتين . وذلك حال السفر .
ثانيهما القصر فى صفة الصلاة كأن يصلى المصلى ماشياً أو مهرولاً أو متكلماً أو مستديراً .
وذلك حال الخوف :
والآية الكريمة قد فصلت بين الحالين بذكر رخصة القصر ولعل ذلك لأمرين :
الأول : اختلاف معنى القصر
__________
(2) يقصد قوله { فمنهم القاصر ومنهم المتمم } . وهو كما قال رحمه الله .
(3) نيل الأوطار للشوكانى (3 /200 : 202 ) ط مكتبة دار التراث .
(4) تحفة الأحوذى .
(5) لسان العرب ( قصر ) 5 / 3644 ط دار المعارف .(3/16)
الثانى : اختلاف حكم القصر فيهما
* فإذا كان الموجود هو الأول فقط ( الضرب فى الأرض / السفر )
فالمقصود بالقصر – قصر عدد الركعات فى الصلاة . وله حكم السنة المؤكدة وذلك لملازمته - صلى الله عليه وسلم - القصر فى جميع أسفاره .
وشرطه أن يكون سفر طاعة – خلافاً للأحناف(1) – فليس للعاصى رخصة ، وكذا اللاهى بسفره .
* وإذا كان الحال حال حرب
فالمقصود بالقصر :- قصر صفة الصلاة ... وهو واجب بدليلين :
الأول : أنه سبيل حفظ الدين والنفس وهما واجبان ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
الثانى : التعبير فى الآية الكريمة بقوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وهو متعلق بالشرط بعده – ونفى الجناح قد يدل على الوجوب كما قال تعالى { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } والسعى بين الصفا والمروة من واجبات الحج .
ولعله بهذا الكلام يجمع بين الرأيين فى المسألة
والله أعلم
حكم النياحة على الميت(2)
{ يأيها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك فى معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم } (3)
__________
(1) انظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق للعلامة زين الدين ابن نجيم الحنفى رحمه الله ( 2 / 138 ) ط دار المعرفة .
(2) التناوح : التقابل وناحت المرأة زوجها وعليه نوحاً ونُوَاحاً و نياحة ومناحاً والاسم النياحة .. وناح الرجل بكى واستبكى غيره . القاموس المحيط باب الحاء فصل النون .
(3) سورة الممتحنة .(3/17)
روى الترمذى بسنده إلى أم سلمة قالت :قالت امرأة من النسوة :ما هذا المعروف الذى لا ينبغى لنا أن نعصيك فيه؟ قال لا تنحن قلت يا رسول الله إن بنى فلان قد أسعدونى على عمى ولابد لى من قضائهم فأبى على فعاتبته مراراً فأذن لى فى قضائهن فلم أنح بعد قضائهن ولا على غيره حتى الساعة ولم يبق من النسوة امرأة إلا وقد ناحت غيرى .(1)
قال المباركفورى :
(
__________
(1) أبواب التفسير رقم 3307 وقال هذا حديث حسن .(3/18)
فأذن لى فى قضائهن ) فيه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - رخص لأم سلمة الأنصارية(1) فى إسعادهن(2) ، وكذلك رخص أيضاً لأم عطية كما فى حديثها عند الشيخين وغيرهما ولفظ مسلم قال : لما نزلت هذه الآية { يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً .. ولا يعصينك فى معروف } قالت كان منه النياحة ، قالت فقلت يا رسول الله إلا آل فلان(3) " قال النووى " هذا محمول على الترخيص لأم عطية - رضي الله عنه - فى آل فلان خاصة كما هو ظاهر ولا تحل النياحة لغيرها ولا لها فى غير آل فلان(4) كما هو صريح فى الحديث ، وللشارع أن يخص من العموم ما شاء فهذا صواب الحكم فى هذا الحديث ، واستشكل القاضى عياض(5) وغيره هذا الحديث .
__________
(1) اسمها هند بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، من المهاجرات الأول مات عنها أبو سلمة فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة 4 هـ وتوفيت سنة 59هـ ووهى أخر أمهات المؤمنين موتا . ... سير النبلاء ( 2 / 201 ) .
(2) الإسعاد : المعونة يقال ساعده مساعدة وسعاداً وأسعده : أعانه لسان العرب [ سعد ] .
(3) اسمها نسيبة بنت الحارث من كبار نساء الصحابة كانت تغسل الموتى وتغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، روى عنها محمد بن الحارث من كبار نساء الصحابة كانت تغسل الموتى وتغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، روى عنها محمد بن سيرين وأخته حفصة وعبد الملك بن عمير وغيرهم . أسد الغابة ( 7 /367 ) .
(4) ك الجنائز باب التشديد فى النياحة رقم (937) .
(5) الإمام العلامة الحافظ الأوحد شيخ الإسلام القاضى أبو الفضل عياض = بن موسى بن عياض بن عمرو بن عياض اليحصبى ولد سنة 476 ، رحل إلى الأندلس شاباً واستعرض العلوم ، جمع وألف وسارت بتصانيفه الركبان ، له من المؤلفات مالا يحصى توفى مقتولاً فى جمادى الآخرة سنة 544هـ السير ( 20 / 212 ) .(3/19)
وقالوا فيه أقوالاً عجيبة ومقصودى التحذير من الاغترار بها ، حتى أن بعض المالكية قالوا النياحة ليست بجرام بهذا الحديث وقصة نساء جعفر وإنما المحرم ما كان معه شئ من أفعال الجاهلية كشق الجيوب وخمش الخدود والدعاء بدعوى الجاهلية والصواب ما ذكرناه أولاً وأن النياحة حرام مطلقاً وهو مذهب العلماء كافة ، وليس فيما قاله هذا القائل دليل صحيح لما ذكره .(1)
قلت / دعوى تخصيص الترخيص بأم عطية - رضي الله عنه - غير صحيحة فقد رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة الأنصارية كما فى حديثها هذا ، وأخرج ابن مردويه(2) من حديث ابن عباس قال لما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النساء فبايعهن أن لا يشركن بالله شيئاً . الآية قالت خولة بنت حكيم(3) : يا رسول الله كان أبى وأخى ماتا فى الجاهلية وإن فلانة أسعدتنى وقد مات أخوها .. الحديث .(4)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووى (4/20) مكتبة الإيمان المنصورة .
(2) الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهانى صاحب التفسير والتاريخ والمستخرج على صحيح البخارى كان إماماً فى الحديث بصيراً بهذا الشأن توفى لست بيقين من رمضان سنة 410 وقد قارب التسعين . شذرات الذهب ( 3 / 190 ) .
(3) خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن سليم ، امرأة عثمان بن مظعون ، وهى التى وهبت نفسها للنبى - صلى الله عليه وسلم - فى قول بعضهم ، وكانت امرأة صالحة – أسد الغابة ( 7 / 93 ) .(3/20)
وأخرج أحمد والطبرى من طريق مصعب بن نوح(1) قال أدركت عجوزاً لنا كانت فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت فأخذ علينا ولا تنحن فقالت عجوز يا نبى الله إن ناساً كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا وإنهم قد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أن أسعدهم قال فاذهبى فكافئيهم قالت فانطلقت فكافأتهم ثم إنها أتت فبايعته .(2)
قال الحافظ : والأقرب إلى الصواب أن النياحة كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحريم (3)..(4)
- الدراسة -
النياحة : تطلق فى اللغة على البكاء (5)
وتطلق شرعاً على رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن أفعاله ( حال البكاء ) .(6)
وهى بمعناها اللغوى [البكاء] قد صحت نسبتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلاً و إقراراً
أما الفعل فدليله / عن عبد الله بن عمر لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن عبادة فى مرضه وجده فى غشية فقال أقد قضى قالوا لا يا رسول الله فبكى فلما رأى قوم بكاء رسول الله بكوا .. الحديث .(7)
وأيضاً بكاؤه - صلى الله عليه وسلم - لوفاة ابن بنته (8)
__________
(1) مصعب بن نوح الأنصارى .. قال البخارى روى عن عمر بن فروخ وقال ابن حيان يروى المقاطع . التاريخ الكبير ( 114 / 353 ) ، الثقات لابن حيان ( 7 / 479 ) .
(2) أخرجه الطبرى من حديث عمرو بن فروخ القتات سورة الممتحنة ، ولم أقف عند أحمد بلفظه ، وكمعناه صحيح .
(3) الفتح ( 8 / 639 ) .
(4) تحفة الأحوذى ( 9 / 203 ) .
(5) القاموس المحيط باب الحاء فصل النون .
(6) 10) سبل السلام – للصنعانى وما بين القوسين زيادة منى ( 2 / 580 )
(7) مسلم ك الجنائز ب البكاء على الميت ( 924 ) .
(8) المصدر السابق ( 923 ) .(3/21)
وأما الإقرار فدليله ما أخرجه النسائى عن أبى هريرة قال " مات ميت من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال له - صلى الله عليه وسلم - دعهن يا عمر فإن العين تدمع والقلب مصاب والعهد قريب .(1)
? وأما النياحة بمعناها الشرعى فقد نهى عنها النبى - صلى الله عليه وسلم - بما لا يدع مجالاً لتجويزها ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - فى الحديث السابق فى رواية ابن عباس عند أحمد " إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله ومن الرحمة وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان .(2)
ويدل له أيضاً حديث ابن عمر عند البخارى ومسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب و لكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه .(3)
__________
(1) سنن النسائى ك الجنائز وتمنى الموت باب 16 الرخصة فى البكاء على الميت .
(2) المسند للإمام أحمد تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر – من حديث ابن عباس ( 2/531) حديث رقم 2127 ط دار الحديث القاهرة .
(3) مسلم ك الجنائز / ب البكاء على الميت .(3/22)
وما ورد عن النبى - صلى الله عليه وسلم - من أنه نهى ناساً عن البكاء فمحمول على المعنى الثانى ومثله ما فى حديث عائشة عند الشيخين - واللفظ لمسلم – قالت " لما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن حارثة وجعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الحزن قالت وأنا أنظر من صائر الباب ( شق الباب) فأتاه رجل فقال يا رسول الله إن نساء جعفر ( وذكر بكائهن ) فأمره أن يذهب فينهاهن . فذهب ـ فأتاه فذكر أنهن لم يطعنه ، فأمره الثانية أن يذهب فينهاهن فذهب ثم أتاه فقال والله لقد غلبتنا يا رسول الله قالت – الراوية عن عائشة – فزعمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " اذهب فاحث فى أفواههن التراب " قالت عائشة : فقلت أرغم الله أنفك والله . ما تفعل ما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما تركت رسول الله من العناء .(1)
قال الإمام الصنعانى(2) يحمل على أنه كان بكاء بتصويت (النياحة) فأمر بالنهى عنه ولو بحثو التراب فى أفواههن وعليه فإن المرء إذا أوصى بالنوح عليه – وكذا إذا لم يوص بتركه – فإنه يعذب به – هكذا قال النووى فى فتاويه (3).
وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " الميت يعذب ببكاء أهله عليه " .(4)
__________
(1) محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسنى الصنعانى من بيت الإمامة فى اليمن ، ولد بمدينة كحلان ونشأ وتوفى بصنعاء ، ووله نحو مائة مؤلف منها توضيح الأفكار ، سبل السلام ، شرح لجامع الصغير والرد على من قال بوحدة الوجود وغيرها . ت 1182 هـ . الأعلام للزركلى ( 6/38) ط دار العلم للملايين .
(2) سبل السلام شرح بلوغ المرام ( 2/581) مكتبة عاطف .
(3) المسائل المنثورة 91 ط دار السلام .
(4) مسلم ك الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (928) .(3/23)
وعليه أيضاً فإن الوعيد الذى جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فى شأن النائحة والنياحة إنما يثبت فى النياحة بمعناها الشرعى ممن تتخذها مهنة لها .
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - { ليس منا من حلق وفرق ولا خرق ولا سلق } (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية } (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - .. { النائحة إذا لم تتب قبل موتها جاءت يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب } .(3)
هذا ما أدين لله به ... وتبقى كلمة فى هذا الموضوع ...
إن الدين الإسلامى يتعامل مع نفوس المدعوين عند تكليفهم ... فلا يكلف نفساً إلا وسعها ..
لذا اختلف خطابه للعاقل عن خطابه للمجنون ، ولم يعامل من حضر عقله معاملة السكران الذى غاب عقله ، ولا الهادئ معاملة الغضبان، ولا الصحيح معاملة السقيم ، ولا الآمن معاملة الخائف ، ولا المعافى معاملة المبتلى ، ولا المكره معاملة الحر .
__________
(1) سنن النسائى ك الجنائز باب 20
(2) النسائى ك الجنائز باب 19 البخارى ك الجنائز باب ليس منا من ضرب الخدود .
(3) مسلم ك الجنائز باب التشديد فى النياحة ( 934 ) .(3/24)
وإذا كان التكليف– فعلاً أو تركاً – يسقط عن المجنون لقوله - صلى الله عليه وسلم - { رفع القلم عن ثلاث } .. الحديث (1) ويسقط عن المكره لقوله - صلى الله عليه وسلم - { إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } (2)، ويسقط عن الغضبان لقوله - صلى الله عليه وسلم - { لا طلاق فى إغلاق } .(3)
... ويسقط عن السقيم لقوله تعالى { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } (4)فكذلك يسقط عن صاحب المصيبة .. لأن الكل يوصف أنه بلاء .. فالجنون والإكراه والغضب والسقم وفقد الأحبة كلها ابتلاءات .
__________
(1) رواه الإمام أحمد وغيره عن عائشة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال { رفع القلم عن ثلاث عن النائحة حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل } . قال المحقق اسناده جيد . الموسوعة الحديثية مسند الإمام أحمد (41/224 ) حديث رقم 24694 ط مؤسسة الرسالة .
(2) رواه ابن ماجة عن ابن عباس ك الطلاق باب طلاق المكره والناس ، قال العجلونى وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين كشف الخفا 1/433 ط مكتبة القدس .
(3) رواه الإمام أحمد عن عائشة بلفظ { لا طلاق ولا إعتاق فى إغلاق } قال المحقق اسناده ضعيف لضعف محمد بن عبيد بن صالح المكى وبقية رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح ، انظر الموسوعة الحديثة مسند الإمام أحمد 43/378 حديث رقم (26360) .
(4) سورة الفتح .(3/25)
وأقصد بما يسقط عن صاحب المصيبة أن يدخل تحت وعيد النبى - صلى الله عليه وسلم - لأنه فى حالة أشبه ما يكون بالمجنون أو السكران نعم كلنا مطالب بالصبر لكن الناس يتفاوتون فى هذا الأمر فمنهم من يصبر ، فله البشرى بأجر الصابرين ومنهم من يجزع ! فيراعى ذلك فى كل إنسان . ولقد أخرج الإمام مسلم عن أنس أن عمر بن الخطاب لما طعن عولت عليه حفصة فقال يا حفصة أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { يقول المعول عليه يعذب وعول عليه صهيب فقال عمر يا صهيب أما علمت أن المعول عليه يعذب } (1)وهذا التعويل المبهم جاء توضيحه فى رواية أخرى عند مسلم أنه قال وا أخاه ! وا صاحباه .(2)
فها هو صهيب - رضي الله عنه - وهو من هو – لا يتمالك أعصابه فيصرخ من الحزن .
وها هى السيدة حفصة أم المؤمنين لا تملك نفسها وتعول على أبيها ، وعن عبد الله بن أبى مليكةقال كنت جالساً إلى جنب ابن عمر ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان وعنده عمرو بن عثمان فجاء ابن عباس يقوده قائد ، فأراه أخبره بمكان ابن عمر فجاء حتى جلس إلى جنبى فكنت بينهما فإذا صوت من الدار فقال ابن عمر [ كأنه يعرض على عمرو أن يقوم فينهاهم ] : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول { إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه } فأرسلها عبد الله فقال ابن عباس ... قال عمر { إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه } .(3)
وها نحن فى موقف ثالث مع صحابة وصحابيات لم يتمالكوا أنفسهم عند المصائب ..
__________
(1) ك الجنائز باب الميت يعذب بكاء أهله .
(2) المصدر السابق (928) .
(3) المصدر السابق (928) .(3/26)
ثم موقف آخر – وليس أخيراً - .. موقف السيدة فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى مرض موته - صلى الله عليه وسلم - تمسح عن جنبيه العرق وهى تقول واكرب أبتاه فيقول لها - صلى الله عليه وسلم - { لا كرب على أبيك بعد اليوم } (1)... فإن كان هذا حال خير قرون هذه الأمة فكيف بنا ؟!
ألم تر أن الله قال { وبشر الصابرين } (2)ولم يقل وأنذر الجزعين ، وقال { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } (3)فسمى الصبر – عند البلاء – عزيمة وهو إشارة إلى أن من يجزع لا يؤاخذ ساعة وقوع المصيبة بما قاله طالما أنه لا يتكلم بكفر أو باعتراض على قضاء الله وقدره . والله تعالى أعلم .
هل تجزى صلاة بغير فاتحة الكتاب ؟!
قال الترمذى
عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج ، فهى خداج غير تمام قال(4) : قلت يا أبا هريرة إنى أحياناً أكون وراء الإمام قال يا ابن الفارسى فاقرأها فى نفسك } .(5)
قال المباركفورى
__________
(1) صحيح مسلم .
(2) سورة البقرة " 155 " .
(3) سورة الشورى " 43 " .
(4) أى الراوى عن أبى هريرة .
(5) سنن الترمذى أبواب التفسير/ ومن سورة الفاتحة – رقم 3127 وقال حديث حسن .(3/27)
قوله { من صلى } إماماً كان أو مقتدياً أو منفرداً { صلاة } جهرية كانت أو سرية فريضة أو نافلة { لم يقرأ بأم القرآن } أى بفاتحة الكتاب { فهى خداج } أى ناقصة نقص فساد وبطلان ، قال القارى(1) فى المرقاة هو صريح فيما ذهب إليه علماؤنا من نقصان صلاته فهو مبين لقوله - عليه السلام - { لا صلاة } أن المراد بها نفى الكمال لا نفى الصحة – فبطل قول ابن حجر : المراد بهذا الحديث أنها غير صحيحة و بنفى { لا صلاة } نفىصحتها لأنها موضوعه ... ثم قال ودليل ذلك أحاديث لا تقبل تأويلاً منها خبر ابن خزيمة(2) وابن حبان(3)
__________
(1) الشيخ ملا على قارى بن سلطان بن محمد الهروى الحنفى ولد بهراة ورحل إلى مكة واستقر بها وأخذ عن جماعة من المحققين كابن حجر الهيثمى وله مصنفات من شرح المشكاة ، شرح الشمايل ، شرح الوترية ، شرح الشاطبية وغيرها وتوفى سنة 1014 . البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكانى . مطبعة السعادة (1 /445) .
(2) محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمى الإمام أبو بكر خزيمة الملقب بإمام الأئمة كان بحراً من بحور العلم طاف البلاد ورحل إلى الأفاق فى الحديث وطلب العلم فكتب الكثير وصنف وجمع وصحيحه من أنفع الكتب وأجلها قال عن نفسه ما قلدت أحداً منذ بلغت ستة عشر سنة . توفى سنة 311هـ . ... البداية والنهاية (11/149) .
(3) العالم الحبر والعلامة البحر أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ التميمى البستى الشافعى صاحب الصحيح كان حافظاً ثبتاً إماماً حجة أحد أدعية العلم فى الحديث والفقه واللغة والوعظ والطب والنجوم والكلام ، وتوفى فى شوال سنة 354 وهو فى عشر الثمانين. البداية (11/259) ، شذرات الذهب (3/16) ..(3/28)
والحاكم(1) (2)ورواه الدارقطنى(3) بإسناد حسن. وقال النووى: رواته كلهم ثقات.(4)
وفيه / أنه محمول على الإجزاء الكامل.(5) انتهى ما فى المرقاة .
قلت حديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم بلفظ { لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب } دليل صحيح صريح واضح على أن المراد بالخداج فى حديث أبى هريرة نقصان الذات أعنى نقصان الفساد والبطلان وأن المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - { لا صلاة } نفى الصحة، وأما قول القارئ أنه محمول على الإجزاء الكامل فغلط مردود عليه فإنه ليس بعد الإجزاء إلا الفساد والبطلان فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ .
- الدراسة -
اختلف فى حكم قراءة الفاتحة فى الصلاة هل هى فرض تفسد الصلاة بتركه أم هى واجب لا يضر تركه – ولو عمداً – فى صحة الصلاة ؟
فذهب إلى الأول جمهور العلماء مالك والشافعى وأحمد وذهب إلى الثانى الأحناف
واستدل الجمهور بأدلة كثيرة منها
__________
(1) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدوية بن نعيم بن الحكم أبو عبد الله الحاكم الضبى الحافظ ويعرف بابن البيع ، من أهل العلم والحفظ والحديث ولد سنة 311 ، وله المستدرك على الصحيحين ، علوم الحديث ، الاكليل وغيرها توفى سنة 405 . البداية (11/355) .
(2) صحيح ابن خزيمة ك الصلاة ب الخداج هو النقص الذى لا تجزئ الصلاة معه حديث 490 .
(3) أبو الحسن على بن بن عمر بن أحمد بن مهدى بن مسعود بن دينار بن عبد الله الحافظ الكبير كان فريد عصره ونسيج وحده وإمام دهره ، صنف كتاب السنن ، المختلف والمؤتلف ، العلل وغيرها ، ولد سنة 306 شهر ذى القعدة وتوفى فيه سنة 385 . ... البداية ( 11/317 ) وفيات الأعيان (3/297 ) .
(4) صحيح مسلم بشرح النووى .
(5) 10) مرقاة المفاتح شرح مشكاة المصابيح . على القارى (2/547) ط المكتبة التجارية (11) تحفة الأحوذى (8/283) .(3/29)
1. حديث العلاء بن عبد الرحمن عن عائشة وعن السائب(1) مولى هشام بن زهرة عن أبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تعالى { قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى } (2) قالوا فلما عبر بالصلاة عن قراءة فاتحة الكتاب دل على أنها من فروضها كما أنه لما عبر عنها بالركوع فى قوله { واركعوا مع الراكعين } (3)دل على أنه من فروضها.(4)
2. حديث عبادة بن الصامت { أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } (5) ، وما جاء عن أبى هريرة قال أمرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادى { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد } (6)
3. حديث أبى هريرة قال { أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر } .(7)
قال فى شرح سنن أبى داود / فيه دليل على وجوب قراءة الفاتحة فى الصلاة وأنها متعينة لا يجزى غيرها إلا لعاجز عنها (8).
__________
(1) أبو السائب مولى هشام بن زهرة مولى مشهور لم يُسَمَّ ، روى عن أبى هريرة وأبى سعيد ، وعنه الزهرى و العلاء بن عبد الرحمن وآخرون وهو ثقة مكثر . ... تاريخ الإسلام (7/291) .
(2) سنن الترمذى أبواب تفسير القرآن حديث رقم 3127 وقال حديث حسن ، قال المباركفورى هو عند مسلم رأبى داود والنسائى وابن ماجة .
(3) سورة البقرة " 43 " .
(4) النووى شرح صحيح مسلم .
(5) البخارى ك الأذان ب وجوب القراءة للإمام والمأموم ومسلم ك الصلاة ب وجوب الفاتحة .
(6) سنن الترمذى .
(7) رواه أبو داود ، وأحمد الترمذى واللفظ لأبى داود باب من ترك القراءة فى صلاته بفاتحة الكتاب من أبواب الصلاة .
(8) شرح سنن أبى داود ( 3/25 ) . ط دار الكتب العلمية للعلامة شمس الحق العظيم أبادى، الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية .(3/30)
ومذهب الأحناف أن الفاتحة ليست فرضاً إنما هى واجبة يأثم تاركها إذا عمد ويلزمه سجود السهو إذا سها ولا تبطل الصلاة بتركها(1) ومن أدلتهم فى ذلك .
أولاً: قوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر } (2)ومعناه قراءة الفجر فى صلاة الفجر لاتفاق المسلمين على أنه لا فرض عليه فى القراءة وقت صلاة الفجر إلا فى الصلاة .
والأمر على الإيجاب حتى تقوم دلالة على الندب فاقتضى الظاهر جوازها بما قرأ فيها من شئ إذ ليس فيه تخصيص لشئ منه دون غيره .(3)
ثانياً: قوله تعالى { فاقرءوا ما تيس من القرآن } (4)المراد به القراءة فى الصلاة بدلالة قوله تعالى { إن ربك يعلم أنك تقوم ... } ولم تختلف الأمة أن ذلك فى شأن صلاة الليل وهو عموم عندنا فى صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ .
ويدل على إرادة العموم حديث أبى هريرة ورفاعة بن رافع فى تعليم النبى - صلى الله عليه وسلم - الأعرابى الصلاة حين لم يحسنها فقال له { ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن } (5)فثبت أن مراد الآية عام فى الجميع فهذا الخبر يدل على جوازها بغير فاتحة الكتاب من وجهين .
* أحدهما / دلالته على العموم ... ... الثانى / أنه مستقل بنفسه فى جوازها بغيرها .(6)
ثالثاً: الروايات الواردة فى حديث المسئ صلاته .
قال فى الحديث الأول { ثم اقرأ ما شئت } ، وفى الثانى { ما تيسر } فخيره فى القراءة بما شاء .
__________
(1) الب** فى شرح الهداية للعينى ( 2/241) ط دار الفكر .
(2) سورة الإسراء " 78 " .
(3) أحكام القرأن لأبى بكر الرازى ( الجصاص ) (1/18) ط دار الفكر .
(4) سورة المزمل " 20 " .
(5) مسلم ك الصلاة ب وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة (395) .
(6) أحكام القرآن (1/19) .(3/31)
ولو كانت قراءة فاتحة الكتاب فرضاً لعلمه إياها مع علمه بجهل الرجل بأحكام الصلاة إذ غير جائز الاقتصار – فى تعليم الجاهل – على بعض فروض الصلاة دون بعض .(1)
رابعاً: حديث أبى هريرة قال قال لى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { أخرج فناد فى المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد } .(2)
قالوا فقوله لا صلاة إلا بقرآن يقتضى جوازها بما قرأ به من شئ ، وقوله ولو بفاتحة الكتاب يدل أيضاً على جوازها بغيرها .(3)
خامساً: حديث أبى هريرة أيضاً قال { قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداج } .(4)
قالوا فلما قال { فهى خداج } - والخداج الناقصة- دل ذلك على جوزاها لأنها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم الناقصة لأن إثباتها ناقصة ينفى بطلانها .(5)
قالوا .. ويروى مثل مذهبنا عن ابن عباس والحسن وإبراهيم الشعبى وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وداود ومالك فى رواية .(6)
وأجاب الأحناف عن أدلة الجمهور بما يلى
أولاً حديث قسمت الصلاة
قالوا ليس فى قوله قسمت الصلاة أمر وإنما أكثر ما فيه بقراءة فاتحة الكتاب وذلك غير مقتض للإيجاب لأن الصلاة تشتمل على النوافل والفرائض ، وقد أفاد النبى - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث نفى إيجابها لأنه قال فى آخره فمن لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج فأثبتها ناقصة مع عدم قراءتها ، ومعلوم أنه لم يرد نسخ أول كلامه بآخره .(7)
ثانياً حديث عبادة بن الصامت { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب }
__________
(1) المصدر السابق .
(2) كنز العمال رقم 19662 ، أبو داود ك الصلاة باب من ترك القراءة فى صلاته بفاتحة الكتاب رقم 819 .
(3) أحكام القرآن (1/20) .
(4) معناه صحيح وهو عند مسلم ك الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة (395) .
(5) أحكام القرآن (1/21) .
(6) البناية شرح الهداية للعينى (2/241) .
(7) أحكام القرآن (1/19) .(3/32)
قالوا المراد نفى الكمال لا نفى الأصل .
والدليل على أنه لم يرد نفى الأصل أن إثبات ذلك إسقاط للتخيير فى قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } وذلك نسخ وغير جائز نسخ القرآن بأخبار الآحاد .(1)
أقول - والله أعلم –
الصحيح رأى الجمهور وهو أن قراءة الفاتحة فرض فى الصلاة تفسد الصلاة بتركها لما يلى
أولاً : أن هناك أدلة تؤيد رأى الجمهور لا تقبل التأويل منها :
(أ ) روى الإمام مسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال فى كل صلاة قراءة فما اسمعنا النبى - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم وما أخفى منا أخفنياه منكم ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل } .(2)
فإذا كان غير الفاتحة فضلاً فإن الفاتحة فرض .
(ب) روى مسلم عن أبى هريرة أيضاً عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج ثلاثاً غير تمام فقيل لأبى هريرة إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها فى نفسك } .(3)
ثانياً: أن ما استدل به الأحناف من عموم قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابى { ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن } قد خصص بفعله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن السيدة عائشة (ض) قالت: كان - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بفاتحة الكتاب (4)، وليس هذا نسخاً كما قيل إنما هو من تخصيص القرآن بالسنة .
__________
(1) البناية فى شرح الهداية (2/242) .
(2) مسلم ك الصلاة ب وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة جـ 396 .
(3) مسلم ك الصلاة ب وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة جـ 395 .
(4) مسلم ك الصلاة ب ما يجمع صفة الصلاة ، أبو داود ك الصلاة باب من لم ير الجهد بسم الله الرحمن الرحيم .(3/33)
ثالثاً: أن ما أجاب به الأحناف عن قوله - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب بأن المراد نفى الكمال لا نفى الإجزاء والصحة مردود بما ورد عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال { من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام } .(1)
رابعاً: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - علمنا إذا كنا فى الصلاة أن نفتتح القراءة بأم القرآن وعلى هذا أقر النبى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقد نادى أبى بن كعب وهو يصلى فلما فرغ من صلاته لحقه فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على يده وهو يريد أن يخرج من باب المسجد فقال إنى لأرجو أن لا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل فى التوراة ولا فى الإنجيل ولا فى القرآن مثلها ، قال أبىّ فجعلت أبطئ فى المشى رجاء ذلك ثم قلت يا رسول الله السورةالتى وعدتنى !
قال كيف تقرأ إذا فتحت الصلاة قال فقرأت { الحمد لله رب العالمين } حتى أتيت على آخرها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هى هذه السورة وهى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أعطيت .(2)
__________
(1) رواه مالك فى الموطأ موقوفاً ك الصلاة ب ما جاء فى أم القرآن .
(2) البخارى ك التفسير ب ما جاء فى فاتحة الكتاب .(3/34)
خامساً: إن عمل المسلمين منذ عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - على قراءة الفاتحة فى الصلاة فى كل ركعة فقد روى عن ابى عبد الله الصنابحى(1) قال قدمت المدينة فى خلافة أبى بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقرأ فى الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة سورة من قصار المفصل ثم قام فى الثالثة فدنوت منه حتى إن ثيابى لتكاد أن تمس ثيابه فسمعته قرأ بأم القرآن ... الحديث .(2)
وروى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر كان إذا صلى وحده يقرأ فى الأربع جميعاً فى كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن .(3)
وروى عن آنس بن مالك أنه قال { قمت وراء أبى بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم – إذا افتتح الصلاة (4)، يعنى أنهم كانوا يبدأون القراءة بالحمد لله رب العالمين .
سادساً : إن كلمة { أمين } ليست من الفاتحة وهى سنة بعد قراءة الفاتحة ، والقائل بعدم وجوب الفاتحة يسوى بين كلام الله سبحانه وبين غيره ، وهذا غير جائز شرعاً .
__________
(1) أبو عبد الله الصنابحى عبد لرحمن بن عسيلة أبو عبد الله المرادى . روى عن أبى بكر وعمر - رضي الله عنه - وروى عنه أهل الحجاز وسويد بن غفلة ، وثقة ابن سعد ، قدم المدينة بعد موت النبى - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أيام . لسان الميزان (7/105) .
(2) موطأ الإمام مالك الصلاة ب القراءة فى المغرب والعشاء .
(3) المصدر السابق
(4) المصدر السابق ب العمل فى القراءة ، مسلم ك الصلاة باب حجة من قال لا يهر بالبسملة جـ(399) .(3/35)
روى أبو موسى الأشعرى(1) إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتناً فقال { إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقولوا { أمين } يحببكم الله .(2)
وفى هذا الحديث – غير كون آمين سنة – دلالة على فرضية الفاتحة لأنها ذكرت بعد فرض وهو تكبيرة الإحرام .
سابعاً : أن أدلة الجمهور أكثر وأقوى ....
فلقد صنف مرتب مسند الإمام أحمد من مسنده "باب وجوب قراءة الفاتحة فى الصلاة " ذكرفيه سبعة أحاديث عن عبادة ،وعائشة ، أبى هريرة، وأنس وغيرهم وكلها إما صحيح أو معتضد بغيره ويصلح للاحتجاج.(3)
وصنف الإمام النسائى فى سننه فى كتاب الافتتاح باباً بعنوان " إيجاب قراءة الفاتحة فى الصلاة "
قال السيوطى شارحاً لحديث عبادة عند النسائى : فمفاد الحديث نفى الوجود الشرعى للصلاة التى لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وهو عين نفى الصحة ... فالحق أن الحديث يفيد بطلان الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.(4) فالصحيح مذهب الجمهور وهو اختيار المباركفورى والله أعلم .
{ الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } (5)
حكم زواج العفيف بالزانية والعكس
__________
(1) عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب الإمام الكبير صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو موسى الشعرى ، دعا له النبى - صلى الله عليه وسلم - واستعمله على اليمن ، وولاه عمر على الكوفة ، وحمل عن النبى - صلى الله عليه وسلم - علماً كثيراً توفى فى ذى الحجة سنة 44 على الصحيح . تاريخ بغداد (2/380)
(2) رواه مسلم ك الصلاة باب التشهد فى الصلاة جـ 404 .
(3) انظر الفتح الربانى ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى (3/193) ط دار الشهاب.
(4) سنن النسائى بشرح السيوطى (2/137 ، 138 ) ط المكتبة العلمية .
(5) سورة النور " 3 "(3/36)
روى الترمذى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
أن مرثد بن أبى مرثد(1) كان يحمل الأسارى بمكة وكان بمكة بغى(2) يقال لها عناق وكانت صديقته قال فجئت النبى - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ قال فسكت عنى فنزلت { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } فدعانى فقرأها علىَّ وقال لا تنكحها .(3)
قال المباركفورى :
قال المنذرى(4) وللعلماء فى الآية خمسة أقوال
أحدها : أنها منسوخة قاله سعيد بن المسيب واختاره الشافعى .
والثانى: أن النكاح ها هنا الوطء ، والمراد أن الزانى لا يطاوعه على فعله ويشاركه فى مراده إلا زانية مثله أو مشركة .
والثالث: أن الزانى المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة أو مشركة وكذا الزانية .
__________
(1) مرشد بن أبى مرشد الغنوى صحابى وأبوه صحابى واسمه كناز بن الحصين وهما من شهد بدراً ، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أوس بن الصامت وقتل يوم الرجيع شهيداً وذلك فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً من هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة . الإصابة فى تميز الصحابة (9/162) حرف الميم القسم الأول ط مكتبة الكليات الأزهرية الاستيعاب فى معرفة الأصحاب (3/440) ط دار الكتب العلمية .
(2) البغىّ : المرأة التى تفجر وتتكسب بفجورها .
(3) سنن الترمذى : أبواب تفسير القرآن ، سورة النور وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
(4) أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوى بن عبد الله بن سلامة المنذرى الشامى ثم المصرى الشافعى صاحب التصانيف ، ولد سنة 581هـ - له كتاب الترتيب والترهيب ، التكملة لوفيات ال** ، برع فى العربية والفقه وسمع الحديث بمكة ودمشق وغيرهما قال الذهبى : لم يكن فى زمانه أحفظ منه توفى رحمه الله تعالى فى ذى القعدة سنة 656هـ ودفن بسفح المقطم . ... شذرات الذهب لابن العماد (5/277) .(3/37)
والرابع : أن هذا كان فى نسوة كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تتفق عليه مما كسبته من الزنا واحتج بأن الآية نزلت فى ذلك .
والخامس: أنه عام فى تحريم نكاح الزانية على العفيف والعفيف على الزانية انتهى قلت هذا القول الخامس هو الظاهر الراجح وبه قال الإمام أحمد(1) وغيره .(2)
- الدراسة -
يرجع اختلاف العلماء فى ما فى هذه الآية من أحكام إلى اختلافهم فى معنى كلمة { ينكح } هل المراد بها الجماع أو الزواج .
ثم اختلافهم فى معنى الآية هل هى خبر حقيقى أم إنشاء " نهى " فى صورة خبر فيرى الإمام ابن كثير أن المراد بكلمة ينكح يزنى وأن الآية خبر من الله تعالى بأن الزانى لا يطأ إلا زانية أو مشركة أى لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك .
وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان عاص بزناه أو مشرك لا يعتقد تحريمه .(3)
واختار هذا القول سفيان الثورى وأخرج باسناد – صححه ابن كثير(4)- عن ابن عباس - رضي الله عنه - : الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال { ليس هذا بالنكاح الحلال إنما هو الجماع } لا يزنى بها إلا زان أو مشرك .(5)
والإمامان { قتادة ومقاتل بن حيان } أن المراد بـ { لا ينكح } : لا يتزوج ، وأن الآية نهى فى صورة الخبر حيث قالا :
حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا وتقدم ذلك فقال { وحرم ذلك على المؤمنين } .(6)
ويرى الإمام القرطبى أن المراد بـ { لا ينكح } لا يتزوج وان الآية على سبيل الخبر
__________
(1) الفتح الربانى ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى ك النكاح باب ما جاء فى نكاح الزانى والزانية (6/196) ط دار إحياء التراث .
(2) تحفة الأحوذى 9/18
(3) تفسير ابن كثير (3/6/5 ) مكتبة الإيمان – المنصورة .
(4) المصدر السابق
(5) تفسير سفيان الثورى 221 ط دار الكتب العلمية .(3/38)
فقال فى هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح ، وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته .(1)
وهو اختيار الشوكانى فى تفسيره حيث يقول " إن هذا الحكم مؤسس على الغالب والمعنى أن غالب الزناة لا يرغب إلا فى الزواج بزانية مثله وغالب الزوانى لا يرغبن إلا فى الزواج بزان مثلهن ، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزوانى بعد زجرهم عن الزنا وهذا أرجح الأقوال .(2)
وقد رد صاحب أضواء البيان القول الوارد عن قتادة قائلاً :
وهذا القول فى نفس الآية قرينة تدل على عدم صحته وتلك القرينة هى ذكر المشرك والمشركة فى الآية لأن الزانى المسلم لا يحل له نكاح المشركة لقوله تعالى { لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } (3)وقوله تعالى { لا هن حل لهم ولاهم يحلون لهن } (4)وقوله تعالى { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } (5)، وكذلك الزانية المسلمة لا يحل لها نكاح المشرك لقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } (6)فنكاح المشرك والمشركة لا يحل بحال . وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح فى الآية التى نحن بصددها الوطء الذى هو الزنا لا عقد النكاح لعدم ملائمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة .(7)
أقول – والله أعلم –
الذى أميل إليه أن { لا ينكح } معناها { لا يتزوج } ودليل ذلك ما ورد فى سبب نزول الآية أن رجلاً – أو رجالاً – من المسلمين أرادوا الزواج بالبغايا فحرم ذلك عليهم .
وأن الآية على سبيل النهى فى صورة الخبر
__________
(1) تفسير القرطبى (12/177) دار الحديث .
(2) فتح القدير للشوكانى (4/7) ط دار الوفاء .
(3) سورة البقرة " 221 "
(4) سورة الممتحنة " 10 "
(5) سورة الممتحنة " 10 "
(6) سورة البقرة " 221 "
(7) 10) أضواء البيان فى إيضاح القرآن للأمين الشنقيطى (6/72) ط مكتبة ابن تيمية .(3/39)
أما ما قاله صاحب أضواء البيان فيمكن الجواب عنه بأن الغرض من العطف فى الآية التنفير من هذه الفعلة والتشنيع بمرتكبها وكأنه عمل عملاً لا يستحله إلا مشرك .
على أن النهى فى الآية محمول – فيما أظن – على من اشتهربالزنا رجلاً كان أو امرأة .
أما من زنى – أو زنت – وستره الله سبحانه وتاب عليه فلا يحرم نكاحه أو إنكاحه حتى لو لم يقم عليه الحد .
والله تعالى أعلم(3/40)
أسباب النزول
السبب في اللغة الحبل ، ويطلق علي كل شيء يتوصل به إلى غيره سواء كان حسياً كالحبل أو معنوياً كالقرابة(1).
والنزول : الحلول ، يقال نزل عليهم ونزل بهم إذا حل(2).
وقد ثبت أن للقرآن تنزلات ثلاثة ...
التنزل الأول : من رب العزة إلى اللوح المحفوظ .
التنزل الثاني : من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا .
التنزل الثالث : من بيت العزة في السماء الدنيا إلى قلب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - (3)وسبب النزول محله في التنزل الثالث .
وقد عرفه السيوطي بأنه : ما نزلت الآية أيام وقوعه(4)، قال : " ويستفاد من التعريف ما يلي : أولاً : أن سبب النزول يقتصر على أمرين :
أولاً : أن تحدث حادثة فيتنزل القرآن الكريم بشأنها بدون سؤال عنها .
ثانياً : أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينزل القرآن ببيان الحكم فيه .
ثانياً : أن ما في القرآن من إخبار بالمستقبل أو إخبار بالماضي لا يعد من أسباب النزول .
ثالثاً : أن هناك من آيات القرآن ما نزل ابتداء دون سبب ، بل هو الأغلب قال الجعبري(5): " نزول القرآن على قسمين قسم نزل ابتداء ، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال "(6).
فوائد العلم بسبب النزول :
قال الزركشي : وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته لجريانه مجرى التاريخ وليس كذلك بل له فوائد منها :
1 – بيان وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم ، ومنها
2 – تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب ، ومنها
3 – الوقوف على المعنى .. ، ومنها
4 – أنه قد يكون اللفظ عاماً ويقوم الدليل على التخصيص فإن محل السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد والإجماع ، ومنها أيضاً
__________
(1) 1 ) ... اللسان ( سبب ) .
(2) 2 ) ... اللسان ( نزل ) .
(3) 3 ) ... مناهل العرفان : 32 – 35 باختصار .
(4) 4 ) ... الإتقان : 43 ، ولباب النقول في أسباب النزول : 14 ، ط : المكتبة القيمة .
(5) 5 ) ... سبقت ترجمته .
(6) 1 ) ... الإتقان : 40 .(4/1)
5 – دفع توهم الحصر كما جاء عن الشافعي - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ... الآية }(1)(2).
__________
(1) 2 ) ... الأنعام : 145 .
(2) 3 ) ... البرهان : 1 / 23 ، قال الشافعي : إن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال : لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ... ولم يقصد حل ما وراء ذلك إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل .(4/2)
6 – ومن فوائد هذا العلم إزالة الإشكال كما جاء عن مروان بن الحكم(1)في قوله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ... }(2)(3).
7 – ويوضح سبب النزول من نزلت فيه الآية حتى لا تحمل على غيره بدافع الخصومة والتحامل كالذي ذكر في قوله تعالى : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا ... }(4)بين مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر(5)(6).
__________
(1) 4 ) ... مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين ، واستوزره عثمان بن عفان ، وكان كاتباً له ، روي عن عمر بن الخطاب وعثمان وزيد بن ثابت ، مات فجأة في هلال شهر رمضان سنة 65 . طبقات ابن سعد 5 / 25 ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ، ط : دار الفكر 57 / 224 .
(2) 1 ) ... آل عمران : 188 .
(3) 2 ) ... وأخرج البخاري هذه القصة عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون ، فقال بن عباس : ما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ بن عباس { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ... } حتى قوله { ... يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } ك : التفسير ، سورة آل عمران ، ب : أمنة نعاساً .
(4) 3 ) ... الأحقاف : 17 .
(5) 4 ) ... الصحابي الجليل أسلم بعد بدر وهاجر قبيل الفتح ، كان أسن أخوته قتل يوم اليمامة سبعاً ، له ثمانية أحاديث ، اتفق الشيخان على ثلاثة منها ، ت سنة 53 هـ . السير 2 / 471 .
(6) 5 ) ... الإتقان : 41 .(4/3)
8 – كما أن معرفة السبب تعين على تيسير الحفظ وتسهيل الفهم وتثبيت الوحي فإن ربط الأحكام بالحوادث والشخصيات والأزمنة والأمكنة يقرر المعلومات ويركزها ويساعد على سهولة استذكارها .
9 – وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال(1)وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم ، فنزوله على حوادث يقطع دعوى أنه أساطير الأولين(2).
ما يعتمد عليه في معرفة السببية :
تختلف عبارات الناس في التعبير عن سبب النزول ... فتارة يصرح فيها بلفظ السبب فيقال سبب نزول الآية كذا ، وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها ، وتارة لا يصرح فيها بلفظ السبب ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة النزول عقب سرد الحادثة ، وهذه العبارة مثل سابقتها في الدلالة على السببية أيضاً ، ومرة يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيوحى إليه ويجيب بما نزل عليه ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول ولا تعبير بتلك الفاء ولكن السببية تفهم قطعاً من المقام وحكم هذه أيضاً حكم ما هو نص في السببية .
ومرة أخرى لا يصرح بلفظ السبب ولا يؤتى بتلك الفاء ولا بذلك الجواب المبني على السؤال بل يقال : نزلت هذه الآية في كذا ( مثلا ) ... ، وهذه العبارة ليست نصا في السببية بل تحتملها وتحتمل أمراً آخر وهو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام . والقرائن وحدها هي التي تعين أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه .
ومن هنا نعلم أنه إذا وردت عبارتان في موضع واحد إحداهما نص في السببية لنزول آية أو آيات ، والثانية ليست كذلك ... هنالك نأخذ بما هو نص في السببية ونحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول الآية ، لأن النص أقوى في الدلالة من المحتمل .
__________
(1) 6 ) ... أصل الارتجال أن يمشي الرجل على رجليه . اللسان ( رجل ) ، ثم استعملت في إلقاء الكلام الخاطر على الذهن دون إعداد .
(2) 7 ) ... مباحث في علوم القرآن للقطان .(4/4)
مثال ذلك ما أخرجه مسلم عن جابر قال : " كانت اليهود تقول من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }(1)(2).
وأخرج البخاري عن ابن عمر قال : " أنزلت نساؤكم حرث لكم في إتيان النساء في أدبارهن "(3).
والمعول عليه في بيان السبب هي رواية جابر الأولى لأنها صريحة في الدلالة على السبب ، وأما رواية ابن عمر فتحمل على أنها بيان لحكم إتيان النساء في أدبارهن وهو التحريم استنباطاً منه .
أما إذا كان الاختلاف بين عبارتين أو عبارات ليس شيء منها نصاً ...
كأن يقول بعض المفسرين نزلت هذه الآية في كذا ، ويقول الآخر نزلت في كذا ثم يذكر شيئاً آخر غير ما ذكره الأول – وكان اللفظ يتناولهما ولا قرينة تصرف إحداهما إلى السببية فإن الروايتين كلتيهما تحملان على بيان ما يتناوله اللفظ من المدلولات لحملهما على السبب ، فإذا تعارضت الروايتان أو الروايات في السببية قدم الأصح ، فإذا تساوت في الصحة – ولإحداها مرجح – قدم الراجح على المرجوح ، فإذا تساوت في الصحة – ولا مرجح لإحداها – جمع بينهما بتعدد الأسباب ، فإذا لم يمكن الجمع بينها حكم بتعدد النزول(4)على قدر تعدد الأسباب التي تحدثت عنها تلك الروايات لأنه إعمال لكل رواية ولا مانع منه
__________
(1) 1 ) ... البقرة : 223 .
(2) 2 ) ... صحيح مسلم ك النكاح ، ب جواز جماعه امرأة في قبلها من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر ( 1435 ) .
(3) 1 ) ... البخاري ك التفسير ، ب سورة البقرة .
(4) 2 ) ... الإتقان : 46 .(4/5)
قال الزركشي : " وقد ينزل الشيء تعظيماً لشأنه وتذكيراً عند حدوث سببه خوف نسيانه ، وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين مرة بمكة وأخرى بالمدينة، وكذلك ما ورد في قل هو الله أحد من أنها جواب للمشركين بمكة وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة ، وما يذكره المفسرون من أسباب متعددة لنزول الآية قد يكون من هذا الباب "(1).
المؤلفون في هذا الميدان :
__________
(1) 3 ) ... البرهان : 29 ، 30 باختصار .(4/6)
قال السيوطي : " وقد أفرد هذا العلم بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن المديني(1)شيخ البخاري الذي ألف كتاباً سماه أسباب النزول ، ومنهم عبد الرحمن بن محمد(2)المعروف بمطرف الأندلسي والذي تُرْجِم كتابُه أسباب النزول إلى الفارسية ، ومنهم الإمام محمد بن أسعد العراقي(3)المكنى أبا المظفر الحلبي له كتاب اسمه أسباب النزول ، ومنهم الإمام الواحدي الذي يُعتبر كتابُه أشهركتاب ألف في هذا الفن ، ومنهم الإمام أبو الفرج بن الجوزي له كتاب أسباب النزول ، والإمام ابن حجر العسقلاني له كتاب العجاب في بيان الأسباب .. قال السيوطي : " مات عنه مسودة فلم نقف عليه كاملاً "(4)
__________
(1) 1 ) ... علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي أبو الحسن ابن المديني البصري الإمام المبرز صاحب التصانيف الواسعة والمعرفة الباهرة ، قال عبد الرحمن بن مهدي عنه : أعلم الناس بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ت سنة 234 هـ . تهذيب الكمال 21 / 5 .
(2) 2 ) ... الإمام العلامة الحافظ ذو الفنون قاضي الجماعة أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس القرطبي المالكي ، كان حافظاً ناقداً جهبذاً مجوداً محققاً بصيراً بالعلل والرجال مع قوته في الفقه والفضائل ، صنف كتاب القصص في ثلاث مجلدات ، وكتاب أسباب النزول في مئة جزء ، وكتاب فضائل الصحابة ، وفضائل التابعين ، والناسخ والمنسوخ غيرها ، عاش خمساً وخمسين سنة ، ت سنة 402 . السير 17 / 210 ، وانظر ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أسباب مذهب مالك للقاضي عياض 4 / 671 ، ط : دار مكتبة الحياة .
(3) 3 ) ... محمد بن أسعد بن محمد بن نصر الحكيمي العراقي الحنفي أبو المظفر فقيه ، واعظ ، مفسر ، لغوي ، شاعر ، ولد في ربيع الأول ، وتفقه ببغداد ، وسكن دمشق وتوفي بها في المحرم سنة 567 ، من تصانيفه : تفسير القرآن ، وشرح المقامات للحريري وغيرها . معجم المؤلفين 9 / 50
(4) 4 ) ... الإتقان : 39 ..(4/7)
(1).
وكتاب السيوطي لباب النقول في أسباب النزول يعد أوفى كتاب في هذا الفن لأنه تضمن ما سبقه من كتب وزاد عليها وقد قال هو عنه : " قد ألفت كتاباُ فيه – أي في أسباب النزول – حافلاً موجزاً محرراً لم يؤلف مثله في هذا النوع سميته لباب النقول في أسباب النزول لخصته من جوامع الأصول وحررته من تفاسير أهل النقول والله أسأل النفع به فهو أكرم مسئول وأعظم مأمول "(2).
هذا ... وقد استعرضت أقوال الإمام المباركفوري في هذا الميدان فوجدتها تقارب الثلاثين موضعاً وها هي أعرضها موجزة بين يدي القارئ ثم أتناول شيئاً منها بشيء من التفصيل فيما بعد ...
م ... الآية ... السورة ... مجلد ... صفحة
1 ... ما هو آخر ما نزل من القرآن ... ؟
2 ... فاستجاب لهم ربهم ... آل عمران
3 ... ولله المشرق والمغرب... ... البقرة
4 ... وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ... ... -
البقرة
5 ... ليس لك من الأمر شيء ... آل عمران
6 ... لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ...
7 ... هل تشترك الآيتان في سبب نزول واحد ؟
8 ... فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ... النساء
9 ... فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ... ،،
10 ... إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله .... ... -
،،
11 ... وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً ... ... -
،،
12 ... والله يعصمك من الناس ... المائدة
13 ... ترتيب السور توقيفي أم توفيقي ؟
14 ... هل الأنفال و التوبة سورتان أم سورة واحدة ؟
15 ... يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ... النساء
م ... الآية ... السورة ... مجلد ... صفحة
16 ... اليوم أكملت لكم دينكم ... المائدة
17 ... لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ... ،،
18 ... يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ... الأنفال
19 ... وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ... ،،
__________
(1) 5 ) ... قلت : الموجود منه إلى نهاية سورة البقرة وهو مطبوع .
(2) 1 ) ... الإتقان : 39 ، 40 .(4/8)
20 ... لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ... ،،
21 ... ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ... التوبة
22 ... وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ... هود
23 ... والذين يرمون أزواجهم ... ... النور
24 ... ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ... الأحزاب
25 ... ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لايولون الأدبار ... ،،
26 ... من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ... ،،
27 ... أفرأيت الذي كفر بأياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً ... مريم
28 ... وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ... الأحقاف
29 ... يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ... الصف
آخر ما نزل من القرآن
أورد الترمذي – رحمه الله – أحاديث كثيرة يفهم منها أن الآية – التي يتحدث عنها الحديث – هي آخر ما نزل ... غير أن الإمام المباركفوري أجاب عن كل حديث بجواب ثم مال مع الإمام البيهقي فيما اختاره ... وها هي الأحاديث التي أوردها الترمذي متبوعة بكلام المباركفوري فيها ...
روى الترمذي عن عمار بن أبي عمار(1)قال : " قرأ ابن عباس { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا }(2)وعنده يهودي فقال : لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيداً ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم الجمعة ويوم عرفة "(3)(4).
__________
(1) 1 ) ... عمار بن أبي عمار أبو عمرو مولى بني هاشم ، يعد في المكيين ، سمع أبا قتادة وأبا هريرة ، روى عنه عطاء بن أبي رباح وشعبة ويونس بن عبيد . التاريخ الكبير 7 / 26 ، ط : دار الفكر .
(2) 2 ) ... المائدة : 3 .
(3) 3 ) ... معنى ذلك أنها نزلت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسعين يوماً تقريباً .
(4) 4 ) ... سنن الترمذي ، أبواب فضائل القرآن رقم : 3236 ، وقال حسن غريب من حديث ابن عباس .(4/9)
قال المباركفوري : قوله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أحكامه وفرائضه فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام(1).
وروى الترمذي عن البراء قال : " آخر آية نزلت أو آخر شيء نزل { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ }(2)(3).
قال المباركفوري : قوله " آخر آية نزلت أو أخر شيء نزل " الشك من الراوي يَسْتَفْتُونَكَ أي عن مواريث الكلالة ، وحذف لدلالة السياق عليه في قوله تعالى : { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ }(4)(5)
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال : " آخر سورة أنزلت سورة المائدة "(6)... وروي عن ابن عباس أنه قال : " آخر سورة أنزلت إذا جاء نصر الله والفتح " ( 4 ) .
قال المباركفوري :
قوله " آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح " قال السيوطي في الإتقان " يعني إذا جاء نصر الله والفتح " ، ويدل على ذلك قول ابن عباس الآتي : آخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح .
فإن قلت ما وجه التوفيق بين حديث عبد الله بن عمرو هذا وبين ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتكم في الكلالة ، وآخر سورة نزلت براءة .
قلت قال البيهقي يجمع بين هذه الاختلافات بأن كل واحد أجاب بما عنده ، وقال القاضي أبو بكر في الانتصار هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن(7)
** الدراسة **
أقول
__________
(1) 5 ) ... تحفة الأحوذي 7 / 475 ، وهو جواب لا يخلو من مقال كما سيأتي .
(2) 6 ) ... النساء : 176 .
(3) 7 ) ... أبواب فضائل القرآن رقم 2333 ، وقال حديث حسن .
(4) 1 ) ... تحفة الأحوذي 7 / 472 .
(5) 2 ) ... يفهم من كلامه – رحمه الله – أن هذه الآية آخر ما نزل مما يتعلق بالمواريث .
(6) 3 ) ، ( 4 ) سنن الترمذي ، أبواب التفسير آخر سورة المائدة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب .
(7) 5 ) ... تحفة الأحوذي 7 / 498 .(4/10)
اختلاف الروايات في تعيين آخر ما نزل من سور القرآن وآياته يرجع إلى أسباب كثيرة منها : أن كلاً منهم قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ، أو أن كلاً منهم أخبر عن آخر ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل وغيره سمع منه بعد ذلك ، ويحتمل أيضاً أن تنزل الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع آيات نزلت معها ، فيؤمر برسم ما نزل معها وتلاوتها عليهم بعد رسم ما نزل آخراً وتلاوته فيظن سامع ذلك أنه آخر ما نزل في الترتيب .
أو أن الأخرية المذكورة في كل رواية مقيدة وأن لم يذكر راويها قيدها فحديث البراء " أن آخر آية نزلت يستفتونك " مقيد بما يتعلق بالمواريث ورواية أبي بن كعب " أن آخر ما نز لقد جاءكم رسول " محمولة على أنه آخر ما نزل في سورة براءة .
ورواية عائشة أنها سورة المائدة محمولة على أنها آخر ما نزل في الحلال والحرام ، ورواية ابن عباس أنها سورة النصر محمولة على أنها آخر ما نزل مشعراً بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا .
قال الشيخ الزرقاني في قوله تعالى : { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
والذي تستريح إليه النفس أن آخر هذه الثلاثة(1)نزولاً هو قول الله تعالى { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ... الآية } وذلك لأمرين :
__________
(1) 1 ) ... يقصد قوله تعالى : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ... }
... ... وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }
... ... وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه .. الآية }(4/11)
أحدهما : ما تحمله هذه الآيات في طياتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم الميعاد وما تنوه به من الرجوع إلى الله واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم ، وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها .
ثانيهما : التنصيص في رواية ابن أبي حاتم(1)السابقة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد نزولها تسع ليال فقط ، ولم تظفر الآيات الأخرى بنص مثله(2).
قلت : أما أن آية سورة المائدة لم ينزل بعدها لا حلال ولا حرام فمردود بما قاله السيوطي " أن آية الربا والدين والكلالة نزلت بعد ذلك "(3).
__________
(1) 1 ) ... يشير إلى ما أرجه ابن أبي حاتم قال : " آخر ما نزل من القرآن كله { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ... الآية } وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها تسع ليال ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول . انظر تفسير ابن أبي حاتم 2 / 554 .
(2) 2 ) ... مناهل العرفان في علوم القرآن : 70 ، 71 .
(3) 3 ) ... قاله في الإتقان : 39 ، واستدل بما أخرجه البخاري وغيره في الآيات المذكورة قال : " روى الشيخان عن البراءبن عازب قال : آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ... الحديث " البخاري ك التفسير ، سورة النساء ، وأخرج البخاري عن ابن عباس قال آخر آية نزلت في الربا ك التفسير – سورى البقرة . وأخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال آخر شيء نزل من القرآن " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ... " ، قال : والجمع أن آيات سورة البقرة نزلت دفعة واحدة ، وآية يستفتونك آخر ما نزل في شأن الفرائض . انتهى بتصرف .(4/12)
وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين حتى حجه المسلمون لا يخالطهم المشركون ، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت براءة نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين فكان ذلك من تمام النعمة " وأتممت عليكم نعمتي "(1).
وعليه .. يمكن القول إن آخر ما نزل من آيات القرآن – على الإطلاق – آية سورة البقرة ، وما وصف بآخرية النزول من آيات بعد ذلك مقيد كما تقدم ، وأن آخر ما نزل من السور بتمامه سورة النصر ، والله أعلم .
سبب نزول قوله تعالى { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ }
__________
(1) 4 ) ... تفسير الطبري 4 / 420 .(4/13)
روى الترمذي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة(1)عن أبيه(2)قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله(3)فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت فأينما تولوا فثم وجه الله "(4). وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان أبي الربيع(5)عن عاصم بن عبيد الله(6)وأشعث يضعف في الحديث .
وروى عن ابن عمر قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته تطوعاً حيثما توجهت به وهو جاء من مكة إلى المدينة ، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } وقال في هذه أنزلت هذه الآية .
وقال هذا حديث حسن صحيح "(7)
__________
(1) 1 ) ... عبد الله بن عامر بن ربيعة بن كعب ، مولده عام الحديبية ، وله حديث مرسل عند أبي داود ، وهو من كبار التابعين . ت سنة 85 هـ .
(2) 2 ) ... عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك أبو عبد الله العنزي ، من السابقين الأولين ، هاجر الهجرتين ، وشهد بدراً ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر ، ومات سنة 35 هـ قبل نقتل عثمان - رضي الله عنه - بأيام . السير 2 / 333 .
(3) 3 ) ... أصل الحيال الخيط يشد من بطان البعير إلى حقبه لئلا يقع الحقب على تيله ، وهذا حيال كلمتك أي مقابلة كلمتك ، وقعد حياله وبحياله أي بإزائه . اللسان ( حول ) ، والصحاح الجوهري ( فصل الحاء مع اللام ) 4 / 1679 ، ط : دار العلم للملايين .
(4) 4 ) ... أبواب التفسير ، ب ومن سورة البقرة
(5) 5 ) ...
(6) 6 ) ...
(7) 7 ) ... سنن الترمذي ، أبواب التفسير ، ب ومن سورة البقرة ، وهو بمعناه عند البخاري عن جابر وليس فيد ذكر الآية . البخاري ك الصلاة ، ب التوجه نحو القبلة .(4/14)
قال المباركفوري : " وقال ابن عمر في هذا أنزلت هذه الآية " ، وذهب إلى هذا بعض أهل العلم وقالوا إن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته ، فمعنى الآية فأينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله أي فقد صادفتم المطلوب فإن الله واسع الفضل غني ، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذا الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة ، فتكلف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج بخلاف النوافل فإنهاغير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج .(4/15)
وقال بعض أهل العلم : إن هذه الآية نزلت في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة فقال الله تعالى رب المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي وهو قبلتكم ، فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية وقد استدلوا على ذلك بحديث عامر بن ربيعة المذكور وهو حديث ضعيف ، لكن قال الشوكاني في النيل : وهذا الحديث وإن كان فيه مقال(1)عند المحدثين ولكن له شواهد تقويه – فذكرها(2)
__________
(1) 1 ) ... قال ابن كثير ، وقال الترمذيهذا حديث حسن وليس إسناده بذاك ، ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان وأشعث يضعف في الحديث . قلت : وشيخه عاصم – أيضاً – ضعيف ، قال البخاري منكر الحديث ، وقال ابن معين : ضعيف لا يحتج به ، وقال ابن حبان : متروك ، والله أعلم . ابن كثير 1 / .....
(2) 2 ) ... قال الشوكاني : منها حديث جابر عن البيهقي بلفظ صلينا ليلة في غيم وخفيت علينا القبلة فلما = = انصرفنا نظرنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قد أحسنتم " ولم يأمرنا أن نعيد ، وله طريق أخرى عنه بنحو هذه وفيها أنه قال - صلى الله عليه وسلم - قد أجزأت صلاتكم ، ولكنه تفرد به محمد بن سالم ومحمد بن عبد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان ، وكذا قال الدارقطني : قال البيهقي وكذلك روى عبد الملك العزرمي عن عطاء ، ثم رواه من طريق أخرى بنحو ما هنا ، وقال ولا نعلم لهذا الحديث إسناداً صحيحاً قوياً ، والصحيح أن الآية نزلت في التطوع خاصة كما في صحيح مسلم .
... ... ومنها حديث الطبراني في الأوسط بلفظ : " صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم فيم في السفر إلى غير القبلة فلما قضى الصلاة وسلم تجلت الشمس ، فقلنا يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة ، فقال قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله - عز وجل - " ، وفي إسناده أبو عبلة واسمه شمر بن عطاء ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعض فتصلح للاحتجاج . نيل الأوطار 2 / 233 أبواب استقبال القبلة .(4/16)
- وقال بعد ذكرها وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها ، انتهى .
قال الحافظ ابن كثير : " وهذه الأسانيد فيها ضعف ولعله يشد بعضها بعضاً ، انتهى .
وقال آخرون بل أنزل هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ، وإنما أنزلها ليعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ... قالوا ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض التوجه إلى المسجد الحرام "(1).
** الدراسة **
يتلخص ما ذكره المباركفوري أن العلماء مختلفون في الآية على قولين إجمالاً : فالأكثر يرى أن الآية نزلت على سبب وقد اختلفوا في تحديده ، والبعض يرى أن الآية نزلت ابتداءً على غير سبب .
فمن قال إنها نزلت على سبب – ومنهم الإمام القونوي(2)والإمام الرازي(3)والشيخ الشيرازي(4)– اختلفوا في هذا السبب على أكثر من خمسة أقوال حكاها الإمام القرطبي في تفسيره(5)ومنها – غير ما ذكر - :
__________
(1) 1 ) ... التحفة 7 / 383 .
(2) 2 ) ... إسماعيل بن محمد بن مصطفى القونوي الحنفي عصام الدين أبو الفداء مفسر مشارك في بعض = = العلوم ، ولد بقونونية ، وتوفي بدمشق في 12 صفر سنة 1134 هـ ، له تصانيف كثيرة . معجم المؤلفين 2 / 294 .
(3) 1 ) ... تفسير الرازي 2 / 4 / 17 .
(4) 2 ) ... الأمثل 1 / 303 .
(5) 3 ) ... القرطبي 2 / 88 .(4/17)
قال قتادة : نزلت في النجاشي(1)وذلك أنه لما مات دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة ، فقالوا كيف نصلي على رجل مات وهو يصلي لغير قبلتنا ؟ .. فنزلت الآية ونزل فيه { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ }(2)فكان هذا عذراً للنجاشي ، وكانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه سنة تسع من الهجرة .
وقال ابن زيد : كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ، وقالوا ما اهتدى إلا بنا ، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود : ما ولاهم عن فبلتهم التي كانوا عليه فنزلت ولله المشرق والمغرب(3).
وعن مجاهد وابن جبير لما نزلت { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }(4)قالوا إلى أين ؟ فنزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } .
وقيل نزلت حين صد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البيت عام الحديبية ، فاغتم المسلمون لذلك . أ . هـ .
__________
(1) 4 ) ... واسمه أصحمة ملك الحبشة معدود في الصحابة وكان ممن حسن إسلامهم ، لم يهاجر ولا له رؤية فهو تابعي من وجه صاحب من وجه ، توفي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى عليه بالناس صلاة الغائب . سير أعلام النبلاء 1 / 428 .
(2) 5 ) ... آل عمران : 199 .
(3) !! ) ... التعجب الأول من اتساع الفترة الزمنية بين ما ذكره قتادة وبين ما ذكره ابن زيد فبينهما عند التحقيق ست سنوات على الأقل .
... والتعجب الثاني من كثرة عدد الآيات بين هذه الآية ( 115 ) وبين آية تحويل القبلة ( 143 ) ووجود هذا المقطع ذاته في آية تحويل القبلة " قل لله المشرق والمغرب " فلعله تصحيف لم ينتبه إليه قائله ، والله أعلم .
(4) 6 ) ... غاقر : 60 .(4/18)
ومن قال أنها نزلت على غير سبب – ومنهم ابن كثير(1)وأبو حيان(2)والزمخشري(3)وابن عاشور(4)– وجهوا الآية مع ما قبلها توجيهات مختلفة ..
قال أبو حيان : " والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها نبه على أن ذلك لا يمنع أداء الصلوات ولا من ذكر الله إذ المشرق والمغرب لله تعالى فأي جهة وجهتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك ولا يختص مكان التأدية بالمسجد " .
وقال ابن عاشور : " لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة ، فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فقد صادف رضا الله " .
والذي يبدو بعد هذا العرض :
أن الأقرب إلى الصواب – والله أعلم – أن الآية نزلت على غير سبب ... تسلية للمؤمنين وللرسول - صلى الله عليه وسلم - على إبعادهم من جوار البيت الحرام بمكة ... وذلك لما يلي :
أولاً : ا، الآية جاءت في سياق الحديث عن منع مساجد الله من أن يذكر الله فيها ، ولما كان هذا مظنة البعد عن الله – إذ أُبْعِدَ الإنسان عن بيته سبحانه – فإن هذه الآية نفت هذا الظن وأثبتت أن الأرض كلها لله وأنه سبحانه يسمع عبده ويراه ويرعاه حيثما كان ، وما على العبد إلا أن يتوجه إلى ربه بقلب سليم .
ثانياً : أن ما ورد من روايات في سبب نزول هذه الآية ذو شقين :
__________
(1) 1 ) ... تفسير ابن كثير 1 / 214 .
(2) 2 ) ... البحر المحيط 1 / 529 ، 530 .
(3) 3 ) ... الكشاف 1 / 179 ، وانظر الدر المصون للسمين الحلبي 1 / 349 .
(4) 4 ) ... التحرير والتنوير 1 / 682 .(4/19)
صحيح ليس نصاً في السببية ، ومثله لا يعتمد في سبب النزول(1).
ضعيف متعارض تعارضاً لا يمكن معه الجمع(2)– إلا بتكلف – نظراً لبعد الحوادث عن بعضها من جهة الزمن
أما تجويز بعض العلماء للمسلم – يريد التطوع بالصلاة – أن يصلي على الراحلة حيثما توجهت به فليس بهذه الآية إنما بفعله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد علمت أن هناك تشريعات كثيرة مأخوذة من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد شيء بخصوصها في القرآن(3)
هذا والله أعلم بالصواب
سبب نزول قوله تعالى { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... الآية }(4)
روى الترمذي عن زيد بن ثابت أنه قال في هذه الآية فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ قال رجع ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فكان الناس فيهم فريقين ، فريق منه يقول اقتلهم ، وفريق يقول لا ، فنزلت هذه الآية فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ فقال إنها طيبة(5)وأنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد "(6).
قال المباركفوري :
__________
(1) 1 ) ... راجع ما نقلته عن الإمام السيوطي في مقدمة هذا الفصل تحت عنوان ما يعتمد عليه في السببية ، وانظر مباحث في علوم القرآن للشيخ القطان : 83 .
(2) 2 ) ... انظر مباحث للشيخ القطان : 875 ، وإنما لم أقل بتعدد النزول لما قدمت من عدم التنصيص على ذلك فيما ورد من روايات صحيحة ، وضعف ما نص عليه .
(3) 3 ) ... مثل تحريم أكل لحوم الحمر ، وجواز أكل الضب ، وتحريم الذهب والحرير على الرجال ، مقادير الزكاة الخ هذه الأمور .
(4) 1 ) ... النساء : 88 .
(5) 2 ) ... اسم من أسماء المدينة قاله المباركفوري 7 / 454 - وهي بفتح الطاء والياء – وهكذا في البخاري
(6) 3 ) ... سنن الترمذي ، أبواب التفسير / سورة النساء ، والبخاري ك التفسير ، ب سورة النساء(4/20)
قوله : " رجع ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد " يعني عبد الله بن أبي وأصحابه ، وقد ورد ذلك صريحاً في رواية موسى بن عقبة في المغازي ، وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإقامة بالمدينة ، فلما أشار غيره بالخروج وأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج ، قال عبد الله بن أبي لأصحابه أطاعهم وعصاني علام نقتل أنفسنا ؟ فرجع بثلث الناس ، قال ابن إسحاق في رواية فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر وكان خزرجياً كعبد الله بن أبي فناشدهم أن يرجعوا فأبوا فقال أبعدكم الله " فكان الناس فيهم " أي في الحكم في من انصرف مع عبد الله بن أبي فنزلت هذه الآية ، وهذا هو الصحيح في سبب نزولها .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبي سعيد بن معاذ قال نزلت هذه الآية في الأنصار خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من لي بمن يؤذيني ؟ فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن خضير ومحمد بن مسلمة فأنزل الله هذه الآية(1).
وفي سبب نزولها قول آخر أخرجه أحمد من طريق ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أن قوماً أتوا المدينة فأسلموا فأصابهم الوباء فرجعوا فاستقبلهم ناس من الصحابة فأخبروهم ، فقال بعضهم نافقوا ، وقال بعضهم لا ، فنزلت(2)
وأخرج بن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة مرسلاً ... فإن كان محفوظاً احتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعاً(3)كذا في الفتح
__________
(1) 1 ) ... تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 3 / 1023 .
(2) 2 ) ... رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن عوف . المسند 2 / 310 ، وقال المحقق إسناده صحيح .
(3) 3 ) ... لم أقف على هذا الكلام في الفتح في كتاب التفسير ، ولعله في موطن آخر .(4/21)
قال الحافظ ابن جرير بعد ذكر عدة أقوال في سبب نزول هذه الآية ما لفظه : " وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك من قال نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة ، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على أحد قولين : أحدهما أنهم كانوا قوما من أهل مكة – على ما قد ذكرنا الرواية عنهم ، والآخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة ... وفي قول الله تعالى ذكره فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة ، لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر ، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيماً من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه "(1)(2).
** الدراسة **
يبدو من كلام المباركفوري أن هناك تعارضاً تاماً في سبب النزول ، فابن حجر يصحح كون الآية نزلت في المتخلفين عن غزوة أحد ، ويشهد له حديث الباب ، والطبري يؤيد كونها نزلت في قوم من مكة وتشهد له الآية التالية .
وقول الإمام الطبري جدير بالنظر لأن ظاهر الآية التالية يشهد له ، مع ما أخرجه الإمام أحمد من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه ، وكذا ابن أبي حاتم ولكن يَرِدُ عليه سؤالان : الأول هل هناك ما يدل – من طريق صحيح – على أن الآيتين نزلتا معاً في وقت واحد حتى يقال أنهما تتحدثان عن قوم بعينهم ؟
والثاني : إن الآية التي معنا وصفت هؤلاء الناس بالنفاق – وهو لا يقال إلا على من أظهر الإسلام وأبطن الكفر – وهو لم يظهر إلا في المدينة ، في حين أن الآية الأخرى وصفت من تتحدث عنهم بالكفر ... فلم حكمت بالثانية على الأولى ولم تحكم بالأولى على الثانية ؟ ! .
__________
(1) 1 ) ... تفسير الطبري 4 / 196 .
(2) 2 ) ... تحفة الأحوذي 7 / 454 .(4/22)
وهذان السؤالان كفيلان بدعم مذهب ابن حجر وتضعيف مذهب الطبري ، فإذا أضيف إليهما قاعدة الترجيح في أسباب النزول إذا تعددت الروايات فيها – وهي كما يقول السيوطي فيها " وإن ذكر واحدٌ سبباً وآخر سبباً غيره فإن كان إسناد أحدهما صحيحاً دون الآخر فالصحيح المعتمد(1)" – كان لا مناص من الميل إلى مذهب ابن حجر لأن دليله في الصحيحين بخلاف دليل الطبري ، ولا شك أن ما في الصحيحين مقدم على غيرهما ، إلا أن يكون الأمر كما روي عن ابن حجر " أن الآية نزلت في الأمرين جميعاً " .
أما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد ابن معاذ قال : " نزلت هذه الآية في الأنصار .. الخ " فليس نصاً(2)في سبب النزول كما علمت ، فالمعول عليه ما في الصحيحين .
والله تعالى أعلم
سبب نزول قوله تعالى { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ... }(3).
روى الترمذي عن ابن عباس قال : " خشيت سودة(4)أن يطلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز "(5).
قال المباركفوري :
__________
(1) 3 ) ... راجع مقدمة المبحث ( ما يعتمد عليه في معرفة السببية ) .
(2) 1 ) ... راجع مقدمة المبحث ( ما يعتمد عليه في معرفة السببية ) .
(3) 1 ) ... النساء : 128 .
(4) 2 ) ... سودة بنت زمعة بنت قيس القرشية العامرية ، أول من تزوج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة وانفرد بها نحو ثلاث سنين ، وهي التي وهبت يومها لعائشة ، لها أحاديث ، خرج لها البخاري ، توفيت في آخر خلافة عمر بالمدينة . السير 2 / 265 ، وأعلام النساء ( كحالة ) 2 / 367 ، ط : مؤسسة الرسالة .
(5) 3 ) ... سنن الترمذي ، أبواب التفسير ومن سورة النساء .(4/23)
قال الحافظ في الفتح بعد نقل هذا الحديث عن الترمذي : وله شاهد في الصحيحين من حديث عائشة بدون ذكر نزول الآية . انتهى
قلت : روى الشيخان عن عائشة أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة .
قال الحافظ في الفتح : ووقع في رواية مسلم من طريق عقبة بن خالد(1)عن هشام لما أن كبرت سودة وهبت ، وأخرج أبو داود هذا الحديث وزاد فيه بيان سببه وأوضح من رواية مسلم ... وفيه : ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله يومي لعائشة وقبل ذلك منها ففيها وأشباهها نزلت : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا ... الآية إلى أن قال – فتواردت على أنها خشيت الطلاق فوهبت .
وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقها فقعدت على طريقه فقالت والذي بعثك بالحق مالي في الرجال حاجة ولكن أحب أن أبعث مع نساءك يوم القيامة فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني لموجدة وجدتها علي قال لا ، قالت : فأنشدك لما راجعتني ، فراجعها ، قالت : فإني جعلت يومي وليلتي لعائشة حبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انتهى(2)
قلت : رواية ابن سعد هذه مرسلة لا تقاوم حديث ابن عباس وما وافقه في أن سودة خشيت الطلاق فوهبت(3)
** الدراسة **
القول أن هذه الآية نزت في السيدة سودة بنت زمعة حكاه أكثر المفسرين واختاره القرطبي وابن عطية(4).
__________
(1) 4 ) ... عقبة بن خالد السكوني الحافظ ، روى عن هشام بن عروة والأعمش ، وروى عنه أحمد والأشج وطائفة ، مات سنة 188 . الكاشف 2 / 272 .
(2) 1 ) ... الطبقات الكبرى لابن سعد
(3) 2 ) ... تحفة الأحوذي 7 / 470 .
(4) 3 ) ... المحرر الوجيز : 2 / 120 ، ط : دار الكتب العلمية .(4/24)
قال القرطبي : " ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة "(1)، واختار البغوي(2)وابن عادل(3)والثعالبي(4)والطبرسي(5)أنها نزلت في بنت محمد بن مسلمة(6)كانت عند رافع بن خديج(7)وكانت قد دخلت في السن وكانت عنده امرأة شابة سواها فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة وإن شئت تركتك ، قالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة فراجعها . فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله تعالى أنزل فيه هذه الآية عند ابى جعفر وسعيد بن المسيب(8).
وقيل أن الآية عامة في كل امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً ، واختار ذلك الرأي الأخير الإمام الطبري والنيسابوري وابن كثير(9).
ويمكن الجمع بين الأقوال كلها ... لأن القول بأن لفظ الآية عام في كل امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً لا يتعارض مع نزولها – ابتداء – على سبب معين في امرأة بعينها ، وقد قال العلماء : " كانت الآية تنزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شخص بعينه ثم تكون عامة بعده " ، أما الروايتان المختلفتان في تحديد صاحبة الحادثة فهما – وإن كانت إحداهما أصح من الأخرى – غير متعارضتين .
__________
(1) 4 ) ... الجامع لأحكام القرآن 5 / 402 .
(2) 5 ) ... معالم التنزيل 1 / 486 .
(3) 6 ) ... اللباب 7 / 52 ، 53 .
(4) 7 ) ... الجواهر 3 / 91 .
(5) 8 ) ... مجمع البيان 2 / 183 .
(6) 1 ) ... محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة أبو عبد الله الأنصاري الأوسي ، من نجباء الصحابة ، شهد بدراً والمشاهد ، اعتزل يوم الفتنة ، خلف من الولد ست عشرة ، شهد فتح مصر ، مات في صفر سنة 43 . السير 2 / 369 .
(7) 2 ) ... رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن يزيد الأنصاري الخزرجي ، رد يوم بدر لصغره ، وشهد المشاهد بعدها ، شهد وقعة صفين مع علي ، ت سنة 74 هـ . السير 3 / 183 .
(8) 3 ) ... مجمع البيان 2 / 183 .
(9) 4 )(4/25)
ومن الممكن – بل هو الأولى إعمالاً للنصوص كلها(1)– أن تكون الآية نزلت في الحادثتين معاً . هذا ما عندي .
والله تعالى أعلم
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ(2)
روى الترمذي عن علي قال : " سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان ، فقال : أوليس استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت ما كان للنبي ... "(3).
قال المباركفوري : قال صاحب فتح البيان : وقد روي في سبب نزول الآية استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب من طرق كثيرة وأصله في الصحيحين وما فيهما مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح فكيف وهو ضعيف غالبه ، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون(4)، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار لهم ، وعلى فرض أنه قد بلغه كما يفيد سبب النزول فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة ، فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله قال : " كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه بمسح الدم عن وجهه ويقول اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "(5)(6)(7).
** الدراسة **
__________
(1) 5 ) ... ولا يتعارض هذا مع قاعدة الترجيح لأن الجمع بين النصوص وإعمالها معاً أولى من إعمال نص وإهمال آخر .
(2) 1 ) ... التوبة : 113 .
(3) 2 ) ... سنن الترمذي أبواب تفسير القرآن ، باب ومن سورة براءة ، وقال هذا حديث حسن .
(4) 3 ) ... صحيح البخاري ك أحاديث الأنبياء ، ب حديث الغار
(5) 4 ) ... صحيح مسلم ك الجهاد والسير ، ب غزوة أحد
(6) 5 ) ... فتح البيان 4 / 208 .
(7) 6 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 57 .(4/26)
أورد الطبري(1)وابن جزي(2)والرازي وغيرهم قصة نزول الآية في أبي طالب وغيره .
قال الرازي : " ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً :
الأول : قال ابن عباس - رضي الله عنه - لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أبويه أحدث به عهداً ؟ قيل أمك فذهب إلى قبرها ووقف دونه ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمه وقال نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء ثم زرت وبكيت ، فقال قد أذن لي فيه فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وأني لا أغني عنها من الله شيئاً بكيت رحمة لها "(3).
الثاني : روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول – عليه الصلاة والسلام – يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال أنا على ملة عبد المطلب ، فقال – عليه الصلاة والسلام – لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت هذه الآية وقوله إنك لا تهدي من أحببت(4).
قال الواحدي : " وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام .
وأقول – أي الرازي – هذا الاستبعاد عندي مستبعد ... فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية ، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة ، فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً يفعل ذلك ، ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه ، فهذا غير مستبعد في الجملة .
__________
(1) 1 ) ... جامع البيان في تأويل القرآن 11 / 41 ، 42 .
(2) 2 ) ... تفسير ابن جزي بحاشية المصحف الشريف : 264 ، ط : دار الكتاب العربي – بيروت .
(3) 3 ) ... لم أقف عليه .
(4) 4 ) ... متفق عليه واللفظ للبخاري ك التفسير ، ب سورة براءة .(4/27)
الثالث : يروى عن علي أنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال : قلت أتستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان ، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية(1).
الرابع : يروى أن رجلاً أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال : كان أبي في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضيف ويمنح من ماله فأين أبي ؟ فقال : أمات مشركاً ؟ قال نعم . قال : في ضحضاح من النار – فولى الرجل يبكي ، فدعاه عليه الصلاة والسلام فقال : إن أباك وأبا إبراهيم في النار ، إن أباك لم يقل يوماً أعوذ بالله من النار "(2)(3).
قال الطبري : " وقال آخرون بل نزلت من أجل أن قوماً من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين فنهوا عن ذلك "(4).
أقول :
أما الوجه الأول فليس فيه تصريح بالسببية ، وأما الوجهان الثالث والرابع – فيبدو أنهما حادثة واحدة حكيت متفرقة بقرينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أبا سيدنا إبراهيم في الرواية الثانية ، وقد جرى ذكره في الرواية الأولى – على لسان الرجل – ولم يذكره في الثانية ...
فكأن سيدنا عليّ – بعد ما دار من حوار بينه وبين الرجل – أخذ الرجل وذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له قوله كله فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بما أجاب ونزلت الآية لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلب الرجل ، وإلا فليس في الرواية الثانية تصريح بالسببية كما جاء في الأولى .
وأما ما ذكره الطبري فهو عام تندرج تحته هاتان الروايتان ، إذن بقيت معنا روايتان هما سبب الخلاف ...
الأولى : تفيد أن الآية نزلت في استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب .
__________
(1) 1 ) ... حديث الباب وقد يبق تخريجه .
(2) 2 ) ... لم أقف عليه بلفظه ومعناه عن " علي " سبق تخريجه .
(3) 3 ) ... التفسير الكبير 11 / 214 .
(4) 4 ) ... الطبري 11 / 42 .(4/28)
والثانية : تفيد أنها نزلت في شخص لم يسم كان يستغفر لأبويه وهما مشركان ... فإن كان ما استنتجه الإمام الرازي صحيحاً – وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقي يستغفر لأبي طالب في الوقت الذي كان يجوز للمسلمين فيه أن يستغفروا لآبائهم من المشركين ثم نزل المنع بالآية – إن كان هذا صحيحاً أمكن الجمع بين الروايتين ، وتكون الآية نزلت في الأمرين جميعاً .
ويؤيد هذا أن سورة التوبة مدنية نزلت بعد غزوة تبوك سنة 9 هـ ، وإن كان ما استنتجه غير صحيح فإن ما في الصحيح – وهو قصة أبي طالب – مقدم على غيره بلا خلاف .
والله تعالى أعلم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }(1)
روى الترمذي عن عبد الله بن سلام(2)قال قعدنا نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله تعالى { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
قال المباركفوري :
هذا إنكار على من يعد وعداً ويقول قولا لا يفي به , ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا سواء ترتيب عليه عزم الموعود أم لا .
__________
(1) 1 ) ... سورة الصف : 2 .
(2) 2 ) ... عبد الله بن سلام بن الحارث الإمام الحبر المشهود له بالجنة أبو الحارث الإسرائيلي من خواص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أسلم وقت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتوفي سنة 43 هجرية انظر سير أعلام النبلاء 2 / 413 .
(3) 3 ) ... سنن الترمذي أبواب التفسير ، باب ومن سورة الصف .(4/29)
وذهب الإمام مالك إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود وجب الوفاء به ، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا وحملوا الآية على إنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم . عن ابن عباس قال كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون لوددنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } وهذا اختيار ابن جرير , هذا تلخيص ما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره(1)وهو الظاهر ، وقيل أنزلت في شأن القتال يقول الرجل قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب وصبرت ولم يصبر وقيل غير ذلك(2).
** الدراسة **
وقيل أيضا في أسباب نزول هذه الآية الكريمة إن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه , ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله فولوا يوم أحد فَعَيَّرَهم .
وقيل كان قد آذى المسلمين رجل ونكى(3)فيهم فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال عمر لصهيب : أُخْبِرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنك قتلته ؟ فقال صهيب : إنما قتلته لله ورسوله , فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب : قال - صلى الله عليه وسلم - : كذلك يا أبا يحيى ؟ قال : نعم ، فنزلت في المنتحل(4).
__________
(1) 1 ) ... انظر تفسير ابن كثير 4 / 8 / 49 , 50 .
(2) 2 ) ... تحفة الأحوذي 8 / 299 .
(3) 3 ) ... نكي العدو نكاية أي أصابه منه ، اللسان ( نكي ) .
(4) 4 ) ... ذكره أبو السعود مختصراً 8 / 242 .(4/30)
وقيل أنها نزلت في المنافقين(1), .. وعليه يكون نداؤهم بوصف الإيمان من باب التهكم والسخرية بهم , ونظيره قوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم وقد قيل إن المقصود بها أبو جهل .
ونظير هذه الآية قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ... }(2), وقوله تعالى { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ }(3).
فإن أسباب النزول في الثلاثة متقاربة بل تكاد تكون شيئا واحدا .
__________
(1) 5 ) ... المصدر السابق .
(2) 1 ) ... النساء : 77 .
(3) 2 ) ... محمد : 20 , 21 .(4/31)
أما ما حكاه المباركفوري - رحمه الله - من خلاف في حكم الوفاء بالوعد فلعله يقصد الخلاف في فهم الآية نفسها هل يفهم منها وجوب الوفاء بالعهد أم لا ؟ وإلا فإن الجمهور على أن الوفاء بالوعد واجب لكن ليس بهذه الآية . إنما بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }(1)، وبقوله تعالى { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }(2)، وبقوله تعالى في حق المشركين { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }(3).
وأما ما رجحه من سبب نزول الآية - ونقله عن ابن كثير وابن جرير - فهو الظاهر إن شاء الله لأنه يتناول ما ذكر غيره من أسباب نزول الآية .
والله أعلم
__________
(1) 3 ) ... المائدة : 1 .
(2) 4 ) ... الإسراء : 34 .
(3) 5 ) ... براءة : 3 .(4/32)
القراءات
القراءات جمع قراءة
وهى فى اللغة مصدر سماعى للفعل قرأ ومعناه الجمع والضم .
والقراءة ضم بعض الحروف إلى بعض , وضم بعض الكلمات إلى بعض .,(1)
وفى الاصطلاح
عرفت بتعاريف كثيرة (2)لعل أدقها وأجمعها هو أنها
" مذاهب الناقلين لكتاب الله عز وجل فى كيفية أداء الكلمات القرآنية "(3) .
وإنما اقتصرت على هذا التعريف لأنه يجمع بين كل التعاريف السابقة فى عبارة دقيقة وأسلوب جامع .
موضوعها :
وموضوع هذا العلم هو كلمات القرآن من حيث أحوال النطق بها وكيفية أدائها واستمداده من النقول الصحيحة المتواثره من علماء القراءات الموصولة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
منشأ الاختلاف بين القراء
قال الزركشى : إن حاصل اختلاف القراء يرجع إلى سبعة أوجه
الأول / الاختلاف فى إعراب الكلمة أو فى حركات بنائها بما لا يزيلها عن صورتها فى الكتاب ولا يغير معناها نحو ( البخل ) فى قوله تعالى { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل(5) } قرأ حمزه والكسائى بفتح الباء والخاء والباقون بالضم والسكون .
الثانى / الاختلاف فى إعراب الكلمة فى حركات بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها فى الخط نحو ( ربنا ) فى قوله تعالى { قالوا ربنا باعد بين أسفارنا } (6)
قرأ يعقوب بضم الباء بعدها فعل ماض , والباقون بفتح الباء بعدها فعل أمر .
__________
(1) اللسان مادة قرأ .
(2) هناك تعريف لابن الجزرى فى منجد المقرئين ( 61 ) , وللزركشى فى البرهان تعريف آخر ( 1/318 ) , و للشيخ الزرقانى أيضا تعريف فى المناهل ( 1 / 284 ) .
(3) تعريف الشيخ عبد الحليم قابة فى كتابة القراءات تاريخها ثبوتها حجيتها وأحكامها .
(4) ط دار الغرب الاسلامية ( 25/26 )
(5) سورة النساء 37 .
(6) سورة سبأ 19 .(5/1)
الثالث / الاختلاف فى تبديل حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يغير صورة الخط بها فى رأى العين نحو ( ننشزها ) فى قوله تعالى { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } (1)
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزه والكسائى بالزاي وقرأ الباقون بالراء .
الرابع / الاختلاف فى الكلمة بما يغير صورتها فى الكتابة ولا يغير معناها نحو قوله تعالى { كالعهن المنقوش } (2) وهى قراءة الجمهور , قرأها ابن مسعود { كالصوف المنقوش }
الخامس / الاختلاف فى الكلمة بما يزيل صورتها فى الخط ويزيل معناها نحو قوله تعالى { وطلح منضود } (3)قرأ { وطلع منضود }
السادس / الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو ما روى عن أبى بكر الصديق ( ض) أنه قرأ عند الموت { وجاءت سكرة الحق بالموت } (4)وبهذا قرأ ابن مسعود .
السابع / الاختلاف بالزيادة والنقص فى الحروف والكلمة نحو { وما عملته أيديهم } (5)قرأ ( وما علمت أيديهم } .
قال فى الأول والثانى وهو كثير يقرأ به لما صحت روايته ووافق العربية وقال فى الثالث وهو كثير يقرأ به إذا صح سنده ووجهه لموافقته لصورة الخط فى رأى العين .
وقال فى الرابع والخامس والسادس يقبل إذا صحت روايته ولا يقرأ به لمخالفته خط المصحف ولأنه إنما ثبت عن آحاد .
وقال فى السابع يقبل منه ما لم يحدث حكماً لم يقله أحد ويقرأ منه ما اتفقت عليه المصاحف فى إثباته وحذفه (6).
فوائد الاختلاف فى القراءات
أولاً / قاله الزركشى " أن باختلاف القراءات يظهر الاختلاف فى الأحكام ومَثَّل لذلك بقوله تعالى { أو لامستم النساء } (7)فقد قرئ { أو لمستم النساء } (8)
__________
(1) سورة البقرة 259 .
(2) سورة القارعة 5 .
(3) سورة الواقعة 29 .
(4) سورة ق 19 .
(5) يسن 35 .
(6) البرهان ( 1/334 )
(7) النساء 43 .
(8) قراءة حمزه والكسائى وخلف والأعمش . معجم القراءات د / عبد اللطيف الخطيب 2/80 ط دار سعد الدين .(5/2)
فعلى القراءة الأولى ينقض وضوء اللامس والملموس لأن (لاَمَسَ ) مفاعلة من طرفين وعلى القراءة الثانية ينقض وضوء اللامس فقط ولا شئ على الملموس لأنه لم يقع منه لمس
ثانيا / الدلالة على صيانة كتاب الله عن التبديل والتحريف مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة .
ثالثا / التخفيف عن الأمة وتسهيل القراءة عليها فإن لكل قوم لهجة ولساناً .
رابعاً / بيان ما يحتمل أن يكون مجملاً فى قراءة أخرى كقراءة ( يَطْهُرن )(1) فى قوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } (2)قرئ بالتشديد والتخفيف فمعنى قراءة التخفيف { يَطْهُرن) أنه بمجرد طهر المرأة أى انقطاع دم الحيض عنها يحل لزوجها وطؤها ,
ومعنى قراءة التشديد (يَطْهُرن )(3) أن وطء المرأة لا يحل إلا بتطهرها أى اغتسالها (4).
نشأة علم القراءات
حين جمعت المصاحف فى عهد سيدنا عثمان (ض) لم تكن منقوطة ولا مشكولة .. فكانت صورة الكلمة محتملة لكل ما يمكن من وجوه القراءات المختلفة وإلا كتبت القراءة ( التى لا تحتملها صورة الكلمة ) فى مصحف آخر .
وكان التعويل على الرواية والتلقى هو العمدة فى باب القراءة والقرآن فما كان من سيدنا عثمان (ض) حين بعث المصاحف إلى الآفاق – إلا أن أرسل مع كل مصحف من يوافق قراءته فى الأكثر الأغلب ,
__________
(1) قراءة نافع وأبن عمر , انظر القرطبى .
(2) البقرة 222 .
(3) قراءة حمزه والكسائى – المصدر السابق .
(4) مباحث فى علوم القرآن ( مناع القطان )(5/3)
ثم أن الصحابة (ض ) قد تفرقوا فى الأمصار وقد أخذ كل منهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهاً من وجوه القرآن أو أكثر , وتتلمذ على أيديهم التابعون واخذوا عنهم القرآن كما تلقوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فاختلفت قراءات التابعين للقرآن الكريم – اختلافا – لم يخرج فى مجمله عن الأحرف التى أقرأها لهم الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظل الأمر هكذا حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين الذين وقفوا أنفسهم على القراءات لضبطها والاعتناء بها وبالغوا فى الاجتهاد بقدر الحاصل وميزوا بين الصحيح والباطل وجمعوا الأحرف والقراءات وعزوا الأوجه والروايات وبينوا الصحيح والشاذ والكثير والفاذ بأصول أصلوها وأركان فصلوها ...فصاروا فى ذلك أئمة للاقتداء وأنجما للاهتداء وأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم , ولم يختلف عليهم اثنان فى صحة روايتهم ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم , وكان المعول فيها عليهم (1).
وكان من أئمة هؤلاء القراء سبعة .
__________
(1) شرح طيه النشر فى القراءات العشر ( 1/110 , 111) . ط المطابع الأميرية , تحقيق عبد الفتاح أبو سنة .(5/4)
ابن كثير (1)ونافع (2)وابن عامر (3)وأبو عمرو بن العلاء (4)وعاصم (5)وحمزه (6)والكسائى (7)
وليس فى هؤلاء السبعة من العرب إلا ابن عامر وأبو عمرو .
__________
(1) عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان بن فيروز ابن هرمز الإمام أبو معبد الملكى الزارى أمام أهل مكة فى القراءة وظل كذلك حتى مات سنة 120 هـ . ... غاية النهاية فى طبقات القراء لابن الجزرى ( 1/443 ) .
(2) نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم أبو رويم الليثى أحد القراء السبعة الأعلام , ثقة صالح أصله من أصبهان , كان صبيح الوجه حسن الخلق فيه دعابة مات سنة 169 هـ , طبقات ابن الجزرى ( 1/330)
(3) عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعه بن عامر بن عبد الله بن عمران اليحصبى , أمام أهل الشام فى القراء , والذى انتهت إليه مشيخة الإقراء بها – توفى بدمشق يوم عاشوراء سنة 118 هـ . المصدر السابق ( 1/423)
(4) زبان بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحسن ابن الحارث أبو عمرو التميمى المازنى البصرى , أحد القراء السبعة ولد سنة 68 بمكة , وقرأ بمكة والمدينة والكوفة والبصرة على جماعة كثيرة , وكانت وفاته بالكوفة سنة 154 هـ . المصدر السابق ( 1/288)
(5) عاصم بهدلة أبى النجود أبو بكر الأسدى الكوفى المناط , شيخ الإقراء بالكوفة واحد القراء السبعة , جمع بن الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد , وكان أحسن الناس صوتا بالقرآن توفى آخر سنة 127 هـ . المصدر السابق ( 1/346)
(6) حمزه بن حبيت بن عمارة بن إسماعيل الأمام البر أبو عمارة الكوفى التميمى الزيات , أحد القراء السبعة ولد سنة 80 وأدرك الصحابة بالسن فيحتمل أن يكون رآهم توفى سنة 156 هـ . المصدر السابق ( 1/261 )
(7) على بن حمزة بن عبد الله بهمن بن فيروز الأسدى أبو الحسن الكسائى , انتهت إليه رئاسة الأقراء بالكوفة بعد الأمام حمزة الزيات . توفى سنة 189 هـ , المصدر السابق ( 1/535)(5/5)
وقد كان القراء غيرهم كثيرين ولكن حصل لهؤلاء السبعة من الشهرة مالم يحصل لغيرهم قال مكى(1) والسبب فى اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن عثمان (ض) لما كتب المصاحف ووجهها إلى الأمصار وكان القراء فى العصر الثانى والثالث كثيرى العدد فأراد الناس أن يقتصروا فى العصر الرابع على ما وافق المصحف , فنظروا إلى إمام مشهور بالفقه والأمانة فى النقل وحسن الدين وكمال العلم قد طال عمره واشتهر أمره واجمع أهل مصره على عدالته فأفردوا من كل مصر- وجه إليه عثمان مصحفا- إماما هذه صفة قراءته على مصحف ذلك المصر .. فكان أبو عمرو من أهل البصرة وحمزة وعاصم من أهل الكوفة , والكسائى من أهل العراق وابن كثير من أهل مكة , وابن عامر من أهل الشام ونافع من أهل المدينة كلهم ممن اشتهرت إمامتهم وطال عمرهم فى الاقراء وارتحل الناس إليهم من البلدان(2)
ولا يعنى اشتهار هؤلاء بالاقراء قبول كل ما قرأوا على الإطلاق , كما أنه لا يعنى تضعيف أو رد ما قرأ غيرهم به إذ إن للقراءة الصحيحة أركانا متى توفرت فيها حكم بصحة هذه القراءة وان جاءت عن هؤلاء السبعة , ومتى اختل منها ركن حكم ببطلانها ولو جاءت عن أحدهم , فمدار صحة القراءة على توافر الأركان لاعلى من نسبت إليه .
أركان القراءة الصحيحة .
إن القراءات تتفاوت قبولاً ورداً وإعمالا وإهمالا .. وهذا التفاوت هو الذى يجعلنا نقبل قراءةً ما ونعمل بها فى الوقت الذى نرد فيه قراءة أخرى ولا نقرأ بها والمتمعن فى الأمر يجده راجعا إلى ضوابط اشترطها جمهور القراء فى كل قراءة إذا توفرت قبلت القراءة وحكم بصحتها , وإلا ردت وحكم بشذوذها ...هذه الضوابط هى :
__________
(1) مكى أبى طالب بن حيوشى بن محمد بن مختار أبو محمد القيس القراونى ثم الأندلس القرطبى , أستاذ القراء المجددين ولد سنة 355 هـ بالقيروان وتوفى سنة 437 , المصدر السابق ( 2/309 ).
(2) مناهل العرفان للزرقانى .(5/6)
أولا / موافقة العربية بحيث توافق القراءة وجهاً شائعاً سائغاً فى اللغة العربية سواء أكان هذا الوجه فصيحا أم افصح مجمعا عليه أو مختلفا فيه .
نحو قراءة حمزة ( والأرحام ) من قوله تعالى { واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام } (1)
ثانيا / أن توافق القراءة رسم واحد من المصاحف العثمانية ولو تقديراً .. كما فى قراءة مَلِك يوم الدين " فى سورة الفاتحة .
ثالثا / النقل الصحيح المفيد للقطع , (2)
ولا يشترط – على الأرجح – التواتر فيه لأننا " إذا اشترطنا التواتر فى كل حرف
من أحرف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم " (3)
قلت : ولا يخفى أن وجود التواتر كاف – وحده – فى إثبات صحة القراءة والعمل بها أما الشرطان الآخران فيعدان – مع التواتر – أخذاً بالأحوط .
لأن التواتر إذا ثبت لا يحتاج إلى شروط أخرى , ويجب قبوله والقطع بكونه قرآناً سواء وافق الرسم أم خالفه .
يقول ابن الجزرى رحمه الله " كل قراءة وافقت العربية مطلقاً ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا وتواتر(4) نقلها هذه هى القراءة المتواترة المقطوع بها وما كان كذلك فهى القراءة الصحيحة التى لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هى من الأحرف السبعة التى نزل عليها القرآن "(5)
__________
(1) سورة النساء 1 .
(2) منجد المقرئين ( 91 ) .
(3) النشر ( 1/13) لابن الجزرى ط دار الكتب العلمية .
(4) المقصود بقوله " تواتر نقلها " أى صح لما علمت من كلامه رحمه الله عن شرط التواتر وإلا فلعل ذلك قد كان رأيه فى بداية الأمر ثم رجع عنه . والله أعلم .
(5) منجد المقرئين ( 91 ) لابن الجزرى .(5/7)
يقول الدانى (1)" وأئمة القراء لا تعمل فى شئ من حروف القرآن على الأفشى فى اللغة والأقيس فى العربية بل على الأثبت فى الأثر والأصح فى النقل وإذا ثبتت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشولغة لأن القراءة سنة (2)متبعة يلزم قبولها والمصير إليها "
هل تجوز القراءة بالشاذ
وخلاصة القول فى هذا أن الأمر يختلف إذا كانت القراءة بها فى صلاة أو فى غيرها " فإن كان فى غير الصلاة وقرأها غير معتقد فى قرآنيتها ولا موهم ذلك بل لما فيها من أحكام شرعية عند من يحتج بها أو لما فيها من أحكام أدبية فلا كلام فى جواز قراءتها ولهذا نقلت ودونت فى الكتب ,
وإن قرأها باعتقاد – أو إيهام – قرآنيتها حرم ذلك ,
وإن كان فىالصلاة " فقال الإمام النووى قال أصحابنا وغيرهم : ولا يجوز القراءة فى الصلاة ولا غيرها بالقراءات الشاذة لأنها ليست قرآنا لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر . هذا هو الصواب الذى لا يعدل عنه ومن قال غيره فغلط أو جاهل وأما الشاذة فليست بمتواترة , فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه سواء قرأ بها فى الصلاة أو غيرها وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ (3)
وقال الرازى اتفقوا على أنه لا يجوز فى الصلاة القراءة بالوجوه الشواذ "(4)
ولا منافاة بين كلام النووى وبين وما سبقه لأنه يقصد القراءة بها حال الاعتقاد أو الإيهام بقرآنيتها
أهم المؤلفات فى القراءات
__________
(1) سبقت ترجمته .
(2) المقصود بالسنة هنا الطريقة المتبعة فى القراءة وغلا فإن الفرص فى قراءة القرآن عدم الخروج عن إحدى هذه القراءات الصحيحة , والالتزام بإحداها دون الباقيات سنة يجوز العدول عنها إلى غيرها . والله أعلم
(3) هذا إن كان معتقداً أو موهما قرآنيتها .
(4) مقدمة تفسير البحر المحيط صـ 87 .(5/8)
يقول الشيخ البنا (1)يذكر المؤرخون أن أول من ألف فى هذا الميدان هو الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام(2) حيث ألف كتابة القراءات جمع فيه قراءة خمسة وعشرين قارئاً
كما ذكر بعضهم أن أول من نظم كتاباً فى القراءات السبع هو الحسين بن عثمان بن ثابت البغدادى (3)
وبعد تتبعى لهذا الموضوع فى كتب التاريخ والتراجم وجدت أن هناك من العلماء من سبق هذين العالمين فى التأليف فى القراءات ومن هؤلاء :
الإمام يحى بن يعمر (4)ذكره ابن عطية له كتاب فى القراءات
والإمام أبان بن تغلب الكوفى (5) له كتاب معانى القرآن , كتاب القراءات
__________
(1) أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغنى الدمياطى الشافعى الشهر بالبناء شهاب الدين , ولد بدمياط ونشأ بها ثم ارتحل إلى القاهرة ثم جاور بالمدينة إلى أن مات بها سنة 1117 هـ . س تصانيف : اتحاف البشر , مختصر السيرة الحلبية وغيرهما . هدية العارفين ( 1/167 )
(2) أبو عبيد الخراسانى الأنصارى البغدادى الأمام الكبير الحافظ العلامة أحد الأعلام المجتهدين وصاحب التصانيف فى القراءات والحديث والفقه واللغة والشعر توفى سنة 224 بمكة عن ثلاث وسبعين سنة . ... طبقات القراء لابن الجزرى ( 2/17 )
(3) الحسن بن عثمان بن ثابت البغدادى الضرير مقرئ , قرأ على أبى بكر بن الأبنادى ونظم كتاباً فى القراءات السبع وهو أول من نظمها سنة 378 . المصدر السابق ( 1/243 )
(4) يحى بن يعمر أبو سليمان العدوانى البصرى تابعى جليل عرض القران على ابن عمر وابن عباس . توفى قبل سنة 90 هـ , طبقات ابن الجزرى (2/381 )
(5) أبان بن تغلب الربعى أبو سعد ويقال أو أميمة الكوفى النحوى تابعى جليل , قرأ على عاصم وأبى عمرو الشيبانى والأعمش , توفى سنة 141 هـ المصدر السباق (1 / 4 )(5/9)
والإمام مقاتل بن سليمان (1) وله فى ذلك كتاب القراءات .
والإمام الاخفش الأكبر(2) روى الاصفانى (3)عنه أنه صنف كتبا كثيرة فى القراءات العربية (4)
ويغلب على الظن أن هذه الكتب قد ضاعت ولم تصل إلى عصر الشيخ البنا
وان ما ذكره من كتب وصل إليه – وإن لم يصل إلينا – لذا ذكر ما وصل إليه ولم يذكر غيره ,
ومن أشهر الكتب فى علم القراءات التى وصلت إلينا :
الحجة فى القراءات السبع , مختصر شواذ القرآن , كلاهما لابن خالويه (5)
الحجة فى علل القراءات السبع لأبى على الفارسى (6)
المحتسب فى تبين وجوه شواذ القراءات لابن جنى (7)
__________
(1) مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدى الخراسانى أبو الحسن البلخى صاحب التفسير , اختلف فى عدالته والأكثر يجرحونه توفى سنة 150 هـ , تهذيب الكمال ( 28/ 434 )
(2) شيخ العربية أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد البصرى مولى قيس بن ثلعبه من أهل هجر أول الأخافشة الثلاثة المشهورين , وعن حمل سيبوبه علم النحو ولولا سيبوبه لما اشتهر , سير أعلام النبلاء ( 7/323 )
(3) سبقت ترجمته .
(4) الإتحاف ( 1/ 33 ) وما بعدها ط عالم الكتب .
(5) الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عبد الله النحوى اللغوى صاحب المصنفات , أصله من همذان ثم دخل بغداد وكان له مع المتبنى مناظرات . توفى سنة 370 هـ . البداية والنهاية ( 11/ 297 )
(6) الإمام أبو على الفارسى صاحب الإيضاح والمصنفات الكثيرة ولد ببلده , ثم دخل بغداد وحظى عند عضد الدولة حتى كان يقول أنا غلام أبى على فى النحو , توفى سنة 377 عن بضع وتسعين سنة . البداية والنهاية ( 11/ 306 )(5/10)
حرز الأماني ووجه التهانى نظم فى القراءات السبع للإمام الشاطبى(1) ,
وشرحه لأبى شامه (2), التيسير لأبى عمرو الدانى , تجبير التيسير , تقريب النشر , طيبة النشر كلها فى القراءات العشر لابن الجزرى (3)وغيرها كثير (4)
المباركفورى والقراءات
وقد تتبعت كلام الشيخ رحمه الله فلم أجد له كثير كلام فى ترجيح قراءة على أخرى بقدر ما كان له كلام فى توجيه القراءة لغة وتبين معناها وكلامه – جملة - فى القراءات قليل بالنسبة إلى غيره .
وها هى المواضع التى تكلم فيها فى القراءات أعرضها أولا مجملة ثم أفصل القول فيما تيسر منها وأسأل الله العو
م ... الآية ... السورة ... مجلد ... صفحة
1 ... مالك يوم الدين ... الفاتحة ... 7 ... 346
__________
(1) 10) القاسم بن فيرة بن أبى القاسم أبو محمد الرعينى ثم الشاطبى المقرئ , كان فاضلاً فى النحو والقراءة وعلم التفسير , صالحا صدوقا مجداً , ولد سنة 538 وتوفى سنة 590 بعد أن أضر . ... معجم الأدباء ( إرشاد الأديب إلى معرفة الأديب ) لياقوت الحموى ( 5/ 2216 ) ط. دار الغرب الإسلامي
(2) محمد بن على بن عسكر أبو بكر أبى شامة الحجيرى مقرئ أخذ القراءات عن عبد الهادى خطيب المقياس , وفيه بين وتواضع , وله شعر حسن , ولد بصورة بجامع دمشق توفى سنة 713 . طبقات القراء للذهبى ( 2/ 727 ) ط مؤسسة الرسالة .
(3) الحافظ شمس الدين ابو الخير محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن على بن يوسف المعروف بان الجزرى الشافعى مقرئ المملك الإسلامية ولد بدمشق سنة 751 , وتفقه بها , وبنى داراً للقراء سماها دار القرآن ولما توفى سنة 833 دفن بها . شذرات الذهب ( 7/205 )
(4) أبو الفتح عثمان بن جنى الموصلى النحوى صاحب التصانيف كان أبو مملوكا روميا , وله أشعار حسنه , له تصانيف مقيدة , كانت بالموصل قبل الثلاثمائة وتوفى يوم الجمعة ثامن عشر من صفر ببغداد سنة 392 هـ . شذرات الذهب( 2/141) ط دار الكتب العلمية .(5/11)
2 ... أن النفس بالنفس والعين بالعين ... المائدة ... 7 ... 348
3 ... هل يستطيع ربك ... المائدة ... 7 ... 349
4 ... إنه عمل غير صالح ... هود
5 ... قد بلغت من لدنى عذرا ... الكهف
6 ... وجدها تغرب فى عين حمئة ... الكهف
7 ... غلبت الروم ... الروم
8 ... الله الذى خلقكم من ضعف ... الروم
9 ... فهل من مدكر ... القمر
10 ... فروح وريحان وجنة نعيم ... الواقعة
11 ... والليل إذا يغشى ... الليل
12 ... لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ... البقرة
13 ... إن الله هو الرزاق ... الذاريات
14 ... وترى الناس سكارى ... الحج
15 ... حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ... البقرة
16 ... إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ... النساء
17 ... وكذلك أخذ ربك ... هود
18 ... وكان وراءهم ملك ... الكهف
19 ... أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ... الحج
20 ... أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ... النمل
21 ... فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ... السجدة
22 ... ولكن رسول الله وخاتم النبيين ... الأحزاب
23 ... فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يحجدون ... الأنعام
24 ... حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ... التوبة
25 ... وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ... الواقعة
26 ... فأصدق وأكن من الصالحين ... المنافقون
27 ... وامرأته حمالة الحطب ... المسد
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى(1)
روى الترمذى عن أبى يونس(2) مولى عائشة قال
أمرتنى عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآِذنَّى(3) { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فلما بلغتها آذنتها فأملت على { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين } وقالت سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
قال المباركفورى
(
__________
(1) سورة البقرة 238 .
(3) الإيذان : الإعلام , المعجم الوجيز أذن .
(4) سنن الترمذى أبواب القراءات حديث رقم وقال هذا حديث حسن صحيح , وعند مسلم ك الصلاة ب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر 629(5/12)
وصلاة العصر ) بالواو الفاصلة وهى تدل على أن الوسطى غير العصر لأن العطف يقتضى المغايرة وأجيب بوجوه " أحدها " أن هذه القراءة شاذة ليست بحجة ولا يكون له حكم الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع وإذا لم يثبت قرآنا لا يثبت خبراً قاله النووى(1)
" ثانيها " أن يجعل العطف تفسيريا فيكون الجمع بين الروايات
" وثالثها " أن تكون الواو فيه زائدة ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبى بن كعب أنه كان يقرؤها والصلاة الوسطى صلاة العصر (2)
- الدراسة -
تقدم فى الفصل الأول – فى قوله تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } - " أن مذهب الإمام المباركفورى رحمه الله أن الصلاة الوسطى هى صلاة العصر .
وقد جاءت هذه القراءة ( وصلاة العصر ) فكانت كالأشكال على مذهبه فأخذ يوجهها بما يتناسب مع ما يراه صحيحا فى المسألة
وقد نسب الإمام ابن كثير هذه الرواية إلى السيدة عائشة والسيدة حفصة زوجتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)وحديث نسبتها إلى السيدة عائشة رضى الله عنها .
رواه الأمام مسلم فى صحيحة (4)
وحديث نسبتها إلى السيدة حفصة ذكره الإمام مالك(5) وابن جرير (6)من طرق متعددة قال ابن كثير : وأما إن روى على أنه قرآن فإنه لم يتواتر فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن , ولهذا لم يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه , ولا قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت الحجة بقراءتهم لا من السبعة ولا من غيرهم ,
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووى ( 3 /113 )
(2) تحفة الأجوزى (8/327 )
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 1/3669 ) ط مكتبة الإيمان المنصورة .
(4) ك المساجد باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر حديث رقم 207 .
(5) الموطأ ك صلاة الجماعة باب الصلاة الوسطى .
(6) تفسير الطبرى ( 2/563 )(5/13)
ثم قد روى ما يدل على نسخ هذه التلاوة المذكورة فى هذا الحديث ....
قال مسلم – بإسناده – عن البراء بن عازب (ض) قال نزلت { حافظوا على الصلوات وصلاة العصر } فقرأناها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله ثم نسخها الله عز وجل فأنزل { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فقال له " زاهر "– رجل كان مع (شقيق )(1) أفهى العصر ؟ قال قد حدثتك كيف نزلت وكيف نسخها الله عز وجل(2) .
قال ابن كثير فعلى هذا تكون هذه التلاوة وهى تلاوة الجادة (3)ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناهما إن كانت الواو دالة على المغايرة وإلا فلفظهما فقط والله أعلم
والأمر كما قال ابن كثير رحمه الله أن هذه القراءة إما أن تكون منسوخة لفظا فقط أو لفظا ومعنى . والله أعلم
إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ...(4)
روى الترمذى قال
حدثنا أبو كريب أخبرنا رشد بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عتبة بن حميد عن عبادة بن نسى عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل " أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قرأ : هل تستطيع ربك "
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشد بن سعد وليس إسناده بالقوى ورشد بن سعد وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى يضعفان فى الحديث(5)
قال المباركفورى
قوله ( أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قرأ هل تستطيع ربك ) بالتاء ونصب باء ربك أى هل تستطيع أن تسأل ربك هذه قراءة الكسائى
وقراءة غيره هل يستطيع ربك بالياء ورفع باء ربك (6)
- الدراسة –
__________
(1) شقيق هو الراوى عن البراء واسمه شقيق بن عقبة العبدرى قال ابن كثير لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث .
(2) صحيح مسلم ك المساجد باب الدليل لم قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر حديث رقم 208 .
(3) يقصد الجمهور .
(4) المائدة 112 .
(5) الترمذى أبواب القراءات باب أ جـ رقم ( 3099)
(6) تحفة الأحوذى ( 8/201 )(5/14)
أما قراءة الكسائى فقد قرأ بها علىو معاذ بن جبل وابن عباس والأعمش ومجاهد وابن جبير وعائشة وجماعة من الصحابة والتابعين (1)
وقراءة الجمهور الأخرى
قال ابن خالويه
فالحجة لمن قرأ بالرفع أنه جعل الفعل لله تعالى فرفعه به وهم فى هذا السؤال عالمون أنه يستطيع ذلك فلفظه لفظ الاستفهام ومعناه الطلب والسؤال .
والحجة لمن قرأ بالنصب أنه أراد هل تستطيع سؤال ربك ثم حذف السؤال وأقام ربك مقامه كما قال { واسأل القرية } (2) يريد أهل القرية ومعناه سل ربك أن يفعل بنا ذلك فإنه عليه قادر (3)
وقد رجح الأمام الطبرى قراءة الجمهور معللاً ذلك بقوله
" وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب لما بينا قبل من أن قوله " إذ قال الحواريون "من صلة " وإذ أوحيت"(4) وأن معنى الكلام وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى و برسولى ، إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك .،
فبَيَّنُ إذ كان ذلك كذلك أن الله تعالى ذكره قد كره ما قالوا من ذلك واستعظمه وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قيلهم ذلك ، و الإقرار لله بالقدرة على كل شئ وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار ،
وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاماً منه لما قالوا : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ففى استتابة الله إياهم ، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - عند قيلهم ما قالوا من ذلك واستعظام نبى الله - صلى الله عليه وسلم - كلمتهم ، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة فى ذلك بالياء ورفع الرب ،
إذ كان لا معنى فى قولهم لعيسى لو كانوا قالوا له هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء- أن يستكبر هذا الاستكبار .(5)
__________
(1) الطبرى ( 5/130)
(2) يوسف 82 .
(3) الحجة فى القراءات السبع 135 مؤسسة الرسالة تحقيق د. عبد العال سالم .
(4) المائدة " 111 " .
(5) الطبرى (5/130) دار الكتب العلمية(5/15)
ويؤيد ما قاله الطبرى رحمه الله :
أن قراءة الجمهور لا حذف فيها فيسهل فهمها بخلاف قراءة الكسائى فهى لا تفهم بسهوله والحذف.
الواقع فيها مرفوض لغة .(1)
والله أعلم
وترى الناس سكارى وما هم بسكارى
ولكن عذاب الله شديد(2)
روى الترمذى عن عمران بن حصين
أن النبى - صلى الله عليه وسلم - { قرأ وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } (3)هذا حديث حسن
قال المباركفورى
قوله { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } بضم المهملة وفتح الكاف وهى القراءة المتواترة وقرأ حمزة والكسائى سكرى كعطشى .(4)
الدراسة
القراءتان صحيحتان سعبيتان
أوردهما أبو عمرو الدانى فى التيسير(5) ، وابن مجاهد فى السبعة(6)، وابن خالويه فى الحجة(7) ، وابن زنجلة فى الحجة (8)
قال فى الإتحاف : واختلف فى { سكارى وما هم بسكارى }
فحمزة والكسائى وخلف بفتح السين وإسكان الكاف مع حذف الألف والإمالة وقيل جمع سكر كزمن وزمنى ووافقهم الأعمش .
والباقون بضم السين وفتح الكاف على وزن كسالى فهو جمع سكران أيضاً وقيل اسم جمع(9)
وقال الحافظ ابن كثير { وترى الناس سكارى } وقرئ سكرى أى من شدة الأمر الذى قد صاروا قد دهشت عقولهم وغابت أذهانهم .
فمن رآهم حسب أنهم سكارى (10)
__________
(1) لأن الحذف هنا ألبس المعنى وجعله غامضاً . انظر النحو الوافى (3/157) .
(2) سورة الحج " 2 "
(3) سنن الترمذى أبواب القراءات 9241 .
(4) تحفة الأحوذى (7/358) .
(5) التيسير 156 ط دار الكتاب العربى .
(6) القراءات السبعة 434 ط دار المعارف
(7) الحجة فى القراءات السبع لابن خالويه 252 مؤسسة الرسالة تحقيق د. عبد العال سالم .
(8) الحجة لابن زجلة 472 مؤسسة الرسالة تحقيق سعيد الأفغانى .
(9) أتحاف فضلاء البشر ( 2/270 ، 271 )
(10) تفسير ابن كثير (3/5/240) .(5/16)
وأحسب – والله أعلم – أنه لا فرق بين القراءتين سوى أن قراءة [سكرى] روعى فيها لفظ الناس باعتباره مفرداً وغلب فيه المؤنث فجاءت سكرى وصفاً لمفرده مؤنثه .(1)
وقراءة [سكارى] روعى فيها معنى الناس باعتباره جمعاً وغلب فيه المذكر . والله أعلم .
الله الذى خلقكم من ضعف
ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشبيه
يخلق ما يشاء وهو العليم القدير(2)
روى الترمذى بسنده عن عطية العوفى قال
قرأت على ابن عمر { الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً } فقال { الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعدضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً } ثم قال قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قرأت على فأخذ علىّ كما أخذت عليك (3)
المباركفورى
قوله { خلقكم من ضعف } أى بفتح الضاد المعجمه والمعنى بدأكم وأنشأكم على ضعف , وقيل من ماء ضعيف , وقيل هى إشارة إلى أحوال الإنسان كان جنيناً ثم طفلا مولوداَ ومفطوماً فهذه أحوال غاية الضعف , ( فقال ) أى النبى - صلى الله عليه وسلم - ( من ضعف ) يعنى بالضم , ...
قال البغوى قرئ بضم الضاد وفتحها فالضم لغة قريش والفتح لغة تميم (4), وقال النسفى فتح الضاد عاصم وحمزه وضم غيرهما وهو اختيار حفص وهما لغتان والضم أقوى فى القراءة لما روى عن ابن عمر قال قرأتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضعف فأقرنى من ضعف انتهى (5) .
__________
(1) 10) هذا باعتبار أن كلمة ( سكرى ) مفرد .
(2) سورة الروم 54 .
(3) أبواب القراءات باب 1 حديث 3105 وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق عن طية العرفى عن ابن عمر .
(4) تفسير البغوى المسمى معالم التنزيل وأسرار التأويل ( 3/419 )
(5) تفسير النسفى المسمى مدارك التنزيل وأسرار التأويل ( 3/401 )(5/17)
قوله ( هذا حديث حسن غريب ) وأخرجه أحمد (1) وأبو داود(2)ومدار هذا الحديث على عطية العوفى قال المنذرى لا يحتج بحديثه (3)
- الدراسة -
ما من شك أن فى إحدى القراءتين معنى زائداً على الأخرى .
وإن كانت الكلمتان مشتركتين فى أنهما مصدر للفعل ضعف ومعناه هزل أو مرض وذهبت قوته أو صحته (4)
وأرى أن القراءة بالضم تحتمل هذا المعنى الزائد – والذى ألمح إليه المباركفورى – وإن لم يصرح به وهو أن تكون بالضم جمعا للوصف من الفعل ضعف ولتوضيح ذلك يمكن القول :
إن الله تعالى بين أصل نشأة الإنسان وطريقة خلقه ومراحل تكوينه فقال { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما } ...الآية (5)
ولا شك أن كل مرحلة من مراحل خلق الإنسان ضعيفة عن التى تليها ..
فالنطفة ضعيفة وهى أضعف من العلقة , و العلقة ضعيفة , والمضغة ضعيفة والعظام الناشئة ضعيفة ..
ثم إن الجنين ضعيف , والمولود ضعيف وهكذا تجد أن الضعف صفة مشتركة بين مراحل خلق الانسان ومراحل تطوره
فكان كلمة ضُعف بالضم جمع ضعيف التى اتصفت بها مراحل خلق الإنسان كلها ونظير هذا الجمع : جمع كثير على كثر
قال الشاعر : فقلت كما شاء وشاء لها الهوى ... قتيلك قالت أيهم فهم كثر (6)
وقد فرق الإمام ابن خالويه بين القراءتين من وجه آخر فقال
__________
(1) فى مسند الإمام أحمد بتحقيق شعيب الأرنووط ( 9/185 ) رقم 5227 .
(2) مسند أبو داود ك الحروف والقراءات رقم 3978 , 3979 .
(3) تحفة الأحوزى ( 8/207 )
(4) المعجم الوجيز مادة ضعف .
(5) سورة المؤمنون 12 ,13 , 14 .
(6) البيت لأبى فراس الحمدانى من ديوان / قصيدة أراك عصى الدمع , والبيت من بحر الطويل .(5/18)
فالحجة لمن ضم أنه أراد المصدر والاسم , والحجة لمن فتح أنه أراد الوصف فأقام الصفة مقام الموصوف , والأول أصوب لأن الصفة مفتقرة إلى الموصوف كافتقار الفعل إلى الاسم " (1) والله أعلم
والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى
وما خلق الذكر والأنثى (2)
روى الترمذى عن علقمه (3) قال
قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء فقال أفيكم أحد يقرأ علىّ قراءة عبد الله (4)؟
قال : فأشاروا علىّ . فقلت نعم . قال : كيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية :
{ والليل إذا يغشى ...؟ } قال : قلت / سمعته يقرؤها { والليل إذا يغشى والذكر والأنثى } فقال أبو الدرداء وأنا والله هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرؤها وهؤلاء يريدوننى أن أقرأ وما خلق فلا أتابعهم " (5)
هذا حديث حسن صحيح وهكذا قراءة عبد الله بن مسعود "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى "
قال المباركفورى
قال ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه الشيخان ( وهكذا قراءة عبد الله بن مسعود والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ) قال الحافظ هذه القراءة لم تنقل إلاعن الأعمش ومن ذكر هنا ومن عداهم قرأوا :
{ وما خلق الذكر والأنثى } وعليها استقر الأمر مع قوة إسناد ذلك إلى أبى الدرداء ومن ذكر معه ,
__________
(1) الحجة فى القراءات السبع ( 284 )
(2) سورة الليل
(3) علقمه بن قيس بن عبد الله بن مالك أبو شبل التجمعى الفقيه الكبير , ولد فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - واخذ القرآن عرضا عن ابن مسعود وسمع على من عمر وأبى الدرواء , مات سنة 62 هـ , طبقات ابن الجزرى ( 1/516 )
(4) يعنى عبد الله بن مسعود الصحابى الجليل
(5) وهو عند مسلم ك الصلاة ب ما يتعلق بالقراءات 824 .(5/19)
ولعل هذا مما نسخت تلاوته ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء ومن ذكر معه , والعجيب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة من علقمه وابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة ثم لم يقرأ بها أحد منهم وكذا أهل الشام
نقلوا القراءة عن أبى الدرداء ولم يقرأ أحدهم بهذا ,
فهذا مما يقوى أن التلاوة بها نسخت (1)
- الدراسة -
أما قوله رحمه الله وأخرجه الشيخان
فهو عند البخارى كتاب تفسير القرآن سورة والليل
وعند مسلم ... ... ... (2)
وهذه القراءة ذكرها ابن خالويه فى الشواذ (3) , وابن جنى فى المحتسب (4)ولم يذكرها صاحب الإتحاف
وجاء فى معجم القراءات
( وما خلق ) ... ... وقراءة الجماعة وما خلق
... ... ... وقرأ عبد الله بن مسعود والحسن البصرى " والذى خلق "
... ... ... ولم يذكرها أبو عبيد إلا عن الحسن البصرى , وذكر العكبرى(5) أنه قرئ "ومن خلق "
( الذكر والأنثى ) ... قراءة الجماعة " وما خلق الذكر والأنثى "
... ... ... قال أبو حيان الثابت فى مصاحف الأمصار والمتواتر
... ... ... وقرأ على " وما خلق من ذكر " كذا منكر
... ... ... وقرأ ابن مسعود و علقمة وأبو الدرداء وسمعها من النبى - صلى الله عليه وسلم -
... ... ... و علقمة من أصحاب عبد الله " والليل إذا يغشى والذكر والأنثى "
__________
(1) تحفة الأحوذى ( 8/209 ) .
(2) و أخرجه ابن كثير فى تفسيره وعزاه إلى الإمام أحمد ( 4/2/237) ط مكتبة الإيمان .
(3) مختصر فى شواذ القرآن ( 75) مكتبة المتنبى .
(4) المحتسب ( 2/364) المجلس الأعلى للشئون الإسلامية .
(5) العُكْبرِى بضم العين وفتح الباء عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين العكبرى الأصل البغدادى الأزجى الضرير الحنبلى محب الدين أبو البقاء , ولد ببغداد وقرأ القراءات على ابن عساكر وتوفى ببغداد فى ربيع الآخر سنة 616 هـ من تصانيف إملاءها عن عبد الرحمن من وجوه الأعراب القراءات فى جميع القرآن .انظر شذرات الذهب ( 3/67 )(5/20)
... ... ... كذا بحذف الآية وجر الذكر وهو هنا عطف على الليل (1).
فتوجه قراءة الجمهور " وما خلق الذكر والأنثى " أن تكون ما وفعلها مصدراَ مؤولاً
وقع مجرورا بواو القسم قبله والتقدير
وخلق الذكر والأنثى
وتوجيه قراءة ابن مسعود وأبى الدرداء والذكر والأنثى العطف على الليل ,
والفرق بين القراءتين
أن المقسم به فى قراءة الجمهور هو الخلق ذاته
أما المقسم به فى قراءة ابن مسعود فهو المخلوق " الذكر والأنثى "
ولا شك أن الأمر كما قال المباركفورى رحمه الله أن التلاوة بالثانية نسخت ولعل النسخ لم يبلغ أبا الدرواء رحمه الله
وقد وقع مثل هذا الأمر – أعنى القراءة بالمنسوخ مع عدم العلم بنسخه – فى غير هذه الآية مثل ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحر من فنسخن بخمس معلومات فتوفى رسول ا
لله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن " (2)ولا شك أن هذه الآية أيضا نسخت فى حياة رسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ النسخ بعض أصحابه فكانوا يقرأون بها بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم
__________
(1) معجم القراءات ( 10/463) ط دار سعد الدين .
(2) صحيح مسلم ك الرضاع ب التحريم بخمس رضعات ( 1452 )(5/21)
سبب تسمية الفاتحة أم الكتاب (1)
المباركفورى
وسميت أى الفاتحة بها أى بأم الكتاب لاحتوائها واشتمالها على ما فى القرآن إجمالا أو المراد بالأم الأصل فهى أصل قواعد القرآن ويدور عليها أحكام الإيمان (2)
الدراسة
قال الإمام البخارى فى صحيحه باب ما جاء فى فاتحة الكتاب وسميت أم الكتاب لانه يبدأ بكتابتها فى المصاحف ويبدأ بقراءتها فى الصلاة (3) 0
قال الحافظ هو كلام أبى عبيدة (4) فى أول مجاز القران لكن لفظه : ولسور القرآن أسماء منها أن الحمد لله تسمى أم الكتاب لأنه يبدأ بها فى أول القرآن وتعاد قراءتها فيقرأ بها فى كل ركعة قبل السورة ويقال لها فاتحة الكتاب لانه يفتتح بها فى المصاحف فتكتب قبل الجميع 0
وقال غيره سميت أم الكتاب لأن أم الشىء ابتداؤه وأصله ومنه سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها 0
وقيل سميت أم القرآن لاشتمالها على المعانى التى فى القرآن من الثناء على الله والتعبد بالأمر والنهى والوعد والوعيد وعلى ما فيها من ذكر الذات والصفات والفعل واشتمالها على ذكر المبدأ والمعاد والمعاش (5)
قلت : كل ما قيل فى سبب لتسمية اجتهادات ظنية شكر الله لأصحابها .... لكن لو كان اسم كل سورة موضوعا لها تبعا للموضوعات التى تعالجها ، أو كان تبعا لطائفة تتحدث السورة عنها ، أو كان تبعا للفظ يتكرر فيها ما كان لتسمية الفاتحة بأم الكتاب وجها 0
وليس اشتمال الفاتحة – كما قيل – على ما فى القرآن إجمالا سببا كافيا لتسميتها " أم الكتاب " لأن هناك سورا كثيرة اشتملت على اكثر مما اشتملت عليه الفاتحة بل وتزيد عليها بشىء من التفصيل 0
(1)أصل هذه التسميةحديث رسول الله صلى الله عليه وسلمماأ نزل الله فى التوراة والانجيل مثل أم القرآن وهى السبع المثانى وهى مقسومة بينى وبين عبدىولعبدى ما سأل أخرجه الترمذى فى تفسير سورة الحجر عن أبى هريرة وأبى ابن كعب رقم3331
(2)تحفة الاحوذى(8/179)
((6/1)
3)صحيح البخارى باب ما جاء فى فاتحةالكتاب
(4)سبقت ترجمته (5)فتح البارى(8/6)
يقول ابن العربى : ذكر بعضهم أن فاتحة الكتاب إنما فضلت سائر القرآن بأن فيها معانى القرآن كلها مع قصر آيها وقلة حروفها على أحد وجهى التفضيل اللذين قدمنا ، وإذا سلكنا هذا السبيل وكان محتملا فيمكن أن يقال إن قوله تعالى ( ونهى النفس عن الهوى ) (1) يعدل نصف القران ويمكن أن يقال يعدل القران كله ....... أما إمكان عدله نصف القرآن فلأن
الانكفاف عن العمل الذى لا يقرب من الله هو أحد مطلوبى القرآن والمعنىالثانى الإقبال على العمل الذى يقرب منه ، وإذا كان هكذا فلا يمكن الإقبال على العمل الذى يقرب منه إلا بنهى النفس عن الهوى فى القعود عن النصب فى استعمال الجوارح واتباع النفس هواها فى التخلى عن العبادة (2)
وليس منطقيا أن يقال إنها سميت أم الكتاب لأن ثوابها فى القراءة أعظم من ثواب غيرها فإن سورة الإخلاص – مثلا – تعدل ثلث القرآن ( 3) ، وإذا كان الثواب بكل حرف حسنة (4) فسورة الفاتحة أقل – فى مجموع حروفها – بكثير عن كثير من سور القرآن 0
كما أنها – وان كتبت فى أول المصحف – ليست أول القران نزولا (5) فليس تقديمها فى الكتابة سببا لتسميتها أم الكتاب 0
والأولى – والله اعلم – أن نكل العلم فى سبب التسمية إلى الله سبحانه وتعالى وان نمسك عما أمسك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هى مسالة لا ينبنى عليها كبير عمل فالخوض فيها قد يدخل تحت باب التكلف المنهى عنه فى قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا ....._ وذكر فيما يكره الله_ كثرة السؤال ....) (6)
ومن هذا الباب البحث فى أسباب تسمية باقى السور بأسمائها غير المعللة بنص كتسمية البقرة بسنام القرآن ، ويس بقلب القرآن وغيرها
(
1) النازعات40 (2)عارضة الاحوذى6/4(6/2)
3)لقوله عليه السلام والذى نفسى بيده إنها لتعدل ثلث القران جزء من حديث رواه الإمام البخارى ك الفضائل ب فضل قل هو الله أحد
(4)لقوله صلى الله عليه وسلم من قرا حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف رواه الترمذى أبواب فضائل القرآن باب ما جاء فيمن قرا حرفا من القران ما له من الأجر وقال حسن صحيح
(5)اختلف العلماء فى أول ما نزل من القرآن على أقوال أصحها : انه اقرأ ، الثانى : يا أيها المدثر ، الثالث الفاتحة ، الرابع البسملة وجمهور العلماء على أن الأول اصح – انظر الإتقان 33
(6)مسلم ك الاقضية ب النهى عن كثرة المسائل من غير حاجة حديث رقم ( 1715 )
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم الدخان فى ليلة اصبح يستغفر له سبعون ألف ملك " (1)
هل ترتب هذا الثواب يختص بليلة معينة ؟
قال المباركفورى
قوله ( من قرأ حم الدخان فى ليلة ) أى ليلة كانت ، وقال فى الأزهار (2) : المراد باليلة المبهمة ليلة الجمعة ....، والدليل على ذلك قوله عليه السلام فى هذا الحديث " يستغفر له سبعون ألف ملك " وفى الحديث الثانى " غفر له " (3) والظاهر أن هذا مبين 0
قلت ليس فى قوله " فى ليلة " فى هذا الحديث إبهام حتى يقال أن قوله " فى ليلة الجمعة " – فى الحديث التالى – مبين له فتفكر (4)
الدراسة
قلت لست ادرى بأى وجه من الدلالة استدل صاحب الأزهار – بقوله عليه السلام يستغفر له سبعون ألف ملك - على أن المراد بالليلة المبهمة ليلة الجمعة ولا شك فى قوة ما قاله الإمام المباركفورى من أن الحديث على عمومه ، غير أن الأمر لا يستحق كل هذا الخلاف لان الحديثين ضعيفان فلا يصح شغل الخاطر بهما فضلا عن الخوض فى دلالتهما 0
قال ابن العربى " روى فى الحواميم أحاديث ضعاف – والدخان منها – منها حديث أبى عيسى (5)
((6/3)
1)أورده الترمذى وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمر بن أبى خثعم – أحد الرواه – يضعف قال محمد هو منكر الحديث (2)0
(3)عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ حم الدخان فى ليلة غفر له 0 أورده الترمذى وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام أبو المقدام – أحد رواته – يضعف ، وفى إسناده انقطاع 0 أبواب فضائل القران ( 305 )
(4)التحفة ( 8/198)
(5)عارضة الاحوذى ( 11/18 ، 19 )
هل البسملة من القرآن
عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال إن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهى تبارك الذى بيده الملك (1) 0
قال المباركفورى
وقد استدل بهذا الحديث من قال البسملة ليست من السورة ، وآية تامة منها ، لأن كونها ثلاثين آية إنما يصح على تقدير كونها آية تامة منها ، والحال أنها ثلاثون من غير كونها آية تامة منها ، ( *)
فهى إما ليست بآية منها كمذهب أبى حنيفة والأكثرين ، وإما ليست بآية تامة بل هى جزء من الآية الأولى كرواية فى مذهب الشافعى ( 2)
الدراسة
اختلف العلماء فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال :-
الأول : ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها وهو قول مالك
الثانى : أنها آية من كل سورة وهو قول عبد الله بن المبارك
الثالث : قال الشافعى هى آية من الفاتحة وتردد قوله فى سائر السور فمرة قال هى آية من كل سورة ومرة قال ليست بآية إلا فى الفاتحة وحدها ( 3) 0
ودليل القول الأول – ما رواه مسلم عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدنى عبدى وإذا قال العبد الرحمن الرحيم قال الله تعالى اثنى على عبدى وإذا قال العبد مالك يوم الدين قال مجدنى عبدى ..... فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين
((6/4)
1) سنن الترمذى أبواب فضائل القرآن وقال هذا حديث حسن رقم 3053
(*)قد يشكل فهم هذه العبارة على البعض ، والمعنى – والله اعلم – أن عدة آيات السورة دون البسملة مما يدل على أن البسملة ليست من السورة وليست آية تامة منها وهو استنتاج صحيح فى نصفه الثانى أما النصف الأول فلا دليل عليه إذ قد تكون جزء من الآية الأولى – والله اعلم
(2) تحفة الاحوذى ( 7/310 )
( 3) الجامع لاحكام القران – القرطبى ( 1/108 )
قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل (1)
قال الإمام النووى وهو – أى الحديث – من أوضح ما احتجوا به لأنها سبع آيات بالإجماع فثلاث فى أولها ثناء أولها الحمد لله وثلاث (2) – فى آخرها – دعاء أولها اهدنا الصراط المستقيم والسابعة متوسطة وهى إياك نعبد وإياك نستعين 0
قالوا ولانه سبحانه وتعالى قال قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين فلم يذكر البسملة ولو كانت منها لذكرها (3) 0
وما رواه البخارى ومالك – واللفظ له – عن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها (4) وهذا يدل على أن البسملة ليست آية 0
وما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين (5) 0
ورجح القرطبى هذا القول : لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وانما طريقه التواتر القطعى الذى لا يختلف فيه 0 (6)
قال ابن العربى " ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها والقرآن لا يختلف فيه 0 (7)(6/5)
ودليل القول الثانى – ما رواه البخارى عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبى صلى الله عليه وسلم فقال كانت قراءته مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم (8)
(1)صحيح مسلم ك الصلاة ب وجوب القراءة بالفاتحة فى كل ركعة
(2)قالوا الدليل على أنها ثلاث قوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لعبدى ... وسيأتى الجواب عليه
(3)صحيح مسلم بشرح النووى ( 2/ 289 ) وليس هذا مذهب الإمام النووى فقد أجاب عن الحديث كما سترى
(4)البخارى ك التفسير ب سورة الفاتحة ، ك فضائل القران باب فضل الفاتحة
(5)صحيح مسلم ك الصلاة ب ما يجمع صفة الصلاة ( 498 ) 0
(6)الجامع لاحكام القران ( 1/ 109 )
(7)أحكام القران لأبى بكر بن العربى ( 1/2 ) ط دار الجبل
(8)صحيح البخارى ك فضائل القران باب من القراءة
*و ما رواه مسلم عن أنس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال نزلت علىّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الابتر (1)
*وفى سنن أبى داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم (2) 0
وفى صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة فى أول الفاتحة فى الصلاة وعدها آية (3) ، (4)
وأجاب أصحاب هذا القول عن أدلة القول الأول بما يلى :-
أما الدليل الأول ، فمن الأجوبة عليه أن التنصيف عائد إلى جملة الصلاة لا إلى الفاتحة وهذا حقيقة اللفظ ، أو أن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة ويكون المعنى فإذا انتهى العبد فى قراءته إلى الحمد لله رب العالمين (5) 0(6/6)
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء لعبدى (6) إشارة إلى الآيات فقد أجاب عنه الإمام النووى بقوله " وللأكثرين أن يقولوا المراد هؤلاء الكلمات لا الآيات بدليل رواية مسلم " فهذا لعبدى " 7)
وأما الدليلان الآخران فيحتمل أن المراد بهما ذكر اسم السورة لا بدايتها – والله أعلم – والأقرب إلى الصواب – والله أعلم – أنها من القران لنزولها مع بداية كل سورة ، ولإ يجاب قراءتها فى أول كل سورة (8)
ولاجماع الصحابة على إثباتها فى المصحف بخطه أوائل السور سوى براءة مع المبالغة فى تجريد القرآن من الأعشار وتراجم السور والتعوذ حتى لم تكتب آمين فلو لم تكن البسملة قرآنا لما أجازوا ذلك لانه يحمل على اعتقاده ما ليس بقران قرآنا ....
(1)مسلم ك الصلاة باب حجة من قال البسملة أية من كل سورة حديث (400 )
(2)سنن أبى داود ك الصلاة ب من جهر بها – أى البسلمة – ج 788 صححه الحاكم على شرط الشيخين
(3)ك الصلاة باب ذكر الدليل على أن – بسم الله الرحمن الرحيم – آية 1/248 ط المكتب الإسلامى
(4)روى الدار قطنى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتم الحمد لله رب العالمين فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القران وأم الكتاب والسبع المثانى وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها
(5) ، ( 7) صحيح مسلم بشرح النووى ( 2/289 ، 29 )
(6)عند أبى داود والنسائى
(8)قال الزركشى ولابد من قراءة البسملة أول كل سورة تحرزا من مذهب الشافعى وإلا كان قارئا بعض السور لا جميعها 0 البرهان ( 1/460 )
فان قيل لعلها ثبتت للفصل ( أجيب ) بأنه لو كان الأمر كذلك لثبتت فى أول براءة ولما أثبتت فى أول الفاتحة ،( فان قيل ) القرآن إنما يثبت بالتواتر ( أجيب ) بان إثباتها فى المصحف بخطه من غير نكير فى معنى التواتر ، وأن التواتر قد يثبت عند قوم دون آخرين ،
( فان قلت ) لو كانت قرآنا لكفر جاحدها ( أجيب ) بأنها لو لم تكن قرآنا لكفر مثبتها (1)
((6/7)
1) تفسير القرآن الكريم المسمى بالسراج المنير للخطيب الشربينى (1 /4 ، 5 ) ط دار المعرفة بيروت
فى كم يختم القرآن
روى الترمذى عن عبد الله بن عمرو قال :
قلت يا رسول الله فى كم أختم القرآن ؟ قال اختمه فى شهر ، قلت إنى أطيق أفضل من ذلك ، قال اختمه فى عشرين ، قلت إنى أطيق أفضل من ذلك ، قال اختمه فى عشر ،
قلت إنى أطيق أفضل من ذلك ، قال اختمه فى خمس ، قلت إنى أطيق أفضل من ذلك ، قال فما رخص لى (1
قال المباركفورى
ولو تتبعت تراجم أئمة الحديث لوجدت كثيرا منهم انهم كانوا يقرءون القران فى أقل من ثلاث ، فالظاهر أن هؤلاء الأعلام لم يحملوا النهى عن قراءة القران فى أقل من ثلاث على التحريم والمختار عندى ما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه(2) وغيرهماوالله أعلم (3) 0
الدراسة
قال الحافظ فى الفتح :
وعند أبى داود والترمذى مصححا عن طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير(4) عن عبد الله بن عمرو مرفوعا لا يفقه من قرا القران فى اقل من ثلاث(5) وشاهده عند سعيد بن منصور(6) بإسناد صحيح من وجه أخر عن ابن مسعود : اقرءوا القرآن فى سبع ولا تقرأوه فى أقل من ثلاث
(1) سنن الترمذى ك القراءات باب من ب ما جاء أن القران أنزل على سبعة أحرف وقال هذا حديث حسن صحيح غريب
(2)الإمام الحافظ الفقيه الكبير شيخ أهل المشرق أبو يعقوب التميمى الحنظلى المروزى ويعرف بابن راهويه ولد سنة 161 ، قال احمد لا اعلم لإسحاق نظيرا بالعراق ، وقال النسائى ثقة مأمون أمام ، وقال أبو زرعة ما رئى احفظ من إسحاق وقال أبو حاتم العجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ قال البخارى مات ليلة نصف شعبان سنة 238 طبقات علماء الحديث لأبى عبد الله الدمشقى 2 /85 ط مؤسسة الرسالة
((6/8)
3) تحفة الاحوذى (4) يزيد بن عبد الله بن الشخير العامرى أبو العلاء البصرى روى عن الأحنف بن قيس وعبد الله بن عمرو بن العاصى وغيرهما قال النسائى ثقة وذكره ابن حبان فى الثقات وقال مات سنة إحدى عشرة ومائة تهذيب الكمال فى أسماء الرجال 32/179
(5) هو عند الترمذى فى الباب نفسه (6) سعيد بن منصور أبو عثمان الخرسانى ، سكن مكة ، يروى عن هشيم وخالد ، مات بمكة سنة سبع وعشرين ومائتين وكان ممن جمع وصنف من المتقين الإثبات كتاب الثقات لابن حبان 8 / 268 ط مؤسسة الكتب الثقافية
ولأبى عبيد من طريق الطيب بن سليمان (1) عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن فى أقل من ثلاث(2) وهذا اختيار أحمد وأبى عبيد وإسحاق بن راهويه
قلت :
هذا الرأى الذى ذكره ابن حجر والمباركفورى واختاره الأئمة احمد وابوعبيد وإسحاق بن راهويه هو ما أميل إليه
أما النصوص الواردة عن أئمة الحديث وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا يختمون القرآن فى أقل من ثلاث فليست حجة علينا لمخالفة هذا العمل للقرآن من جهتين ولمخالفته للسنة النبوية ، أما القرآن فقوله تعالى " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا )(3) وقوله تعالى (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) (4) وقوله تعالى ( ولقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر)(5)وقوله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا)(6)
ووجه المخالفة هنا : أن الله سبحانه أنزل هذا القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليدبروا معانيه وذلك لن يتم إلا إذا قرىء بالطريقة التى أمر الله بها ووجه إليها وهى الترتيل(7)(6/9)
ولا شك أن الذى يقرأ القران كله فى ركعة أو فى ليلة أو يختمه مرتين بين المغرب والعشاء لم يكن ملتزما بهذا الأمر والتوجيه فى تلاوة القرآن هذا من جهة 0- ومن جهة أخرى فان الله سبحانه وتعالى لو شاء لأنزل هذا القرآن جملة واحدة – وهذا ما كان يطلبه المشركون الجاهلون – لكنه جلت حكمته أراد أن ينبه المسلمين إلى أن الغرض من إنزال القران ليس مجرد إجرائه على اللسان دون تدبر إنما الغرض منه تدبره وفهم معانيه والعمل به
(1)الطيب بن سليمان – قال عنه ابن حبان فى الثقات يروى عن حاجب بن القعقاع الدرامى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إن هذا الدين عدل فإذا رق رقت العرب 8/ 328 ولم اقف له على ترجمة
(2)لم أقف عليه
(3)الإسراء 106 (4) ص 29
(5) القمر 17 (6) المزمل 4
( 7) الترتيل مرتبة من مراتب قراءة القران الكريم اقله أن يأتى بما يبين قراءته وان كان مستعجلا أكمله أن يتوقف فيها ما لم يخرجه إلى التمديد والتخطيط انظر البرهان ( 1/ 450 )
من هنا كان رد الله على المشركين طلبهم هذا وبيانه الحكمة من إنزال القرآن بهذه الطريقة قال سبحانه " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " (1)
لذا جاء الأثر عن عثمان وابن مسعود وأبى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يتجاوزون العشر آيات من القرآن حتى يعملوا بما فيها .. قالوا فتعلمنا القرآن والعمل جميعا(2) 0
و أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم – لا يفقه من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث (3)
وما روى عن التابعين وغيرهم يتنافى مع هذا الحديث 0
ولا شك أن الالتزام بأدب القرآن والسنة فى تلاوة القرآن هو الأليق بحال المسلم والأليق بالأدب مع القرآن الكريم(6/10)
وقد أورد الحكيم الترمذى فى نوادر الأصول قال : قال رجل يا رسول الله من قرأ القرآن فى سبع ؟ قال ذاك عمل المقربين قالوا يا رسول الله فمن قرأ فى خمس قال ذاك عمل الصديقين قالوا يا رسول الله فمن قرأه فى ثلاث قال ذاك عمل النبيين وذاك الجهد ولا أراكم تطيقون إلا أن تصبروا على مكابدة الليل أو يبدأ أحدكم السورة وهمه فى آخرها قالوا يا رسول الله وفى أقل من ثلاث قال لا ومن وجد منكم نشاطا فليجعله فى حسن تلاوته (4)
(1) سورة الفرقان 32 (2) الجامع لاحكام القران القرطبى ( 1/56)
سبق تخريجه
(4) قال المباركفورى " قال محمد بن نصر فى قيام الليل وخرج صالح بن كيسان إلى الحج فربما ختم القرآن مرتين فى ليلة بين شعبتى رحلة !! وكان منصور بن زادان خفيف القراءة وكان يقرأ القران كله فى صلاة الضحى ، وكان يختم القرآن بين الأولى والعصر ويختم فى يوم مرتين وكان يصلى الليل كله وكان إذا جاء شهر رمضان ختم القرآن بين المغرب والعشاء ختمتين ثم يقرأ الى الطواسين قبل أن تقام الصلاة وكانوا إذ ذاك يؤخرون العشاء بشهر رمضان الى أن يذهب ربع الليل تحفة الاحوذى ( 8/ 273 )0
وفيه أيضا (1):
ومن حرمته ( أى القرآن ) أن يقرأه على تؤده وترسيل(2) وترتيل ، ومن حرمته أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به ، ومن حرمته أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله وأن يقف على آية الوعيد فيستجير من الله منه ، ومن حرمته أن يقف على أمثاله فيمتثلها ومن حرمته أن يلتمس غرائبه ، ومن حرمته أن يؤدى لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما ، وشتان بين من يطلب مبانى القرآن وبين من يطلب معانيه ..
ولست أرى بعد ذلك العرض لحرمة القران إلا أن أقول : إن ما ينسب إلى هؤلاء التابعين من تعلق بالقرآن أشبه بالمعجزات ، إما أن يكون غير صحيح بالكلية أو يكون – إذا كان صحيحا – من باب الكرامات لهؤلاء الرجال ...(6/11)
وليس على الله بمستبعد أن ييسر ذكره بهذا الشكل لمن يشاء من عباده فهو سبحانه فعال لما يريد
( 1) نوادر الأصول من أحاديث الرسول ص 221 ط دار صادر
(2) التؤدة بهمزة ساكنة وتفتح : التأنى والتمهل والرزانة ،
الترسيل فى الكلام التوقر والتفهم والترفق من غير أن يرفع صوته شديدا – اللسان ( وأد ، رسل )
(3) الجامع لاحكام القران ( 1 / 43 )
ما معنى كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القران
روى الترمذى عن أبىّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعجز أحدكم أن يقرأ فى ليلة ثلث القرآن ؟ من قرأ الله الواحد الصمد فقد قرأ ثلث القرآن (1)
قال المباركفورى
حديث أبى أيوب المذكور بلفظ من قرأ قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن صريح فى أن قراءة سورة قل هو الله أحد تعدل قراءة ثلث القرآن ، وكذا حديث أبى الدرداء(2) الذى أشار إليه الترمذى وحديث أبى هريرة الآتى فى هذا الباب يدلان على ذلك (3)
وقوله صلى الله عليه وسلم قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن تحمل على أن قراءتها تعدل ثلث القرآن ويحصل لقارئها ثواب قراءة ثلث القران ، فالروايات بعضها يفسر بعضا هذا ما عندى والله تعالى أعلم
الدراسة
قد ذكر الحافظ ابن حجر الكلام فى هذه المسالة بشىء من التفصيل ثم بين ما يرجحه فقال رحمه الله
حمله بعض العلماء على ظاهره فقال هى ثلث باعتبار معانى القرآن لانه أحكام وأخبار وتوحيد وقد اشتملت هى على القسم الثالث فكانت ثلثا بهذا الاعتبار ويستأنس لهذا بما أخرجه أبوعبيدة من حديث أبى الدرداء قال جزأ النبى صلى الله عليه وسلم القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزء من أجزاء القرآن أ 0 ه
0(1)سنن الترمذى أبواب فضائل القرآن باب ما جاء فى سورة الإخلاص ج رقم 3060
((6/12)
2)هو عويمر بن زيد بن قيس بن عائشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدى بن كعب أبو الدر داء الخزرجى الأنصارى رضى الله عنه صحابى جليل ، تأخر إسلامه وشهد الخندق وكان ممن جمع القران فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ومن الذين أوتوا العلم وهو حكيم هذه الأمة كان يقول انك لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقران وجوها توفى سنة 32 ه انظر الاستيعاب ( 3 / 1226 ) ، الحلقات المضيئات من سلسة أسانيد القراءات – السيد ابن احمد بن عبد الرحمن ( 2 / 402 ) الجمعية الخيرية لتحفيظ القران
(3)عن أبى هريرة رضى الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احشدوا فانى ساقرا عليكم ثلث القران قال فحشد من حشد ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرا هو الله أحد ثم دخل ، فقال بعضنا لبعض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانى ساقرا عليكم ثلث القران انى لارى هذا خبرا جاءه من السماء ثم خرج نبى الله صلى الله عليه وسلم فقال انى ساقرا عليكم ثلث القران الا وانها تعدل ثلث القران
التحفة ( 8 / 207 ، 208 )
ومنهم من حمل المثلية على تحصيل الثواب فقال معنى كونها ثلث القرآن أن ثواب قراءتها يحصل للقارئ مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن وقيل مثله بغير تضعيف ، وهى دعوى بغير دليل ، ويؤيد الإطلاق ما أخرجه مسلم من حديث أبى الدرداء فذكر فيه نحو حديث أبى سعيد الأخير وقال فيه " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن – ولمسلم أيضا – من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احشدوا فانى سأقرأ عليكم ثلث القرآن قال فحشد من حشد ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ قل هو الله أحد ثم قال ألا أنها تعدل ثلث القرآن
وإذا حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك لثلث من القرآن معين أو لأى ثلث فرض منه ؟ فيه نظر ، ويلزم على التالى أن من قرأها ثلاثا كان كمن قرأ ختمة كاملة ، وقيل المراد من عمل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد كان كمن قرا ثلث القران ،(6/13)
وادعى بعضهم أن قوله تعدل ثلث القرآن يختص بصاحب الواقعة لأنه لما رددها فى ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد 0
قال القابسى(1) ولعل الرجل الذى جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها فلذلك استقل عمله فقال له الشارع ذلك ترغيبا له فى عمل الخير وان قل ،
وقال ابن عبد البر من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأى "
ثم قال رحمه الله – ابن حجر – وفى الحديث إثبات فضل قل هو الله أحد ، وقد قال بعض العلماء أنها تضاهى كلمة التوحيد لما اشتملت عليه من الجمل المثبتة والنافية مع زيادة تعليل ،
ومعنى النفى فيها انه الخالق الرازق المعبود لأنه ليس فوقه من يمنعه كالوالد ولا من يساويه فى ذلك كالكفء ولا من يعينه على ذلك كالولد وفيه إلقاء العالم المسائل على أصحابه واستعمال اللفظ فى غير ما يتبادر للفهم ، لأن المتبادر من إطلاق ثلث القرآن أن المراد ثلث حجمه المكتوب مثلا وقد ظهر أن ذلك غير مراد (2)
أقول الكل متفق على أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، واختلفوا فى حقيقة ذلك فمنهم من قال تعدل ثلث حجمه ومن قال تعدل ثلث ثوابه ، والثانى اظهر لتوافر الأدلة على ذلك والله أعلم 0
(1)أبو الحسن على بن خلف المعروف بابن القابس كان إماما فى علم الحديث وأسانيده ومتونه وجميع ما يتعلق به ، ولد يوم الاثنين 6 رجب سنة 324 وتوفى سنة 403 ه انظر وفيات الأعيان ( 3/ 320 )
(2)فتح البارى ( 8 / 677 ، 678 )
شفاعة القرآن لصاحبه حقيقة أم مجاز
روى الترمذى عن النواس بن سمعان(1) عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( يأتى القران وأهله الذين يعملون به فى الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران قال نواس وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : يأتيان كأنهما غيامتان وبينهما شرق أو كأنهما غمامتان سوداوان أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما(6/14)
قال الترمذى هذا حديث حسن غريب ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم أنه يجىء ثواب قراءته وفى حديث نواس بن سمعان دلالة على أنه يجىء ثواب العمل (2)
قال المباركفورى
وظاهر الحديث انهما يتجسمان حتى يكونا كأحد هذه الثلاثة التى شبها بها صلى الله عليه وسلم ثم يقدرهما الله سبحانه وتعالى على النطق بالحجة وذلك غير مستبعد عن قدرة القادرالقوى الذى يقول للشىء كن فيكون
ففى هذا دلالة على انه يجىء ثواب العمل فى هذه الدلالة خفاء كما لا يخفى(3)
الدراسة
أثبتت أحاديث كثيرة صحيحة صحيحة شفاعة القرآن لأهله من هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند آخر آية تقرؤها(4) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم أن سورة فى القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها فأنجته من عذاب القبر تبارك الذى بيده الملك(5) وغير ذلك كثير 0
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين فيما ورد عنه كيفية حصول هذه الشفاعة فان الذى ينبغى التسليم به هو حصول الشفاعة أما كيفية ذلك فلا داعى أن نتعب أنفسنا فى البحث فيه فالأمر كما قال المباركفورى رحمه الله داخل فى نطاق قدرة القادر القوى الذى يقول للشىء كن فيكون ولنشغل أنفسنا بكيفية الوصول إليها ونسأل الله العون 0
(1) النواس بن سمعان بن خالد بن عبد الله بن أبى بكر بن كلاب بن ربيعه الكلاف ، صحابى جليل معرف فى الشاميين روى عن جبي بن نفير ونفير بن عبد الله وجماعة انظر الاستيعاب ( 4/ 1534 )
(2)سنن الترمذى ك فضائل القرآن باب ما جاء فى سورة آل عمران
(3)تحفة الاحوذى ( 7 / 304 )
(4)سنن الترمذى ك فضائل القرآن باب 18 حديث 2914 وقال حديث حسن صحيح (5)سبق تخريج
هل لفظة( قل) من القران(6/15)
روى الترمذى عن عقبة بن عامر الجهنى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " قد انزل الله على آيات لم ير مثلهن قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة وقل أعوذ برب الفلق إلى آخر السورة " (1)
المباركفورى
قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة خبر مبتدأ أى هو قل أعوذ برب الناس الخ وفى الحديث بيان عظم فضل هاتين السورتين وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن وفيه أن لفظة قل من القرآن ثابتة من أول السورتين بعد البسملة وقد اجتمعت الأمة على هذا كله (2)
الدراسة
أما قوله رحمه الله ( قل أعوذ برب الناس خبر مبتدأ) فهو صحيح ويجوز أن يكون بدلا من آيات أو مبتدأ خبره محذوف أى منها قل أعوذ برب .............. الخ ،
وأما قوله( فيه دليل واضح على كونها من القرآن) فلعله يقصد به الرد على من قال إن هاتين السورتين ليستا من القرآن لأن ابن مسعود رضى الله عنه لم يثبتهما فى مصحفه (3)
وأما قوله :( وفيه أن لفظة قل من القرآن ثابتة من أول السورتين بعد البسملة وقد اجتمعت الأمة على هذا كله) فهو صحيح أيضا ،
وانما أوردت هذا الكلام للنظر فيما ورد من قراءات فى سورة قل هو الله أحد لا وجود للفظة (قل) فيها ..
جاء فى معجم القراءات : قرأ الجمهور قل هو الله أحد، وقرأ عبد الله بن مسعود وأبى بن كعب ( هو الله أحد ) بغير قل، وقرأ النبى صلى الله عليه وسلم - وهى عن ابن مسعود وأبى بن كعب- ( الله أحد ) بغير ( قل وهو) .. ، قال النبى صلى الله عليه وسلم من قرأ الله أحد فانه يعدل القرآن كله "
وروى عن الأعمش وابن مسعود الله الواحد (4)
(1)رواه الترمذى وقال هذا حديث حسن صحيح
(2)تحفة الاحوذى ( 7/321 )
(3)عرض هذا القول الشيخ مناع القطان فى كتابه مباحث فى علوم القرآن واجاب عنه بما يشفى الصدر – فارجع اليه – ص 131 ط مكتبة وهبة 0
(4)معجم القراءات القرءانية ( 10/648 ) 0
قال الإمام الرازى(6/16)
اعلم أنهم أجمعوا أنه لابد فى سورة ( قل يا أيها الكافرون ) من ( قل ) وأجمعوا على أنه لا يجوز لفظ قل فى سورة ( تبت ) وأما فى هذه السورة فقد اختلفوا فالقراءة المشهورة ( قل هو الله )
وقرأ أبى وابن مسعود بغير ( قل ) هكذا : الله أحد الله الصمد
فمن أثبت ( قل ) قال السبب فيه بيان أن اللفظ ليس فى مقدوره بل يحكى كل ما يقال له ، ومن حذفه قال لئلا يتوهم أن ذلك ما كان معلوما للنبى صلى الله عليه وسلم (1) (2)
وقد رجعت إلى كتاب المحتسب لابن جنى فى هذه السورة فلم أجده قد ذكر شيئا ، إذ قال تحت عنوان سورة الإخلاص : لا شىء فيها (3) - فرجعت إلى ابن خالويه فى المختصر فوجدته قد ذكرها جميعا وعدها من القراءات الشاذة (4)
ثم وجدت لابن حجر كلاما طيبا فى توجيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور حيث قال فى شرحه حديث أبى سعيد الخدرى فى فضل قل هو الله أحد – قوله – " فقال الله الواحد الصمد ثلث القرآن عند الإسماعيلى من رواية أبى خالد الأحمر عن الأعمش " فقال يقرأ قل هو الله أحد فهى ثلث القرآن فكأن رواية الباب بالمعنى وقد وقع فى حديث ابن مسعود المذكور نظير ذلك
ويحتمل ان يكون سمى السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الصفتين المذكورتين آو يكون بعض رواته كان يقرأها كذلك فقد جاء عن عمر أنه كان يقرأ الله أحد الله الصمد بغير قل فى أولها " (5)
ولعل مما يقطع القول ويحسم النزاع فى هذه المسالة أن هذه القراءة – على فرض صحتها – قراءة آحاد ومخالفة لخط المصحف ..... وما كان هذا شأنه فهو يقبل ولكن لا يقرأ به كما قال الإمام السيوطى وذلك لامرين :
أ- مخالفته لما لأجمع عليه (ب) وأنه لم يؤخذ بإجماع بل بخبر الآحاد ولم يثبت به قرآن ولا يكفر جاحده ولبئس ما صنع إذ جحده (6 )
((6/17)
1 ) الأظهر أن ما فى قوله ما كان معلوما نافية والمعنى : أن من قرا بحذف قل أو بحذف قل هو أراد أن يثبت نسب’ هذه القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم
(2) تفسير الرازى ( 16/32 /178 )
(3) المحتسب لابن حنى ( 2 / 445 ) دار الكتب العلمية 0
(4)مختصر فى شواذ القرآن ( 183 ) مكتبة المتنبى القاهرة ، وانظر أيضا شواذ القراءات للكريانى مخطوط ص 272 0 مكتبة كلية القران الكريم بطنطا 0
(5)فتح البارى بشرح صحيح البخارى ( 8 /678 )
(6)الإتقان 262
بين يدى المكى والمدنى
نظرة العلماء إليه :-
قال الزركشى : اعلم أن للناس فى ذلك اصطلاحات ثلاثة :-
أحدها أن المكى ما نزل بمكة والمدنى ما نزل المدينة
والثانى – وهو المشهور – أن المكى ما نزل قبل الهجرة وان كان بالمدينة ، والمدنى ما نزل بعد الهجرة وان كان بمكة
والثالث أن المكى ما وقع خطابا لأهل مكة والمدنى ما وقع خطابا لأهل المدينة (1) (2)
وقوله رحمه الله فى الاصطلاح الثانى وهو المشهور أى وهو الصحيح لان التعريفين الأخيرين – الأول والثالث – غير جامعين
أما الأول فلأن هناك آيات نزلت فى غير مكة والمدينة كالآيات التى نزلت فى الطائف ، وفى الغار ، ، وفى بعض أسفاره صلى الله عليه وسلم فكيف تصنف هذه الآيات بناءا على هذا التعريف ؟ !
وأما الثالث ففيه أن القرآن الكريم ليس كله خطابا ، ففيه القصص مثلا ، على أن ما فيه من خطاب ليس متوجها لأهل مكة أو لأهل المدينة وحدهم ففيه – مثلا – أيها المزمل وغيرها فكيف يصنف القصص ونحوه بناءا على هذا التعريف ؟
لذا فان التعريف الثانى هو اصدق التعريفات لضبط المكى والمدنى فهو تعريف جامع مانع روعى فيه زمان النزول وهو أولى من رعاية المكان لان معرفة التدرج فى التشريع ومعرفة الناسخ والمنسوخ وغير ذلك من الفوائد متوقفة على معرفة المتقدم
(1)لعله يقصد بأهل مكة و أهل المدينة الكفار والمسلمين باعتبار الغالب
(2)البرهان ( 1 / 187 )(6/18)
طريق العلم بالمكى والمدنى
قال الجعبرى (1) لمعرفة المكى والمدنى طريقان سماعى وقياسى .. فالسماعى ما وصل إلينا نزوله بأحدهما (2)
والقياسى ماعدا ذلك وهو يعنى أن نقيس ما لم يصل إلينا فيه نص على ما وصل إلينا فيه نص أنه مكى أو مدنى ثم نحكم عليه بأنه إما مكى أو مدنى
والسور القرآنية – وكذا الآيات – التى جاء الخبر أنها مكية لها خصائص معلومة وضوابط محددة ، وكذا السور والآيات التى جاء الخبر أنها مدنية لها خصائص تغاير خصائص السور والآيات المكية
فمن خصائص السور المكية القطعية :-
أولا : أن كل سورة فيها سجدة فهى مكية (3)
ثانيا : أن كل سورة فيها كلا فهى مكية – ولم ترد إلا فى النصف الأخير من القرآن الكريم –
ثالثا : كل سورة فيها يا أيها الناس وليس فيها يا أيها الذين آمنوا فهى مكية وفى الحج اختلاف
رابعا كل ما كان فيه ذكر القرون الماضية فهى مكية
خامسا : كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهى مكية سوى البقرة
سادسا كل سورة فيها حروف المعجم (4) فهي مكية إلا البقرة وآل عمران وفى الرعد خلاف (5)
وهذه الخصائص الست أمارات لا تكاد تتخلف فى القرآن المكى
وهناك أمارات غالبة يكثر امتياز القسم المكى بها منها :
أولا قصر الآيات والسور وإيجازها وحرارة التعبير وتجانسها الصوتى
ثانيا : الدعوة إلى أصول الإيمان بالله واليوم الآخر وتصوير الجنة والنار 0
ثالثا : الدعوة إلى التمسك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير
رابعا : مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم
خامسا : كثرة القسم جريا على أساليب العرب 0 (6)
((6/19)
1) إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبرى الخليلى الشافعى محقق حاذق ثقة كبير ويقال له ابن السراج واشتهر بالجعبرى سكن دمشق مدة ثم ولى مشيخة الخليل إلى أن مات بها من مؤلفاته كنز المعانى فى شرح حرز الأمانى ، نزهة البررة فى القراءات العشر ، مختصر أسباب النزول للواحدى وغير ذلك ولد سنة 640 وتوفى فى ثالث عشر من رمضان سنة 732 طبقات القراء للجزرى (1/21 )
(2) الإتقان (25 ) (3) الإتقان (13)
(4) أى الحروف المقطعة (5) البرهان للزركشى (1/ 188 )
(6) مباحث فى علوم القرآن – د / الصالح 183
و أما السور المدنية فمن خصائصها القطعية :-
أولا : أن كل سورة فيها إذن بالجهاد أو ذكر له وبيان لاحكامه فهى مدنية (1)
ثانيا : كل سورة فيها ذكر المنافقين فمدنية سوى العنكبوت (2)
ثالثا: مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى عدم الغلو و فى دينهم (3)
وهناك امارات غالبة يرجح امتياز القسم المدنى بها منها :
أولا / طول اكثر سوره وبعض آياته وإطنابها
ثانيا / الأسلوب التشريعى الهادئ
ثالثا/ تفصيل البراهين والأدلة على الحقائق الدينية (4)
عد السور المكية والمدنية
قال أبو الحسن بن الحصار(5) فى كتابه الناسخ والمنسوخ : المدنى باتفاق عشرون سورة والمختلف فيها اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكى باتفاق ثم نظم فى ذلك آيات فقال
يا سائلى عن كتاب الله مجتهدا وعن ترتب ما يتلى من السور
وكيف جاء بها المختار من مضر صلى الله على المختار من مضر
وما تقدم منها قبل هجرته وما تأخر فى بدو وفى حضر(6)
ليعلم النسخ والتخصيص مجتهد يؤيد الحكم بالتاريخ والنظر(7)
تعارض النقل فى أم الكتاب وقد تؤولت الحجر تنبيها لمعتبر
أم القرآن وفى أم القرى نزلت ما كان للخمس قبل الحمد من اثر(8)
(1) السابق
(2) البرهان (1/188 ) (3) المصدر السابق
(4) مباحث فى علوم القران د/ الصالح 183
المصدر السابق 184
((6/20)
5) على بن محمد بن إبراهيم الخزرجى الفاسى ويعرف الحصار ( أبو الحسن ) عالم شارك فى بعض العلوم ولد بفاس وسكن سبته وتوفى فى شعبان سنة 611 ه من آثاره اليبان فى تنقيح البرهان ، المدارك فى وصل مقطوع حديث مالك ، أرجوزه فى أصول الدين 0
معجم المؤلفين 7/228 ط 0 مكت
(6)
(7)
(8)
وبعد هجرة خير الناس قد نزلت عشرون من سور القرآن فى عشر
فأربع من طوال السبع(4) أولها وخامس الخمس فى الأنفال ذى العبر
وتوبة الله (5) إن عدت فسادسة وسورة النور والأحزاب ذى الذكر
وسورة لنبى الله محكمة (6) والفتح والحجرات الغر فى غرر
ثم الحديد ويتلوها مجادلة والحشر ثم امتحان الله للبشر (7)
وسورة فضح الله النفاق بها وسورة الجمع تذكار لمدكر (8)
وللطلاق وللتحريم حكمهما والنصر والفتح تنبيها على العمر (9)
هذا الذى اتفقت فيه الرواة له وقد تعارضت الأخبار فى أخر
فالرعد مختلف فيها متى نزلت وأكثر الناس قالوا الرعد كالقمر
ومثلها سورة الرحمن شاهدها مما تضمن قول الجن فى الخبر
وسورة للحواريين (10 ) قد علمت ثم التغابن والتطفيف ذو النذر
وليلة القدر قد خصت بملتنا ولم يكن بعدها الزلزال فاعتبر
وقل هو الله من أوصاف خالقنا وعوذتان ترد البأس بالقدر
وذا الذى اختلفت فيه الرواة له وربما استثنيت آى من السور
وما سوى ذاك مكى تنزله فلا تكن من خلاف الناس فى حصر
فليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر
فوائد العلم المكى والمدنى :-
وللعلم بالمكى والمدنى فوائد أهمها
أ- الاستعانة به فى تفسير القرآن ... فيستطيع المفسر – فى ضوء معرفة المكى والمدنى – عند تعارض المعنى بين آيتين أن يميز بين الناسخ والمنسوخ فإن المتأخر يكون ناسخاً للمتقدم (1)(6/21)
ب- تذوق أساليب القرآن والاستفادة منها فى أسلوب الدعوة إلى الله .. فإن لكل مقام مقالاً ومراعاة مقتضى الحال من أخص معانى البلاغة ... وخصائص أسلوب المكى فى القرآن والمدنى منه تعطى الدارس منهجا لطرائق الخطاب فى الدعوة إلى الله بما يلائم نفس المخاطب ويمتلك عليه لبه ومشاعره , فلكل مرحلة دعوية أسلوب خاص ولكل بيئة من الناس موضوعاتها وطرائق خاصة للدخول إليها ... وكل هذا يبدو جليا فى أساليب القرآن المختلفة فى مخاطبة كافة الفئات .
ج- الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية ..فإن تتابع الوحى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساير تاريخ الدعوة بأحداثها فى العهد المكى والعهد المدنى منذ بدأ الوحى حتى آخر آية نزلت , والقرآن الكريم هو المرجع الأصيل لهذه السيرة الذى لا يدع مجالاً للشك فيما روى عن أهل السير موافقاً له ويقطع دابر الخلاف عند اختلاف الروايات (1)
د- ومن فوائده معرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام ... وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية فى تربية الشعوب والأفراد
ه- ومن فوائده أيضا الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالماً من التغيير والتحريف ...ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتنقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر إلى غير ذلك ...فلا يعقل بعد هذا أن يتركوا أحدا يعبث به وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به أو يحتف بنزوله إلى هذا الحد .(2)
أشهر المؤلفات فى هذا العلم
__________
(1) مباحث فى علوم القرآن – الشيخ مناع القطان ( 55, 56 ) مكتبة وهبه .
(2) مناهل العرفان فى علوم القرآن – الشيخ الزرقانى ( 1/137 ) دار الفكر .
(3)مباحث فى علوم القرآن(6/22)
أفرده بالتصنيف جماعة منهم مكى (1) والعز الديرينى (2) (3)
المباركفورى والمكى والمدنى
الناظر فى اختيارات المباركفورى لمكية السورة ومدنيتها – وكذا الآيات – بجده يعتمد تارة على قوله الجمهور , وتارة أخرى يعتمد فى رأيه على ما يراه هو حسب ما عنده من أدلة وإن خالف بذلك مذهب الجمهور ..
وهناك عرض إجمالى لاختبارات المباركفورى فى المكى والمدنى مع دراسة لبعض هذه الأقوال :
م ... السورة ... قول المباركفورى ... الجزء ... الصفحة
الفاتحة ... هى مكية فى قول الأكثر , وقيل مدنية , وقيل نزلت مرتين مرة ... 8 ... 283
بمكة ومرة بالمدينة والأول أشبه .
الرعد ... مكية إلا ولا يزال الذين كفروا ....الآية ويقول الذين كفرو الست مرسلاً أو مدينة إلا ولو أن قرآنا ... الآيتين " ... 8
الحج ... مكية إلا ومن الناس من يعبد الله على حرف الآتين أو إلا هذان خصمان ... الست آيات فمدنيات . ... 9
الفرقان ... مكية إلا والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى رحيما فمدنى ... 9
القصص ... مكية إلا " أن الذى فرض " الآية نزلت بالحجفة وإلا " الذين آتيناهم الكتاب " إلى " لا نبتغى الجاهلين " ... 9
__________
(1) الإمام مكى بن أبى طالب بن حيوس بن محمد بن مختار أبو محمد القيسى القيروانى ثم الأندلسي القرطبى أستاذ القراء المجودين ولد سنة 355 بالقيروان , سافر إلى مصر وهو ابن ثلاث عشرة سنة , كان خيرا متدينا مشهوراً بالصلاح وإجابة الدعوة من مؤلفاته : التبصرة فى القراءات ومشكل إعراب القرآن وغيرهما توفى ثانى المحرم سنة 437 . طبقات القراء لابن الجزرى ( 2/ 309 )
(2) الديرينى عبد العزيز أحمد بن سعيد بن عبد الله الريدى الدهرى الشافعى المعروف بالديرينى عز الدين مفسر فقيه متكلم مؤرخ واعظ أديب من تصانيفه المصباح المنير فى علم التفسير , طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب وغيرها ولد سنة 612 هـ . شذرات الذهب ( 5/450 ) , معجم المؤلفين ( 5/241 )
(3) الإتقان ( 11 )(6/23)
الشعراء ... مكية إلا الشعراء يتبعهم ....إلى آخر السورة ... 9
لقمان ... مكية إلا ولو أنما فى الأرض الآتيان ... 9
سبأ ... مكية إلا ويرى الذين أوتوا العلم ..الآية ... 9
الزمر ... مكية إلا قل يا عبادى الذين أسرفوا الآية ... 9
غافر ... مكية إلا الذين يجادلون فى آيات الله والتى بعدها ... 9
م ... السورة ... قول المباركفورى ... الجزء ... الصفحة
الدخان ... مكية , وقيل إلا أن كاشفوا العذاب الآية ... 9
الأحقاف ... مكية إلا قل أرأيتم أن كان من عند الله الآية وإلا فاصبر كما
صبر أولوا العزم من الرسل وإلا ووصينا الإنسان بوالديه الثلاث آيات
ق ... مكية إلا ولقد خلقنا السماوات والأرض الآية
القمر ... مكية إلا سيهزم الجمع الآية ... 9
الرحمن ... مكية إلا يسأله من فى السماوات والأرض الآية
الواقعة ... مكية إلا أفهذا الحديث الآية , قلة من الأولين الآية
سورة الفاتحة
قال المباركفورى
مكية فى قول الأكثر , قيل مدينة , وقيل نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة قال ابن كثير والأول أشبه (1)
- الدارسة -
ممن قال بمكية هذه السورة – الإمام القرطبى والواحدى وابن كثير وغيرهم ومن أدلتهم :
1- أخرج الواحدى عن على ( رضى الله عنه) قال " نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش " (2)
__________
(1) التحفة ( 7/375)
(2) أسباب النزول ( 11) ط دار الكتب العلمية .(6/24)
2- واخرج ابن أبى شبيه(1) والبيقهى من حديث عمرو بن شرحبيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحى فذهبت به إلى ورقة فأخبره فقال له إذا خلوت وحدى سمعت نداء خلفى يا محمد يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً فى الأرض فقال لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرنى فلما خلا ناداه : يا محمد قل " بسم الله الرحمن الرحيم " حتى بلغ " ولا الضالين " ...الحديث (2)
3- وأخرج أبو نعيم(3) فى الدلائل عن رجل من بنى سلمة قال لما أسلمت فتيان بنى سلمة وأسلم ولد عمرو بن الجموح قالت امرأة عمرو له هل لك أن تسمع من ابنك ما روى عنه فسأله فقرأ عليه : الحمد لله رب العالمين (4). , ومن المعلوم أن معاذ بن عمرو بن الجموح كان ممن بايع بيعة العقبة وذلك قبل الهجرة
4- وأخرج أبو بكر بن الانبارى (5)فى المصاحف عن عبادة قال فاتحة الكتاب نزلت بمكة (6)
__________
(1) أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبى شيبه بن إبراهيم بن عثمان العبسى الكوفى صاحب التصانيف الكبار توفى فى المحرم سنة 235 ولد بضع وسبعون سنة , كان ثقة عديم النظير , وإليه انتهى علم الحديث . شذرات الذهب ( 2/84)
(2) رواه البيهقى فى الدلائل باب أول سورة نزلت من القرآن 2/158 وقال ابن كثير وهو مرسل روضة غرابة .
(3) أحمد بن عبد بن أحمد الحافظ أبو نعيم الأصفانى الصوفى الأصول الشافعى , تفرد بعلو الإسناد مع الحفظ والاستبحار من الحديث وفنونه توفى سنة 430 وله أربع وتسعون سنة . شذرات الذهب ( 3/245)
(5) الإمام العلامة أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار النحوى اللغوى صاحب المصنفات , كان يحفظ ثلاثمائة ألف بين شاهد القرآن , وكان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا بأسانيدها توفى سنة 328 هـ , شذرات الذهب ( 2/315)
(6) لم أقف عليه الكتاب .(6/25)
5- قوله تعالى " ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم(1) والحجر مكية بإجماع
6- لاخلاف أن فرض الصلاة كان بمكة وما حفظ أنه كان بالإسلام قط صلاة بغير الحمد لله رب العالمين(2)
7- أخرج الواحدى عن ابن عباس قال " قام النبى - صلى الله عليه وسلم - بمكة فقال بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين فقالت قريش رض (3)الله فاك " (4)
وممن قال بمدينتها أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهرى (5)وعبيد بن عمير (6)ومن أدلتهم
1- أخرج ابن أبى شبية فى المصنف والطبرانى فى الأوسط من طريق مجاهد عن أبى هريرة رنَّ (7) إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب وأنزلت بالمدينة (8)
2- وأخرج ابن أبى شبيه , وأبو نعيم فى الحلية وغيرهم من طرق عن مجاهد قال " نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة "(9)
وحكى عن ابن عباس القولان (10)
وقيل أنها نزلت مرتين .. مرة بمكة ومرة بالمدينة جمعا بين الروايات (11)
*قلت
ما اختاره جمهور المفسرين وأقره المباركفورى هو الصحيح إن شاء الله تعالى لكثرة الأدلة وقوتها
__________
(1) سورة الحجر 78
(2) 10) انظر القرطبى ( 1/132) دار الحديث .
(3) أصل الرض : الكسر .
(4) أسباب النزول ( 11) ط دار الكتب العلمية .
(5) نسبة إليهم فى القرطبى ( 1/132 )
(6) نسبة إليه أبو الفرج الجوزى – زاد المسير ( 11/10) المكتب الإسلامية
(7) الزنة : الصحيحة الحزينة , الصياح عند البكاء . اللسان ( رنن)
(8) قال فى مجمع الزوائد : شيبه المدفوع ورجاله رجال الصحيح ( 6/311 ) ط دار الكتاب العربى .
(9) عند ابن أبى شيبه فى المصنف ك فضائل القرآن ( 10/522) ب ما نزل القرآن بمكة والمدينة , ولم أقف عليه لأبى نعيم .
(10) انظر زاد المسير ( 1/10)
(11) فتح القدير – الشوكانى ( 1/61) تحقيق د . عبد الرحمن عميرة .(6/26)
أما قول مجاهد (رضى الله عنه ) إنها نزلت بالمدينة فهو قول موقوف عليه , ولا يعارض ما ثبت عن الصحابة الكرام , ولعله من هفوة العالم ... قال الحسين بن الفضل(1)لكل عالم هفوة وهذه باردة من مجاهد لأنه تفرد بهذا القول والعلماء على خلافه
وأما قول أبى هريرة (رضى الله عنه) إنها نزلت بالمدينة فإن قوله هذا إن صح عنه -ومعلوم أن أبا هريرة لم يسلم إلا فى عام خيبر سنة 7 هـ -, يتعارض مع حديث على بن أبى طالب (رضى الله عنه الذى كان أول من أسلم من الغلمان ... ولهذا يقدم حديث علىّ (رضى الله عنه) على حديث أبى هريرة . والله أعلم .
سورة الرعد
قال المباركفورى
مكية إلا ولا يزال الذين كفروا ...الآية ويقول الذين كفروا لست مرسلاً أو مدينة إلا ولو أن قرآنا ... الآيتين "(2)
- الدارسة -
كأن المباركفورى – رحمة الله يشير بقوله هذا إلى نقطتين
الأولى : مدنية قوله { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً } الآية (3)
الثانية : أن قوله تعالى { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } الآية (4) يغاير مجمل السورة فهو مدنى إن كانت السورة مكية ومكى إن كانت السورة مدنية
وقبل دراسة هذين القولين أشير إلى أن هناك من قال – من المفسرين – بغير هذين القولين
__________
(1) 10) الحسين بن الفضل بن عمير البجلى الكوفى المفسر نزيل ينسابور , كان صاحب تعبد , قيل إنه كان يصلى فى اليوم والليلة ستمائة ركعة وعاش مائة وأربع سنين . توفى سنة 282 هـ , الذرات ( 2/177)
(2) تحفة الأحوذى ( 8/542 )
(3) سورة الرعد 43 .
(4) سورة الرعد 31(6/27)
فقد قال بمكية السورة كلها الحسن البصرى فى تفسيره(1)والنسفى (2)ونسبه القرطبى فى تفسيره إلى عكرمة وعطاء وجابر (3) , ونسبة ابن الجوزى إلى سعيد بن جبير (4), وقد قال بمدنيتها كلها الإمام الطبرى (5), والواحدى(6) وابن كثير (7)
ونسبة القرطبى إلى الكلبى ومقاتل (8), نسبة ابن الجوزى إلى جابر بن زيد (9) ,
* وقد اختار الإمام الرازى أن السورة مدنية إلا قوله تعالى { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة } وقوله { ومن عنده علم الكتاب ... } وحكى الإجماع على ذلك عن الأصم (10)....(11)
وحكى صاحب اللباب – عن قتادة ومقاتل وابن جريج – فى قوله تعالى { كذلك أرسلناك فى أمة } الآية – وهى التى تسبق آية " ولا يزال " أن الآية مدنية نزلت فى صلح الحديبية , وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى رضى الله عنه اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم فهذا معنى قوله وهم يكفرون بالرحمن
__________
(1) تفسير الحسن ( 2/49)
(2) تفسير النسفى ( 2/135) ط دار الكتاب العربى .
(3) تفسير القرطبى ( 9/285)
(4) زاد المسير ( 4/299) ط المكتب الإسلامى .
(5) تفسير الطبرى ( 8/91)
(6) الوسيط ( 3/ 3) ط دار الكتب العلمية
(7) 10) تفسير ابن كثير ( 2/497)
(8) 11) القرطبى ( 9/285)
(9) 12) زاد المسير ( 4/299)
(10) حاتم بن عفوان أبو عبد الرحمن الأصم من أهل بلخ كان أحد من عرفوا بالزهد والتقلل , واشتهر بالورع والتقشف قدم بغداد فى أيام عبد الله أحمد بن حنبل . تاريخ بغداد ( 8/236 )
(11) تفسير الرازى ( 9/235 ) ط دار الفكر .(6/28)
والمعروف أن الآية مكية , وسبب نزولها أن أبا جهل سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو فى الحجر يدعو يا الله يا رحمن فرجع إلى المشركين وقال إن محمداً يدعو إلهين يدعو الله ويدعو الرحمن إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ونزل قوله تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى(1) } (2)
والأثر الأول ليس نصا فى السببية (3), وبتأكد مكية الآية " كذلك أرسلناك .." ينتقض ما حكاه الرازى من إجماع على مدنية السورة , ويبطل القول : إن السورة كلها مدنية سوى " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال "
أما القول بمكية السورة كلها واستثناء قوله تعالى ولو أن قرآنا ...الآية والقول أنه مدنى ..فهذا يرده ما ورد فيه من سبب النزول
__________
(1) سورة الإسراء 110 .
(2) تفسير اللباب لابن عادل ( 11/ 305 ) ط دار الكتب العلمية .
(3) راجع مقدمة لباب النقول فى أسباب التنزيل . السيوطى ( 13 ) ط المكتبة القيمة .(6/29)
وقد حكاه صاحب اللباب فقال نزلت فى نفر من مشركى مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية المخزومى جلسوا فى فناء الكعبة فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليهم الإسلام فقال عبد الله بن أمية المخزومى إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن فأذبها حتى تنفسح علينا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا واجعل لنا فيها عيونا وانهاراً لنغرس الأشجار ونزرع فلست كما زرعت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه , أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا ونرجع فى يومنا فقد سخر الريح لسليمان – صلوات الله وسلامة عليه – كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان , أو أحى لنا جدك قصى أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك أحق ما تقول أو باطل فقد كان عيسى يحى الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله عز وجل " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال "(1)
وهذا الأثر ذكره ابن كثير فى تفسيره وذكر أنه يروى عن أبى سعيد عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وكذا يروى عن ابن عباس - صلى الله عليه وسلم - وعن الشعبى وقتادة والثورى وغير واحد ولم يتبق بعد هذا الغرض الموجز إلا القول بمكية السورة كلها
ولا غرو فالسورة تقترب من حيث الموضوع والألفاظ والطول أو القصر من القرآن المكى فهى مفتتحة بحروف التهجى , وفيها سجدة , وفيها الحديث عن الجنة وأهلها , وفيها دعوة – بل دعوات – للتفكر فى الكون .. وكل ذلك – كما تقدم .
من خصائص القرآن المكى .
__________
(1) وهو عند الطبرى عن قتادة وعند أبى حاتم عن عطية العوفى , وعند الطبرانى عن عباس , وعند السيوطى فى الدر ولباب النقول , وذكره القرطبى وقال : قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك . وهو فى اللباب ( 11/305 )(6/30)
قال صاحب الظلال رحمه الله : " ومكية السورة شديدة الوضوح سواء فى طبيعة موضوعها أو طريقة أدائها أو فى جوها العام الذى لا يخطئ تنسمه من يعيش فترة فى ظلال القرآن " .(1)
ولو أضيف إلى ذلك أن مكية كثير من أيات السورة محكى عن كثير من الصحابة بخلاف القول بمدنيتها كلها أو بعضها فهو محكى عن تابعيين .
يقول ابن كثير قال شعبة بن الحجاج(2) وغيره " أقوال التابعين فى الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة فى التفسير؟ يعنى أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم وهذا صحيح أما إذا أجمعوا على الشئ فلا يرتاب فى كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بعض و لا على من بعدهم ويرجع فى ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة فى ذلك .،(3)
وكما ترى أن التابعين لم يجمعوا فى الآية على قول واحد ، ووجد من أقوال الصحابة المرفوعة والموقوفة ما يعارض ما روى عنهم ،
فالحق – والله أعلم – أن السورة كلها مكية .
سورة الحج
قال المباركفورى
مكية إلا { ومن الناس من يعبد الله .. } الآيتين ((أو إلا هذان خصمان اختصموا فى ربهم)) الست آيات مدنيات(4)
الدراسة
أما القول بمدنية قوله تعالى { ومن الناس من يعبد الله .... } الآيتين
فهو صحيح يشهد له ما أخرجه البخارى عن ابن عباس - رضي الله عنه - { ومن الناس من يعبد الله على حرف .... } قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء ... فأنزل الله تعالى الآية ،(5)
__________
(1) فى ظلال القرآن – سيد قطب (4/2039) ط دار الشروق
(2) شعبة بن الحجاج
(3) ابن كثير (1/37)
(4) تحفة الأحوذى (9/9) . والآيات رقم " 11 ، 12 " ورقم ( 19 ، 20 ، 21 ، 22) .
(5) البخارى ك التفسير ب تفسير سورة الحج .(6/31)
وعلى هذا جمهور المفسرين ومنهم ابن جريج(1) ، الطبرى(2) ، ابن كثير(3) ، النسفى(4) ، الماوردى(5) والسيوطى .(6)
وكذا القول بمدنية هذان خصمان
يشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبى ذر قال نزلت هذه الآية هذان خصمان اختصموا فى ربهم فى حمزة وعبيدة وعلى بن أبى طالب ، و عتبة وشيبة والوليد بن عتبة .(7)
وهذا الخبر وإن كان محتملاً للسببية إلا إنه لا يوجد ما يعارضه ولو من غير الصحيح .
أما القول بمكية باقى السورة(8)
فهو غير صحيح على إطلاقه ، لأن فى السورة حديثاً عن الحج ، والجهاد وهما لم يفرضا بمكة
نعم ! هناك آيات فى السورة تحمل طابع القرآن المكى مثل { يا أيها الناس : والحديث عن البعث ، وعن الجنة والنار ... } إلخ
ولأن الآثار قد تعارضت فى مكية السورة أو مدنيتها كلاً أو بعضاً – والآثار إذا تعارضت تساقطت إذا استوت فى الصحة ولم يمكن الجمع – فلم يبق إلا الاحتكام إلى خصائص كل من القرآن المكى والمدنى فى الحكم على الآيات .
ولذا يقول الإمام هبة الله بن سلامة (9) : هى من أعاجيب سور القرآن لأن فيها مكياً ومدنياً وحضرياً وسفرياً وحربياً وسلمياً وليلياً ونهارياً .(10)
والله تعالى أعلم .
__________
(1) نسبة إليه الماوردى فى النكت والعيون (4/10) .
(2) انظر تفسير الطبرى (9/93) .
(3) تفسير ابن كثير (3/244) .
(4) تفسير النسفى (2/429 ) .
(5) تفسير النكت والعيون (4/10) .
(6) الدر المنثور (4/342) .
(7) البخارى ك التفسير باب تفسير سورة الحج .
(8) حكاه الماوردى فى النكت عن ابن عباس من طريق أبى صالح ( 4/5 ) ، ونسبه ابن الجوزى إلى عطاء بن يسار (5/402) ، وهو قول الثعلبى .
(9) هبة الله سلامة بن نصر بن على أبو القاسم البغدادى الضرير المفسر صاحب الناسخ والمنسوخ أمام حافظ كان أحفظ أهل زانه لتفسير القرآن واختلاف الناس فيه . توفى ببغداد سنة 410هـ . طبقاً ابن الجزرى (2/351) .(6/32)
سورة الفرقان
المباركفورى
مكية إلا { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر .... } إلى { رحيماً } فمدنى .(1)
الدراسة
وهذا القول محكى عن ابن عباس وقتادة – حكاه القرطبى .(2)
وحكى عن الضحاك أنها مددنية وفيها آيات مكية قوله { والذين لا يدعون مع الله إلهاً أخر ... } الآيات (3)
وحكى عن ابن عباس أيضاً والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة – وهو قول الجمهور – أن السورة كلها مكية .(4)
وهذه الآيات التى استثناها المباركفورى كما ترى فيها خلاف فهو يقول بمدنيتها ، لما روى عن ابن عباس وقتادة فيها
والجمهور على أنها مكية ودليله :
ما رواه الطبرى بإسناده عن سعيد بن جبير قال قال لى سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى سل ابن عباس عن هاتين الآيتين عن قول الله { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر .. } (5) إلى { من تاب } وعن قوله { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } (6) إلى آخر الآية قال فسألت عنها ابن عباس فقال أنزلت هذه الآية فى الفرقان بمكة إلى قوله ويخلد فيه مهاناً فقال المشركون فما يغنى عنا الإسلام وقد عدلنا(7) بالله وقتلنا النفس التى حرم الله وأتينا الفواحش قال فأنزل الله { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } إلى آخر الآية قال وأما من دخل فى الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له .(8)
__________
(1) تحفة الأحوذى (9/38) .
(2) القرطبى (7/1) .
(3) القرطبى (7/1) ، المحرر الوجيز (4/199) .
(4) الشوكانى (4/60) ، ابن عادل (14/472) ، زاد المسير (6/71) ، الجواهر للثعالبى (2/460) .
(5) سورة الفرقان ( 68 ، 69 ، 70) .
(6) سورة النساء (93 ) .
(7) يقصدون : أشركنا قال تعالى { وهم بربهم يعدلون } .
(8) الطبرى (11/43) .(6/33)
و روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال قلت يا رسول الله أى الذنب أكبر عند الله قال أن تدعوا لله نداً وهو خلقك قال ثم أى قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال ثم أى قال أن تزانى حليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديقها { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } .(1)
فالراجح فى هذه الآيات أنها مكية ، وكذا سائر السورة ،
والله تعالى أعلم
سورة القصص
المباركفورى
سورة القصص مكية إلا { إن الذى فرض .... } (2) وإلا { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا تتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين } (3) .(4)
الدراسة
أما الآية الأولى
فقد قال الإمام الماوردى" قال ابن عباس وقتادة نزلت بين مكة والمدنية وقيل بالجحفة "(5) ، وحكى مثله ابن الجوزى فى زاد المسير(6) ، وحكى عن مقاتل أن هذه الآية ليست بمكية ولا مدنية " لأنها نزلت بالطريق بين مكة والمدنية " .(7)
ولعل ما حكاه الماوردى عن ابن عباس وقتادة هو مستند المباركفوى فى قوله عن الآية إنها مدنية .
وأما الآيات الأخر
فقد قال كثير من المفسرين بمدنيتها لأنها نزلت فى نفر من أهل الكتاب
__________
(1) ذكره القرطبى ، وابن الجوزى فى زاد المسير (6/104) وهو عند مسلم ك الإيمان باب بان كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده .
(2) القصص " 85 " .
(3) القصص " 52 ، 53 ، 54 ، 55 " .
(4) تحفة الأحوذى (8/172) .
(5) النكت والعيون (4/233) .
(6) زاد المسير (6/200) .
(7) المصدر السابق .(6/34)
قال الطبرى قوله { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } يعنى بذلك تعالى ذكره قوماً من أهل الكتاب آمنوا برسوله وصدقوه فقال الذين آتيناهم الكتاب من قبل هذا القرآن يؤمنون به فيقررون أنه حق من عند الله ويكذب جهلة الأميين الذين لم يأتهم من الله كتاب ... ثم ذكر ..
عن ابن عباس – فى الآية – قال يعنى من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب ، وعن مجاهد – فى الآية أيضاً – أنها فى مسلمة أهل الكتاب
وعن على بن رفاعة(1) قال خرج عشرة رهط من أهل الكتاب منهم أبو رفاعة – يعنى أباه – إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا فأوذوا فنزلت { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } من قبل القرآن
وعن قتادة : قوله { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } قال : كنا نحدث أنها نزلت فى أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق يأخذون بها وينتهون إليها حتى بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به وصدقوا به فأعطاهم الله أجرهم مرتين على الكتاب الأول واتباعهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وصبرهم على ذلك وذكر أن منهم سلمان وعبد الله بن سلام .(2)
وأخرج ابن كثير فى تفسيره عن سعيد بن جبير قال : نزلت فى سبعين من القسيسين بعثهم النجاشى فلما قدموا على النبى - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم { يس والقرآن الحكيم } حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } .(3)
وهذه الآثار يقوى بعضها بعضاً ، وعليه فالأرجح فى هذه الآيات أنها مدنية
__________
(1) على بن عبد الله بن رفاعة بن رافع الأنصارى روى عن الربيع بن معبد ، روىعنه يحى بن جعدة ويحى بن سعيد الأنصارى وعمرو بن دينار – التاريخ الكبير (6/274) ، التفات (5/161) .
(2) تفسير الطبرى (11/88 ، 89) .
(3) تفسير ابن كثير (3/6/156) .(6/35)
أما الآية الأولى فسبب اللبس والاختلاف فيها أنها نزلت أثناء الهجرة فهل هذا الزمان (( زمن هجرة النبى - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة )) داخل فيما قبل الهجرة– لأنها لم تتم بعد– أم داخل فيما بعد الهجرة– لأن النية انعقدت والعزم مضى -؟
أو بمعنى آخر : هل الهجرة هى الوصول إلى المدينة بالفعل – وعليه فما نزل أثناء الهجرة من القرآن يعد مكى النزول– أم أن الهجرة هى الخروج من مكة بالفعل . وعليه يكون ما نزل أثناء الهجرة مدنى النزول؟
فمن قال بالأول جعل الآية { إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } مكية
ومن قال بالثانى جعلها مدنية
والتدقيق يشهد للثانى ... فالفعل ينسب إلى الإنسان إذا شرع فيه ولو لم يتمه كما يقال لمن ركب وسيلة السفر مثلاً : سافر فلان . وهو ما زال فى الطريق . والله أعلم .
سورة لقمان
قال المباركفورى
مكية إلا { ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام(1) } الآيتين فمدنيتان .(2)
الدراسة
هذا الذى ذكره المباركفورى أحد الأقوال المذكورة فى السورة ....
فممن قال بمكية السورة كلها بلا استثناء الإمام الماوردى حيث قال : مكية كلها فى قول الجميع ، إلا رواية عطاء أن آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما قوله تعالى { ولو أنما فى الأرض من شجرة أقلام و التى بعدها } (3) وقال الحسن : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهى قوله تعالى { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } (4) لأن الصلاة والزكاة مدنيتان(5) ، وهو رأى صاحب التبيان (6) .، وقد ذكر الواحدى والطبرى وابن عادل(7) أن سبب نزول الآية { ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام... } يقضى بكونها مدنية ...
__________
(1) الآية " 27 " لقمان .
(2) تحفة الأحوذى (7/178) .
(3) النكت والعيون (4/326) .
(4) الآية " 4 " سورة لقمان .
(5) تفسير الحسن البصرى .
(6) التبيان فى تفسير القرآن ( / )
(7) اللباب فى علوم الكتاب (15/457) .(6/36)
فيقول الواحدى : وفى سبب نزولها قولان :-
أحدهما : ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام – يعنى القرآن – يوشك أن ينفد فأنزل الله هذه الآية يعنى أنه لو كان شجر البر أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربى وحكمته وعلمه .(1)
الثانى : ما رواه ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة قالت له أحبار اليهود يا محمد أرأيت قولك وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً إيانا تريد أم قومك ؟ قال كل لم يؤت من العلم إلا قليلاً أنتم وهم .، قالوا فإنك تتلو فيما جاءك من الله أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شئ(2) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إنها فى علم الله قليل فنزلت هذه الآية .(3) .... (4)
وقد مال إلى هذا الرأى الإمام القرطبى . (5)
على أن الإمام ابن كثير يرى أن الآية مكية إذ يقول :
وقد روى أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود – وذكر الأثر السابق ، ثم قال – وهذا يقتضى أن هذه الآية مدنية لا مكية والمشهور أنها مكية .(6)
وهو ما أميل إليه لأنه لا يوجد دليل صحيح على مدنية أى آية فى السورة ...
فالأثر الوارد فى سبب نزول الآية غير صالح للاحتجاج به لأن فى سنده راوياً مجهولاً .. قال ابن الجوزى بعد ذكر هذا الأثر : وفى سنده رجل مجهول وذكره ابن كثير من رواية محمد شيخ لعبد الرزاق مجهول كما قال الحافظ فى التقريب (7) ..(8)
__________
(1) انظر تفسير الوسيط للواحدى (3/446) .
(2) إشارة إلى قوله تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ... } الآية .
(4) تفسير الطبرى (11/81) .
(5) الجامع لأحكام القرآن ( 14/77) .
(6) تفسير ابن كثير (11/81) .
(7) تقريب التهذيب ( / ) ط .
(8) زاد المسير ( 6/222) .(6/37)
يقول الشيخ الشيرازى : المعروف المشهور بين المفسرين أن هذه السورة قد نزلت فى مكة وبالرغم من أن بعض المفسرين قد استثنى بعض آيات هذه السورة ... إلا إنه لا يوجد دليل واضح لهذه الاستثناءات
لأن الصلاة والزكاة – ويزيد بها الزكاة بصورة عامة طبعاً – كانتا موجودتين فى مكة أيضاً .(1)
كما أن قضية البحث فى سعة علم الله(2) لا تصلح لأن تكون دليلاً على كون الآية مدنية .(3)
سورة المؤمن
المباركفورى
وتسمى سورة غافر مكية إلا { الذين يجادلون فى آيات الله } (4) والتى بعدها(5) .(6)
الدراسة
قال الماوردى
مكية فى قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر ،
وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة هما إن الذين يجادلون فى آيات الله والتى بعدها .(7)
وقد حُكِىَ استثناء قوله تعالى { وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار } عن الحسن لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت ، وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين : إن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح فى الآية(8) ، بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله تعالى(9) ، فيكون معناه دم على تنزيه الله ملتبساً بحمده .(10)
__________
(1) هذا رد على قول الحسن البصرى فى الآية الرابعة .
(2) هذا رد على استدلال الرازى على مدينة الآية محل البحث .
(3) الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل (13/9) .
(4) غافر " 35 " .
(5) لم أجد – فيما وقفت عليه من تفاسير – من ذكر هاتين الآيتين إلا ابن الجوزى فى زاد المسير (7/68) والكل يحكى الخلاف فى { إن الذين يجادلون .... } .
(6) تحفة الأحوذى (9/87) .
(7) النكت والعيون (5/141) .
(8) رد فى المعانى للألوسى (8/12/293) ، حاشية القونوى على البيضاوى (17/3) دار الكتب العلمية .
(9) التحرير والتنوير لابن عاشور (11/24 / 75 ، 76 ) .
(10) الشوكانى (4/279) ، مراح لبيد للنووى (2/282) .(6/38)
أما قوله تعالى إن الذين يجادلون فى آيات الله .... والتى بعدها
فسبب القول بمدينته ما أخرجه ابن أبى حاتم عن أبى العالية وغيره أنها نزلت فى اليهود لما جادلوا النبى - صلى الله عليه وسلم - فى أمر الدجال وزعموا أنه منهم قال الألوسى { وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة } (1)
وقال ابن عاشور – بعد ذكر هذا الخبر – وقد جاء فى أول السورة { ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا } ( والمراد بهم المشركون (2) ، وكأنه يقول :- إن الآية التى معنا – والتى لم تُعَرَّف بأوصاف المجادلين – تشير إلى الآية الأولى التى حدتهم بالكفار (كفار مكة) ولذا لا يصح القول بمدينتها .
وها أنت ترى أن القول بمدينة قوله تعالى { الذين يجادلون فى آيات الله } لم يذكره أحد من المفسرين ، فلعله سقطة قلم ممن كان يكتب للشيخ رحمه الله ، ومما يؤيد ذلك أن هذه الآية والتى بعدها فى صلب قصة سيدنا موسى مع فرعون فيبعد أن يتأخر نزولها إلى ما بعد الهجرة . والله أعلم .
كما ترى أيضاً أن القول بمدنية قوله تعالى { إن الذين يجادلون فى آيات الله .... } لا دليل صريحاً عليه كما تقدم وهو كذلك قول غريب وفيه تعسف بعيد (3)
وقد تقدم القول فى قوله تعالى { وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار } لذا فإنى أميل إلى القول بمكية السورة كلها بلا استثناء ، وهذا قول أكثر المفسرين ،(4)
قال الشوكانى : وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال أنزلت سورة حم المؤمن بمكة ... ، وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس قال أنزلت الحواميم السبع بمكة، وأخرج ابن مردويه والديلمى عن سمرة بن جندب قال نزلت الحواميم جميعاً بمكة .(5)
__________
(1) الآلوسى (8/12/293) .
(2) التحرير والتنوير (11/24/75،76) .
(3) ابن كثير (4/7/98) .
(4) الوسيط للواحدى (4/3) ، اللباب لابن عادل (17/3) ، البغوى (4/79) ، مراح لبيد (2/274) ، ابن كثير (4/7/98) .
(5) فتح القدير ( 4/479) .(6/39)
سورة الأحقاف قال المباركفورىهى مكية الا" قل أرأيتم إن كان من عند الله "وقوله" فاصبر كما صبر أولو العزم "وقوله" ووصينا الإنسان بوالديه"
الدراسة
أما قوله تعالى { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدى القوم الظالمين }
فسبب الاختلاف فيه الاختلاف فى المراد بالشاهد المذكور فى الآية .
فقال مسروق والجمهور الشاهد موسى بن عمران وأن الآية مكية(1) – ورجحه الطبرى (2) .،
واختار ابن كثير أن الشاهد الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء قبله - صلى الله عليه وسلم - والتى شهدت بصدقه وأخبرت بمثل ما أخبر به هذا القرآن ، وأن الآية مكية .(3) وهو قول الشعبى (4)
وقيل الشاهد عبد الله بن سلام (5) – والذين قالوا بذلك اختلفوا فيما بينهم هل الآية نزلت قبل إسلامه لتخبر به ، وعليه تكون الآية قد تضمنت غيباً أبرزه الوجود ؟ وهو مروى عن سعد بن وقاص - رضي الله عنه - كما فى الكشاف(6) والمحرر الوجيز(7) أم أن إسلام عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - كان السبب فى نزول الآية وعليه تكون الآية مدنية وذلك لما روى عنه - رضي الله عنه - أنه قال { فىَّ نزلت } (8) أى الآية ؟ وهذا اختيارالمباركفورى ومن معه
يقول الشيخ الشيرازى(9) عن الاحتمال الأول
__________
(1) حكاه ابن عطية فى المحرر الوجيز (5/91) وغيره .
(2) انظر : الطبرى (13/26/12) .
(3) تفسير ابن كثير (4/7/179) .
(4) حكاه ابن كثير (4/7/180) وابن عطية (5/91) وغيرهما .
(5) راجع : الطبرى (13/26/12) ، الزمخشرى (3/444) ، الرازى (14/28/11) .
(6) 10) الكشاف للزمخشرى (3/444) .
(7) 11) المحرر الوجيز (5/91) .
(8) 12) المصدر السابق ، ومعناه سعد بن أبى وقاص عند الشيخين قال " وفيه نزلت الآية " .(6/40)
أن هذا الاحتمال غير صحيح بملاحظة جملة { فآمن واستكبرتم } التى توحى بأن هذا الشاهد من بنى إسرائيل قد آمن بنبى الإسلام - صلى الله عليه وسلم - فى الوقت الذى استكبر فيه المشركون
وعن الاحتمال الثالث يقول رحمه الله
وهذا التفسير يسقط أيضاً إذا علمنا أنه لم يكن هناك عالم معروف من أهل الكتاب فى مكة فى عصر ظهور النبى - صلى الله عليه وسلم - ولو كان لذكرت التواريخ اسمه .(1)
أما ما ذكره ابن كثير فلا دليل عليه ولم يرد عن أحد من الأصحاب - رضي الله عنه -
غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل .
غير أن – سياق الآية لا يصح جعله خطاباً لبنى إسرائيل إذ لو كان الأمر كذلك لقيل { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ، وشهد شاهد منكم على مثله ... }
إذا كان الأمر كذلك فالآية خطاب مع مشركى مكة توبيخاً لهم على تركهم الإيمان بالنبى محمد - صلى الله عليه وسلم - (2) .. فيكون المقصود من الآية عبد الله بن سلام والآية مكية وتكون الآية من الإخبار بالغيب ونظيرها قوله تعالى { سيهزم الجمع ويولون الدبر } (3) فإنها نزلت بمكة وعنى بها الفريقان يوم بدر .
وأما قوله تعالى { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ... } الآية
فقد روى القرطبى عن مقاتل قال { إن هذه الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له .(4)
ولم أجد ذكر مدنيتها عند كثير من المفسرين كالطبرى والواحدى والبغوى وابن كثير وابن عطية والرازى والزمخشرى والشيرازى .
__________
(1) الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل (16/236 ) .
(2) راجع القرطبى (8/16/183) .
(3) القمر (45) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (8/16/214) .(6/41)
ولو كان لهذا القول نصيب من الصحة لما أغفله كل هؤلاء المفسرين
فلم يبق إلا القول بمكية السورة كلها ، وهو ما اتفق عليه أكثر المفسرين
قال القرطبى مكية فى قول جميعهم .(1) وكذا قال البغوى(2) ، الواحدى(3) ، الماوردى(4) ، ابن عادل(5) ، الطوسى(6) وغيرهم (7)
وأما قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه .... } الآية
فلا دليل على مدنيته ولو ضعيفاً ، ولا أدرى علام استند الشيخ رحمه فى هذا القول .
__________
(1) المصدر السابق .
(2) معالم التنزيل – للبغوى (4/162 ) .
(3) الوسيط (4/102) .
(4) النكت والعيون (5/270) .
(5) اللباب – لابن عادل (17/377) .
(6) الطوسى (9/266) .
(7) انظر تفسير الحسن البصرى (2/280) ، الطبرى (13/26/12) ، ابن كثير (4/7/177) .(6/42)
جهود الإمام المباركفورى في الدراسات القرآنية من خلال كتابه تحفة الاحوذى شرح جامع الترمذي عرض ودراسة
وبعد ....
فهذا ماهدانى الله إليه من أراء فيما يتعلق بجهود الإمام المباركفورى في الدراسات
القرآنية، ربما أكون مصيبا أو مخطئا ، وحسبي اننى اجتهدت وتحريت قول ما أراه صوابا
وانني بعد ذلك لااعجب من شدة تحرى هؤلاء ألائمة الأعلام _ على مختلف تخصصاتهم _ في قول الحق ، بقدر ما أعجب من تجرئى على ساحاتهم وذكر قولي بين أقوالهم وتعقبي لأراء بعضهم ..... فمن أكون ؟
غير ان ايمانى بان احترامى لك لا يعنى ان اسلم بكل ماتقول
وبأن اعتراضي عليك لا يعنى أنى أفضل منك ، ولايهدم مكانة حصلتها بالسهر والإخلاص ،.....
ايمانى بكل هذه الأمور هو الذي جعلني انتصر لرأى على رأى وأقدم قولا على أخر
فان كان ماخترته صحيحا فذلك بفضل الله وبرحمته وعونه وماتوفيقى الابالله ،
وان كانت الأخرى فمن نفسي _ قل هومن عند أنفسكم _ والله بريء منه ورسوله
وأسأله سبحانه إن يغفر زلاتنا جميعا ويرزقنا حسن العلم وحسن العمل ،
هذا وقد خرجت من هذا البحث بعدة نتائج عامة أهمها :
أولا / أن كتاب الله سبحانه وتعالى مازال _ وسيظل _ بكرا في معانيه ، وان الإنسان مهما
بلغ من العلم فلن يصل إلى مراد الله سبحانه من
كلا مه فما يعلم تأويله الاالله ، وما أوتيتم من العلم الاقليلا
ثانيا / غزارة المعاني والمبادىء التي تحتملها ألفاظ القران مما يشهد لهذا الكتاب المعجز بأنه صالح مصلح لكل زمان ومكان وحال . ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين
ثالثا / إن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له
وليس ادل على ذلك من جريان القران والحديث وسائر العلوم على السنة غير عربية أتاها الله فهم كتابه ونفعها بسنة رسوله صلى الله علية وسلم ، فكانوا حصونا عالية للإسلام وشرائعه
رابعا / مدى الصلة الوثيقة بين القران والسنة
فكل منهما مبين للا خر ، وان اكتظاظ(7/1)
كتب الحديث بتفسير القران خير دليل على ذلك .
خامسا / ان نشر العلم مسئولية العلماء_ كل في مجاله
لأفرق في ذلك بين العربي وبين غير العربي "إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون الاالذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم .
سادسا / إن كتب شروح السنة تزخر بأقوال لشراحها لها وجاهتها
وعلى طلاب العلم _ على تنوعهم أن يتجهوا إلى هذه الكتب ليفيدوا منها ويتعلموا كيف يكون العلم .
وهذه بعض النتائج العامةالتي ظهرت لي من خلال موضوع الدراسة أما عن نتائج دراسة الموضوع فهي كثيرة ....... منها :-
أولا :علو كعب الشيخ المباركفورى في علمى الحديث والتفسير ،
ثانيا : القيمة العلمية الكبيرة لكتاب تحفة الاحوذى ... إذ يعد ـ بحق ـ أوفى كتاب في شرح الترمذي وصل إلينا.
ثالثا : أن التأويل اعم من التفسير لتكرر وروده ـ في مواطن مختلفة ـ في القران
الكريم ،وانهما إذا ذكرا معا استقل كل منها بمعنى ، وإذا انفرد احدهما فانه يتناول معنى اللفظ الأخر
رابعا : إن الصلاة الوسطي أخفيت بعد إن عينت بأنها العصر وذلك حتى يجتهد الناس في المحافظة عليها.
خامسا: إن كل معصية استهان فاعلها بها ، أو
داوم عليها ، اوجاهربها .. فأنها من الكبائر
إذا أن العبرة بعظمة من عصاه، لا بقيمة ما عصى بة .
سادسا: أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب كل مسلم على حدته ، وواجب الأمة جميعا مع سائر الأمم .
سابعا: جواز طلب الأجر وأخذه على تعليم القران الكريم ، أو الرقبة به ، وجواز أخذ الأجر ـ دون طلب ـ على قراءته .
ثامنا : أن موافقة الولي على النكاح شرط صحة فية ، وللمرآة إن تتولى عقد نكاحها بنفسها ـ إذا وافق وليها وأذن لها في النكاح ـ، أو توكل ـ بإذن وليها أيضا ـ من تريد توكيله في انكاحها .(7/2)
تاسعا: أن النياحة على الميت ـ بالمعنى الشرعي حرام ، واسأل الله إن لا يؤاخذ صاحب المصيبة إذا ناح.
عاشرا : لأتجوز صلاة بغير فاتحة الكتاب
وفى نهاية هذا البحث اسأل الله سبحانه وتعالى
أن يجعله فى ميزان حسناتى وان ينفع به
وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين
الفقيرإلى عفو ربه:
محسن عبد العظيم الشاذلى
السابع من شهرالمحرم سنة 1426هجرية الموافق السادس من فبراير2005ميلادية(7/3)
جهود الإمام المباركفوري في الدراسات القرآنية من خلال كتابة تحفة الاحوذى شرح جامع الترمذي عرض ودراسة
( كلمة جهود)
معناها :
الجهود جمع مفرده جهد بضم الجيم وفتحها
وله في اللغة عدة معان منها :-
? وصول الإنسان إلى غايته
يقال جهد في الأمر جهدا جد وطلب حتى وصل إلى الغاية ، وفى القران الكريم وأقسموا بالله جهد أيمانهم(1)
? تحمل المشقة
يقال جهد الدابة حمل عليها في السير فوق طاقتها ، وفى الحديث فغطني حتى بلغ منى الجهد (2)
? بذل مافى الوسع
يقال جُهادَاك أن تفعل كذا : قصاراك وغاية أمرك
وجهد المقل : قدر بايحتمل حاله من قل ماله ،
وفى القراٌن الكريم والذين لا يجدون إلا جهدهم (3)
والجهد في علم النفس : كل نشاط يبذ لة الكائن الواعي جسميا أو عقليا ويهدف عادة إلى غاية (4)
الاجتهاد : بذل غاية الجهد في الوصول إلى أمر من الأمور أو فعل من الأفعال،
وفى اصطلاح علماء الأصول بذل الفقيه وسعه في استنباط الأحكام العلمية من أد لتها التفصيلية ، وعرفه بعضهم : بأنه استفراغ الجهد وبذل غاية الوسع إما في استنباط الأحكام الشرعية وإما في تطبيقها (5)
وهذه المعاني كلها متقاربة غير أن المقصود بهذه الكلمة في البحث المعنى الأول الذي هو بمعنى الاجتهاد وهو استعراض ما وصل إليه الإمام المباركفوري في كتابه تحفة الاحوذى من أراء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأ نعام 109
(2) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري باب بدء الوحي .
(3) سورة التوبة 79
(4) المعجم الوجيز مادة (جهد)
(5) أصول الفقه _ الإمام محمد أبو زهرة _ طـ دار الفكر العربي سـ1997ــــــــــــــــة _ صـ330ـــــــــ
المقد مة
طرف الحديث أو الأثر الراوي مصدره
* تحفة المؤمن الموت الديلمى
* كان والله أحوذيا نسبح وحده عائشة ابن الأثير
* لأتقبل صلاة بغير طهور ابن عمر الترمذي
* من صلى الصبح فهو في ذ مة الله الترمذي
* ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى الترمذي(8/1)
* كان رسول الله ( ص) يحب أن يليه المهاجرون والأنصار الترمذي
* كان رسول الله ( ص) يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة الترمذي
* بت عند خالتي ميمونة ليلة ابن عباس البخاري
* إن الصدقة لاتحل لنا الترمذي
* ياعلى لايحل لأحد يجنب في المسجد غيري وغيرك أبو سعيد الترمذي
* أتى رسول الله ( ص ) سباطة قوم فبال قائما حذيفة البخاري
* جمع رسول الله ( ص) بين الظهر والعصر بالمدينة ابن عباس الترمذي
من غير خوف ولا سفر
* لما نزلت " الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق
ذلك على أصحاب رسول الله (ص) وقالوا ايتالم بظلم نفسه ابن مسعود البخاري
* ألاوان القوة الرمي عقبة بن عامر مسلم
* دخلو متزحفين على اوركهم أبو هريرة الترمذي
* شهد رسول الله (ص) جنازة في بنى سلمة جابر الحاكم
* مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا انس البخاري
* كان رسول الله (ص) يصلى الظهر بالهاجرة زيد ابو داود
* الصلاة الوسطي العصر ابن مسعود الترمذي
* نزلت هذه الايه حافظوا على الصلوات وصلاة العصر البراء مسلم
فقراناها ما شاء الله ثم نسخها الله
* هل الكبائر سبع عن ابن جبير البهيقى
* يا رسول الله يغزو الرجال عن مجاهد مسند احمد
* ولا يتمنى الرجال فيقول لو إن لي مال فلان عن ابن عباس تفسير ابن كثير
* ولا حسد الافى اثنين أبو هريرة البخاري
* كنا على عهد محمد (ص) إذا مات الرجل على كبيرة ابن عمر تفسير البغوى
* أتى النبي (ص) رجل فقال ما الموجبتان؟ جابر مسلم
* مأمن عبد قال لااله الاالله ثم مات على ذلك الادخل الجنة أبو ذر مسلم
* يد الله مع القاضي حين يقضى أبو أيوب مسند احمد
* أنكم تقرءون هذه الايه وتضعونها فى غير مواضعها أبو بكر سنن الترمذي
* من رأى منكم منكرا فليغيره أبو سعيد الخدرى مسلم
* كيف اصنع بهذه الايه أبو ثعلبة الخشنى البخاري
* لما كان يوم بدر جئت بسيف سعد بن أبى وقاص سنن الترمذي
* قال (ص) يوم بدر من فعل كذا وكذا فله كذا ابن عباس الترمذي(8/2)
* خرجت مع رسول الله (ص) فشهدت معه بدرا عبادة الهيثمى
* سالت رسول الله (ص) عن يوم الحج الأكبر على بن ابى طالب الترمذي
* إن رسول الله (ص) وقف يوم النحربين الجمرات ابن عمر ابو داود
* ان الزمان قد استدار كهيئتة البخارى
* الحج عرفة الترمذى
* تمارى رجلان فى المسجد الذى اسس على التقوى ابو سعيد الحذرى الترمذى
* يدعى احدهم فيعطى كتابه بيمينه ابو هريرة الترمذى
* اذا كان يوم القيامة اذن مؤذن ابو سعيد الخذرى البخارى
* مامن نبى كذبه قومه الاونحن شهداوه يوم القيامة جابر فتح البارى
* لما عرج بى رايت ادريس فى السماء الرابعة انس ابن مالك الترمذى
* اذا رقد احدكم عن الصلاة او غفل عنها انس ابن مالك مسلم
* راس الامر الاسلام معاذ بن جبل الترمذى
* وأهل بيتى اذكركم الله فى اهل بيتى زيد بن ارقم مسلم
* اذا تكلم الله بالوحى سمع اهل السماء عبد الله بن مسعود ابو داود
* لاتفاضلوا بين الانبياء مسلم
* قد قال الناس ثم كفر اكثرهم انس الترمذى
* لاترجعوا بعدى كفارا البخارى
* ان الله تعالى كتب عل ابن ادم حظه من الزنا ابو هريرة مسلم
* ان تغفراللهم تغفر حجا ابن عباس الترمذى
* هذا مثل ضربه الله عز وجل ابن عباس البخارى
* من قال فى القران برايه الترمذى
* مر على قارىء يقرا ثم سال عمران بن حصن الترمذى
* ان العالم ليستغفرله من فى السموات ابن ماجه
* فضل العالم على العابد الترمذى
* خيركم من تعلم القران وعلمه البخارى
* احق مااخذتم علية اجرا ابن عباس البخارى
* أتت النبى (ص) امرأة سهل بن سعد البخارى
* ان اناسا من امتى سيتفقهون فى الدين ابن عباس ابن ماجه
* قد كان رسول الله (ص) يعطينى العطاء ابن عمر مسلم
* انطلق نفر من اصحاب النبى (ص) فى سفرة سافروها ابو سعيد الخدرى البخارى
* ايما امراة نكحت بغير اذن وليها عائشة مسند احمد
* لانكاح الابولى على البهيقى
* الثيب احق بنفسها من وليها ابن عباس مسلم(8/3)
* سافرت مع النبى (ص) وابى بكر وعمر ابن عمر الترمذى
* كان النبى (ص) يقصر فى السفر ويتم عائشة الدار قطنى
* فرضت الصلاة ركعتين عائشة النسائى
* ان الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم ابن عباس النسائى
*لما اخذ رسول الله (ص) على النساء فبايعهن ابن عباس ابن مردون
* لما دخل رسول الله (ص) على سعد بن عبادة ابن عمرو مسلم
* ادركت عجوزا لنا كانت فمن بايع رسول الله (ص) مصعب بن نوح الطبرى
* مات ميت من ال رسول الله (ص) فاجتمع النساء ابو هريرة النسائى
* اياكن ونعيق الشيطان ابن عباس احمد
* ان الله لايعذب بد مع العين ابن عمر مسلم
* لما جاء رسول الله (ص) قتل ابن حارثة وجعفر عائشة مسلم
* الميت يعذب ببكاء اهله عليه مسلم
* ليس منا من حلق ولا خرق ولا سلق النسائى
* ليس منا من ضرب الخدود النسائى
* النائحة اذا لم تتب قبل موتها مسلم
* رفع القلم عن ثلاث عائشة احمد
* ان الله وضع عن امتى الخطأ والنسيان ابن عباس ابن ماجه
* لاطلاق فى اغلاق عائشة احمد
* المعول علية يعذب انس مسلم
* واكرب ابتاه مسلم
* من صلى صلاة لم يقرا فيها بام القران ابو هريرة الترمذى
* قسمت الصلاة بينى و بين عبدى ابو هريرة مسلم
* لاصلاة الابفاتحة الكتاب عباد البخارى
* لاصلاة الابفاتحة الكتاب فما زاد ابو هريرة الترمذى
* امرنا رسول الله (ص) ان نقرا بفاتحة الكتاب وماتيسر ابو هريرة ابو داود
* اخرج فناد فى المدينة ابو هريرة ابو داود
* فى كل صلاة قراءة ابو هريرة مسلم
* كان النبى (ص) يستفتح الصلاة بالتكبير عائشة مسلم
* من صلى ركعة لم يقرا فيها بام القران فلم يصل جابر مالك
* قد مت المدينة فى خلافة ابى بكر ابو عبد الله الصنابحى مالك
* قمت وراء ابى بكر وعمر وعثمان انس بن مالك مالك
* ان رسول الله (ص) خطبنا فبين لنا سنتنا ابو موسى الاشعرى مسلم
* جئت النبى (ص) فقلت يارسول الله أنكح عناقا مرثد بن ابى مرثد الترمذى(8/4)
* كانت اليهود تقول من اتى امراة من دبرها فى قبلها جابر مسلم
* قرا ابن عباس " اليوم اكملت لكم دينكم " وعنده يهودى عمار بن ابى عمار الترمذى
* اخر اية نزلت او اخر شى نزل يستفتونك البراء بن عازب الترمذى
* كان النبى (ص) يصلى على راحلتة تطوعا ابن عمر الترمذى
* رجع ناس من اصحاب النبى (ص) يوم احد زيد بن ثابت الترمذى
* ان قوما اتوا المدينة فاسلموا قاصا بهم الوباء فرجعوا ابو سلمة احمد
* خشيت سودة ان يطلقها النبى (ص) ابن عباس الترمذى
* سمعت رجلا يستغفر لابويه وهما مشركان على الترمذى
* اللهم اغفر لقومى البخارى
* كانى انظرالى النبى (ص) يحكى نبيا من الانبياء عبد الله بن مسعود مسلم
* لما فتح الله تعالى مكة سال النبى (ص) اى ابويه
احدث به عهدا؟ ابن عباس الرازى
* لما حضرت ابا طالب الوفاة سعيد بن المسيب البخارى
* قعدنا نفر من اصحاب النبى (ص) فتذاكرنا عبد الله بن سلام الترمذى
* امرتنى عائشة ان اكتب لها مصحفا ابو يونس الترمذى
* نزلت " حافظو على الصلوات .. فقراناها على
رسول الله ماشاء الله البراء بن عارب مسلم
* ان النبى (ص) قرا هل تستطيع ربك معاذ ابن جبل الترمذى
* ان النبى (ص) قرا وترى الناس سكارى وماهم بسكارى عمران بن حصين الترمذى
* قرات على ابن عمر الله الذى خلقكم من ضعف عطية العوفى الترمذى
* قدمنا الشام فاتانا ابو الدرداء فقال افيكم احد علقمة الترمذى
* كان فيما انزل من القران عشر رضعات عائشة مسلم
* قد انزل الله على ايات لم ير مثلهن عقبة بن عامر الترمذى
* ان الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا مسلم
* من قرا حم الدخان فى ليلة ابو هريرة الترمذى
* ان سورة من القران ثلاثين اية ابو هريرة الترمذى
* كيف تقرا اذا افتحت الصلاة ابى كعب البخارى
* سئل عن قراءة النبى (ص) فقال كانت قراءته مدا انس ابن مالك البخارى
* بينا رسول الله (ص) ذات يوم بين اظهرنا ابن عباس ابو داود(8/5)
* ان رسول الله (ص) كان لايعرف فصل السورة حتى ابن عباس مسلم
* ان رسول الله (ص) قرا البسلمة فى اول الفاتحة ام سلمة ابن خزيمة
* قلت يارسول الله فى كم اختم القران ؟ عبد الله بن عمرو الترمذى
* ايعجز احدكم ان يقرا فى ليلة ثلث القران ابى بن كعب الترمذى
* جزا النبى (ص) القران ثلاثة اجزاء ابو الدرداء ابو عبيد
* ياتى القران واهلة الدين يعملون بة فى الدنيا النواس بن سمعان الترمذى
* يقال لقارىء القران يوم القيامة الترمذى
* لما اسلمت فتيان بنى سلمة رجل من بنى سلمة ابو نعيم
* رن ابليس حين انزلت فاتحة الكتاب ابو هريرة الطبرانى
* كان الرجل يقدم المدينة فان ولدت امراتة غلاما ابن عباس البخارى
* لما قدم رسول الله (ص) المدينة قالت لة احبار اليهود ابن عباس(8/6)
الفهارس
? فهرس الآيات القرآنية .
? فهرس الأحاديث والآثار.
? فهرس الأعلام .
? فهرس المراجع والمصادر.
? فهرس المحتويات .
فهرست المحتويات
الموضوع ... الصفحه
الإهداء ... أ : ح
المقدمة ... ت
أهميه الموضوع ... ت
أسباب اختياره ... ث
خطة البحث ... ج
منهج البحث ... 1-39
الباب الأول " التعريف بمفردات البحث " ... -
الفصل الأول
كلمة جهود ... 1
ترجمه المباركفوري ... 2
اسمه ... 2
مولده ونشأته ... 4
وظائفه وأعماله ... 5
علمه وصفاته ... 7
ظروف عصره الذي نشأ فيه ... 7
مؤلفاته ... 12
شيوخه وتلاميذه ... 14
مرضه ووفاته ... 16
الفصل الثاني " كتاب تحفة الأحوذي" ... -
معني تحفةالأحوذي ... 17
وصف الكتاب ومنهج الشيخ فيه ... 18
مكانة الكتاب بين شروح الترمذي ... 22
مصادر المباركفوري ويشمل ... -
مصادره من كتب التفسير بالمأثور ... 24
مصادره في التفسير بالرأي ... 25
مصادره من كتب الحديث وعلومه ... 26
مصادره من كتب الفقه ... 29
الفصل الثالث "الإمام الترمذي "
اسمه ... 30
فضله ... 30
حفظه ... 31
شيوخه وتلاميذه ... 32
مؤلفاته ... 32
جامع الترمذي ... 33
شروحه ... 33
قيمة الكتاب وفضله ... 36
هل في كتاب الترمذي حديث موضوع ... 38
الباب الثاني جهوده في التفسير : وفيه فصلان ... 40-189
الفصل الأول جهوده في التفسير بالمأثور
وفيه مبحثان ... 40-146
المبحث الأول / التعريف بعلم التفسير ونشأته .. ويشمل ... -
التفسير لغة ، اصطلاحا ... -
التأويل لغة ، اصطلاحا ... 40
الفرق بين التفسير والتأويل ... 41
والذي أميل إليه ... 42
أقسام التفسير باعتبار مصدره ... 43
تعريف التفسير بالمأثور ... 45
نشأته ... 45
أشهر كتب التفسير بالمأثور ... 45
بيان أقوال المباركفوري في التفسير بالمأثور ... 50
المبحث الثاني / عرض نماذج ودراستها ... 50
قوله تعالي اهدنا الصراط المستقيم ... -
" " وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية ... 58
" " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ... 60
" " ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة ... 64
" " حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي ... 66
" " ربنا ولا تحملنا مالا طاقه لنا به ... 69
" " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ... 74(9/1)
" " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم علي بعض ... 78
قوله تعالي إن الله لا يغفر أن يشرك به ... 86
" " وقالت اليهود يد الله مغلولة ... 90
" " والله يعصمك من الناس ... 93
" " عليكم أنفسكم ... 95
" " وإذ قال الله يا عيسي بن مريم ... 97
" " ولا تقربوا الفواحش ... 102
" " هو الذي خلقكم من نفس واحدة ... 106
" " يسألونك عن الأنفال ... 109
" " وأذان من الله ورسوله إلي الناس ... 113
" " لمسجد أسس علي التقوى ... 115
" " لقد تاب الله علي النبي والمهاجرين ... 118
" " يوم ندعو كل أناس بإمامهم ... 120
" " ورفعناه مكانا عليا ... 123
" " وأقم الصلاة لذكري ... 127
" " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ... 128
" " قالوا ماذا قال ربكم ... 132
" " فمنهم ظالم لنفسه ... 134
" " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ... 137
" " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ... 140
الفصل الثاني جهوده في التفسير بالرأي ... 144
وفيه مبحثان * المبحث الأول . . التفسير بالرأي ... 147 -189
تعريفه ، نشأته ... -
والذي أميل إليه ... 147
موقف العلماء من التفسير بالرأي ... 149
أشهر كتب التفسير بالرأي ... 150
من كتب التفسير في العصر الحديث ... 153
بيان أقوال الإمام المباركفوري في مسائل التفسير بالرأي ... 153
* المبحث الثاني / المسائل التفسيرية ... 153
هل يجوز اخذ الأجر علي قراءة القرآن ... -
ماهي حدود ولاية المرأة في عقد النكاح ... 155
حكم قصر الصلاة في السفر ... 159
حكم النياحه علي الميت ... 166
هل تجزي صلاة بغير فاتحه الكتاب ... 171
حكم زواج الزاني بالعفيفة والعكس
الباب الثالث / جهود المباركفوري في علوم القرآن وفيه ثلاثة فصول ... 178
الفصل الأول / في أسباب النزول ... 186
تعريف السبب ... 190-195
فوائد العلم به ... -
ما يعتمد عليه في معرفة السببية ... 190
المؤلفون في هذا الميدان ... 191
بيان أقوال المباركفوري في اسباب النزول ... 193
المسأ لة الأولي آخر ما نزل من القرآن ... 195
المسألة الثانية سبب نزول قوله تعالي ولله المشرق والمغرب ... 196(9/2)
المسألة الثالثة سبب نزول قوله تعالي فمالكم في المنافقين ... 198
المسألة الرابعة سبب نزول قوله تعالي وان امرأة خافت ... 202
المسألة الخامسة سبب نزول قوله تعالي ماكان للنبي ... 208
المسألة السادسة سبب نزول قوله تعالي لم تقولون مالا تفعلون ... 212
الفصل الثاني / في القراءات ... 215
تعريف القراءات ، موضوعها ... 219
منشأ الاختلاف بين القراء ... -
فوائد الاختلاف بين القراء ... 222
نشأتها ... 222
أركان القراءة الصحيحة ... 224
هل تجوز القراءة بالشاذ ... 225
أهم المؤلفات في القراءات ... 227
المباركفوري والقراءات ... 228
قوله تعالي حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي ... 229
قوله تعالي هل يستطيع ربك ... 232
قوله تعالي وتري الناس سكارى ... 234
قوله تعالي الله الذي خلقكم من ضعف ... 237
قوله تعالي وما خلق الذكر والأنثى ... 239
قوله تعالي قل هو الله أحد ... 241
الفصل الثالث مباحث متفرقة ... 244
وفيه مبحثان / ... 247
المبحث الأول / جهوده في مبحث فضائل القرآن .. وفيه مسأئل ... -
سبب تسميه الفاتحة بأم الكتاب
فضل سورة الدخان ... -
هل البسملة من القرآن ... 250
في كم يختم القرآن ... 253
فضل سورة الإخلاص ... 254
شفا عة القرآن لصاحبه ... 259
المبحث الثاني / في المكي والمدني ... 263
نظرة العلماء إلي المكي والمدني ... 266
طريق العلم به ... -
فوائد العلم به ... 268
المؤلفات فيه ... 269
المباركفوري والمكي والمدني ... 272
سورة الفاتحة ... 273
سورة الرعد ... 273
سورة الحج ... 275
سورة الفرقان ... 278
سورة القصص ... 282
سورة لقمان ... 284
سورة المؤمن ... 286
سورة الأحقاف ... 289
الخاتمة ... 291
الفهارس ... 293
فهرس الآيات القر انيه ... 296
فهرس الأحاديث والآثار ... 300
فهرس المراجع والمصادر
فهرس الأعلام المترجمين
فهرس المحتويات
فهرست الأعلام والمترجمين
أبان بن تغلب
إبراهيم الاسفرائيني
إبراهيم أبو ثور
إبراهيم الزجاج
إبراهيم النخعي
إبراهيم بن عبد الله الهروي
البراء بن عازب
أبو البداج
أبو السائب
أبو علي الفارسي
أبي بن كعب
احمد بن أبى بكر
أبو مصعب الزهري
احمد البيهقي
احمد البنا(9/3)
احمد الثعلبي
احمد الجصاص
احمد بن حجر
احمد بن حنبل
احمد الخطابي
احمد بن عجيبه
احمد بن محمد القسطلاني
الحسين بن عثمان
الحسين ابن الفضل
حماد بن شاكر أبو محمد النسفي
حمد بن ناصر الأعمش
حمزة بن حبيب
خالد بن زيد أبو أيوب
خليل بن محمد الأنصاري
الخليل بن احمد الفراهيدي
خليل بن كيكلدي العلائي
خوله بنت حكيم
رافع بن خديج
الربيع بن خثيم
رفاعه بن رافع
رفيع ابو العاليه
زبان بن العلاء ابو عمرو
زيد بن اسلم
زيد بن ثابت
سعد بن ابي وقاص
سعد بن مالك
سعيد بن جبير
سعيد بن المسيب
سعيد بن منصور
سفيان الثوري
سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي
سليمان بن الأشعث أبو داود
سمرة بن جندب
عبد الرازق الصنعاني
عبد الكريم الرافعي
عبد الله البيضاوي
عبد الله أبو عبد الرحمن السلمي
عبد الله بن شداد
عبد الله بن ابي شيبه
عبد الله بن عامر
عبد الله بن عباس
عبد الله الغازي فوري
عبد الله بن قيس
عبد الله بن كثير
عبد الله بن المبارك
عبد الله بن مسعود
عبد الله بن أبي بحيح
عبد الله النسفي
عبيد بن عمير
عبيدة السلماني
عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح
عدي بن حاتم
عطاء بن أبي رباح
عقبه بن خالد
عقبه بن عامر
عكرمة
علقمة بن قيس
قتيبه بن سعيد
مالك بن مغول
المبارك بن محمد ابن الأثير
مجاهد بن جابر
محمد بن عبد الرحمن السخاوي
محمد بن القاسم أبو بكر الانباري
محمد بن الطيب البا قلاني
محمد بن محمد الجوزي
محمد بن محمد بن جزي
محمد بن عبد العزيز الجعفري
محمد بن عبد الله الحاكم
محمد بن حبان أبو حاتم
محمد بن يوسف أبو حيان
محمد بن مسلمه
محمد بن محمد الخطيب الشربيني
محمود الالوسي
محمود الزمخشري
محمد بن إسحاق صاحب المغازي
محمد بن إسحاق ابن خزيمه
محمد طاهر بن علي
محمد بن عمر الرازي
محمد بن بهادر الزركشي
محمد احمد أبو زهرة
محمد بن عبد القادر أبو الطيب السندي
معمر بن المثني أبو عبيدة
مقاتل بن سليمان
مكحول بن الفضل
مكي بن أبي طالب
نافع بن عبد الرحمن(9/4)
نذير حسين الدهلوي
نسيبه بنت الحارث أم عطيه
نصر بن علي السمرقندي
نصر بن الصباح أبو القاسم البلحي
هبه الله بن سلامه
هند بنت أبي أميه ام سلمه
وهب بن منبه
يحمد أبو أميه الشعباني
يحي بن زياد الفراء
يحي بن شرف النووي
يحي بن أبي نصر ابو سعيد الهروي
يحي بن يعمر
يزيد بن عبد الله ابن الشخير
يعلي بن أميه
يوسف بن عبد الرحمن المزي
يوسف بن عبد الله ابن عبد البر
يونس بن حبيب
احمد بن مردويه
احمد النسائي
احمد أبو نعيم
إسحاق ابن راهويه
إسماعيل البر سوي
إسماعيل بن محمد القونوي
إسماعيل ابن كثير
اصحمه النجاشي
الأسود بن يزيد
أشعث السمان أبو الربيع
أنس بن مالك
جابر بن زيد
جرهم بن ناشم ابوثعلبه الخشنى
حاتم بن عنوان الأصم
الحسن البصري
الحسن بن الفضل
الحسن النيسابوري
حسين بن محسن الأنصاري
الحسين البغوي
الحسين الحليمي
الحسين بن خالويه
الحسين الراغب الاصفهاني
شعبه بن الحجاج
شمس الحق العظيم ابادي
صديق حسن خان
الضحاك بن مزاحم
طاوس بن كيسان
الطيب بن سليمان
ظهير أحسن النيموي
عاصم بن بهدله ابو النجود
عامر بن ربيعه
عامر بن شراحبيل الشعبي
عبادة بن الصامت
عبد الحق ابن عطيه
عبد الحميد الاخفش لأكبر
عبد الرحمن الاوزاعي
عبد الرحمن الثعالبي
عبد الرحمن ابو الفرج البغدادي
عبد الرحمن ابو الفرج الجوزي
عبد الرحمن بن ابي بكر
عبد الرحمن بن ابي حاتم
عبد الرحمن بن محمد بوسعد الادريسي
عبد الرحمن السيوطي
عبد الرحمن الصنابحي
عبد الرحمن القشيري
عبد الرحمن ابو هريرة
عبد الرحمن بن حسين زين الدين العراقي
علي بن حمزة الكسائي
علي بن سلطان القاري الهروي
علي بن رفاعه
علي الخازن
علي الدار قطني
علي بن ابي طالب
علي القاري
علي الشوكاني
علي الهادوي
علي بن المديني
علي الواقدي
علي بن احمد ابن حزم
عمر بن رسلان البلقيني
عمرو بن علي ابن الملقن
عمر بن علي بن عادل
عمرو بن دينار
عمرو بن شعيب
عويمر بن زيد أبو الدرداء
عياض بن موسي القاضي عياض(9/5)
الفضل بن الحسن الطبرسي
القاسم بن أبي بزة
القاسم بن سلام
القاسم بن فيرة الشاطبي
قبيصه بن أبي ذويب أبو سعيد الخزاعي
قتاده بن دعامه
محمد بن محمد أبو السعود
محمد بن عبد الهادي السندي
محمد بن علي ابو شامه
محمد بن محمد ابن سيد الناس
محمد بن إدريس الشافعي
محمد بن عقيل البالسى الشافعي
محمد بن جرير الطبري
محمد بن يوسف الكرماني
محمد حسين الطباطبائي
محمد بن الحسين الطوسي
محمد بن عبد الله ابو بكر بن العربي
محمد الطاهر بن عاشور
محمد بن أبي بكر بن القيم
محمد بن سعد صاحب الطبقات
محمد بن سعد القرظي
محمد بن محمد أبو منصور الماتريدي
مروان بن الحكم
مسلم بن الحجاج
مسروق
مصعب بن نوح
مطرف بن عبد الله
المطلب بن أبي وداعه
معاذ بن جبل
معقل بن يسار
م ... الاسم ... م ... الاسم
احمد بن مردويه
احمد النسائي
احمد أبو نعيم
إسحاق ابن راهويه
إسماعيل البر سوي
إسماعيل بن محمد القونوي
إسماعيل ابن كثير
اصحمه النجاشي
الأسود بن يزيد
أشعث السمان أبو الربيع
أنس بن مالك
جابر بن زيد
جرهم بن ناشم ابوثعلبه الخشنى
حاتم بن عنوان الأصم
الحسن البصري
الحسن بن الفضل
الحسن النيسابوري
حسين بن محسن الأنصاري
الحسين البغوي
الحسين الحليمي
الحسين بن خالويه
الحسين الراغب الاصفهاني
شعبه بن الحجاج
شمس الحق العظيم ابادي
صديق حسن خان
الضحاك بن مزاحم
طاوس بن كيسان
الطيب بن سليمان
ظهير أحسن النيموي
عاصم بن بهدله ابو النجود
عامر بن ربيعه
عامر بن شراحبيل الشعبي
عبادة بن الصامت
عبد الحق ابن عطيه
عبد الحميد الاخفش لأكبر
عبد الرحمن الاوزاعي
عبد الرحمن الثعالبي
عبد الرحمن ابو الفرج البغدادي
عبد الرحمن ابو الفرج الجوزي
عبد الرحمن بن ابي بكر
عبد الرحمن بن ابي حاتم
عبد الرحمن بن محمد بوسعد الادريسي
عبد الرحمن السيوطي
عبد الرحمن الصنابحي
عبد الرحمن القشيري
عبد الرحمن ابو هريرة
عبد الرحمن بن حسين زين الدين العراقي
علي بن حمزة الكسائي
علي بن سلطان القاري الهروي(9/6)
علي بن رفاعه
علي الخازن
علي الدار قطني
علي بن ابي طالب
علي القاري
علي الشوكاني
علي الهادوي
علي بن المديني
علي الواقدي
علي بن احمد ابن حزم
عمر بن رسلان البلقيني
عمرو بن علي ابن الملقن
عمر بن علي بن عادل
عمرو بن دينار
عمرو بن شعيب
عويمر بن زيد أبو الدرداء
عياض بن موسي القاضي عياض
الفضل بن الحسن الطبرسي
القاسم بن أبي بزة
القاسم بن سلام
القاسم بن فيرة الشاطبي
قبيصه بن أبي ذويب أبو سعيد الخزاعي
قتاده بن دعامه
محمد بن محمد أبو السعود
محمد بن عبد الهادي السندي
محمد بن علي ابو شامه
محمد بن محمد ابن سيد الناس
محمد بن إدريس الشافعي
محمد بن عقيل البالسى الشافعي
محمد بن جرير الطبري
محمد بن يوسف الكرماني
محمد حسين الطباطبائي
محمد بن الحسين الطوسي
محمد بن عبد الله ابو بكر بن العربي
محمد الطاهر بن عاشور
محمد بن أبي بكر بن القيم
محمد بن سعد صاحب الطبقات
محمد بن سعد القرظي
محمد بن محمد أبو منصور الماتريدي
مروان بن الحكم
مسلم بن الحجاج
مسروق
مصعب بن نوح
مطرف بن عبد الله
المطلب بن أبي وداعه
معاذ بن جبل
معقل بن يسار(9/7)