المقدمة
الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . ملك يوم الدين . إياك نعبد وإياك نستعين . ونصلي ونسلم على من أرسله ربه شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وقال له : " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " سورة النحل: 44
فقام ببيان ما أنزل إليه خير بيان ، تارة بالقول وتارة أخرى بالعمل ، وفسر منه بالقدر الذي خفي على الناس في عصرهم ، ووسعهم في حياتهم ، وما أن انقضى ذلك العصر ، وانتقل الناس من حال إلى حال ، حتى جدت أحداث ، كما خفي على الناس ملابسات التنزيل ودواعيه ، مما جعل الأمة في حاجة متجددة ومتزايدة لتفسير القرآن الكريم بما يوضح تلك الملابسات ، ويزيل ذلك الخفاء عن بعض آي القرآن الكريم ، فنهض بهذا العبء علماء في مختلف الأمصار والأعصار ، عملا بقوله تعالى : " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم .." النساء : 82
وإذا كان المرء ابن بيئته ، فإن هؤلاء المفسرين لما اختلفت بيئاتهم وأعصارهم ، اختلفت تبعا لذلك مشاربهم ، واصطبغت بتلك الميول مصنفاتهم ، وأصبحت كتب التفسير تعكس ثقافة المفسر وتوجهه إلى جانب ثقافة عصره والتيارات السائدة فيه ، بل أصبحت بعض كتب التفسير تحتل مكانة متقدمة بين كتب التفسير الأخرى لما امتزجت به من العلوم العقلية ، ولما فيها من الرأي والاجتهاد ، وليس فقط لما فيها من تفسير وبيان للقرءان الكريم .
ونظرا لامتزاج التفسير بهذه العلوم العقلية من جهة ، وتأثره بالتيارات الفكرية والعقدية من جهة أخرى ، فإن ذلك قد أدى إلى الاختلاف الواضح والصارخ أحيانا في الحكم على هذه المصنفات من التفسير تبعا لاختلاف الموازين والمقاييس التي حكموها في تقويمها ، وبذلك نرى كتبا قد تقدمت ربما كان حقها التأخير ، وكتبا أخرى قد تأخرت وربما كان حقها التقديم .(1/1)
وخير مثال على ما نقول تفسير الكشاف لمحمود بن عمر الزمخشري الذي تضاربت فيه أقوال أهل العلم قديما وحديثا ، فمنهم من رفعة وجعله على قمة هرم كتب التفسير ، ومنهم من تحامل عليه ونزل به إلى قاعدة الهرم ، بل ومنهم من نهى عنه ، وحرم النظر فيه كما صرح بذلك تاج الدين السبكي وغيره .
فمنذ أن ظهر تفسير الكشاف في القرن السادس الهجري بما يحمله من آراء واجتهادات شخصية للزمخشري ، تناولته أقلام الدارسين والباحثين مدحا وذما ، وقد تميزت هذه الدراسات بميزتين اثنتين :
1 ـ أن هذه الدراسات كانت في أغلبها تركز على جانب واحد من جوانب تفسير الكشاف ، كالجانب العقدي مثلا من حيث تتبع اعتزالاته ومسلكه في تأويل الآيات القرءانية بما يخدم مذهبه وميوله ، أو الجانب البلاغي وذلك ببيان مسلك الزمخشري في تطبيق نظرية النظم البلاغي التي بها علل سر الإعجاز في القرءان الكريم .
2 ـ أن هذه الدراسات لم تخل في أغلبها من التعصب والغلو للزمخشري أو ضده ، وقد امتد أثر هذا التعصب والغلو في الحكم على كشاف الزمخشري إلى عصرنا الحاضر .
إلا أننا إذا رجعنا إلى تفسير البحر المحيط فإننا نجده قد حاول أن يتخطى هذا وذاك ، حيث تناول تفسير الكشاف بالدراسة من مختلف جوانبه ، كما أن دراسته النقدية لهذا التفسير ، وما وقف عليه من نقائص لم تمنعه من الإشادة بمحاسنه ، وإظهار إعجابه بالجوانب التي وفق فيها ، وإبراز القيمة العلمية للجديد فيه .(1/2)
وهكذا فإن تفسير البحر المحيط بما يحمله من خصائص ، وبما تضمنه من نقد موضوعي لتفسير الكشاف في مختلف جوانبه قد أحدث نظرة جديدة لهذا التفسير ، وقد تجلت هذه النظرة في أعمال المفسرين اللاحقين وغيرها من الدراسات ، كالدر اللقيط من البحر المحيط لابن مكتوم القيسي ، والدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي ، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري ، والمحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري ليحيى الشاوي ، وغيرها .
ومن هذا كله بدا لي أن رأي أبي حيان في تفسير الكشاف من خلال تفسيره البحر المحيط كان أقرب تلك الآراء إلى القصد والاعتدال ، مما ولد عندي هذه الفكرة ، ودعاني إلى اختيار هذه الموازنة بين هذين الكتابين في التفسير لتكون موضوع بحثي في هذه المرحلة ، وذلك تحت عنوان :
موازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي
كما أن فكرة الموازنة بين هذين المفسرين كانت تزداد نضوجا في ذهني يوما بعد يوم وأنا أدرس مادة مناهج المفسرين ، فكنت كلما رجعت إلى تفسير البحر المحيط وقرأت منه شيئا تبين لي عظمة هذا التفسير وعظمة مؤلفه ، وأعجب كيف لم يبلغ هذا الكتاب من الشهرة والانتشار ما بلغه كشاف الزمخشري ، وأتساءل قائلا : لماذا لم يلق من العناية والخدمة مثل الذي لقيه تفسير الكشاف ؟(1/3)
علما بأن فكرة الموازنة بين خصائص الحركة العلمية وأعلامها في المشرق والمغرب ليست جديدة ، بل نجد لها أثرا واضحا في كتابات المتقدمين ، واستمرت عند المتأخرين ، من ذلك مثلا ما نجده عند الفاضل بن عاشور في كتابه " التفسير ورجاله " حيث أجرى موازنة دقيقة ومركزة بين تفسير الزمخشري وهو من المشرق ، وتفسير المحرر الوجيز لابن عطية وهو من المغرب(1). وعند عبد الوهاب فايد في كتابه منهج ابن عطية المفسر ، حيث عقد بابا هاما في بحثه للموازنة بين ابن عطية كمفسر مغربي وبين مجموعة من المفسرين من المشرق .
سبب اختيار الموضوع :
ولذا اخترت أن تكون هذه الموازنة بين تفسير الكشاف الزمخشري وتفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي لأسباب كثيرة منها :
أولا ـ ما كان لهما من مكانة مميزة بين كتب التفسير ، فكان كل واحد منهما يستقطب مرحلة تاريخية مستقلة من مراحل التفسير .
فأما الكشاف فقد كان خاتمة المرحلة الثانية في تاريخ التفسير وهي مرحلة موصوفة بأصالة التفكير النحوي ، وتنمية المرحلة الأولى والبناء عليها ، كما تمتاز في مجموع رجالها بأصالة المنهج اللغوي في التفسير والتطور به إلى مداه على يد خاتمتها الإمام الزمخشري ، وقد امتازت بكون أغلب رجالها هم أئمة النحو الذين كانت أقوالهم واجتهاداتهم في الدراسات النحوية هي معين رجال التفسير في المراحل اللاحقة ، وفي ذلك يقول الفاضل بن عاشور : ( وقد أتى في تفسيره ـ حقا ـ من مظاهر البراعة ، وآيات العلم الواسع ، والذوق الراسخ ، والقلم والمتمرس ما زاده إعجابا به ، بعد انتهائه منه ، إذ قال في وصفه بيتين بديعين :
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
__________
(1) . التفسير ورجاله : 91 ـ 92(1/4)
فأصبح كتابه عمدة الناس على اختلافهم ، بين مشايع له ومخالف ، وعلى وفرة مخالفيه ، وانقطاع مشايعيه يرجعون إليه على أنه نسيج وحده في طريقته البلاغية الإعجازية ، وفي غوصه على دقائق المعاني وحسن إبرازها على طريقة علمية سائغة ، بتحليل تراكيبه وعباراته وإبراز خصائصه ، وعلى ما يكثر صاحب الكشاف من عنف على مخالفيه ، وما يتناوله به خصوصا أهل السنة والجماعة من قدح وشتم وسب وتجهيل ، فإن ما جبل عليه أهل السنة وقامت عليه طريقتهم العلمية من الإنصاف ، قد حملهم على الإغضاء على تلك الهفوات المخجلة والعورات الفاضحة ، فأقبلوا على دراسته وشرحه ، وبنوا عليه عامة بحوثهم في القرءان ، لا يخلو تفسير أو تأليف في موضوع قرءاني من رجوع إليه ، واعتماد عليه . )(1)
أما تفسير البحر المحيط هو الآخر فلم يكن مجرد تفسير بارز في مرحلة من مراحل التفسير ، بل كان يمثل مرحلة مستقلة بنفسه لما أحدثه من مراجعات هامة في كتب التفسير بصفة عامة ، ولمواقفه النقدية من كشاف الزمخشري ، وما تبعها من نشاط علمي جديد كامتداد لرؤيته المستقلة تجاه كثير من كتب التفسير .
ثانيا : أن كل من كتب عن الكشاف ممن سبق أبا حيان ، إنما كان يتناوله من جانب واحد ، وأغلب ما كتب في ذلك هو ما تعلق بالتنبيه على اعتزالاته ، حتى جاء أبو حيان الأندلسي فتناول هذا الكتاب من مختلف جوانبه ، ومحصه تمحيصا تميز بكثير من الموضوعية ، لأن أبا حيان قد جمع بين الإعجاب به في جوانب ، والاختلاف معه في جوانب أخرى ، فكان ينبه على جوانب الحسن والتوفيق ويدافع عنها ، مثلما ينبه على مكامن الضعف والإخفاق فيردها في أغلب الأحيان بأسلوب علمي رصين .
ثالثا : محاولة البحث في سر اشتهار تفسير الكشاف بهذه الدرجة المعروفة ، ولقد بلغت درجة شهرته في حقبة معينة من تاريخ التفسير أن شغل الناس عن تفاسير المتقدمين ، وكاد يصدق فيه قول الشاعر :
__________
(1) . الفاضل بن عاشور ، التفسير ورجاله : 85(1/5)
لا تذكر الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا
فأردت من خلال هذا البحث تسليط الضوء على أسباب ذيوعه ، سواء كانت هذه الأسباب راجعة إلى هذا المصنف ذاته ، وما كان يحمله في طياته من عوامل القبول والتميز بين كتب التفسير الأخرى . أم هي راجعة إلى أسباب خارجية عنه من عوامل تاريخية وفكرية وغيرها .
وفي رأيي أنه ما من باحث يطلع على تفسير الكشاف للزمخشري ، ثم يعرج على تفسير أبي حيان الأندلسي إلا ويغلب عليه الظن بتفوق أبي حيان على الزمخشري في أكثر الجوانب ـ وهي الفرضية التي انطلقنا منها في هذا البحث ـ ومع هذا فإن شهرة الكشاف ظلت تحجب شهرة البحر المحيط لفترة طويلة .
الإشكالية والأهداف المرجوة من هذا البحث :
وتتضح إشكالية هذا البحث من خلال الأسباب التي قدمناها في اختياره ، وهي محاولة إجراء موازنة بين كتابين في التفسير مشهورين يجمعهما اتجاه عام هو اتجاه التفسير بالرأي والاجتهاد ، كما غلب على تفسيريهما الاهتمام بالجانب اللغوي والنحوي والبلاغي ، وهما يصدران في ذلك عن مدرسة واحدة في النحو هي مدرسة البصرة ، ويفترقان فيما وراء ذلك مما سنفصله في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى .
وننشد من وراء هذه الموازنة الوصول إلى سر تقدم تفسير الكشاف عن تفسير البحر المحيط ، وهل هذا التقدم راجع إلى مجرد السبق من الناحية الزمنية وما تميزت به كل مرحلة من عطاء علمي ، أم هو راجع لعوامل أخرى قد تكون علمية وموضوعية ، وقد تكون غير ذلك ؟
وقد فطر الناس على حب المفاضلة بين الوسائل التي ترمي إلى غرض واحد ، والموازنة بين الأنواع التي ترجع إلى أصل واحد .
وليست الموازنة إلا ضربا من ضروب النقد يتميز بها الرديء من الجيد ، وتظهر بها وجوه القوة والضعف في الأعمال الأدبية والعلمية ، وهي بذلك تتطلب قوة علمية وحاسة نقدية تمكن الباحث من القدرة على الملاحظة ، وإدراك وجوه الاتفاق والافتراق بين الأشياء والمتقاربة والمتماثلة.(1/6)
قال الجرجاني : ( والتفاضل داعية التنافس ، والتنافس سبب التحاسد ، وكم من فضيلة لو لم تستثرها المحاسد لم تبرح في الصدور كامنة ، ومنقبة لو لم تزعجها المنافسة لبقيت على حالها ساكنة ، لكنها برزت فتناولتها ألسنة الحساد تجلوها ، وهي تظن أنها تمحوها ، وتشهرها وهي تحاول أن تسترها ، حتى عثر بها من يعرف حقها ، واهتدى بها من هو أولى بها ، فظهرت على لسانه في معرض ، واكتست من فضله أزين ملبس . )(1)
وهكذا فإن الموازنة بين الأعمال العلمية والأدبية ما هي في الحقيقة إلا انعكاس لذلك الجو من التنافس ، ومحاولة لتقويم تلك الجهود المتضافرة وبيان موقعها من بعضها بعضا ، فنجد فن الموازنة بين أعمال الشعراء مثلا قد ظهر وعرف بعد ما انتشر فن المعارضة بينهم ، ومحاولة المتأخر أن يأتي بأحسن ـ أو مثل ـ ما أتى به المتقدم ، ومن ثم نهض الأئمة النقاد ، وجردوا أنفسهم لفحص تلك الجهود وتقويمها والمفاضلة بينها .
ولما كان جو التنافس غير مقصور على ميدان الأدب وحده ، فإن حركة التفسير للقرآن الكريم هي الأخرى قد اصطبغت بهذه الصبغة عبر العصور ، ولا يزال أغلب المفسرين يذكرون في مطالع تفاسيرهم الأسباب التي حملتهم على وضع تلك المصنفات ، ويأتي في مقدمة تلك الأسباب ما رأوه من نقائص في التفاسير السابقة ، فأرادوا أن يجردوا التفسير منها ، أو ما وقفوا عليه من جوانب الحسن فأرادوا أن يأتوا بمثلها ويزيدوا عليها .
__________
(1) . علي بن عبد العزيز الجرجاني ، الوساطة بين المتنبي وخصومه ، منشورات المكتبة العصرية ، بيروت : 1(1/7)
وأحسب أن المفسر أبا حيان الأندلسي لم يشذ عن هذه القاعدة ، بل كان دافع التنافس والمحاكاة أحد العوامل الأساسية التي صرح بها في مقدمة تفسيره ، وذلك عندما أبدى إعجابا فائقا بتفسير الكشاف للزمخشري والمحرر الوجيز لابن عطية ، ولكنه أبدى تبرمه من جوانب النقص الموجود فيهما من جهة أخرى ، فعزم على وضع تفسير سماه " البحر المحيط " يجمع فيه تلك المحاسن ، ويتجنب ما وقعا فيه من مساوئ .
ولقد كانت روح التنافس صفة محبذة عند أبي حيان ، وهو يرى أن ما يشيع بين أهل العلم من تحاسد وتدافع هو الذي زادهم رسوخا في العلوم وطموحا إلى المعالي ، ومكنهم من بلوغ المقاصد ، ولقد مثل لهذا المعنى ببيتين جميلين من الشعر فقال :
عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاجتنيت المعاليا(1)
والجدير بالذكر أن الموازنة بهذا المفهوم غير سهلة ، وخاصة في مثل هذا الموضوع ، وهو المفاضلة بين مفسرين مثل الزمخشري وأبي حيان الأندلسي ، وذلك لأسباب :
أحدها : أن أبا حيان سني والزمخشري معتزلي ، والباحث هنا لا يأمن على نفسه في كل لحظة أن يجافي الحق وتخونه الموضوعية ، فيسارع إلى استحسان رأي لا لشيء إلى لأنه كشف عن معنى تميل إليه النفس أو يسكن إليه الفؤاد ، وقديما قال الشاعر :
عين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
وثانيها : أن الموازنة بين مفسرين أحدهما مغربي وآخر مشرقي هو تقسيم درج عليه الباحثون في تاريخ الحركة العلمية منذ القديم ، حيث كانوا يفضلون في الغالب ما هو مشرقي على ما هو مغربي ، مما جعل أهل المغرب ينازعون أهل المشرق في هذا الحكم ويشاحونهم فيه في كل مرة ، وهو ما حمل ابن حزم على القول ذات يوم :
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن ذنبي أن مطلعي الغرب
__________
(1) . الأسنوي ، طبقات الشافعية : 1/219(1/8)
ولو أنني من جانب الشرق طالع لجد على ما ضاع من ذكري النهب(1)
وثالثها : طبيعة هذين المفسرين التي تجلت في كتابيهما الكشاف والبحر المحيط ، حيث نجدهما يجنحان في كثير من مواطن الجدال والنقد إلى الألفاظ والعبارات المشحونة بالعنف والقسوة ، وبخاصة عند الزمخشري الذي كان كثيرا ما يميل إلى نبز خصومه بالألقاب الجارحة ، وأحيانا أخرى بالسخرية اللاذعة .
وأمام هذه العوامل مجتمعة أو متفرقة يجد الباحث نفسه من حين لآخر واقعا تحت جاذبية قاهرة تصرفه عن القصد والاعتدال في الحكم ، وتدفعه إلى طرفي الإفراط أو التفريط ، وحسبنا في مثل هذا المقام أن ننزل عند حكم الله تعالى وهو القائل في كتابه " فلا تميلوا كل الميل .."(2)وقد خلق الإنسان ضعيفا .
وما اختلاف الناس تجاه الزمخشري نفسه بين مشايع له ومخالف ، إلا أحد الأسباب البارزة في اختلافهم في الحكم على تفسيره اختلافا بينا .
ففي الوقت الذي نجد باحثا يقرر بأن لغة الزمخشري التي كتب بها كشافه هي لغة رقيقة سامية بليغة وواضحة ، وقد خلا هذا التفسير من الحشو التطويل ، على أن هذا الإيجاز والتركير لم يورث الكلام غموضا ولا تعقيدا . )(3)نجد باحثا آخر يقرر بـ (أن لغة الزمخشري في تفسيره هي غاية في التعقيد ، وكثيرا ما كان الزمخشري يتوخى هذا التعقيد.)(4)
__________
(1) . المقري ، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب : 2/286
(2) . من قوله تعالى في سورة النساء : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " الآية : 128
(3) . د. محمد بن لطفي الصباغ ، لمحات في علوم القرءان واتجاهات التفسير ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، ط3 ، 1990م ، ص: 245.
(4) . د. عدنان زرزور ، الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرءان ، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر ، ط1 ، ص : 478(1/9)
وفي الوقت الذي نجد بعضا من الباحثين يحكم بأن الزمخشري أفاض في ذكر الإسرائيليات ، وأورد كثيرا منها في الكشاف دون نقد أو تعقيب . )(1)نجد باحثين آخرين يقفون على النقيض من ذلك ، ويقررون بأن الزمخشري يقلل من ذكر الإسرائيليات ، ويناقش ما يورد منها ، وغالبا ما يردها ، ونستطيع القول بأن تفسيره الكشاف خاليا من الإسرائيليات نسبيا.)(2)ومثل ذلك في مباحث علم القراءات ، حيث نجد بعضهم يحكم بأن ( ما ذكره الزمخشري في الكشاف يدل على تبحره في علم القراءات وتفوقه فيه )(3)علما بأن هذا الكلام فيه من المبالغة الواضحة ما لا يخفى على أي باحث منصف ، بل إن علم القراءات هو أحد الجوانب التي تضعف من القيمة العلمية لكشاف الزمخشري وتخدشه .
العقبات والصعوبات :
ويتضح مما تقدم أن أولى العقبات التي واجهتني في هذا البحث هي طبيعة الموضوع نفسه ، أي المفاضلة بين الزمخشري المعتزلي المشرقي وبين أبي حيان السني المغربي ، وأن كلا منهما كان يقف على قمة هرم لمرحلة مستقلة من مراحل التفسير للقرءان الكريم .
__________
(1) . الشحات السيد زغلول ، من مناهج التفسير : 234
(2) . لمحات في علوم القرءان واتجاهات التفسير : 246
(3) . مرتضى آية الله زاده الشيرازي ، الزمخشري لغويا ومفسرا : 197(1/10)
ومن هنا فإني لا أخفي القول بأنني قد واجهت عقبات متتالية ، وكانت كل عقبة تكاد تثني عزمي وتصرفني عن المحاولة لولا توفيق الله أولا ، وتشجيع أستاذي المشرف ثانيا ، وبعض وأذكر من هذه الصعوبات صياغة عنوان البحث ، وتصميم الخطة المطابقة له والتصور المنهجي لكيفية معالجته ، ويضاف إليها ندرة الأساتذة الموجهين في العلوم الشرعية ، وكون البحوث الأكاديمية في هذا الجانب قليلة وغير مطبوعة أو متداولة ، ومن بين هذه المصادر التي لم يتيسر لي الظفر بها مثلا " كتاب المحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري " لأبي زكريا يحيى الشاوي الملياني الجزائري ، حيث لم أطلع على هذا الكتاب إلا وأنا في مرحلة متأخرة من إنجاز هذا البحث ، إلى جانب بعض العقبات الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها ، وربما استطاع القارئ نفسه أن يلمس آثارها أثناء اطلاعه على هذا البحث .
ولكنني أرى في الوقت ذاته أن أهمية الموضوع والحاجة الملحة إليه قد ذللت علي هذه العقبات وخففت من بعض الصعوبات ، وتتجلى أهمية هذا البحث في أكثر من جانب ، منها تقديم دراسة شاملة نسبيا عن منهج الزمخشري في تفسير الكشاف ، لأن أغلب الدراسات التي بين أيدينا اليوم إنما تتناول جانبا واحدا منه كالجانب الكلامي ، أو الجانب اللغوي والنحوي ، أو الجانب البلاغي ، أما الحديث عن منهجه في التفسير فلا يكتمل إلا بالإلمام بهذه الجوانب جميعا في دراسة واحدة ، كما أن تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي لم يلق من الدراسة الوافية التي ألمت به من مختلف جوانبه بما يليق بمكانته ، وإنما هي فصول وأشتات موزعة في عدة أبحاث ، ولا يستطيع طالب العلم أن يكون صورة متكاملة عن هذا الكتاب وأهميته ومنهج مؤلفه بما تفرق في بطون هذه الكتب ما لم تضمها دراسة واحدة .(1/11)
وتبقى الأهمية الكبرى التي يكتسيها هذا البحث هو دفع جهود الباحثين نحو دراسة تقويمية لأعمال المفسرين لإعطاء كل ذي حق حقه ، وإنزال كل مفسر منزلته ، وذلك بتحكيم النظرة العلمية والمقاييس الموضوعية في هذا التراث العلمي بما ييسر لطلاب العلم وجوه الانتفاع به وسبل الاستفادة منه .
مصادر ومراجع البحث:(1/12)
ويأتي في مقدمة مصادر هذا البحث تفسير الزمخشري المعروف بـ " الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل " وما كتب عليه من حواش نقدا وشرحا واختصارا وتخريجا لأحاديثه وآثاره ، كالإنتصاف من الكشاف لابن المنير الإسكندري ، والكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر العسقلاني ، وغيرهما ، وأما المراجع التي كتبت حول الزمخشري وإنتاجه العلمي فهي كثيرة وبخاصة ما تعلق بالجانب البلاغي في تفسيره ، وأذكر منها كتاب " الزمخشري " لأحمد الحوفي ، وهو على اختصاره من أحسن ما اطلعت عليه من كتابات عن الزمخشري وعطائه الفكري ، وما أحدثه من نشاط علمي فيمن جاء بعده ، كما استفدت بشكل واضح مما كتبه صاحب كشف الظنون عن تفسير الكشاف وأثره الواسع فيمن جاء بعده من المفسرين ، ولم أغفل ما كتب من بحوث علمية عن هذا التفسير ومنهج مؤلفه فيه على ما فيها من ثغرات ونقائص ، وأذكر من هذه البحوث " منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه " لمصطفى الصاوي الجويني ، وهو بحث ينطوي على فوائد معتبرة ، ولكنه لا يخلو من نقائص بعضها يتعلق بخطة البحث التي لم تغط جوانب مهمة في الكشاف ، ومنها أن الباحث ذكر فصولا متفرقة في كل باب من غير أدنى رابط بينها ، بل جعل الأبواب في خطة البحث غفلا من العناوين ، مما أضعف من ترابط فصولها وفقراتها ، كما صدرت من الباحث أحكام اتسمت بالغلو والمبالغة في مدح الزمخشري ، ووصفه بأكثر مما هو أهل له ، ومن ذلك مثلا قوله في صلة الزمخشري بالتفسير بالمأثور: ( ففيه يبدو الزمخشري هضم التفسير النقلي ، ووعى ما أثر فيه ، كما روى الحديث وأتقنه ، وأحاط خبرا بالمسائل الفقهية ودقيق الخلاف فيها ، وألم إلماما بالقراءات وفروق ما بينها .. )(1)
__________
(1) . مصطفى الصاوي الجويني ، منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : 79(1/13)
والنظرة الموضوعية تجعلنا لا نقر الباحث على كلامه هذا لما في الكشاف من ثغرات واضحة في هذه الجوانب جميعا ، وبخاصة جانب الأثر والرواية ، إذ ليس هو الجانب الذي جعل تفسير الكشاف يحظى بهذه المكانة .
ونجد قريبا من هذه المبالغة في تمجيد تفسير الكشاف عند باحث آخر عندما يقول : ( وكشاف الزمخشري هو عمدة التفسير لمن جاء بعده من المفسرين لما تميز به من الفكر وما تضلع به من ثقافة . )(1)فلا يخفى على كل منصف ما في مثل هذه الأحكام من المبالغة والتعميم غير السليم ، ولو بين هذا الباحث نوع الفكر وجانب العلم الذي تفوق فيه ـ وهو علم البلاغة والبيان ـ لسلم له بذلك ، أما أن يجري حكمه على إطلاقه فهذا ما نتحفظ عليه .
وهكذا فإن الباحث يجد نفسه في حاجة إلى حاسة نقدية قوية للتعامل مع مثل هذه المصادر ، بل يضطر أحيانا أن يؤخر الإطلاع عليها إلى مرحلة متأخرة من البحث خشية أن يقع أسيرا لبعض تلك الأحكام التي امتزج فيها الخطأ بالصواب .
كما رجعت إلى تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ، وبعض ما كتب عنه قديما وحديثا ، وخير ما وقفت عليه مما كتب عن شخصية أبي حيان وإنتاجه العلمي كتاب " أبو حيان النحوي " للباحثة العراقية خديجة الحديثي ، وهو بحث تقدمت به لنيل درجة الدكتوراه منذ أربعة عقود مضت ، فأفدت منه في التعرف على إنتاجه العلمي إضافة إلى جوانب مهمة تتعلق بشخصية أبي حيان الأندلسي .
__________
(1) . عبد الحميد محمد ندا ، ابن جزي وجهوده في التفسير : المقدمة .(1/14)
وإلى جانب كتب التراجم فقد استعنت في الحديث عن حياة المفسرين وعصرهما بكتب الأدب القديمة والحديثة باعتبار أن الأدب بشعره ونثره كان صورة تعكس الحياة السياسة والاجتماعية والفكرية لذلك العصر ، وبخاصة أن دور السلاطين والملوك كانت تزدحم بكبار الأدباء والشعراء والكتاب ، ويشغلون أفضل المناصب من وزارات ورؤساء دواوين وسفراء ودبلوماسيين ، مما يجعلهم على اطلاع مباشر عما يجري في الدول التي عاصروها ، فرجعت إلى كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب ، ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري التلمساني ، والبداية النهاية لابن كثير ، وغيرها من الموسوعات التاريخية والأدبية التي لا غنى عنها لكل باحث في مثل هاتين الشخصيتين ، وخلاصة القول أن مصادر البحث حول هذين الرجلين كثيرة ومتنوعة بقدر تنوع جوانب النبوغ والتفوق عندهما ، وبذلك فرضت علينا طبيعة هذا البحث ذي الأطراف المتشعبة أن أجري مطالعات واسعة في كتب التاريخ والتراجم والأدب واللغة والنحو والبلاغة والفقه وعلم الكلام وغيرها ، إلى جانب كتب التفسير الأخرى ، مما اضطرني إلى إنفاق زمن ليس بالقليل في إنجازه .
خطة البحث:
وقد جعلت هذا البحث في ثلاثة أبواب ، وتحت كل باب مجموعة فصول ، وكل فصل يتفرع إلى مباحث ، فخصصت الباب الأول للتعريف بهذين المفسرين وعصر كل منهما ، ومهما قيل عن شهرة هذين المفسرين ، فإن ما ظل خافيا من حياتهما إلى يومنا هذا لا يقل أهمية عما عرفناه عنهما ، كما لاحظنا كثيرا من الأحكام الصادرة من بعض الباحثين فيما يتعلق بالزمخشري مثلا قد جانبت الصواب ، إما بدافع التسرع ، أو التعصب له أو ضده ، وقل مثل ذلك بالنسبة لأبي حيان الأندلسي .
وهكذا فإن طبيعة هذا الباب اقتضت أن يكون في أربعة فصول .
الفصل الأول : وتناولت فيه عصر الزمخشري بجانبه السياسي والاجتماعي والعلمي والديني ، لما له من أثر على نشأة الفرد وتكوينه .(1/15)
الفصل الثاني : وتناولت فيه حياة الزمخشري ونشأته ورحلاته العلمية وخصائص شخصيته وأثرها في إنتاجه الفكري .
الفصل الثالث : وتناولت فيه عصر أبي حيان وبيئته الأولى التي نشأ بها وهي غرناطة آخر ممالك الأندلس ، والتي احتفظ بانتسابه إليها رغم إقامته الطويلة بالقاهرة إلى أن توفي بها ، دون أن نغفل الحديث عن القاهرة من الناحية العلمية يوم دخلها أبو حيان وألقى بها رحله .
الفصل الرابع : وتناولت فيه حياة أبي حيان الأندلسي ، فتحدثت عن نشأته وطلبه للعلم ، ورحلاته ، وآثاره العلمية وصفاته ، وخصائص شخصيته التي أضفى منها على إنتاجه وكتاباته.
أما الباب الثاني: فأفردته للحديث عن مسلكهما في التفسير بالمأثور ، وفرعت هذا الباب على خمسة فصول هي :
الفصل الأول : وتحدثت فيه عن مسلكهما في التفسير المرفوع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما هو تفسير للقرءان بالقرءان أوبالسنة .
الفصل الثاني : وتكلمت فيه عن موقفهما من مرويات التفسير مما هو منسوب للصحابة والتابعين .
الفصل الثالث : وعرضت فيه موقفهما من القصص والأخبار مما عرف بالإسرائيليات .
الفصل الرابع : وبينت فيه مسلكهما في عرض أسباب النزول والقرءاني ، وكيف أفاد كل منهما من أسباب النزول في فهم وتفسير النص القرءاني .
الفصل الخامس : وبسطت فيه مسلكهما في مباحث القراءات القرءانية .
أما الباب الثالث وهو مسلكهما في التفسير بالرأي فهو أطول الأبواب وأهمها في هذا البحث ، لأنه الجانب البارز في تفسيريهما ، وقد جعلته في ستة فصول .
الفصل التمهيدي وعرضت فيه بإجمال الأسس المنهجية والفكرية التي قام عليها التفسر بالرأي عند كل منهما ، ثم جعلت الفصول اللاحقة تفصيلا لما أجمل في الفصل التمهيدي على الوجه الآتي :(1/16)
الفصل الأول : وعرضت فيه مسلكهما في الكشف إعجاز القرءان الكريم ، وفيه تحدثت عن صلة المعتزلة بموضوع الإعجاز القرءاني ، وتراثهم البلاغي الذي بنوا عليه تعليل إعجاز القرءان الكريم ، والذي توج على يد عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم ، فتحدثت عن نشأتها وتطورها ، وجهود الزمخشري في تطبيقها باعتبارها المرجع النظري لإدراك مواضع الإعجاز في القرءان ، كما بحثت مدى تأثر أبي حيان بجهود الزمخشري من جهة ، وما أضافه في هذا الجانب من جهة أخرى ، وختمت هذا الفصل بموازنة بين جهودهما في الكشف عن إعجاز القرءان الكريم .
الفصل الثاني : وفيه تحدثت عن مصادرهما النحوية ومسلكهما في عرض الشواهد النحوية واللغوية وتوظيفها للوصول إلى فهم آيات القرءان ، باعتبار أن الشعر ديوان العرب ومرجعهم في فهم لغتهم .
الفصل الثالث : وهو من أهم فصول هذا الباب أيضا : وأفردته للكشف عن مسلكهما في المباحث العقدية ، فبينت فيه مصادرهما العقدية وطريقتهما في النقل والاقتباس منها ، ثم عرضت الخلفية الفكرية عند كلا المفسرين و أثرها في مسلك كل منهما في تفسير الآيات التي هي محل نزاع واختلاف بين الفرق الكلامية .
الفصل الرابع : وعرجت فيه على مسلكهما في تفسير آيات الأحكام ، حيث عرضت فيه مصادرهما الفقهية التي استعانا بها في هذا الجانب ، وكيفية تعاملهما معها ، كما تحدثت فيه عن ملامح النزعة الاجتهادية في فهم النص القرءاني ، والقيمة العلمية لما تجلى من استنباطات فقهية عند كل منهما .(1/17)
الفصل الخامس : وبعد أن تجلت لنا القيمة العلمية لكل من هذين المصنفين ، وجوانب التفوق عند كل من المفسرين من خلال الفصول السابقة ، رأيت ضرورة الحديث عن أثر كل من هذين التفسيرين في حركة التفسير وما أحدثه كل مفسر من نشاط علمي فيمن جاء بعدهما ، لنعرف في الأخير إن كانت درجة هذا التأثير مقياسا كافيا وحده لمعرف القيمة العلمية لكتاب ما ، أم أنه يجب البحث عن عوامل خارجية أخرى قد تكون من وراء هذا التأثير والذيوع والانتشار إلى جانب ذلك العامل الأول .
ويحسن بي أن أنبه في هذا المقام على ما قد يلاحظه القارئ لهذا البحث من تفاوت في الحجم والشكل بين بعض فصوله ، وذلك راجع في حقيقة الأمر إلى طبيعة كل فصل والجانب الذي تناوله من هذين الكتابين ، فهناك جوانب توسع فيها كلا المفسرين أو أحدهما كالجانب النحوي والبلاغي والكلامي مثلا ، وهناك جوانب أخرى اقتصدا وأوجزا فيها كالجانب الفقهي مثلا ، فاقتضت طبيعة الموازنة أن نتعامل مع كل جانب على قدر حجمه وأهميته ، ولذلك تباينت بعض الفصول في حجمها وفي عدد مباحثها حسبما اقتضته خصوصية كل فصل . أما فصول الباب الأول ـ وهو الباب التاريخي ـ فقد جاءت متجانسة في شكلها ومضمونها .
وقد عدلت عن كلمة " منهج " إلى كلمة "مسلك "في عناوين فصول هذا البحث لأنني أبحث في أوجه التفاضل لا في أوجه الإتفاق والاختلاف بين هذين التفسيرين ، لأن الاختلاف بينهما مسلم به لأكثر من سبب ، وبخاصة إذا علمنا أن أحدهما مفسر سني والآخر معتزلي فلكل أسسه الفكرية التي أقام عليها منهجه في تفسير القرءان .(1/18)
ولا تختلف كلمة منهج في معناها اللغوي عن معنى كلمة مسلك أو كلمة طريقة(1)، وأما في الاصطلاح فإن المنهج أعم من المسلك ، ونعني بالمنهج هنا الأسس النظرية القائمة في ذهن المفسر التي اقتنع أن يسير عليها أثناء البحث في تفسير القرءان الكريم ، وأما المسلك فنعني به الآليات التي تكفل سلامة تطبيق هذا المنهج وتحقيق أهدافه ، ومن هنا فضلنا كلمة مسلك لأننا نتعامل في دراستنا هذه مع ثمرة المنهج وهدفه لا مع المنهج ذاته .
منهج البحث:
وكان المنهج الغالب في إنجاز هذا البحث هو المنهج الاستقرائي ، ويقصد بالاستقراء دراسة بعض الجزئيات ، والوصول منها إلى حكم ينطبق عليها وعلى غيرها ، أو كما عرفه الغزالي ـ في معيار العلم ـ أن تتصفح جزئات كثيرة داخلة تحت معنى كلي ، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الكلي به(2).
والجزئيات التي تشترك في معنى كلي هنا هي عبارة عن مجموع الآيات الواردة في موضوع واحد ، حيث أقوم بتتبعها عند كل مفسر من هذين المفسرين ومسلكه في تفسيرها ، ففي فصل المباحث العقدية مثلا تتبعت أيات العقائد عند المفسرين وجمعت من كتابيهما من الشواهد الكافية ما يجعلني أخرج بصورة متكاملة عن مسلكهما في هذا الجانب ، وفعلت مثل ذلك في الفصول الأخرى من هذا البحث .
__________
(1) . في الصحاح للجوهري : النهج الطريق الواضح ، وكذلك المنهج والمنهاج .. ونهجت الطريق إذا سلكته ، وفلان يستنهج سبيل فلان ، أي يسلك مسلكه . الصحاح ، : 1/346 .
(2) . د. محمد الدسوقي ، منهج البحث في العلوم الإسلامية ، دار الأوزاعي ط1 ، 1984م ، ص: 82(1/19)
وقد قمت قبل ذلك كله بقراءة شاملة لهذين الكتابين في التفسير بما زاد في قناعتي صلاحية الموضوع للبحث ، ووسع من تصوري في طريقة تناوله ، ثم انتقلت إلى قراءة ثانية وثالثة بغية تدوين الشواهد والأمثلة ، حتى إذا اجتمع بين يدي عدد وافر من تلك الشواهد ، قمت بترتيبها وفق مواقعها من فصول البحث وتبعا لأسس المنهج الذي ارتضيناه لإنجازه، وإجراء قراءة نقدية لها ، مما هيأ لي القيام بموازنة بين مجموعة تلك الشواهد من كلا الكتابين على أسس سليمة ، والانتهاء إلى نتائج أحسبها صائبة.
وقد تلاقح هذا المنهج مع أطراف مناهج أخرى في بعض جوانب البحث ، كالمنهج المقارن الذي قامت عليه الموازنة بين مسلكي المفسرين ، والمنهج التاريخي في عرض وتحليل بعض النصوص التاريخية وما تعلق بترجمة كل من الزمخشري وأبي حيان الأندلسي .
كما حرست في بحثي هذا على مراعاة ما يأتي :
ـ رجعت في نقل الآيات القرءانية وضبطها وترقيمها إلى المصحف الشريف على رواية ورش عن نافع ، وقد جعلت الآيات الكريمة بين مزدوجتين ، وذكرت أرقام الآيات التي هي محل الدراسة والبحث في صلب البحث حتى لا نثقل الهامش بكثرة الإحالات ، إلا الآيات التي وردت عرضا أثناء كلام مقتبس ـ وهي قليلة ـ فقد ذكرت أرقامها بالهامش .
ـ خرجت الأحاديث النبوية تخريجا فنيا ، وذلك بإحالتها على مصادرها الأصلية من كتب السنة ، ذاكرا الكتاب والباب ، ورقم الحديث إن وجد ، كما جعلت الأحاديث هي الأخرى بين مزدوجتين .
ـ عرفت بالأعلام بما يزيد معلومات البحث وضوحا ، وأغفلت التعريف بالأعلام المشهورين كالخلفاء الراشدين ، وأئمة المذاهب الفقهية الأربعة ومن كان في حكمهم ، وكذلك سكتت عن الأعلام الذين وردت أسماؤهم عرضا ، وكان التعريف بهم لا تدعو إليه الحاجة ، وهم قليل في البحث .
ـ شرحت بعض الألفاظ الغريبة مستعينا في ذلك بالمصادر اللغوية المعتمدة .(1/20)
ـ حرصت على إضافة كل قول لصاحبه ، فما كان منها قد نقلته نصا جعلته بين قوسين ، وما كان منقولا بالمعنى أو بتصرف لم أقيده بين قوسين ، وفي كلا الحالتين كنت أحيل هذه الاقتباسات على مصادرها ، أو أنسبها إلى أصحابها ، كما أن هنالك بعض المراجع التي لم يتيسر لي الظفر بها ، وإنما نقلت منها بالواسطة ، فحرست على توضيح ذلك بالهامش ، وهي حالات قليلة .
ـ وألحقت بالبحث مجموعة من الفهارس الفنية تقرب المادة العلمية للقارئ بأسهل الطرق وأسرعها ، وهي :
ـ فهرس المصادر والمراجع ، ورتبت فيه أهم المصادر والمراجع التي اعتمدتها في هذا البحث ترتيبا ألفبائيا على أسماء المؤلفين ، مع ذكر المعلومات المتاحة عن الطبعة المستعملة .
ـ فهرس الآيات القرءانية ، وذكرت فيه الآيات مرتبة حسب موقعها من المصحف ، مع ذكر رقمها ، وموضع ورودها في البحث .
ـ فهرس الأحاديث النبوية ، وأوردت فيه الأحاديث التي تضمنها البحث ، مع ذكر موضعها في البحث .
ـ فهرس الشواهد الشعرية ، واقتصر فيه على ذكر الأشعار التي وردت في البحث على سبيل الاستشهاد لحكم من الأحكام في النحو أو غريب القرءان أو القراءات وغيرها .
ـ فهرس الموضوعات . وذكرت فيه رؤوس مواضيع البحث ابتداء بالأبواب ثم الفصول ثم المباحث ، وسكتت عما كان دون ذلك لسهولة الوصول إليه من خلال ما سبق .(1/21)
وفي الأخير أقول إنني بقدر ما واجهته من عقبات وصعوبات في إنجاز هذا البحث بقدر ما فتح الله علي من بركاته وأمدني بعونه ، إلى جانب التشجيعات التي لقيتها من بعض أساتذتنا الأكارم ، وإنني بهذه المناسبة أتقدم بمعاني الشكر والعرفان لأستاذي المشرف الدكتور رابح دوب الذي كان خير موجه ومساعد لي في إنجاز هذا البحث ومتابعته عن قرب من يوم تسجيله إلى أن ظهر على الصورة التي هو عليها اليوم ، كما أرفع جزيل شكري وامتناني إلى أستاذي الدكتور عبد الله سامي الكناني الذي أمدني بتشجيعاته ، ولم يبخل علي بنصائحه وخبراته في مجال البحث العلمي ، فكانت خير معين لي في تجاوز كثير من الاشكالات الهامة ، ولا أنسى أن أتقدم بالشكر أيضا إلى كل من مد لي يد العون والمساعدة في خدمة هذا البحث ابتداء بإدارة الجامعة وعمال المكتبة وزملائي الأساتذة وأعضاء المجلس العلمي لكلية أصول الدين والشريعة والحضارة الإسلامية .
والحمد لله رب العاملين(1/22)
فصل تمهيدي
مسلكهما في التفسير بالرأي
وبالرغم من اهتمام كلا المفسرين بالتفسير بالنقل فقد كان التفسير بالرأي هو الصبغة الغالبة على تفسيريهما ، واشتراكهما في هذه الميزة لا يعني بالضرورة تشابههما في المسلك ، بل كان لكل واحد منهما طريقته في توظيف الرأي والاجتهاد في تفسير القرءان ، وهذا ما سنعرض له في المبحثين الآتيين .
المبحث الأول
مسلك الزمخشري في التفسير بالرأي
1 ـ ظهر الزمخشري في تفسيره الكشاف معتزليا مجاهرا باعتزاله ، متبنيا لأصوله ومدافعا بكل حرارة عن مذهبه ، وقد تجلى هذا في الأسس التي بنى عليها مسلكهه في التفسير بالرأي.
فصرح في مقدمة تفسيره أن الداعي إلى تأليف هذا التفسير هو تلبية رغبة أتباع وأنصار مذهبه الإعتزالي ، في وضع مصنف في هذا الباب يبين عن مسلكهم في فهم نصوص الكتاب والسنة . قال الزمخشري : ( ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية ، الجامعة بين علم العربية و الأصول الدينية ، كلما رجعوا إلي في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب ، أفاضوا في الاستحسان والتعجب واستطيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك ، حتى اجتمعوا إلي مقترحين أن أملي عليهم " الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" فاستعفيت ، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين ، وعلماء العدل والتوحيد ..)(1)
__________
(1) . الكشاف : المقدمة .(1/1)
2 ـ ولما كان شعار المعتزلة هو تقديس العقل وتحكيمه ، ونبذ التقليد ومجانبته ، فإن الزمخشري قد بادر في مقدمة تفسيره إلى الدعوة إلى إعمال الرأي والفكر، لأن كثيرا من حقائق هذا القرآن لا تنكشف ـ حسب رأيه ـ لمقلد ( فهناك من لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر ، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم ، وإلا واسطتهم وفصهم ، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم ، عناة في يد التقليد ، لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم .)(1)
وقد أبان أكثر عن مسلكه هذا عندما قال : ( امش في دينك تحت راية السلطان ، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان ، فما الأسد المحتجب في عرينه ، أعز من الرجل المحتج على قرينه ، وما العنز الجرباء تحت الشمأل البليل ، أذل من المقلد عند صاحب الدليل.)(2)
وفي سبق العقل للشريعة يقول عند تفسير قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " سورة الشورى:52
يقول الزمخشري : ( فإن قلت : قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يدري ما القرآن قبل نزوله عليه ، فما معنى قوله : "ولا الإيمان "والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الايمان بالله وتوحيده ، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده ، فكيف لا يعصمون من الكفر ؟ قلت : الإيمان إسم يتناول أشياء ، بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى ما الطريق إليه السمع دون العقل ، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي ، ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى : "وما كان الله ليضيع إيمانكم "(3)بالصلاة ، لأنها بعض ما يتناول الإيمان . )(4)
__________
(1) . الكشاف : المقدمة .
(2) . الزمخشري ، أطواق الذهب في المواعظ والخطب : 46 . المقالة : 37
(3) . سورة البقرة : 143
(4) . الكشاف : 4/235(1/2)
ومن هذا المنطلق تحدث الزمخشري عن الحسن والقبح العقليين ، فقرر بأنه قد يرى العقل صوابا ثم يخطئه السمع ، ودلل على صحة هذه القاعدة وجعلها أصلا من الأصول التي يفسر القرآن في ضوئها ، وهذا واضح في كثير من المواضع في تفسيره .
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا " سورة مريم : 47
قال الزمخشري متحدثا عن وعد إبراهيم أباه بالإستغفار له : ( فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر للكافر ويعده بذلك ؟ قلت : لقائل أن يقول إن الذي منع من الإستغفار للكافر إنما هو السمع ، فأما القضية العقلية فلا تأباه ، فيجوز أن يكون الوعد بالإستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل ، والذي يدل على صحته قوله تعالى : " إلا قول إبراهيم لأستغفرن لك " فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة . وأما :"عن موعدة وعدها إياه " فالواعد هو إبراهيم لا آزر ، أي: ما قال " واغفر لأبي" إلا عن قوله " لأستغفرن لك" ، وتشهد له قراءة حماد الراوية: وعدها أباه ، والله أعلم.)(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " .. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات .." سورة سبأ:13
قال الزمخشري : ( فإن قلت : كيف إستجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير ؟ قلت : هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع ، لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب .)(2)
__________
(1) . الكشاف : 3/21
(2) . الكشاف : 3/572(1/3)
3 ـ والزمخشري إذ يوظف عقله بقوة في فهم النص ، يجعله لا يقنع بظاهر المعنى الذي لا يعد شيئا بجانب تدبره واستبطان معانيه ، وفي ذلك يقول : ( وتدبر الآيات : التفكر فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلو ، لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نثور لا يستولدها )(1)
ومهما أطلق الزمخشري العنان لعقله في تدبر معاني القرآن ، فإنه يعود أحيانا ليقرر قصوره عن فهم بعض آياته ، فلا يسع العقل حينئذ إلا التسليم للحكمة الإلهية ، لأن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لحكمة ، فأحيانا تظهر لنا ، وأحيانا تخفى عنا هذه الحكمة .
ففي تفسير قوله تعالى: " الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام.." سورة الفرقان:59
يقول : ( وأما الداعي إلى هذا العدد ـ أعني الستة ـ دون سائر الأعداد فلا نشك أنه داعي حكمة ، لعلمنا أنه لا يقدر تقديرا إلا بداعي حكمة ، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي لمعرفته ، ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر ، وحملة العرش ثمانية ، والشهور إثنا عشر ، والسماوات سبعا والأرض مثل ذلك ، والصلوات خمسا ، وأعداد النصب والحدود والكفارات وغير ذلك ،والإقرار بدواعي الحكمة في جميع أفعاله وبأن ما قدره حق وصواب هو الإيمان ، وقد نص عليه في قوله :" وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض ماذا أراد الله بهذا مثلا..)(2)
__________
(1) . الكشاف : المقدمة .
(2) . الكشاف : 3/288 .(1/4)
ومع تسليم الزمخشري بعجز العقل أحيانا عن استبطان بعض نصوص القرآن ، ووقوفه مندهشا أمام روعة إعجازه ، وخفاء الحكمة الإلهية في كثير من الأحكام والأوامر والنواهي والأخبار في كتابه ، فإنه كثيرا ما يطلق العنان لعقله ليحلق في أجواء بعض النصوص من غير ضابط ، فيقع في محاذير مذمومة .
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " سورة التوبة : 43
قال الزمخشري : ( كناية عن عن الجناية ، لأن العفو رادف لها ، ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت .)(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " قال يا نوح إنه ليس من اهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين " سورة هود :46
قال الزمخشري : ( وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة ، ووعظه ألا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين .)(2)
__________
(1) . الكشاف : 2/274
(2) . الكشاف : 2/400(1/5)
ففي كلا الموضعين نلاحظ الزمخشري قد طاش به عقله ، وصدر عنه من الكلام تجاه الأنبياء الأخيار ما يتنزه عنه كل مؤمن أن ينطق به ، فضلا عن أن يجعله تفسيرا لكتاب الله تعالى. بل ذهب إلى تحميل بعض ألفاظ القرآن مالا تحتمله ، مما يميل بنا أحيانا إلى إساءة الظن به . فلا ندري كيف استنبط من قوله تعالى: "عفا الله عنك " قوله : بئس ما فعلت ، فشتان بين العبارة القرآنية التي هي في غاية الأدب والعطف ، وبين عبارة الزمخشري التي لم يرد مثلها في القرآن الكريم إلا في ذم سلوك الذي كفروا وأشركوا . وكذلك في المثال الثاني لا ندري كيف استنبط من قوله تعالى لنوح عليه السلام : "ما ليس لك به علم " صفة الغباوة التي تنافي أحد الصفات الأساسية عند الأنبياء ، وهي الفطنة ، فكان الأولى به وهو يتحدث عن الأنبياء الكرام ، أن يتخير الألفاظ والعبارات التي تفيض أدبا ، وتليق بمقامات أصحاب العصمة ، وتتطابق ومعاني القرآن الكريم ومقاصده ، ولا أحسب أن الزمخشري يقصر رصيده اللغوي عن ذلك .
كما جانب الصواب في تفسير آيات أخرى عندما حكم فيها محض العقل دون مراعاة لسياق النص ، والغرض الذي ترمي إليه .فجاء كلامه في غاية البطلان ، مخالفا للمسلمات العلمية في عصرنا ، بل وفي عصره أيضا .
فنجده مثلا في تفسير قوله تعالى " : أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق .." سورة البقرة : 18
يقول : ( وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه ، ولا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر ، ويؤيده قوله تعالى(1): " وينزل من السماء من جبال فيها من برد .." )(2)
__________
(1) . سورة النور : 43
(2) . الكشاف : 3/246(1/6)
فلا الآية الأولى ولا الثانية وردتا لتحديد مصدر المطر وجهته ، ولكن لبيان تفرد الله في ملكه وسلطانه ، وحاجة العباد إلى فضله ورحمته وعطائه ، ومثله قوله تعالى : " وفي السماء رزقكم وما توعدون "(1)فإن معنى الآية أن الرازق هو الله ، وليست الآلهة التي يدعونها . ولو احتج محتج بهذه الآية وقال إن هذه الآية دليل على أن مصدر الرزق من السماء ، لكان استدلاله في غاية الفساد .
4 ـ ومنها تقديمه المبدأ اللغوي عن غيره في حل إشكالات التفسير ، ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" سورة الأعراف : 172 ـ 173 .
حيث نجد الزمخشري يضرب صفحا عن كثير من الروايات المأثورة في تفسير هذه الآيات ، سواء منها المرفوعة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو الموقوفة على ابن عباس وغيره ، ويذهب في تفسيرها مذهبا عقليا لغويا بحتا ، لأنه يجد في اللغة مجالا رحبا لتقليب الآية على وجوهها التي تحتملها ، واختيار ما يناسبه منها . وفي ذلك يقول : ( وقوله " ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا " من باب التمثيل والتخييل ، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم ، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم ؟ وكأنهم قالوا : بل أنت ربنا ، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك . وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام ، وفي كلام العرب . ونظيره قوله تعالى : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " ، " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " . وقوله :
__________
(1) . سورة الذاريات : 22(1/7)
إذ قالت الأنساع للبطن الحق.
قالت له ريح الصبا قرقار.
ومعلوم أنه لا قول ثم ، وإنما هو تمثيل وتصويرللمعنى .)(1)
فنلاحظ أن الزمخشري قد حمل هذا الخبر القرآني محمل التمثيل والتخييل وفق ما تعرفه العرب في لغة خطابها ، دون أن يعرج على ما ذكره المفسرون من آثار في هذا الموضع . وهو في ذلك تابع لشيوخه من المعتزلة ، بل ناقل عنهم دون أن يصرح بذلك . فبالرجوع إلى أمالي الشريف المرتضى المعتزلي في تفسير هذه الآيات ، نجده نفس التفسير الذي ورد في كشاف الزمخشري ، بل نفس العبارات والشواهد .
يقول الشريف المرتضى: ( أنه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيبا يدل على معرفته ، ويشهد بقدرته ووجوب عبادته ، فأراهم العبر والآيات والدلائل في أنفسهم وفي غيرهم ، كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى ، وتعذر امتناعهم منه ، وانفكاكهم من دلالته ، بمنزلة المقر المعترف ، وإن لم يكن هناك إشهاد ولا إعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ، وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ، ولا منهما جواب .)(2)
5 ـ سلوكه مسلك التأويل ، وحمل المتشابهات على المحكمات ،وهو باب عريض عند المعتزلة ، ننبه عليه هنا في كلامنا على التفسير بالرأي عند الزمخشري ومسلكه فيه ، وسنزيده بيانا عند كلامنا على مسلكه في تعامله مع آيات العقائد .
__________
(1) . الكشاف : 2/176
(2) . الشريف المرتضى ، غرر الفوائد ودرر القلائد ، تحقيق محمد أبو الفقضل إبراهيم ، دار الكتاب العربي ، لبنان ، ج1/28(1/8)
و خلاصة القول في هذا أن الزمخشري قد جعل الآيات التي يخالف ظاهرها مذهبه من متشابه القرآن ، والآيات التي يراها موافقة لمذهبه هي المحكمات من القرءان ، ثم طبق قاعدة حمل المتشابهات على المحكمات ، فصحت فيه المقولة الشهيرة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه(1): " كلمة حق أريد بها باطل " فالقاعدة صحيحة و لكن الخطأ ـ كما أراه ـ في تعيين المحكمات والمتشابهات .
ولنأخذ مثالا واحدا على ذلك ، لنرى مدى اجتهاد الزمخشري ومحاولاته الصعبة في تأويل الآيات لتوافق مذهبه ، أو على الأقل لا تصادمه .
ففي تفسير قوله تعالى :" ختم الله على قلوبهم و على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " البقرة :7
قال الزمخشري : فإن قلت ما معنى الختم على القلوب والأسماع و تغشية الأبصار ؟ قلت : لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة ، وإنما هو من باب المجاز ، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل .
أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم ، لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه ، واستكبارهم عن قبوله واعتقاده ، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه ، وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم ، وأبصارهم لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطي عليها وحجبت ، وحيل بينها وبين الإدراك .
__________
(1) . ذكر ابن كثير نقلا عن ابن جرير أن عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال : يا علي أشركت في دين الله الرجال ، ولا حكم إلا لله ، فتنادوا من كل جانب : لا حكم إلا لله ، فجعل علي يقول : هذه كلمة حق يراد بها باطل . انظر : البداية والنهاية : 7/282 .(1/9)
وأما التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الإستنفاع بها بالختم والتغطية . وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في اللسان والعي ختما فقال :
ختم الإله على لسان عذافر ختما فليس على الكلام بقادر
وإذا أراد النطق خلت لسانه لحما يحركه لصقر ناقر(1/10)
فإن قلت : فلم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح ، والله يتعالى عن فعل القبيح علوا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه وقد نص علىتنزيه ذاته بقوله : " وما أنا بظلام للعبيد "(1)، " وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين "(2)، " إن الله لا يأمر بالفحشاء "(3)، ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل ؟ قلت القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها ، وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل فلينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي . ألا ترى إلى قولهم : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه . وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم سماجة حالهم ن ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم ؟ ويجوز أن تضرب الجملة كما هي ، وهي ختم الله على قلوبهم مثلا كقولهم : سال به الوادي ، إذا هلك . وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة . وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء . فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الأغتام التي هي في خلوها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال البهائم أنفسها أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها حتى لا تعي شيئا ولا تفقه ، وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوها عن قبوله ، وهو متعال عن ذلك ، ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله لله ، فيكون الختم مسندا إلى إسم الله على سبيل المجاز ، وهو لغيره حقيقة .
__________
(1) . سورة ق : 29
(2) . سورة الزخرف : 76
(3) . سورة الأعراف : 27(1/11)
تفسير هذا : أن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له ، فإسناده إلى الفاعل حقيقة ، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة ، وذلك لمضاهاتها للفاعل في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه ، فيقال في المفعول به : عيشة راضية ، وماء دافق ، وفي عكسه : سيل مفعم ، وفي المصدر : شعر شاعر، وذيل ذائل . وفي الزمان : نهاره صائم
، وليله قائم . وفي المكان : طريق سائر، ونهر جار . وأهل مكة يقولون : صلى المقام . وفي المسبب: بنى الأمير المدينة ، وناقة ضبوث وحلوب . وقال :
إذا رد عافي القدر من يستعيرها
فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر ، إلا أن الله سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه ، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب . ووجه رابع : وهو أنهم لما كانوا على القطع والبت ممن لا يؤمن ، ولا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولا تجدي عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة إن أعطوها ، لم يبق ـ بعد استحكام العمى بأنه لا طريق إلى أن يؤمنوا طوعا أو اختيارا ـ طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء ، وإذا لم تبق طريق إلا أن يقسرهم ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم ، لئلا ينتقض الغرض في التكليف ؛ عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم ، إشعارا بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم على الكفر ، والإصرار عليه إلى حد لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي ، واستشرائهم في الضلال والبغي .
ووجه خامس : وهو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم : " قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب " ونظيره في الحكاية والتهكم قوله تعالى(1): " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " )(2)
__________
(1) . سورة البينة : 1
(2) . الكشاف : 1/48(1/12)
6 ـ ومهما كان الزمخشري يميل إلى القول بالتأويل ويتذرع به في صرف بعض آي القرءان عن المعاني التي قد تعارض معتقده ، فإنه يرفض التأويل الذي فشا بين بعض الناس على طريقة الصوفية ، وقد أبان عن موقفه هذا عندما سخر من أصحاب هذا المسلك في فهم كتاب الله تعالى ومذهبهم الغريب في حمل كلام الله على معان بعيدة لا تدل عليها نصوص القرءان من قريب أو بعيد ، وذلك في موضع واحد من كشافه في تفسيره لقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين .. " سورة المائدة : 56
قال الزمخشري : ( محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته ، وألا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه ، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ، ويثني عليهم ويرضى عنهم ، وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسواهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء ، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف ، وما يدينون به من المحبة والعشق ، والتغني على كراسيهم خربها الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء ، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دك الطور ، فتعالى الله عنه علوا كبيرا .. )(1)
__________
(1) . الكشاف : 1/646 . 647(1/13)
وإذا كنا نوافق الزمخشري في قدر من اعتراضه على هذا النوع من الفهم والتفسير لكلام الله تعالى ، فإننا نخالفه في نفي محبة العبد لربه ، ونتوقف على الأقل في قبول تفسيره محبة العبد لربه بأداء الطاعات واجتناب المنهيات ، لأن محبة العبد لربه لا يحيلها الشرع ولا العقل ، فلا مانع من حمل اللفظ على حقيقته ، كما أن جعل المتصوفة كلها تحت حكم واحد وجعلهم في مرتبة واحدة غير مسلم به ، ولذلك كله وقف ابن المنير عند الكلام السابق للزمخشري(1)، ورد عليه ردا مسهبا مبينا غلوه وتحامله بغير حق على فئة من أهل الملة تفاوتت أفهامهم لكتاب الله تعالى ، فمنهم من أحسن الفهم وأصاب ، ومنهم من أخطأ وزلت قدمه ، ولكن ليس من العدل والإنصاف أن نحمل من أحسن الفهم وزر من أساء الفهم ، والله تعالى يقول(2): " ألا تزر وازرة وزر أخرى " .
وبذلك نجد الزمخشري في الوقت الذي رفض التفسير الصوفي للقرءان الكريم قد اشتط في الحكم ، وذهب مذهب الغلو والإفراط في رده ، وكان الذي يليق به القول بالتفصيل ، فما كان موافقا لظاهر النص القرءاني وجاريا على المشهور من قواعد لغة العرب وغير مجاف لروح الشريعة قبلناه وقلنا به ، وما كان على خلاف هذه الضوابط رددناه على أصحابه .
تلك هي المعالم التي سار عليها الزمخشري في جانب التفسير بالرأي من كشافه ، وهي التي سنزيدها توضيحا من خلال الفصول اللاحقة .
وقبل أن نمضي في تفصيل هذه المعالم عند الزمخشري في كشافه سنتحدث عن معالم التفسير بالرأي عند أبي حيان من خلال كتابه البحر المحيط ، وهذا ما سنعرفه في المبحث اللاحق بحوله تعالى ، وهو ما يهيئ لنا بعدها مجال الموازنة بينهما في مسلكهما في التفسير بالرأي .
المبحث الثاني
مسلك أبي حيان في التفسير بالرأي
__________
(1) . انظر الانتصاف من الكشاف ، الهامش : 6 . على الكشاف : 1/646
(2) سورة النجم : 37(1/14)
اهتم أبو حيان بالتفسير بالرأي وانتصر للقائلين به ، ورد بأدلة قوية على المانعين له في مقدمة تفسيره ، ونذكر منها:
1 ـ أن في القرآن جوانب متعددة لها علاقة بتفسير القرآن وتيسير فهمه في لغته ونحوه وبيان إعجازه وغيرها ، مازالت على امتداد القرون في حاجة إلى من يبرزها ويجليها ، ولا ينهض بهذا العمل ـ في نظره ـ إلا ذوو القدرات الفائقة ، ليقرر بعد ذلك أن إدراك هذه الجوانب ليس مقصورا على جيل واحد مضى ، بل كل من حاز هذه العلوم أمكنه أن يغوص في أعماق آيات الكتاب ليعود بالجديد ، وهو يعتبر نفسه واحدا منهم ، وفي ذلك يقول ( فعكفت على تصنيف هذا الكتاب وانتخاب الصفو واللباب ، أجيل الفكر فيما وضع الناس في تصانيفهم ، وأنعم النظر فيما اقترحوه من تآليفهم .. وأضيف إلى ذلك ما استخرجته القوة المفكرة من لطائف علم البيان ، المطلع على إعجاز القرآن ، ومن دقائق علم الإعراب ، المغرب في الوجود أي إغراب ، المقتنص في الأعمار الطويلة من لسان العرب وبيان الأدب . فكم حوى من لطيفة فكري مستخرجها ، ومن غريبة ذهني منتجها ، تحصلت بالعكوف على علم العربية ، والنظر في التراكيب النحوية ، والتصرف في أساليب النظم والنثر، والتقلب في أفانين الخطب والشعر ، لم يهتد إلى إثارتها ذهن ، ولا صاب بريقها مزن ، وأنى ذلك وهي أزاهر خمائل غفل ، ومناظر ما لمستغلق أبوابها قفل ، في إدراك مثلها تتفاوت الأفهام ، و تتبارى الأوهام . وليس العلم على زمان مقصورا ، ولا في أهل زمان محصورا ، بل جعله الله حيث شاء من البلاد ، وبثه في التهائم والنجاد ، وأبرزه أنوارا تتوسم ، و أزهارا تتنسم )(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/3(1/15)
2 ـ أن القرآن الكريم إنما نزل بلسان عربي مبين ، فمن أحاط بعلوم هذه اللغة أمكنه فهم هذا الخطاب ، وفي ذلك يقول أبو حيان : ( ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة ، وارتقى إلى تمييز حسن تركيبها وقبحه فلن يحتاج في فهم ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ولا إلى معلم ، وإنما تفاوت الناس في إدراك هذا الذي ذكرناه فلذلك اختلفت أفهامهم وتباينت أقوالهم . وقد جربنا الكلام يوما مع بعض من عاصرنا فكان يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تراكيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم ، وأن فهم الآيات متوقف على ذلك ، والعجب أنه يرى أقوال هؤلاء كثيرة الإختلاف متباينة الأوصاف ، متعارضة ينقض بعضها بعضا . ونظير ما ذكره هذا المعاصر أنه لو تعلم أحدنا لغة الترك أفرادا وتركيبا حتى صار يتكلم بتلك اللغة ويتصرف فيها نظما ونثرا ، ويعرض ما تعلمه على كلامهم فيجده مطابقا للغتهم قد شارك فيها فصحاءهم ، ثم جاءه كتاب بلسان الترك فيحجم عن تدبره وعن فهم ما تضمنه من المعاني حتى يسأل عن ذلك سنقرا التركي أو سنجرا ، ترى مثل هذا يعد من العقلاء ، وكان هذا المعاصر يزعم أن كل آية نقل فيها التفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل ذلك إلى الصحابة ، ومن كلامه أن الصحابة سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تفسيرها ، هذا وهم الفصحاء الذين نزل القرآن بلسانهم. وقد روي عن علي كرم الله وجهه وقد سئل : هل خصكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهما يؤتاه الرجل في كتابه .(1/16)
وقول هذا المعاصر يخالف قول علي رضي الله عنه ، وعلى قول هذا المعاصر يكون ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقه ، وإظهار ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز لا يكون تفسيرا حتى ينقل بالسند المتصل إلى مجاهد ونحوه ، وهذا كلام ساقط )(1)
وبتتبعي لمظاهر وجوانب التفسير بالرأي عند أبي حيان في كتابه البحر المحيط تبين لي أن معالم التفسير بالرأي عنده تتلخص فيما يأتي :
1 ـ استرشاده بالتفسير بالمأثور قبل أن يدلي برأيه واجتهاده ، فأبو حيان لا يكاد يقول برأيه في آية حتى يسهب في نقل المأثور في تفسيرها ، ثم يتبع ذلك بما يلوح من ظاهر النص القرآني ، ورأيه في ذلك لا يعدو في الغالب أن يكون رأيا انتقائيا من تلك الأقوال المنقولة عن السلف من الصحابة والتابعين .
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " أ فغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها.." سورة آل عمران: 82
قال أبو حيان : ( قال ابن عباس : أسلم طوعا بحاله الناطقة عند أخذ الميثاق عليه ، وكرها عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام .
وقال مجاهد : سجود ظل المؤمن طوعا وسجود ظل الكافر كرها ..
وقال مجاهد أيضا وأبو العالية والشعبي ما يقارب معناه : أسلم أقر بالخالقية والعبودية ، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة ، فمن أشرك أسلم كرها ، ومن أخلص أسلم طوعا .
وقال الحسن : أسلم قوم طوعا وقوم خوف السيف .
وقال قتادة : الإسلام كرها هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه .
__________
(1) . البحر المحيط : 1/5(1/17)
ثم قال أبو حيان بعد هذه الأقوال وغيرها : والذي يظهر عموم من في السماوات وخصوص من في الأرض ، والطوع هو الذي لا تكلف فيه ، والكره ما فيه مشقة ، فإسلام من في السماوات طوع صرف ، إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة ، وإسلام من في الأرض من كان منهم معصوما كان طوعا ، ومن كان غير معصوم كان كرها ، بمعنى أنه فيه مشقة ، لأن التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية ، فلو لم يأت رسول من الله مبشرا بالثواب ومنذرا بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئا من التكاليف . )(1)
2 ـ وأبو حيان لا يتقدم برأي أو اجتهاد في تفسير آية ، بل لا يقبل نقلا عن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم إذا كان في السنة الصحيحة ما يغني عن ذلك ، ونراه في كثير من المواضع يرد أقوال الرجال لأن السنة تتقدم على ذلك ، ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " .. وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين " سورة البقرة : 57
قال أبو حيان : ( وفي كيفية دخولهم الباب أقوال : قال ابن عباس وعكرمة دخلوا من قبل أستاهم ، وقال ابن مسعود : دخلوا مقنعي رؤوسهم ، وقال مجاهد : دخلوا على حروف أعينهم ، وقال مقاتل : دخلوا مستلقين ، وقيل دخلوا منزحفين على ركبهم عنادا وكبرا . والذي ثبت في البخاري ومسلم(2)أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاهم ، فاضمحلت هذه التفاسير ، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .)(3)
__________
(1) . البحر المحيط : 2/515
(2) . البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب التفسير ، باب : " وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا .."
(3) . البحر المحيط : 1/222(1/18)
وإذا رجعنا إلى الكشاف للزمخشري وجدناه ينقل مجموعة آراء في هذه الآية دون أدنى إشارة إلى ما جاء في السنة في تفسيرها ، فيقول ( أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا ، وقيل السجود أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين ، ليكون دخولهم بخشوع وإخبات ، وقيل طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، فلم يخفضوها ، ودخلوا منزحفين على أوراكهم .)(1)
ومثل ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى :"و الفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسري " سورة الفجر:1ـ 4
قال أبو حيان : ( والشفع والوتر ، ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وعشرين قولا ضجرنا من قراءتها فضلا عن كتابتها في كتابنا هذا . وعن عمران بن حصين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر . وروى جابر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة .)(2)
3 ـ كما يرفض أبو حيان أن يدلي برأيه في تفسير الآية إذا كان مضمونها مما ليس للرأي فيه مجال ، ومن هذا المنطلق نجده يرد على الإمام الماتريدي(3)فيما ذهب إليه في تفسير قوله تعالى : " هنالك دعا زكرياء ربه قال رب هب لي من لدنك درية طيبة إنك سميع الدعاء" سورة آل عمران : 38
__________
(1) . الكشاف : 1/142
(2) . البحر المحيط : 8/461
(3) 2 . الماتريدي : هو محمد بن محمد بن محمود ، أبو منصور الماتريدي ، السمرقندي ، الملقب بـ إمام الهدى ، وإليه تنسب الماتريدية ، من آثاره : تأويلات أهل السنة في تفسير القرءان . توفي سنة : 333هـ انظر : الجواهر المضية في طبقات الحنفية : 2/130 .(1/19)
قال أبو حيان : ( وقال الماتريدي :كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولدا يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب ألا يدعو لمراد إلا فيما هو معتاد الوجود ، وإن كان الله قادرا على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة ، حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد .
ثم قال أبو حيان : ( وقوله كانت تحدثه نفسه بذلك يحتاج إلى نقل .)(1)
4 ـ استئناسه بظاهر النص القرآني فيما يستبعده أو يقدمه من الآراء في تفسير الآية ، وهو في ذلك معتد برأيه ، ولا يبالي بمخالفة أكثرية المفسرين ، كما لا يغتر بما ينسب لبعض كبار السلف من التفسير وهو بعيد عن مضمون النص ، مما يبعد معه أن يكون صادرا عن مثلهم ، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها:
في تفسير قوله تعالى : "رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين " سورة يوسف : 101
قال أبو حيان : ( وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ، ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت .
وقال ابن عباس : لم يتمن الموت حي غير يوسف .
والذي يظهر أنه ليس في الآية تمن ، وإنما عدد نعم الله عليه ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره ، أي توفني إذا حان أجلي على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين ، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت .)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.." سورة البقرة : 59
__________
(1) . البحر المحيط : 2/444
(2) . البحر المحيط : 5/349(1/20)
نجد أبا حيان ينقل بضعة عشر قولا للمفسرين في وصف الحجر وطبيعته وتعيينه ، ثم يقول : ( فهذه أقوال المفسرين في الحجر ، وظاهرها أو ظاهر أكثرها التعارض .. وظاهر القرآن أن الحجر ليس معينا ، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهودا ، وأن الاستسقاء لم يتكرر ، لا هو ولا الضرب ، ولا الانفجار ، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرض لها لفظ القرآن ، فيحتمل أن يكون ذلك متكررا ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة ، والواحدة هي المتحققة )(1)
5 ـ وللتناسب بين الآيات والسور ، والإهتمام بسياق النص القرآني مكانة مميزة في التفسير بالرأي عند أبي حيان ، حيث نجده في كثير من مواضع الإختلاف بين المفسرين يلجأ للإحتكام للسياق ووجه التناسب بين الآيات ، ليصل بذلك إلى آراء جديدة لم يسبق إليها بين المفسرين .
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيء إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " سورة الحج:50
__________
(1) . البحر المحيط : 1/277(1/21)
حيث استعان في تفسير هذه الآية بموقعها من السياق ، وبربطها بالموضوع الرئيسي للسورة ، من غير أن يتبع في ذلك ما ذهب إليه كثير من أهل التفسير ، كما اهتدى إلى رأي وجيه في فهم هذه الآية بالكشف عن التناسب القائم بينها وبين الآيات السابقة واللاحقة بها فقال : ( لما ذكر تعالى أنه يدفع عن الذين آمنوا ، وأنه تعالى أذن للمؤمنين في القتال ، وأنهم كانوا خرجوا من ديارهم ، وذكر مسلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتكذيب من تقدم من الأمم لأنبيائهم ، وما آل إليه أمرهم من الهلاك إثر التكذيب ، وبعد الإمهال ، وأمره أن ينادي الناس ويخبرهم أنه نذير لهم بعد أن استعجلوا العذاب ، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره ، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل و الأنبياء ، وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم ، متمنين لذلك مثابرين عليه ، وإنه ما منهم أحد إلا الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم في نفوسهم ، كما أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من أحرس الناس على هدى قومه ، و كان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبها يثبطون بها عن الإسلام ، ولذلك جاء قبل هذه الآية "والذين سعوا في آياتنا معاجزين" وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ، ونسب ذلك إلى الشيطان ، لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء ،كما قال: "لأغوينهم" وقيل أن الشيطان هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس ، والضمير في أمنيته عائد على الشيطان ، أي في أمنية نفسه أي بسبب أمنية نفسه ، ومفعول ألقى محذوف لفهم المعنى ، وهو الشر والكفر ومخالفة ذلك الرسول أو النبيء ، لأن الشيطان ليس يلقي الخير،ومعنى : فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيل تلك الشبه شيئا فشيئا حتى يسلم الناس ، كما قال(1): "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ".
__________
(1) . سورة النصر : 2(1/22)
ويحكم الله آياته أي معجزاته ، يظهرها محكمة لا لبس فيها ، ليجعل ما يلقي الشيطان من تلك الشبه وزخارف القول فتنة لمريض القلب ولقاسيه ، وليعلم من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبيء من هداية قومه وإيمانهم هو الحق .
وهذه الآية ليس فيها نسبة شيء إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء بما تمنوا .)(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 6/380(1/23)
ففسر أبو حيان هذه الآيات بما يتفق والسياق الذي وردت فيه ، ثم استبعد صحة ما ذهب إليه من سبقه من المفسرين بالأدلة العقلية والنقلية فقال : ( وذكر المفسرون في كتبهم ـ إبن عطية والزمخشري فمن قبلهما ومن بعدهما ـ ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوبا إلى المعصوم صلوات الله عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالا وجوابا ، وهي قصة سئل عنها محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتابا . وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إذ رواتها مطعون عليهم ، وليس في الصحاح ولا في الكتب الحديثية شيء مما ذكروه ، فوجب اطراحه ، ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه ، والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله(1)" والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" ، وقال الله تعالى آمرا نبيه(2)" قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي " ، وقال تعالى : " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين .."(3)وقال : " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم قليلا.."(4)فالتثبيت واقع والمقاربة منفية . وقال تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك "(5)وقال تعالى : " سنقرئك فلا تنسى "(6). فهذه نصوص تشهد بعصمته . وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك ، لأن تجويزه هنا يطرد إلى تجويزه في جميع أ حكام الشريعة ، فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة .)(7)
__________
(1) . سورة النجم : 1 ـ 4
(2) . سورة يونس : 15
(3) . سورة الحاقة : 44 ـ 45
(4) . سورة الإسراء : 74
(5) . سورة الفرقان : 32
(6) . سورة الأعلى : 6
(7) . البحر المحيط : 6/380(1/24)
6 ـ ولما كان أبو حيان قد أبدى قدرا وافرا من الموضوعية في الأخذ بالتفسير بالرأي ، فإنه لم يتسرع في إصدار حكمه على تفسير المتصوفة للقرءان الكريم ، ولم يجعل هذه الفئة في درجة واحدة من حيث الفهم لكتاب الله تعالى ، ولكنه فصل القول في تفسيرهم ، فما كان منه موافقا لما تفهمه العرب من لغتها ، ويحتمله ظاهر النص القرءان ويتفق ومقاصد الشريعة وأصولها العامة نقل شيئا منه في تفسيره وارتضاه ، وما جرى على خلاف ذلك ممن تسموا بالصوفية ظلما وزورا فإنه كشف زيفه ، ونبه على فساده وبعده عن مرامي كتاب الله تعالى .
وقد أبان عن موقفه هذا ابتداء في مقدمة كتابه البحر المحيط فقال : ( وربما ألممت بشيء من كلام الصوفية مما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ ، وتجنبت كثيرا مما أقاويلهم ومعانيهم التي يحملونها الألفاظ ، وتركت أقوال الملحدين المخرجين الألفاظ العربي عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على الله تعالى ، وعلى علي كرم الله وجهه ، وعلى ذريته ، ويسمونه علم التأويل .. )(1)
ففي تفسير قوله تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " سورة البقرة : 20 ـ 21
__________
(1) . البحر المحيط : 1/5(1/25)
قال أبو حيان : ( قال بعض أصحاب الإشارات : لما امتن الله تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبلهم ، ضرب لهم مثلا يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم ، وأنهم وإن كانوا متوالدين من ذكر وأنثى ، مخلوقين من نطفة إذا تمنى ، هو تعالى خالقهم على الحقيقة ومصورهم في الأرحام كيف يشاء ، ومخرجهم طفلا ، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس ، إلى غير ذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها ، فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الوزج ، وهي أيضا تسمى فراشا ، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها ، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب ، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم ، يؤنس تعالى بذلك عقولهم ويرشدهم إلى كيفية التخليق ، ويعرفهم أنه الخالق لهذا الولد ، والمخرج له من بطن أمه ، كما انه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ، ومخرج أشجارها من بطن الأرض ، فإذا أوضح ذلك لهم افردوه بالإلهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منها اثنتا عشرة عينا .. " سورة البقرة : 59
__________
(1) . البحر المحيط : 1/101(1/26)
نجده ينقل قول القشيري(1)ـ ملخصا ـ على وجه القبول له فيقول : ( قال القشيري في قوله " وإذ استسقى .. " الآية ، إن الذي قدر على غخراج االماء من الصخرة الصماء قادر على إروائكم من غير ماء ، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه ، واتصال محل الاستعانة إليه ، وليكون لموسى عليه السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل ، ولتكليفه أن يضرب بالعصا نوع من المعالجة ، ثم أراد أن يكون كل سبط جاريا على سننه غير مزاحم لصاحبه ، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكر وحفظ الأمر ، فقال : ولا تعثوا ، والمناهل مختلفة ، ، وكل يرد مشربه ، فمشرب فرات ، ومشرب أجاج ، ومشرب صاف ، .. وسياق كل قوم يقودهم ، فالنفوس ترد مناهل المنى ، والقلوب ترد مناهل التقى ، والأرواح ترد مناهل الكشف والمشاهدات ، والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات . انتهى كلامه ملخصا . )(2)
__________
(1) . عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري ، عالم بالفققه والتفسير والحديث والشعر والتصوف ولد سنة : 376هـ ، كان عارفا بالأصول على المذهب الأشعري والفروع على المذهب الشافعي ، من آثاره التيسير في التفسير ، ولطائف الإشارات ،وهو تفسير صوفي كامل للقرءان الكريم ، توفي سنة : 465هـ . انظر : طبقات المفسرين للداودي : 1/338 ، والنجوم الزاهرة : 5/91 .
(2) . البحر المحيط : 1/231(1/27)
فواضح من خلال هذين المثالين أن أبا حيان لم يرد هذه المعاني التي دلت عليها الآيات بالإشارة ، وهي معان زائدة على ما دلت عليه العبارة ، ولكنها لا تنافيها ولا تعارضها . وقد تكرر منه هذا الصنيع في مواضع كثيرة من البحر المحيط وفاء بما خطه لنفسه في مقدمة تفسيره(1)، حتى إذا عرض لبعض أنواع التفسير الصادرة عن غلاة الصوفية ، أو من ينتسب لهذا المسلك زورا وظلما فإننا نجده لا يتردد في نسف هذه المذاهب الجائرة في تأويل كلام الله تعالى على غير الوجه الذي تفهمه العرب من لغتها .
فمن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى : " إذا الشمس كورت . وإذا النجوم انكدرت " سورة التكوير : 1 ـ 2
قال أبو حيان : ( قال ابن عطية : وذهب قوم إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند الموت ، فالشمس نفسه ، والنجوم عيناه وحواسه ، وهذا قول ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى ، انتهى . وهذا مذهب الباطنية ومذهب من ينتمي إلى الإسلام من غلاة الصوفية ، وقد أشرنا إليهم في مقدمة هذا الكتاب ، وإنما هؤلاء زنادقة تستروا بالانتماء إلى ملة الإسلام وكتاب الله تعالى جاء بلسان عربي مبين لا رمز فيه ولا لغز ولا باطن ، ولا إيماء لشيء مما تنتحله الفلاسفة ولا أهل الطبائع ، ولقد ضمن تفسيره أبو عبد الله الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده وأصحاب النجوم وأصحاب الهيئة ، وذلك كله بمعزل عن تفسير كلام الله تعالى ، وكذلك ما ذكره صاحب التحرير والتحبير في آخر ما يفسره من الآيات من كلام من ينتمي إلى الصوف ويسميها الحقائق ، وفيها ما لا يحل كتابته فضلا عن أن يعتقد ، نسأل الله تعالى السلامة في ديننا وعقائدنا ، وما به قوام ديننا ودنيانا . )(2)
__________
(1) . وانظر أيضا : 1/134 . 1/174 . 1/189
(2) . البحر المحيط : 8/432(1/28)
ولما كر أبو حيان على هذا النوع من الفهم والتفسير لكتاب الله تعالى فأبطله ورده ، فإنه سوغ لنفسه أن يقع في أصحاب هذا التفسير للقرءان الكريم ، فذكرهم بأسمائهم وحذر من مصنفات مخصوصة تنسب لهم غير مكتف بالإبهام والتعميم .
فنجده ينبه على ما ينسب من تفسير لسهل التستري(1)على سبيل التفسير الإشاري الصوفي للقرءان الكريم ، وهو تفسير شبيه بتفسير الباطنية والملحدة وغيرهم ، مما حمله على وصفه بأنه من بدع التفاسير(2).
من ذلك مثلا ما ذكره في تفسير قوله تعالى : " والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب .." سورة النساء : 36
قال أبو حيان : ( ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري ، قال : الجار ذي القربى هو القلب ، والجار الجنب هو النفس ، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع ، وابن السبيل الجوارح المطيعة . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " رب المشرقين ورب المغربين " سورة الرحمن : 15
__________
(1) . هو سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله التستري ، أبو محمد ، أحد أئمة الصوفية وعلمائهم ولد بتستر ـ الأهواز ـ وسكن البصرة وتوفي بها ، وصحب ذا النون المصري بمكة سنة خروجه إلى الحج ، اشتهر بأقواله في التصوف ، وله " تفسير القرءان " توفي سنة : 283هـ . انظر : طبقات المفسرين : 1/210 .
(2) . انظر مقالته في فيمن فسر قوله تعالى " وكلم الله موسى تكليما " النساء : 163 بمعنى جرحه بأظفار المحن ومخالب الفتن ، البحر المحيط : 3/398 .
(3) . البحر المحيط : 3/245(1/29)
قال أبو حيان : ( ولسهل التستري كلام في المشرقين والمغربين شبيه بكلام الباطنية المحرفين مدلول كلام الله ضربنا عن ذكره صفحا ، وكذلك ما وقفنا عليه من كلام الغلاة الذين ينسبون للصوفية ، لأنا لا نستحل نقل شيء منه ، وقد أولع صاحب التحرير والتحبير بحب ما قاله هؤلاء الغلاة في كل آية ، ويسمي ذلك الحقائق وأرباب القلوب ، وما ادعوا فهمه في القرءان فأوغلوا فيه لم يفهمه عربي قط ، ولا أراده الله تعالى بتلك الألفاظ ، نعوذ بالله من ذلك . )(1)
كما رد بلهجة قاسية على ابن عربي(2)ومن ذهب مذهبه في تفسير القرءان ، وكشف المزالق التي وقع فيها ، وما وضع في ذلك من مصنفات تلبس على الناس النور المبين الذي نطق به القرءان الكريم بعبارة واضحة مشرقة من غير رمز أو لغز .
ففي تفسير قوله تعالى : " .. ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " سورة الكهف : 81
__________
(1) . البحر المحيط : 8/191
(2) . هو محمد بن علي بن محمد ، الحاتمي الطائي ، الأندلسي ، الصوفي المعروف ، توفي سنة : 638هـ . وقد سبقت ترجمته(1/30)
قال : ( وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام ، على أن الخضر أفضل من موسى ، وطردوا الحكم وقالوا : قد يكون بعض الأولياء أفض من آحاد الأنبياء ، واستدلوا أيضا بقول أبي يزيد البسطامي(1): خضت بحرا وقف الأنبياء على ساحله ، وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس ، انتهى . ثم قال أبو حيان : وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين ، وهو ابن عربي الطائي الحاتمي ، صاحب الفتوح المكية ، فكان ينبغي أن يسمى بالقبوح الهلكية ، وأنه كان يزعم أن الولي خير من النبي ، قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبي يأخذ بواسطة عن الله ، ولأن الولي قاعد في الحضرة الإلهية ، والنبي مرسل إلى القوم ، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة .. إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة ، وقد كثر معظمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة ، نسأل الله السلامة في أدياننا وأبداننا . )(2)
والواضح من أدوات التفسير بالرأي عند أبي حيان التي سبق ذكرها والمعالم التي أقام عليها اجتهاده في فهم النص القرءاني أنه لم يستقل في فهم الآيات بمجرد الاحتكام لقواعد اللغة العربية ومدلولات ألفاظها ، ولا لمجرد ما ينكشف للعقل ، بل حاول أن يجمع بين ذلك وبين شروط التفسير الأخرى ، حتى لا يكون التفسير العقلي عنده مناقضا للتفسير النقلي ، بل مكملا له ، وبذلك فارق الزمخشري في مسلكه في التفسير بالرأي من عدة جوانب ، وهو ما سنفصله في الفصول اللاحقة من هذا الباب إن شاء الله تعالى .
__________
(1) . هو عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله البسطامي ، البلخي ، ضياء الدين ، أبو شجاع ، محدث صوفي ، مفسر ، أديب ، من مصنفاته : لقطات العقول ، ومزاليق العزلة . توفي سنة : 562هـ . شذرات الذهب : 4/206
(2) . البحر المحيط : 6/156 ، وانظر : 1/131 . 1/133 . 2/46 . 3/511(1/31)
الفصل الرابع
مسلكهما في مباحث آيات الأحكام
المبحث الأول
مصادرهما الفقهية في تفسير آيات الأحكام
المطلب الأول : مصادر الزمخشري الفقهية
لم تقتصر اهتمامات الزمخشري العلمية على الدراسات النحوية واللغوية والبلاغية ، بل كانت له مشاركة في مختلف العلوم بما فيها الفقه ، وخير دليل على ذلك تلك المؤلفات المتعددة التي وضعها في أكثر من مذهب فقهي ، ومن هذه المؤلفات :
ـ المنهاج ، في الأصول .
ـ الرائض في علم الفرائض .
ـ معجم الحدود ، في الفقه .
ـ رؤوس المسائل ، في الفقه ,
ـ شافي العي من كلام الشافعي .
ـ شقائق النعمان في حقائق النعمان ، في مناقب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى .
فقد ذكرت كتب التراجم هذه الكتب كلها ضمن الإنتاج العلمي للزمخشري(1)، وإن كانت لم تصلنا ، ويبدو من خلال هذه العناوين أن الزمخشري كان له اهتمام بالدراسات الفقهية ، وإن كان لم يشتهر بها ، وكان اشتغاله بالفقه على المذهبين الحنفي والشافعي ، وهما المذهبان الأغلب انتشارا في ذلك الإقليم ، إلا أنه كان يميل إلى المذهب الحنفي ويعتد به ، فيقول في بعض أشعاره(2):
وأسند ديني واعتقادي ومذهبي إلى حنفاء أختارهم وحنائفا
حنيفية أديانهم حنفية مذاهبهم لا يبتغون الزعانفا
كما كان يعتبر اتباع المذهب الحنفي أصحاب فضل ومناقب فيقول : ( رضي الله عن العلماء الخاشين من الله وحسابه ، جمعوا إلى الدين الحنيفي العلم الحنفي )(3).
__________
(1) . انظر مثلا ابن ثغري بردي ، النجوم الزاهرة : 5/274 ، وابن الجوزي ، المنتظم : 10/112
(2) . الصاوي الجويني ، منهج الزمخشري في تفسير القرءان : 179 نقلا عن ديوان الأدب للزمخشري ، ورقة : 78
(3) . الزمخشري ، أطواق الذهب : 1/285(1/1)
ويقول : ( الدين والعلم حنيفي وحنفي )(1)ولذا كان يعد من أعيان هذا المذهب ، وقد ترجم له صاحب تاج التراجم في طبقات الحنفية ، بل كان هو أيضا يعتبر نفسه أحد رجالات هذا المذهب ، فحيثما قال في كشافه : " وهو كذا عند أصحابنا " إنما يقصد أئمة الأحناف(2).
وهكذا نجده يمضي في تفسيره الكشاف مستمدا مادته الفقهية من المذهب الحنفي بالدرجة الأولى ، مع الإكثار من ذكر آراء الشافعية في مواطن الخلاف ، وفي مواضع قليلة فقط يعرج على المذهب المالكي ، فينقل رأيه الفقهي في بعض المسائل دون تفصيل أو مناقشة ، والأمثلة الآتية تبين ذلك :
في تفسير قوله تعالى : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم .. " سورة البقرة :223
قال الزمخشري : ( واللغو من اليمين : الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان ، وهو الذي لا عقد معه ، والدليل عليه " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، " بما كسبت قلوبكم " واختلف الفقهاء فيه ، فعند أبي حنيفة وأصحابه هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه ، ثم يظهر خلافه ، وعند الشافعي : هو قول العرب لا والله ، وبلى والله بما يؤكدون به كلامهم ، ولا يخطر ببالهم الحلف . )(3)
في تفسير قوله تعالى : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح.." سورة البقرة :235
قال الزمخشري : ( ..يعني إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر ، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي ، فكيف آخذ منه شيئا . أو يعفو الولي الذي يلي عقد نكاحهن ، وهو مذهب الشافعي ، وقيل هو الزوج ، وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملا ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والأول ظاهر الصحة ، وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيها نظر . )(4)
__________
(1) الزمخشري ، نوابغ الكلم : 31
(2) . انظر مثلا الكشاف : 1/285
(3) . الكشاف : 1/228
(4) . الكشاف : 1/286(1/2)
وفي تفسير قوله تعالى : " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم .. " سورة المائدة : 5
قال الزمخشري : ( ويستوي في ذلك جميع النصارى ، وعن علي رضي الله عنه أن استثنى نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانية ، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وبه أخذ الشافعي ، وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس ، وهو قول عامة التابعين ، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه ، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة ، وقال صاحباه : هما صنفان ، صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب ، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .. " سورة النور :2
قال الزمخشري : ( .. فإن قلت : أهذا حكم جميع الزناة الزواني ، أم حكم بعضهم ؟ قلت : بل هو حكم من ليس بمحصن منهم ، فإن المحصن حكمه الرجم ، وشرائط الإحصان عند أبي حنيفة ست : الإسلام ، والحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والتزوج بنكاح صحيح ، والدخول ، إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان . وعند الشافعي : الإسلام ليس بشرط ، لما روي أن النبي ـ ص ـ رجم يهوديين زنيا(2)، وحجة أبي حنيفة قوله(3)ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أشرك بالله فليس بمحصن " )(4)
__________
(1) . الكشاف : 1/607
(2) . متفق عليه من حديث ابن عمر .
(3) . قال ابن حجر : ( أخرجه إسحاق والدارقطني وتفرد به إسحاق . قلت : قال إسحاق في مسنده أن شيخه حدثه به مرة أخرى موقوفا ) انظر الكشاف 3/209 هامش : 2
(4) ، الكشاف : 3/209(1/3)
ولا يكتفي الزمخشري في عرض مواضع الخلاف بذكر آراء المذهبين ، وما يتعلق به كل صاحب مذهب من دلالة الآية ، بل يستطرد لذكر أدلة كل مذهب من السنة النبوية وأقوال السلف ، مما يوحي بسعة أفق الزمخشري في مجال الفقه على أكثر من مذهب .
فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .. " سورة البقرة :227
قال الزمخشري : ( تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون ، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهن ، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم ، وقيل معناه : الطلاق الرجعي مرتان ، لأنه لا رجعة بعد الثلاث .. وعند أبي حنيفة وأصحابه الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه ، لما روى في حديث ابن عمر أن رسول الله ـ ص ـ قال له : إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا ، فتطلقها لكل قرئ تطليقة . وعند الشافعي : لا بأس بإرسال الثلاث ، لحديث العجلاني(1)الذي لاعن امرأته ، فطلقها ثلاثا بين يدي رسول الله ـ ص ـ فلم ينكر عليه . )(2)
وربما اكتفى الزمخشري بذكر رأي المذهب الحنفي في الآية ، مع نقل الخلاف بين أئمة المذهب الواحد إذا كان يرى ذلك يغطي ما اشتملت عليه الآية ، مثلما جاء في تفسير قوله تعالى : " .. فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن .. " سورة البقرة : 220
__________
(1) . الحديث متفق عليه . انظر صحيح مسلم ، كتاب اللعان ، 4/206
(2) . الكشاف : 1/273(1/4)
حيث اقتصر على نقل الخلاف بين أئمة الحنفية في القدر الذي يجب اعتزاله من المرأة الحائض ، فقال : ( .. وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال ، فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ، ومحمد بن الحسن لا يوجب اعتزال إلا الفرج ، وروى محمد حديث عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عمر سألها : هل يباشر الرجل امراته وهي حائض ؟ فقالت(1): تشد إزارها على سفلتها ، ثم ليباشرها إن شاء ، وما روي زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي ـ ص ـ ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال(2): " لتشد عليها إزارها ، ثم شأنك وأعلاها ." )(3)
وفي بعض الأحيان نجد الزمخشري يوجه معنى الآية على رأي فقهي معين دون ذكر لآراء المخالفين ، فحيثما اكتفى برأي واحد في الآية ، فهو رأي مذهبه الحنفي وإن لم يصرح به ، وهذا ما كان ينبه عليه أبو حيان أحيانا في البحر المحيط .
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة .." سورة النساء : 24
حيث قال الزمخشري : ( فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد عليهن ، فآتوهن أجورهن عليه ، )(4)انتهى . قال أبو حيان : ( وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة ، إذ هو مذهبه ، وقد فسر ابن عباس الاستمتاع هنا بالوطء ، لأن إيتاء الأجر كاملا لا يترتب إلا عليه ، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك . )(5)
__________
(1) . رواه مالك في الموطإ ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،كتاب الطهارة ، باب ما يحل للرجل من امراته وهي حائض . رقم : 96
(2) . رواه مالك في الموطإ ، كتاب الطهارة ، باب ما يحل للرجل من امراته وهي حائض ، رقم : 98
(3) . الكشاف :1/265
(4) . الكشاف : 1/497
(5) . البحر المحيط : 3/218(1/5)
ونجد الزمخشري كعادته ينقل آراء الأحناف من غير ذكر لمصادره ، فلا يحيل على كتاب من كتب المذهب ، ولا ينسب رأيا فقهيا إلى صاحبه أحيانا ، وهذا في الحقيقة يقلل من قيمة مادته الفقهية من هذا الجانب ، فلا ندري إذا قال مثلا : وعند أبي حنيفة ، أو وعند الشافعي كذا لمن يرجع هذا القول من أئمة الحنفية وهم كثيرون ، ومن أي مصدر فقهي استقى نقل هذه الآراء الفقهية ، ومن تم لا نعرف مدى شهرة هذا القول ووجاهته عندهم إلا إذا رجعنا نحن إلى مصادرهم .
ومن المصادر التي رجع إليها الزمخشري في نقل الذهب الحنفي ولم ينبه عليها كتاب " أحكام القرءان " للجصاص الحنفي(1)حيث نجد في مواضع عديدة من كشافه كلاما مطابقا لما قاله الجصاص مع شيء يسير من التصرف ، ويبدو أن تأثره به راجع لما وجد عنده من ميول اعتزالية صرح بها في عدة مواطن من هذا المصنف(2)وهذه بعض الأمثلة التي تدل على استفادته منه :
ففي تفسير قوله تعالى : " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " سورة الحج : 39
قال الزمخشري : ( .. وقالوا : فيه دليل على صحة إمامة الخلفاء الراشدين ، لأن الله لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين ، لاحظ في ذلك للأنصار والطلقاء .)(3)
__________
(1) . هو أحمد بن علي الرازي ، أبو بكر الجصاص ، إمام أصحاب الري في وقته ، تصدر للتدريس ببغداد ، قال الخطيب البغدادي : انتهت إليه رئاسة الحنفية ، ورحل إليه المتفقهة ، وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع ، توفي سنة : 370هـ . انظر : الجواهر المضية : 1/84 .
(2) . انظر الذهبي ، التفسير والمفسرون : 2/441
(3) . الكشاف : 3/160(1/6)
ففي أحكام القرءان للجصاص ما نصه : ( وهذه صفة الخلفاء الراشدين ، الذين مكنهم الله في الأرض ، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم ، لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم ، وقد مكنوا في الأرض فوجب أ يكونوا أئمة قائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه ، ولا يدخل معاوية في هؤلاء ، لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ، وليس معاوية من المهاجرين ، بل هو من الطلقاء . )(1)
ونحن لا نشكك في صحة إمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، وإنما نقول بأن قصر الآية على سبب نزولها هو تضييق لمعناها وتخصيص من غير مخصص ، بل هي عامة في كل من وفى بعهد الله ، وحفظ أمانة الله بعد توليه أمر المسلمين ، وتوجيه الآية على ما ذهب إليه الجصاص وتابعه فيه الزمخشري لا يخلو من تأثر واضح بمواقف سياسية عند المعتزلة تجاه خلفاء بني أمية .
وفي تفسير قوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم .. " سورة النور : 53
__________
(1) . الجصاص ، أحكام القرءان ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، ج2/303(1/7)
نجد الزمخشري يقول : ( الخطاب لرسول الله ـ ص ـ ولمن معه ، ومنكم للبيان ، كالتي في آخر سورة الفتح ، وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ، ويورثهم الأرض ، ويجعلهم فيه خلفاء كما فعل ببني إسرائيل ، حين ملكهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة .. فأنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا ، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم ، فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا ، وذلك قوله(1)ـ ص ـ " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم يملك الله من يشاء فتصير ملكا ، ثم تصير بزيزى ، قطع سبيل ، وسفك دماء ، وأخذ أموال بغير حقها .. " فإن قلت : هل في هذه الآية دليل على أمر الخلفاء الراشدين ؟ قلت أوضح دليل وأبينه ، لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم . )(2)
فهذا الكلام مأخوذ من أحكام القرءان للجصاص مع شيء يسير من التصرف . حيث يقول الجصاص : ( وفيه الدلالة على صحة إمامة الخلفاء الأربعة أيضا ، لأن الله استخلفهم في الأرض ، ومكن لهم كما جاء الوعد ، ولا يدخل فيهم معاوية ، لأنه لم يكن مؤمنا في ذلك الوقت .)(3)
والذي يؤكد نقل الزمخشري عن الجصاص في مثل هذا الموضع كون الآية لا تدل بالضرورة على ما ذهبا إليه ، وإنما هو توظيف لها بما يخدم توجههما المذهبي ، وقد حاول الزمخشري أن يعزز هذا الرأي فأورد الحديث السابق ، وفيه كلام مدرج وعلامات الوضع عليه بادية . ومع هذا فإن الزمخشري لم يصرح ولو مرة واحدة بهذا المصدر أو غيره .
__________
(1) . قال ابن حجر في تخريجه : لم أجده ، وأوله في السنن . انظر الكافي الشاف .. على هامش الكشاف : 3/251 الهامش : 4
(2) . الكشاف : 3/251
(3) . الجصاص ، أحكام القرءان : 2/15(1/8)
كما يبدو بعد التتبع لما نقله الزمخشري عن المذهب الشافعي أنه أفاد من كتاب " أحكام القرآن " للكيا الكراسي الشافعي(1)، ولكنه لم ينقل النصوص بحرفيتها ، بل يكتفي ببيان ما ذهب إليه أئمة الشافعية من استنباط الأحكام من الآيات دون توسع أو مناقشة .
ومع عدم توسع الزمخشري في هذا الجانب من كشافه ، فإنه يذهب به الاستطراد أحيانا ليمضي في ذكر تفاصيل خاض فيها الفقهاء ، وإن كانت لا تدخل تحت مدلول الآية ، وإنما هي مستفادة من مجموع أحكام الشريعة ، وقد اقتصر الزمخشري في هذا أيضا على ما جاء في المذهب الحنفي ، مقارنا له بالمذهب الشافعي في الأغلب الأعم من تفسيره ، ومن الأمثلة على ذلك :
ففي تفسير قوله تعالى : " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون " سورة النور : 4
__________
(1) . علي بن محمد بن علي ، أبو الحسن الطبري ، المعروف بالكيا الهراسي ، فقيه شافعي أصولي ، متكلم مفسر ، تفقه على غمام الحرمين ، ودرس بالنظامية إلى أن مات سنة : 504هـ . انظر : شذرات الذهب : 4/8 . وابن الجوزي ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، تحقيق محمد عبد القادر عطا ، ومصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، ج9/167 .(1/9)
نجد الزمخشري يفصل القول في أحكام القذف ، فيتحدث عن معنى القذف وشروطه ومختلف أحكامه ، مع نقل آراء المذهبين ، فيقول : ( القذف يكون بالزنى وبغيره ، والذي دل على أن المراد قذفهن بالزنى شيئان ، أحدهما : ذكر المحصنات عقيب الزواني ، والثاني اشتراط أربعة شهداء ، لأن القذف بغير الزنى يكفي فيه شاهدان ، والقذف بالزنى أن يقول الحر العاقل البالغ للمحصنة : يا زانية ، أو لمحصن : يا زان ، ويابن الزاني ، يابن الزانية ، ياولد الزنا ، لست لأبيك .. والقذف بغير الزنا أن يقول : يا آكل الربا ، يا شارب الخمر ، يا يهودي ، يا مجوسي ، يا فاسق ، يا خبيث ، يا ماص بظر أمه .. فعليه التعزير ، ولا يبلغ به أدنى حد العبيد وهو أربعون ، بل ينقص منه . وقال أبو يوسف : يجوز أن يبلغ به تسعة وسبعون ، وقال : للإمام أن يعزر إلى المائة . وشروط إحصان القذف خمسة : الحرية ، والبلوغ ، والعقل والإسلام والعفة ، وقرئ بأربعة شهداء ـ بالتنوين ـ وشهداء صفة ، فإن قلت : كيف يشهدون مجتمعين أو متفرقين ؟ قلت : الواجب عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن يحضروا في مجلس واحد وإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة . وعند الشافعي رضي الله عنه يجوز أن يحضروا متفرقين ، فإن قلت : هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحدا منهم ؟ قلت : يجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي ، فإن قلت : كيف يجلد القاذف ؟ قلت كما جلد الزاني ، إلا أنه لا ينزع عنه ثيابه إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو ، والقاذفة أيضا كالزانية ، وأشد الضرب ضرب التعزير ، ثم ضرب الزنا ، ثم ضرب القاذف ، قالوا : لأن سبب عقوبته محتمل الصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض ، وردعا عن هتكها ، فإن قلت : فإذا لم يكن المقذوف محصنا ؟ قلت : يعزر القاذف ولا يحد ، إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به ، فلا حد ولا تعزير .(1/10)
) ثم يقف الزمخشري عند طرف الآية وهو " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " فينقل رأي الإمامين في قبول شاهدة القاذف بعد توبته ، مع توجيه رأي كل إمام وفق ما فهمه من نص الآية فيقول : ( رد شهادة القاذف معلق عند أبي حنيفة باستيفاء الحد ، فإذا شهد قبل الحد ، أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبدا ، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء . وعند الشافعي رضي الله عنه ، يتعلق رد شهادته بنفس القذف ، فإن تاب عن القذف بأن رجع عنه ، عاد مقبول الشهادة . وكلاهما متمسك بالآية ، فأبو حنيفة رضي الله عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد ، ورد الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، فكانوا مردودي الشهادة عنده في أبدهم وهو مدة حياتهم ، وجعل " وأولئك هم الفاسقون " كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و" إلا الذين تابوا " استثناء من الفاسقين ، ويدل عليه قوله " فإن الله غفور رحيم " . والشافعي رضي الله عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا ، غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا ، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية ، وحق المستثنى عنده أن يكون مجرورا بدلا من " هم " في " لهم " . وحقه عند أبي حنيفة رضي الله عنه أن يكون منصوبا لأنه عن موجب . )(1)
ولا يقف الزمخشري أمام مثل هذا الخلاف الذي مرجعه إلى اللغة ساكتا ، بل يحاول أن يحسمه بما يتبدى له من نظم الآية وسياقها فيقول :( والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم ، أي اجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم ، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين . )(2)
__________
(1) . الكشاف : 3/213
(2) . الكشاف : 3/214(1/11)
وبعد كل هذا يستطرد الزمخشري إلى بعض الأحكام التي لا تدخل بحال تحت معنى الآية فيقول : ( ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ ، ويقول له : أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحد ، فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله ، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال ، فإن قلت : هل يورث الحد ؟ قلت عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يورث لقوله ـ ص ـ " الحد لا يورث " وعند الشافعي رضي الله عنه يورث . وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحد سقط . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله .. " سورة النور : 2
نجد الزمخشري يستطرد لبيان بعض أحكام الجلد وصفته على المذهبين الحنفي والشافعي مما لا تدل عليه الآية ، وإنما هو مستفاد من السنة الفعلية للنبي ـ ص ـ فيقول : ( وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما ، بصيرا ، يعقل كيف يضرب ، والرجل يجلد قائما على مجرده ـ أي المكشوف عن الثياب ـ ليس عليه إلا إزاره ، ضربا وسطا ، لا مبرحا ولا هينا ، مفرقا على الأعضاء كلها ، لا يستثنى منها إلا ثلاثة ، الوجه والرأس والفرج . وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم . والمرأة تجلد قاعدة ، ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو ، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة على أن الجلد حد غير المحصن بلا تغريب . وما احتج به الشافعي على وجوب التغريب من قوله ـ ص ـ " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ، وما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا () منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية ، أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب ، وقول الشافعي في تغريب الحر واحد ، وله في العبد ثلاثة أقاويل .. )(2)
__________
(1) . الكشاف :3/214
(2) . الكشاف : 3/210(1/12)
بل يذهب به الاستطراد أحيانا إلى الخوض في أحكام لا صلة للنص القرآني بها من قريب أو بعيد ، ومن ذلك مثلا كلامه عن أثر الخلطة والشركة في أنصبة الزكاة عند تفسيره لقوله تعالى : " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم .. " سورة ص : 23
قال الزمخشري : ( الخلطاء ، الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، الواحد خليط ، ، وهي الخلطة ، وقد غلبت في الماشية ، والشافعي رحمه الله يعتبرها ، فإذا كان الرجلان خليطين في ماشية بينهما غير مقسومة ، أو لكل واحد منهما ماشية على حدة ، إلا أن مراحهما واحد ، ومساقهما وموضع حلبهما والراعي والكلب واحد ، والفحولة مختلطة ، فهما يزكيان زكاة الواحد ، فإن كان لهما أربعون شاة فعليهما شاة ، وإن كانوا ثلاثة ولهم مائة وعشرون لكل واحد أربعون ، فعليهم واحدة كما لو كانت لواحد ، وعند أبي حنيفة لا تعتبر الخلطة ، والخليط والمنفرد عنده واحد ، ففي ـأربعين بين خليطين لا شيء عنده ، وفي مائة وعشرين بين ثلاثة : ثلاث شياه ، فإن قلت : فهذه الخلطة ما تقول فيها ؟ قلت عليهما شاة واحدة ، فيجب على ذي النعجة والواحدة أداء جزء من مائة جزء من الشاة عند الشافعي رحمه الله ، وعند أبي حنيفة لا شيء عليه . )(1)
ويتكرر مثل هذا الاستطراد في تفسير الكشاف إذا كان في الآية ما له صلة ببعض آرائه الاعتزالية أو السياسية ، مثل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما لهما من علاقة بالحسن والقبح العقليين ، فيتوسع في الكلام في هذه الآيات ، ناقلا بعض أقوال شيوخ المعتزلة ليكون حكما في موضع الخلاف .
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون المنكر وأولئك هم المفلحون " سورة آل عمران : 104
__________
(1) . الكشاف : 4/87(1/13)
حيث نجده يحصي شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ثم يقول : ( والأمر بالمعروف تابع للمأمور به وإن كان واجبا فواجب ، وإن كان ندبا فندب ، وأما النهي عن المنكر فواجب كله ، لأن جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح ، فإن قلت ما طريق الوجوب ؟ قلت قد اختلف فيه الشيخان ، فعند أبي علي السمع والعقل ، وعند أبي هاشم : السمع وحده . فإن قلت ما شرائط النهي؟ قلت أن يعلم الناهي أن ما ينكره قبيح ، لأنه إذا لم يعلم لم يأمن أن ينكر الحسن ، وأن لا يكون ما ينهى عنه واقعا ، لأن الواقع لا يحسن النهي عنه ، وإنما سيحسن الذم عليه والنهي عن أمثاله ، وأن لا يغلب على ظنه أن المنهى يزيد في منكراته ، وأن لا يغلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر لأنه عبث . فإن قلت : فما شروط الوجوب ؟ قلت : أن يغلب على ظنه وقوع المعصية ، نحو أن يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته ، وأن لا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة . فإن قلت : كيف يباشر الإنكار؟ قلت يبتدئ بالسهل ، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب ، لأن الغرض كف المنكر .. فإن قلت : فمن يباشره قلت : كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه ، وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار ، لأنه معلوم قبحه لكل أحد ، وأما الإنكار الذي بالقتال فالإمام وخلفاؤه أولى ، لأهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها ، فإن قلت : فمن يؤمر ومن ينهى ؟ قلت كل مكلف ، وغير المكلف إذا هم بضرر غيره منع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها ، فإن قلت : هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهى عما يرتكبه ؟ قلت : نعم يجب عليه ، لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه ، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الآخر .. )(1)
__________
(1) . الكشاف : 1/398(1/14)
ومن المواضع التي استطرد فيها الزمخشري متأثرا بنظرته السياسية ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " سورة البقرة : 123
حيث وقف عند قوله " لا ينال عهدي الظالمين " ليستنبط منها عدم جواز الإمامة الكبرى للفاسق ، ليطلق لسانه بعدئذ في بعض أئمة بني أمية ، مبديا تحيزه ونصرته لأئمة أهل البيت ، وهو في ذلك ـ حسب رأيه ـ مقتد بالإمام أبي حنيفة الذي كان يناصر زيد بن علي ، ويدعو الناس لمؤازرته والخروج معه .
قال الزمخشري : ( وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ، ولا شهادته ، ولا طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسين حتى قتل ، فقال : ليتني مكان إبنك . وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت ، وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قط ، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف المظلمة ، فإذا نصب من كان ظالما فقد جاء المثل السائر " من استرعى الذئب فقد ظلم " . )(1)
ولا يخفى ما في كلام الزمخشري هنا من مبالغة في تحميل الآية الكريمة ما لا تحتمله ، واستطراد لغير ما سيقت له الآية ، كما لا يخفى أيضا تعسفه في توجيه الآية لما كان يدين به من أفكار و آراء سياسية ، مما جعل أبا حيان هو الآخر يستطرد لينقل كلام الزمخشري بنصه ، مبينا الملابسات التي حملت الزمخشري على هذا الاستطراد ، وصرف الآية لتقرير تلك المواقف والآراء .
__________
(1) . الكشاف : 1/184(1/15)
قال أبو حيان ـ بعد أن نقل كلام الزمخشري ـ : ( .. انتهى كلامه ، وزيد بن علي الذي ذكره هو زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وهو أخو محمد الباقر بن علي ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم ، وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرءان والشجاعة ، وإنما ذكره الزمخشري لأنه كان بمكة مجاورا للزيدية ، ومصاحبا لهم ، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم ، واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة الذي ذكره الزمخشري هو هشام بن عبد الملك ، خرج عليه زيد بن علي ، وكان قد قال لأخيه الباقر : مالك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك ؟ فأعرض عنه وقال له : لهذا وقت لا يتعداه ، فدعا إلى نفسه وقال : إنما الإمام منا من أظهر سيفه ، وقام بطلب حق آل محمد ، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته ، فقال له الباقر يا زيد إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم مثل فرخ نهض من عشه قبل أن يستوي جناحاه ، فإذا فعل ذلك سقط ، فأخذه الصبيان يتلاعبون به ، فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غدا بالكناسة ، فلم يلتفت زيد لكلام الباقر ، وخرج على هشام فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة ، وأحرقه بالنار ، وكان كما حذره الباقر . وأما الدوانيقي فهو المنصور أخو السفاح ، سمي بذلك قيل لبخله ، وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلا ، وذكر من عطائه وكرمه أخبارا كثيرة .. )(1)
وفي مواضع قليلة من الكشاف نجد الزمخشري لا يكتفي بعرض آراء المذهبين الحنفي والشافعي ، بل يعرج على بعض المذاهب السنية الأخرى كالمذهب المالكي مثلا ، فينقل بعض ما ذهب إليه مالك رحمه الله ، ولكن من غير تفصيل أو بيان لوجه الاستدلال ، كما أنه لا يحيل على مصدره بل يكتفي بنسبة القول إلى إمام المذهب ، وهو مالك بن أنس رحمه الله تعالى .
__________
(1) . البحر المحيط : 1/378(1/16)
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك .." نقل آراء المذاهب في صفة صلاة الخوف فقال : ( .. وصفة صلاة الخوف عند أبي حنيفة أن يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين ، والأخرى بإزاء العدو ، ثم تقف هذه الطائفة بإزاء العدو وتأتي الأخرى فيصلي بها ركعة ويتم صلاته ، ثم تقف بإزاء العدو ، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تحرس ، وتأتي الأخرى فتؤذي الركعة بقراءة وتتم صلاتها ، والسجود على ظاهره عند أبي حنيفة ، وعند مالك بمعنى الصلاة ، لأن الإمام يصلي عنده بطائفة ركعة ويقف قائما حتى تتم صلاتها وتسلم وتذهب ، ثم يصلي بالثانية ركعة ويقف قاعدا حتى تتم صلاتها ويسلم .)(1)
ويتبين لنا من مجموع هذه المادة الفقهية التي ضمنها الزمخشري تفسيره الكشاف أنه كان على صلة وثيقة بمصادر الفقه الإسلامي في أكثر من مذهب من المذاهب المشهورة ، كما نقل مادة فقهية معتبرة أيضا عن بعض كتب التفسير ، وبخاصة تلك التي غلب عليها الإتجاه الفقهي ، وربما كان بعضها لأئمة المعتزلة ، أو من يلتقي معهم في بعض الآراء الفكرية والسياسية ، فكان تعامله مع هذه المصادر قائما على الانتقاء من الأحكام ما يراه متجها إلى معنى الآية التي يفسرها ، دون إطناب أو استطراد إلا في مواطن قليلة ، وهو المنهج الذي سلكه في مختلف جوانب تفسيره ، إلا أن سكوته عن مصادره الفقهية يعتبر أحد العيوب التي لازمت جهد الزمخشري وقللت منه ، وخاصة تلك المصادر التي كان ينقل منها حرفيا ولم يزد عليها إلا تلك الديباجة اللغوية التي لا يخرجها عن معنى النقل والاقتباس بحال من الأحوال .
__________
(1) . الكشاف : 1/650(1/17)
كما أبدى قدرا من الموضوعية والإنصاف في تعامله مع المخالفين ما لم يبده في الجوانب الأخرى من كشافه ، إلا في مواضع معينة كانت لها علاقة بقضايا احتدم فيها الصراع منذ زمن غير قليل ، وصار الخوض فيها مشحونا بميول ذاتية واضحة ليس عند الزمخشري فقط ، بل عند أغلب من اقتحم هذا الميدان من الصراع والتدافع .
المطلب الثاني : مصادر أبي حيان الفقهية
كان أبو حيان هو الأخر صاحب اهتمام بالدراسات الفقهية ، ومهما غلب عليه تكوينه اللغوي فإن هذا لم يمنعه من التحصيل في الجانب الفقهي حتى عرف به ، حيث كان ينعت بأنه ظاهري المذهب ، وهو المذهب الذي نشأ عليه بالأندلس وفتن به ، فكان يروى عنه قوله : محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من عرفه .. ، وقد حمله ذلك على دراسة كتاب " المحلى " لابن حزم الظاهري ، ولما زاد إعجابه به وضع له مختصرا سماه " الأنوار المجلى في اختصار المحلى " كما كان ينقل بعضا من كلامه في غير من موضع في البحر المحيط ، من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك يتوب الله عليهم وهو التواب الرحيم " البقرة : 158(1/18)
حيث يقول : وقال الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم القرطبي فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بم أبي نصر الحميدي الحافظ : الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ، ويقرئه بقدر طاقته ، ويحققه ما أمكنه ، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ، ويدعو إليه في شوارع السابلة ، وينادي عليه في مجامع السيارة ، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ، ويعظم الأجعال للباحثين عنه ، صابرا في ذلك على المشقة والأذى ، لكان ذلك حظا جزيلا ، وعملا جيدا وسعدا كريما ، وإحياء للعلم ، وإلا فقد درس وطمس ، ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام داثرة . )(1)
ولما خرج إلى المشرق واستقر بالقاهرة قيل أنه استمر على مذهبه الأول ، وقيل أنه تحول إلى المذهب الشافعي ، وهو الأشهر والأظهر ، والدليل على ذلك أنه ألف هناك كتابا في الفقه الشافعي وهو " الوهاج في اختصار المنهاج " اختصر فيه كتاب " منهاج الطلاب " ، وهو مختصر كتاب " المحرر في فقه الشافعي " للإمام النووي . وهكذا جمع أبو حيان في تكوينه الفقهي بين المذهب الظاهري والمذهب الشافعي ، وقد تجلى هذا التكوين في المادة الفقهية التي دبج بها تفسيره البحر المحيط . كما يغلب الظن أيضا أن أبا حيان الأندلسي كان على اطلاع كاف على مصادر المذاهب الفقهية الأخرى ، السنية والشيعية وغيرها ، وقد أفاد منها بشكل مباشر كما يفهم من كتابه البحر المحيط ، فكان تارة يقتبس حرفيا مع التنصيص على ما نقله منها ، وتارة يحيل عليها بأسمائها ، مع إشارته إلى طريقة إفادته منها ، مما زاد في قيمة هذه المادة الفقهية التي اعتمدها ، وأقام عليها تفسير آيات الأحكام في كتابه البحر المحيط ، وهي مصادر كثيرة جدا مقارنة معا ما اعتمده الزمخشري في كشافه .
ويمكن تقسيم مصادر أبي حيان في تفسير آيات الأحكام إلى قسمين :
القسم الأول : مصادر أساسية
__________
(1) . البحر المحيط : 1/459(1/19)
وهي التفاسير التي اعتمدها كمصادر أساسية في انتقاء وجمع تفسيره البحر المحيط في مختلف جوانبه بما فيها المادة الفقهية ، وهي تفسير الكشاف للزمخشري الحنفي ، والمحرر الوجيز لابن عطية المالكي ( ت: 543 هـ ) ، والتحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي التونسي ( ت : 440هـ ) ، والتحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير لابن النقيب أبي عبد الله محمد بن سليمان(1)، جمع فيه خمسين مصنفا من مصنفات التفسير في تسعين مجلدا .
القسم الثاني : مصادر ثانوية
وهي التفاسير التي انتقى منها تفسير آيات الأحكام ، ونذكر منها : الجامع لأحكام القرءان للقرطبي المالكي(2)( ت: 673هـ ) ، وأحكام القرءان لأبي بكر بن العربي المالكي(3)( ت : 543هـ) وجامع البيان لمحمد بن جرير الطبري الشافعي(4)( ت : 310هـ ) ، وزاد المسير في علم التفسير لأبي الفرج بن الجوزي الحنبلي(5)( ت : 597هـ ) والنكت والعيون في تأويل القرءان للماوردي الشافعي(6)( ت: 450هـ ) ومفاتيح الغيب للفخر الرازي الشافعي(7)( ت: 606هـ ) ومعالم التنزيل للحسين بن مسعود البغوي الشافعي(8)( ت : 516هـ ) وتفسير القرءان العظيم لابن كثير الشافعي(9)( ت : 774هـ ).
__________
(1) . محمد بن سليمان بن خليفة ، أبو عبد الله ، مفسر ، من فقهاء الحنفية ، ولي القضاء ، وولي الشورى بإشبيلية ثم أسقط عنها ، من آثاره شرح الموطأ وتفسيره التحرير والتحبير توفي سنة : 698هـ . انظر : طبقات المفسرين للداودي : 2/144 .
(2) . البحر المحيط : 3/315 . 2/323 .2/392 .3/383
(3) . البحر المحيط : 2/91
(4) . البحر المحيط : 1/96 . 3/310 . 3/420 . 3/454
(5) . البحر المحيط : 1/163 .1/173 . 3/433
(6) . البحر المحيط : 2/8 . 3/122 . 1/160 .2/189
(7) . البحر المحيط : 2/24 .3/367 .3/160
(8) . البحر المحيط : 3/449 . 2/446 . 2/93
(9) . البحر المحيط : 3/310(1/20)
ويضاف إلى ذلك بعض الكتب الفقهية المشهورة مثل المدونة الكبرى في الفقه المالكي(1)، والمنتقى في شرح الموطأ(2)لأبي الوليد الباجي ( ت: 474هـ ) ، والأنوار الأجلى في مختصر المحلى من تأليفه ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
والذي يرجع إلى البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي يلحظ لأول وهلة أنه استفاد بشكل واسع من هذه التفاسير في تفسيره لآيات الأحكام ، فلا يمر بآية من هذه الآيات حتى يفيض في نقل آراء المفسرين والأئمة المجتهدين من مختلف المذاهب ، سواء كانت تلك المذاهب الأربعة المشهورة ، أو تلك المذاهب التي ظهرت حينا ثم اندثرت ، كمذهب الليث بن سعد والأوزاعي ، وداود الظاهري وغيرها ، كما ينقل آراء فقهاء الصحابة والتابعين من أمثال الخلفاء الراشدين وابن عباس ومعاد بن جبل وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري وغيرهم ، فنجد مثلا في تفسير قوله تعالى " فإن لم يصبها وابل فطل "(3)ينقل عن الزمخشري والماوردي وابن عطية وابن الجوزي في موضع واحد من البحر المحيط(4)، وكذا في تفسير قوله تعالى " إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .. "(5)نجده ينقل عن عدد من المفسرين كالطبري والقاضي أبي يعلى والقرطبي وابن العربي وغيرهم(6)، حيث كان ينقل أقوال الفقهاء من هذه المصنفات إلى جانب نقوله عن كتب الفقه التي سبقت الإشارة إليها ، والأمثلة الآتية توضح ذلك :
في تفسير قوله تعالى " : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .. " سورة المائدة : 43
تحدث أبو حيان عن حكم تصرفات من كان سكران هل هي نافذة أم لا ، فقال :
( ..
__________
(1) . البحر المحيط : 3/260 .2/187
(2) . البحر المحيط : 2/188
(3) . سورة البقرة : 264
(4) . البحر المحيط : 2/313
(5) . سورة البقرة : 270
(6) . البحر المحيط : 2/323(1/21)
ومعنى " حتى تعلموا ما تقولون " حتى تصحوا فتعلموا ، جعل غاية السبب والمراد السبب ، لأنه مادام سكران لا يعلم ما يقول ، وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول ، ولذلك ذهب عثمان وابن عباس وطاووس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق ، واختاره الطبري وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس .. وروي عن عمر ومعاوية وجماعة من التابعين أن طلاقه نافذ عليه ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ، قال أبو حنيفة أفعاله كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه ، وقال يوسف سكون مرتدا في حال سكره ، وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه ، واختلف قوله في الطلاق ، وألزم مالك السكران الطلاق والقود في الجراح ولم يلزمه النكاح والبيع . قال الماوردي : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمه طلاقه .
واختلفوا في السكر فقيل هو الذي لا يعرف صاحبه الرجل من المرأة ، قاله جماعة من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ، ويدل عليه قوله " حتى تعلموا ما تقولون " فظاهره يدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول .. وقال أحمد : إذا تغير عقله في حال الصحة فهو سكران ، وحكي عن مالك نحوه . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " سورة المائدة : 56
__________
(1) . البحر المحيط : 3/256(1/22)
تحدث عن الردة وما يترتب عليها من أحكام في الدنيا والآخرة كما يفهم من الآية ، ناقلا في ذلك أقوال الفقهاء والمجتهدين فقال : ( وقيل حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على شيء ، لأن الله قد أعز دينه بأنصاره ، وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر لا على مجرد الارتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ، " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يفعلون" ، " لئن أشركت ليحبطن عملك " ، والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة وغيرهما ، يعني أنه يحبط عمله بنفس الردة دون الموافاة عليها وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم ، فقال مالك يلزمه الحج ، وقال الشافعي لا يلزمه الحج .. وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلا لحبوط العمل ، وأما حكمه بالنسبة إلى القتل فذهب النخعي والثوري إلى أنه يستتاب محبوسا أبدا ، وذهب طاووس والحسن ـ على خلاف عنه ـ وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والشافعي في أحد قوليه إلى أنه يقتل من غير استتابة ، وروي نحو هذا عن أبي موسى ومعاد ، وقال جماعة من أهل العلم يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت أو في ساعة واحدة أو شهر ؟ روي هذا عن علي ، أو ثلاثة أيام ، روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد وإسحاق الشافعي في أحد قوليه ، وأصحاب الرأي ، أو مائة مرة وهو قول الحسن .. وقال أبو حنيفة يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فيؤجل ثلاثة أيام ، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه لا يقتل حتى يستتاب ، والزنديق عندهم والمرتد سواء ، وقال مالك تقتل الزنادقة من غير استتابة .. )(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 2/151 . 152(1/23)
وفي تفسير قوله تعالى : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة .. " سورة البقرة : 282
نقل أبو حيان أقوال أهل العلم في صحة قبض الرهن وشروطه فقال : ( وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله ، وأما قبض عدل يوضع الرهن على يديه فقال الجمهور به ، وقال عطاء وقتادة والحكم وابن أبي ليلى ليس بقبض ، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول ولم يقع القبض فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلا بالقبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وقالت المالكية يلزم الرهن بالعقد ، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته ، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته ، وأجمعوا على أنه لا يتم إلا بالقبض ، واختلفوا في استمراره ، فقال مالك إذا رده بعارية أو غيرها بطل ، وقال أبو حنيفة إن رده بعارية أو وديعة لم يبطل ، وقال الشافعي يبطل برجوعه إلى يد الراهن مطلقا . والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتا متقومة ، يصح بيعها وشراؤها ، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية ، فقال الجمهور لا يجوز رهن ما في الذمة ، وقالت المالكية يجوز ، وقال الجمهور لا يصح رهن الغرر مثل العبد الآبق ، والبعير الشارد والأجنة في بطون أمهاتها والسمك في الماء والثمرة قبل بدو صلاحها ، وقال مالك لا بأس بذلك ، واختلفوا في رهن المشاع ، فقال مالك والشافعي يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم ، وقال أبو حنيفة لا يصح مطلقا . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله .. " سورة البقرة : 233
__________
(1) . البحر المحيط : 2/350(1/24)
قال أبو حيان : ( وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدة فسخ الحاكم النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها فقال عمر والجمهور لا يتأبد التحريم ، وقال مالك وابن القاسم في المدونة ويكون خاطبا من الخطاب ، وإن عقد عليها في العدة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء ، قال قوم لا يتأبد والقولان عن مالك ، ولو عقد عليها في العدة ودخل بها في العدة فقال عمر ومالك وأصحابه والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وغيرهم يتأبد التحريم ، وقال مالك والليث ولا تحل له لملك اليمين ، وقال أبو حنيفة والشافعي وعبد العزيز بن سلمة وجماعة لا يتأبد بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ويكون خاطبا من الخطاب ، وقال الحسن وأبو حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق والمدنيون ـ غير مالك ـ تعتد من الأول ، فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر ، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري عدة واحدة تكفيها جميعا سواء كانت بالحمل أم بالإقراء أم بالأشهر . )(1)
ولما كان أبو حيان يعتد بفقه أهل الظاهر وينقل الخلاف عنهم ، فإنه يرى بأن موافقتهم لرأي الجمهور شرط في انعقاد الإجماع ، فإذا نقل خلافهم لجمهور الفقهاء كانت دعوى الإجماع مردودة على من قال بها ، وقد صرح بذلك في تفسير قوله تعالى : " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.. " سورة البقرة:172
__________
(1) . البحر المحيط : 2/230(1/25)
حيث نقل أبو حيان خلاف داود الظاهري لجمهور الفقهاء في حكم شحم الخنزير وهو قوله بإباحتها ، ثم اعترض على ابن عطية في قوله بإجماع الأمة على تحريمه فقال : ( وقوله أجمعت الأمة على تحريم شحمه ليس كما ذكر ، ألا ترى أن داود الظاهري لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى ، وهو اللحم دون الشحم ، إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني من أنه لا يعتد في الإحماع بخلاف داود ، فيكون ذلك عنده إجماعا ، وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد قبل أن يخلق الجويني بأزمان بخلاف داود ، ونقلوا أقاويله في كتبهم كما نقلوا أقاويل الأئمة كالأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد ، ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ، ولكنه في عصرنا هذا قد خمل هذا المذهب .)(1)
وهو إذ ينقل من هذه التفاسير يحيل عليها بدقة متناهية ، فنجده مثلا وهو ينقل عن المحرر المحرر لابن عطية يقول : ( وفي النسخة التي وقفنا عليها من تفسير ابن عطية ما نصه .. ) ففي هذه العبارة ما يدل على بالغ حيطته وأمانته فيما ينقله من الآراء والأقوال .
وفي مواضع قليلة من تفسيره نراه يستطرد لنقل الآراء الفقهية لمختلف الفرق الكلامية ثم يكر عليها فيفندها ، ولكن من غير ذكر للمصادر التي نقل عنها أقوالهم وآراءهم ، وإنما يستطرد في مثل هذه المواطن لما كان يراه من ضرورة تزييف هذه الآراء السقيمة التي كانت تصدر عن خلفيات مذهبية فاسدة ، وقد تركت آثارها البالغة في تاريخ الأمة الإسلامية ، مع عرض رأي أهل السنة والحديث في الموضوع .
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " سورة البقرة: 123
__________
(1) . البحر المحيط : 1/488(1/26)
وهي الآية التي سبق أن وقف عندها الزمخشري ، وحملها من رؤيته المذهبية ما لا تحتمله ، كما قد تعلقت بها مختلف الفرق للتدليل بها على آرائها السياسية في الإمامة ، فاستطرد لذلك قائلا :
( وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى وإن كان موضوعها أصول الدين فهناك ذكرها ، ولكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال ، فنقول : الذي عليه أصحاب الحديث والسنة أن نصب الإمام فرض خلافا لفرقة من الخوارج وهو أصحاب نجدة الحروري ، زعموا أن الإمامة ليست بفرض ، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله ولا يحتاجون إلى إمام ، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع ، واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل خلافا للرافضة ، إذ أوجبت ذلك عقلا ،
ويكون الإمام من صميم قريش خلافا لفرقة من المعتزلة ، إذ قالوا إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي وجب نصب النبطي دون القرشي ، وسواء في ذلك بطون قريش كلها خلافا لمن خص ذلك بنسل علي أو العباس ، إما منصوصا عليه وإما باجتهاد ، ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد خلافا للكرامية ، إذ أجازوا ذلك وزعموا أن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، والقول بالتقية باطل خلافا للإمامية ، ومعناها أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماما مستورا ، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة ، وليس من شرط الإمام العصمة خلافا للرافضة ، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرا وعلنا ، وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها خلافا للإمامية ، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدي إليه اجتهاده ، وليس لأحد الخروج عليه بالسيف ، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب خلافا لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم . )(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/379(1/27)
ويستند أبو حيان في تعامله مع هذه المصادر المختلفة إلى حاسته النقدية القوية ، حيث نجده يقف أمام الأقوال الكثيرة في الآية الواحدة ، فيناقشها ويفحصها ، فما كان من الأقوال يدعمه الدليل قدمه وأخذ به ، وما كان يفتقر إلى البرهان رده ، أو توقف في قبوله على الأقل ، ولا يغتر بكثرة من قال برأي معين ، حتى وإن كان ذلك من أوليات الفقه الإسلامي ، إذا كان عاريا عن الدليل الواضح ، فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا .. " سورة البقرة : 226
حيث نجد أبا حيان ينقل آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين في صفة الرجعة بعد الطلاق الرجعي فيقول : ( واختلفوا فيما به الرد ، فقال سعيد والحسن وابن سيرين وعطاء وطاووس والزهري والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة : إذا جامعها فقد راجعها ويشهد ، وقال الليث وطائفة من أصحاب مالك : إن وطاه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها ، وقال مالك إن وطئها في العدة يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد . وقال الشافعي : ولا تصح الرجعة إلا بالقول ، وقال أبو حنيفة والثوري إن لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهو رجعة ، وينبغي أن يشهد في قول مالك والشافعي .. )(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 2/188(1/28)
ثم قال أبو حيان بعد هذا الكلام وغيره : ( قالوا ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي، وعن رضاها ، وعن تسمية مهر ، وعن الإشهاد على الرجعة على الصحيح ، ويسقط بالرجعة بقية العدة ، ويحل جماعها في الحال . ويحتاج في إثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع ، والذي يظهر لي أن المرأة بالطلاق تنفصل عن الرجل ، فلا تجوز له أن ترجع إليه إلا بنكاح ثان ، ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها ، فإما أن يبقى شيء من عدتها أو لا يبقى ، إن بقي شيء من عدتها ، فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه إن أراد الإصلاح ، ومفهوم الشرط أنه إذا أراد غير الإصلاح لا يكون له ذلك ، وإن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز تزويجها ، وأما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح ، فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه ، فإن كان ثم دليل واضح من نص أو إجماع قلنا به ، ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا ، وأن ذلك من أوليات الفقه التي لا يسوغ النزاع فيها . )(1)
ويبدو أن هذه من المواضع التي طغت فيها النزعة الظاهرية على أبي حيان الأندلسي ، فخالف ما يشبه الإجماع في هذه المسألة ، لأن الله تعالى إنما اشترط الإشهاد لا غير في الرجعة كما جاء في سورة الطلاق " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. " الطلاق : 2 فمن زاد عن هذا الشرط من الشروط هو الذي يطالب بالدليل ، كما أنه لم ينقل في السنة النبوية عن أحد من الصحابة أنه صدر منه طلاق فأمره النبي ـ ص ـ بإعادة الخطبة والعقد ، ولكن كان يأمرهم بالمراجعة ..
__________
(1) . البحر المحيط : 2/188(1/29)
إلا أن هذه النزعة الظاهرية التي طغت على أبي حيان في مواضع قليلة من تفسيره البحر المحيط ، مغتفرة إلى جانب محاسنه الأخرى في تعامله مع مصادره الفقهية من حسن تخيره للآراء الفقهية ما كان أكثر صوابا ، وأقرب إلى مدلول النص القرءاني ، كما أن أمانته العلمية في النقل والاقتباس ، وقلة تأثره بالأفكار والآراء السياسية في توجيه آيات الأحكام جعله أكثر موضوعية وأقل تعصبا وأحسن صنيعا من مما فعله الزمخشري في تعامله مع مصادره الفقهية .
المبحث الثاني
النزعة الاجتهادية عند المفسرين
المطلب الأول : ملامح النزعة الاجتهادية عند الزمخشري
عرف الزمخشري بميله نحو الإبداع وحبه للإستقلال بالرأي والاجتهاد ، وهو أحد الأسباب التي جعلت تفسيره يحظى بهذه المكانة عند أنصاره وخصومه على السواء . فلم يكتف الزمخشري بعرض آراء مذهبه الحنفي عند تفسيره لآيات الأحكام ، بل لم يقف عند مجرد عرض آراء المذاهب الفقهية المشهورة ، حتى ذهب إلى البحث والنظر في هذه النصوص القرءانية ، ومحاولة الخروج بآراء فقهية تعبر عما فهمه بنفسه ، وأداه إليه اجتهاده ، فتارة يكون اجتهاده عبارة عن انتقاء الرأي الذي يراه راجحا من بين آراء المذاهب الفقهية المعروفة ، مع التدليل على ذلك دون تعصب أو تعسف ، وتارة يخرج برأي لنفسه يستنبطه من ظاهر النص القرآني ، ثم يعضده بأدلة أخرى من السنة وأقوال السلف من الصحابة والتابعين ، و من المواضع التي انتصر فيها لغير مذهبه الحنفي ما يأتي:
في تفسير قوله تعالى : " فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن .. " سورة البقرة : 220(1/30)
قال الزمخشري : ( وقرأ عبد الله " حتى يتطهرن " و " ويطهرن " بالتخفيف ، والتطهر الاغتسال ، والطهر انقطاع الدم ، وكلتا القراءتين مما يجب العمل به ، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل ، وفي أقل الحيض حتى تغتسل ، أو يمضي عليها وقت الصلاة ، وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتطهر ، فتجمع بين الأمرين ، وهو قول واضح ، ويعضده قوله " فإذا تطهرن ". )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم .. " سورة المائدة : 97
نقل رأي كل من أبي حنيفة والشافعي عن كفارة من وقع في قتل صيد حال إحرامه ، ومدى جواز تخييره بين الأصناف المذكورة في الآية ، ثم أدلى برأيه بناء على ما يلوح له من ظاهر نص الآية فقال : ( فإن قلت : فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله " من النعم " وهو تفسير للمثل ، وبقوله " هديا بالغ الكعبة " ؟ قلت : قد خير من أوجب القيمة بين أن يشتري بها هديا أو طعاما أو يصوم ، كما خير الله تعالى في الآية ، فكان قوله " من النعم " بيانا للهدي المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير ، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هديا فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم . على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزي بالهدي أو يكفر بالإطعام أو بالصوم إنما يستقيم ظاهره بغير تعسف إذا قوم ، ونظر بعد التقويم أي الثلاثة يختار ، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير ـ فإذا كان لا نظير له قوم حينئذ ، ثم يخير بين الإطعام والصوم ـ ففيه نبو عما في الآية ، ألا ترى إلى قوله تعالى " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " كيف خير بين الأشياء الثلاثة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم .)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " وأتموا الحج والعمرة لله .. " سورة البقرة : 195
__________
(1) . الكشاف : 1/266
(2) . الكشاف : 1/678(1/31)
قال : ( فإن قلت : هل فيه دليل على وجوب العمرة ؟ قلت : ما هو إلا أمر بإتمامهما ، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوعين ، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعا ، إلا أن تقول : الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما ، بدليل قراءة من قرأ " وأقيموا الحج والعمرة " ، والمر للوجوب في أصله ، إلا أن يدل دليل على خلاف الوجوب كما دل في قوله " فاصطادوا " ، " فانتشروا " ونحو ذلك ، فيقال لك : فقد دل الدليل على نفي الوجوب ، وهو ما روي أنه قيل : يا رسول الله ، العمرة واجبة مثل الحج ؟ قال : " لا ولكن أن تعتمر خير لك "(1)، فإن قلت فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إن العمرة لقرينة الحج ، وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا قال له : إني غني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي ، أهللت بهما جميعا فقال : " هديت لسنة نبيك "(2)، وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثل الحج ؟ قلت : كونها قرينة للحج أن القارن يقرن بينهما ، وأنهما يقترنان في الذكر فيقال : حج فلان واعتمر ، والحجاج والعمار ، ولأنها الحج الأصغر ، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب ، وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله : أهللت بهما ، وإذا أهل بالعمرة وجبت عليه ، كما إذا كبر بالتطوع من الصلاة ، والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب ، فبقي الحج وحده فيها ، فهما بمنزلة قولك : صم شهر رمضان وستة من شوال ، في أنك تأمره بفرض وتطوع . )(3)
__________
(1) . أخرجه الترمذي في سننه عن جابر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : " لا ، وأن يعتمروا هو أفضل " . انظر سنن الترمذي ، كتاب الحج ، باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا . حديث رقم : 935 .
(2) . رواه أبو داود في سننه عن أبي وائل قال : قال الصبي بن معبد كنت رجلا اعرابيا .. " الحديث ، كتاب المناسك ، باب في الإقران ، حديث رقم : 1799.
(3) ..الكشاف : 1/239(1/32)
ونحن لا نوافق الزمخشري في قياس سياق " وأتموا الحج والعمرة " على قوله : صم شهر رمضان وستة من شوال . لأن دليل التفريق بين صيام الفرض والتطوع مستفاد من نصوص أخرى ، وليس من سياق المثال الذي ضربه ، ولما لم يقم دليل على التفريق بين الحج والعمرة من نصوص أخرى ، لزم من ظاهر النص أن يأخذا نفس الصفة والحكم المستفاد من نفس الأمر الوارد في الآية دفعا للإلتباس .
كما نجد الزمخشري أحيانا يقف أمام بعض الآيات ، ليستنبط منها بعض الأحكام فينحو منحى التفسير الإشاري في تلك الإستنباطات ، مما جعل أبا حيان يصف ذلك الكلام بالخطابة لعدم انضباطه بضوابط الإستدلال العلمي المعهود عنه الفقهاء .
فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين.." سورة المائدة : 5
فينقل أبو حيان هذا الكلام للزمخشري قائلا : ( وخطب الزمخشري هنا فقال : ( وفيه فائدة جليلة ، وهي أن كل آخذ علما لا يأخذه إلا من قبل أهله علما وأبحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل ، فكم من أخذ من غير متقن ، فقد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله .)(1)
__________
(1) . الكشاف : 3/430(1/33)
وهكذا فإن الزمخشري الذي عرفناه متصفا بالعنف والقسوة ضد مخالفيه في الجانب العقدي ، ورميه لهم بكل نقيصة ، لم يمض على نفس الوتيرة في الجانب الفقهي ، بل نجده يميل إلى شيء من الموضوعية وإنصاف خصومه ، فهو إذ يقدم رأيا ويرتضيه أو يضعف رأيا آخر ويستبعد صحته ، نجده في كل ذلك عف اللسان لطيف العبارة ، بل يمتاز عن كثير من أنصار المذاهب الفقهية الذين كتبوا في التفسير الفقهي للقرءان الكريم ، فأظهروا تعصبا وتعسفا كبيرين ، وكانوا شديدين في مناقشة مخالفيهم والرد عليهم ، وهي حسنة من الحسنات التي تحسب له ، إلا أن هذا لم يمنع الزمخشري من الدفاع عن بعض آراء مذهبه الحنفي إذا كان عنده من الأدلة ما يدعمها .
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .. " سورة النساء : 102
نقل آراء السلف في حكم صلاة القصر فقال : ( وعن عائشة رضي الله عنها اعتمرت مع رسول الله ـ ص ـ من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت . فقال أحسنت يا عائشة ، وما عاب علي ، وكان عثمان رضي الله عنه يتم ويقصر .. وعند أبي حنيفة رحمه الله القصر في السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره .. فإن قلت : فما تصنع بقوله " فليس عليكم جناح أن تقصروا .. " قلت كأنهم ألفوا الإتمام ، فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر ، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه . )(1)
المطلب الثالث : ملامح النزعة الاجتهادية عند أبي حيان
__________
(1) . الكشاف : 1/558(1/34)
لم يقتصر جهد أبي حيان الأندلسي في تفسير آيات الأحكام على نقل آراء المفسرين والفقهاء والمجتهدين الواردة في بيان الأحكام المستنبطة من النص القرءاني ، بل كان يقف أمام هذه الأقوال الكثيرة موقف الباحث الناقد ، فهو إذ ينقل تلك الأقوال كلها لا يقبل رأيا واحدا منها حتى يعرضه على جملة من الموازين العلمية ، فإن سقطت أمام تلك الموازين ردها ، وخرج برأي من عنده يراه أقرب إلى النص ، وألصق بالسياق الذي ينتظم تلك الآية ، وأكثر تعلقا بسبب نزولها .
فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : ".. فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " سورة البقرة : 220
قال أبو حيان : ( وخصه بعضهم بأنه التائب من الشرك والمتطهر من الذنوب ، قاله ابن جبير . أو بالعكس ، قاله عطاء ومقاتل ، وبعضهم خصه بالتائب من المجامعة في الحيض ، وقال مجاهد : من إتيان النساء في أدبارهن في أيام الحيض ، وقال أبو العالية : التوابين من الكفر المتطهرين بالإيمان ، وقال قتادة : التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغاءر ، وقيل : التوابين من الذنوب والمتطهرين العيوب ، وقال عطاء أيضا المتطهرين بالماء ، وقيل من أدبار النساء فلا يتلوثون بالذنب بعد التوبة كأن هذا القول نظير قوله تعالى حكاية عن قوم لوط : " أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " سورة النمل : 58 .(1/35)
ثم قال أبو حيان بعد نقل هذه الآراء كلها : ( والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية " ويسألونك عن المحيض .." ودل السبب ـ سبب نزول الآية ـ على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض من مجامعتهن الحائض في الحيض في الفرج أو في الدبر ، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك ، وذلك في حالة الحيض ، في الفرج أو في الدبر ، ثم أباح الإتيان في الفرج بعد انقطاع الدم ، والتطهر الذي هو واجب على المرأة لأجل الزوج ، وإن كان ليس مأمورا به في لفظ الآية ، فأثنى الله تعالى على من امتثل أمر الله تعالى ، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى ، وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء ، وأبرز ذلك في صورتين عامتين استدرج الأزواج والزوجات في ذلك فقال تعالى " إن الله يحب التوابين أي الراجعين إلى ما شرع ويحب المتطهرين بالماء فيما شرع فيه ذلك ، فكان ختم الآية بمحبة من اندرج فيه من الأزواج والزوجات ، وكرر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر ، وأن لكل من الوصفين محبة من الله يخص ذلك الوصف ، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد ، وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين "(1)، وسألهم الرسول ـ ص ـ عن السبب الذي أثنى الله به عليهم فقالوا : كنا نجمع بين الإستجمار والإستنجاء . )(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه .. " سورة المائدة : 7
__________
(1) . سورة التوبة : 109
(2) . البحر المحيط : 2/169(1/36)
قال أبو حيان : ( وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضا واجبا ، وهو قول جابر والحسن وإبراهيم ، وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به الكوعين ، وهما الرسغان ، وهو قول علي وعطاء والشعبي ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، وداود بن علي والطبري والشافعي في القديم وروي عن مالك ، وذهب الشافعي إلى أنه يمسح كفيه فقط ، وبه قال بعض فقهاء الحديث .
وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث ، ففي صحيح مسلم من حديث عمار(1)" إنما كان يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ، ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك ، وعنه في هذا الحديث : " فضرب بيده الأرض ، فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه " . وللبخاري(2): " ثم أدناهما من فيه ثم مسح بهما وجهه وكفيه " . وفي مسلم أيضا(3): " أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا ، ثم ضرب بيده الأرض فقبضهما ، ثم ضرب بشماله على يمينه ، وبيمينه على شماله ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه . )
ونجد أبا حيان في هذا الجانب عف اللسان تجاه مخالفيه ، يميل إلى الرأي الذي يبدو له أقوى حجة ولو كان مخالفا لمذهبه ، مما يدل على إخلاصه لدينه وموضوعيته ، والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
في تفسير وله تعالى : " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير..وما أكل السبع إلا ما ذكيتم .. " سورة المائدة : 4
__________
(1) . أخرجه مسلم ، كتاب الطهارة ، باب التيمم .
(2) . أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب الطهارة ، باب التيمم .
(3) . أخرجه مسلم ، كتاب الطهارة ، باب التيمم بلفظ : إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا .. الحديث .(1/37)
تحدث أبو حيان عن حكم الاستثناء في هذه الآية في قوله " إلا ما ذكيتم " هل هو متصل أو منقطع وما يترتب على كل قول منهما ، فعرض مختلف أقوال العلماء في ذلك ، ثم قال : ( وظاهر قوله " إلا ما ذكيتم " يقتضي أن ما لا يدرك لا يجوز أكله ، كالجنين إذا خرج من بطن أمه ميتا إذا كان استثناء منقطعا ، فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وذهب الجمهور إلى جواز أكله ، والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم ، وهو " ذكاة الجنين ذكاة أمه " المعنى على التشبيه ، أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه ، فكما أن ذكاتها الذبح ، فكذلك ذكاته الذبح ، ولو كان كما زعموا لكان التركيب : ذكاة أم الجنين ذكاته . )(1)
وهكذا فإن تحرر أبي حيان من ربقة التعصب المذهبي هو الذي جعله يضعف رأي داود الظاهري ، ويعترض عليه في عدة مواضع يراه فيها قد جانب الصواب ، وهذا على الرغم من شدة تعلقه بهذا المذهب ودفاعه عنه أحيانا أخرى .
فمن ذلك مثلا ما جاء في معرض الكلام على زمن قضاء الفوائت من الصيام لقوله تعالى : " .. ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " سورة البقرة : 184
قال أبو حيان : ( .. وظاهر قوله تعالى " فعدة من أيام أخر " أنه لا يلزمه التتابع ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار .. وظاهر الآية أنه لا يتعين الزمان ، بل يستحب المبادرة إلى القضاء ، وقال داود يجب عليه القضاء ثاني شوال ، فلو لم يصمه ثم مات أثم . وهو محجوج بظاهر الآية ، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت(2): كان يكون علي الصوم من رمضان ، فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لشغل من رسول الله ـ ص ـ " )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا .. " سورة آل عمران : 97
__________
(1) . البحر المحيط : 3/424
(2) . أخرجه مسلم ، كتاب الصيام ، باب قضاء رمضان في شعبان . 3/154
(3) . البحر المحيط : 2/35(1/38)
تحدث أبو حيان عن مفهوم الإستطاعة الموجبة للحج في هذه الآية ناقلا في ذلك رأي الجمهور وأهل الظاهر ، ثم رد هؤلاء جميعا إلى نص الآية وصحيح السنة النبوية فقال : ( ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة ، وذكروا أن شروطه العقل والبلوغ والحرية والإسلام والاستطاعة ، وظاهر قوله تعالى " ولله على الناس " وجوبه على العبد ، وهو مخاطب به ، وقال بذلك داود ، وقال الجمهور ليس مخاطبا به ، لأنه غير مستطيع ، إذ السيد يمنعه من هذه العبادة لحقوقه عليه ، قالوا وكذلك الصغير ، فلو حج العبد في حال رقه ، والصبي قبل بلوغه ، ثم أعتق وبلغ ، فعليهما حجة الإسلام ، وظاهره الإكتفاء بحجة واحدة ، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافا لبعض أهل الظاهر إذ قال يجب في كل خمسة أعوام مرة ، والحديث الصحيح(1)يرد عليه . )(2)
وفي تفسير " ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر .. " البقرة : 184
__________
(1) . لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فقال : " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله : لو قلت نعم لوجبت ولا استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم .." أخرجه مسلم في كتاب الحج ، باب فرض الحج مرة في العمر .
(2) . البحر المحيط : 3/11(1/39)
قال أبو حيان : ( واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر ، وأنه لا قضاء عليه إذا صام ، لأنه كما ذكرنا قدروا محذوفا في الآية ، والأصل أن لا حذف ، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر ، فلو صاما لم يجزهما ، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا من الأيام الواجب صومهما على غيرهما ، قالوا : وروي عن أبي هريرة أنه قال : من صام في السفر فعليه القضاء ، وتابعه عليه شواذ من الناس ، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر وابنه عبد الله ، وعن ابن عباس أن الفطر في السفر عزيمة ، ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وقال به قوم من أهل الظاهر ، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر ، فقال فيما لخصناه في كتابنا المسمى بالأنوار الأجلى في اختصار المحلى ما نصه ، ويجب على من سافر ولو عاصيا ميلا فصاعدا الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان وأن يفطر المريض ويقضي بعد ، ويكره صومه ويجزي . وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه .
وثبت بالخبر المستفيض أن النبي ـ ص ـ صام في السفر(1)، وروى ذلك عنه أبو الدرداء وأبو سعيد الخدري ، وجابر وأنس وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر بقوله لحمزة بن عمرو السلمي ـ وقد قال أصوم في السفر ـ قال : " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " وعلى قول الجمهور أن ثم محذوفا ، وتقديره فأفطر ، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم ، واختفوا في الأفضل .. )(2)
كما رد القول بالظاهر في تفسير قوله تعالى : " فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع .. " النساء : 3
__________
(1) . انظر صحيح مسلم ، كتاب الصوم ، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية .
(2) . البحر المحيط : 2/34(1/40)
لأنه خالف الإجماع المتيقن ، حيث أحصى أبو حيان أقوال فقهاء المذاهب المختلفة في العدد المباح من الزوجات للرجل الواحد ، ثم رد هؤلاء جميعا إلى ما أجمع عليه المسلمون ، لكون الإجماع إذا انعقد لا يرده اجتهاد جاء بعده ، ولا يعتد معه بخلاف غير معتبر : ( وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع ، والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه ، ، أما من لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك ، والإجماع على خلاف ما دل عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور ، أجمع المسلمون على أن من لم يخف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثا وأربعا كمن خاف ، فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك ، وحكمها أعم . )(1)
ومثلما رأينا أبا حيان الأندلسي يعرض آراء المجتهدين ، وينتقي منها ما كان أظهر حجة وأقوى دليلا ، فإنه أحيانا ينحو منحى الإجتهاد ، فيخرج برأي يعبر عما بدا له من ظاهر الآية ، وإن كان مخالفا لرأي الجمهور من الفقهاء .
فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسيره لقوله تعالى : " .. ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا " سورة البقرة : 233
حيث عرض آراء فقهاء الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار فقال : ( قال ابن جبير : السر هنا النكاح ، وقال ابن زيد : معنى ذلك لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، فيسمى العقد عليهن مواعدة ، وهذا ينبو عنه لفظ الآية . وقال بعضهم : جماعا ، وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ـ يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف . وقال ابن عباس وابن جبير أيضا والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي ومالك وأصحابه والجمهور : المعنى لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية ..
__________
(1) . البحر المحيط : 3/163(1/41)
ثم قال أبو حيان : (و الذي تدل عليه الآية أنهم نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد ، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها ، وأما إطلاق المواعدة سرا على العقد فبعيد أيضا ، وأما قول الجمهور فبعيد أيضا ، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سرا وجهرا ، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر . )(1)
ويتضح من جملة ما قدمناه أن موضوعية الزمخشري ، وإنصافه لخصومه ومخالفيه قد تجلت في الجانب الفقهي من كشافه أكثر منها في الجوانب الأخرى ، حيث ظهر في الأغلب الأعم عف اللسان لطيف العبارة ، كما نراه يحتكم للنص القرآني والمأثور من السنة النبوية ، ويميل مع الدليل الأقوى والأظهر ، ولئن وجدناه أحيانا ينجذب إلى تقرير بعض الحكام البعيدة ويحمل النص القرءاني ما لايحتمله فإنما هو تابع في ذلك لمن سبقه ، وقد وقع مثل هذا في مواضع قليلة من كشافه ، أما مسلكه العام فقد كان شيمته العدل والإنصاف في عرض أقوال المجتهدين وأدلتهم ، سواء أكان ذلك في مذهبه الحنفي أو في المذاهب المخالفة له ، وربما كان هذا المسلك راجعا إلى كون الجانب الفقهي ليس هو موضوع الصراع والتدافع بين المعتزلة وغيرهم من الفرق الأخرى ، كما هو الشأن عند الخوارج والشيعة الذين استقلوا بآرائهم الفقهية إلى جانب آرائهم العقدية . ومن هنا يمكن اعتبار كتاب الكشاف ـ على اختصاره ـ أحد التفاسير التي لا غنى عنها للباحث في آيات الأحكام لما تضمنه من نقل لآراء المذاهب الفقهية مقرونة بأدلتها ، إلى جانب تلك الترجيحات والاستنباطات الدقيقة التي انفرد بها الزمخشري وبز بها أقرانه ، وهي على قلتها تنطوي على فوائد قد لا يظفر بها الباحث في مصادر أخرى .
__________
(1) . البحر المحيط : 2/227(1/42)
ويلتقي الزمخشري مع أبي حيان الأندلسي في هذه الميزات ، ويكاد يقف معه على قدم المساواة ، إلا أن أبا حيان يبدو أوسع أفقا في جوانب أخرى ، منها استطراده لنقل آراء فقهية معتبرة لمذاهب أخرى كالمذهب الظاهري ومذاهب الفرق الإسلامية المختلفة ، ومنها توثيق مادته العلمية بالإحالة على مصادره بدرجة عالية من الدقة ، وكذا دقة الاستنباطات التي انفرد بها أبو حيان عن الزمخشري ، وربما كان عامل الاختصار عند الزمخشري والتفصيل عند أبي حيان أحد الأسباب التي أظهرت هذا التفوق والتفاوت بينهما .(1/43)
الباب الثاني
مسلكهما في التفسير بالمأثور
الفصل الأول
مسلكهما في تفسير القرءان بالقرءان والسنة
المبحث الأول
مسلكهما في تفسير القرءان بالقرءان
يعتبر التفسير بالمأثور المصدر الأول الذي يرجع إليه كل مفسر للقرآن الكريم ، ومهما صنفت بعض كتب التفسير فيما يسمى بالتفسير بالرأي ، فهو من باب تغليب الغالب ، وإلا فليس هناك أي مفسر يدعي لنفسه تفسير القرآن الكريم من غير أن يرجع إلى النقل ، لأن في القرآن ما هو مجمل ولا يفصله إلا القرآن ، وفيه من المطلق والعام مالا يقيده أو يخصصه إلا القرآن نفسه ، وكل هذا مما ليس للرأي فيه مجال ، مما يجعل المفسر في حاجة للإلمام بهذا النوع من التفسير ، وقد اعتبره العلماء أرقى درجات التفسير(1).
ويأتي بعده تفسير القرآن بالسنة ، وهذا القسم هو الآخر يلحق بسابقه من حيث أن السنة وحي من الله تعالى ، لما جاء في سورة النحل : " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون "(2)ولما روي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينزل عليه جبريل عليه السلام بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن(3).
__________
(1) . ابن كثير ، تفسير القرءان العظيم ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، الجزائر ، ط1 ، 1990م : ج1/4
(2) . سورة النحل : 44
(3) . في سنن الدارمي قال : أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان قال : " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرءان مثلما ينزل عليه بالسنة " سنن الدارمي ، دار الفكر ، بيروت ، ج1/145 .(1/1)
ومنه أيضا تفسير الصحابة رضي الله عنهم ؛ حيث روى الحاكم في مستدركه أن تفسير الصحابي الذي أدرك التنزيل له حكم المرفوع(1)، وقد قيده بعضهم بما ليس للرأي فيه مجال(2).
كما ألحق به تفسير التابعين الذين لزموا من عرف بالتفسير من الصحابة وأخذوا عنهم هذا العلم ، ولذا نجد أقوال الصحابة في التفسير امتزجت بأقوال التابعين ، وهو الشائع في أعمال المفسرين.
ولم يختلف المفسرون من حيث المبدأ حول قيمة التفسير بالمأثور ، وإنما تباينت مواقفهم باعتبار ما طرأ عليه من أسباب ضعف مختلفة ، جعلته محاطا بسياج من الشك عند بعضهم ، ومن هذه الأسباب(3)شيوع الوضع في التفسير لنفس الأسباب التي أدت إلى الوضع في الحديث النبوي ، وكثرة الإسرائيليات التي امتزجت بالتفسير منذ القرون الأولى ، وحذف الأسانيد ، كما قال الإمام أحمد : ( ثلاث لا أصل لها : المغازي والملاحم والتفسير.)(4)
ومهما كانت هذه الأسباب وغيرها ، فإنها لا تعفي المفسر من البحث عن الصحيح من التفسير بالأثر وتقديمه عن غيره إن وجد ، ومن هنا نجد أبا حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط ، والزمخشري في تفسيره الكشاف قد اهتما بالتفسير بالمأثور ، وإن كان على تفاوت بينهما ، واختلاف بين مسلكيهما في التعامل معه .
__________
(1) . الزركشي ، البرهان في علوم القرءان ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الفكر ، ط3 ، 1980م ، ج2/156
(2) . منهم ابن الصلاح والنووي وغيرهما . انظر محمد حسين الذهبي ، التفسير والمفسرون ، دار إحياء التراث العربي : ج1/94
(3) . التفسير والمفسرون : 1/156
(4) . المصدر نفسه : 2/156(1/2)
فقد جعل أبو حيان الإلمام بالتفسير بالمأثور من الشروط التي يجب على المفسر أن يتحقق بها ، ونص على ذلك في مقدمة كتابه البحر المحيط في معرض كلامه عن شروط المفسر فقال : ( الوجه الرابع : تعيين مبهم ، وتبيين مجمل ؛ وسبب نزول ، ونسخ .. ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك من علم الحديث ؛ وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها و رويناها ، وذلك كالصحيحين ، والجامع للترمذي ، وسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وسنن ابن ماجة وسنن الشافعي ، ومسند الدارمي ، ومسند الطيالسي ، ومسند الشافعي ، وسنن الدارقطني ، ومعجم الطبراني ، والمعجم الصغير له ، ومستخرج أبي نعيم على مسلم ، وغير ذلك )(1).
وإلى جانب تنويه أبي حيان بالقيمة العلمية للتفسير بالمأثور وأهميته ، فإنه حذر من جهة أخرى من حشو كتب التفسير بما لا يصح من الآثار والأخبار . ففي سياق نقده لمن سبقه من المفسرين ، وذكر مآخذه عليهم قال : ( وكذلك أيضا ذكروا مالا يصح من أسباب النزول وأحاديث في الفضائل ، وحكايات لا تناسب وتواريخ إسرائيلية ، ولا ينبغي ذكر هذا في كتب التفسير . )(2)
ولئن كان أبو حيان مقلا في تفسير القرآن بالقرآن ، فلعله كان يرى بأن تفسير القرءان بالقرءان الذي هو أعلى درجات التفسير إنما هو ما صح رفعه إلى النبي ـ ص ـ بأن آية كذا هي تفسير وبيان لآية كذا ، ولا شك أن هذا النوع من التفسير قليل ، أما تفسير القرءان بالقرءان القائم على اجتهاد المفسر في فهم آيات القرءان في ضوء بعضها بعضا فإن في تفسير القرآن بالسنة ما يغني عن ذلك ، وأن تفصيل المجمل أو تقييد المطلق أو تخصيص العام في القرآن إنما وقع أغلبه بالسنة ، ولذا نجد أبا حيان لم يكثر من تفسير القرآن بالقرآن في منهجه ، ولم يأخذ به إلا في مواضع قليلة.
__________
(1) . البحر المحيط : 1/6
(2) . المصدر نفسه : 1/6(1/3)
أما الزمخشري فإنه وأن لم ينبه على أهمية التفسير بالمأثور بنص صريح ، فإنه أخذ به في بعض المواضع ، وسكت عنه في مواضع أخرى .
وهو في ذلك يقلل من المأثور في الآيات التي يرى فيها ما يخالف مذهبه ، ويتوسع في الأخذ به في الآيات التي لا يرى فيها موضعا للنزاع مع خصومه أو لا يرى فيها ما يصادم مذهبه ، فيورد في الآية الواحدة من هذا النوع ما يفسرها من القرآن والسنة وأقوال السلف في آن واحد ، ثم يوجه الآية في ضوء تلك الآثار.
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا.." سورة المائدة : 105(1/4)
قال الزمخشري : ( كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل لهم : " عليكم أنفسكم " وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى كما قال تعالى : " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات "(1)وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ، ولا يزال يذكر معايبهم و مناكيرهم . فهو مخاطب به ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد ، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه ، وعن ابن مسعود أنها قرئت عنده فقال : إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ، ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم ، فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه . وعنه : ليس هذا زمان تأويلها ، قيل فمتى ؟ قال : إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن . وعن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيرا ، سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها فقال(2): ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك نفسك ودع أمر العوام ، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر ، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله .)(3)
__________
(1) . سورة فاطر : 8
(2) . أبو داود ،في السنن من تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، المكتبة العصرية ، لبنان ، كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي ، حديث رقم : 4341 ، والترمذي ، السنن ،تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، 1980م كتاب التفسير ، سورة المائدة ، رقم :5051
(3) . الكشاف : 1/685(1/5)
وفي كل ذلك كان الزمخشري يميل إلى تفسير القرءان بالقرءان أكثر من ميله إلى الأنواع الأخرى من التفسير بالمأثور ، وعلى الرغم من كونه يتوخى الاختصار في تفسيره ، فإنه كان أكثر استعمالا له من أبي حيان ، ولعل السبب في تغليب تفسير القرآن بالقرآن عند الزمخشري عنه عند أبي حيان هو تحكيم قاعدة حمل المتشابهات على المحكمات من آيات القرآن عند الزمخشري ، وهي قاعدة مشهورة في منهج المعتزلة في تفسر القرءان(1)، وذلك هروبا من نصوص السنة التي تخالف مذهبه ، حيث كان يرد بعبارات قاسية وساخرة على خصومه الذين يحكمون السنن في تفسير القرآن ، ذاهبا إلى الطعن الصريح في بعض الرواة من الصحابة لتلك المرويات ، وإن كانت ثابتة في الصحاح ، ولم يكن طعنه في تلك المرويات من جهة النقل بما تعارف عليه نقاد الحديث ، وإنما هو من جهة العقل ، أو لمجرد أنه يرى فيها ما يخالف ظاهر القرءان ، والأمثلة الآتية توضح ذلك .
ففي تفسير قوله تعالى : " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق .خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد " هود: 107 ـ 106
__________
(1) . وقد تحدث القاضي عبد الجبار في كتابه " شرح الأصول الخمسة " عن شروط المفسر ، فذكر اللغة والفقه وأصوله والرواية وعلم التوحيد .. ثم قال : وكان بحيث يمكنه حمل المتشابه على المحكم والفصل بينهما . انظر : شرح الأصول الخمسة : 606(1/6)
قال : ( فإن قلت : فما معنى الإستثناء في قوله تعالى " إلا ما شاء ربك " وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء ؟ قلت هو استثناء من الخلود في عذاب النار، زمن الخلود في عذاب الجنة . ذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده ، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم . وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما أكبر منها وأجل موقعا منهم ، وهو رضوان الله كما قال " وعد الله المؤمنين المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن و رضوان من الله أكبر.. "(1). و لهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو ، فهو المراد بالإستثناء . والدليل عليه قوله "عطاء غير مجذوذ" ومعنى قوله في مقابلته " إن ربك فعال لما يريد " أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له ، فتأمله فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ، ولا يخدعنك قول المجبرة : إن المراد بالإستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة ، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم ، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى بعض النوابت عن عبد الله بن عمر بن العاص : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا ، وقد بلغني أن من الضلال من اغتر بهذا الحديث ، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار . وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين ، زادنا الله هداية بالحق ، ومعرفة بكتابه ، ولئن صح هذا عن ابن العاص ، فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير ، فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها ، وأقول ما كان لابن عمرو وسيفيه ، ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب ، ما يشغله عن تسيير هذا الحديث ؟)(2)
__________
(1) . سورة التوبة : 72
(2) . الكشاف : 2/430(1/7)
ولما كان أبو حيان قليل الرجوع إلى تفسير القرءان بالقرءان ، فإنه كان كثيرا ما يكتفي بنقل ما أورده الزمخشري في هذا الجانب إذا لم يكن فيه توجه مذهبي ، و يذهب
أحيانا إلى إسقاط تلك الآيات مع الاكتفاء بذكر معانيها ، وهذا مطرد في كثير من المواضع في تفسيره . ومن الأمثلة على ذلك :
في تفسير قوله تعالى : " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة .. " سورة البقرة : 2
قال الزمخشري : ( ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها ، من أقام العود إذا قومه ، أو الدوام عليها ، كما قال تعالى: "
الذين هم على صلاتهم دائمون "(1): " والذين هم على صلاتهم يحافظون "(2).)(3)
وقال أبو حيان : ( " ويقيمون الصلاة " والإقامة التقويم ، أقام العود قومه ، أو الإدامة ، أقامت الغزالة سوق الضراب ، أي إدامتها ، من قامت السوق ، أو التشمر والنهوض من قام الأمر..)(4)
وهذا ملخص ما جاء في تفسير الآية عند الزمخشري غير أنه أسقط منه الآيات التي أوردها الزمخشري في تعيين معنى إقام الصلاة .
وفي تفسير قوله تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ". سورة البقرة : 142
قال الزمخشري : ( روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء ، وذلك قوله تعالى(5): " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ".)(6)
__________
(1) . المعارج : 23
(2) . المؤمنون : 9
(3) . الكشاف : 1/39
(4) . البحر المحيط : 1/38
(5) . سورة النساء : 41
(6) . الكشاف : 1/512(1/8)
وقد رجعت إلى البحر المحيط في تفسير هذه الآية ، فإذا هو يتوسع في تفسيرها بذكر أقوال المفسرين في معنى الشهادة ، وتعيين وقتها في الدنيا أو الآخرة ، وأورد في ذلك آثارا من السنة وأقوال السلف ، دون أن يعرج على الآية التي أوردها الزمخشري في ترجيح كون هذه الشهادة في الآخرة(1).
وفي تفسير قوله تعالى : " الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " سورة البقرة : 14
قال الزمخشري : ( فإن قلت لا يجوز على الله تعالى لأنه متعال عن القبيح والسخرية من باب العيب والجهل ، ألا ترى إلى قوله تعالى : " قالوا أتتخذنا هزؤا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين "(2)، فما معنى استهزائه بهم ؟ قلت : معناه إنزال الهوان بهم والحقارة بهم ، لأن المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به ..وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة..وقيل سمي جزاء الإستهزاء باسمه كقوله : "وجزاء سيئة سيئة مثلها.. "(3)، " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .."(4)فإن قلت : فهلا قيل مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله : " إنما نحن مستهزئون " قلت : لأن "يستهزئ" يفيد حدوث الإستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله بهم ، وبلاياه النازلة بهم " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين "(5)، وما كان يخلو في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار ، وتكشف أسرار ، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما كنتم تحذرون "(6).)(7)
__________
(1) . البحر المحيط : 3/252
(2) . سورة البقرة : 66
(3) . سورة الشورى : 37
(4) . سورة البقرة : 193
(5) . سورة التوبة : 127
(6) . سورة التوبة : 64
(7) . الكشاف : 1/67(1/9)
ولما كان أبو حيان قد درج على إغفال ذكر الآيات المتماثلة في موضع واحد مثلما فعل الزمخشري ، فإنه اكتفى بذكر معاني تلك الآيات على سبيل التفسير ، ومن هنا نجده في تفسير هذه الآية " الله يستهزئ بهم.. " يفسرها بنفس ما ذهب إليه الزمخشري ، مع إسقاط تلك الآيات وذكر معانيها فقط ، فقال: (..فيحتمل أن يكون الإستهزاء المسند إلى الله تعالى كناية عن مجازاته لهم ، وأطلق إثم الاستهزاء على المجازاة ، ليعلم أن ذلك جزاء الإستهزاء ، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين ، فأجرى عليهم أحكام المومنين من حقن الدم وصون المال و الإشراك في المغنم ، مع علمه بكفرهم .. أو عن فتح أبوب الجنة فيسرعون إليها ، فيضحك منهم المؤمنون ، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم ، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين ـ وهو السور المذكور في الحديد ـ أو عن قوله تعالى(1): " ذق إنك أنت العزيز الكريم " .)(2)
فنلاحظ أن المعاني التي ذهب إليها في تفسير الإستهزاء إنما استوحاها من مجموع الآيات التي أوردها الزمخشري في تفسير الآية ، وزاد عليها معاني آيات أخرى كقوله تعالى :
ـ " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون"(3)
ـ " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة.."(4)
ـ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم.."(5)
والذي أراه في هذا المقام أنه لو ذكر أبو حيان الآيات بنصها لكان أحسن وأكمل ، وهو ما درج عليه عامة من أخذ بالتفسير بالمأثور ، ولذا كان الزمخشري من حيث إيراد الآيات بنصها أحسن منه صنيعا.
وفي تفسير قوله تعالى : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم .. " سورة المائدة : 2
__________
(1) . سورة الدخان : 46
(2) . البحر المحيط : 1/56
(3) . سورة المطففين : 33 ـ 34
(4) . سورة الحديد : 13
(5) . سورة البقرة : 16(1/10)
قال الزمخشري : (معناه إلا محرم ما يتلى عليكم من القرآن من نحو قوله(1): " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.. " . )(2)
وقال أبو حيان : ( وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله تعالى " إلا ما يتلى عليكم " وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين. )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر.. " سورة الحج : 65
قال الزمخشري : ( أي اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه . والمراد : زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ، ويلهب غضبه لله ولدينه ، ومنه قوله : "ولا يصدنك عن آيات الله .. "(4)، " .. ولا تكونن من المشركين "(5)، " .. فلا تكونن ظهيرا للكافرين"(6). وهيهات أن ترتع همة رسول الله حول ذلك الحمى ، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج )(7)
وفي البحر المحيط لأبي حيان : ( روي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهم في الذبائح ، وقولهم للمؤمنين : تأكلون ما ذبحتم وه من قتلكم ، ولا تأكلون ما قتل الله ، فنزلت بسبب هذه المنازعة ، وقرئ : فلا ينازعنك ـ بالنون الخفيفة ـ أي اثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ، ومثله " ولا يصدنك عن آيات الله .. " وهذا النهي عن المنازعة من باب : لا أرينك ههنا .. )(8)
وفي تفسير قوله تعالى : " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما " . سورة الفرقان : 72
__________
(1) . سورة المائدة : 4
(2) . الكشاف : 1/601
(3) . البحر المحيط: 3/423
(4) . سورة القصص :87
(5) . سورة القصص : 87
(6) . سورة القصص : 86
(7) . الكشاف : 3/169
(8) . البحر المحيط : 6/387(1/11)
قال الزمخشري : (اللغو كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح ، والمعنى وإذا مروا باللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم ، كقوله تعالى(1)" وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " . )(2)
وقال أبو حيان : ( وقيل لا يحضرون ، من المشاهدة ، والزور الشرك أو الصنم ، أو الكذب ، أو آلة الغناء ، أو أعياد النصارى ، أو لعبة كانت في الجاهلية ، أو النوح ، أو مجالس كان يعاب فيها الصالحون ، أقوال .
فالشرك قاله الضحاك وابن زيد ، والغناء قاله مجاهد ، والكذب قاله ابن جريج . واللغو كل ما ينبغي أن يطرح ، والمعنى : وإذا مروا بأهل اللغو مروا معرضين مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم ، والخوض معهم لقوله تعالى " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك .. " سورة النساء : 78
قال الزمخشري : ( السيئة تقع على البلية والمعصية ، والحسنة تقع على النعمة والطاعة ، قال الله تعالى " وبلوناهم بالحسنات والشيئات لعلهم يرجعون "(4)وقال " إن الحسنات يذهبن السيئات "(5)والمعنى وإن تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى الله ، وإن تصبهم بلية من قحط وشدة أضافوها إليك ، وقالوا هي من عندك ، وما كانت إلا بشؤمك ، كما حكى الله عن قوم موسى " وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه "(6)وعن قوم صالح " قالوا اطيرنا بك وبمن معك "(7). )(8)
__________
(1) . سورة القصص : 55
(2) . الكشاف : 3/295
(3) . البحر المحيط : 6/516
(4) . الأعراف : 168
(5) . سورة هود : 114
(6) . سورة الأعراف : 130
(7) . سورة النمل : 49
(8) . الكشاف : 1/538(1/12)
وعند أبي حيان ما نصه : ( الخطاب عام ، كأنه قيل : ما أصابك أيها الإنسان ، وقيل للرسول ـ ص ـ والمراد غيره .. وروى الضحاك عن ابن عباس أن الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما نكبوا به يوم أحد . وعن عائشة رضي الله عنها : ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها ، حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر . وقال تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير .."(1)ثم قال أبو حيان ـ نقلا عن الراغب الأصفهاني ـ .. والحسنة هنا والسيئة كهما في " وبلوناهم بالحسنات والسيئات .. " و في " .. فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه .. " )(2)
والذي نخلص إليه من هذه النماذج التي أوردناها للمفسرين أن الزمخشري قد كان يعتمد تفسير القرءان بالقرءان ، إلا أن مسلكه فيه ليس من قبيل التفسير المرفوع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو الموقوف على كبار مفسري الصحابة الذين شهدوا التنزيل فصار تفسيرهم له حكم المرفوع ـ وهو أعلى درجات التفسير ـ وإنما هو تفسير اجتهادي في حمل الآيات الواردة في الموضوع الواحد على بعضها بعضا ، وهو مسلك معروف عند أئمة المعتزلة ، حيث لا يخلو أن يكون في ذلك متأثرا بنزعته المذهبية التي تخرجه عن معنى تفسير القرءان بالقرءان بالمعنى الإصطلاحي الدقيق ، وهو ما سنزيده توضيحا في الفصول اللاحقة من هذا البحث(3).
__________
(1) . الشورى : 28
(2) . البحر المحيط : 3/301 ـ 302
(3) . من ذلك مثلا اعتبار قوله تعالى : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " تفسيرا لقوله تعالى : " الأنعام : 104وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " سورة القيامة : 21 ـ 22(1/13)
كما نجد أبا حيان هو الآخر لم يزد على ما ذكره الزمخشري في هذه الناحية ، فكان في تفسيره للقرءان بالقرءان قائما على جمع الآيات المتماثلة في الموضوع الواحد ، وهو عمل قائم على الفهم والاجتهاد ، وليس على نقل ما هو مرفوع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو موقوف على الصحابة ، ومن هنا لم يكن هذا النوع من التفسير هو الجانب الذي يمثل مظهر تفوق أحد المفسرين أو كلاهما .
المبحث الثاني
مسلكهما في تفسير القرآن بالسنة
رجع كل من الزمخشري وأبي حيان إلى نصوص السنة في تفسير آي القرآن الكريم ، وكانا إلى جانب تفسير القرآن بالقرآن يتبعان ذلك ببعض الأحاديث والآثار المرفوعة عن الصحابة في بيان معاني آيات القرءان .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " سورة آل عمران: 91
قال الزمخشري : ( " لن تنالوا البر" لن تبلغوا حقيقة البر ، ولن تكونوا أبرارا . وقيل لن تنالوا بر الله وهو ثوابه ، حتى تنفقوا مما تحبون ، حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها ، كقوله " انفقوا من طيبات ما كسبتم "(1)، وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله . وروي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، إن أحب أموالي إلي بيرحاء ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "بخ بخ ، ذاك مال رابح ، أو مال رائح ، إني أرى أن تجعلها في الأقربين " ، فقال أبوطلحة : افعل يا رسول الله ، فقسمها في أقاربه(2).
__________
(1) . سورة البقرة : 266
(2) . أخرجه البخاري . كتاب التفسير . باب لن تنالوا البر .. انظر : فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1982م ، ج8/179(1/14)
وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، فقال هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله أ سامة بن زيد ، فكأن زيدا وجد في نفسه وقال : أما إني أردت أن أتصدق به ، فقال رسول الله أما إن الله قد قبلها منك(1).
وكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما جاءت أعجبته ، فقال إن الله تعالى يقول : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" فأعتقها(2). ونزل بأبي ذر ضيف فقال للراعي : إئتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة ، فقال خنتني قال : وجدت خير الإبل فحلها ، فذكرت يوم حاجتكم إليه ، فقال : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي .)(3)
وقد رجعت إلى البحر المحيط فوجدت أبا حيان قد فسر الآية بما فسرها به الزمخشري مع شيء من التلخيص والتصرف ، فقال ما نصه : ( والظاهر أن المحبة هنا هو ميل النفس ، وتعلقها التعلق التام بالمنفق ، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق ، ولذلك فسره الحسن والضحاك بأنه محبوب المال كقوله" ويطعمون المال على حبه "(4)لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدقوا بأحب شيء إليهم ، فتصدق طلحة ببيرحاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، وابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه ، وأبو ذر بفحل خير إبله.. وأعتق عمر جارية أعجبته )(5)
وأنت ترى أن هذه الأقوال كلها هي ملخص أحاديث وآثار أوردها الزمخشري من قبل ، وقد صرح أبو حيان أنه نقلها عن الطبري(6)وابن عطية ، ولكن الزمخشري سكت عن مصدره ، وهي الطريقة التي سار عليها في كل تفسيره تقريبا .
__________
(1) . أخرجه الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرءان ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1995م ، 3ج/471
(2) . أخرجه الطبري عن مجاهد . انظر جامع البيان ، ج3/470
(3) . الكشاف : 1/385
(4) . سورة الإنسان : 8
(5) . البحر المحيط : 2/524
(6) ، انظر جامع البيان : 3/468(1/15)
ومن خلال تتبعي لكل من الزمخشري وأبي حيان في تعاملهما مع تفسير القرآن بالسنة لاحظت اشتراكهما في الخصائص الآتية :
1 ـ حذف أسانيد الأثار والمرويات ، والإكتفاء بذكر المتن فقط ، وهذا هو الشائع عند كل من المفسرين ، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها :
في تفسير قوله تعالى : " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " سورة البقرة : 155 ـ 156
قال أبو حيان ( وقد جاء في السنة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال(1)" من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه " . وفي حديث آخر(2)" من تذكر مصيبته فأحدث إسترجاعا وإن تقادم عهدها ، كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب )(3)
وعند الزمخشري قال : ( وعن النبي(4)ـ صلى الله عليه وسلم ـ من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه)(5)
وفي تفسير قوله تعالى : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " سورة البقرة : 236
__________
(1) . رواه الطبري في جامع البيان عند تفسير قوله تعالى " الذين إذا أصابتهم مصيبة .. " بغير إسناد . 2/59
(2) . أورده ابن كثير في تفسيره ، وعزاه إلى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه . انظر تفسير القرءان العظيم : 1/212
(3) . البحر المحيط : 1/452
(4) . سبق تخريجه .
(5) . الكشاف : 1/207(1/16)
حيث نقل أبو حيان أقوال السلف في تعيين الصلاة الوسطى ثم قال : ( وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال يوم الآحزاب :(1)" شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا " . وقال علي رضي الله عنه : كنا نراها الصبح حتى قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك فعرفنا أنها العصر)(2)
وعند الزمخشري قال : ( الصلاة الوسطى ، أي الوسطى بين الصلوات ، أو الفضلى ، من قولهم للأفضل الأوسط.. وهي صلاة العصر . وعن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال يوم الأحزاب(3): " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم نارا ". وقال عليه السلام: أنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب )(4)
2 ـ رواية الحديث بالمعنى:
__________
(1) . رواه مسلم ، في الجامع الصحيح ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ،كتاب الصلاة ، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر .
(2) . البحر المحيط : 2/240
(3) . البخاري ، كتاب التفسير ، باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى .. انظر فتح الباري : 8/156
(4) . الكشاف : 1/287(1/17)
وقد اختلف علماء الحديث في حكم رواية الحديث بالمعنى ، فمنهم من أجازها ، ومنهم من منعها ، ولكن الذي عليه جمهور الفقهاء هو جواز رواية الحديث بالمعنى لمن كان عالما بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ ، عارفا بالفروق بين المعاني(1)، ولا شك أن مثل الزمخشري وأبي حيان هما فارسا ميدان في هذا الشأن ، وأنهما يرويان الحديث بالمعنى بعد استقرار الرواية وانتهاء عصر التدوين مما يشفع لهم في سلوك هذا المسلك ، ورواية بعض الأحاديث في تفسير القرآن الكريم بالمعنى ، وأغلب هذه الأحاديث المروية بالمعنى عندهما هي أحاديث صحيحة ومشتهرة على الألسنة ، فكان معناها دالا على لفظها ، والأمثلة الآتية توضح ذلك :
في تفسير قوله تعالى : " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم.." سورة البقرة : 83 .
قال أبو حيان : ( وقد جاء في الحديث(2)أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه وإخبار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه من أهل النار. وصح(3)" من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا . )(4)
وفي تفسير قوله تعالى : " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون " سورة العنكبوت : 12
__________
(1) . الخطيب البغدادي ، الكفاية في علم الرواية ، الناشر : دار الكتاب العربي تحقيق : أحمد عمر هاشم ، ط2 ، 1986م ، باب ذكر الحجة في إجازة رواية الحديث على المعنى : 232
(2) . أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ..
(3) . أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار .
(4) . البحر المحيط : 1/289(1/18)
قال أبو حيان : ( وليحملن أثقالهم وأثقال أنفسهم من كفرهم ومعاصيهم وأثقالا ـ أي أخرـ وهي أثقال الذين أغروهم فكانوا سببا في كفرهم، ولم يبين من الذين يحملون أثقاله ، فأمكن إندراج أثقال المظلوم يحملها الظالم كما جاء في الحديث(1)أنه يقتص من الظالم للمظلوم بأن يعطى من حسنات ظالمه ، فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيئات المظلوم فطرح عليه . وفي صحيح مسلم ما معناه(2)" أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها ، وعمل بها بعده فعليه أوزار من عمل بها ممن اتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا " )(3)
ومثاله عند الزمخشري ما جاء في تفسير قوله تعالى : "..إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين" سورة آل عمران :100 .
حيث روى سبب نزول الآية ، ثم ذكر الحديث المرفوع والوارد في سبب نزولها مقتصرا على معناه فقط فقال(4):
( ..فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال : " أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم . فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح وبكوا ، وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما كان يوم أقبح أولا ولا أحسن آخرا من ذلك اليوم. )(5)
والمثال الآخر في تفسير قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " سورة المائدة : 89
__________
(1) . أخرجه البخاري ، كتاب المظالم ، باب قصاص المظالم ، انظر فتح الباري : ج5/73
(2) . ورواه أبو داود في كتاب السنة ، باب لزوم السنة ، حديث رقم : 4605
(3) . البحر المحيط : 7/144
(4) . والحديث أخرجه الطبري في جامع البيان عن زيد بن أسلم ، رقم : 5945
(5) . الكشاف : 1/393(1/19)
حيث قال الزمخشري : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوما لأصحابه ، فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار ، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون ، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين ، وألا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم و الودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويرفضوا الدنيا ، ويلبسوا المسوح ، ويسيحوا في الأرض ، ويجبوا مذاكيرهم ، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لهم(1): " إني لم أؤمر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " . )(2)
فهذا الحديث رواه الزمخشري بالمعنى ، وقد لفقه من عدة أحاديث ، فلما خرجه ابن حجر قال : ( وقد أورده الطبري من طريق السدي في هذه الآية قال: وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلس يوما فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف ، فقام ناس من أصحابه ـ فذكره بمعنى ما تقدم ـ وهو منتزع من أحاديث ، وأصله في الصحيحين عن عائشة )(3)
والظاهر أن ما يرويه أبو حيان من أحاديث في تفسيره بالمعنى إنما هو ناقل عن غيره ، من ذلك ما ينقله عن إبن عطية الذي عرف بهذا المسلك في تفسيره .
ففي تفسير قوله تعالى : " .. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " سورة الرعد : 25
__________
(1) . أخرجه البخاري بلفظ : كنا نغزو مع النبي ـ ص ـ وليس معنا نساء ، فقلنا ألا نختصي فنهانا عن ذلك .. انظر : كتاب التفسير ، باب "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم .. " فتح الباري : 8/222
(2) . الكشاف : 1/167
(3) . انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ، على هامش الكشاف : 1/167(1/20)
قال أبو حيان : ( قال إبن عطية : وهذا تأويل مبني على حديث ورد(1)، وهو أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم ، فيعرض عليه ويقال له : هذا مكان مقعدك ، فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك )(2)
3 ـ الإكتفاء أحيانا بذكر طرف الحديث ، أو محل الشاهد منه ، اعتبارا لشهرته ، أو لدلالة بعضه على كله.
ففي تفسير قوله تعالى : " إنا أعطيناك الكوثر " سورة الكوثر : 1
قال أبو حيان : ( وذكر في " التحرير والتحبير " ستة وعشرين قولا، والصحيح هو ما فسره به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال(3)" هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من ريح المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج " . قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم(4)ـ واقتطعناه منه ـ قال أتدرون ما الكوثر ، قلنا الله ورسوله أعلم ، قال نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ". انتهى . )(5)
وفي تفسير قوله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " سورة مريم : 97
قال أبو حيان : ( وفي الترمذي قال(6): إذا أحب الله عبدا نادى جبريل أني قد أحببت فلانا فأحبه ، قال : فينادى في السماء ، ثم تنزل المحبة له في الأرض ، قال الله عز وجل : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات .." إلى آخر الحديث ، وقال : هذا حديث حسن صحيح )(7)
__________
(1) . رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب الميت يعرض عليه مقعده .. انظر : فتح الباري : 3/189
(2) . البحر المحيط : 5/387
(3) . رواه الترمذي . كتاب التفسير ، سورة الكوثر ،حديث رقم : 3419
(4) . لم أقف عليه عند مسلم .
(5) . البحر المحيط : 8/519
(6) . رواه الترمذي .كتاب التفسير ، حديث : 5171
(7) . البحر المحيط : 6/220(1/21)
ويبقى مع كل ذلك أبو حيان الأندلسي متفوقا على الزمخشري في تفسير القرآن بالسنة في الجوانب الآتية :
1 ـ عزو كثير من الأحاديث النبوية التي أوردها في تفسيره إلى مصادرها الأصلية كالصحيحين والسنن الأربعة وغيرها ، وإن كان قد جردها من أسانيدها .
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل .." سورة البقرة : 135
قال أبو حيان ( خرج البخاري عن أبي هريرة قال(1): كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأنزل إليكم ، فإن كان حقا لم تكذبوه ، وإن كان كذبا لم تصدقوه . )(2)
2 ـ رواية أبي حيان لبعض الأحاديث بالسند المتصل منه إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على امتداد ثمانية قرون كاملة ، وهذا ما لم يتيسر إلا للنادر من الناس ، بل لم يتيسر للزمخشري الذي سبقه بأكثر من قرنين من الزمان ، ومن الأمثلة على ذلك :
في تفسير قوله تعالى : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " سورة البقرة : 226
__________
(1) . رواه البخاري ، كتاب التفسير ، باب : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، انظر فتح الباري : 8/138
(2) . البحر المحيط : 1/407(1/22)
ذكر سبعة عشر قولا في تعيين المقصود بالصلاة الوسطى ، كل قول منسوبا لمن قال به من أئمة السلف والخلف ، ثم قال : ( فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولا ، والذي ينبغي أن يعول عليه منها هو قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أنها صلاة العصر(1)، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد رحمه الله ، اخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر إسماعيل بن أبي المحسن بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر حرسها الله عن أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري ، قال أخبرنا فقيه الحرم أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي ، قال أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي حـ.. فهذا طريق. ثم قال : وأخبرنا أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي بقراءتي عليه بغرناطة من جزيرة الأندلس ، قال أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري ، قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور ، قال أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث ،ح..
طريق ثالث : وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد ـ وهو آخر من حدث عنه ـ ولم يحدثنا عنه من شيوخنا غيره ، عن أبي الحسن علي بن محمد بن موهب الجدامي ـ وهو آخر من حدث عنه ، عن أبي العباس بن دلهاث ، قال أخبرنا أبو العباس أحمد بن مندار بمكة ، قالا ـ أعني عبد الغفار وابن مندار ، أخبرنا أحمد أو محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، قال أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه ، أخبرنا مسلم بن الحجاج النيسابوري قال:
__________
(1) . سبق تخريجه(1/23)
وحدثنا عون بن سلام الكوفي حدثنا محمد بن طلحة اليامي عن زبيد عن مرة بن عبد الله قال : حبس المشركون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ(1): " شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا ، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا " . )(2)
كما روى أحاديث أخرى بالسند المتصل منه إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عدة مواضع أخرى منها ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ويذهب غيظ قلوبهم.."(3)، وقوله تعالى(4): " إلا تنصروه فقد نصره الله.." . )(5)
3 ـ شدة تمسكه بدلالة الحديث النبوي وتقديمه على دلالة اللغة ، وذلك إذا تعارض ظاهر الحديث واللغة ، وهو في ذلك يقف على طرف نقيض من الزمخشري الذي يبالغ في الاهتمام بالمعنى اللغوي للفظ ، ويقدمه على معنى الحديث بغض النظر عن درجته .
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " .. ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون " سورة البقرة : 24
قال أبو حيان : ( ويقال خلد بالمكان أقام به ، وأخلد إلى كذا سكن إليه ، والمخلد الذي لم يشب ، ولهذا المعنى ـ أعني السكون والاطمئنان ـ سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون في الأرض خلدا ، وظاهر هذه الاستعمالات وغيرها يدل على أن الخلد هو المكث الطويل ، ولا يدل على المكث الذي لانهاية له إلا بقرينة . واختار الزمخشري فيه أنه البقاء اللازم الذي لا ينقطع ، تقوية لمذهبه الاعتزالي في أن من دخل النار لم يخرج منها ، بل يبقى فيها أبدا . والأحاديث الصحيحة المستفيضة دلت على خروج ناس من المؤمنين الذين دخلوا النار بالشفاعة من النار .)(6)
__________
(1) . سبق تخريجه .
(2) . البحر المحيط : 2/242
(3) . سورة التوبة : 15
(4) . سورة التوبة : 40
(5) . البحر المحيط : 5/26
(6) . البحر المحيط : 1/110(1/24)
وإلى جانب تمسك أبي حيان بالسنة ، وتقديمها عن غيرها في التفسير ، فإنه كان يدافع عنها ضد المعتزلة الذين كانوا يطعنون فيها ، ويبين فساد مذهبهم في ذلك ، حيث يقبلون الحديث الضعيف الذي يوافق رأيهم ويحتفلون به ، ويردون الحديث الصحيح إذا خالف رأيهم .
ففي تفسير قوله تعالى : " ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " سورة الأعراف : 42
نجد ظاهر الآية يوهم ما تذهب إليه المعتزلة من أن الأعمال وحدها سبب في دخول الجنة لولا أن السنة النبوية فصلت ذلك ، فجعل أبو حيان السنة شارحة للآية مقررا مذهبه السني ومفندا رأي المعتزلة ، في حين نجد الزمخشري يتمسك بظاهر الآية ، ولا يلتفت لما جاء في الحديث الصحيح لما فيه من مخالفة صريحة لما يقول به .
قال أبو حيان : ( والأعمال أمارة من الله ودليل على قوة الرجاء ، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله ، والقسمة فيها على قدر العمل ، ولفظ " أورثتموها " مشير إلى الإقسام ، وليس ذلك واجبا على الله تعالى ، وقال الزمخشري : " أورثتموها بما كنتم تعملون " بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة ، انتهى(1)، وهذا مذهب المعتزلة ، وفي صحيح مسلم(2)" لن يدخل الجنة أحد بعمله ، قالوا ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.. " سورة البقرة : 142
__________
(1) . الكشاف : 2/106
(2) . رواه مسلم . كتاب صفة القيامة ، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله .
(3) . البحر المحيط : 4/300(1/25)
نقل أبو حيان خلاف أهل العلم في معنى " أمة وسطا " ثم قال : ( ومعنى وسطا : عدولا ، روي ذلك عن رسول الله(1)ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تظاهرت به عبارة المفسرين ، وإذا صح ذلك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجب المصير في تفسير الوسط إليه . )(2)
وإذا رجعنا إلى الكشاف وجدنا الزمخشري يورد للفظ " وسطا " معنيين في اللغة ، أحدهما هو التفسير الذي عزاه أبو حيان إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أنه سكت عن نسبته لقائله .
قال : ( " أمة وسطا " خيارا ، وهي صفة بالإسم الذي هو وسط الشيء .. وقيل للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأعوار والأوساط محمية ، ومنه قول الطائي :
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا(3)
أو : عدولا ، لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض . )(4)
ونظرا لتقديم الزمخشري للمبدإ اللغوي على التفسير بالأثر ، فإنه قد أغفل كثيرا من الأحاديث الصحيحة التي فسرت مجمل القرآن حيث لا يكون ثمة مرجح من اللغة ، ووقع بذلك في مجانبة الصواب .
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملئ الأرض ذهبا ولو افتدى به.." سورة آل عمران : 90
__________
(1) رواه البخاري . كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا . انظر : فتح الباري 8/138
(2) . البحر المحيط : 1/421
(3) . لأبي تمام يخاطب المعتصم . انظر مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف ، بهامش الكشاف : 1/198
(4) . الكشاف : 1/198(1/26)
حيث اختار أن يكون هذا الإفتداء في الدنيا ، مع أنه ثبت في السنة ما يفيد أنه في الآخرة ، والظاهر أنه نقل هذا القول عن الزجاج وغيره من غير أن يصرح بذلك ، كما فعل في كثير من المواضع ، وقد نسب أبو حيان هذا القول للزجاج فقال :( وحكى صاحب ري الظمآن وغيره عن الزجاج أنه قال : معنى الآية لو افتدى به في الدنيا مع إقامته على الكفر لن يقبل منه ، والذي يظهر أن انتفاء القبول ـ ولو على سبيل الفدية ـ إنما يكون في الآخرة ، وبينه ما ثبت في صحيح البخاري(1)من حديث أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "يحاسب الكافر يوم القيامة ، فيقال له : أ رأيت لو كان لك ملْ الأرض ذهبا أ كنت تفتدي به ، فيقول نعم ، فيقال له : قد كنت سئلت أيسر من ذلك . )(2)
قال أبو حيان : ( وهذا الحديث يبين أن قوله " فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به هو على سبيل الفرض والتقدير ، أي لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله ، والمعنى أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العذاب ، فهو نظير قوله " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا(3)" ونظير ".. يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ .."(4)الآيتين . )(5)
والمثال الثاني في قوله تعالى : " فمن من لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة .." سورة البقرة : 195
حيث قال الزمخشري : ( وسبعة إذا رجعتم بمعنى إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي : هو الرجوع إلى أهاليهم )(6)
__________
(1) . وأخرجه الطبري في جامع البيان : 3/468 . حديث : 5833
(2) . البحر المحيط : 2/521
(3) . سورة المائدة : 38
(4) . سورة المعارج : 11
(5) . البحر المحيط : 2/522
(6) . الكشاف : 1/241(1/27)
وقد نقل الزمخشري هذا الخلاف ولم يبين الراجح منهما ، مع أن في صحيح السنة ما يشفي الغليل في فض هذا الخلاف ، وهو ما بينه أبو حيان في تفسير الآية فقال : ( ولفظ الرجوع مبهم ، وقد جاء تبيينه في السنة ، ثبت في صحيح مسلم(1)من حديث ابن عمر في آخره : وليهد ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله . وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : وسبعة إذا رجع إلى أهله :إلى أمصاركم ، وبه قال قتادة وعطاء وابن جبير ومجاهد ، وقالوا هذه رخصة من الله تعالى ، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد الصوم إلا إذا وصل إلى وطنه ، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان .)(2)
وكثير من مجمل القرآن الكريم الذي لا يمكن أن تفسره إلا السنة ، وقد ثبت تفسيره بالأحاديث الصحيحة والمستفيضة ، ومع ذلك قفز عنها الزمخشري ، مكتفيا بنقل آراء الرجال . أما أبو حيان فقد نص في مثل هذه المواضع على أن هذا من مجمل القرآن الذي لا سبيل إلى تفسيره من قبل الرأي والإجتهاد ، بل يجب المصير إلى السنة المبينة لمجمل القرآن .
مثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة .." سورة النساء :101 .
__________
(1) . رواه مسلم . كتاب الحج ، باب وجوب الدم على المتمتع .
(2) . البحر المحيط : 2/79(1/28)
قال أبو حيان : ( وفي قوله : " فلتأت طائفة " دليل على أنهم إنقسموا طائفتين ، طائفة حارسة أولا ، وطائفة مصلية أولا معهم التي صلت أولا صارت حارسة ، وجاءت الحارسة أولا فصلت معه ، ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في القرآن على أن طائفة صلت مع الرسول بعض الصلاة ، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه ، ولا كيفية إتمامهم ، وإنما جاء ذلك في السنة ، ونحن نذكر تلك الكيفيات علىسبيل الإختصار ، لأنها مبينة ما أجمل من القرآن . ثم ذكر هذه الكيفيات وأحصاها في إحدى عشرة كيفية ، وقال بعدها نقلا عن أحمد بن حنبل : ولا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح ، فعلى أي حديث صليت أجزأ )(1)
وإذا رجعنا إلى تفسير الكشاف فإننا نجد الزمخشري فسر الآية تفسيرا لغويا ، واكتفى بنقل صفة صلاة الخوف عن أبي حنيفة ، من غير أن يعرج على حديث واحد في بيان هيئة هذه الصلاة ، أو أن يذكر صفة أدائها من السنة .)(2)
ولا نستبعد أن يكون الزمخشري هنا متأثرا بموقف المعتزلة من مرويات السنة النبوية ، وما أحاطوها به من الشكوك في صحة أسانيدها ورواتها ، بل ليس مفهوم السنة عند الزمخشري إلا ما قرره القاضي عبد الجبار في قوله : ( وأن سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان لها ذكر في القرءان ومعنى . )(3)
__________
(1) . البحر المحيط :3/340
(2) . الكشاف : 1/560
(3) . المحيط بالتكليف : 168(1/29)
4 ـ تتبعه لبعض الأحاديث بالنقد سواء في متنها أو سندها ، وهذا ليس ببعيد على مثل أبي حيان ، إذ كان عارفا بالسنن سندا ومتنا ، وقد ذكرته بعض كتب الرجال فيمن يعتمد قولهم في الجرح والتعديل(1)، مما يدل على مكانته وعلو كعبه في علوم الحديث ، غير أنه كان يقتصر على ذكر حكمه على الحديث ذكرا مجملا من حيث قبول الحديث أو رده ، وما زاد عن ذلك فهو يرى أن محل ذكره ليس في كتب التفسير . أما الزمخشري فإنه لم يضمن تفسيره شيئا من ذلك ، وأحسبه أنه لم يكن من أهل هذا الشأن ، ومن الأمثلة على ذلك:
في تفسير قوله تعالى: " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا.." البقرة : 41
قال أبو حيان : ( وقد استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى " ولا تشتروا .." على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم ، وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح ، وقد صح أنهم قالوا(2): يا رسول الله ، إنا نأخذ على كتاب الله أجرا ، فقال : إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى " . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " لا تأخذه سنة ولا نوم.." سورة البقرة : 254
__________
(1) . انظر الذهبي ، ذكر من يعتمد قوله في الرجال جرحا وتعديلا ، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ، ط1 ، 1981م ، ص : 212
(2) . البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب الإجارة ، باب إن خير ما أخذتم عليه أجرا .
(3) . البحر المحيط : 1/179(1/30)
أورد الزمخشري حديثا لم يسلم من الطعن عند أكثر النقاد ، من غير أن يتعقبه بشيء ، فنقله أبو حيان ثم بين مجمل ما قاله أهل العلم مما يفيد رده أو التوقف في قبوله على الأقل . فقال : ( ..قال الزمخشري ، وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما ، ومنه حديث موسى أنه سأل الملائكة ـ وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية ـ : أينام ربنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام ، ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوءتين ، فأخذهما وألقى الله عليه النعاس ، فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى الله إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السماوات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا ". هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر ، وفيه أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك ـ يعني السؤال ـ من قومه كطلب الرؤية ، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل كما استحال النوم في حقه تعالى ، وهذا من عادته في نصرة مذهبه يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة . وأورد غيره هذا الخبر عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر قال(1): " وقع في نفس موسى هل ينام الله .. " وساق الخبر قريبا من معنى ما ذكره الزمخشري ، ثم قال أبو حيان : قال بعض معاصرينا ، هذا حديث وضعه الحشوية ، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه ، لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام ، فكيف الرسل ؟ )(2)
__________
(1) . أخرجه الطبري في جامع البيان 3/12 حديث رقم : 4509
(2) . البحر المحيط : 2/278 . والحديث رواه الطبري بلفظ قريب مما ذكره الزمخشري عن أبي هريرة ، وقد تعقبه ابن كثير في تفسيره بقوله : ( وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير قال .. الحديث ، وهذا غريب جدا ، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع ، والله أعلم ، ابن كثير : 1/331(1/31)
ومما يجدر التنبيه عليه في هذا المقام ، هو تصرف الزمخشري في نص الحديث بإدراجه جملة من عنده توهم القارئ أنها من متن الحديث ـ وهي ليست منه ـ وهي قوله : " وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية " ، وهذه جسارة منه ، فعاب عليه أبو حيان هذا المسلك الخطير ، وبين نيته في ذلك ، وهو نصرة مذهبه ، وهذا هو الظاهر عند الزمخشري في أكثر من موضع من تفسيره .
ولم تتجل هذه الروح النقدية في تفسير الكشاف إلا في مواضع قليلة وبشكل بسيط ، حيث كان يتوقف أحيانا قليلة في قبول الحديث لركاكة عبارة ، أو لمخالفته لسياق النص القرآني ، أو غير ذلك من الأسباب التي لا تدل على تضلع الزمخشري ، ورسوخ قدمه في هذا الشأن .
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " سورة الواقعة : 41 ـ42
حيث قال : ( فإن قلت : كيف قال : " وقليل من الآخرين " ، ثم قال : "وثلة من الآخرين" ؟ قلت هذا من السابقين ، وذلك من أصحاب اليمين ، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعا . فإن قلت : فقد روي أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين ، فما زال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يراجع ربه حتى نزلت الآية " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين"(1). قلت هذا لا يصح لأمرين ، ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم على السابقين ووعدهم ، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز. وعن الحسن رضي الله عنه : سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة)(2)
__________
(1) . الذي في جامع البيان للطبري عن قتادة أنه بلغه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قالوا نعم . قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قالوا نعم ، قال : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، ثم تلا هذه الآية " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " انظر جامع البيان : 13/248
(2) . الكشاف : 4/459(1/32)
ومنه أيضا ما جاء في تفسير قوله تعالى: " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط .." سورة التحريم : 10
حيث قال : ( وأما ما روي أن عائشة سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف سمى الله المسلمة ـ تعني مريم ـ ولم يسم الكافرة ؟ فقال بغضا لها ، قالت وما إسمها ؟ قال إسم امرأة نوح " واعلة " واسم امرأة لوط " واهلة " ، فحديث أثر الصنعة عليه ظاهر بين ، ولقد سمى الله جماعة من الكفار بأسمائهم وكناهم ، ولو كانت التسمية للحب وتركها للبغض لسمى آسية ، وقد قرن بينها وبين مريم في التمثيل للمؤمنين ، وأبى الله إلا أن يجعل للمصنوع أمارة تنم عليه ، وكلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلم وأحكم من ذلك .)(1)
وإذا كان الزمخشري قد تنبه لأثر الصنعة والوضع في هذا الحديث ، ويعتد بذلك ، فإنه قد فاتته أحاديث أخرى كثيرة ، حيث أثر الصنعة عليه أوضح وأظهر ، فمر عليها ولم يتعقبها بشيء .
من ذلك ما أورده في تفسير قوله تعالى : " عينا فيها تسمى سلسبيلا " سورة الإنسان : 18
__________
(1) . الكشاف : 4/574(1/33)
حيث قال ( وعن إبن عباس رضي الله عنهما : أن الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا ، وما معهم شيء ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياما ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم ، فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، قال ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم ، وقام وانطلق معهم ، فرأى فاطمة في المحراب قد التصق ظهرها ببطنها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك ، فأقرأه السورة )(1)
كما نجد الزمخشري قصير الباع في علم الرجال ، فإذا تحدث عن الأنساب وأحوال الأسانيد تعثر وخبط على غير هدى .
__________
(1) . الكشاف : 4/670 . قال ابن حجر : أخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن مجاهد عن ابن عباس ..في تفسير " يوفون بالنذر " فذكر تمامه ، وزاد في أثنائه أشعارا لعلي وفاطمة . قال الحكيم الترمذي : ومن الأحاديث التي تنكرها القلوب حديث رووه عن مجاهد عن ابن عباس ، فذكره بشعره ، ثم قال : هذا حديث مزوق مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاهل ، كما قال ابن الجوزي : وهذا لا نشك في وضعه . انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ، على هامش الكشاف : 4/670(1/34)
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " عبس وتولى أن جاءه الأعمى .." سورة عبس : 1 ـ2
حيث ذكر نسب عبد الله بن أم مكتوم فقال : (وأم مكتوم أم أبيه ، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري ، من بني عامر بن لؤي ..)(1)
فقال ابن حجر معلقا على هذا النسب : (النسب الذي ساقه في غاية التخليط ، يظهر لمن له أدنى إلمام بالأخبار والأنساب . قال ابن سعد : أما أهل المدينة فيقولون اسمه عبد الله ، وأما أهل العراق وهشام الكلبي فيقولون اسمه :عمرو ، ثم أجمعوا على نسبه فقالوا ابن قيس بن زياد بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي . وأمه عاتكة هي أم مكتوم بنت عبد الله بن عامر بن مخزوم .)(2)
5 ـ اقتصاره على الأحاديث الصحيحة والمشهورة ، مع بيان درجة الحديث في كل مرة ، وهذا ما غفل عنه الزمخشري في تفسيره ، والأمثلة على ذلك كثيرة ،منها :
في تفسير قوله تعالى : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني " سورة البقرة : 185
ففي تفسير هذه الآية نجد أبا حيان يورد مجموعة أحاديث ، وينص عند ذكر كل حديث على صحته مستغنيا بذلك عن تخريجه أو عزوه لمصدره ، فيقول: ( ..وقد ثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاء لا يجيبه الله تعالى إلى ما سأل ، ولا يبلغه المقصود مما طلب ، فخصصوا بأن يكون الداعي مطيعا مجتنبا لمعاصيه ، وقد صح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغدي بالحرام ، فأنى يستجاب له(3).
__________
(1) . الكشاف : 4/700
(2) الكافي الشاف ، على هامش الكشاف : 4/700 . هامش : 3
(3) . رواه مسلم ، كتاب الزكاة ، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب .(1/35)
قالوا : ومن شرطه ألا يمل ، ففي الصحيح : "يستجاب لأحدكم مالم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي"(1).
وخصص الدعاء بأن يدعو بما ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم ولا معصية ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال(2): قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث ، إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء مثلها " .)(3)
وإذا رجعنا إلى الكشاف وجدنا الزمخشري يورد حديثين في تفسير الآية من غير عزو لمصدر ، ولا بيان لدرجة حديث ، فيقول : ( " فإني قريب " تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه ، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه ، فإذا دعا أسرعت تلبيته ، ونحوه " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "(4)وقوله عليه الصلاة والسلام(5): " هو بينكم وبين أعناق رواحلكم" . وروي أن أعرابيا(6)قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ، فنزلت )(7)
والمثال الثاني في تفسير قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " سورة آل عمران : 200
__________
(1) . رواه مسلم ، كتاب الذكر والدعاء ، باب بيان أنه يستجب للداعي ما لم يعجل .
(2) . رواه الترمذي ، كتاب الدعوات ، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة ، حديث رقم : 3441
(3) . البحر المحيط : 2/46
(4) . سورة ق : 16
(5) . رواه الترمذي ، كتاب الدعوات بلفظ هو بينكم وبين رؤوس رحالكم .
(6) . أخرجه الطبري في جامع البيان عن حكيم بن الصلت عن أبيه عن جده حديث رقم : 2381 . انظر جامع البيان : 2/215
(7) . الكشاف ك 1/228(1/36)
نجد الزمخشري يورد حديثا واحدا في تفسير الآية ، وذلك لبيان فضل الرباط في سبيل الله تعالى من غير عزو لمصدره أيضا ، ولا بيان لدرجته فقال : ( اصبروا على الدين وتكاليفه ، وصابروا أعداء الله في الجهاد على شدائد الحرب ، لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا .. "ورابطوا " وأقيموا في الثغور .. وعن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ(1)" من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه ، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة " . )(2)
وإذا رجعنا إلى البحر المحيط وجدناه نقل كلام الزمخشري بنصه في تفسير الآية مع ذكر نفس الحديث ، ثم أورد ثلاثة أحاديث أخرى في فضل الرباط كلها صحيحة ، وقد عزاها جميعا إلى مصادرها الأصلية فقال :
( وفي البخاري قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ(3): "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ".
وفي مسلم(4)"رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه رزقه وأمن الفتان " .
وفي سنن أبي داود قال(5): " كل الميت يختم على عمله ، إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمن من فتاني القبر ". )(6)
وإذا تتبعنا أبا حيان في تفسيره فإننا نجده قد التزم إلى حد بعيد النقل من مصادره التي نص عليها في مقدمة تفسيره ، وهي الكتب التي غلب عليها الصحيح والمشهور من الحديث النبوي .
__________
(1) . رواه أحمد في مسنده عن سلمان ، حديث رقم : 24129
(2) . الكشاف : 1/460
(3) . رواه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب فضل رباط يوم في سبيل الله ، فتح الباري : 6/65
(4) . رواه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب فضل الرباط والجهاد .
(5) . رواه أبو داود . كتاب الجهاد ، باب في فضل الرباط .
(6) . البحر المحيط : 3/149(1/37)
أما الزمخشري فإنه لم ينص على مصادره الحديثية إبتداءا ، ولكن بالرجوع إلى تفسيره يتبين أن أغلب مصادره كانت عبارة عن الكتب التي يغلب عليها الضعيف والمتروك من الأحاديث ، أو هي تلك التي يتساهل أصحابها في قبول الأحاديث وتصحيحها ، وبعضهم الآخر ممن يورد مروياته بغير أسانيد .
وإذا تتبعنا مرويات السنة عند الزمخشري في تفسير سورة التوبة مثلا فإننا نجدها كالآتي :
ـ عشرين ( 20 ) حديثا ، قال فيها إبن حجر العسقلاني: لم أجده .
ـ تسعة ( 9 ) أحاديث ، نقلها الزمخشري عن تفسير " الكشف والبيان " للثعلبي ، وقد قال فيه إبن تيمية : ( والثعلبي هو كان فيه خير ودين ، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع .)(1)
ـ ثلاثة ( 3 ) أحادث رواها الإمام أحمد في مسنده .
ـ ثلاثة ( 3 ) أحاديث رواها أبو يعلى في مسنده ... ...
ـ ثلاثة ( 3 ) أحاديث رواها الطبرانى في معاجمه.
ـ ثلاثة ( 3 ) أحاديث رواها عبد الرزاق في مصنفه.
ـ ثلاثة ( 3 ) أحاديث رواها الطبري في تفسيره.
ـ حديثان رواهما البخاري في صحيحه.
ـ حديثان رواهما مسلم في صحيحه.
ـ حديثان رواهما البيهقي في دلائل النبوة.
ـ تسعة أحادث قال فيها إبن حجر : متفق عليه(2).
وفي كل هذه الأحاديث كان الزمخشري يصدر مروياته بصيغة التمريض " روي " من غيرعزو لمصدر، أو تفريق بين المقبول والمردود منها .
أما مرويات أبي حيان الأندلسي فلا تكاد تخرج عن كتب السنة التي اشتهرت بالصحيح إلا في القليل النادر .
__________
(1) . ابن تيمية ، مقدمة في أصول التفسير ، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت . ص : 31
(2) . انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ، عند تفسر سورة التوبة من الكشاف .(1/38)
ومثلما وقع الزمخشري في رواية الأحاديث الضعيفة وقبولها ، فإنه حاول تضعيف أحاديث صحيحة وردها ، حتى وإن كانت مروية في الصحيحين وبطرق مستفيضة ، وليس رد الحديث الصحيح بأقل خطرا من قبول الحديث الضعيف . كما يتعسف في صرف بعض الأحاديث عن ظاهرها لتوافق مذهبه ، وإن كانت كلمة أهل العلم متفقة على خلاف ذلك .
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " .. وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " سورة آل عمران : 36
حيث قال : ( وما يروى من الحديث " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها(1)" فالله أعلم بصحته ، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين ، وكذلك كل من كان في صفتهما ، كقوله تعالى " لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي(2):
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد . )(3)
فالزمخشري هنا كما يبدو وقع في أكثر من خطأ :
أولها : التشكيك في حديث مذكور في الصحيحين ، مع أننا نراه يروي الأحاديث الضعيفة ، بل الموضوعة ، ولا يقول فيها : الله أعلم بصحتها.
وثانيها: صرفه للحديث عن الحقيقة إلى المجاز من غير وجود قرينة توجب ذلك ، وعبر عنه بالتخييل فقال : ( واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ، ويقول هذا ممن أغويه .)
__________
(1) . رواه مسلم ، كتاب الفضائل ، باب فضل عيسى بن مريم عليه السلام .
(2) . لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها لأفسح مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه بما سوف يلقى من أذاها يهدد
(3) . الكشاف : 1/357(1/39)
وثالثها : عندما شبه دلالة هذا الحديث بقول إبن الرومي :
لما توذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وشتان بين المعنى الذي ذهب إليه ابن الرومي كشاعر في هذا الموضع وبين المعنى القرءاني الذي لا يصح فيه التخييل أوما شاكله .
ورابعها : رميه لمن خالفوه بأقبح الألفاظ ، مع أن النص معهم في ثبوته ودلالته . حيث قال : ( وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لإمتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه . )(1)
وهو كلام في غاية البعد ، لأن نخس الشيطان الوارد في الحديث إنما هو عند الخروج أول مرة .
ونحن لا نستبعد أن يكون الزمخشري في هذا الموقف من مرويات السنة النبوية متأثرا بأسلافه من المعتزلة الذين تطرفوا وتعسفوا في رد كثير من السنن ، لأن ظواهرها تصادم أصولهم المذهبية ، أو تخالف نظرتهم العقلية .
فهذا النظام وهو كبير رؤوس المعتزلة ـ كما يقول ابن قتيبة ـ يطعن في أقوال رويت عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبي هريرة ، وقد كان النظام يعلل طعنه في رجال الحديث ، ونسب الكذب والتدليس إليهم بأننا نجد أحيانا ـ فيما يزعم ـ بعض الأحاديث المتناقضة ، يقول : ( وكيف نأمن كذب الصادق وخيانة الأمين ، وقد نرى الفقيه يكذب في الحديث ، ويدلس في الإسناد ، ويدعي لقاء من لم يبلغه ، ومن غريب الخبر ما لم يسمعه ، ، ثم يرى أن يرجع عن ذلك في مرضه ، قبل أن تغرغر نفسه ، ولولا أن الفقهاء والمحدثين والرواة والعلماء المرضيين يكذبون في الأخبار ، ويغلطون في الآثار لما تناقضت آثارهم ، ولا تدافعت أخبارهم ..)(2)
ثم مضى النظام يسوق عددا من الأحاديث التي ظاهرها التناقض ، ليدلل من خلال ذلك على كذب الرواة ونقلة الأخبار .
__________
(1) . الكشاف : 1/357
(2) . التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، 1985م ، ص: 51 . نقلا عن رسالة الحور العين : 231(1/40)
ويذكر أن هذا كان أحد الأسباب التي حملت ابن قتيبة على وضع كتابه " تأويل مختلف الحديث " للرد على تلك المطاعن ، والتوفيق بين الأحاديث التي زعم النظام وأمثاله أن فيها تناقضا واختلافا(1).
كما أن تصدير الزمخشري لكثير من الأحاديث الصحيحة بمصطلح " روي " ـ وهو ما يعرف بصيغة التمريض أو التضعيف عند المحدثين ـ ليس من قبيل الصدفة ، بل هذا مسلك المعتزلة في سنة الآحاد وإن كانت مروية في الصحيحين ، وفي هذا المعنى يقول القاضي عبد الجبار دفاعا عن فرقته : ( واعلم أن كثيرا ممن يشنع بمثل ذلك لا يعرف حقيقة السنة والجماعة ...وإنما يقع هذا الإسم ـ السنة ـ على ما ثبت أنه قاله ، أو فعله ، فأما ما ينقل من أخبار الآحاد ، فإن صح فيه شروط القبول يقال فيه أنه سنة على وجه التعارف ، لأنا إذا لم نعلم ذلك القول أو ذلك الفعل ، فالقول بأنه سنة يقبح ، لأنا لا نأمن أن نكون كاذبين في ذلك ، وعلى هذا الوجه لا يجوز في العقل أن يقول في خبر الواحد قال رسول الله قطعا ، وإنما يجوز أن يقول روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم . )(2)
__________
(1) . ابن قتيبة ، تأويل مختلف الحديث ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1985م ص : 23 وما بعدها .
(2) . القاضي عبد الجبار ، فضل الإعتزال وطبقات المعتزلة ، تحقيق فؤاد السيد ، المؤسسة الوطنية لكتاب ، ط2، 1986م ، ص: 186(1/41)
فبقدر ما تشدد الزمخشري وتعسف في رد أحاديث صحيحة ، لا لشيء إلا لأنها لا توافق مذهبه ، بقدر ما تطرف في تساهله في قبول أحاديث واهية وباطلة ، وفي كلا الموقفين مذمة ومنقصة له ، فبالإضافة إلى ما سبق من شواهد ، نجد ذلك العدد المعتبر من الأحاديث التي رواها في فضل كل سورة من سور القرآن ـ نقلا عن بعض من سبقه كالثعلبي والواحدي ـ وهي في أغلبها من الموضوعات المشهورة التي لا يكاد يقع فيها نزاع بين أهل العلم(1).
ويرى ابن الصلاح في مقدمته أن أحاديث كثيرة وضعت في فضائل سور وآيات القرءان الكريم ، وزعم واضعوها أنهم وضعوها حسبة لله تعالى ، وقصد ترغيب الناس في قراءة القرءان الكريم .
قال ابن الصلاح : ( .. ومن ذلك الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فضائل السور سورة سورة ، فقد بحث مؤمل بن إسماعيل ـ أحد رواة الحديث ـ حتى وصل إلى من اعترف بوضعه . كما قال ابن المبارك : أظنه من وضع الزنادقة . )(2)
وقد خطأ أهل العلم من ذكر هذه الأحاديث من المفسرين في كتبهم ، كالثعلبي والواحدي والزمخشري ، والنسفي والبيضاوي والمولى أبي السعود ، ولكن من أبرز سنده وذكره كالثعلبي والواحدي فهو أبسط لعذره ، إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده ، والبحث عن رواته ، وإن كان الأولى عدم السكوت على من فيه .
وأما من لم يبرز سنده ، وأورده بصيغة الجزم فخطؤه أفحش ، وعذره أبعد ، وذلك كالآخرين الزمخشري والبيضاوي والنسفي ، وأبي السعود ، علما بأن هؤلاء الثلاثة جميعا استنوا بسنة الزمخشري في نقل هذه الأحاديث مع إسقاط الأسانيد ، والزمخشري مستن بالثعلبي ، ولكنه زاد إسقاط الأسانيد من عنده ، فتضاعف خطؤه مرتين .
__________
(1) . محمد بن محمد أبو شهبة . الإسرائيليات والموضوعات في التفسير : 312 . وابن الجوزي ، الموضوهات : 1/174 .
(2) . مقدمة ابن الصلاح : 59(1/42)
قال ابن الجوزي : ( وقد فرق هذا الحديث أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره ، فذكر عند كل سورة ما خصها منه ، وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك ، قال : ولا أعجب منهما لأنهما ليس من أصحاب الحديث . )(1)
ويؤكد ما ذهب إليه ابن الجوزي قول ابن حجر عند تخريج كل حديث من هذه الأحاديث : أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه عن أبي بن كعب ، مما يدل على أنه حديث واحد موضوع بمجموعه . وآثار الوضع ظاهرة عليه من وجوه كثيرة ، سواء من جهة النقل أومن جهة العقل . والأمثلة الآتية توضح ذلك .
ففي فضل سورة القلم قال : ( عن رسول الله ـ صلى الله عليه سلم : من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم . )(2)
وفي فضل سورة الشمس قال : ( وعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من قرأ سورة الشمس ، فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر " . )(3)
وفي فضل سورة الإنشراح قال : ( عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من قرأ " ألم نشرح " فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني " . )(4)
وفي فضل سورة " التين " قال : ( عن رسول الله ـ صلى الله عليه سلم ـ " من قرأ سورة التين أعطاه الله خصلتين : العافية واليقين ما دام في دار الدنيا ، وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة ." )(5)
وكان الثعلبي يذكر الحديث في صدر كل صورة ، أما الزمخشري ومن تبعه فإنهم يذكرون الفضائل في آخر السورة ، وقد سئل الزمخشري عن هذا فأجاب بأن الفضائل صفات ، وهي تستدعي الموصوف ، والموصوف مقدم على صفته(6).
__________
(1) . ابن الجوزي ، الموضوعات ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، ج1/171
(2) . الكشاف : 4/597
(3) . الكشاف : 4/671
(4) . الكشاف : 4/772
(5) . الكشاف : 4/775
(6) . محمد حسين الذهبي ، الإسرائيليات والموضوعات في التفسير ، دار الفكر ، ص : 309(1/43)
وواضح من هذه المرويات أنها ظاهرة النكارة ، وحتى إن لم يكن الزمخشري قادرا على ردها من حيث السند ، فإن متنها يدعو للنفور منها من حيث العقل .
وهناك أحاديث أخرى عن غير أبي بن كعب ، ظاهرة النكارة ومشهورة الوضع ، وقد ذكرها الزمخشري وتبعه فيها البيضاوي ، مثل ما ذكره في فضل سورة الفاتحة ، قال : وعن حذيفة بن اليمان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا ، فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب " الحمد لله رب العالمين " فيسمعه الله تعالى . فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ". )(1)
قال ولي الدين العراقي : ( في سنده الجويباري ، ومأمون الهروي ، كذابان ، فهو من وضع أحدهما . )(2)
ومنها ما ذكره الزمخشري في فضل آية الكرسي ، وتبعه في ذلك النسفي وغيره ، حيث قال : ( .. فإن قلت لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد ، منه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ما قرئت هذه الآية في بيت إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا علي علما ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها .. " )(3)
( وتذاكر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يوما أفضل ما في القرءان ، فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم عن آية الكرسي ، ثم قال : قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا علي ، سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرءان ، وسيد القرءان البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي . )(4)
__________
(1) . الكشاف : 1/19
(2) . الإسرائيليات والموضوعات في التفسير : 310 . نقلا عن محاسن الصور في الكشف عن أحاديث السور ، للمغربي ، مخطوط .
(3) . الكشاف : 1/302
(4) . قال ابن حجر لم أجده انظر الكافي الشاف ، على هامش الكشاف : 1/303 هامش : 2(1/44)
ولم يكتف الزمخشري بأن يسوق مثل هذه المرويات الباطلة في فضل آية الكرسي ، حتى يقرر أن فضل فرقته إنما يستمد من فضل هذه الآية ، لأنها إنما فضلت على سائر القرءان لما فيها من قضايا التوحيد ، وفرقته إنما فارقت الفرق الأخرى في تعلقها بما جاء في هذه الآية .
قال الزمخشري : ( قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة ، فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار ، وبهذا يعلم أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله ، علم أهل العدل والتوحيد ، ولا يغرنك عنه كثرة أعدائه :
فـ إن العرانين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حسادا . )(1)
ولا يخفى ما في هذا التوجيه لآية الكرسي من تعصب وغلو ظاهرين عند الزمخشري ، لأن آية الكرسي تتحدث عن مطلق التوحيد ، وليس بالضرورة عن التوحيد الذي يفهمه الزمخشري وفرقته من القرءان الكريم ، والزمخشري نفسه لم يذكر مسألة واحدة من مسائل الخلاف بينه وبين خصومه في تفسير هذه الآية ، فلا ندري لماذا حصر فضل الآية وقصره على أهل العدل والتوحيد ؟
وهكذا فإن الزمخشري قد تمادى في مسلكه تجاه أغلب السنن التي أوردها في كشافه فإذا أورد حديثا صحيحا في تفسيره وجدناه يصدره في الغالب بقوله : "روي" وهي الصيغة الدالة على التضعيف ، وإذا كان الحديث ضعيفا أو موضوعا رواه بصيغة توهم صحته .
ومن ذلك أيضا ما جاء في تفسير قوله تعالى : "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين.." سورة يس :19
يقول : ( وعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين ، علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون)(2)
فالحديث كما قال إبن حجر: رواه الثعلبي ، وفي سنده عمرو بن جميع وهو متروك(3)
__________
(1) . الكشاف : 1/303
(2) . الكشاف : 4/10
(3) . الكشاف : 4/10 هامش : 2 ( الانتصاف )(1/45)
وأما رواية الطبراني فقال فيها إبن كثير في تفسيره : ( فأما الحديث الذي رواه أبو القاسم الطبراني ـ ثم ذكر الحديث بسنده لإبن عباس ـ فإنه حديث منكر ، لا يعرف إلا من حديث حسين الأشقر ، وهو شيعي متروك )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " وأخي هارون هو أفصح مني لسانا.."سورة القصص : 34
قال الزمخشري : ( وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنهما رتة ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ورثها عن عمه موسى . )(2)حيث قال إبن حجر في تخريجه : لم أجده(3).
ولا نستبعد أن يروي الزمخشري بعض الأحاديث المتروكة ، وهو يعلم درجتها ، أو على الأقل ضعف سندها ، لشيء في نفسه ، وخاصة أن الزمخشري قد اتخذ من تفسيره منبرا للرد على مخالفيه وخصومه ، سواء في الفكر أو السياسة .
فنجده في تفسير قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم .. " سورة الحجرات : 11
__________
(1) . ابن كثير ، تفسير القرءان العظيم : 5/367
(2) . الكشاف 1/63
(3) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف . الكشاف : 3/61 هامش : 3(1/46)
قال : ( ففي الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس "(1). حيث ذكر هذا الحديث الواهي ، ولم ينبه على مقالات أهل العلم فيه ، ليبرر إطلاق لسانه بعد ذلك في خصومه الأمويين فقال : ( وعن الحسن رضي الله عنه في ذكر الحجاج ، أخرج إلي بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ، ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول : يا أبا سعيد يا أبا سعيد ، وقال لما مات : اللهم أنت أمته فاقطع سنته ، فإنه أتانا أخيفش أعيمش ، يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ، ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل ، هيهات دون ذلك السيف والسوط .)(2)
أما عند أبي حيان ، فإن أغلب مروياته موجودة في الصحيحين ، أو في كتب السنة التي طغى عليها الصحيح من الحديث ، بل حتى أسباب النزول فإن أكثر مروياته فيها نقلها عن صحيحي البخاري ومسلم ، وهو في ذلك إما أن يصدرها بقوله : وفي الحديث الصحيح ، أو يكتفي بعزوها إلى كتب الصحاح إشعارا بصحتها وقبولها ، وفي كلا الحالتين هو سلوك مقبول منه عند أهل هذا الفن .
الفصل الثاني
موقفهما من تفسير الصحابة والتابعين
المبحث الأول
موقف الزمخشري من تفسير الصحابة والتابعين
لم يخل كل من الكشاف والبحر المحيط من نقل أقوال الصحابة والتابعين في تفسير القرآن الكريم ، على تفاوت بينهما في منهج التعامل معه .
__________
(1) . قال ابن حجر : قال الدارقطني : هو من وضع الجارود ثم سرقه منه جماعة . وقال الحاكم : هذا غير صحيح ولا معتمد . انظر : الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف . على هامش الكشاف : 4/369 هامش : 1
(2) . الكشاف : 4/369(1/47)
حيث أن الزمخشري يحاول أ ن يلتمس الدليل من الكتاب والسنة على ضرورة الرجوع إلى تفسر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك أن الله تعالى مثلما كلفه بأمانة التبليغ ، فإنه كلفه بأمانة البيان والتفسير ، وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد زكى أصحابه وشهد لهم بحسن الإسلام مثلما شهد لهم بحسن الفهم والحفظ لفقه الدين ، ومن هنا فإننا نجده في قول في تفسير قوله تعالى : " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء.." سورة النحل : 89
( فإن قلت : كيف كان القرآن تبيانا لكل شيء ؟ قلت : المعنى أنه بين كل شيء من أمر الدين ، حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة حيث أمر فيه باتباع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.. وقد رضي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته اتباع أصحابه والإقتداء بآثارهم في قوله(1): " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، وقد اجتهدوا وقاسوا ، ووطأوا طرق القياس والإجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب ، فمن تم كان تبيانا لكل شيء. )(2)
__________
(1) . قال ابن حجر : أخرجه الدارقطني في المؤتلف عن رواية سلام بن سليم عن الحرث بن غصن عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا ، وسلام ضعيف ، وأخرجه في غرائبه من طريق حميد بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في أثناء حديث " فبأي قول أصحابي أخذتم اهتديتم ، إنما مثل أصحابي مثل النجم من أخذ بنجم منها اهتدى " وقال : لا يثبت عن مالك ، ورواته دون مالك مجهولون ، كما ذكر له ابن حجر طرقا أخرى عند الدارقطني ، والقضاعي والبيهقي ، وفي كل أسانيدها ضعفاء . انظر الكشاف : 2/628 هامش : 1
(2) . الكشاف : 2/628(1/48)
وإن كان يفهم من كلام الزمخشري في هذا الموضع الدعوة إلى الإفادة من تفسير الصحابة مما فهموه من الكتاب ، وليس مما رووه ونقلوه ، فبقدر ما في كلام الزمخشري هذا من إقرار للتفسير المأثور عن الصحابة ، بقدر ما فيه أيضا إقرار للتفسير بالرأي ، ولذلك فإن الذي يطالع تفسير الكشاف للزمخشري يلاحظ فيه للوهلة الأولى قلة رجوعه لأقوال الصحابة والتابعين في التفسير ، وهذا فيما يبدو راجع لسببين أساسين هما :
أولهما: موقف المعتزلة من هذا النوع من التفسير ، حيث يرون أنه لا يوجد في القرآن ما لا يعلم معناه ، وهذا المعنى الذي يتضمنه القرآن لا يختص بمعرفته الرسول والصحابة والتابعون ، بل كل من تكاملت فيه شروط المفسر أمكنه معرفة مراد خطاب الله لعباده .
وفي هذا المعنى قال الحاكم الجشمي المعتزلي : ـ وهو أحد شيوخ الزمخشري في التفسير ـ ( لا يختص الرسول بمعرفة معاني القرآن بل غيره يمكنه معرفة ذلك خلافا لبعضهم . ثم أورد أدلة على ذلك منها:
1 ـ أن الكلام هو الدال على المراد إذا تكاملت شرائطه ، فمن عرف المواضعات يمكنه معرفة المراد ، كمن له عقل يمكنه معرفة العقليات .
2 ـ ولأن الرسول لابد أن يبين المراد بكلام ، فإذا صح أن يعرف المراد بكلامه ، فكلام الله تعالى كذلك .
3 ـ ولأن الأمة أجمعت على الرجوع للقرآن في الأحكام ، ولو كان كما قالوا لما حسن .
4 ـ ولأنه تعالى قال :" أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" . فوصفه بأنه بيان.)(1)
وفي كلام الحاكم عبارات هي نفسها عند القاضي عبد الجبار في كتابه المغني(2)
__________
(1) . عدنان زرزور ، الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير : 243 . نقلا عن شرح العيون ، ورقة : 264
(2) . القاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب العدل والتوحيد : 16/361 .(1/49)
فتبنى الزمخشري منهج شيخه ، واقتفى أثره في هذا الجانب ، فلم يرجع للتفسير المأثور عن الصحابة والتابعين إلا في في مواضع قليلة مما يتعلق بسبب نزول ، أو قول بالنسخ ، أو غير ذلك مما ليس للرأي فيه مجال .
2 ـ ثانيا : أن الزمخشري قد سكت عن نسبة الأقوال لأصحابها ، سواء منها ما تعلق بأقوال السلف ، أو غيرها من أقوال أهل العلم ، وهذا ما كان يعاتبه عليه أبو حيان في كثير من المواضع . مثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ثم رددناه أسفل سافلين" سورة التين:5
حيث قال أبو حيان ( وأخذ الزمخشري أقوال السلف ، وحسنها ببلاغته وانتقاء ألفاظه فقال : في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه ثم كان عاقبة أمره فيهم شكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية ، إذ رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا يعني أقبح من قبح صورة ، وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار وأسفل من سفل من أهل الدركات ، أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة و الشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله وابيض شعره بعد سواده .. إنتهى ، وفيه تكثير.)(1)
وما هذا إلا مثال واحد من السرقات التي عابها عليه أبو حيان وغيره . وكانت أغلب الأقوال التي ينقلها الزمخشري عن السلف ولم ينسبها لأصحابها يلخصها ، أو يلفقها و يصدرها بقوله : " قيل" . وفي مواضع قليلة فقط كان ينسب هذه الأقوال ، وأكثر نقوله كانت عن إبن عباس وابن مسعود وعلي بن أبي طالب من الصحابة ، وعن قتادة والضحاك والحسن البصري ، مع تتبعه لبعضها بالنقد ، وسكوته عن البعض الآخر . ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي :
في تفسير قوله تعالى : " لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " سورة الأنبياء : 103
__________
(1) . البحر المحيط : 8/490(1/50)
قال الزمخشري : ( يروى أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعثمان وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف . وعن الحسن: الفزع الأكبر: الإنصراف إلى النار ، وعن الضحاك : حين يطبق عن النار ، وقيل : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية .." سورة البقرة : 274
قال : ( قيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية . وعن إبن عباس رضي الله عنهما : نزلت في علي رضي الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية . . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.. " سورة العنكبوت : 46
قال : ( قيل : إلا الذين آذوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقيل إلا الذين أثبتوا لله الولد والشريك ، وقالوا يد الله مغلولة . وعن قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى " قاتلوا الذين لايومنون بالله ولا باليوم الآخر.."(3)ولا مجادلة أشد من السيف )(4)
وفي تفسير قوله تعالى : " فإذا فرغت فانصب " سورة الإنشراح: 7
قال الزمخشري : ( لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة ، بعثه على الشكر والإجتهاد في العبادة والنصب فيها ، وأن يواصل بين بعضها بعضا ، ويتابع ويحرس على ألا يخلي وقتا من أوقاته منها ، فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى . ثم قال :
ـ وعن إبن عباس : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء .
ـ وعن الحسن : فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة .
ـ وعن مجاهد : فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.
__________
(1) . الكشاف : 3/137
(2) . الكشاف : 1/319
(3) . سورة التوبة : 29
(4) الكشاف : 3/457(1/51)
ـ وعن الشعبي : أنه رأى رجلا يشيل حجرا فقال : ليس بهذا أمر الفارغ ..
ـ ولقد قال عمر رضي الله عنه : إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا ، لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة .)(1)
فنقل هذه الأقوال ومر عليها دون أن يتعقبها بشيء ، في حين أن بعضها لا يخلو من مقال . فالقول المنسوب للحسن البصري ـ فإذا فرغت من الغزو ـ يرده كون السورة مكية ، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن ، والغزو لم يكن إلا بعد الهجرة. والقول المنسوب لعمر ، قال فيه إبن حجر:) لم أجده ، وقد روى أحمد وابن المبارك والبيهقي في الزهد ، وابن أبي شيبة من طريق المسيب بن رافع قال: قال إبن مسعود :إني لأمقت الرجل أراه فارغا ليس في شيء من عمل دنيا ولا آخرة )(2)
كما نقل عن إبن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : " عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى الله راغبون " سورة القلم : 32
فقال ( وروي عن إبن مسعود : بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق ، فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان ، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا )(3)
ولا يخفى ما في هذا القول المنسوب لإبن مسعود من ضعف من عدة وجوه :
أولا: أنه مخالف للواقع وما ألفه الناس في حياتهم .
ثانيا: قوله تعالى بعد ذلك : " كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون "(4)يستبعد معه وقوع توبتهم ، وبالتالي يستبعد وجود تلك الجنة التي هذا وصفها .
ثالثا : السياق العام للقصة وسبب نزولها أيضا يخالفان القول المنسوب لابن مسعود .
إلا أن الزمخشري سكت عن كل هذا ، مما يوحي بقبوله .
وفي مواضع قليلة جدا نجده يتوقف عند بعض التفسير المنسوب للصحابة والتابعين وقفة نقدية ، فيصرح برده ، أوالتشكيك في صحة نسبته.
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " عينا فيها تسمى سلسبيلا " سورة الإنسان : 18
__________
(1) . الكشاف : 4/772
(2) . الكشاف : 4/772 هامش : 3
(3) . الكشاف : 4/592
(4) . سورة القلم : 33(1/52)
حيث قال : ( وسلسبيلا ، لسلاسة إنحدارها في الحلق ، وسهولة مساغها ، يعني أنها في طعم الزنجبيل ، وليس فيها لذعة ، يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، قال الزجاج : السلسبيل في اللغة : صفة لما كان في غاية السلاسة .. ثم قال الزمخشري : ( وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن معناه سل سبيلا إليها ، وهذا غير مستقيم على ظاهره ، إلا أن يراد أن جملة قول القائل : سل سبيلا جعلت علما للعين ، كما قيل : تأبط شرا ، وذرى حبا ، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح ، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع ، وعزوه إلى مثل علي رضي الله عنه أبدع . )(1)
وهكذا يتضح من مجموع ما قدمناه من نماذج في موقف الزمخشري من التفسير المنسوب للصحابة والتابعين جملة من النتائج السلبية التي تسجل على كشافه :
منها تجاهله للقيمة العلمية لما يعزى إليهم من تفسير للقرءان الكريم بالرغم مما خصهم بالله به من قوة الفهم والعدالة ومعاينتهم قرائن التنزيل ومعرفتهم بأحوال وعوائد من نزل فيهم القرءان من عرب وغيرهم ، وهو في ذلك إنما متأثر بفكره الاعتزالي كما قمنا .
ومنها سوء توجيهه لما نقل عنهم من تفسير للقرءان الكريم ، وقلة المانة في النقل واقتباس والتصرف في أقوال الرجال بما يوافق ما يراه .
ومنها ضعف حاسته النقدية في هذا النوع من المرويات على غرار ما شهدناه في ضعف نقده لمرويات التفسير من السنة النبوية .
وبذلك كان هذا الجانب هو الآخر من الجوانب التي تضعف من قيمة تفسير الكشاف وتنزل به المكانة التي رفعها إليه بعض من أنصاره والمتحمسين لاتجاهه .
المبحث الثاني
موقف أبي حيان من مأثور الصحابة والتابعين
__________
(1) . الكشاف : 4/672(1/53)
فإذا رجعنا إلى تفسير البحر المحيط فإننا نجد أبا حيان قد أكثر من نقل التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين بما يتناسب وتوسعه في جوانب التفسير الأخرى ، وقد أبان في أكثر من موضع من تفسيره عن اعتداده بها النوع من التفسير ، وتقديمه على غيره من أقوال الرجال ، لأن الله تعالى قد خصهم بفضائل لم يجعلها لغيرهم ، من بينها حسن الفهم لدينه وكتابه وحسن التطبيق والإمتثال لأحكامه ، وهذا ما أشار إليه أبو حيان في تفسيره لقوله تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " سورة البقرة : 158
قال أبو حيان : ( .. والناس هنا أهل الكتاب ، والكتاب التوراة والإنجيل ، وقيل الناس أمة محمد ـ ص ـ والكتاب القرءان ، والأولى والأظهر عموم الآية في الكاتمين ، وفي الناس وفي الكتاب ، وإن نزلت في سبب خاص ، فهي تتناول كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره ، وذلك مفسر في قوله ـ ص ـ من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه . وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرءان كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما " لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم " . )(1)وهم يقصدون هذه الآية .
ومن الأمثلة على اهتمامه بالتفسير المنقول الصحابة والتابعين ما يأتي :
في تفسير قوله تعالى : " وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " سورة الأعراف : 45
__________
(1) . البحر المحيط : 1/459(1/54)
قال أبو حيان : ( والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، وقفوا هنالك ما شاء الله لم تبلغ بهم حسناتهم دخول الجنة ولا سيئاتهم دخول النار ، وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله ـ ص ـ حديث فيه : يا رسول الله ، فمن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ، وقاله ابن مسعود وابن عباس وحذيفة وأبو هريرة ، قال حذيفة بن اليمان أيضا : قوم أبطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ،وقيل غزاة جاهدوا من غير إذن والديهم فقتلوا في المعركة ، وهذا مروي عن رسول الله أنهم حبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم وأعتقهم الله من النار لأنهم قتلوا في سبيله ، وقيل قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو بالعكس ، وقيل هم أولاد الزنا ، وقيل أولاد المشركين ، وقيل الذين كانوا في الأسر ولم يبدلوا دينهم ، وقيل علماء شكوا في أرزاقهم .. والأقوال السابقة تحتاج إلى دليل واضح في التخصيص ، والجيد منها هو الأول لحديث جابر ، ولتفسير جماعة من الصحابة . )(1)
كما تستوقفنا تلك الحاسة النقدية المميزة عنده في فحص تلك الأقوال ، و فصل غثها عن سمينها . وقد تجلت هذه الحاسة النقدية في الجوانب الآتية :
1 ـ رده لكل تفسير منسوب لهم وهو شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية ، فكان ينزه علماء السلف عن هذه الأقوال التي تصدر عن أفكار لم تكن معروفة بينهم .
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : "ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون " سورة الزخرف :50
حيث قال : ( وأبعد الضحاك في تفسيره الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة يسيرون تحت لوائه ، ومن فسرها بالأموال يصرفها تحت يده ، ومن فسرها بالخيل فقيل كما سمي الفرس بحرا يسمى نهرا ، وهذه الأقوال الثلاثة تقرب من تفسير الباطنية.)(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 4/302
(2) . البحر المحيط : 8/22(1/55)
وفي تفسير قوله تعالى : " وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون " سورة يس: 50
قال أبو حيان : (.. وقيل الذرية النطف ، والفلك المشحون بطون النساء ، ذكره الماوردي ، ونسب إلى علي بن أبي طالب ، وهذا لا يصح لأنه نوع من تفسير الباطنية وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعه )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " سلام هي حتى مطلع الفجر" سورة القدر: 5
قال أبو حيان : (.. وعن ابن عباس : تم الكلام عند قوله "سلام " ولفظة "هي" إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر ، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة ، إنتهى ـ ثم قال ـ ولا يصح مثل هذا عن إبن عباس ، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى)(2)
2 ـ رده للتفسير المنسوب للصحابة والتابعين إذا كان يخالف ظاهر القرآن ، ولا يتفق مع السياق العام للنص ، وهو في ذلك لا يكتفي برد أي قول حتى يفيض في التدليل على بعده من جهة ، وبيان المعنى الراجح من جهة أخر ى ، والأمثلة على ذلك من تفسيره كثيرة نكتفي منها بما يأتي :
في تفسير قوله تعالى: " أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيئا من الصالحين " . سورة آل عمران : 39
قال في تفسير معنى " الحصور" : ( " وحصورا " هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء .. قال الشاعر:
و حصورا لا يريد نكاحا لا ولا يبتغي النساء الصباحا
وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره . وقيل الحاصر نفسه عن الشهوات.
وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس أيضا والضحاك وابن المسيب : هو العنين الذي لاذكر له يتأتى به النكاح ، ولا ينزل .
__________
(1) . البحر المحيط : 7/338
(2) . البحر المحيط : 8/497(1/56)
قال أبو حيان : وإيراد "الحصور" وصفا في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب . والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه عن شهوات الدنيا من النساء وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك.)(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .." سورة آل عمران : 103
قال أبو حيان ( الخطاب لمشركي العرب ، قاله الحسن وقتادة ، يعني من آمن منهم إذا كان القوي يستبيح الضعيف ، وقيل للأوس والخزرج ، ورجح هذا لأن العرب وقت نزول هذه الآية لم تكن مجتمعة علىالإسلام ، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت علىالإسلام وتآلفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله ـ وهو الدين ـ ونهاهم عن التفرق ، وهو أمر ونهي بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ، ذكرهم بأن ما هم عليه من الإعتصام بدين الإيلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك ، إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم )(2)
وبنفس المسلك والإستدلال بين ضعف الأقوال المنسوبة لابن عباس والحسن البصري وقتادة في تفسير الآية التي تأتي بعد الآية السابقة وهي قوله تعالى : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم "(3)حيث قال : ( قال ابن عباس : هم الأمم السابقة التي افترقت في الدين .
وقال الحسن : هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقا.
وقال قتادة : هم أصحاب البدع من هذه الأمة ، زاد الزمخشري : وهم المشبهة والمجبرة والحشوية وأشباههم .
وقال أبو أمامة : هم الحرورية ، وروى في ذلك حديثا..
__________
(1) . البحر المحيط : 2/448
(2) . البحر المحيط : 3/18
(3) . سورة آل عمران : 105(1/57)
ثم قال أبو حيان : قال بعض معاصرينا ، في قول قتادة وأبي أمامة نظر ، فإن مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزمان وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنك لا تنهى زيدا أن يكون مثل عمرو إلا بعد تقدم أمر مكروه جرى من عمرو ، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون " تفرقوا" و"اختلفوا " من الماضي الذي أريد به المستقبل ، فيكون المعنى : ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون ، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع )(1)
3 ـ رده التفسير المنسوب للسلف المخالف للحقائق التاريخية و المشهور من وقائع السيرة النبوية ، مع استبعاده صحة نسبته إليهم .
ففي تفسير قوله تعالى : " قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون.." سورة الفتح:16
قال أبو حيان : ( أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك ، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يكونوا أهلا لذلك ، وأبهم تعالى في قوله " إلى قوم أولي بأس شديد" .
فقال عكرمة وابن جبير وقتادة هم هوازن ، ومن قاتل رسول الله يوم حنين.
وقال كعب : الروم الذين خرج إليهم يوم تبوك ، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة.
وقال الزهري والكلبي : أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة ..
وقال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعطاء الخراساني وابن أبي ليلى:هم الفرس
وقال الحسن : فارس والروم .
وقال أبو هريرة قوم لم يأتوا بعد .
__________
(1) . البحر المحيط : 3/21(1/58)
ثم قال أبو حيان : ( وظاهر الآية يرد هذا القول ، والذي أقوله أن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها ، إلا أن المعني بذلك ما ذكروا ، بل أخبر بذلك مبهما دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته .. والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية ، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام.)(1)
ويقصد من وراء ذلك أن الصحيح من الأقوال السابقة هو قول الحسن البصري ، ومن ذهب مذهبه ، و ما خالف ذلك فهو بعيد ومردود ، إلا إذا كان على وجه التمثيل . وهو استنباط بارع ودقيق من أبي حيان قلما نجد له مثيلا في تفسير الكشاف .
وفي تفسير قوله تعالى : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق .." سورة المائدة :30
نقل أقوال الصحابة والتابعين في تعيين المقصود بابني آدم فقال : ( وابنا آدم في قول الجمهور ، عمر وابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم هما : قابيل وهابيل ، وهما إبناه لصلبه ، وقال الحسن :لم يكونا ولديه لصلبه وإنما هما أخوان من بني إسرائيل ، قال: لأن القربان إنما كان مشروعا في بني إسرائيل ولم يكن من قبل .
قال أبو حيان : ووهم الحسن في ذلك ، وقيل عليه : كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدى فيه بالغراب ، وأيضا فقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه إنه أول من سن القتل ، وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل )(2)
فنلاحظ في المثال الأول كيف ارتضى قول الحسن البصري وقدمه على غيره لقوة دليله ، كما يتجلى من هذا المثال كيف رد قوله بالأدلة القوية والمقنعة أيضا ، مما ينبئ عن قوة حسه النقدي لهذا النوع من التفسير .
وفي تفسير قوله تعالى : " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لاإيمان لهم لعلهم يهتدون " سورة التوبة : 12
__________
(1) . البحر المحيط : 8/94
(2) . البحر المحيط : 3/460(1/59)
قال أبو حيان :( وقال قتادة :المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم ، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال ، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير .)(1)
4 ـ رد كل تفسير منسوب لأئمة السلف مما فيه مخالفة لصريح السنة النبوية .
ومثاله ما جاء في تفسير قوله تعالى : "وإن كنتم مرضى أو علىسفر .. فلم تجدوا ماء فتيمموا.." سورة المائدة :7
قال أبو حيان ( ومرض يعني في الحضر ، ويدل على مطلق المرض قل أو كثر ، زاد أو نقص ، تاخر برؤه أو عجل وبه قال داود التيمم لكل من صدق عليه مطلق الإسم . وخصص العلماء غيره المرض بالجدري والحصبة و العلل المخوف عليها من الماء ، فقالوا : إن خاف تيمم بلا خلاف . ثم قال أبو حيان : إلا ما روي عن عطاء والحسن أنه يتطهر وإن مات ، وهما محجوجان بحديث عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل(2)، وأنه أشفق أن يهلك إن اغتسل فتيمم فأقره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك . خرجه أبو داود والدارقطني.)(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا.." سورة آل عمران : 37
قال أبو حيان : ( تكلمت في المهد ولم تلقم ثديا قط ، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة . فعقب أبو حيان على هذا الأثر بقوله : ( والذي ورد في الصحيح(4)أن الذي تكلم في المهد ثلاثة ، عيسى وصاحب جريج وابن المرأة .)(5)
5 ـ رده للتفسير المنسوب لبعض الصحابة والتابعين مما يبعد أن يصدر عنهم ، أو ممن كان في مقامهم من العلم بلغة القرآن ، وحسن نظمه وبلاغته وسبب نزوله ، ومختلف علومه .
__________
(1) . البحر المحيط : 4/380
(2) . رواه أبو داود . كتاب التيمم ، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم ، رقم : 344
(3) . البحر المحيط : 3/258
(4) . رواه الإمام أحمد في مسنده ، بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع ، 1998م ، رقم : 307
(5) . البحر المحيط : 2/442 . وانظر : 2/472 .(1/60)
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.." سورة الروم : 29
حيث قال : ( قال مجاهد وابن جبير والضحاك والنخعي وبن زيد:لا تبديل لدين الله، والمعنى لمعتقدات الأديان ، إذ هي متفقة في ذلك .
وقال ابن عباس : لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم .
وقيل هو نفي معناه النهي ، أي لا تبدلوا ذلك الدين ..
ثم قال أبو حيان : ويستغرب ماروي عن ابن عباس أن معنى لا تبديل لخلق الله : النهي عن خصاء الفحول من الحيوان.)(1)
وفي تفسير قوله : " وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث .." سورة الروم : 55
قال أبو حيان : ( وقال قتادة : هو على التقديم والتأخير ، تقديره: أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم ..وعلى هذا تكون " في" بمعنى الباء أي العلم بكتاب الله . ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة ، فإن فيه تفكيكا للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح ، فكيف في كلام الله تعالى ، وكان قتادة موصوفا بعلم العربية ، فلا يصدر عنه مثل هذا القول.)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم" سورة يس: 77
فسر الآية بما يتفق وسياق النص ثم قال : ( ووهم من نسب لابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول ، لأن السورة والآية مكية بإجماع ، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة . )(3)
__________
(1) . البحر المحيط : 7/172
(2) . البحر المحيط : 7/180
(3) . البحر المحيط : 7/348(1/61)
وهكذا أكثر أبو حيان من نقل التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين في جوانب مختلفة من تفسيره ، وخاصة ما تعلق بأسباب النزول وتاريخه ، والقصص والأخبار ، والناسخ والمنسوخ ، ومحكم القرءان ومتشابهه ، ومعرفة المكي والمدني ، وغريب القرءان ، والقراءات ، وغيرها مما ليس للرأي فيه مجال إلا النقل والرواية ، وكان في نقله خبيرا بالأقوال ناقدا لها من جهة النقل ، ومن جهة العقل ، مما يتبين معه تفوقه على الزمخشري في هذا الجانب تفوقا وضحا ، وتقدمه عليه سواء من حيث حسن نقله وانتقائه لمرويات الصحابة والتابعين في التفسير أو فيما تعلق بنقدها وتمحيصها ، أو إدراك القيمة العلمية لهذا النوع م التفسير وإنزاله منزلته ، وهذا ما سوف نزيده تفصيلا في مواضع لاحقة من هذا البحث مدعوما بالشواهد الكافية .
الفصل الثالث
موقفهما من القصص الإسرائيليات
المبحث الأول
موقف الزمخشري من القصص والإسرئيليات
رجع الزمخشري كغيره من كثير من المفسرين إلى القصص الإسرائيلي وسود به كثيرا من صفحات تفسيره ، ولكنه كعادته يميل إلى التلخيص بدافع الإختصار ، ولا ينسب هذه الأخبار الإسرائيلية إلى أصحابها إلا في القليل النادر ، مما يوهم القارئ أنه قليل النقل للإسرائيليات . والذي لا يعرف ما درج عليه الزمخشري في تفسيره من مصطلحات ومسلكه في التعامل مع مصادره يخطئ في الحكم عليه في هذا الجانب .
ففي موقفه من الإسرائيليات مثلا نجد محمد حسين الذهبي يحكم له بأنه مقل منها ، ثم يقول: ( وما يذكره من ذلك إما أن يصدره بلفظ "روي" المشعر بضعف الرواية وبعدها عن الصحة ، وإما أن يفوض علمه إلى الله سبحانه . )(1)
__________
(1) . التفسير والمفسرون :1/476(1/62)
ونحن لا نسلم له بهذا الحكم ، حيث نلاحظ أن الزمخشري يصدر كل مروياته بلفظ "روي" أو " قيل" ، القوي منها والضعيف ، بل حتى تلك الأحاديث المتفق عليها في الصحيحين يصدرها بمثل هذه الألفاظ ، ويتعقبها بعبارة " الله أعلم بصحته " وهو بذلك لا يريد بيان درجة الخبر بالضرورة ، لأنه ليس من أهل هذا الشأن حتى يستطيع أن يحكم على حديث ما ، بل كثيرا ما يعني بهذه العبارة اعتراضه على معنى الحديث من جهة العقل لمخالفته لمذهبه .
ومن هنا نقول : إن الزمخشري قد نقل في تفسيره من الإسرائيليات ما شاع منها بين أغلب المفسرين ، وتعامل معها وفق منهج محدد ارتضاه لنفسه يتلخص في ما يأتي:
1 ـ كان يجمع الروايات الواردة في الموضع الواحد فيلخصها ويلفقها في رواية واحدة طلبا للإيجاز، وهو الغالب في أكثر ما نقله في هذا الجانب .
فمن ذلك ما جاء في تفسري قوله تعالى : " قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل .." سورة هود :80
حيث قال : ( فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالوا : يا لوط إن ركنك لشديد " إنا رسل ربك لن يصلوا إليك " ، فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا ، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له ، فقام في الصورة التي يكون فيها ، فنشر جناحه ـ وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم ، وهو براق الثنايا ـ فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم ، كما قال الله تعالى" فطمسنا أعينهم " فصاروا لا يعرفون الطريق ، فخرجوا وهم يقولون : النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة .)(1)
وهو كلام ملخص وملفق من عدة روايات مطولة رواها الطبري في تفسيره بإسناده عن وهب بن منبه وابن جريج(2).
وفي تفسير قوله تعالى : " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث.." سورة يس : 13 ـ 14
__________
(1) . الكشاف : 2/415
(2) . الطبري ، جامع البيان : مج7 . 11/119 ـ 120(1/63)
قال الزمخشري : (والمرسلون : رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها ، بعثهم دعاة إلى الحق ، وكانوا عبدة أوثان ، أرسل إليهم اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار ـ صاحب يس ـ فسألهما فأخبراه ، فقال : أ معكما آية ؟ فقالا نشفي المريض ، ونبرئ الأكمه والأبرص ، وكان له ولد مريض من سنتين ، فمسحاه ، فقام ، فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفي على أيديهما خلق كثير ، ورقى حديثهما إلى الملك ، وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا ؟ قالا: نعم ، من أوجدك وآلهتك ، فقال : حتى أنظر في أمركما .. إلخ)(1)
وقد روى مثل هذا الخبر الطبري بإسناده إلى كل من ابن عباس ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه(2).
2 ـ وهو إذ يلخص هذه الروايات فإنه يتصرف فيها لفظا ومعنى ، فتارة يضيف عبارة وتارة يحذف أخرى ، فربما حذف عبارة في نص لا تليق بمقام الأنبياء وعصمتهم ، وأبقى على باقي القصة بما يضفي عليها الصحة والقبول ، وربما أبقاها كاملة على ما فيها .
ومن أغرب ما وقفت عليه من الإسرائيليات التي ينقلها الزمخشري دون أن يتعقبها بشيء ما أورده في تفسير قوله تعالى : " قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ انتم جاهلون" يوسف:89
حيث قال : ( وروي أنهم لما قالوا : مسنا وأهلنا الضر وتضرعوا إليه أرفضت عيناه ثم قال هذا القول ، وقيل أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر ، أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء ، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله .. وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله . )(3)
__________
(1) . الكشاف : 4/8
(2) . جامع البيان : 12/190
(3) . الكشاف :2/501(1/64)
كما كرر إيراد هذا الخبر في تفسير قوله تعالى : " وفديناه بذبح عظيم"(1)، وقد قال فيه إبن حجر: ( قال الدارقطني: موضوع ، وإسحاق كان يضع الحديث على إبن وهب )(2)
3 ـ ولا أراه من الصواب قول من قال : (أن الزمخشري كان ينبه على درجة الرواية ومبلغها من الصحة أو الضعف ، ولو بطريق الإجمال ، وهذا في الغالب يكون عند الروايات التي لها مساس بالدين وتعلق به )(3)
وهذا ليس على إطلاقه ، بل كان أحيانا يورد ما يمس بمقام الأنبياء وينقص من قدرهم ، ولا يتعقبه بشيء من النقد ، ولنا أن نتصور صحة هذا الحكم عندما نراه يورد في تفسير قوله تعالى " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا .. "(4)ما ينبغي تنزيه كتب التفسير عنه ، حيث قال : ( وروي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ، ويقولون : يا بن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة ؟ )(5)
فالقصة لا تمس مقام موسى فقط ، بل تمس مقام الملائكة أيضا ، والواجب هو تنزيه موسى والملائكة معا عن مثل هذا .
بل كان ينقل أخبارا وقصصا مخالفة لصريح القرآن ، وللمشهور من الوقائع التاريخية ، دون أن ينبه على مدى قربها أو بعدها عن مدلول النص القرآني.
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون" سورة يوسف:58
__________
(1) . سورة الصافات : 107
(2) الكشاف : 4/57 هامش : 1
(3) . التفسير والمفسرون : 1/477
(4) . سورة الأعراف : 143
(5) . الكشاف : 2/155(1/65)
حيث تحدث عن السبب في عدم معرفتهم ليوسف لما رأوه ، وسبب معرفته لهم لما رآهم فقال : (..وقيل رأوه على زي فرعون ، عليه ثياب الحرير جالسا على سرير ، في عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فما خطر ببالهم أنه هو . وقيل ما رأوه إلا من بعيد ، بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج . وعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ، ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذاك ، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمل ويتفطن . وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له . )(1)
فكل هذه الأقوال الثلاثة التي نقلها وسكت عنها لا تسلم من نقد .
1 ـ فقوله لم يعرفوا يوسف لأنه كان في زي فرعون خطأ من حيث أن يوسف عليه السلام كان سابقا لفرعون بمدة معتبرة ، ولقد نص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا .."(2)
إلا إذا حملنا قوله هذا على أن إسم " فرعون " هنا إنما هو لقب لكل من تولى حكم مصر في تلك الحقبة التاريخية ، وليس لفرعون موسى عليه السلام .
2 ـ قوله : ما رأوه إلا من بعيد ، دعوى بغير دليل ، ولم يدل القرآن على ذلك لا بالعبارة ولا بالإشارة ، بل ظاهر النص يخالف ذلك ، وهو قوله تعالى" فدخلوا عليه فعرفهم".
3 ـ ونقله لقول الحسن البصري : ـ ما عرفهم حتى تعرفوا له ـ مخالف لقوله تعالى" فعرفهم وهم له منكرون" .
وفي تفسير قوله تعالى : "ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا.." سورة الكهف :83
قال : ( ذو القرنين هو الإسكندر الذي ملك الدنيا ، قيل ملكها مؤمنان : ذو القرنين وسليمان ، وكافران : نمرود و بختنصر. )(3)
__________
(1) . الكشاف : 2/484
(2) . سورة غافر : 34
(3) . الكشاف : 2/743(1/66)
والذي عليه المفسرون أن ذا القرنين ليس هو الإسكندر ، لأن ذا القرنين رجل مؤمن بالله واليوم الآخر ، كان يفتح البلدان والأقاليم ليدعو إلى التوحيد والعمل الصالح ، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وأما إلاسكندر الإغريقي فكان رجلا وثنيا ، وأن سيرته وسلوكه غير الذي ذكره القرءان(1).
4 ـ ولم يكتف الزمخشري بذكر بعض هذه المرويات الغريبة والبعيدة عن مدلول النص ، حتى ذهب يحمل خصومه اختلاقها والترويج لها ، مع أن خصومه هؤلاء الذين رماهم بكل نقيصة إنما رووه بالسند المتصل إلى أصحابه ، بينما هو أسقط تلك الأسانيد .
ففي تفسير قوله تعالى : " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء .. " سورة يوسف:24
__________
(1) . انظر : سيد قطب ، في ظلال القرءان : 4/2289 ، دار الشروق ، القاهرة ، ط10 ، 1981 . نقلا عن : الآثار الباقية عن القرون الخالية ، للبيروني .(1/67)
ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها ، على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه ، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها ، لولا أن رأى برهان ربه ، فترك التوصل إلى حظه من الشهوة ، وقد فسر هم يوسف بأنه حل الهميان ، وجلس منها مجلس المجامع ، وبأنه حل تكة سرواله ، وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها ، وفسر البرهان بأنه سمع صوتا : إياك وإياها ، فلم يكترث له ، فسمعه ثانيا فلم يعمل به ، فسمع ثالثا : أعرض عنها ، فلم ينجع فيه ، حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته ، وقيل ضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله .. وقيل بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم ، مكتوب فيها " وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين "(1)فلم ينصرف ، ثم رأى مكتوبا فيها "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا "(2)فلم ينته ، ثم رأى فيها " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله "(3)، فلم ينجع فيه ، فقال الله لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل وهو يقول: أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء.. إلى أن قال : وهذا ونحوه مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله وأنبيائه . وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل .
__________
(1) . سورة الإنفطار : 10
(2) . الإسراء : 32
(3) . سورة البقرة : 280(1/68)
ولقد أحسن في الرد على هذه الأقوال حينما قال : ( ولو وجدت من يوسف ـ عليه السلام ـ أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره ، كما نعيت على آدم زلته ، وعلى داود ، وعلى نوح ، وعلى أيوب ، وعلى ذي النون ، وذكرت توبتهم واستغفارهم ، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصا ، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض ، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوة والعزم ، ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح ، حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين ، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها ..)(1)
ولكنه أساء في الوقت ذاته حينما قال : ( ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة .. وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسوله . ) و إذا كان الزمخشري يعني بالمبطلة أهل السنة ، فلا أدري من هم أهل السنة عنده ، هل هم أولئك القصاص و الوضاعون الذين كذبوا ووضعوا ، فجعلهم هم أهل السنة ؟ أم هم أولئك الذين نقل عنهم الزمخشري نفسه واتخذ منهم مرجعا للروايات التي اعتمدها في تفسيره ، وفي مقدمتهم كتاب " الكشف والبيان في تفسير القرآن" للثعلبي الذي كان حاطب ليل(2)، ومع ذلك فإن أغلب ما احتطبه الثعلبي بليل كان من مروياته التي نقلها في الكشاف ، وارتضاها ، وقدمها على ما في الصحيحين . ولذلك رد عليه ابن المنير في هذا الموضع فقال: ( ولقد صدق في التوريك على نقله هذه الزيادات بالبهت ، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة ، كما لفقت القدرية على قصة موسى حين طلب الرؤية وخر صعقا ، أن الملائكة جعلت تلكزه بأرجلها ، وتقول : يا ابن النساء الحيض طمعت في رؤية رب العزة(3)، كل ذلك ليتم لهم غرضهم في أنه طلب محالا في العقول على الله تعالى ، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل .)(4)
__________
(1) . الكشاف : 2/457
(2) . ابن تيمية ، مقدمة في أصول التفسير : 31
(3) . الكشاف : 2/155
(4) . الكشاف : 2/481 هامش : 4 ( الإنصاف )(1/69)
وواضح من كلام الزمخشري في هذا الموضع أنه لم ينقل هذه المرويات ليفندها في حد ذاتها ، وإنما لينال من خلالها من خصومه الذين حملهم مسؤولية اختلاقها وترويجها .
وفي القليل النادر فقط كان الزمخشري ينسب مروياته من الإسرائيليات إلى أصحابها ، وهو في ذلك يقتصر على أقطاب الروايات الإسرائيلية مثل كعب الأحبار ، وعبد الملك بن جريج ، ووهب بن منبه.
من ذلك ما أورده في تفسير قوله تعالى : " وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون" سورة البقرة : 14
فقال : ( وعن وهب : قال الله عز وج فيما يعيب به بني إسرائيل ، تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة.)(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " سورة البقرة : 68
قال الزمخشري : ( وعن وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها .. )(2)
ومن هذه النماذج وغيرها مما لم نذكره يتضح أن الزمخشري قد ضمن كشافه عددا معتبرا من الاسرائيليات ، على اختلاف أنواعها ودرجاتها ، إلى جانب قلة تتبعه لها بالنقد والتمحيص إلا في القليل النادر ، مما يقلل مرة أخرى من أهمية تفسيره من هذه الناحية .
المبحث الثاني
موقف أبي حيان من القصص والإسرائيليات
نقل أبو حيان بعضا من الإسرائيليات في تفسيره " البحر المحيط " ، وكان أغلب ما يرويه ينسبه لأصحابه ممن اشتهروا بمثل هذه المرويات كوهب بن منبه ، وكعب الأحبار، وعبد الملك بن جريج . ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " فوكزه موسى فقضى عليه.." سورة القصص : 14
حيث قال : ( وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر. وقال كعب : كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ، وكان قتله خطأ ، فإن الوكزة في الغالب لا تقتل )(3)
__________
(1) . الكشاف : 1/69
(2) . الكشاف : 1/150
(3) . البحر المحيط : 7/109(1/70)
وفي تفسير قوله تعالى: " اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري .." سورة طه : 41
قال : ) قال وهب بن منبه ، قال الله لموسى عليه السلام: اتبع كلامي واحفظ وصيتي ، وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي ، وأن معك يدي ونصري ، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري . أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي . أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطش جبار.. ولكن هان علي وسقط من عيني، فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي ، وقل له قولا لينا ، فإن ناصيته بيدي ، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي .. في كلام طويل ، قال: فسكت موسى سبعة أيام.)(1)
ويمكننا أن نرصد مسلك أبي حيان في تعامله مع الإسرائيليات في تفسيره كما يأتي:
1 ـ كان لا يرجع إلى القصص الإسرائيلي إذا كان في مرويات السنة الصحيحة ما يغني عنه ، مع تنبيهه على ضرورة التزام هذا المسلك.
مثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها.." سورة الكهف: 70
__________
(1) . البحر المحيط : 6/237(1/71)
قال: ( وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال ، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، قالا(1): فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبوا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا من غير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ـ إلى قوله : عسرا ـ قال : وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان الأول من موسى نسيانا ، قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ، فنقر ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" سورة البقرة: 64
حيث ذكر أقوال المفسرين وما نقلوه من قصص وأخبار في شأن الذين مسخوا قردة هل كان لهم نسل أم ماتوا بعد مسخهم ؟ ثم قال : وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لمن سأله عن القردة والخنازير أهي مما مسخ ؟ فقال(3): لم يهلك الله قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا ، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك.)(4)
__________
(1) . رواه البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب التفسير ، باب قوله " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين " . انظر فتح الباري : 8/329
(2) . البحر المحيط : 6/149
(3) . رواه مسلم في صحيحه ، كتاب القدر ، باب أ ن الآجال والأرزاق وغيرها لا تنقص عما سبق به القدر . 8/55
(4) . البحر المحيط : 1/264(1/72)
2 ـ ويرى أبو حيان أن أغلب الإسرائيليات التي راجت في كتب التفسير هي من وضع الزنادقة وأعداء الدين ، وأنها مما يشوه وجه الشريعة ، ويذهب بإشراقة هديها ونورها ، ومن تم يرى عدم جواز نقلها في كتب التفسير إلا من باب بيان زيفها وتناقضها ، ومخالفتها لما يدل عليه القرآن من أخبار وأحكام . وهو هنا يلتقي مع الزمخشري في الطعن فيها وردها ، فينقل عنه أحيانا ويستحسن كلامه ويقدمه .
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين" سورة المائدة : 33
قال أبو حيان وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل هابيل ، من رجفان الأرض سبعة أيام ، وشرب الأرض دمه ، وتغير الطعمة وحموضة الفواكه ، ومرارة الماء واغبرار الأرض وهروب قابيل بأخته إقليميا إلى عدن من أرض اليمن ، وعبادة النار ، وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش ، حتى أغرقهم الله بالطوفان . والله أعلم بصحة ذلك . قال الزمخشري(1): وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون ، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر . وروى ميمون بن مهران عن بن عباس أنه قال : من قال أن آدم قال الشعر فهو كذب ، ورمى آدم بما لا يليق بالنبوة ، لأن محمدا أو الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كلهم في النفي عن الشعر سواء ، قال تعالى(2): "وما علمناه الشعر وما ينبغي له .." )(3)
__________
(1) . الكشاف : 1/626
(2) . سورة يس : 68
(3) . البحر المحيط : 3/467(1/73)
ولما كان أبو حيان وقافا عند نصوص القرءان وصحاح السنة النبوية فإنه كان يزهد في هذه المرويات ويرى ضرورة تنزيه كتب التفسير عنها لأنها مما لا يضر الجهل بها ، ولا ينفع العلم بها ، وخاصة ما لا يدخل تحت مضمون النص القرءاني ، ويتضح هذا مما قاله في تفسير قوله تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .. " سورة البقرة :126
حيث قال : ( ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ، ومن أي شيء كان باباه ، وكم مرة حجه آدم ، ومن أي شيء بناه إبراهيم ، ومن ساعده على البناء ..قصصا كثيرة ، واستطردوا من ذلك لكلام في البيت المعمور ، وفي طول آدم والصلع الذي عرض له ولولده ، وفي الحجر الأسود ، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرءان ، ولا الحديث الصحيح ، وبعضها يناقض بعضا ، وذلك جريا على عادتهم في نقل ما دب ودرج ، ولا ينبغي أن يعتمد إلا ما صح في كتاب الله وسنة رسوله . قال ابن عطية : والذي يصح في هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع قواعد البيت(1).
قال أبو حيان : ونشاحه في قوله : " أمر " إذ لم يأت النص بأن الله أمر بذلك ..)(2)
فهذه المشاحة من أبي حيان لابن عطية عندما حمل النص ما لا يحتمله ظاهره ، تنبئ عن مدى حرص أبي حيان على الوقوف عند دلالة النص القرءاني ، وعدم مجاوزته فيما قل أو كثر إلى ما لا يحتمله من معنى.
__________
(1) . ابن عطية ، المحرر الوجيز ، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد ، دار الكتب العلمية ، لبنان ط1 ، 1993م ، ج1/210
(2) . البحر المحيط : 1/387(1/74)
3 ـ كما كان أبو حيان شديد اليقظة والتنبه لكل رواية من الروايات الإسرائيلية التي لها أدنى علاقة بما فيه غض من مقام النبوة ، وكان يصرح بأنه كان يجعل من عقله مصفاة لهذه الأخبار ، وإن كنا لا نوافقه في تحكيم العقل في كل شيء ، لأن العقل محدود ، و لا يمكن أن يكون حكما وحده في عالم الغيب وعالم الشهادة على حد سواء ، وإنما كان أكثر ما يرده من هذه المرويات من جهة العقل ، لأنه كان قليل البضاعة في علوم الحديث قليل الدراية بمسائله ، ولكنه يبقى مع ذلك أطول باعا من الزمخشري .
ففي تفسير قوله تعالى : " .. وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب " سورة ص: 23
قال أبو حيان ( ...ويعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منه ضرورة ، إذ لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع ، ولم نثق بشيء مما يذكروه أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على مراده وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة طرحناه ، ونحن كما قال الشاعر :
ونؤثر حكم العقل في كل شبهة إذا آثر الأخبار جلاس قصاص . )(1)
وذهب إلى أبعد من هذا في تفسير قوله تعالى : "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" سورة ص: 33
__________
(1) . البحر المحيط : 7/393(1/75)
حيث قال: ( نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها في كتبهم ، وهي مما لا يحل نقلها ، وإنما هي من أوضاع اليهود والزنادقة ، ولم يبين الله الفتنة ما هي ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان ، وأقرب ما قيل فيه أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال فيه : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن ، فلم تحمل إلا واحدة ، وجادت بشق رجل ، قال(1)رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون.)(2)
4 ـ وكان أبو حيان إلى جانب كل ذلك يزهد في الإشتغال بالإسرائيليات ، وينفر منها حتى وإن كانت لا تمس بالدين ، ويرى بأن على المفسر ألا يصرف جهده إلا فيما هو صحيح نقله ، نافع العلم به ، وما زاد عن ذلك وجب طرحه .
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" سورة النمل:84
قال أبو حيان : ( والظاهر أن الدابة التي تخرج واحدة ، وروي أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض وليست واحدة فيكون قوله "دابة" إسم جنس. واختلفوا في ماهيتها ، وشكلها ، ومحل خروجها ، وعدد خروجها ، ومقدار ما تخرج منها ، وما تفعل بالناس وما الذي تخرج به .. اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا ، ويكذب بعضه بعضا ، فاطرحنا ذكره ، لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله . )(3)
__________
(1) . رواه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب الجهاد ، باب من طلب الولد للجهاد ، انظر فتح الباري : 6/27
(2) . البحر المحيط : 7/397
(3) . البحر المحيط : 7/69(1/76)
وبهذا يتضح لنا من خلال مسلك أبي حيان الأندلسي في نقد هذه الإسرائيليات وتزييفها والتزهيد فيها أن تفسيره البحر المحيط يعد أنقى وأرقى من تفسير الكشاف في هذه الناحية ، بل يعتبر أرجح من كثير من التفاسير المقلة من هذا النوع من المرويات ، لما فيه من تعقيبات وتنبيهات نحسبه لم يسبق إليها .
ومع ذلك كله لم يسلم تفسير أبي حيان من بعض الروايات الباطلة والمكذوبة ـ على قلتها ـ وإن كانت مما لا مساس لها بالعقيدة أو الملة بصفة عامة ، بل هي مما لا يغني العلم به ولا يضر الجهل به ، كالقصة الواردة في أخبار إرم ذات العماد(1)، والحديث المكذوب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام في منامه(2)، وتلك لازمة بشرية لا ينجو منها إلا من خصه الله بمقام العصمة .
الفصل الرابع
مسلكهما في عرض أسباب النزول القرآني
المبحث الأول
مسلك الزمخشري في عرض أسباب النزول القرآني
ولما كان أسباب النزول القرآني مما يتلقى بالرواية خلفا عن سلف ، إبتداء بالصحابة والتابعين فمن جاء بعدهم ، وأنه ليس مما يدرك بالنظر والإجتهاد ، فإن العلماء قد سلكوه في زمرة التفسير بالمأثور ، ومن هنا رأينا أن نتحدث عنه في هذا الباب فنقول :
رجع الزمخشري إلى أسباب النزول في تفسيره لكثير من آيات القرآن الكريم ، وكان مسلكه في ذلك يقوم على ما يأتي :
1 ـ حذف الإسناد والسكوت عن المصادر .
2 ـ الإختصار والتصرف في قصص سبب النزول.
3 ـ قلة النقد والتعقيب على الروايات .
وفيما يأتي بيان ذلك بشيء من التفصيل.
__________
(1) . البحر المحيط : 8/469
(2) . البحر المحيط : 5/279(1/77)
1 ـ حذف الإسناد : سكت الزمخشري عن أسانيد الروايات التي أوردها في أسباب النزول القرآني ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك ، فلم يذكر مصدرا أو مرجعا من مراجعه في ذلك ، وإنما يكتفي بقوله "روي" أو " قيل" في صدر كل رواية ، مما يقلل من أهمية ما يرويه ويضعف من قيمته العلمية . لأن أسباب النزول القرآني مما يتلقى بالنقل والرواية ، ولا مدخل فيه للعقل والاجتهاد .
مثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج.." سورة البقرة :188
قال الزمخشري: ( وروي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ، لا يكون على حالة واحدة ؟ فنزلت .)(1)
وفي تفسير قوله : " ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا .. " سورة الرعد : 32
قال الزمخشري : ( وقيل إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سير بقرءانك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع ، كما سخرت لداود ـ عليه السلام ـ إن كنت نبيا كما تزعم ، فلست أهون على الله من داود ، وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ، ثم نرجع في يومنا ، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان ـ عليه السلام ـ أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا ، منهم قصي بن كلاب ، فنزلت . )(2)
وهكذا سقط الزمخشري في مرويات باطلة في أسباب النزول ، منها ما هو ظاهر الفساد في متنه ، ومنها ما يعرفه أهل الدراية بأحوال الأسانيد والرجال .
__________
(1) . الكشاف : 1/234
(2) . الكشاف : 2/530 . قال فيه ابن حجر : لم أجده بهذا السياق ، انظر الكافي الشاف . بالهامش : 3 من الصفحة نفسها من تفسير الكشاف .(1/78)
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون " سورة البقرة : 13
قال الزمخشري : ( وروي أن عبد الله بن أبي وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال عبد الله : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بالصديق سيد مني تيم ، وشيخ الإسلام ، وثاني رسول الله في الغار ، الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد علي فقال : مرحبا بابن عم رسول الله ، وختنه ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله . ثم افترقوا فقال لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فأثنوا عليه خيرا ، فنزلت . )(1)
قال ابن حجر : ( أخرجه الواحدي في الأسباب من رواية السدي الصغير ، ومحمد بن مروان ، عن أبي صالح عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : نزلت هذه الآية في عبد الله وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم .. فذكره ، وفي آخره : فرجعوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزلت . ومحمد بن مروان متروك متهم بوضع الحديث ، وسياقه في غاية النكارة .)(2)
فابن حجر يرى أن سند هذا الخبر ساقط ، كما أن متن القصة في غاية النكارة ، وذلك من عدة وجوه .. من ذلك البساطة في استغفال عبد الله بن أبي لهؤلاء الصحابة بهذه العبارات بما يصور لنا درجة من السداجة كانوا عليها ، وهم بعيدون عن ذلك . ومنها أن نزول هذه الآية من مطلع سورة البقرة كان في أوائل الهجرة ، وزواج علي بفاطمة رضي الله عنهما جاء متأخرا عن ذلك .
__________
(1) . الكشاف : 1/65
(2) . الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف هامش : 1 على الكشاف : 1/65(1/79)
ومع ذلك فقد ذكر هذا السبب الثعلبي ، وتبعه الواحدي ، وتبعهما الزمخشري ، ولم ينبه واحد منهم على ما فيه ، إلا أن السيوطي رواه في الدر المنثور ، وقال : بسند واه(1)، وهو محق في ذلك ، وقد وصف ابن حجر هذا السند بقوله : ( هو سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب ، وآثار الوضع عليه لائحة . )(2)
ونجد الزمخشري في هذا الجانب يخرج أحيانا عن المألوف في فن الرواية وأحكامها بما يدل على بعده عن هذا الشأن ، ومن ذلك مثلا ما ذكره في سبب نزول قوله تعالى : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " سورة القمر : 45
حيث قال الزمخشري : ( وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر فتقدم في الصف ، وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت " سيهزم الجمع .. " )(3)
والمعروف في علم الرواية ـ إذا سلمنا بصحة هذه القصة ـ أن يسند الرواية إلى من رواها ونقلها من المسلمين ، لأنها رواية كافر ، فلا تجوز عن نفسه أو عن غيره ، أو على الأقل أن يقول الزمخشري : وروي أن أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر .. أما أن يقول : وعن أبي جهل ، فلم يسبقه إلى هذا الصنيع أحد من أهل الرواية .
أما ما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية فإن المشهور منه هو ما رواه الطبري وابن كثير وغيرهما أن هذه الآية وما بعدها نزل بمكة ـ أي قبل بدر بأعوام ، من ذلك ما نقله ابن كثير في تفسيره وغيره مما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : نزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ، وإني لجارية ألعب " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر "(4).
__________
(1) . السيوطي ، الدر المنثور في التفسر بالمأثور : 1/31
(2) . محمد أبو شهبة ، الإسرائيليات والموضوعات في التفسير ، مكتبة السنة ، القاهرة ط4 ، 1407هـ ، ص: 312
(3) . الكشاف : 4/441
(4) . انظر : ابن كثير ، تفسير القرءان العظيم : 6/281(1/80)
كما أخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال : لما نزلت " سيهزم الجمع ويولون الدبر " قال عمر : أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟ ، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يثب في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، فعرفت تأويلها يومئذ . )(1)
مما يستبعد معه نزول هذه الآية وما بعدها يوم غزوة بدر ، وهو ما بنى عليه الزمخشري تفسير الآية المذكورة .
ومثل هذا ما ذكره في سبب نزو ل قوله تعالى : " الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين و إرصادا لمن حارب الله ورسوله .. " سورة التوبة : 108
قال الزمخشري : ( روي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتيهم ، فاتاهم فصلى فيه ، فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وقالوا نبني مسجدا ، ونرسل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي فيه ، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم ، وهو الذي سماه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفاسق ، وهو الذي قال لرسول الله يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلا يزال يقاتله إلى يوم حنين .. )(2)
وواضح من سياق القصة على هذا النحو أنها باطلة من وجوه ، ويكفي أن نورد وجها واحدا ، وهو ما ذكره ابن حجر حيث قال : ( لم أجده بهذا السياق إلا في الثعلبي بلا إسناد ، وليس صدره بصحيح ، فإن مسجد قباء كان قد أسس والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقباء أول ما هاجر ، وبني مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك ، فبينهما تسع سنين . )(3)
__________
(1) . المصدر نفسه : 6/281 . ومثله عند الطبري .
(2) . الكشاف : 2/309
(3) . الكافي الشاف : بالهامش : 3 على الكشاف : 2/309(1/81)
2 ـ الإختصار والتصرف ، تارة بالحذف والزيادة ، وتارة برواية قصة سبب النزول بالمعنى ، وهو في كل ذلك لا يخلو أن يكون متأثرا بمواقف سابقة من القصة ، والمعنى الذي يريد أن يوجه إليه الآية ، مما أوقعه في تحميل بعض الآيات من المعاني البعيدة والفاسدة التي كان ينبغي أن ينزه تفسيره عنها .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .. " سورة الأحزاب : 37
قال الزمخشري : ( " أمسك عليك زوجك " أي زينب بنت جحش رضي الله عنها ، وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبصرها بعدما أنكحها إياه ، فوقعت في نفسه ، فقال : سبحان مقلب القلوب ، وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها ، ولو أرادتها لاختطبها ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها ، والرغبة عنها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال لرسول الله : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مالك ، أرابك شيء منها ؟ قال : لا والله ، ما رأيت منها إلا خيرا ، ولكنها تتعظم علي لشرفها ، وتؤذيني ، فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ، ثم طلقها بعد ، فلما اعتدت قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك ، اخطب علي زينب ، قال زيد فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها ، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكرها ، فوليت ظهري ، وقلت يا زينب ، ابشري إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطبك ، ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرءان . )(1)
__________
(1) . الكشاف : 3/540(1/82)
فلا يخفى ما في هذه القصة من زيادات هي من وضع بعض الزنادقة ، لما فيها من أوصاف لا تليق بأبسط المؤمنين ، فكيف بالمعصوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما أن الواقع يكذبها ، ولذلك قال ابن حجر في تخريج أصل القصة : ( ذكره الثعلبي بغير سند ، وأخرج الطبري معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وفي الصحيحين عن أنس قصة زيد مختصرة ، وليس فيها مما في أوله . )(1)
ولما تعلق الزمخشري بهذه الزيادات الفاسدة في سبب نزول هذه الآية ، فإنه ذهب مذهبا فاسدا أيضا في فهم أجزاء الآية وتوجيهها .
قال الزمخشري : ( فإن قلت : ما الذي أخفى في نفسه ؟ قلت تعلق قلبه بها ، وقيل مودة مفارقة زيد إياها .. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لو كتم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية(2).
__________
(1) . الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ، الهامش : 1 على الكشاف : 3/541
(2) . أخرجه الترمذي في كتاب التفسير ، سورة الأحزاب ، حديث رقم : 3261 وقال : حديث حسن صحيح .(1/83)
ولم يقف الزمخشري عند هذا حتى راح يتكلف في توجيه سياق الآية لكي يستقيم أولها مع آخرها فقال : ( فإن قلت : فماذا أراد الله منه أن يقوله ، حين قال له زيد : أريد مفارقتها ، وكان من الهجنة أن يقول له : افعل ، فإني أريد نكاحها ؟ قلت : كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك ، أو يقول له : أنت أعلم بشأنك ، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته ، لأن الله يريد من الأنبياء تساوي الظاهر والباطن ، والتصلب في الأمور ، والتجاوب في الأحوال ، والاستمرار على طريقة مستتبة ، كما جاء في حديث إرادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل عبد الله بن أبي السرح ، واعتراض عثمان بشفاعته له ، أن عمر قال له : لقد كان عيني على عينك ، هل تشير إلي فأقتله ، فقال : إن الأنبياء لا تومض ، ظاهرهم وباطنهم واحد . )(1)
ومهما تكلف الزمخشري في ربط آخر الآية بأولها بناء على ما ذهب إليه في سبب نزول الآية ، فإنه في حقيقة الأمر قد جانب الصواب ، ولا ندري كيف يوفق بين طرفي قوله تعالى " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " إذا كان الذي يخفيه هو حبه لزينب ، والذي يريد الله تعالى إبداءه هو الحكم الشرعي المتعلق بإبطال التبني وآثاره في الحياة الإجتماعية وليس حبه لزينب ، فلا شك أن طرفي الآية لا يأتلفان إلا إذا فهمنا أن الذي كان يخفيه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ، هو الحرج المترتب على كسر تلك العادة المستحكمة في المجتمع يومئذ ، والمتعلقة بالتبني ، ولو كان الذي يخفيه هو مجرد حبه لها ، وتطلعه إلى زواجه منها لما كان هذا الشطر من الآية متناسقا مع ما يأتي من الآيات الكريمة . وإن كان الزمخشري قد دافع عما ذهب إليه بعد ذلك في كلام مطول ، وبنظرة لا تخلو من ثأثر ظاهر بمذهبه الاعتزالي في التحسين والتقبيح العقليين(2).
__________
(1) . الكشاف : 3/541 . والحديث قال فيه ابن حجر : لم أجده . انظر الهامش : 4 الصفحة نفسها .
(2) . انظر الكشاف : 3/542 وما بعدها(1/84)
والذي نراه أن لو وقف الزمخشري عند ما صح واشتهر من سبب نزول هذه الآية لكفى نفسه هذا الدفاع ، وهذا التكلف الذي لا تدعو إليه الحاجة ، لأنه يتورك على رواية ظاهرة الفساد ، واتخذ منها أعداء الدين سلاحا حادا للنيل من شخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والطعن فيه .
وفي تفسير قوله تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " سورة القصص : 56
نجد الزمخشري يروي سبب نزول الآية بالمعنى مع تصرف كبير في نص القصة ، وهو في ذلك ناقل عن " معاني القرءان " للزجاج فيقول :
( قال الزجاج : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند موته : يا معشر بني هاشم ، أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا ، ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك ؟ قال : فما تريد يا ابن أخي ؟ قال : أريد منك كلمة واحدة ، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا ، ، أن تقول " لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله ، قال : يا بن أخي ، قد علمت إنك لصادق ، ولكني أكره أن يقال ، خرع عند الموت ، ، ولولا أن تكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي ، لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ ، عبد المطلب ، وهاشم ، وعبد مناف . )(1)
وقد علق ابن حجر على هذه القصة بقوله : ( لم أجده ، وقصة وفاة أبي طالب في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن ابنه بغير هذا السياق ، أو أخصر منه . )(2)
3 ـ قلة تعقيبه على الأخبار التي يرويها في أسباب النزول ، وعدم تحقيقه في تاريخ النزول ومدى مطابقته للسبب المذكور، وهو في ذلك ناقل وتابع لبعض من سبقه ، كما أنه يلفق رواية في أخرى دون أن ينص على ذلك ، مما أوقعه في أكثر من خطإ في الموضع الواحد.
__________
(1) . الكشاف : 3/422
(2) . الكافي الشاف ، بالهامش : 3 على الكشاف : 3/422(1/85)
من ذلك ما أورده في سبب نزول قوله تعالى : " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه.." سورة طه:131
حيث قال : ( وعن عبد الله بن قسيط عن رافع قال: بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يهودي وقال : قل له يقول لك رسول الله أقرضني إلى رجب ، فقال والله لا أقرضته إلا برهن ، فقال رسول الله : إني لأمين في السماء ، وإني لأمين في الأرض ، احمل إليه درعي الحديد ، فنزلت " ولا تمدن عينيك.." )(1)
وإذا رجعنا إلى جامع البيان للطبري وجدنا رواية عبد الله بن قسيط عن أبي رافع ما نصه : ( قال أرسلني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يهودي يستسلفه ، فأبى أن يعطيه إلا برهن ، فحزن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله : " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم .." )(2)
فنلاحظ البون الشاسع بين الروايتين من حيث اللفظ ، وما يتبعه من تغيير في المعنى ، بل وحتى من حيث السند.
ولذا طعن أبن حجر في الرواية من وجهين :
الوجه الأول : أن الرواية التي اعتمدها الزمخشري في سندها موسى بن عبيدة الزيدي ، وهو متروك.
الوجه الثاني : أن هذه الآية من سورة طه ، وهي مكية كلها عند أهل العلم ، وهذه القصة إنما وقعت في المدينة كما في الصحيح ، وهي كذلك في رواية الطبري ، فلا أدري لماذا أسقط الزمخشري كلمة " المدينة " في روايته ؟
__________
(1) . الكشاف : 3/98 ـ 99
(2) . جامع البيان : 9/292(1/86)
وأما الرواية التي هي قريبة من حيث اللفظ إلى ما أورده الزمخشري فهي عن يعقوب بن يزيد عن أبي رافع قال : نزل برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضيف فأرسلني إلى يهودي بالمدينة يستسلفه فأتيته ، فقال لا أسلفه إلا برهن ، فأخبرته بذلك ، فقال : إني لأمين في أهل السماء وفي أهل الأرض ، فاحمل درعي إليه . فنزلت(1): ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " وقوله(2)" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم.."(3)
وعلى عادة الزمخشري نجده يورد روايات في غاية الضعف والغرابة ، بعضها من وضع غلاة الشيعة ، وبعضها الآخر من وضع الزنادقة والملحدين ، ولكنه يمر عليها وكأنها من المرويات المتواترة ، بل و يصدرها بصيغة توهم الجزم بصحتها .
من ذلك قصة النزول التي ارتبطت عند بعض المفسرين بقوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيء إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته.. " سورة الحج : 52
__________
(1) . سورة الحجر : 87
(2) . سورة طه : 129
(3) . المصدر نفسه :9/292(1/87)
وأقصى ما فعله الزمخشري في هذا الموضع أنه روى سبب النزول بالمعنى ، وتصرف في نص القصة بالحذف والزيادة بما يجعلها أقرب للصحة والقبول فقال : ( والسبب في نزول هذه الآية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أعرض عنه قومه وشاقوه ، وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به ، تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ، ولحرصه وتهالكه على إسلامهم ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم ، فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة "والنجم" وهو في نادي قومه ، وذلك التمني في نفسه ، فأخذ يقرؤها ، فلما بلغ قوله(1)" ومناة الثالثة الأخرى " ألقى الشيطان في أمنيته التي تمناها ، أي وسوس إليه بما شيعها به ، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى " ـ وروي الغرانقة ـ ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه . وقيل نبهه جبريل ـ عليه السلام ـ أو يكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم ، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء زاد المنافقون به شكا وظلمة ، والمؤمنون نورا وإيقانا )(2)
فإذا كان الزمخشري قد قبل هذه الرواية ، وفسر الآية في ضوئها ، دون أدنى إشارة لمقالات أهل العلم فيها ، فإن أبا حيان قد ردها ، ناقلا أقوال النقاد والمحدثين القاضية ببطلانها.
ومما نقله من مرويات غلاة الشيعة ما جاء في تفسير قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " سورة المائدة : 55
__________
(1) . سورة النجم : 20
(2) . الكشاف : 3/164(1/88)
قال الزمخشري ( .. وإنها نزلت في علي ـ كرم الله وجهه ـ حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فطرح له خاتمه ، كأنه كان مرجا في خنصره ، فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله الصلاة . فأن قلت كيف صح أن يكون لعلي رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع ، وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ، ليرغب الناس في مثل فعله ، فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان ، وتفقد الفقراء ، حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخروه إلى الفراغ منها.)(1)
وزيادة على كون القصة باطلة ومصطنعة في رأي كثير من أهل العلم(2)، فإن الزمخشري حاول أن يلصق بها معنى الآية ، ويحملها عليها ولو بالباطل ، وهذا واضح من قوله : كأنه كان مرجا في خنصره ... هي زيادة من عنده ليغطي على جانب من جوانب الضعف في القصة ، وكذا قوله : ليرغب الناس في مثل فعله.. حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخروه إلى الفراغ منها .. فهو كلام يحتاج إلى دليل على مشروعيته من جهة ، ويحتاج إلى نقل صحيح عن علي رضي الله عنه ، ولا أحسب أنه يقع من علي رضي الله عنه مثل ذلك(3).
__________
(1) . الكشاف : 1/649
(2) . قال ابن تيمية : ( .. وحديث علي الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة ، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم . ) انظر : مقدمة في أصول التفسير : 31
(3) . انظر في تفصيل الرد على هذا الحديث وكشف زيفه ابن تيمية ، منهاج السنة النبوية ، دار الكتب اللبنانية ، بيروت : ج4/3(1/89)
ومن خلال هذه الأمثلة السابقة يتضح أن مسلك الزمخشري في عرض أسباب النزول في تفسيره الكشاف لم يكن أحسن صنيعا مما فعله في الجوانب السابقة من التفسير بالمأثور ، حيث كان هذا المبحث أيضا يعكس لنا قصر باع الزمخشري في جانب التفسير بالنقل ، وهو أحد نواحي النقص والضعف في تفسيره الكشاف ، علما بأن من فاته العلم بأسباب النزل القرءاني فاته فهم شيء غير قليل من القرءان ، لأن معرفة السبب تورث فهم المسبب .
المبحث الثاني
مسلك أبي حيان في عرض أسباب النزول القرآني
اهتم أبو حيان بأسباب النزول القرآني ، ورجع إليه في تفسير كثير من آيات القرآن الكريم ، وكان منهجه يقوم على ما يأتي:
ـ حذف الإسناد مع الإحالة على المصدر.
ـ الميل للإنتقاء و الإختصار .
ـ الإهتمام بتمحيص الروايات ونقدها ، والوقوف عند الصحيح منها.
ـ والأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وفيما يأتي تفصيل ذلك :
1 ـ حذف الإسناد مع الإحالة على المصدر: كان أبو حيان يحذف الأسانيد في مروياته طلبا للإختصار ، و إكتفاء بالإحالة على المصادر المشهورة والمعتمدة في هذا الجانب ، وهذا ما درج عليه في تعامله مع أغلب ما أورده أسباب النزول .
ويأتي في مقدمة مراجعه هنا كتاب "التفسير" من الجامع الصحيح للبخاري ، والجامع الصحيح لمسلم بن الحجاج ، فكان ينقل عنهما دون تلخيص أو تصرف.
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .." سورة البقرة : 186(1/90)
قال أبو حيان : ( سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري عن البراء : لما نزل صوم رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فنزلت(1)، وقيل كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل له قبل إلى القابلة ، وإن عمر وكعبا الأنصاري وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر ، وأصبح صائما فغشي عليه عند انتصاف النهار ، فذكر ذلك للنبي ـ صلى اللع لعيه وسلم ـ فنزلت )(2)
وفي تفسير قوله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.." سورة البقرة :221
قال أبو حيان : ( في البخاري ومسلم(3)أن اليهود كانت تقول في الذي يأتي امرأته في دبرها أن الولد يكون أحول ، فنزلت ، وقيل سبب نزولها كراهة نساء الأنصار ذلك لما تزوجهم المهاجرون ، وكانوا يفعلون ذلك بمكة يتلذذون بالنساء مقبلات ومدبرات ، روى الحاكم في صحيحه : وقيل سبب ذلك أن بعض الصحابة قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هلكت ، قال : وما الذي أهلكك ؟ قال حولت رحلي ، فنزلت . )(4)
ومثل ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين .." سورة البقرة : 61
__________
(1) . البخاري ، الجامع الصحيح : كتاب التفسير ، باب أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، انظر فتح الباري : 8/146
(2) . البحر المحيط : 2/48
(3) . البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب التفسير ، باب : نساؤكم حرث لكم ، انظر فتح الباري : 8/152
(4) . البحر المحيط : 2/170(1/91)
قال أبو حيان :( نزلت في أصحاب سلمان ، وذلك أنه صحب عبادا من النصارى ، فقال له أحدهم إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فآمن به ، ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر له خبرهم ، وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية . حكى هذه القصة مطولة ابن إسحاق ، والطبري(1)، و البيهقي . وروى ابن عباس أنها نزلت في أول الإسلام وقدر الله بها أن من آمن بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره ، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله(2)" ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ". )(3)
وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وروى الواحدي بإسناد متصل إلى مجاهد قال : لما قص سلمان على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة أصحابه وقال له هم في النار ، قال سلمان : فأظلمت علي الأرض فنزلت ..إلى "يحزنون". قال فكأنما كشف عني جبل )(4)
2 ـ ميله للإيجاز والاختصار: حيث كان يتحاشى الإسهاب والتطويل الذي درج عليه بعض من سبقه من المفسرين ، وكان من باب الأمانة العلمية يبين في كل موضع ما نقله نصا وما نقله اختصارا ، وهو في كل هذا الإنتقاء والإختصار إنما يقتصر على ما يراه أنه الأصح والأشهر عند أهل العلم .
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير.." سورة البقرة : 215
__________
(1) ، جامع البيان : 1/458 ـ 460
(2) . سورة آل عمران : 84
(3) . البحر المحيط : 1/240
(4) . البحر المحيط : 1/240(1/92)
حيث قال : ( طول المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدة أوراق ، وملخصها وأشهرها أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش حين بعثه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثمانية معه ..يترصدون عير قريش ببطن نخلة فوصلوها ، ومرت العير فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم ، وهو أول يوم من رجب ، فرمى وافد عمرا بسهم فقتله ، وكان أول قتيل من المشركين ، وأسر الحكم وعثمان ، وكانا أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل ، وقدموا بالعير إلى المدينة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، وأكثر الناس في ذلك ، فوقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العير ، وقال أصحاب السرية : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، فنزلت الآية ..)(1)
ولكن ما يؤخذ على أبي حيان في هذا الموضع أنه كان أحيانا يميل إلى الإختصار الشديد الذي لا يفي بالغرض بحيث يكتفي بذكر مطلع القصة أو موضوعها ، ويسكت عن كثير من التفاصيل التي تذهب معها عظات ودروس مهمة ، وذات علاقة ببعض ما أجمل في النص القرآني ، مما يجعل حذفها يخل بتفسير الآية ، أو ربما كل السورة ، ولا يستطيع القارئ أن يلم بمعنى الآية عندئذ إلا إذا استعان بمصادر أخرى مما قد أحال عليها أبو حيان ككتب السنة والسير وغيرها من تفاسير المتقدمين .
من ذلك ما جاء في تفسير سورة البروج حيث قال : ( وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالا فوق العشرة ، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا ، ومضمونها أن ناسا من الكفار خدوا أخدودا في الأرض وسجروا نارا ، وعرضوا المؤمنين عليها ، فمن رجع عن دينه تركوه ، ومن أصر على إيمانه أحرقوه ، وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين.)(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 2/170
(2) . البحر المحيط : 8/451(1/93)
والمشهور من قصة أصحاب الأخدود أكثر من هذا بكثير(1)، وفيها من العظات الإيمانية والدينية ما يزيد آيات السورة وضوحا وتأثيرا في النفس ، وهو غرض من أغراض المفسر لكتاب الله تعالى .
3 ـ الإهتمام بتمحيص الروايات ونقدها ، والوقوف عند الصحيح منها: حيث كان أبو حيان ينقل أسباب النزول ، ثم يكر على الضعيف منها فيعلن فساده ، ويحذر من تداوله ونقله ، ويعتبره من المآخذ التي يسجلها على من سبقه من المفسرين .
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " سورة الأحزاب :37
حيث ذكر الأقوال التي تناقلها المفسرون في سبب نزول الآية ، ثم اختار منها ما روي عن الحسين بن علي أنه قال : كان قد أوحى الله إليه أن زيدا سيطلقها ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها ، فلما شكا زيد خلقها ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد تطليقها ، قال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ـ على طريق الأدب والوصية ـ وهو يعلم أنه سيطلقها ، وهذا هو الذي أخفى في نفسه ، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق . ولما علم من أنه سيطلقها وخشي رسول الله أن يلحقه من قول الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه ، وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال : أمسك ، مع علمه أنه يطلق ، فأعلمه الله أنه أحق بالخشية في كل حال .
ثم قال أبو حيان : ( وهذا المروي عن علي بن الحسين هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين كالزهري ، وبكر بن العلاء ، والقشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم . ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة ضربنا عنه صفحا.)(2)
__________
(1) . انظر ابن كثير ، تفسير القرءان العظيم : 7/141 ـ 145
(2) . البحر المحيط : 7/234(1/94)
ومثل هذا أيضا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله .. " سورة البقرة:114
حيث نقل أقوال السلف في سبب نزولها فقال:
(قال الحسن وقتادة : أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاءوا فنسخ ذلك .
وقال مجاهد والضحاك : إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة . وعلى هذا فهي ناسخة لبيت المقدس .
وقال أبو العالية وابن زيد : نزلت جوابا لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .
وقال ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر حيث توجهت به دابته ..
وقيل في الصلاة على النجاشي ، حيث قالوا : لم يكن يصلي إلى قبلتنا ،
وقيل فيمن اشتبهت عليه القبلة في ليلة غائمة، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة . وقد روي ذلك في حديث عن جابر أن ذلك وقع في سرية ، وعن عامر بن ربيعة أن ذلك جرى مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السفر . ولو صح ذلك لم يعدل إلى ما سواه من هذه الأقوال المختلفة و المضطربة.
ثم قال أبو حيان : وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها . وقد صنف الواحدي في ذلك كتابا ، فما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي ألا يشتغل بنقل ذلك . )(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/360(1/95)
ثم يخلص أبو حيان بعد كل تلك الأقوال إلى رأي جديد في معنى تلك الآية استمده من ظاهر الآية وسياقها ومناسبتها لما قبلها فقال : (والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلاة فيها ولا من ذكر الله إذ المغرب والمشرق لله تعالى ، فأي جهة أديتم فيها العبادة ، فهي لله يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد ، والمعنى ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف المعطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفا لهما حيث أضيفا لله تعالى. ..)(1)
وفي قوله تعالى : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس .." سورة المائدة : 69
قال أبو حيان : ( قال محمد بن كعب القرضي : نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقتله ، انتهى ، وهو غورت بن الحرث ، وذلك في غزوة ذات الرقاع .
وروى المفسرون(2)أن أبا طالب كان يرسل رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله : " والله يعصمك من الناس" فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس ، فلا احتاج إلى من يحرسني .
وقال ابن جريج : كان يهاب قريشا ، فلما نزلت استلقى وقال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثا.
__________
(1) . البحر المحيط : 1/360
(2) . القرطبي ، الجامع لأحكام القرءان ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1985م ، ج9/244(1/96)
وروى أبو أمامة حديث ركانة ـ وكان مشركا ـ وكان أفتك الناس وأشدهم ، تصارع هو والرسول ، فصرعه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثا(1)، ودعاه إلى الإسلام فسأله آية ، فدعا الشجرة فأقبلت إليه وقد انشقت نصفين ، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت ، فالتمسه أبو بكر وعمر ، فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة ، فسارا نحوه واجتمعا به ، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة ، فأخبرهما خبره وضحك ، وقرأ : "والله يعصمك من الناس" . وهذا وما قبله يدل على أن ذلك نزل بمكة ، أو في ذات الرقاع ، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول مقيم بها شهرا ، وحرسه سعد وحذيفة ، فنام حتى غط ، فنزلت فأخرج إليهما رأسه من قبة أدم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله(2)، لا أبالي من نصرني ومن خذلني .
وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم. وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل الآية نزلت بعد أحد ، وأما إن كانت قبله ، فلم تتضمن العصمة هذا الإبتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول ، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر ، وأما مثل هذا ففيه الإبتلاء الذي فيه رفع الدرجات ، واحتمال كل أذى دون النفس في ذات الله ، وابتلاء الأنبياء أشد وما أعظم تكليفهم . )(3)
__________
(1) . وعند ابن كثير : ( وقد قيل إن أبا الأشدين واسمه كلدة بن أسيد بن خلف .. وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد من تحت قدميه ولا يتزحزح عنه ، قال السهيلي : وهو الذي دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته ، وقال إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلى الله عليه مرارا فلم يؤمن ، قال : وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب . ) تفسير القرءان العظيم : 7/89
(2) . أخرجه الترمذي ، كتاب التفسير ، سورة المائدة ، وقال : هذا حديث غريب . حديث رقم : 5037
(3) . البحر المحيط : 3/530(1/97)
4 ـ الأخذ بعموم المعنى لا بخصوص السبب : وهو بذلك لا يعني إهمال أثر أسباب النزول في إيضاح المعاني وبيان الراجح منها ، بل كثيرا ما كان يحتكم لأسباب النزول في فض نزاع أو دفع تعارض ، أو تقديم الحقيقة على المجاز ، أو عكس ذلك.
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى.." سورة البقرة : 188
حيث نقل مختلف الأقوال في سبب نزولها ثم قال : ( وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية رادا على من جعل إتيان البيوت من ظهورها برا ، آمرا بإتيان البيوت من أبوابها ، وهذه أسباب تضافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة ، وأن الإتيان هو المجيء إليها ، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز ، مع مخالفة ما تضافر من هذه الأسباب.)(1)
في حين نجد الزمخشري يقفز على هذه الأسباب ويورد احتمال المجاز ولو من غير قرينة توجب صرف الكلام عن حقيقته ، فقال : ( ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره ، والمعنى : ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ، ولم يجسر على مثله ، ثم قال : " وأتوا البيوت من أبوابها " أي وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطين النفوس ، وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك ، حتى لا يسأل عنه ، لما في السؤال من الإتهام بمفارقة الشك " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون "(2). )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " سورة البقرة :167
__________
(1) . البحر المحيط : 2/63
(2) . سورة الأنبياء : 23
(3) . الكشاف : 1/234(1/98)
قال أبو حيان ( قال الحسن: نزلت في كل من حرم على نفسه شيئا لم يحرمه الله عليه. وروى الكلبي و مقاتل و غيرهما أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب ، قاله النقاش . وقيل في ثقيف ، وخزاعة ، وعامر بن صعصعة . قيل وبني مدلج حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام . فإن صح هذا كان السبب خاصا واللفظ عاما ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.)(1)
وإذا رجعنا إلى الكشاف للزمخشري في تفسير هذه الآية وجدناه يعالج منها الناحية اللغوية والإعرابية والقراءات ، ويكتفي بذلك ، دون أن يذكر شيئا من أسباب نزولها ، لا باللفظ ولا بالمعنى ، وهذا قد يخل بتفسير الآية أو ينقص منه ، لأن معرفة سبب النزول يورث معرفة المسبب .
قال الزمخشري ما نصه : ( " حلالا "مفعول " كلوا" أو حال مما في الأرض " طيبا " طاهرا من كل شبهة " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " فتدخلوا في حرام أو شبهة ، أو تحريم حلال ، أو تحليل حرام ، ومن للتبعيض ، لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول . وقرئ " خطوات " بضمتين ، وخطوات بضمة وسكون . و " خطؤات " بضمتين وهمزة ، جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو . وخطوات بفتحتين ، وخطوات بفتحة وسكون . والخطوة : المرة من الخطو ، والخطوة ما بين قدمي الخاطئ ، وهما كالغرفة والغرفة ، والقبضة و القبضة ، يقال : اتبع خطواته ، ووطئ على عقبه : إذا اقتدى به واستن بسنته .)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " سورة البقرة : 93
__________
(1) . البحر المحيط : 1/478
(2) . الكشاف : 1/213(1/99)
قال أبو حيان : ( قال عكرمة : نزلت في الأنصار أمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، وقال النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله لي فنزلت ، وفي حديث طويل تضمن أن رجلا من المسلمين حمل على صف الروم ودخل فيهم وخرج فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الأنصاري : تأولتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلا فينا نحن معشر الأنصار ، لما أعز الله دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت .
وفي تفسير " التهلكة " أقوال ، أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب . الثاني : ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة ، قاله حذيفة وابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وابن جبير . الثالث : التقحم في العدو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي . الرابع : التصدق بالخبيث ، قاله عكرمة ، الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا .. " السادس : الإنهماك في المعاصي ليأسه من قبول التوبة ، قاله البراء . السابع : القنوط من التوبة قاله قوم . الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله زيد بن أسلم ، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم إلى الانقطاع في الطريق أو إلى كونهم عالة على الناس . التاسع : إحباط الثواب إما بالمن أو الرياء والسمعة كقوله " ولا تبطلوا أعمالكم . )(1)
قال أبو حيان : ( وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية ، والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ، فإن الجهاد في سبيل الله تعالى مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى . )(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 2/70
(2) . البحر المحيط : 2/70(1/100)
وإذا رجعنا إلى الكشاف للزمخشري وجدناه يذكر الأقوال التي نقلها أبو حيان ، ولكنه لم ينسب قولا واحدا لصاحبه ، ثم ذكر سبب النزول المروي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الأنصاري : نحن أعلم بهذه الآية ، وإنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله ـ ص ـ فنصرناه ، وشهدنا معه المشاهد ، وآثرناه على أهالينا أموالنا وأولادنا ، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها ، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال ، وترك الجهاد . )(1)
فنقل الزمخشري سبب النزول ، وقصر معنى " التهلكة " في الآية على قول أبي أيوب رضي الله عنه : فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد . مع أن معنى الآية أشمل من ذلك ، أخذا بالقاعدة الأصولية " العبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب " التي درج عليها أبو حيان في تعامله مع أسباب النزول القرءاني .
ومن خلال ما بيناه في مسلك الزمخشري في عرض أسباب النزول القرءاني وما فيه من نقائص ، ومسلك أبي حيان في هذا الجانب وما تميز به من محاسن عن سابقه ، وما أوردناه في كل ذلك من شواهد ، يتضح مرة أخرى تفوق أبي حيان على الزمخشري ، وتقدمه عليه سواء في دقة النقل والأمانة العلمية في الإحالة على مصادره في هذه المرويات ، أو في تعامله وحسن توظيفه لأسباب النزول في توجيه النص القرءاني وتفسيره .
الفصل الخامس
مسلكهما في مباحث القراءات القرآنية
المبحث الأول
مسلك أبي حيان في القراءات القرآنية
__________
(1) . الكشاف : 1/237(1/101)
ولما كانت القراءات القرآنية مما تتلقاه الأمة خلفا عن سلف ، وأنها مما تلقاه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن جبريل عليه السلام ، عن ربه عز وجل ، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، وأنه لا مدخل فيها للرأي والاجتهاد ، كان من الطبيعي أن ألحق الكلام عن القراءات عند المفسرين بهذا الباب وهو " التفسير بالمأثور " فأقول:
اشتغل كل من أبي حيان والزمخشري بالقراءات القرآنية لما لها من صلة قوية بالمباحث اللغوية والنحوية من جهة ، ولما لها من أثر في توجيه الآيات القرآنية إلى المعاني المحتملة ، وترجيح بعضها على بعض من جهة أخرى ، وما يكون لهذا كله من أثر واضح في اختلاف الفقهاء والمجتهدين ، و معرفة الراجح والمرجوح من أقوالهم ، وفي ما يلي بيان مسلك كل واحد منها في التعامل مع القراءات القرآنية مع الموازنة بينهما، وأبدأ ببيان مسلك أبي حيان في عرض القراءات القرءانية في تفسيره البحر المحيط لما كان لجهد من أثر بارز من هذا الجانب .(1/102)
اهتم أبو حيان في كتابه البحر المحيط بالقراءات القرآنية اهتماما ينبئ عن مدى تمكنه من هذا العلم ونبوغه فيه ، وقد ذكر في المقدمة ابتداء صلته المبكرة بعلم القراءات ، وهو شيء طبيعي ، لأن بلاد الأندلس قد ظلت تحتل الصدارة في العالم الإسلامي في علم القراءات لعدة قرون ، وأغلب الإنتاج العلمي في هذا العلم كان أندلسيا بلا منازع ، ولما انتقل إلى مصر ـ حاضرة العلم يومئذ ـ تلقى فيها مختلف القراءات على جلة من شيوخها ، حتى صار من أعلام هذا الفن . وقد ذكر أسانيده المتصلة إلى القراء السبعة فقال: ( وقد تقدم أني قرأت كتاب الله تعالى على جماعة من المقرئين رحمهم الله تعالى ، وأنا الآن أسند قراءتي القرآن من بعض الطرق .. فأقول : قرأت القرآن برواية ورش ، وهي القراءة التي ننشأ عليها في بلادنا ـ أي الأندلس ـ ونتعلمها في المكتب على المسند المعمر العدل أبي طاهر ، إسماعيل بن هبة الله ، بن علي ، المليجي ، وقرأتها على أبي الجود غياث بن فارس بن مكي المنذري بمصر ، وقرأتها على أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الزيدي بمصر ، وقرأتها على أبي الحسن يحيى بن علي بن أبي الفرج الخشاب بمصر ، وقرأتها على أبي الحسن أحمد بن سعيد بن نفيس بمصر ، وقرأتها على ابن عدي عبد العزيز بن عل يبن محمد ، عرف بابن الإمام بمصر ، وقرأتها على أبي بكر بن عبد الله بن مالك بن سيف بمصر ، وقرأتها على أبي يعقوب بن يوسف بن عمرو بن يسار ـ ويقال يسار الأزرق ـ بمصر ، وقرأتها على أبي عمرو عثمان بن سعيد عدي الملقب بورش بمصر.(1/103)
وقرأتها على أبي عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم بمدينة رسول الله ـ صلى الله لعيه وسلم ـ وقرأ نافع على أبي جعفر يزيد بن القعقاع بمدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرأ يزيد على عبد الله بن عياش بن ربيعة المخزومي بمدينة رسول الله ـ صلى الله لعيه وسلم ـ وقرأ عبد الله على أبي المنذر أبي بن كعب بمدينة رسول الله ـ صلى الله لعيه وسلم ـ وقرأ أبي على رسول الله ـ صلى الله لعيه وسلم .)(1)
ثم قال أبو حيان : ( هذا إسناد صحيح دائر بين مصري ومدني ، فمن شيخي إلى ورش مصريون ، ومن نافع إلى من بعده مدنيون . ومثل هذا الإسناد عزيز الوجود بيني وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة عشر رجلا . وهذا من أعلى الأسانيد التي وقعت لي . وقد وقع لي في بعض القراءات أن بيني وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إثنا عشر رجلا ، وذلك في قراءة عاصم ، وهي القراءة التي ينشأ عليها أهل العراق ، وهو إسناد أعلى ما وقع لأمثالنا ..) ثم ذكر سنده إلى عاصم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .)(2)
كما أفرد أبو حيان كل قراءة من القراءات العشرة بمؤلف مستقل ، وهو عمل لم يسبق إليه ، ثم ألف كتابا جامعا في القراءات وسماه " عقد اللآلئ في القراءات السبع العوالي " على طريقة الشاطبية ، وقد لقيت القبول الواسع عند أهل العلم ، وإن كانت دون الشاطبية في الرواج والشهرة ، فكان يحيل عليه في مواضع كثيرة من تفسيره(3).
وبهذا كان يتبوأ مكانة متقدمة في سلك القراء ، فكان ابن الجزري ينعته في كتابه " منجد المقرئين " بأستاذ القراء ، وترجم له الذهبي في كتابه " معرفة القراء الكبار ، فوصفه بالإمام الأوحد في هذا العلم(4).
__________
(1) . البحر المحيط : 1/11
(2) . البحر المحيط : 1/11
(3) . انظر مثلا البحر المحيط : 3/46 ، 2/317
(4) . انظر : مبحث "مكانته العلمية " في الفصل الرابع من الباب الأول من هذا البحث .(1/104)
وقد تجلى رسوخ أبي حيان في علم القراءات ونبوغه في الجوانب الآتية :
1 ـ معرفته بأعلام المقرئين ومكانتهم ودرجاتهم ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم فمن جاء بعدهم إلى عصره ، وهذا مكنه من فهم مذاهبهم في وجوه وطرق القراءات ، وحسن الدفاع عنهم ضد الطاعنين عليهم بغير علم .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى: " إن البقر تشابه علينا.." سورة البقرة : 69
حيث أحصى القراءات الواردة في هذا المقطع من الآية ، وهي اثنتا عشرة قراءة ، مع نسبة كل قراءة إلى من قرأ بها ، ثم قال : وتوجيه هذه القراءات ظاهر، إلا قراءة ابن أبي إسحاق " تشابهت " فقال بعض الناس : لا وجه لها . وتبيين ما قاله أن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيها ، والماضي لا يكون فيه تاءان ، فتبقى إحداهما وتحذف الأخرى . ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله :" إشابهت والتاء هي تاء البقرة ، وأصله :إن البقرة اشابهت علينا ، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل . أو اشابهت أصله : تشابهت فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل ، فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة صار اللفظ :إن البقرة اشابهت علينا ، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء الفعل ، إذ النطق واحد ، فتوهم أنه قرأ : " تشابهت " ، وهذا لا يظن بأبي إسحاق ، فإنه رأس في علم النحو ، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي ـ مستنبط علم النحو ـ وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم كالفرزدق إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب ، فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها ؟ )(1)
وفي قوله تعالى : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.." سورة النساء : 1
__________
(1) . البحر المحيط : 2/254(1/105)
عرض رأي كل من الزمخشري وابن عطية في القراءات الواردة في الآية واعتراضاتهم على بعض الوجوه من تلك القراءات من منطلق نحوي بحت ، فرد عليهم بقوله : ( وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك ، وأنه يجوز ، وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى(1): " وكفر به والمسجد الحرام " ، وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، و أما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان(2)، فجسارة قبيحة منه ، لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه ، إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغير واسطة ، عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأقرأ الصحابة أبي بن كعب ، عمد إلى ردها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري ، فإنه كثيرا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم . وحمزة رضي الله عنه أخذ القراءة عن سليمان بن مهران الأعمش ، و حمدان بن أعين ، ومحمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر ، وكان حمزة صالحا ورعا ثقة في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين ، وأحكم القراءة وهو ابن خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة ، منهم سفيان الثوري ، والحسن بن صالح ، ومن تلاميذه جماعة ، منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي . وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض . )(3)
__________
(1) .سورة البقرة : 217 ، وفي البحر المحيط : 2/71
(2) . المحرر الوجيز :
(3) ..البحر المحيط : 3/159(1/106)
قال أبو حيان : ( وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه ، لئلا يطلع غمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة ، فيسيء ظنا بها ، وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك ، ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ، ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بأصناف من العلوم ، الآخذون عن الصحف دون الشيوخ .)(1)
ولم يكن أبو حيان في موقفه هذا متحاملا بالباطل على ابن عطية والزمخشري ، أو غيرهما ممن يتساهل في الطعن في القراءات القرآنية الثابتة أو ردها ، وإنما هو تابع في ذلك للمتخصصين العارفين بهذا العلم ، الذين يعرفون ضوابط التعامل مع هذه القراءات على اختلاف مراتبها ، وهذا ما دفع بأبي حيان إلى التعريض بهذين المفسرين على جلالة قدرهما.
وإذا تدبرنا كلام أبي حيان ، فإننا نجده لا يخرج عن مفهوم كلام ابن خالويه في كتابه " الحجة في القراءات السبع " حينما قال : ( فإني تدبرت قراءة الأئمة السبعة من أهل الأمصار الخمسة ، المعروفين بصحة النقل وإتقان الحفظ ، المأمونين على تأدية الرواية واللفظ ، فرأيت كلا منهم قد ذهب في إعراب ما انفرد به من حرفه مذهبا من مذاهب العربية لا يدفع ، وقصد من القياس وجها لا يمنع ، فوافق باللفظ والحكاية طريق النقل والرواية ، غير مؤثر للإختيار على واجب الآثار.)(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 3/159
(2) . ابن خالويه ، الحجة في القراءات السبع ، تحقيق ، عبد العال سالم مكرم ، دار الشروق ، ط4 ، 1981م ، ص : 61(1/107)
كما قال ابن الجزري في كتابه : " النشر في القراءات العشر" ، في شرح الركن الأول من أركان القراءة الصحيحة : ( وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة ، والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل . والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ، ولا فشو لغة ، لأن القراءة سنة متبعة ، يلزم قبولها والمصير إليها .)(1)
وهكذا نجده أيضا في تفسير قوله تعالى : "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك .." سورة آل عمران : 74
يقول : وقرأ الجمهور: يؤده بكسر الهاء ووصلها بياء ، وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والأعمش بالسكون، قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط عليه ، كما غلط عليه في " بارئكم " ، وقد حكى عنه سيبويه ـ وهو ضابط لمثل هذا ـ أنه كان يكسر كسرا خفيفا ، انتهى كلام إبن إسحاق . وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة(2)، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة عن إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء ، فإنه عربي فصيح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا ، وقد أجاز ذلك وهو إمام في النحو واللغة ، وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع ، وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضا .)(3)
__________
(1) . ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، ج1/10
(2) . الحجة في القراءات السبعة : 111
(3) . البحر المحيط : 2/499(1/108)
وفي تفسير قوله تعالى : " يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا .. " الأنعام نجد ابن عطية ينتصر لقراءة من قرأ بنصب " الليل " ورفع " النهار " لا لشيء إلا لأن ابن جني قدمها على غيرها ، فتصدى له أبو حيان مبينا فضل أبي عمرو بن العلاء ، وتفوقه على ابن جني من أكثر من جهة ، وأن القراءات تؤخذ عن القراء وليس عن اللغويين ، لأن القراء جمعوا بين نقل القراءة والنحو ، ولكن النحويين لم يكونوا من أهل القراءة .
قال أبو حيان : ( وقال أبو الفتح عثمان ابن جني عن حميد بنصب " الليل " ورفع " النهار " ، وقال ابن عطية : وأبو الفتح أثبت ، انتهى ، وهذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت كلام لا يصح ، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواتها ، واختصاصه بذلك المكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات فضلا عن النحاة الذين ليسوا بمقرئين ولا رووا القرءان عن أحد ، ولا روي عنهم القرءان ، هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل ، وعدم التجاسر ، ووفور الخط من العربية ، فقد رأيت له كتابا في " كلا " وكتابا في " إدغام أبي عمرو الكبير " دلا على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ، ولا المقرئين ، إلى سائر تصانيفه رحمه الله ، والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى ، لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وغن كان منصوبا هو الفاعل من حيث المعنى ، إذ همزن النقل أو التضعيف صيره مفعولا ، ولا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا من حيث المعنى ، لن المنصوبين تعدى إليهما الفعل ، وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في " ملكت زيدا عمرا ، إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره : حاثا .. )(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 4/309(1/109)
كما رد على كبار اللغويين من مثل أبي العباس المبرد ، وأبي علي الفارسي وغيرهما ، في تغليطهم للأئمة القراء في بعض ما ذهبوا إليه من وجوه القراءات ، فأنكر عليهم اعتراضاتهم ، وكشف عدم وجاهتها ، مبينا من جهة أخرى صحة ما نقله القراء ، لأن اللغة العربية غير محصورة في لسان واحد من هؤلاء ، ولا في بعضهم ، وما لم يجدوا له وجها في اللغة كان مما علمه البعض و جهله البعض الآخر .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .." سورة البقرة:270
قال أبو حيان : ( وقرأ ابن عمر وحمزة والكسائي " فنعما " فيهما بفتح النون وكسر العين ، وهو الأصل لأن وزنه على فعل ، وقال قوم يحتمل قراءة كسر العين على لغة من أسكن ، فلما دخلت ما وأدغمت ، حركت العين لالتقاء الساكنين .
وقرأ قالون وأبو عمرو وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وقد روي عنهم الإسكان ، والأول أقيس وأشهر ، ووجه الإخفاء طلب الخفة ، وأما الإسكان فاختاره أبو عبيدة وقال : الإسكان فيما يروى لغة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا اللفظ ، قال لعمر و بن العاص(1): " نعم المال الصالح للرجل الصالح ".
وأنكر الإسكان أبو العباس وأبو إسحاق وأبو علي ، لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حده . وقال أبو العباس لا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأتيه . وقال أبو إسحاق : لم تضبط الرواة اللفظ في الحديث . وقال أبو علي : لعل أبا عمرو أخفى فظنه السامع إسكانا ، وقد أتى عن أكثر القراء ما أنكر ، فمن ذلك الإسكان في هذا الموضع ، وفي بعض تاءات البزي وفي "اسطاعوا " و "يخصمون " .
__________
(1) . رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي عبيدة بلفظ : نعم المال الصالح للمرء الصالح . 4/179(1/110)
قال أبو حيان : ( انتهى ما لخص من كلامهم ، وكلام هؤلاء فيه نظر ، لأن أئمة القراءة لم يقرءوا إلا بنقل عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا ، تطرق إليهم فيما سواه ، والذي نختاره ونقوله أن نقل القراءات السبع متواتر ، لا يمكن وقوع الغلط فيه .)(1)
2 ـ كثرة ردوده على من تقدمه من المفسرين في مجال القراءات بالحجج القوية والموثقة بما ينم عن سعة اطلاعه ، وإلمامه بالمتواتر والشاذ منها . إلى جانب تبحره في اللغة العربية ، ومعرفته بمختلف لغات القبائل العربية ، وقوة ضبطه لمذاهب النحويين ، ووقوفه على مواضع اتفاقهم واختلافهم ، مما يحمله على عدم التردد في قبول رأي يراه صحيحا ، أو رد رأي آخر يراه فاسدا ، فكان في الوقت ذاته يدافع عن سيبويه ويبرئه إذا نسب إليه ما لم يقل به ، فيفند ذلك ويبين حقيقة مذهبه ، ويشنع على بعض المفسرين الذين يخوضون في فن هم ليسوا من أهله .
وكان من بين المفسرين الذين وقف معهم وقفات مطولة الفخر الرازي ، الذي تناول موضوع القراءات القرآنية في تفسيره من جوانب مختلفة ، وناقش في ذلك أئمة القراءات ، ورد عليهم في بعض المواضع وخطأهم ، تارة بحق ، وتارة أخرى بغير حق . فحمل عليه أبو حيان حملات تصل أحيانا إلى حد التهكم والسخرية بسبب نيله من بعض القراء ، وتارة من إمام النحويين سيبويه . ومن بين المواضع التي رد عليه فيها ما يلي:
في تفسير قوله تعالى : " والذين آمنوا بالله ورسوله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف نؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما " سورة النساء:151
__________
(1) . البحر المحيط : 2/324(1/111)
قال أبو حيان : ( وقرأ حفص " يؤتيهم " بالياء ليعود على اسم الله قبله ، وقرأ الباقون بالنون على الإلتفات ومقابله " وأعتدنا " . وقول أبي عبد الله الرازي(1): قراءة النون أولى من وجهين : أحدهما أنه : أنهم ، والآخر أنه مشاكل لقوله " واعتدنا " ليس بجيد ، ولا أولوية في ذلك ، لأن القراءتين كلتاهما متواترة ، هكذا أنزلت وهكذا أنزلت .)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله.." سورة النساء :40
نجد أبا حيان ينقل القراءات الواردة في قوله " والسارق والسارقة .." وفيها قراءتان ، وهما الرفع والنصب ، ثم نقل التخريج النحوي للقراءتين عند سيبويه فقال : ( قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النصب ، كما تقول زيدا فاضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ـ يعني عامة القراء وجلهم ـ ولما كان معظم القراء على الرفع ، تأوله سيبويه على وجه يصح ، وهو أنه جعله مبتدأ والخبر محذوف ، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر " فاقطعوا " لكان تخريجا على غير الوجه في كلام العرب ، ولكان قد تدخل الفاء في خبر " أل "وهو لا يجوز عنده .
__________
(1) . الفخر الرازي ، مفاتيح الغيب ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، ط3 ، 1985م ، ج11/122
(2) . البحر المحيط : 3/386(1/112)
ولما كان الفخر الرازي قد ذهب إلى تخطيئ سيبويه في هذا التخريج(1)ـ في نظره ـ بغير حق ، فإنه قد تصدى له بقوة ، فأحصى الوجوه التي قال فيها الرازي بتغليط سيبويه ، وهي خمسة ، ثم رد عليه ردا مطولا في عدة صفحات ، مبينا أن الرازي لم يوفق في وجه من تلك الوجوه الخمسة التي خطأ فيها سيبويه ، بل لم يرق في نظر أبي حيان إلى مستوى فهم كلام سيبويه على وجهه الصحيح ، مما حمله على أن يقوله ما لم يقل ، ليخلص بعدها أبو حيان إلى الحكم على الفخر الرازي بأنه ليس من أهل الإختصاص الذي يبيح له التطاول على سيبويه ، بل وليس أهلا للكلام في التفسير أيضا ، ولعل هذه من هفوات أبي حيان التي تردد صدورها منه كلما مست شخصية شيخه سيبويه ، وقد رأينا موقفه من ابن تيمية سابقا لما انتقد بعض المواضع على " الكتاب " لسيبويه(2).
__________
(1) . مفاتيح الغيب : ج11/122
(2) . انظر الفصل الرابع من الباب الأول في ترجمة أبي حيان الأندلسي .(1/113)
ولذلك رد أبو حيان بلهجة ساخرة فقال : (.. وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه ، والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتابا سماه " المحرر "وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو ومن مقاصدهم ، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية ، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف ، ويقول إنه ليس جاريا على مصطلح القوم ، وأن ما سلكه في ذلك من التخليط في العلوم ، ومن غلب عليه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن ، أو قريبا منه من هذا المعنى . ولما وقفت على هذا الكتاب في ديار مصر رأيت ما كان أبو جعفر يذم من هذا الكتاب ، ويستزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله . وكان أبو جعفر يقول: لكل علم حد ينتهي إليه ، فإذا رأيت متكلما في فن ما ومزجه بغيره ، فاعلم أن ذلك إما أن يكون من تخليطه و تخبيط ذهنه ، وإما أن يكون من قلة محصوله وقصوره في ذلك العلم ، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه .)(1)
وفي تفسير قوله تعالى : ".. ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه .." سورة البقرة :266
قال أبو حيان : وقرأ البزي : " ولا تيمموا " بتشديد التاء ، أصله تتيمموا ، فأدغم التاء في التاء ، وذلك في مواضع من القرآن ، وقد حصرتها في قصيدة في القراءات المسماة " عقد اللآلئ " وذلك في أبيات هي:
تولوا بأنفال وهود هما معا ونور وفي المحنة بهم قد توصلا
تنزل في حجر وفي الشعرا معا وفي القر في الأحزاب لا أن تبدلا
تلقف أنى كان مع لتعارفوا وصاحبتيها فتفرق حصلا
بعمران لا تفرقوا بالنساء أتى توفاهم تخيرون له انجلا
تلهى تلقونه تلظى تربصو ن ، زد لا تعارفوا تميز تكملا
ثلاثين مع إحدى وفي اللاتي خلفه تمنون مع ما بعد ظلتم تنزلا
وفي بدئه خفف وإن كان قبلها لدى الوصل حرف المد مد وطولا(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 3/482
(2) . البحر المحيط : 2/317(1/114)
ثم نقل أبو حيان عن كتاب " الممتع " أن سيبويه لا يجيز إسكان هذه التاء ، لأنها إذا سكنت احتيج لها ألف وصل ، وألف الوصل لا تلحق الفعل المضارع ، فإذا اتصلت بما قبلها جاز ، لأنه لا يحتاج إلى همزة وصل . إلا أن مثل "إن تولوا " و " إذ تلقونه " لا يجوز عند البصريين على حال ، لما في ذلك من الجمع بين الساكنين ، وليس الساكن الأول حرف مد ولين.
قال أبو حيان : ( وقراءة البزي ثابتة تلقتها الأمة بالقبول ، وليس العلم محصورا ولا مقصورا على ما نقله وقاله البصريون ، فلا تنظر إلى قولهم ، إن هذا لا يجوز .)(1)
3 ـ عدم قوله بترجيح قراءة على أخرى إذا كانت القراءات الواردة في موضع واحد من القرءان كلها متواترة ، وهو ما تؤيده الأحاديث النبوية الواردة في الموضوع(2)وعليه جمهور علماء القراءات ، وقد تكرر منه تأكيد هذا المذهب عنده في عدة مواضع من البحر المحيط ، ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون " سورة آل عمران : 78
__________
(1) . البحر المحيط : 2/317
(2) . منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن هذا القرءان أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه " أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب فضائل القرءان ، باب أنزل القرءان على سبعة أحرف . انظر فتح الباري : ج9/21 .(1/115)
قال أبو حيان : الباء للسبب و"ما " الظاهر أنها مصدرية ، و" تعلمون" متعد لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو ، إذ قرءوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة ـ بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ـ فيتعدى إلى مفعولين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب ، وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدم أني لا أرى شيئا من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآنا ، فلا ترجيح في أحد القراءتين على الأخرى .)(1)
ولم يكن موقف أبي حيان في هذا الجانب بدعا من القول ، بل هو الموقف الذي درج عليه أئمة القراءات ، وتوارثوه خلفا عن سلف ، وهو ما تظاهرت به مجموع الشواهد الثابتة في السنة النبوية(2).
وبهذه الجهود الطيبة لأبي حيان في دفاعه عن القراءات القرءانية وحسن مسلكه في عرضها وتعليلها وتوجيهها يكون قد مثل بداية مرحلة مستقلة في دراسة القراءات القرءانية ، ولا أدل على ذلك من أن الموقف الذي وقفه من القراءات القرءانية ورده بعنف على ناقديها ، هو الموقف الذي ساد بعده في كتب التفسير ، وهو الموقف الذي حظي بالقبول عند المفسرين اللاحقين ، كما صار يمثل رائد اتجاه لم يخب نوره مع الأيام لكثرة تلاميذه ومؤيديه وناصريه ، وما أثاره من مناقشات ومقارنات بين اتجاهه وبين مخالفيه في الموقف من القراءات القرءانية .
المبحث الثاني
مسلك الزمخشري في القراءات القرآنية
فإذا رجعنا إلى مسلك الزمخشري في تعامله مع القراءات القرءانية ، فإننا نجده يكاد يكون على طرف نقيض مع أبي حيان الأندلسي ، مما دفع بأبي حيان إلى تتبعه ، وإلى كثرة الرد عليه ، حتى كانت من أبرز الجوانب التي توسع فيها في تفسيره ، ونستطيع أن نحصرها في الجوانب الآتية :
__________
(1) . البحر المحيط : 2/516
(2) . انظر : ضياء الدين عتر ، الأحرف السبعة في القرءان الكريم :(1/116)
1 ـ كان الزمخشري يطعن على القراء ورواة القراءات من أكثر من جانب ، فكان أبو حيان يشنع عليه بشدة تسرعه في رمي القراء بالخطأ والوهم ، وتجاهله لمكانة هؤلاء الأئمة في الإتقان والضبط والحرص على الدقة في الرواية ، وتضلعهم في اللغة والنحو .
ففي تفسير قوله تعالى : " سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " سورة البقرة : 5
نجد الزمخشري يقف عند الهمز المزدوج في قوله " آنذرتهم " منتقدا قراءة ورش وقالون ـ عن نافع ـ وكذا قراءة ابن كثير ـ وهما من القراءات السبع ـ من وجهين ، محكما ما عرفه من القواعد النحوية ، فيتصدى له أبو حيان من وجهين أيضا ، فالوجه الأول أن أحكام النحو ليست محصورة فيما علمه الزمخشري وحده ، والوجه الثاني أن القراءة الصحيحة المتواترة حجة بنفسها في لغة العرب ، وليست اللغة حجة عليها .
قال أبو حيان : (.. وروي عن ورش كابن كثير وقالون إبدال الهمزة الثانية ألفا ، فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين ، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري(1)، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين : أحدهما الجمع بين ساكنين على غير حده ، الثاني :أن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين ، لا بالقلب ألفا ، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة . وما قاله هو مذهب البصريين وقد أجاز الكوفيون الجمع بين ساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون ، وقراءة ورش صحيحة لا تدفع باختيار المذهب ، ولكن عادة الرجل إساءة الأدب مع أهل الأداء ونقلة القرآن .)(2)
__________
(1) . الكشاف : 1/48
(2) . البحر المحيط : 1/47(1/117)
وللقراءات القرآنية على اختلاف درجاتها صلة قوية بالمباحث النحوية ، بل نستطيع القول أن الدراسات النحوية إنما نشأت ونشطت في دائرة خدمة هذه القراءات من وجوه مختلفة ليس هذا مجال تفصيلها(1)، وظهر خلال هذا النشاط العلمي اتجاهان بارزان في الحكم على القراءات القرآنية والتعامل معها .
اتجاه اللغويين والنحويين ويقوم على تحكيم القواعد النحوية واللغوية في القراءات ، ونتج عن ذلك آثار متعددة منها تضعيف بعض القراءات التي تلقتها الأمة بالقبول ، وبلغت درجة التواتر ، ووصف بعض القراء بقلة الحفظ وخفة الضبط وغيرها(2).
واتجاه علماء القراءات ومن ذهب مذهبهم من أهل الحديث والمفسرين ، حيث جعلوا القراءة المتواترة حجة بنفسها ، ولا تحتاج إلى تزكية اللغويين وإقرارهم لها .
وفي الوقت الذي نجد الزمخشري يميل إلى أصحاب الرأي الأول ، نجد أبا حيان الأندلسي يقف إلى جانب الرأي الثاني منتصرا لأصحابه بكل حماس وقوة ، ونظرا لما كان عليه أبو حيان من إلمام ونبوغ في هذا الفن ، فقد استطاع أن يثقل كفة هذا الإتجاه ، ويرسخه فيمن جاء بعده ، حتى اعتبر نقطة تحول بارزة في هذا المسار التاريخي لعلم القراءات .
__________
(1) . مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ، مقال د. عبد الله سامي الكناني : الإتجاه اللغوي في تفسير القرءان ، العدد : 6 ، السنة : 1999 م . ص : 24
(2) . النحو وكتب التفسير : 1/727(1/118)
وقد وجد أبو حيان في قسوة الزمخشري تجاه القراء ، وكثرة رميه لهم بالخطإ وقلة العلم بالأحكام النحوية واللغوية ما يحمله على كثرة الرد عليه على وجه التفصيل ، وبيان جوانب واسعة من أحوال القراء والقراءات بما يبطل كل تطاول في حقهم ، كما قرر بعض المسلمات والقواعد التي يجب أن ينظر إلى القراءات من خلالها ، من ذلك مثلا أن القراءات المتواترة حاكمة على ما نقله النحويون وليس العكس هو الصحيح ، ومنها أن أحكام النحو ليست محصورة فيما علمه وقرره البصريون أو الكوفيون ، وأن المعول عليه في القراءات ما كثر ناقلوه وصحت روايته ، وليس الأفشى والأقيس في اللغة ، كما أن من حفظ هو حجة على من لم يحفظ .. وكل هذه القواعد وغيرها مبثوثة في مواضع مختلفة من تفسيره ، مما جعله مرجعا أساسيا في القراءات عند الدارسين . ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي:
في تفسير قوله تعالى :" .. فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير " سورة البقرة :283
صدر من الزمخشري كلام خطير في حق القراء وأهل الأداء يفتح بابا واسعا للمشككين في القرآن الكريم كي يطعنوا في صحته وسلامته من اللحن والتحريف ، مما حمل أبا حيان على الرد عليه ردا مسهبا .
قال الزمخشري : ( فإن قلت : كيف يقرأ الجازم ؟ قلت : يظهر الراء ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا ، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرتين ، لأنه يلحن ، وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو.)(1)
__________
(1) . الكشاف : 1/330(1/119)
قال أبو حيان : ( انتهى كلامه ، وذلك على عادته في الطعن على القراء ، وأما ما ذكر أن مدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا إلى آخره ، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ، ولا في النون ، قال أبو سعيد : ولا نعلم أحدا خالفه إلا يعقوب الحضرمي ، وإلا ما روي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركا ما قبلها نحو "يغفر لمن " ، " العمر لكيلا " ، واستغفر لهم الرسول " فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر نحو " الأنهار لهم " و " النار ليجزي.."فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مد ولين أو غيره لم يدغم نحو : " .. من مصر لامرأته " و " الأبرار لفي نعيم " و " لن تبور ليوفيهم " و " الحمير لتركبوها " ، فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روى أحمد بن جبير بلا خلاف عنه عن اليزيدي عنه أنه أظهرها ، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين والمتقاربين المتحركين لا غير ، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعا على الإدغام نحو " ويغفر لكم " انتهى . وأجاز ذلك الكسائي والفراء ، وحكياه سماعا ، ووافقهما رواية وإجازة و إجازة أبو جعفر الرواسي وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة كما ذكرناه وتابعه يعقوب كما ذكرناه ، وذلك من رواية الوليد بن حسان والإدغام ، وجه من القياس ذكرناه في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا . وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاء لا إدغاما ، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا وما ضبطوا ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام .(1/120)
وعقد هذا الرجل بابا قال : هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه ، وهذا لا ينبغي ، فإن لسان العرب غير محصور فيما نقله البصريون فقط ، والقراءات لا تجيئ على ما علمه البصريون ونقلوه ، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة ، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم أبو عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي ، وكبراء أهل الكوفة ، الرواسي والكسائي والفراء ، وأجازوه ، ورووه عن العرب ، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم ، إذ من علم حجة على من لم يعلم . أما قول الزمخشري أن راوي ذلك عن أبي عمرو أخطأ مرتين ، فقد تبين أن ذلك صواب ، والذي روى ذلك عنه الرواة ، ومنهم أبو محمد اليزيدي ، وهو إمام في النحو ، إمام في القراءات ، إمام في اللغات .)(1)
وزيادة على كون أبي محمد اليزيدي إماما في النحو ، إماما في القراءات ، إماما في اللغات ـ كما ذكر أبو حيان ـ فإننا لا نسلم للزمخشري إبتداء قوله : والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط مثل هذا إلا أهل النحو .
فإذا كان أهل اللغة يرون بأن القراءات لا يضبطها إلا اللغويون ، وهذا الإمام النويري يقول في بيان العلاقة بين علماء الفقه وعلماء القراءات : ( إن الرجوع في الجواز وعدم الجواز ـ أي في قبول القراءات وردها ـ إنما هو لأئمة الفقه الذين يفتون في الحلال والحرام .)(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 2/361 ـ 363
(2) . صبري عبد الرؤوف محمد عبد القوي ، أثر القراءات في الفقه الإسلامي ، مطبعة أضواء السلف ، الرياض ، ص : 176 . نقلا عن النويري على طيبة النشر ، مخطوط ، ورقة : 23(1/121)
فكان اللغويون والفقهاء هم المحكمون في قبول القراءات وردها دون القراء ، فأين تتجلى جهود هؤلاء القراء وفضائلهم على غيرهم ، بل إن الصحيح من القول أن الرجوع في قبول القراءات وردها إنما هو لأئمة هذا الشأن من القراء الذين أفنوا أعمارهم في حفظها في الصدور ونقلها وضبطها ، اللهم إلا إذا حملنا قول النويري على ما يتعلق بالقراءات الشاذة ، أما كلام الزمخشري فلا سبيل لتأويله ، لأن ما ورد في معرض كلامه في هذا الموضع إنما تعلق بقراءة متواترة .
بل إن المعروف عن الأئمة المجتهدين من الفقهاء مع عظيم منزلتهم ورفعة شأنهم وغزارة علمهم أنهم يعظمون علماء القراءات ، ويرجعون إليهم فيما يعترضهم ، ونفهم هذا من قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله لأحد القراء العشرة ـ وهو حمزة ـ : ( شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما ، القرءان والفرائض . )(1)
والزمخشري الذي يقف عند القراءة الصحيحة المتواترة موقف الناقد المتفحص ، لا يفعل ذلك عند بعض القراءات الشاذة ، بل منها ما هو موضوع ، فيكتفي بذكرها كقراءة من القراءات ويعمل على توجيهها من الناحية النحوية والمعنوية .
ومن ذلك مثلا تلك القراءة التي تنسب للإمام أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى : " .. إنما يخشى الله من عباده العلماء " سورة فاطر : 28
__________
(1) . أثر القراءات في الفقه الإسلامي : 177 . وفي البحر المحيط : 3/159(1/122)
برفع إسم الجلالة ونصب " العلماء " وهو بريء منها ، ولكنها اختلقت اختلاقا ، وقد بين ذلك الإمام الذهبي في طبقات القراء ، وابن الجزري في طبقاته أيضا ، وواضعها هو محمد بن جعفر الخزاعي ( ت : 407هـ ) ونقلها عنه أبو القاسم الهذلي ، قال الذهبي في " لسان الميزان " في ترجمة محمد بن جعفر : ( ألف كتابا في قراءة الإمام أبي حنيفة ، فوضع الدارقطني خطه عليه بأنه موضوع لا أصل له ، وذلك مثل قوله " إنما يخشى الله .." برفع لفظ الجلالة ، ونصب لفظ " العلماء " . )(1)
إلا أن الزمخشري أبى إلا أن يتعامل معها كأي قراءة صحيحة ، وراح يتكلف في توجيهها بدلا من ردها وكشف بطلانها .
قال الزمخشري : ( فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وهو عمر بن عبد العزيز ، ويحكى عن أبي حنيفة ؟ قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم ، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس من بين جميع عباده .)(2)
أما أبو حيان فقد توقف في قبولها واستبعد نسبتها إلى عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة ، وهو الحق الذي عليه أهل العلم كما أسلفنا(3).
قال أبو حيان : ( وقرأ الجمهور بنصب الجلالة ورفع العلماء ، وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك ، وتؤولت هذه القراءة على ان الخشية استعارة للتعظيم ، لأن من خشي وهاب أجل وعظم من خشيه وهاب . ولعل ذلك لا يصح عنهما )(4)وقد رأينا كتبا في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة ، وإنما ذكرها الزمخشري ، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل .
__________
(1) . ابن حجر ، لسان الميزان : 5/114
(2) . الكشاف : 3/611
(3) . البحر المحيط : 7/132
(4) . البحر المحيط : 7/312(1/123)
2 ـ وكان الزمخشري أحيانا يعترض على بعض القراءات الثابتة بالتواتر الذي يفيد العلم اليقيني ، لأسباب مبنية على الظن والتأويل البعيد ، كأن يعتقد بأن القراء إنما أخذوا بعض أوجه القراءات من رسم المصاحف وليس بالمشافهة ـ وهو ظن فاسد ـ فكان أبو حيان يعترض عليه في كل مرة يلمس منه مثل هذه المحاولات لرد قراءة من القراءات الصحيحة ، والتي تناقلتها الأمة بالتواتر ، وقرأت بها خلفا عن سلف .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم .. " سورة الأنعام : 138
حيث قال الزمخشري : ( .. وقرئ زين ، على البناء للفاعل الذي هو شركاؤهم ، ونصب " قتل أولادهم " و " زين " على البناء للمفعول الذي هو القتل ، ورفع شر" شركاؤهم " بإضمار فعل دل عليه " زين " كأنه قيل : لما قيل زين لهم قتل أولادهم ، من زينه ؟ فقيل : زينه لهم شركاؤهم ، وأما قراءة ابن عامر : قتل أولادهم شركائهم برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء ، والفصل بينهما بغير الظرف ، فشيء لو كان في مكان الضرورات ـ وهو الشعر ـ لكان سمجا كما ورد :
زج القلوص أبي مزادة
فكيف به في الكلام المنثور ، فكيف به في القرءان المعجز بحسن نظمه وجزالته ، والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبا بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء ـ لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم ـ لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب . )(1)
ومثل هذا أيضا ما جاء في تفسير قوله تعالى : "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا بعوضة فما فوقها .." سورة البقرة : 25
__________
(1) . الكشاف : 2/70(1/124)
حيث اختار قراءة الرفع في " بعوضة " ثم علل ذلك بقوله : ( وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج ، وهو أمضغ العرب للشيح والقيسوم ، والمشهود له بالفصاحة .. وما أظنه ذهب في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه ، وهو المطابق لفصاحته . )(1)
والذي يفهم من كلام الزمخشري هذا كله أن القراء كانوا يأخذون قراءاتهم من المكتوب وليس من المسموع ، كما أن الإختيار في القراءة هو اجتهاد في اختيار الأصح في اللغة والأبلغ في البيان ، وليس في اختيار الأصح في النقل ، ولا يخفى ما في هذا الكلام من بعد عما هو عليه جمهور المفسرين والمقرئين ، ولذلك رد عليه أبو حيان بأنها ليست قراءة رؤبة بن العجاج وحده ، حتى يعتقد أنه قرأ بها لأنها أبلغ في البيان ، بل قرأ بها غيره أيضا ، فقرأ بها الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، وقطرب(2).
3 ـ كما يرد عليه في بعض المواضع التي يذهب فيها الزمخشري مذهبا بعيدا في توجيه القراءات متأثرا بنزعته المذهبية ، أو بعض اجتهاداته النحوية .
__________
(1) . الكشاف : 1/115 . وهذه القراءة التي انتصر لها الزمخشري ، وهي قراءة رؤبة بن العجاج ، قراءة شاذة باتفاق أهل العلم ، ولذلك رد عليه ابن المنير بقوله : ( وأما تبجحه بالعثور على الوجه الذي ظن أن رؤبة بن العجاج راعاه في قراءته ، فكلام ركيك يوهم أن القراءة موكولة إلى رأي القارئ وتوجيهه لها ونصرته بالعربية وفصاحته في اللغة ، وليس الأمر كذلك ، بل القراءة على اختلاف وجوهها وبعد حروفها سنة تتبع ، وسماع يقضى بنقله الفصيح وغيره على حد سواء ، لا حيلة للفصيح في تعسر شيء منه عما سمعه عليه ، وما يصنع بفصاحته في القرءان الذي بدد كل فصاحة وعزل كل بلاغة ؟ الانتصاف . على هامش الكشاف . انظر هامش : 3
(2) . انظر : البحر المحيط : 1/123(1/125)
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسيره لقوله تعالى : " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا لإله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام.." سورة آل عمران: 18
قال الزمخشري في توجيه القراءات الواردة في الآية : ( وقرئتا مفتوحتين على " أن " الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بيانا صريحا لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل ، وقرئ الأول بالكسر ، والثاني بالفتح ، على أن الفعل واقع على " إن " ، وما بينهما اعتراض مؤكد ، وهذا أيضا شاهد على أن دين الإسلام هو العدل والتوحيد ، فترى القراءات كلها متعاضدة على ذلك ، وقرأ عبد الله : أن لا إله إلا هو .. )(1)
قال أبو حيان : ( وأما قراءة ابن عباس فخرج على أن الدين عند الله الإسلام ، وهو معمول " شهد " ، ويكون في الكلام اعتراضان ، أحدهما بين المعطوف عليه وبين المعطوف ، وهو " أنه لا إله إلا هو " والثاني بين المعطوف والحال ، وبين المفعول لشهد ، وهو " لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، وإذا أعربنا " العزيز " خبر مبتدإ محذوف ، كان ذلك ثلاث اعتراضات .. )(2)
وهنا نجد أبا حيان يعلق علىكلام الزمخشري بقوله : ( فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمله على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب وحفظ أشعارها ، وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب ، أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لابد من الإطلاع على كلام العرب ، والتطبع بطباعها ، والاستكثار من ذلك .)(3)
__________
(1) . الكشاف : 1/345
(2) . البحر المحيط : 2/409
(3) . البحر المحيط : 2/409(1/126)
ثم قال أبو حيان في توجيه قراءة " أن الدين .." ـ بالفتح ـ ( هو أن يكون الكلام في موضع المعمول للحكيم على إسقاط حرف الجر أي : بأن ، لأن الحكيم فعيل للمبالغة كالعليم والسميع والخبير ، كما قال تعالى :" من لدن حكيم خبير " قال :" من لدن حكيم عليم " والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدين عند الله الإسلام . ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية ، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم ، حكم أن الدين المقبول عند الله هو الإسلام ، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه ، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " ، وعدل عن صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ، ولمناسبة العزيز.)(1)
4 ـ وإذا تتبعنا عبارات الزمخشري في تعامله مع القراءات وجدناه في أكثر من موضع من الكشاف يورد من العبارات ما يوهمنا بأن القراءات القرآنية كان فيها شيء من اجتهاد القراء ، ومن ذلك استبدال كلمة بكلمة أخرى ، وهو رأي لم يقل به جمهور أهل العلم ، من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " إن شجرة الزقوم طعام الأثيم " سورة الدخان : 41
__________
(1) . البحر المحيط : 2/409(1/127)
حيث قال الزمخشري : ( وعن أبي الدرداء أنه كان يقرئ رجلا فكان يقول طعام الأثيم ، فقال : قل طعام الفاجر يا هذا(1). وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها ، ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية ، على شريطة وهي أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا ، قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة ، لأن في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها ، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية ، فلم يكن منه ذلك عن تحقق وتبصر . )(2)
__________
(1) وفي جامع البيان للطبري : ( .. أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا " إن شجرة الزقوم طعام الأثيم " فقال : طعام اليتيم ، فقال أبو الدرداء : قل : إن شجرة الزقوم طعام الفاجر . ) جامع البيان : 13/168
(2) . الكشاف : 4/281(1/128)
والذي أراه أن ما ذهب إليه أبو حنيفة سواء كان عن تحقق وتبصر أو عدمه ، فلا مجال للقياس عليه وبناء هذا على ذاك ، والفرق واضح وشاسع بين رأي أبي حنيفة الذي يفيد ما يشبه الترجمة للسورة القرآنية كالفاتحة لأداء فريضة الصلاة ، وبين إبدال كلمة مكان كلمة أخرى لتدخل في رسم المصحف ، وتلزم الناس بعدئذ القراءة بها ، وما ذهب إليه الزمخشري أيضا من توجيه لرواية أبي الدرداء في تعليمه الرجل كيفية النطق بهذه الكلمة من القرآن بهذا المعنى بعيد لا يسلم له به العلماء ، ولا نعلم أحدا سبقه إلى هذا الفهم ، أو هذا الاستنباط ، بل قال العلماء أن كل ما في الأمر أن أبا الدرداء كان يعلم في الآية وجها آخر للقراءة في الآية ، فلما تعسر على الرجل النطق بالقراءة الأولى لجأ به إلى القراءة الثانية ، كما ذهب آخرون إلى أن أبا الدرداء إنما أراد أن يوضح له معنى الكلمة ليعينه بذلك على تمييزها عن الكلمات المماثلة في النطق لها ، وليس غرضه إنشاء كلمة أخرى مرادفة لما جاء به كتاب الله تعالى(1).
5 ـ بل نجد الزمخشري في بعض المواضع من كشافه يعرض إلى ذكر بعض أوجه القراءات ، فيسلك مسلكا غريبا في ذكر تلك القراءات بما يوحي في الظاهر بجهله بالقراءات وارتباط كل قراءة باسم المقرئ الذي قرأ بها ، والرواة الذين تلقوها عنه ونقلوها ، بل يذهب أحيانا إلى ذكر وجه من وجوه القراءة فينسبه إلى من قرأ به ، ثم يذكر قراءة ثانية فينسبها إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرة ، فيقول : و قرئ كذا وهي قراءة فلان ، وقرئ كذا وهي قراءة الرسول ـ ص ـ وكأن الرسول هو نفسه كان أحد هؤلاء القراء ، وهذا متكرر في عدة مواضع من تفسيره الكشاف .
فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " سورة الواقعة : 85
__________
(1) . انظر : عبد العظيم الزرقاني ، مناهل العرفان ، دار الفكر : 1/187(1/129)
قال الزمخشري : ( وقرأ علي ـ رضي الله عنه ـ وتجعلون شكركم أنكم تكذبون ، وقيل هي قراءة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .)(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها " سورة الشمس : 15 ـ16
قال الزمخشري : ( وفي مصاحف أهل المدينة والشام " فلا يخاف " وفي قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ولم يخف " . )(2)
وتكرر هذا منه في تفسير قوله تعالى : " وما خلق الذكر والأنثى " الليل : 3
فقال : ( وفي قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " والذكر والأنثى " وقرأ ابن مسعود " والذي خلق الذكر والأنثى " . )(3)
وكان يجدر بالزمخشري أن يوضح معنى ما ذهب إليه من هذا الكلام رفعا للغموض ، ولكنه لم يفعل ، مما جعلنا نذهب في فهم كلامه هذا كل مذهب .
وإذا رجعنا إلى كتب التفسير كجامع البيان للطبري مثلا في قوله " وتجعلون رزقكم " نجده قال :
( وقد ذكر عن الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان : بمعنى ما شكر ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف فيه منهم ، ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، قال ثنا عبد الأعلى الثعلبي ، عن أبي عبد الحمن السلمي ، عن علي رضي الله عنه " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " قال : شكركم .
وفي رواية أخرى ـ بإسناد آخر ـ عن علي رفعه " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " قال: شكركم ، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا وكذا .)(4)
ومعنى هذا أن ما نسب لعلي ـ رضي الله عنه ـ في الرواية الأولى هو مجرد تفسير ، وفي الحديث الثاني هو تفسير أيضا ، ولكنه رفعه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) . الكشاف : 4/469
(2) . الكشاف : 4/761
(3) . الكشاف : 4/761
(4) . جامع البيان : 13/270 . الحديث في مسند الإمام أحمد رقم : 677(1/130)
كما أن هذه القراءة التي ذكرها الزمخشري لم تذكرها كتب القراءات ضمن القراءات المتواترة ولا القراءات الشاذة ، مما يدل على أن الزمخشري توهم أن هذا التفسير من علي ـ رضي الله عنه ـ هو قراءة من القراءات ، وهي ليست كذلك .
وأما في قوله " ولا يخاف عقباها " فقال الطبري : ( واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز " فلا يخاف عقباها " بالفاء ، وكذلك ذلك في مصاحفهم ، وقرأته عامة قراء العراق في المصرين بالواو" ولا يخاف عقباها ، وكذلك هو في مصاحفهم .
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان ، غير مختلفتي المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . )(1)
وذكر مثل ذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرءان(2).
وأما قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي ذكرها الزمخشري فلم تذكرها كتب القراءات أيضا لا في القراءات المتواترة ولا حتى القراءات الشاذة . مع أنه ذكرها بصيغة تفيد ثبوتها وصحتها .
وأما في المثال الثالث " وما خلق الذكر والأنثى " فقال الطبري : ( وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء أنهما كانا يقرآن ذلك " والذكر والأنثى " ويؤثره أبو الدرداء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. )(3)
أما القرطبي فقال : وفي صحيح مسلم عن علقمة قال : قدمنا الشام ، فأتانا أبو الدرداء فقال : فيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد الله ؟ فقلت نعم ، أنا قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية " والليل إذا يغشى " ؟ قال : سمعته يقرأ " والليل إذا يغشى والذكر والأنثى " ، قال : وأنا والله سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم يقرأها ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ " وما خلق " فلا أتابعهم(4).
__________
(1) . جامع البيان : 15/272
(2) . القرطبي ، الجامع لأحكام القرءان : 20/80
(3) . جامع البيان : 15/274
(4) . الجامع لأحكام القرءان : 20/81(1/131)
ثم ذكر القرطبي حديثا مماثلا في قراءة ابن مسعود " إني أنا الرزاق ذو القوة المتين " وقال ـ نقلا عن أبي بكر الأنباري ـ : كل من هذين الحديثين مردود بخلاف الإجماع له ، ، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبد الله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين ، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه إجماع الأمة ، وما يبنى على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه أخذ برواية الجماعة ، وأبطل نقل الواحد ، لما يجوز عليه من النسيان والإغفال ، ولو صح الحديث عن أبي الدرداء ، وكان إسناده مقبولا معروفا ، ثم كان أبو بكر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم يخالفونه ، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة ، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد الذي يسرع إليه النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة وجميع أهل الملة . )(1)
ولم أجد فيما اطلعت عليه من كتب التفسير أو كتب القراءات من سلك هذا المسلك عند الزمخشري ، مما يقوي عندنا الظن بقلة زاد الزمخشري في علم القراءات ، وليس في اشتغاله باللغة والنحو وتفوقه فيهما ما يوجب تفوقه في علم القراءات ، بل يبدو أن صلته بالقراءات كانت من باب الصلة التاريخية بين هذا العلم وبين علم اللغة والنحو ، ولذلك نجده سلك مسلك النحاة واللغويين في نظرته إلى القراء والقراءات ، وإذا كان الزمخشري يعيب على القراء قلة علمهم في علم النحو ، فمن باب أولى أن نعيب عليه نحن قلة إلمامه واشتغاله بعلم القراءات ، لأنه لكل فن أصوله ، ولكل علم أهله ، والزمخشري يقر بهذا ، حتى إذا جاء إلى الجانب التطبيقي تناساه وتغاضى عنه .
__________
(1) . الجامع لأحكام القرءان : 20/81(1/132)
وقد رأينا ـ فيما سبق ـ ما يتعلق بأبي حيان ، وصلته الوثيقة والعريقة بهذا الفن ، فذكر أسانيده العالية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما أن مؤلفاته في القراءات ، وما كان لها من مكانة علمية في حياته تشهد على تضلعه ونبوغه في هذا العلم ، وقد تجلى ذلك بوضوح سواء فيما أورده من القراءات المختلفة ، مع نسبة كل قراءة لصاحبها ، أو في توجيهه لتلك القراءات وحسن الدفاع عنها ضد الطاعنين والمشككين فيها .
6 ـ ومثلما تعقب الزمخشري بعض القراء بالنقد والاعتراض على بعض قراءاتهم ، نجده يتطلع بحاسته النقدية إلى رسم المصحف ، وإن كان يتردد في ذلك ، فتارة يقرر أن رسم المصحف سنة لا تغير ، ويجب اتباعه ، وتارة أخرى يذهب للمقارنة بين ما عليه رسم المصحف وبين ما عليه أوضاع الخط العربي .
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .. " سورة الفرقان : 7
قال الزمخشري : ( وقعت اللام في المصحف مفصولة عن " هذا " خارجة عن أوضاع الخط العربي ، وخط المصحف سنة لا تغير . )(1)
ويتلخص مما سبق أن الزمخشري في مسلكه العام في عرض القراءات ودراستها شديد الشبه بالأئمة اللغويين الأوائل الذين يكثرون من رواية القراءات ، متواترها وشاذها ، ويخضعونها جميعا للنقد اللغوي ، ويجعلونه الفيصل في تزكيتها أو توهينها ، مع اعتمادهم في روايتها على المختصين من القراء ، وهو أقرب إلى منهج الفراء في توسعه فيها ، والاحتجاج بشواذها ، خصوصا قراءتي ابن مسعود وأبي رضي الله عنهما ، ثم إلى منهج أبي جعفر النحاس في كتابه إعراب القرءان ، ثم إلى منهج ابن جني في " المحتسب " وتحمسه للشواذ .
__________
(1) . الكشاف : 3/265(1/133)
وهكذا فإن الزمخشري بتطبيقه المنهج النحوي على القراءات يكون قد أحيا مواته ، ونفخ فيه من روحه وفكره ، لأن نقد القراءات قد هدأ بعد الطبري ، وأبي إسحاق الزجاج ، وأبي علي الفارسي ، وتلميذه ابن جني ، لاكتمال الدرس النحوي من جهة ، ولاستقرار الرواية في القراءات من جهة أخرى ، حتى جاء الزمخشري ، وألف تفسيره " الكشاف " في القرن السادس فأثار منهج الأقدمين ، وبعث فيه الروح بنقده للقراءات ، وبذلك أيضا يكون الزمخشري تابعا لمنهج سابق ، وليس مبتدعا ، وإنما كثر خصومه من هذا الجانب لجرأته في الصدع بآرائه ، وتعنيف المخالفين له ، وقد ظهرت هذه الجرأة منه في مختلف جوانب تفسيره ، وليس في تعامله مع القراءات القرآنية فقط ، كما أنه لم تبق المبررات السابقة للنظر في القراءات من حيث الرد والقبول بعد أن دونت القراءات وعرف المردود والمقبول منها ، وإنما صار المفسرون يعملون على توجيه كل قراءة من القراءات الصحيحة إلى ما تحمله من معنى ، أما القراءات الشاذة فهي التي نجد الفقهاء واللغويين يرجعون إليها ويستدلون بها في المسائل الفقهية واللغوية(1).
كما يضاف إلى مسلكه في التعامل مع القراءات تأثره بنظرته الاعتزالية في الانتصار لقراءة معينة والعدول عن أخرى ، وخاصة عندما ينتصر لقراءة شاذة على قراءة متواترة .
__________
(1) . انظر : النحو وكتب التفسير : 1/727(1/134)
ومن هنا فإن روح الاعتزال التي لم تفارق الزمخشري طيلة تصنيفه تفسير الكشاف قد تسربت في خفاء كذبيب النمل إلى مختلف الجوانب من مباحثه في هذا التفسير بما في ذلك مباحث القراءات ، فنجده وهو يذكر قراءة ويهتم بها ويقدمها ويدافع عنها ، أو يذكر قراءة أخرى ولا يهتم بتوجيهها ، لا يخلو في كل ذلك من فرط تأثره بمذهبه العقدي ، وهو إذ لا يصرح بتحكيم نظرته الاعتزالية في مثل هذه المواضع نجده يمرر رؤيته المذهبية بذكاء بالغ ، وقلما يتفطن لمثل هذا إلا النبهاء من أهل العلم . ومن ذلك مثلا ما جاء في قوله تعالى : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " سورة القمر : 49
حيث قال الزمخشري : ( " كل شيء " منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وقرئ " كل شيء " بالرفع . )(1)
فهو إذ يذكر القراءتين لم يبين القراءة الصحيحة المتواترة من القراءة الشاذة ، ليوهم القارئ تساوي القراءتين ، وكان الأولى به أن ينص على درجة كل قراءة وعمل على توجيهها ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك لحاجة في نفسه .
ولذا نجد ابن المنير يتصدى له مبينا دسيسة الاعتزال التي تختفي وراء هذه القراءة الثانية ، وهي قراءة شاذة ، وبيان السر في إجماع القراء السبعة على القراءة الأولى بالنصب .
__________
(1) . الكشاف : 4/441(1/135)
قال ابن المنير : ( كان قياس ما مهده النحاة اختيار رفع " كل " لكن لم يقرأ بها أحد من السبعة ، وإنما كان كذلك لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة ، ومع النصب جملتان ، فالرفع أخصر ، مع أنه لا مقتضى للنصب ههنا من أحد الأصناف الستة ، أعني : الأمر ، والنهي .. إلى آخرها ، ولا أجد هنا مناسب عطف ولا غيره مما يعدونه من محال اختيارهم للنصب ، فإذا تبين ذلك فاعلم أنه إنما عدل عن الرفع إجماعا لسر لطيف يعين اختيار النصب : وهو أنه لو رفع لوقعت الجملة التي هي " خلقناه " صفة لشيء ، ورفع قوله " بقدر " خبرا عن " كل شيء " المقيد بالصفة ، ويحصل الكلام على تقدير : إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر ، فأفهم ذلك أن مخلوقا ما يضاف إلى غير الله تعالى ليس بقدر ، وعلى النصب يصير الكلام : إنا خلقنا كل شيء بقدر ، فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى ، فلما كانت هذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية على قراءة الرفع مع ما في الرفع من نقصان المعنى ، ومع ما في هذه القراءة المستفيضة من مجيء المعنى تاما واضحا كفلق الصبح ، لا جرم أجمعوا على العدول عن الرفع إلى النصب ، لكن الزمخشري لما كان من قاعدة أصحابه تقسيم المخلوقات إلى مخلوق لله ، ومخلوق لغير الله ، فيقولون هذا لله بزعمهم ، وهذا لنا فغرت هذه الآية فاه ، وقام إجماع القراء حجة عليه ، فأخذ يستروح إلى الشقاء ، وينقل قراءتها بالرفع ، فليراجع له ، ويعرض عليه إعراض القراء عن هذه الرواية ، مع أنها هي الأولى في العربية ، لولا ما ذكرناه ، أيجوز في حكمه حينئذ الإجماع على خلاف الأولى لفظا ومعنى من غير معنى اقتضى ذلك أم لا ؟ وهو المخير فيما يحكم به ، فإلى الله ترجع الأمور . )(1)
ومن النقائص التي هي قاسم مشترك بين الزمخشري وأبي حيان الأندلسي في مسلكهما في عرض القراءات القرءانية ما يأتي :
__________
(1) . انظر الانتصاف على الكشاف : 4/441 ، الهامش : 2(1/136)
1 ـ ذكر بعض القراءات القرآنية دون نسبتها للذين قرءوا بها . وهذا يوقع في اللبس ، لأن الإحتجاج بالقراءة تختلف قوة وضعفا باختلاف درجة القراءة ومن قرأ بها ، سواء في مجال تفسير القرآن الكريم نفسه ، أو في اللغة أو النحو .
ومثاله عند أبي حيان نقله لقراءة عيسى بن عمر في قوله تعالى:
" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .. " المائدة : 40
حيث قرأ بالنصب على الاشتغال ، وهي قراءة شاذة ، دون أن ينبه أبو حيان على ذلك(1).
أما الزمخشري فقد درج على خلط القراءات الشاذة بالمتواترة في أغلب المواضع كما تبين لنا في الأمثلة السابقة من غير تنبيه على ذلك .
2 ـ ومنها ذكر القراءات الشاذة إلى جانب القراءات الصحيحة والمتواترة ، دون تبيين بأن هذه قراءة متواترة ، وهذه شاذة . وإن كان هذا قليلا عند أبي حيان ، فهو الغالب الأعم عند الزمخشري .
3 ـ ذكر مختلف القراءات الواردة في الآية دون توجيهها ، مع أن كل قراءة لا تخلو من نكتة فقهية أو لغوية أو بيانية .
ومع هذا يبقى أبو حيان متميزا ومتفوقا بذلك المنهج العلمي في تعامله مع القراءات القرءانية ، حيث استطاع من خلال تفسيره البحر المحيط أن يحدد الضوابط العلمية التي ينبغي للباحث في القراءات القرءانية أن يلتزمها ، وقد أحدث بهذا نشاطا علميا ملحوظا تمثل في ذلك المسلك الذي استمر بعده حاملا بصماته في الذوذ عن حمى القرءان الكريم في نقله وأداء تلاوته ورسمه .
كما يتلخص من مجموع ما قدمناه من موازنة بين مسلكيهما في التفسير بالمأثور تقدم أبي حيان عن الزمخشري بشكل واضح من مختلف الجوانب .
__________
(1) . البحر المحيط : 3/476(1/137)
ففي تفسير القرءان بالقرءان كان أبو حيان يميل إلى الاقتصاد في النقل لأنه كان يرى في تفسير القرءان بالسنة ما يسد مسده ، ولئن كان الزمخشري قد أكثر من تفسير القرءان بالقرءان فلأنه كان يفعل ذلك فرارا من السنن التي تصادم مذهبه ، كما أن ما نقله في كشافه من تفسير للقرءان بالقرءان إنما كان قائما على الاجتهاد لا على النقل فصار تفسيره هذا لا ينفك عن معنى التفسير بالرأي .
وأما في تفسير القرءان بالسنة فقد اتضح تقدم أبي حيان في مجال الرواية ، وفي الوقت الذي كان يميل إلى الصحيح والمشهور من مرويات السنة وأقوال الصحابة والتابعين في التفسير كان ينفر من المرويات السقيمة والقصص والأخبار الواهية والموضوعة ، مع ما أبداه من يقظة وحذر في نقد تلك المرويات وتمحيصها ، فجاء تفسيره البحر المحيط أسلم وأحكم في هذه الجوانب من كشاف الزمخشري الذي غلبت عليه المرويات الضعيفة والموضوعة بسبب ضعف إلمامه بأحكام هذا الفن رواية ودراية ، وقلة التزامه بقواعده .(1/138)
الفصل الثاني
مسلكهما في المباحث اللغوية والنحوية
يعتبر هذا الفصل بحثا مكملا للفصل السابق ، لأن مبحث الإعجاز القرآني عند المفسرين قام أساسا على تطبيق نظرية النظم القرآني ، وقد علمنا أن النظم ـ الذي هو مناط الإعجاز في القرآن ـ ما هو إلا مراعاة لأحكام النحو ، ومن هنا فإن اهتمام كل من المفسرين بالإعجاز البلاغي في القرآن الكريم كان يقتضى منهما أن يهتما بالنواحي النحوية والإعرابية ، لما ينبني عليها من الكشف عن وجوه النظم ودلائله الإعجازية .
ولما كان اهتمام المفسرين بالجانب النحوي بارزا في تفسيريهما ، فإننا سنقيم هذه الموازنة بين منهجيهما في المباحث النحوية واللغوية من خلال الجوانب الآتية :
المبحث الأول
مصادرهما النحوية
المطلب الأول : مصادر الزمخشري النحوية
إن المتتبع لتاريخ الحركة العلمية في جانب الدراسات اللغوية والنحوية والبلاغية يجدها قد اكتملت ونضجت مع نهاية القرن الرابع الهجري ، وقد طبق المفسرون ذلك في إنتاجهم التفسيري ، حتى إذا جاء الزمخشري في القرن الخامس ومطلع القرن السادس ، وجد سوق الدراسات اللغوية والنحوية نافقة ، والحركة العلمية بصفة عامة مزدهرة زاخرة ، سواء من حيث العدد الوافر من العلماء الذين كانوا يتوزعون على ساحة المشرق الإسلامي ، أو من حيث ما تزخر به المكتبات الإسلامية من أمهات الكتب في هذه الفنون .. )(1)
__________
(1) . د. رابح دوب ، الدرس البلاغي عند المفسرين حتى نهاية القرن الرابع الهجري : 195(1/1)
ولقد كان الزمخشري بتفسيره الكشاف خاتمة مرحلة زاهرة من مراحل التفسير والنحو بمنهجه اللغوي الفريد وخصائصه الذاتية ، واستيعابه لفكر أئمة النحو ومؤلفي كتب المعاني والدراسات البلاغية ، وتعبيره عن ذلك في إطار من الملاءمة بين الإعراب والنظم القرآني ، وبيان خصائص التعبير القرآني المعجز ، وابتداع منهج متميز من مناهج المفسرين ، بتمثله أقوالهم وتلوينها بفكره واتجاهاته الشخصية ، حتى ليجعلك تؤمن أن ما ينقله هو من اجتهاداته لإحكامه النقل وقوة شخصيته وكثرة اختياراته ، مما يعطي أنه لا ينقل إلا ما هو مقتنع به ، وفي حاجة إليه دون الدخول في سرد الأقوال ومناقشتها ـ كما فعل أبو حيان الأندلسي ـ والترجيح بينها ، وإنما يذكرها مختصرة ، متجاوزا لها إلى ما يختاره ، مكتفيا باللمحة والإشارة إلى سبب اختيار رأي معين(1).
ويمكن رصد ملامح منهج الزمخشري في تعامله مع مصادره النحوية في العناصر الآتية :
1 ـ يبدو الزمخشري من خلال النمادج والأمثلة التي بين أيدينا أنه بان على أسس السابقين ومنطلق منها ، منتفع بكتب معاني القرآن كغيره من المفسرين ، ومضيف إليها بشخصيته الفذة ، وما أتيح له من معارف نضجت واكتمل نموها في عصره وهذا ـ في رأيي ـ معنى قول من قال : ( إنه أخذ من الرماني والزجاج أو سلك سبيلهما )(2)
__________
(1) . د. إبراهيم عبد الله رفيدة ، النحو وكتب التفسير ، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان ، طرابلس ، ليبيا ، ج1/681 بتصرف .
(2) . انظر فصل : مسلكهما في المباحث العقدية من هذا الباب ، وما جاء في حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي في سياق حديثه عن التفسير ، حيث قال : ( وبعد هؤلاء ـ الطبري وتفسيره أجل تفسير للمتقدمين ـ ثم استفاض التأليف حتى انتهى للزجاج والرماني ، ومنهما أخذ الزمخشري . ) الشهاب الخفاجي ، عناية القاضي وكفاية الراضي ، أو حاشية الشهاب على البيضاوي ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، ط1 ، 1997م ، ج1/16(1/2)
وإنما خص بهذا القول لصلته الاعتزالية بالرماني النحوي ، ولأن الزجاج هو الذي نضج على يديه التأليف في المعاني ، ولأن الزمخشري هو الذي أوصل المنهج اللغوي إلى ذروته .
إلا أن هذا المنهج قد سبب له انتقادات ممن لم يستسيغوا منه هذا المسلك ، فوصفه بعضهم بالأنفة والكبر لعدم تصريحه بمصادره في كثير من المواضع(1)، كما وصف أبو حيان هذا العمل أحيانا بالسرقة ، وبالتلفيق أحيانا أخرى .
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج " سورة ص : 56 ـ 57
حيث ذكر أبو حيان إعراب الآية الثانية ثم قال(2):
( وقال الزمخشري(3): وآخر ، أي عذاب آخر أو مذوق آخر ، وأزواج صفة لآخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروبا ، أو صفة للثلاثة ، وهي حميم وغساق وآخر من شكله . انتهى ، وهو إعراب أخذه من الفراء(4). )
وفي تفسير قوله تعالى : "والفجر وليال عشر " سورة الفجر : 1 ـ 2
قال أبو حيان : ( وقال الزمخشري وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة ، فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم به ؟ قلت لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بعض منها ، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها ، فإن قلت فهل عرفت بلام العهد لأنها ليال معلومة معهودة ؟ قلت لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير ، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية ، انتهى ، أما السؤالان فظاهران ، وأما الجواب عنهما فلفظ ملفق ، لا يعقل منه معنى فيقبل أو يرد )(5)
__________
(1) . د. عدنان زرزور ، الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير : 477 وما بعدها .
(2) . البحر المحيط : 7/406
(3) . الكشاف : 4/101
(4) . الفراء ، معاني القرءان ، تحقيق علي عمر النجار ، الدار المصرية للتأليف والترجمة : 2/411
(5) . البحر المحيط : 8/468(1/3)
فقول أبي حيان "وأما الجواب عنهما فلفظ ملفق " معناه أن الزمخشري قد نسج رأيه هذا من آراء متعددة ، دون أن ينسب كل رأي لصاحبه .
وربما كانت مثل هذه الأحكام قاسية في حق الزمخشري في هذا الجانب ، وإلا كيف يكون سارقا في مثل هذه المواضع ، وقد شهد له أهل التراجم ـ ممن كانوا أقرب إلى عصره زمنيا ـ بالإمامة والتفوق ، فقال فيه ابن خلكان : ( الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان ، كان إمام عصره غير مدافع ..)(1)
كما قال فيه القفطي : ( وهو ممن يضرب به المثل في علم النحو واللغة )(2)
فالزمخشري لم يكن مجرد ناقل أو ملخص لكتاب سابق مثلما درج عليه بعض المفسرين من جمع ، أو تلخيص ، أو تهذيب لكتب السابقين ، بل كان مطلعا على آراء وأقوال السابقين ومستوعبا لها ، ولا يتخير منها إلا ما كان متجها إلى المعنى الذي يراه في الآية ، ومتفقا مع الأسس الفكرية والمنهجية التي أراد أن يبني عليها تفسيره ، ولم يلزم نفسه الرد على ما شاع في كتب التفسير من آراء كان يراها بعيدة عن الصواب ، أو بعيدة عن المعنى الذي يلوح من الآية ، وهذا خلافا لأبي حيان الذي كان يتتبع الآراء النحوية عند من سبقه من المفسرين ، ويفيض في تحليلها وتوجيهها أو نقدها ، ولكن مع ربط كل ذلك بما يخدم المعنى الذي يدل عليه النص القرآني .
__________
(1) . وفيات الأعيان : 5/168
(2) . القفطي ، إنباه الرواة على أنباه النحاة : 3/265(1/4)
2 ـ وكان الزمخشري بصري المذهب في النحو ، حيث نشأ على دراسة النحو البصري ، فتعلق به وخدمه ، وألف كتابا في شرح أبيات سيبويه ، وهو أمر ليس بالهين ، فكان الزمخشري يفتخر به ، بل ويتوسل به عند الوزراء والسلاطين لنيل مكانة تليق بحاله مثلما فعل مع نظام الملك(1)، وقد تجلت بصريته بوضوح في تفسيره ، سواء من حيث المصطلحات التي يرددها ، أو الأحكام النحوية التي ينتصر لها ، أو من حيث تصريحه بأسماء أئمة النحو البصريين الذين كان ينقل عنهم ـ وإن كان هذا التصريح قليلا جدا ـ وفي مقدمتهم سيبويه ، والزجاج ، وابن جني وغيرهم ، ويتضح هذا من خلال النماذج الآتية :
في تفسير قوله تعالى : " وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون " سورة الأعراف : 3
أعربت فيه الجملة الثانية الإسمية حالا ، ولم تذكر معها واو الحال ، فقال الفراء الواو محذوفة ، ورده الزجاج مكتفيا بوجود الضمير ، أما الزمخشري فقال : إن " أو " العاطفة على حال تغني عن ذكر واو الحال استثقالا لاجتماع حرفي عطف . قال " ( فإن قلت : لا يقال : جاءني زيد هو فارس بغير واو ، فما بال قوله "هم قائلون " ؟ قلت قدر بعض النحويين الواو محذوفة ، ورده الزجاج وقال : : لو قلت : جاءني راجلا أو هو فارس ، أو جاءني زيد هو فارس ، لم يحتج فيه إلى واو ، لأن الذكر قد عاد إلى الأول ، ثم قال الزمخشري : والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف ، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل ، فقولك : جاءني زيد راجلا أو هو فارس كلام فصيح وارد على حده ، وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث .)(2)
فالزمخشري هنا ليس مجرد ناقل ، بل يذهب إلى جعل نفسه حكما بين الفراء والزجاج ، ليخرج برأي يعبر عن اجتهاده وقناعته .
__________
(1) . انظر الفصل الثاني من الباب الأول في مبحث رحلات الزمخشري .
(2) . الكشاف : 2/87(1/5)
ومثل ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا .. " سورة سبأ : 28
حيث حكى عن الزجاج أنه أعربها حالا ، قال : " إلا كافة للناس " إلا إرسالة عامة لهم محيطة ، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم ، وقال الزجاج : المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ ، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء " الراوية " و " العلامة " ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ، ثم لا يقنع به حتى يضم أن يجعل اللام بمعنى " إلى " ، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطا الثاني ، فلا بد له من ارتكاب الخطأين . )(1)
وقد أفاد الزمخشري من كتاب سيبويه ، ونقل عنه تارة نقلا حرفيا ، وتارة ملخصا رأيه ، ولكنه قليلا ما يذكر إسمه كعادته في إغفال ذكر مصادره الأخرى ، وكثيرا ما يجعل من كلام سيبويه في " الكتاب " حجة بنفسه في رفع الخلاف ، ولا يتعداه إلى غيره ، إجلالا له ، وعرفانا بمكانته ، ومن الأمثلة على ذلك :
في تفسير قوله تعالى : " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة .." سورة النساء :161
__________
(1) . الكشاف : 3/582 .(1/6)
قال الزمخشري : ( وارتفع الراسخون على الابتداء و" يؤمنون " خبره ، و " المقيمين " نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع ، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد(1)، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الاسلام ، ودب المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرقوه من يلحق بهم .)(2)
وفي كلام الزمخشري في هذا الموضع ما يجعلنا نتوقف ـ أو على الأقل نتردد ـ في قبول بعض المطاعن التى وجهها إليه أبو حيان وغيره ، وذلك أن الزمخشري يبدو في الظاهر قد ناقض نفسه ، أو رجع عما ذهب إليه في مواضع أخرى من كشافه ، ويكفي الزمخشري ما ذكره في هذا الموضع ليلتقي مع أبي حيان وغيره في الدب عن كتاب الله ودفع ما يرد من شبهات على نقله وأدائه ورسمه .
وفي تفسير قوله تعالى : " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " سورة البقرة : 137
__________
(1) . سيبويه ، الكتاب ، تحقيق عبد السلام هارون ، عالم الكتب ، بيروت ، ط3 ، 1983م ، باب ما ينتصب على التعظيم والمدح ، ج2/63 .
(2) . الكشاف : 1/590(1/7)
قال الزمخشري : ( " صبغة الله " مصدر مؤكد منتصب على قوله " آمنا بالله " كما انتصب " وعد الله " عما تقدمه ... وقوله " ونحن له عابدون " عطف على " آمنا بالله ، وهذا العطف يرد قول من زعم أن " صبغة الله " بدل من " ملة إبراهيم " ، أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم عن انتظامه واتساقه ، وانتصابها على مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه(1)، والقول ما قالت حذام . )(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " سورة الأعراف : 131
قال الزمخشري : ( " مهما " هي " ما " المضمنة معنى الجزاء ، ضمت إليها " ما " المزيدة المؤكدة للجزاء في قولك : متى ما تخرج أخرج ، " أينما تكونوا يدرككم الموت " ، " فإما نذهبن بك " إلا أن الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين ، وهو المذهب السديد البصري ، ومن الناس من زعم أن " مه " هي الصوت الذي يصوت به الكاف ، و" ما " للجزاء ، كأنه قيل : كف ما تأتنا به من آية فما نحن لك بمؤمنين ، فإن قلت : ما محل " مهما " ؟ قلت الرفع ، بمعنى : أيما شيء تأتنا به ، أو النصب ، بمعنى : أيما شيء تحضرنا ( ) تأتنا به . و" من آية " تبيين لمهما ، والضميران في " به " و " بها " راجعان إلى " مهما " ..
ثم قال الزمخشري : ( وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية ، فيضعها في غير موضعها ، ويحسب " مهما " بمعنى : متى ما ، ويقول : مهما جئتني أعطيتك ، وهذا من وضعه ، وليس من واضع العربية في شيء ، ثم يذهب فيفسر " مهما تأتنا به من آية " بمعنى الوقت ، فيلحد في آيات الله وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه . )(3)
__________
(1) . سيبويه . الكتاب ، باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره . 1/382
(2) . الكشاف : 1/196
(3) . الكشاف : 2/146(1/8)
فالزمخشري بهذا يرى أن للناظر في كتاب سيبويه مزية وفضلا لا توجد لغيره مهما حصل ووعى من مصادر النحو ، مما يدل على شدة تعلقه بهذا المصدر ، واعتماده بقوة في كتابه الكشاف .
3 ـ وكون الزمخشري بصري المذهب لم يمنعه من الأخذ بآراء الكوفيين في بعض المواضع من كشافه ، واعتماد بعض مصادرهم ، وذلك إذا تبين له رجحان مذهبهم في بعض المسائل النحوية ، وهذا في حقيقة الأمر مظهر من مظاهر التحرر من ربقة التقليد والإتباع ، والانتقال إلى دائرة الإجتهاد . وهو في هذا يختلف نسبيا عن أبي حيان الذي كان أشد إجلالا وتعصبا لسيبويه منه ، وقد حملته عصبيته هذه على ألا يقرئ أحدا إلا من " الكتاب " لسيبويه ، أو كتبه التي ألفها بنفسه في النحو ، مما قلل من اجتهاداته النحوية ، وأغلب هذه الاجتهادات كانت داخل المذهب أي في النحو البصري ، ولا يذكر من آراء الكوفيين إلا في بحث القضايا الخلافية ، وتوجيه الآراء التي يسردها في كتابه منسوبة لمختلف المفسرين ، بل كان أبو حيان يذهب إلى تضعيف اختيارات الزمخشري مما ذهب إليه الكوفيون .
فمن ذلك مثلا جعله إسم الإشارة اسما موصولا في أكثر من آية ـ وهو مذهب كوفي ـ وكذلك الزجاج سبق أن تابع الكوفيين في هذه المسألة ، ولعل الزمخشري كان مقتديا بالزجاج هنا، حيث نقل عنه أنه مثل لذلك بقوله تعالى " هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة.. " النساء : 108 فذهب الزمخشري في نفس الموضع إلى نفس الرأي فقال : ( ويجوز أن يكون " أولاء " إسما موصولا بمعنى الذين ، " وجادلتم " صلته . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " .. ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " سورة آل عمران : 57
__________
(1) . الكشاف : 1/563(1/9)
قال أبو حيان : ( وأجاز الزمخشري أن يكون " ذلك " بمعنى " الذي "(1)و " نتلوه " صلته و " من الآيات " خبر ، وقاله الزجاج قبله ، وهذه نزعة كوفية يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة ، ولا يجوز ذلك عند البصريين إلا في " ذا " وحدها إذا سبقها " ما " الإستفهامية باتفاق ، أو " من " الاستفهامية باختلاف . )(2)
4 ـ ومثلما قال الزمخشري بآراء الكوفيين أحيانا ، فإنه خرج أحيانا عن المذهبين جميعا ، وقال بأقوال ليس لها تخريج ، لا في المذهب البصري ولا في المذهب الكوفي ، وربما انفرد برأي خالف فيه جمهور النحويين ، أو ما يشبه الإجماع عندهم .
ولذا نجد أبا حيان قد عارضه في ذلك ، وعاب عليه بعضا من تلك الاجتهادات وناقشه في كثير منها ، وقد كانت تلك الانتقادات متفاوتة بين اللين أحيانا ، والسخرية والقسوة أحيانا أخرى ، ومن الأمثلة على ذلك :
في تفسير قوله تعالى : " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " سورة آل عمران : 106
قال أبو حيان : ( وأما تقديره : أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم " فهذه نزعة زمخشرية(3)، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلا يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكن اعتني بالاستفهام فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين ، وقد رجع الزمخشري أخيرا إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان رأيه الأول مذكور في كتب النحو . )(4)
فقول أبي حيان : " هذه نزعة زمخشرية " يعني انفراده بهذا الرأي في هذه المسألة ، كما لا يخفى ما فيها من تعريض به وسخرية ، يفهم منهما استبعاد صحة ما ذهب إليه وتضعيفه .
وفي تفسير قوله تعالى : " فيه آيات بينات مقام إبراهيم .." سورة آل عمران :96
__________
(1) . الكشاف : 1/367
(2) . البحر المحيط :2/476
(3) . الكشاف : 1/399
(4) . البحر المحيط : 3/24(1/10)
قال أبو حيان : ( ولم يذكر الزمخشري في إعراب " مقام إبراهيم " إلا أنه عطف بيان لقوله " آيات بينات " ورد عليه ذلك لأن آيات نكرة ، ومقام إبراهيم معرفة ، ولا يجوز التخالف في عطف البيان ، وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين فلا يلتفت إليه ، وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين .. والأصوب في إعراب " مقام إبراهيم " أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره " أحدها " أي أحد تلك البينات مقام إبراهيم ، أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : من الآيات البينات مقام إبراهيم ، ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم ، ولكونه مشاهدا لهم ..)(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم .. " سورة البقرة : 261
قال أبو حيان الأندلسي : ( وقال الزمخشري(2): ومعنى " ثم " إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الإستقامة على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله " ثم استقاموا " انتهى كلامه . وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى لـ " ثم " ، ولا أعلم له في ذلك سلفا . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون " سورة الزخرف: 46
نجد الزمخشري يقول : ( و " إذا " للمفاجأة ، فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لما بـ " إذا " ـ المفاجأة ـ ؟ قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وقت ضحكهم . )(4)
__________
(1) . البحر المحيط : 2/9
(2) . الكشاف : 1/311
(3) . البحر المحيط : 2/306
(4) . الكشاف : 4/255(1/11)
وهنا نجد أبا حيان يعترض على هذا الرأي للزمخشري الذي خالف فيه النحويين ، ويرد عليه مذهبه فيقول : ( ولا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن " إذا " الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر ، تقديره : فاجأ ، بل المذاهب فيه ثلاثة :
ـ مذهب أنها حرف ، فلا تحتاج إلى عامل .
ـ ومذهب أنها ظرف مكان ، فإن صرح بعد الاسم بمدها كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو : خرجت فإذا زيد قائم ، فقائم ناصب لـ "إذا " .
ـ ومذهب أنها ظرف زمان ، والعامل فيه الخبر أيضا . )(1)
والحقيقة أن ردود أبي حيان على الزمخشري في كل ما سبق ذكره ليس لمجرد خروجه عن مذهب نحوي معين ، أو لأنها من اجتهاداته ، بل لما فيها من أخطاء ومخالفات لأحكام إعرابية مبسوطة في كتب النحو وصفها أبو حيان في أغلب الأحيان بالأخطاء الفاحشة ، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها :
في تفسير قوله تعالى : " .. إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.. " سورة المائدة : 29
قال الزمخشري : ( .. يقال قرب صدقة ، وتقرب بها ، لأن تقرب مطاوع قرب .. )(2)
فرد عليه أبو حيان بقوله : ( وليس تقرب بصدقة مطاوع قرب صدقة لاتحاد فعل الفعلين ، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل ، فيكون من أحدهما الفعل ، ومن الآخر انفعال ، نحو : كسرته فانكسر ، وفلقته فانفلق ، وليس قربت صدقة ، وتقربت بها من هذا الباب ، فهو غلط فاحش . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : ( أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي .. " سورة المائدة : 33
__________
(1) . البحر المحيط : 8/20
(2) . الكشاف : 1/624
(3) . البحر المحيط : 3/361 . وانظر : يحيى الشاوي ، المحاكمات بين أبي حيان ابن عطية والزمخشري ، نسخة خطية ، كلية أصول الدين ، الجزائر 1999م ، ص : 476(1/12)
قال أبو حيان : ( وقرأ الجمهور : " فأواري " بنصب الياء عطفا على قوله " أن أكون " كأنه قال : أعجزت أن أواري سوءة أخي . وقال الزمخشري(1): فأواري بالنصب على جواب الاستفهام . وهو خطأ فاحش لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول أتزورني فأكرمك ، وقال تعالى : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " أي : إن يكن لنا شفعاء يشفعوا لنا ، ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي لم يصح ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب . )(2)
قال يحيى الشاوي : وهو ظاهر ، ولا حاجة إليه مع إمكان غيره وهو عطفه على " أكون" .
ومثله أيضا في تفسير قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته .. ) سورة النساء : 158
قال أبو حيان : ( وقال الزمخشري(3): " ليؤمنن به " جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ، ونحوها " وما منا إلا له مقام معلوم " ، " وإن منكم إلا واردها " والمعنى : وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به . إنتهى ، وهو غلط فاحش ، إذ زعم أن " ليؤمنن به " جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة " أحد " المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو " من أهل الكتاب " والتقدير كما ذكرناه : " وإن أحد من أهل الكتاب " وأما قوله " ليؤممن به " فليست صفة لموصوف ، ولا هي جملة قسمية كما زعم ، وإنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو " أحد " المحذوف . )(4)
__________
(1) . الكشاف : 1/626
(2) . البحر المحيط : 3/467 . وانظر المحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري : 477
(3) . الكشاف : 1/588
(4) . البحر المحيط : 3/392(1/13)
وليس في هذه الأمثلة السابقة شيء من التحامل من أبي حيان على الزمخشري بقدر ما فيها من التنبيه على مزالق وقع فيها ، بل نجده في المثال الواحد يناقشه ، ويبين ما فيه من الحق والصواب فيستحسنه ويقدمه ، ثم يميز ما فيه من الخطإ فيكشفه ويطرحه ، وكان أغلب ما وقع فيه الزمخشري بسبب جريانه وراء الجانب المعنوي ، وإثبات الوجوه البلاغية على حساب الصناعة النحوية ، أو عند محاولته حمل النص الذي يصادم مذهبه على الوجه الذي يخدم ميوله ، ويتضح هذا مثلا من خلال ما جاء في تفسير قوله تعالى : " هاأنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله .. " سورة آل عمران : 119
حيث قال أبو حيان : ( وقال الزمخشري : والواو في " وتؤمنون " للحال ، وانتصابها من " لا يحبونكم " ، أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ، ونحوه " فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون )(1)
وقد علق أبو حيان على هذا الكلام قال : ( انتهى كلامه وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في " وتؤمنون " للحال ، وأنها منتصبة من " لا يحبونكم ، والمضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال ، نقول جاء زيد يضحك ، ولا يجوز ويضحك . )(2)
بل نجد أبا حيان في مواضع أخرى يقف مدافعا عن الزمخشري ، ويدفع عنه ما يوجه إليه من انتقادات إذا كان ما ذهب إليه رأيا سليما .
__________
(1) . الكشاف : 1/406
(2) . البحر المحيط : 3/40(1/14)
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه فإذا خفت عليه فالقه في اليم ..." حيث نقل أبو حيان رأي الزمخشري حرفيا في جعل الضمائر كلها عائدة إلى موسى ـ عليه السلام ـ ثم قال : ( ولقائل أن يقول : إن الضمير إن كان صالحا لأن يعود على الأقرب لا على الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا ، وقد نص ، وقد نص النحويون على هذا ، فعوده على التابوت في قوله فاقذفيه في اليم فليلقه اليم ..راجح . والجواب أنه إذا أحدهما هو المحدث عنه ، والآخر فضلة كان رده على المحدث عنه أرجح ، ولا يلتفت إلى القرب . ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله " فإنه رجس " عائد على " خنزير " لا على " لحم " لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير . )(1)
المطلب الثاني : مصادر أبي حيان النحوية
وهكذا فإننا إذا رجعنا إلى مسلك أبي حيان الأندلسي في تعامله مع ما اعتمده من مصادر نحوية في تفسيره ، فإننا نجده قائما على أسس واضحة ، اختارها لنفسه عن اقتناع بصحتها ، ورسوخ في هذا الفن ، فهو مطلع على المذاهب النحوية ، عارف بمواطن الإتفاق والاختلاف ، ملم بمواضع الإجماع عند أئمة النحو المعتد بقولهم . وكان المنهج الذي رسمه لنفسه وارتضاه والتزم به إلى حد بعيد يقوم على ما يأتي :
__________
(1) . البحر المحيط : 6/241(1/15)
1 ـ كان أبو حيان الأندلسي بصريا في مذهبه النحوي ، ملتزما به ، وهو مذهب أثري ، قائم على النقل والسماع ، فوافق تلك الميول عنده ، لأنه ـ كما وصفه أهل التراجم ـ كان يميل إلى الأثر والسماع والنقل أكثر من الاجتهاد ، وليس هذا لقلة بضاعته في هذا الفن ، بل كان حجة النحاة في زمانه ، وقد وصفه أحمد بن نصر الداودي في طبقات المفسرين بقوله : ( وكان عارفا باللغة والنحو والتصريف ، فهو الإمام المجتهد المطلق فيهما ، خدم هذا الفن أكثر عمره ، حتى صار لا يدركه أحد في أقطار الأرض فيها غيره ..)(1)
وكان أول ما تتجلى فيه بصرية أبي حيان الأندلسي هو ولعه بـ " الكتاب " لسيبويه وإشادته به والدفاع عنه ، بل جعل النظر في كتاب سيبويه شرطا سابقا فيمن أراد أن يتكلم في تفسير القرآن الكريم فقال : ( فالكتاب هو المرقاة إلى فهم الكتاب ، إذ هو المطلع على علم الإعراب ، والمبدي من معالمه ما درس ، والمنطق من لسانه ما خرس ، والمحيي من رفاته ما رمس ، والراد من نظائره ما طمس ، فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير ، وترقت إلى التحقيق فيه التحرير أن يعتكف على كتاب سيبويه ، فهو في هذا الفن المعول عليه ، والمستند في حل المشكلات إليه .. )(2)البحر 1/3
فقول أبي حيان " الكتاب مرقاة إلى فهم الكتاب .. " وما في هذا الجناس من الدلالة المعنوية ، يفصح عما كان يحظى به كتاب سيبويه من مكانة عند هذا الرجل .
__________
(1) . الداودي ، طبقات المفسرين : 2/287
(2) . البحر المحيط : 1/3(1/16)
2 ـ وكانت مصادره إلى جانب كتاب سيبويه كتب التفسير التي اهتمت بالنواحي الإعرابية ، وعرض الآراء النحوية وتطبيقاتها في توضيح معاني النصوص القرآنية ، ومما يدل على عظمة أبي حيان ، ورسوخ قدمه في هذا الجانب ، عدم تأثره بمن سبقه من المفسرين ، وما قرروه من وجوه ضعيفة في الإعراب ، فهو ينقلها بأمانة منسوبة لأصحابها ، ثم يعرضها على ميزان النقد العلمي ، فما كان يدعمه الدليل والبرهان قدمه وأخذ به ، وما كان يفتقر للصحة رده بغض النظر عن قائله .
وخير مثال على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا .." سورة البقرة : 199
حيث نراه يسهب في عرض آراء من سبقه من المفسرين ، ويحصيها في خمسة وجوه ، ثم يحكم عليها بالضعف جميعا ، ويختار في معنى الآية إعرابا ومعنى لم يسبق إليه ، محاولا أن يدلل على صحته من سياق النص القرآني .. فيقول : ( فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيفة ، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم أو أشد ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه ، وهو أن يكون أشد منصوبا على الحال ، وهو نعت لقوله " ذكرا " لو تأخر ، فلما تقدم انتصب على الحال . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " سورة الرعد :26
نقل آراء المفسرين في إعراب الآية ، وما قدروا فيها من محذوفات من غير مسوغ ، ثم كر عليها فأبطلها ، مبينا ما ينبغي من وجوه الإعراب الفصيحة التي يحمل عليها كلام الله تعالى .
__________
(1) . البحر المحيط : 2/104(1/17)
قال أبو حيان : ( وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون " أن يوصل " في موضع نصب بدلا من " ما " أي : وصله ، والتقدير ويقطعون وصل ما أمر الله به . وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعول من أجله ، وقدره المهدوي : كراهية أن يوصل ، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل ، وحكى أبو البقاء وجه المفعول لأجله وقدره : لئلا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون " أن يوصل " في موضع رفع أي هو أن يوصل .
ثم قال أبو حيان : ( وهذه الأعاريب كلها ضعيفة ، ولولا شهرة قائليها لضربت عنها صفحا ، والأول الذي نختاره هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى ، وسواه من الأعاريب بعيد عن فصيح الكلام ، بله أفصح الكلام ، وهو كلام الله . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة .. " سورة البقرة : 29
قال أبو حيان الأندلسي : ( واختلف المعربون في " إذ " فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى زيادتها ، وهذا ليس بشيء ، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النحو .
وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى " قد " ، والتقدير : وقد قال ربك ، وهذا ليس بشيء .
__________
(1) . البحر المحيط : 5/128(1/18)
وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به بـ " أذكر " ، أي واذكر إذ قال ربك ، وهذا ليس بشيء ، لأن فيها إخراجها عن بابها ، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية ، أو بإضافة ظرف زمان إليها . وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية ، وناس قبلهما وبعدهما ، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف واختلفوا ، فقال بعضهم : هي في موضع رفع التقدير : ابتداء خلقكم ، وقال بعضهم في موضع نصب التقدير : وابتداء خلقكم إذ قال ربك ، وناسب هذا التقدير لما تقدم قوله " خلق لكم ما في الأرض جميعا ، وكلا هذين القولين لا تحرير فيه لأن ابتداء " خلقنا " لم يكن وقت قول الله للملائكة " إني جاعل في الأرض خليفة " ، لأن الفعل العامل في الظرف لا بد أن يقع فيه ، أما أن يسبقه أو يتخلف عنه فلا ، لأنه لا يكون له ظرفا .
وذهب بعضهم إلى أن " إذ " منصوب بقال بعدها ، وليس بشيء ، لأن " إذ " مضافة إلى الجملة بعدها ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف .
وذهب بعضهم إلى أنها نصبها بـ " أحياكم " تقديره : وهو الذي أحياكم إذ قال ربك ، وهذا ليس بشيء ، لأنه حذف بغير دليل ، وفيه أن الإحياء ليس واقعا في وقت قول الله للملائكة ، وحذف الموصول وصلته وإبقاء معمول الصلة ، وذهب بعضهم إلى أنه معمول لـ " خلقكم " من قوله تعالى " اعبدوا ربكم الذي خلقكم إذ قال ربك .. " فتكون الواو زائدة ، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن تكون سورا من القرآن لاستبدال كل آية منها بما سيقت له ، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي .(1/19)
ثم قال أبو حيان بعد سرد هذه الوجوه من التقديرات الإعرابية : ( فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزه كتاب الله عنها ، والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله " قالوا أتجعل .." أي وقت قول الله للملائكة " إني جاعل في الأرض خليفة ..قالوا أتجعل " كما تقول في الكلام : إذ جئتني أكرمتك ، أي وقت مجيئك أكرمتك ، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا ، فانظر إلى حسن هذا الوجه السهل الواضح ، وكيف لم يوفق أكثر الناس إلى القول به، وارتبكوا في دهياء ،وخبطوا خبط عشواء . )(1)
وعاد إلى تقرير موقفه هذا في تفسير قوله تعالى : " وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم .. " سورة البقرة : 48
فقال : ( تقدم الكلام على " إذ " في قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة.. " ومن أجاز نصب " إذ " هناك مفعولا به بإضمار " أذكر " أو ادعى زيادتها فقياس قوله هناك إجازته هنا ..ثم قال : وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولا به بـ " أذكر " لا ظاهرة ولا مقدرة ، لأن ذلك تصرف فيها ، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها ، إلا بإضافة ظرف زمان إليها ، وإذا كان كذلك فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف، ويكون العامل فيه فعلا محذوفا يدل عليه ما قبله تقديره : وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون " وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمنا ، وخرج بقوله " أنجيناكم " إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ، من الضمير الذي لا يدل على التعظيم في قوله " نعمتي التي أنعمت " لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوهم هو من أعظم النعم ، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه . )(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/139
(2) . البحر المحيط : 1/192(1/20)
3 ـ وكان أبو حيان الأندلسي عارفا بأخبار النحاة والمكانة العلمية لكل منهم ، وهو يرى عدم الاغترار بأي قول منسوب لإمام من أئمة النحو ما لم يكن إماما معتمدا في هذا الشأن ، مع صحة نسبة الأقوال لأصحابها ، ولذا نجده تارة يعترض على رأي نحوي لكون صاحبه لا يرقى إلى مستوى الاحتجاج برأيه ، ويحكم بضعفه ، وتارة أخرى يستبعد نسبة بعض الآراء إذا كانت ظاهرة الضعف للمشاهير من النحاة ، مما يدل على الروح العلمية الفائقة التي كان يتعامل بها مع تلك المصادر ، فهو يفحص الأقوال ويقلبها على مختلف وجوهها قبل أن يقبل أو يرد واحدا منها ، كما صرح بأن المرجع والمعول عليه هو ما ذهب إليه أئمة اللغة المتقدمين ، فيجب تقديمه على أقوال المتأخرين ، والأمثلة على ذلك مستفيضة نذكر منها :
ففي تفسير قوله تعالى : " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة .. " سورة البقرة : 23
نقل أبو حيان قول الزمخشري الذي ينص على أن " لن " تفيد التأبيد ، وقول من خالفه في ذلك ـ ابن خطيب زملكي(1)ـ من أن " لن " تنفي ما قرب ، ثم قال أبو حيان : ( وهذه الأقوال ـ أعني التأكيد والتأبيد ـ ونفي ما قرب أقاويل المتأخرين ، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها أئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم )(2)
ثم يحيل بعد ذلك على كلام طويل لسيبويه في الكتاب فيجعله حكما في هذا الخلاف(3). وبعد أن ينقل كلام سيبويه ويشرح المراد منه يرى في ضوئه أن كلام الزمخشري في هذا الموضع هو الأقرب للصواب .
__________
(1) . هو عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن كمال الدين ، أبو المكارم ، بن خطيب زملكا ، قال السبكي : كان فاضلا خبيرا بالمعاني والبيان والأدب ، مبرزا في عدة فنون ، مات بدمشق سنة : 651هـ . انظر بغية الوعاة : 2/119
(2) . البحر المحيط : 1/107
(3) . انظر سيبويه ، الكتاب : 1/135(1/21)
قال أبو حيان : ( فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري أولا من أن فيها توكيدا وتشديدا ، لأنها تنفي ما هو مستقبل لأداة بخلاف " لا" فإنها تنفي المراد به الاستقبال ، مما لا أداة فيه تخلصه له ، ولأن " لا" قد ينفى بها الحال قليلا ، و " لن " أخص بالاستقبال ، وأخص بالمضارع . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في حسرة وهم لا يؤمنون " سورة مريم : 28
قال أبو حيان : ( وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أن يكون المعنى : وقضى أن الله ربي وربكم " فهي معطوفة على قوله " أمرا " من قوله " إذا قضا أمرا " والمعنى : إذا قضى أمرا وقضى أن الله .. انتهى . وهذا تخبيط في الإعراب ، لأنه إذا كان معطوفا على " أمرا " كان في حيز الشرط ، وكونه تعالى ربنا لا يتقيد بالشرط ، وهذا يبعد أن يكون قاله أبو عمرو بن العلاء ، فإنه من الجلالة في علم النحو بالمكان الذي قل أن يوازنه أحد ، مع كونه عربيا ، ولعل ذلك من فهم أبي عبيدة ، فإنه يضعف في النحو.)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " والشمس وضحاها " سورة الشمس : 1
قال أبو حيان : ( وما نقل عن المبرد(3)من أن " الضحى " مشتق من الضح ، وهو نور الشمس ، والألف مقلوبة من الحاء الثانية ، وكذلك الواو في " ضحوة " مقلوبة عن الحاء الثانية ، لعله مختلق عليه ، لأن المبرد أجل من يذهب إلى هذا ، وهذان مادتان مختلفتان لا تنشق إحداهما من الأخرى . )(4)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/107
(2) . البحر المحيط : 6/190
(3) . هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري ، أبو العباس ، المبرد ، إمام العربية ببغداد في زمانه أخذ عن المازني ، وأبي حاتم السجستاني ، كان فصيحا بليغا ، ثقة أخباريا . له من التصانيف : معاني القرءان ، والكامل في اللغة والاشتقاق وغيرها ، توفي سنة : 285ببغداد . انظر بغية الوعاة : 1/269
(4) . البحر المحيط : 8/478(1/22)
وفي هذا الباب أيضا نجد أبا حيان ينتقد بعض من سبقه من المفسرين الذين أساءوا نقل أقوال أئمة النحو ، إما بالتحريف في الألفاظ وما يترتب عليها من تحريف في المعنى ، وإما بسوء فهمها ، وعدم التوفيق في توظيفها وإسقاطها على النصوص القرآنية .
ففي تفسير قوله تعالى : " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " سورة آل عمران : 43
نجده ينتقد ابن عطية الذي استشكل معنى هذه الآية فقال : ( وقد ذكرنا مناسبة تقديم السجود على الركوع(1)، وقد استشكل ابن عطية وقوع العطف في هذه الآية فقال : وهذه الآية أشد إشكالا من قولنا قام زيد وعمرو ، ولأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية ؟ قال أبو حيان : ( وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق .)(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث .. " سورة البقرة : 70
__________
(1) . البحر المحيط : 2/456
(2) . البحر المحيط : 2/457(1/23)
قال أبو حيان : ( وقد جعل الزمخشري الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير الأرض ، وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة ساقية . انتهى كلامه ، ووافقه على جعل " لا " الثانية مزيدة صاحب المنتخب . وما ذهبا إليه ليس بشيء ، لأن قوله : لا ذلول صفة منفية بلا ، وإذا كان الوصف قد نفي بلا ، لزم تكرار " لا " النافية لما دخلت عليه ، تقول : مررت برجل لا كريم ولا شجاع ، وقال تعالى : " .. ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب " ، " وظل من يحموم لا بارد ولا كريم " ، " لا فارض ولا بكر " . ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار ، لآن المستفاد منها النفي ، إلا إن ورد في ضرورة الشعر . )(1)
4 ـ تقصي أراء النحويين ونقلها مع تمييز ما كان منقولا حرفيا ـ إن وجدت ـ أو بالمعنى ، والتنبيه على ذلك ، وهذا مراعاة منه للأمانة العلمية التي تحلى بها في الأغلب الأعم من نقوله واقتباساته ، ومناقشتها ، ثم بيان الراجح من المرجوح منها ، وربط ذلك بما يتفق ولغة القرآن الكريم في تراكيبها وأساليب بيانها ومعانيها .
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله .. " سورة النساء :76
حيث نقل أقوال أئمة اللغة في حكم " لما "في هذه الآية فقال : ( و" لما " حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه ، وظرف زمان بمعنى " حين " على مذهب أبي علي ، وإذا كانت حرفا ـ وهو الصحيح ـ فجوابه " إذا " الفجائية ، وإذا كانت ظرفا فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر ، لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد " إذا " الفجائية فيما قبلها ، ولا يمكن أن يعمل في " لما " الفعل الذي يليها ، لأن " لما " هي مضافة إلى الجملة بعدها .. )
__________
(1) . البحر المحيط : 1/255(1/24)
ثم قال أبو حيان : ( والذي نختاره مذهب سيبويه في " لما " وأنها حرف ، ونختار أن " إذا " الفجائية ظرف مكان يصح أن يجعل خبرا للاسم المرفوع بعده على الابتداء ، ويصح أن يجعل معمولا للخبر .. ومن زعم أن " إذا " هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد ، لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال ، لأن " كتب " ماض ، و " إذا " للمستبقل .. )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : ( ..وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون " البقرة : 39
تحدث أبو حيان عن حكم اقتران الفعل بالفاء في هذا الموضع ،ىثم أحال على كلام لسيبويه فقال : ( وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه(2): تقول : كل رجل يأتيك فاضرب ، لأن " يأتيك " صفة ههنا ، كأنك قلت : كل رجل صالح فاضرب . انتهى )(3)
5 ـ تقديره لإجماع النحاة ، واعتباره حجة في ترجيح الأقوال ، ومصدرا قويا يرجع إليه ، ولا التفات إلى أي رأي خالف هذا الإجماع ..
وخير مثال على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم .. " سورة آل عمران : 106
__________
(1) . البحر المحيط : 3/297
(2) . الكتاب : 3/63
(3) . البحر المحيط : 1/176(1/25)
حيث قال أبو حيان : ( وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم " نهاية التأميل في أسرار التنزيل " قد اعترض على النحاة في قولهم لما حذف ، يقال حذفت الفاء بقوله تعالى " وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم " تقديره : فيقال لهم أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فيقال ولم تعطف الفاء ، فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جوابا له ولقوله " أكفرتم " ومن نظم العرب إذا ذكروا حرفا يقتضي الجواب له أن لا يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفا آخر يقتضي جوابا ، ثم يجعلون له جوابا واحدا كما في قوله تعالى " فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " البقرة : فقوله " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " جواب للشرطين .
ثم قال أبو حيان : ( انتهى ما نقل عن هذا الرجل ، وهو كلام أديب لا كلام نحوي ، أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرج الآية على إضمار " فيقال لهم : أكفرتم " ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا يلتفت إليه . )(1)
__________
(1) .البحر المحيط : 3/23(1/26)
6 ـ أن الأصل في اللغة النقل والسماع ، فمن كان له سند في ذلك قبل منه ، ومن ادعى شيئا من غير دليل أو سماع متصل رد عليه قوله ، وهو منهج البصريين ، فالتزم أبو حيان هذا المنهج ، وحكمه عند الخلاف ، وجعل ذلك سببا كافيا للاعتراض على الزمخشري وغيره الذين مهما كانوا يصدرون في توجيهاتهم الإعرابية عن المذهب البصري ، إلا أنهم لم يلتزموا بتحكيم هذا المنهج كما فعل أبو حيان ، وهذا ما يستوقفنا في كثير من المواطن في تفسيره . ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين " سورة الجمعة : 7
حيث نقل عن الزمخشري قوله : (ولا فرق بين " لا " و " لن " في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في " لن " تأكيدا وتشديدا ليس في " لا " فأتى مرة بلفظ التأكيد ـ ولن يتمنوه ـ ومرة بغير لفظه ـ ولا يتمنونه . )(1)
ثم قال أبي حيان : ( وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن " لن " تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه ، وأما قوله : إلا أن في " لن " تأكيدا وتشديدا ليس في " لا " فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقرئ اللسان . )(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " .. غفرانك ربنا وإليك المصير " سورة البقرة : 284
ذكر خلافا في بناء المصدر الميمي مما عينه ياء ، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح العين المكسورها ، فهو بفتحها ، والزمان والمكان منه بالكسر ، وذهب عضهم إلى التخيير بين الكسر والفتح فيه ، وقال فريق ثالث : يقتصر فيه على السماع .
وعندها قال أبو حيان : ( وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع ، فحيث بنت العرب المصدر على " مفعل " اتبعناه ، وهذا المذهب أحوط . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر .. " سورة البقرة : 59
__________
(1) . الكشاف : 4/531
(2) . البحر المحيط : 8/267
(3) . البحر المحيط : 2/366(1/27)
قال أبو حيان : ( والاستسقاء طلب الماء عند عدمه أو قلته ، وقيل مفعول استسقى محذوف أي استسقى موسى ربه ، فيكون المستسقى منه وهو المحذوف ، وقد تعدى إليه الفعل ، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله " إذ استسقاه قومه " أي طلبوا منه السقيا ، وقال بعض الناس : وحذف المفعول تقديره استسقى ماء ، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى ويكون المفعول قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قولهم :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثم قال أبو حيان : ( ويحتاج إثبات تعديه إلى إثنين إلى شاهد من كلام العرب كان يسمع من كلامهم استسقى زيد ربه الماء ، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقى منه ، ومرة إلى المستسقى ، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب . )(1)
ومثله في تفسير قوله تعالى " يريد الله أن يخفف عنكم " سورة النساء : 28
قال أبو حيان : ( واعربوا هذه الجملة حالا من قوله " والله يريد أن يتوب عليكم ، والعامل في الحال " يريد " التقدير : والله يريد أن يتوب عليكم مريدا أن يخفف عنكم ، وهذا الإعراب ضعيف ، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل ، وهي جملة أجنبية من العامل والحال ، فلا ينبغي أن تجوز إلا بسماع من العرب . )(2)
7 ـ حمل كلام الله تعالى على الإظهار أولى من حمله على الإضمار والافتقار ، وهو مسلك بارز في تفسير أبي حيان بخلاف الزمخشري الذي كان يميل إلى تقدير المحذوفات إلى درجة التكلف والإغراب .
وأحسب أن المشهور عند أئمة النحو هو ما ذهب إليه أبو حيان ، وليس ما غلب على كشاف الزمخشري ، من ذلك مثلا ما جاء في شرح المفصل لابن يعيش ( وكلما كثر الإضمار كان أضعف )(3)
وجاء فيه أيضا ( .. والنصب أجود لأنه أقل إضمارا وتجوزا .. )(4)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/266
(2) . البحر المحيط : 3/227
(3) . ابن يعيش ، شرح المفصل : 2/97
(4) . المصدر نفسه : 2/28(1/28)
كما جاء في شرح ابن عقيل : ( .. والمختار رفعه لأن عدم الإضمار أرجح من الإضمار ..)(1)
وفي البرهان للزركشي : ( والحذف خلاف الأصل ، وعليه ينبني فرعان:
ـ أحدهما : إذا دار الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه أولى ، لأن الأصل عدم التغيير .
ـ والثاني : إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته كان الحمل على قلته أولى . )(2)
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل.. " سورة البقرة : 92
حيث وقف أبو حيان الأندلسي إلى جانب القائلين بحمل النص على ظاهره ، واستبعد التأويلات الأخرى التي تصرفه عن الظاهر لعدم وجود دليل يشفع لأصاحبها . قال أبو حيان : ( وظاهره أن كلتا الجملتين مقولة ، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان ، ويؤيده قول ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا . وقيل القول هنا مجاز ، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين ، ولكن لما لم يقبلوا ما أمروا به جعلوا كالناطقين بذلك ، وقيل يعبر بالقول للشيء عما يفهم من حاله وإن لم يكن نطق ، وقيل المعنى : سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا ، وهذا راجع لما قاله الزمخشري : سمعنا قولك وعصينا أمرك . والقول الأول أحسن ، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره ، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه . )(3)
ولا نستبعد أن يكون هذا التوجه عند أبي حيان يستمد جذوره من نزعته الظاهرية التي نشأ عليها ، حيث ذكر أهل التراجم أنه نشأ ظاهريا ، وكان يقول : ( محال من عرف مذهب الظاهر أن يرجع عنه .. )(4)
__________
(1) . شرح ابن عقيل على ألقية ابن مالك : 1402
(2) . الزركشي ، البرهان : 3/104
(3) . البحر المحيط : 1/308
(4) . انظر ترجمة أبي حيان في الفصل الرابع من الباب الأول .(1/29)
ولما كان أبو حيان كثير الاعتداد بنفسه ، ولا يرضى مما ذهب إليه المفسرون من التوجيهات النحوية إلا ما كان مقتنعا به ، فإنه وقع فيما وقع فيه الزمخشري أحيانا عندما خالف ما يشبه الإجماع عند المفسرين حول معاني بعض الآيات الكريمة ، وبذلك ناقض نفسه ، وجانب الصواب في مثل هذه المواضع ـ وإن كانت قليلة ، ونذكر منها :
في تفسير قوله تعالى : " وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير " سورة سبأ :44
حيث نجد الزمخشري فسر الآية بما يتبادر إلى الأفهام ، وهو ما ذهب إليه المفسرون قبله فقال : ( وصفهم بأنهم قوم أميون أهل جاهلية ، لا ملة لهم ، وليس لهم عهد بإنزال كتاب ولا بعثة رسول كما قال " أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون " فليس لتكذيبهم وجه متشبث ، ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين : نحن أهل كتاب وشرائع ، ومستندون إلى رسل من رسل الله .. )(1)
وهو تفسير يتفق مع سياق الآيات المترابطة في هذا المقطع القرآني ، ومع ظاهر النص الذي يليق بمنهج أبي حيان .
__________
(1) . الكشاف : 3/589(1/30)
إلا أن أبا حيان لم يرضه هذا التفسير ، ولم يكترث باتفاق المفسرين حول هذا المعنى الظاهر من الآية ، فقال : ( والذي أذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله " ما أتاهم " و " وما أنذر آباؤهم " أن " ما " نافية ، وعندي أن " ما " موصولة ، والمعنى : لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم " من نذير " متعلق بـ " أتاهم " أي أتاهم على لسان نذير من قبلك ، وكذلك " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم " أي العقاب الذي أنذره آباؤهم فـ " ما " مفعولة في الموضعين ، وأنذر يتعدى إلى مفعولين ، قال تعالى " فإن اعرضوا فقد أنذرتكم صاعقة " وهذا القول جار على ظواهر القرءان ، قال تعالى " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " و " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ونذير فقد جاءكم بشير ونذير " و " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " و " وما كان ربك ليهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا " )(1)
والذي أراه أن أبا حيان في مثل هذا الموضع قد جانب الصواب ، وقد أخفق وأساء في توظيف نزعته الظاهرية ، وذلك من عدة وجوه :
أولا : أنه قد خالف ما يشبه الإجماع عند المفسرين في فهم هذه الآية ، حيث اعتبروا " ما " نافية ، أم أبو حيان فذهب إلى أنها موصولة ، من غير مسوغ أو دليل قوي يبني عليها هذه المخالفة .
ثانيا أن الآيات التي استشهد بظواهرها هي عند التأمل والتدبر حجة عليه وليست له ، لأنه لا يوجد في تلك الآيات ما يمنع أن يكون المقصود بـ " النذير " أو " الرسول " محمدا ـ صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : أن الله تعالى قد ذكر في هذه الآية قرينة ترجح المعنى الذي اختاره الزمخشري وغيره من المفسرين ، وهذه القرينة هي قوله " فهم غافلون " .
رابعا : أن الله تعالى قد قال في صريح كتابه : " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " سورة الجمعة : 2
__________
(1) . البحر المحيط : 7/179(1/31)
خامسا : سياق الآية وموقعها مما قبلها وما بعدها يأبى أن يكون ما ذهب إليه أبو حيان هو المقصود والظاهر من العبارة ، حيث تكررت " ما " النافية في هذا الموضع خمس مرات ، ولا يستقيم المعنى إلا إذا اعتبرناها نافية في تلك المواضع كلها .
وبذلك يتبين أن أبا حيان هو الآخر لم يسلم من هذه المزالق ، ولكن يشفع له قلتها وندرتها ، وقديما قال الشاعر :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وفي تفسير قوله تعالى : " ذلك الكتاب لا ريب فيه " البقرة : 2
قال أبو حيان : ( وقد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله " ذلك الكتاب لا ريب فيه " ، والذي نختاره منها أن قوله " ذلك الكتاب " جملة مستقلة من مبتدإ وخبر ، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ، ولا افتقار كان أولى من أن يسلك به الإضمار والإفتقار ، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرءان ، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف ، وأسوغها في لسان العرب ، ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرئ القيس ، وشعر الأعشى ، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات ، فكما أن كلام الله تعالى من أفصح كلام ، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه . )(1)
وهو في هذا الكلام يعرض بمسلك الزمخشري(2)، حيث ذهب في إعراب الآية مذاهب صعية ، فتارة قدر مبتدأ محذوفا في بداية الجملة ، وتارة أخرى قدر صفة بعد الكتاب فتصبح : هو ذلك الكتاب الموعود ، وهي كما تبدو عبارة قلقة ينزه عنها كلام الله تعالى .(3)
ويتبين مما سبق في الحديث عن مصادر المفسرين ما يأتي :
ـ كانا يصدران عن مذهب نحوي واحد ، وهو المذهب البصري ، إلا أن أبا حيان كان أكثر تمثيلا لهذا المذهب ، من حيث تقيده بالسماع ، وتقديمه عن القياس إلا ما شذ في مواضع قليلة من تفسيره .
__________
(1) . البحر المحيط : 1/36
(2) . الكشاف : 1/33 .
(3) . البحر المحيط : 2/354 . 7/448(1/32)
ـ وإذا كان عمدة المذهب البصري هو سيبويه ، فإن المفسرين قد اتخذا من كتابه مصدرا أساسيا ، فتارة ينقلون عنه بالنص ، وتارة أخرى بالمعنى ، ولكن أبا حيان أكثر نقلا وضبطا فيما ينقل عن سيبويه .
ـ وقد نص أبو حيان على مصادره النحوية على وجه التفصيل ، سواء في مقدمة تفسيره ، أو في المواضع التي ناقش فيها المسائل النحوية ، فيسند الأقوال لأصحابها ، مع التعريف بهم أحيانا بما يزيد الدارس ثقة بذلك الرأي ، أو بما يضعفه لضعف صاحبه ، بينما كان الزمخشري ينقل الأقوال مجردة من أسماء أصحابها إلا في مواضع قليلة ، مما يصعب على الباحث رد تلك الأقوال لمصادرها .
كما تجلت الروح النقدية عند صاحب البحر المحيط أكثر منها عند صاحب الكشاف ، ففي الوقت الذي نجد أبا حيان يعرض الأقوال من مصادرها ويناقشها ، ويتخير منها ما يراه أصح وأقوى ، نجد الزمخشري في الغالب الأعم يكتفي بذكر الرأي الذي اختاره ، وليس بالضرورة أن ينص على سبب اختياره لرأي معين من بين الآراء مختلفة ، أو أن ينسبه إلى أول من قال به.
المبحث الثاني
الشواهد النحوية عند المفسرين
المطلب الأول : الشواهد النحوية عند الزمخشري
لقد بينا في أكثر من موضع من هذا البحث أن روح التحرر والاجتهاد كانت تغلب على منهج الزمخشري في إنتاجه العلمي ، وقد تجلى هذا في كثير من كتبه كالمفصل في النحو ، وأساس البلاغة وغيرها ، وقد نقل هذا المنهج إلى تفسيره الكشاف ، فلم يتقيد فيه بما تقيد به من سبقه في ضوابط الشواهد النحوية واللغوية ، ولقد ضمن تفسيره حصيلة واسعة من الشواهد في هذا الجانب ، ولكن حسب منهج اختطه لنفسه واقتنع به .
وبالتتبع لما أورده الزمخشري من شواهد شعرية في كشافه ، يمكننا تصنيف هذه الشواهد إلى ما يأتي :
1 ـ شواهد نحوية أوردها في معرض الإحتجاج لآرائه النحوية .
2 ـ شواهد لغوية لبيان المعاني اللغوية لألفاظ القرآن الكريم .(1/33)
3 ـ الإستشهاد والاحتجاج للقراءات وبيان قياسها من كلام العرب .
4 ـ شواهد بلاغية لبيان جمال التعبير القرآني ، وصوره البيانية وأساليبه العالية .
5 ـ الإستشهاد للمعاني وتوضيحها وتحليلها في قالب أدبي .
ومن المعلوم أن النوعين الرابع والخامس لا يشترط فيهما ما يشترط في الثلاثة الأولى من وجوب أن يكون المستشهد به من كلام العرب الفصحاء من عصر الإحتجاج ، لأنهما لا يتعلقان بتشريع أصل لغوي ، وإنما يتعلق أحدهما بجمال التعبير على قياس كلام العرب في المفردات والتراكيب ، ويتعلق الثاني منهما بالمعاني ، وهي مشاعة بين العصور ، وليس المتقدم بأقدر عليها من المتأخر(1).
وهذا ما التزم به الزمخشري في كشافه ، فقد دبجه بالآثار والشواهد الشعرية لأمثال أبي نواس ، وأبي تمام ، وابن الرومي ، والمتنبي ، والمعري ، وغيرهم ممن لا يحتج بشعرهم في الأغراض الثلاثة الأولى ، بل لقد استشهد ببعض أشعاره هو نفسه ، إلى جانب الشواهد الكثيرة من شعراء عصر الاحتجاج الذين يستشهد بكلامهم في كل الأغراض .
وهو في استشهاداته الأدبية والبيانية أديب موفق ، وبلاغي ممتاز حتى قال فيه ابن المنير ـ وهو عنيف عليه في تعقيباته ـ معلقا على بعض تحليلاته : ( وهذا الفصل من كلامه يستحق من علماء البيان أن يكتبوه بذوب التبر لا بالحبر . )(2)
ومن الأمثلة على شواهده البلاغية والأدبية ما جاء في تفسير قوله تعالى : " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا بعوضة فما فوقها .. " سورة البقرة : 25
قال الزمخشري : ( .. ويجوز أن تقع هذه العبارة " إن الله لايستحي " في كلام الكفرة ، فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت ، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ، وهو فن من كلامهم بديع ، وطراز عجيب ، منه قول أبي تمام :
__________
(1) . انظر : النحو وكتب التفسير : 1/717 بتصرف .
(2) . الانتصاف من الكشاف . على هامش الكشاف : 2/638 ، هامش : 2(1/34)
من مبلغ أفناء يعرب كلها أن بنيت الجار قبل المنزل
ولله در أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها ، لا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه ، وأسد مدارجه ، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت في إناء من الورد . )(1)
فالبيت الأول لأبي تمام ، والبيت الثاني لأبي الطيب المتنبي ، ولكن الزمخشري قد صرح في بداية الكلام بأنه ساق هذين الشاهدين للتدليل على أحكام بيانية ، وليس لتقرير حكم نحوي أو لغوي .
وفي تفسير قوله تعالى : " والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ما لا يفعلون " سورة الشعراء : 223 ـ225
حيث تكلم الزمخشري عن معنى قوله " في كل واد يهيمون " فقال : ( ذكر الوادي والهيوم فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول ، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ، ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، وأن يبهتوا البري ويفسقوا التقي ، وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :
فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام
فقال : قد وجب عليك الحد ، فقال يا أمير المؤمنين ، قد درأ الله عني الحد بقوله " وأنهم يقولون ما لا يفعلون ." )(2)
ومنه أيضا ما جاء في تفسير وقله تعالى : " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين " سورة الأعراف : 39
__________
(1) . الكشاف : 1/113
(2) . الكشاف : 3/344(1/35)
حيث تحدث الزمخشري عن حسن التشبيه في هذا الموضع ، ووجه الآية إلى ما يتفق مع هذا المعنى الحسن الذي تفيده هذه الصورة التشبيهية فقال : ( .. وقرأ ابن عباس الجمل بوزن القمل .. وقرئ الجمل بوزن القفل ، والجمل بوزن النصب ، والجمل بوزن الحبل ، ومنها القلس الغليظ ، لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة ، وعن ابن عباس : إن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل ، يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة . قال الزمخشري : إلا أن قراءة العامة أوقع ، لأن الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرت الإبرة ، وقالوا للدليل الماهر: خريت ، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر . والجمل مثل في عظم الجرم . قال :
جسم الجمال وأحلام العصافير
فقيل لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج هذا الحيوان ـ الذي لا يلج إلا في باب واسع ـ في ثقب الإبرة . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا .. " سورة الأعراف : 125
قال الزمخشري : ( وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله ، أرادوا : وما تعيب إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإيمان ، ومنه قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . )(2)
فالزمخشري هنا يخرج معنى الآية من باب استتباع المدح بما يشبه الذم ، وهو عند البلاغيين فن رفيع يفيد المبالغة في صورة المدح .
أما الشواهد التي أوردها في معرض الاحتجاج لغريب القرآن ، أو لقاعدة نحوية ، أو لتخريج قراءة من القراءات ، فإن أغلب شواهده كانت من عصر الاحتجاج ، بل أغلب تلك الشواهد مأخوذة من " الكتاب " لسيبوية ، وما خرج عن ذلك فهو تساهل منه ، وشذوذ عن القاعدة ، مما جعل أبا حيان يتتبع تلك المواضع ، ويسهب في الرد عليها .
فمن الشواهد التي أوردها في تفسير غريب القرءان :
__________
(1) . الكشاف : 2/104
(2) . الكشاف : 2/142(1/36)
في تفسير قوله تعالى : " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " سورة الأعراف : 182
قال الزمخشري : ( الاستدراج : استفعال من الدرحة بمعنى الاستصعاد ، أو الاستنزال درجة بعد درجة . قال الأعشى :
فلو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره وتعلم أني عنكم غير مفعم
ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب : طواه شيئا بعد شيء ، ودرج القوم : مات بعضهم إثر بعض . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها .." سورة النور : 27
قال الزمخشري : ( الاستئناس فيه وجهان : أحدهما أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش .. والثاني أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال : هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه قولهم : استأنس هل ترى أحدا ، واستأنست فلم ار أحدا ، أي تعرفت واستعلمت ، ومنه بيت النابغة :
بذي الجليل على مستأنس وحد . )(2)
ومن الاستشهاد للقراءات ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " سورة طه : 110
قوله : ( وقرئ نحدث وتحدث ـ بالنون والتاء ـ أي تحدث أنت ، وسكن بعضهم الثاء للتخفيف كما في :
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون " سورة النمل :25
__________
(1) . الكشاف : 2/182
(2) . الكشاف : 3/226
(3) . الكشاف : 3/90(1/37)
قال الزمخشري : ( من قرأ بالتشديد أراد : فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا ، فحذف الجار مع " أن " ، ويجوز أن تكون " لا " مزيدة ، فيكون المعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . ومن قرأ بالتخفيف فهو : ألا يسجدوا ، " ألا " للتنبيه ، ويا حرف النداء ومناداه محذوف ، كما حذفه من قال :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى . )(1)
وهكذا كانت أغلب شواهد الزمخشري فيما يتعلق بالقضايا النحوية واللغوية لفحول شعراء العصر الجاهلي ، وفي مقدمتهم أصحاب المعلقات المشهورين ، كامرئ القيس ، والنابغة الذبياني ، وطرفة بن العبد ، والأعشى وغيرهم .
وإذا كان الزمخشري قد سلم في هذه المواضع من انتقادات أبي حيان ، فإنه لم يسلم منه في تلك التي تساهل فيها واحتج بأشعار المتأخرين .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا .. " سورة البقرة : 19
قال أبو حيان : ( وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعديا بنفسه لمفعول ، ولذلك جاز أن يبنى لما لم يسمى فاعله . قال الزمخشري(2): أظلم على ما لم يسمى فاعله ، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي :
هما أظلما حالي تمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
__________
(1) . الكشاف : 3/361
(2) . الكشاف : 1/86(1/38)
وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ، ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه .انتهى كلامه ، قال أبو حيان : فظاهره كما قلنا أنه متعد ، وبناؤه لما لم يسمى فاعله ، ولذلك استأنس بقول أبي تمام " هما أظلما حالي .. " وله عندي تخريج آخر غير ما ذكر الزمخشري ، وهو أن يكون " أظلم " غير متعد بنفسه لمفعول ، ولكنه يتعدى بحرف جر ، ألا ترى كيف عدي " أظلم " إلى المجرور بـ "على" ، فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور ، فيكون في موضع رفع ، وكان الأصل : وإذا أظلم الليل عليهم ، ثم حذف فقام الجار والمجرور مقامه ، نحو : غضب زيد على عمرو ، وتبني الفعل للمفعول ، فتقول غضب على عمرو ، فليس يكون التقدير إذ ذاك : وإذا أظلم الله عليهم الليل ، فحذفت الجلالة ، وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل . وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به ، وقد نقل عن أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب :
من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولا
وكيف يستشهد بكلام مولد ، وقد صنف الناس في ما وقع لم من اللحن في شعره . )(1)
ويبدو أن أبا حيان في مثل هذا المقام مصيب ، وأن مذهب الزمخشري ظاهر الضعف ، إذ الثقة في الراوي غير فصاحته وسلامة سليقته ، وإلا فالموثوق بهم من الرواة لا يحصون عددا ، ( والعلماء الذين قرروا الثقة في أبيات الحماسة ورواية أبي تمام فيها هم الذين اتفقوا على عدم صحة الإحتجاج بشعره في اللغة ، وقد جعلوا إبراهيم بن هرمة القرشي آخر من يحتج بشعره من الفصحاء غير المولدين أو المحدثين ، فهذا القول باعتبار الثقة مسوغا للاستشهاد بقول من يوثق به ينفرد به الزمخشري ومن تبعه . )(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/90
(2) . النحو وكتب التفسير : 1/719(1/39)
قال الشهاب الخفاجي : ( واختلف في المحدثين فقيل لا يستشهد بشعرهم مطلقا ، وقيل يستشهد به في المعاني دون الألفاظ ، وقيل يستشهد بمن يوثق به منهم مطلقا ، واختاره الزمخشري ومن حذا حذوه ، قال : لأني أجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ، واعترض عليه بأن قبول الرواية مبني على الضبط والوثوق ، واعتبار القول مبني على معرفة الأوضاع اللغوية والإحاطة بقوانينها ، ومن البين أن إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية . )(1)
ومثلما اعترض أبو حيان على بعض شواهد الزمخشري المقتبسة من أشعار المولدين ، فإنه كان يعيب عليه أحيانا قلة استشهاده للمسائل النحوية واللغوية واكتفائه بالبيت الشعري الواحد لإثبات حكم معين أو نفيه ، لأنه يرى أن القواعد اللغوية والنحوية تبنى على ما شاع واشتهر ، وليس على ما شذ وندر ، والذي أراه أن أبا حيان محق في ذلك ، لأن البيت الواحد من الشعر قد يكون فيه مغمز أو قدح أو ضرورة شعر ، وذلك عكس ما يكون مدعما بالشواهد المتكاثرة . وفي ذلك يقول الجرجاني :
( ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية فانظر هل ترى فيها قصيدة تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدح فيه ، إما في لفظه ونظمه ، أو ترتيبه وتقسيمه ، أو معناه وإعرابه ، ولولا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم ، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة ، والأعلام والحجة ، لوجدت الكثير من أشعارهم معيبة مسترذلة ، ومردودة منفية .. )(2)
ثم مثل لبعض أغاليطهم من قصائد لكبار شعراء ذلك العصر ، فذكر بيتا لامرئ القيس وهو قوله :
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا غائل(3)
وقول الفرزدق :
وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال مسحتا أو مجلف(4)
__________
(1) . حاشية الشهاب على البيضاوي : 1/406
(2) . علي بن عبد العزيز الجرجاني ، الوساطة بين المتنبي وخصومه ، تحقيق أبو الفضل إبراهيم ، منشورات المكتبة العصرية ، بيروت ، لبنان ، ص : 4
(3) ديوان امرؤ القيس : 150
(4) . النقائض : 2/228(1/40)
علما بأن هذين البيتين قد وردا في شواهد الزمخشري ، وخرج على كل واحد منهما حكما من أحكام النحو ، ومحل الشاهد في البيتين عند الزمخشري هو محل القدح والعيب الذي يشير إليه الجرجاني . مما يجعلنا نأنس إلى ما ذهب إليه أبو حيان الأندلسي ، ونعتبره له فضيلة يتقدم بها على الزمخشري في هذا الجانب .
ولكي يتجنب أبو حيان هذه المنقصة التي كان يعيبها على الزمخشري ، نجده يفيض في إيراد الشواهد النحوية واللغوية في المسألة الواحدة بما يعزز الرأي الذي يذهب إليه ، وهذا ما سنفصله في المطلب الآتي .
المطلب الثاني : الشواهد النحوية عند أبي حيان الأندلسي
كان أبو حيان الأندلسي يتميز بحاسة نقدية بالغة الدقة ،اكتسبها من طول مدارسته للغة والنحو ، وقد وقف عليهما أغلب حياته ، فكان ملما بالشواهد اللغوية النحوية ، عارفا بمواضع ورودها ومحال الاحتجاج بها ، ولم تقتصر انتقاداته على شواهد الزمخشري فقط ، بل اعترض على كثير من المفسرين ممن اتخذهم مصدرا في تفسيره .
ومثلما اعترض أبو حيان على عدد من الشواهد النحوية التي تنسب لشعراء خارج عصر الاحتجاج ، فإنه اعترض على عدد آخر من الشواهد النحوية التي أخطأ بعضهم في توظيفها في غير محلها ، مما يدل على إلمامه ، وكثرة حفظه وضبطه .
ففي تفسير قوله تعالى : " .. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين.. " سورة البقرة :183
قال أبو حيان : ( وجوز بعضهم أن تكون " لا " محذوفة ، فيكون الفعل منفيا وقدره " وعلى الذين لا يطيقونه " ، قال حذفت "لا" وهي مرادة . قال ابن أحمد :
آليت أمدح مقرفا أبدا يبقى المديح ويذهب الرفد
وقال آخر :
فخالف فلا والله تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف
وقال امرؤ القيس
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي(1/41)
قال أبو حيان : وتقدير "لا" خطأ لأنه مكان إلباس ، ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم هو أن الفعل مثبت ، ولا يجوز حذف "لا" وإرادتها إلا في القسم ، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم ، وعلة ذلك مذكورة في كتب النحو . )(1)
ومثلما كان أبو حيان يورد من الشواهد المستفيضة للاحتجاج للأحكام النحوية ، فكذلك كان يستشهد للمعاني الأدبية والصور البلاغية التي حواها القرآن ، وكانت مستحسنة عند العرب ، فكان يورد الأشعار الكثيرة في الموضع الواحد بما يخرج ذلك الحكم الذي يقرره عن حد الغرابة والشذوذ ، لأنه يرى بأن كلام الله يجب أن يصرف إلى المعاني المشهورة والصور المألوفة عند من نزل عليهم القرآن ، وهو في هذا يسلك مسلك الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسيره " جامع البيان " الذي كان يرى جواز الإحتكام إلى اللغة في تفسير القرءان ، ولكن كلام الله تعالى يجب أن يحمل على الأشهر في اللغة ، وليس على الغريب النادر منها(2).
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " .. وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم .. " سورة آل عمران : 119
قال أبو حيان : ( وظاهره فعل ذلك ، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون ، ومنه قول أبي طالب :
وقد صالحوا قوما علينا أشحة يعضون عضا خلفنا بالأباهم
وقال الآخر
إذا رأوني أطال الله غيظهم عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
وقال الآخر
وقد شهدت قيس فما كان نصرها قتيبة إلا عضها بالأباهم
وقال الحرث بن ظالم المري
__________
(1) . البحر المحيط : 2/36
(2) . انظر جامع البيان تفسير " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور.. " سورة هود : 40 قال الطبري : (وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها ، وذلك انه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى خاطبهم به ) جامع البيان : 7/53 .(1/42)
وأقبل أقواما لئاما أذلة يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
ثم قال أبو حيان : ( ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام ، وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة ، كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت ، وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة إلى غير ذلك .. )(1)
كما أن إكثار الشواهد من كلام العرب لتجلية معاني غريب القرءان يسمح بتقليب اللفظ على مختلف وجوهه التي يحتملها ، وتخير المعني الذي يناسب سياق الآية ، وهذا ما درج عليه أبو حيان في تفسيره ، ويتضح هذا مثلا من خلال تفسيره لقوله تعالى : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " سورة آل عمران : 137
قال أبو حيان : ( السنة : الطريقة ، وقال المفضل : الأمة ، وأنشد :
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رؤي مثله في سالف السنن
وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه ، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب :
فلا تجزعن عن سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها
وقال سليمان بن قتيبة :
وإن الألى باللطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وقال لبيد :
من أمة سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها . )(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " ويقولون طاعة فإذا برز الذين من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول .. " سورة النساء : 90
ينقل أبو حيان أقوال أئمة اللغة مع نسبة كل قول لصاحبه ، ثم يتبعها بجملة من الشواهد الشعرية لتقوية ما ذهب إليه هؤلاء اللغويون فيقول : ( " التبييت " قال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس : كل أمر قضي بليل قيل قد بيت ، وقال الزجاج : كل أمر مكر فيه أو خيض بليل فقد بيت ، وقال الشاعر :
أتوني فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر مكر
__________
(1) . البحر المحيط : 3/41
(2) . البحر المحيط : 3/56(1/43)
وقال الأخفش : العرب تقول للشيء إذا قدر بيت ، وقيل هيء وزور ، وقيل قصد ، ومنه قول الشاعر :
لما تبيتنا أخا تميم أعطى عطاء اللحز اللئيم
أي قصدنا ، وقيل التبييت : التبديل بلغة طيء ، قال شاعرهم :
وتبييت قولي عند المليك قاتلك الله عبدا كفورا . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن.. " سورة البقرة : 230
قال أبو حيان : ( العضل : المنع ، عضل أيمه أي منعها من الزوج يعضلها ـ بكسر الضاد و ضمها ، قال ابن هرمة :
وإن قصائدي لك فاصطنعني كرائم قد عضلن عن النكاح
ويقال دجاج معضل إذا احتبس بيضها ، قاله الخليل وقال :
ونحن عضلنا بالرماح نساءنا وما فيكم عن حرمة الله عاضل
ويقال أصله الضيق ، عضلت المرأة نشب الولد في بطنها ، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم ، قال أوس :
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة معضلة منا بجيش عرمرم
وأعضل الداء الأطباء أعياهم ، وداء عضال ضاق علاجه ولا يطاق ، قالت ليلى الأخيلية :
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سفاها
وأعضل الأمر اشتد وضاق ، وكل مشكل عند العرب معضل ، وقال الشافعي رحمة الله عليه :
إذا المعضلات تصيدنني كشفت حقائقها بالنظر . )(2)
فانظر إلى عدد الشواهد التي أوردها أبو حيان في بيان معنى الفعل " عضل " ، أما إذا رجعنا إلى الزمخشري في كشافه فإننا نجده أورد شاهدا واحدا لمعنى واحد يراه الزمخشري لكلمة " عضل " فقال : ( والعضل الحبس والتضييق ، ومنه : عضلت الدجاجة ، إذا نشب بيضها فلم تخرج ، وأنشد لابن هرمة :
وإن قصائدي لك فاصطنعني عقائل قد عضلن عن النكاح(3)
__________
(1) . البحر المحيط : 3/303
(2) . البحر المحيط : 2/206
(3) . الكشاف : 1/278(1/44)
بل نجد أبا حيان يذهب إلى أبعد من هذا ، فنجده يجمع القرائن المختلفة من أقوال اللغويين والمفسرين وأسباب نزول الآية ، فيعزز بها شواهده الشعرية المتكاثرة لتقرير معنى من المعاني ، لتتضافر هذه الأدلة كلها ، وتشكل عنده رأيا راجحا في موضع الخلاف ، ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة .. " سورة النساء : 12
حيث تحدث عن المعنى اللغوي لكلمة " كلالة " فقال : ( قيل مشتقة من تكلله النسب ، أحاط به ، وإذا لم يترك والدا ولا ولدا فقد انقطع طرفاه ، وهما عمودا نسبه ، وبقي موروثه لمن يتكلله نسبه ، أي يحيط به من نواحيه كالإكليل ، ومنه روض مكلل بالزهر ، وقال الفرزدق :
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال الأخفش : الكلالة من لا يرثه أب ولا أم ، والذي عليه الجمهور أن الكلالة الميت الذي لا والد له ولا مولود وهو قول جمهور أهل اللغة ، صاحب العين ، وأبو منصور اللغوي ، وابن عرفة ، وابن الأنباري ، والعتبي ، وأبي عبيدة ، وقطرب . ويرجح هذا القول نزول الآية في جابر ، ولم يكن له يوم نزولها ابن ولا أب ، لأن أباه قتل يوم أحد ، فكانت قصة جابر بيانا لمراد الآية . )(1)
ومثلما كان أبو حيان يكثر من الشواهد الشعرية للمعنى اللغوي الواحد بما يخرجه مخرج الشهرة ، فإنه كان يفيض في إيراد الشواهد النحوية عند تقريره كل حكم من أحكام النحو بما ينفي عنه أن يكون من ضرورات الشعر أو الغريب النادر منه ، وهو يفعل ذلك بعد أن ينقل أقوال أئمة النحو ، وبعد أن يضرب أمثلة منثورة من عنده كتطبيق لذلك الحكم .
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه .." سورة آل عمران : 30
__________
(1) . البحر المحيط : 3/188(1/45)
حيث تحدث عن صحة أن يكون الفعل المضارع في الآية " تود " فعل شرط غير مجزوم فقال : ( .. إذا كان فعل الشرط ماضيا وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع الجزم وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك إن قام زيد يقوم عمرو ، وإن قام زيد يقم عمرو ، فأما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافا ، وأنه فصيح إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع " كان " لقوله تعالى : " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها .."(1)لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها . وظاهر كلام سيبويه ونص الجماعة أنه لا يختص ذلك بـ " كان " بل سائر الأفعال في ذلك مثل " كان " ، وأنشد سيبويه للفرزدق :
دست رسولا بأن القوم قد قدروا عليك يشفوا صدورا ذات توغير
وقال أيضا:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير ، وقال بعض أصحابنا وهو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق :
وإن اتاه خليل يوم مسئلة يقول لا غائب مالي ولا حرم
وهو قوله أيضا:
وإن سل ريعان الجميع مخافة يقول جهارا ويلكم لا تنفروا
وقال أبو صخر:
ولا بالذي إن بان عنه حبيبه يقول ويخفي الصبر إني لجازع
وقال الآخر:
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المنتظر
وقال الآخر:
وإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري لا إخالك راضيا
وقال الآخر:
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب إخبار
ثم قال أبو حيان بعد هذه الشواهد : ( فهذا الرفع ـ كما رأيت ـ كثير ، ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم ..)(2)
__________
(1) . سورة هود : 15
(2) . البحر المحيط : 2/429 . وانظر : 1/103 ، 1/168(1/46)
والتزم نفس المنهج في شواهده الشعرية على القراءات ، حيث كان لا يكتفي بالشاهد الواحد من كلام العرب وشعرهم ، بل يحرص على عرض الشواهد الكثيرة بما يخرج ما يقرره من أحكام إلى حد الشهرة .
فنجده مثلا في تفسيره قوله تعالى : " .. وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله .. " سورة البقرة : 215
أطال الكلام في تعليل قراءة الجمهور ـ في خفض المسجد الحارم ـ فذكر اختلاف أئمة النحو و المفسرين في تعيين المعطوف عليه في هذه القراءة ، كابن عطية والزمخشري وغيرهما ، ثم ناقش هذه الأقوال مرجحا القول الأول ، ومدللا عليه بالشواهد المستفيضة التي تخرجه عن أن يكون مقيدا بضرورة الشعر فقال : ( والذي نختاره أنه يجوز ذلك في الكلام مطلقا ، لأن السماع يعضده ، والقياس يقويه .. وقرأها كذلك ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والنخعي ويحيى بن وثاب والعمش وأبو رزين وحمزة ، ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب ، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرجه عن أن يجعل ذلك ضرورة فمنه قول الشاعر :
نعلق في مثل السواري سيوفنا فما بينها والأرض غوط نفانف
وقال آخر:
هلا سالت بذي الجماجم عنهم وأبي نعيم ذي اللواء المحرق
وقال آخر:
بنا أبدا لا غيرنا يدرك المنى وتكشف غماء الخطوب الفوادح
وقال آخر:
إذا أوقدوا نار الحروب عدوهم فقد خاب من يصلى وسعيرها
وقال آخر:
لو كان لي وزهير ثالث وردت من الحمام عدانا شر مورود
وقال رجل من طيء:
إذا بنا بل أنيسان اتقت فئة ظلت مؤمنة ممن تعاديها
وقال العباس بن مرداس:
أكر على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها
وأنشد سيبويه رحمه الله:
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقال آخر:
أبك آية بي أو مصدر من حمر الجلة جأب جسور(1/47)
ثم قال أبو حيان : ( فأنت ترى هذا السماع وكثرته ، وتصرف العرب في حرف العطف ، فتارة عطفت بـ " الواو " ، وتارة بـ " أو " ، وتارة بـ " بل " ، وتارة بـ " أم " ، وتارة بـ " لا " ، وكل هذا التصرف يدل على الجواز ، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله تعالى : " وعليها وعلى الفلك تحملون "(1)، " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها .. "(2)، " قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ..(3)" . )(4)
ومن خلال هذه النماذج جميعها يتبين لنا تفوق أبي حيان الأندلسي على الزمخشري في مبحث الشواهد اللغوية والنحوية ، وقد تجلى هذا التفوق في عدة نواح منها توسعه في إيراد الشواهد الشعرية ، ودقة توظيفه لتلك الشواهد في محلها ، مع تشدده وحرصه على الاحتكام لما اشتهر من شعر عصر الاحتجاج ، ورده لأشعار المتأخرين لما قد يعتريها من العجمة واللحن وغيرها .
المبحث الثالث
توجيه الإعراب لخدمة المعاني البلاغية
وهي من مواضع الاختلاف بين المفسرين ، ففي الوقت الذي نجد فيه أبا حيان يوجه آراءه الإعرابية وفق ما يراه أصوب وأصح في علم النحو ، نجد الزمخشري يوجه إعراب الآيات بما يراه أكثر بلاغة .
ومما يؤكد ولع الزمخشري بالدلالات البلاغية لقضايا النحو ، وتوظيفها في الكشف عن مواطن الجمال في القرآن الكريم ، تلك الإستنتاجات والاجتهادات التي لم يسبق إليها ، بل ربما لا يوافقه عليها من سبقه ولا من لحقه ، منها كلامه على " السين " التي تفيد الاستقبال مثلا ، حيث يرى بحاسته البلاغية أنها تفيد التوكيد أيضا.
ففي قوله تعالى : " .. فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " سورة البقرة : 136
__________
(1) . سورة المؤمنون : 22
(2) . سورة فصلت : 10
(3) . سورة الأنعام : 65
(4) . البحر المحيط : 2/148(1/48)
قال الزمخشري : ( ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم ، وإجلاء بني النظير ، ومعنى " السين " أن ذلك كائن لا محالة ، وإن تأخر إلى حين . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : ( أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) سورة التوبة : 72
قال : ( السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد ، كقولك : سأنتقم منك يوما ، تعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك . )(2)
وقد علق ابن هشام على ما ذهب إليه الزمخشري فقال : ( وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة ، ولم أر من فهم وجه ذلك ، ووجهه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل ، فدخولها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتض لتوكيده وتثبيت معناه . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له.. " سورة طه : 38
قال الزمخشري : ( والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع بعضها إليه ، وبعضها إلى التابوت فيه هجنة ، لما يؤدي إليه من تنافر النظم . فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت ، وكذلك الملقى إلى الساحل ، قلت : ما ضرك لو قلت : المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت ، حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر . )(4)
__________
(1) . الكشاف : 1/196
(2) . الكشاف : 2/289
(3) . ابن هشام . مغني اللبيب عن كتب الأعاريب تحقيق حنا الفاخوري ، دار الجيل ، بيروت لبنان ط1 ، 1991م ، ج1/147
(4) . الكشاف : 3/63(1/49)
وهكذا يمضي الزمخشري في تلمس النكت البلاغية ، وهو يحدق بثاقب فكره وبصره في مختلف وجوه النظم ، وما انطوت عليه من أسرار بلاغية ، إلى درجة أنه يحمل النص القرآني أحيانا ما لا يحتمله ، مما يجعل أبا حيان يتعقبه في أكثر هذه المواضع منبها على أثر التكلف والتعسف في تحميل العبارات القرآنية ما لا تحتمل ، والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
في قوله تعالى : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله .. " سورة البقرة : 22
قال أبو حيان : ( وليس التضعيف هنا ـ نزلنا ـ دالا على نزوله منجما في أوقات مختلفة خلافا للزمخشري ، قال : (فإن قلت لم قيل " مما نزلنا " على لفظ التنزيل دون الإنزال ؟ قلت : لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم ، وهو من محازه لمكان التحدي ..)(1)
__________
(1) . انظر الكشاف : 1/96(1/50)
قال أبو حيان : ( وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا هو الذي يعبر عنه بالتكثير ، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة ، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة . وذهل الزمخشري عن أن ذلك إنما يكون غالبا في الأفعال التي قبل التضعيف متعدية نحو : جرحت زيدا وفتحت الباب وقطعت وذبحت ، لا يقال جلس زيد ولا قعد عمرو ، و " نزلنا " لم يكن متعديا قبل التضعيف ، إنما كان لازما ، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة ، فإن جاء في لازم فهو قليل ، قالوا : مات المال وموت المال ، إذا كثر ذلك فيه ، وأيضا فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل ، أما أن يجعل اللازم متعديا فلأن " نزلنا " قبل التضعيف كان لازما ولم يكن متعديا ، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلا على أنه للنقل لا للتكثير ، إذ لو كان للتكثير وقد دخل على اللازم لبقي لازما ، نحو مات المال وموت المال ، وأيضا فلو كان التضعيف فينزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى(1)" لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " إلى تأويل ، لأن التضعيف دال على التنجيم والتكثير ، وقوله " جملة واحدة " ينافي ذلك ، وأيضا فالقراءة بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد ، وأيضا مجيء " نزل " حيث لا يمكن التكثير فيه والتنجيم إلا على وجه بعيد جدا يدل على ذلك ، قال تعالى(2): " وقالوا لولا نزل عليه آية .." وقال تعالى(3): " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول الآية ، ولا أنه علق على تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض ، وإنما المعنى والله أعلم مطلق الإنزال. )(4)
__________
(1) . سورة الفرقان : 32
(2) . سورة النعام : 38
(3) . سورة الإسراء : 95
(4) . البحر المحيط : 1/103(1/51)
وكان الزمخشري يرى أن مسلكه هذا ليس بدعا من القول ، بل كان العرب يميلون إلى هذا المسلك أيضا ويستحسنون توجيه الوجوه الإعرابية إلى ما كان أبلغ في اللغة ، وأن الزمخشري في ذلك تابع وليس متبوعا .
من ذلك مثلا ما نقله في تفسير قوله تعالى : " فشربوا منه إلا قليلا منهم .. " سورة البقرة :247
حيث قال : ( وقرأ أبي والأعمش " إلا قليل " بالرفع ، وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا ، وهو باب جليل في علم العربية ، فلما كان معنى " فشربوا منه " في معنى : لم يطيعوه ، حمل عليه ، كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم ، ونحوه قول الفرزدق(1):
وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف . )(2)
وهنا تجدر الإشارة مرة أخرى إلى تعريضه بأن القراءة اجتهاد ، وكأن أبيا والأعمش قرآ بما يريانه أصح في المعنى ، لا بما هو أصح في النقل ، وهو قول لا نسلم له به على ظاهره ، إلا أن تكون في الآية أكثر من قراءة ، فاختارا هذه القراءة لموافقتها ذلك المعنى ، والاختيار في القراءات الصحيحة جائز ، لأنها كلها كاف شاف ، ولو كان كلام الزمخشري السابق مفسرا على هذا الوجه في الكشاف لكان مقبولا ، ولسلم من انتقاد أبي حيان وغيره ، ولكنه اكتفى بالإجمال مع الإلباس في التعبير ، مما جعله غرضا لتلك الاعتراضات والاتهامات العنيفة أحيانا .
كما أن إهدار حكم من أحكام النحو المعروفة مقابل التعلق بمعنى من المعاني التي يرى الزمخشري أن إعجاز النص مرتبط بها يجعلنا نطرح أكثر من سؤال :
هل المعنى الذي صرف الزمخشري إليه الآية صادر بحق عن النص القرآني ، أم أنه صادر عن رؤية مذهبية ، ولا يسلم له بها غيره ؟
__________
(1) . ديوان الفرزدق : 2/26
(2) . الكشاف : 1/295(1/52)
ثم إن نظرية النظم أساسها مراعاة أحكام النحو ، فكيف ينقض هذه المسلمة عند التطبيق لها ، ولذلك لم ينفرد أبو حيان الأندلسي بالاعتراض عليه فقط ، بل نجد ابن هشام النحوي ـ وهو من المتعاطفين مع الزمخشري ضد أبي حيان ـ يسجل علية عدة اعتراضات في هذا المسلك ، ورد عليه كثيرا من التخريجات في هذا الجانب ، ومن ذلك مثلا :
في قوله تعالى : " ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله .." سورة الروم : 22
يرى الزمخشري أنه من باب اللف والنشر غير المرتب ، وأن ترتيب الكلام فيه يكون على النحو الآتي : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، إلا أنه فصل بين القرينين الأولين " المنام والابتغاء " بالقرينين الأخيرين " الليل والنهار " لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد ، مع إعانة اللف على الإتحاد .
ثم قال الزمخشري : ( ويجوز أن يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما ، والظاهر الأول لتكرره في القرءان ، وأسد المعاني ما دل عليه القرءان يسمعونه بالآذان الواعية .)(1)
( وهو نموذج يجمع إلى الحرص على تحقيق لون من ألوان البديع ـ اللف والنشر ـ وهو غرض بلاغي ، تزكية المعنى وتقويته بتكرره في القرءان الكريم ، ولذلك قال : وأسد المعاني ما دل عليه القرءان " وهي عبارة صائبة وجميلة ، لولا أنه في مقابل ذلك أهدر حكما نحويا ، وهو وجوب تأخر معمول المصدر عليه .)(2)
قال ابن هشام : ( وهذا يقتضي أن يكون النهار معمولا " لابتغاء " مع تقديمه عليه ، وعطفه على معمول " منامكم " وهو " بالليل " وهذا لا يجوز في الشعر ، فكيف في أفصح الكلام ؟ )(3)
ومن الغريب أنه نص على هذا الحكم ، وخرج عليه إعراب الآية في قوله تعالى : " فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك .. " سورة الصافات : 102
__________
(1) . الكشاف : 3/473
(2) . النحو وكتب التفسير : 1/709
(3) . مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : 2/599(1/53)
من تعلق " معه " بمحذوف ، إذ لا يصح تعلقه بـ " بلغ " لاقتضائه بلوغهما معا ، ولا بالسعي لأنه مصدر ، وصلة المصدر لا تتقدم عليه(1).
بينما هو في آية الروم السابقة يتجاهله ، ويخرج على خلافه ، مما يدل على أنه أسير المعنى والنكتة البلاغية ، وحيث أن تعليق " معه " في هذه الآية بالمصدر المؤخر لا يترتب عليه معنى زائد ، فلا داعي لخرق هذا الحكم الإعرابي(2).
وفي تفسير قوله تعالى : " إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " سورة غافر : 9
سلك نفس المسلك فعلق الظرف " إذ " بالمقت الأول ـ وهو مصدر مفصول من معموله ـ ولا يصح عمله مع الفصل على رأي النحويين(3).
قال الزمخشري : ( " إذ تدعون " منصوب المقت الأول ، والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار )(4)
فهو قد أهدر حكما نحويا في سبيل المعنى وتوجيهه ، ومراعاة لهذا الحكم قال ابن هشام : ( والصواب أن " إذ " متعلقة بمحذوف ، أي مقتكم إذ تدعون . )(5)
وكان أبو حيان في مثل هذه المواضع كثيرا ما يسكت عن مناقشة الزمخشري مكتفيا بقوله : وهذا ليس كلام نحوي وإنما هو كلام أديب .
__________
(1) . الكشاف : 4/53
(2) . انظر : النحو وكتب التفسير : 2/711
(3) . المصدر نفسه : 2/711
(4) . الكشاف : 4/154
(5) . مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : 2/596(1/54)
وفي هذه العبارة لأبي حيان رد قوي على الذين ذهبوا إلى تغليطه في اعتراضاته على الزمخشري في مثل هذه المواضع بحجة أن أبا حيان لم يكن يفهم أو يفرق بين مصطلحات النحويين والبيانيين ، بل كان محيطا بذلك ، ولكنه لم يرتض هذا المسلك عند الزمخشري وغيره ، ولذلك ردد هذه العبارة سواء في الاعتراض على الزمخشري ، أو على غيره من المفسرين الذين تأثروا بالزمخشري وسلكوا مسلكه في هذا الجانب(1).
ولا يعني أبو حيان بمثل هذه العبارة قبوله لما ذهب إليه الزمخشري بقدر ما فيه من التماس عذر له ، وبيان ما كان يغلب ويطغى عليه ، ومن هنا يمكننا أن نلاحظ أنه في الوقت الذي كان الزمخشري يغلب تحكيم ذوقه الأدبي في معالجة معنى النص القرءاني فإن أبا حيان كان يغلب عليه حسه النحوي .
ونجد الزمخشري أحيانا يحمل النص القرآني بعض المعاني التي لا تثبت إلا بالقفز على بعض القواعد النحوية من جهة ، وتجاهل المعنى الذي ينتظم مع سياق الآيات من جهة أخرى ،من غير أن بيبين الغرض البلاغي الذي حمله على ذلك ، مما يضاعف في خطئه ، ويفسح المجال أما أبي حيان كي يكيل له الانتقادات من كلتا الجهتين .
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في براج مشيدة .." سورة النساء : 77
قال أبو حيان : ( .. وقال أيضا الزمخشري أيضا ، ويجوز أن يتصل بقوله " ولا تظلمون فتيلا " ، أي ولا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها . ثم ابتدأ بقوله " يدركم الموت ولو كنمت في بروج مشيدة " والوقف على هذا الوجه : أينما تكونوا . انتهى كلامه .)(2)
__________
(1) . انظر مثلا : مرتضى آية الله زاده الشيرازي ، الزمخشري لغويا ومفسرا ، القاهرة ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، 1977م: 402
(2) . الكشاف : 1/538(1/55)
قال أبو حيان : ( وهذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة النحوية ، أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلا بقوله " ولا تظلمون فتيلا " لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى " . وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أن " أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها " وهذا لا يجوز لأن " أينما " إسم شرط ، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده ، ولأن إسم الشرط لا يتقدم عليه عامله ، فلا يمكن أن يعمل فيه . )(1)
وإذا ثبت لدينا أن الزمخشري يقدم ويفضل من وجوه الإعراب ما كان أبلغ ، وليس بالضرورة أن يقدم ما كان أقوى في النحو لتقرير أحكام بلاغية ، فلا عجب بعدئذ أن يوظف مهارته النحوية لتقرير ما كان أدل على مذهبه وأنسب لفكره ، وهو يرى أنه مذهب الحق ومذهب الفرقة الناجية ، بل نجده لا يتردد في مواطن عديدة من تفسيره في تحميل الآيات من وجوه الإعراب ما يخدم فكره الاعتزالي ، فتارة يقدر محذوفا في غير موضعه ، وتارة يتجاهله حيث يجب التقدير ، وتارة يرى التقديم والتأخير من غير قاعدة مطردة .
ولذلك نجده في قوله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " سورة النساء : 47
__________
(1) . البحر المحيط :(1/56)
يوجه نظم الآية توجيها جائرا لا لشيء إلا لتتفق مع مذهبه ، حيث يرى المعتزلة أن الذنوب ـ ومنها الشرك ـ لا تغفر إلا بالتوبة ، بخلاف أهل السنة الذين يرون أن المغفرة تكون بها وبالشفاعة ، كما تكون بمجرد فضل الله تعالى في غير الشرك . فلما رأى الزمخشري أن هذه الآية غير ظاهرة في تقرير مذهبه الاعتزالي ، أراد تطويعها له ، وراح يلتمس ويبحث عن سند أو ملاذ في النحو ، فجعل الفعلين في الآية " لا يغفر .. ويغفر " متجهين كليهما إلى قوله " لمن يشاء " على أن المراد من الأول المنفي من لم يتب ، وبالثاني من تاب ، وبهذا تستوي جميع الذنوب في عدم المغفرة إلا بالتوبة ، قال : ( فإن لقت : قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه ، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة فما وجه قول الله تعالى " إن الله لا يغفر لمن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ؟ قلت : الوجه أن يكون الفعل المنفي والثبت جميعا موجهين إلى قوله " لمن يشاء " كأنه قيل : إن الله لا يغفر : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ، على أن المراد بالأول من لم يتب ، وبالثاني من تاب ، ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل القنطار لمن يشاء ، تريد : لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله . )(1)
__________
(1) . الكشاف : 1/519 ـ 520(1/57)
وكأن التقدير على هذا التحليل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويختاره ، ويغفر لمن يشاء التوبة ويريدها ، ففاعل المشيئة عائد على " من " والمفعول مقدر باعتبارين ، أو أن المشيئة مسندة إلى الله تعالى ، وهو لا يشاء المغفرة إلا بالتوبة من الشرك وما دونه ، وهو تقدير بعيد لا يدل عليه أسلوب الآية التي كان أهل السنة على حق في حملها على من لم يتب ، فإن كان مشركا فإن الشرك لا يغفر ، وإن كان مؤمنا فإن لله سبحانه أن يغفر له فضلا منه ورحمة ، فهو تحت المشيئة ، وهو ما يظهر من الآية دون تكلف أو تعسف ، وأما مع التوبة فالشرك وما دونه مغفوران بما علمناه من الأدلة السمعية ، ولا حاجة إلى ما ذهب الزمخشري لتقريره وتفصيله.
أما في قوله تعالى : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر .. " النحل : 90
فنرى الزمخشري ينساق إلى تقرير معنى في الآية ظاهر البعد والغرابة ، لمجرد أنه يرى فيه حجة لتقرير بعض معتقده فيقول : ( العدل هو الواجب لأن الله تعالى عدل فيه على عباده ، فجعل ما فرضه عليهم واقعا تحت طاقتهم ، و" الإحسان " الندب ..)(1)
وما فهمه الزمخشري من هذه الآية يكاد يخرج به عن ظاهر النص إلى ما يقول به أصحاب التفسير الرمزي والباطني ، لأن الذي عليه المفسرون ـ وهو المتبادر من ظاهر الآية وسياقها ـ أن العدل والإحسان في هذا الموضع هما خصلتان من الخصال الحسنة التي أمر الله تعالى بهما عباده ، وليس وصفا للأحكام الشرعية من حيث دخولها تحت الطاقة البشرية وعدمها ، وفي الآية حذف تقديره : " إن الله يأمر بإقامة العدل والإحسان " والدليل على صحة هذا المعنى ما يأتي بعد ه في الآية " وإيتاء ذي القرى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.. " سورة النحل : 90
__________
(1) . الكشاف : 2/629(1/58)
فكل ما جاء في الآية هي أوصاف لأفعال العباد ، وليس أوصافا لأوامر الله تعالى على ما فهمه الزمخشري . كما أن ما قرره الزمخشري في معنى آخر الآية يؤيد هذا وينقض المعنى الذي ذهب إليه في بدايتها من حيث لا يدري ، حيث لم يفسر معنى الفحشاء والمنكر بما خرج عن طاقة المكلفين ، بل بما هو معروف عند الناس ، وبما يلوح من ظاهر الآية .
ولما كان مسلك الزمخشري في تسخير حسه الأدبي لمطاوعة حسه المذهبي واضحا ـ على الأقل عند أبي حيان ـ فإنه كان في مثل هذه المواضع أيضا كثيرا ما يسكت عن مناقشته ، بل يكتفي بترديد عبارة " وهذا على مذهبه الاعتزالي " إشعارا بفساد رأيه الناجم عن تأثير مذهبه وتعصبه له .
والذي نخلص إليه من مجموع المباحث التي تضمنها هذا الفصل أن أبا حيان قد كان ظاهر التفوق مرة أخرى على الزمخشري من عدة جوانب . فقد كان أبو حيان أكثر أمانة في النقل والإحالة على مصادره النحوية سواء فيما نقله نصا أو نقله بالمعنى ، كما تجلت الروح النقدية عنده أكثر من الزمخشري من خلال تلك التعقيبات الدقيقة على تفسير الكشاف وغيره من تفاسير المتقدمين ، وأما في جانب الشواهد الشعرية فقد برز تفوق أبي حيان من خلال التزامه في شواهده بعصر الاحتجاج ، إلى جانب كثرتها وتنوعها بما يخرج ما قرره من أحكام نحوية ولغوية عن حد الشذوذ والغرابة . ولئن كان الزمخشري قد طاوع ميله لتوجيه الوجوه الإعرابية لما هو أبلغ في البيان ، وليس لما هو أشهر وأصح في النحو فإننا لا نقره على ذلك ، وهو مخالف لأصول نظرية النظم التي أقام عليها كشافه مما يجعلنا نشاحه في هذا المسلك ، ونؤيد أبا حيان فيما تعقبه به ونسلم له بالتفوق عليه في ذلك أيضا .(1/59)
الفصل الأول
مسلكهما في الكشف عن إعجاز القرآن
المبحث الأول
صلة المعتزلة بموضوع الإعجاز القرآني
يمثل هذا الفصل الجانب البارز في تفسير الكشاف للزمخشري ، بل هو الجانب البارز في تفاسير المعتزلة الذين سبقوه ، لما له من صلة بالدراسات البلاغية التي نشأت فيأحضانهم ، وظلت فترة من الزمن حكرا عليهم . ( حيث أن أقدم بيان عن البلاغة ووضع منهج لمن أرادها هو ما وصلنا من " صحيفة بشر بن المعتمر " الذي انتهت إليه رئاسة المعتزلة ببغداد ، وهي مشهورة متداولة .)(1)
وكان الجاحظ يشيد بهذا السبق للمتكلمين فيقول : ( ولأن كبار المتكلمين ، ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء ، وأبلغ من كثير من البلغاء ، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني ، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء ، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم ، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف ، وقدوة لكل تابع .)(2)
وكان من بين هذه المصطلحات مثلا مصطلح " النظم " الذي كان الجاحظ أول من وضعه ، وعلل به الإعجاز القرآني ( لأن الدارسين إلى هذا العهد لم يكونوا مختلفبن حول كون القرءان معجزا أم لا ، ولكن حول سر إعجازه )(3)ولما جاء عبد القاهر الجرجاني استمد منه نظريته التي كانت سندا قويا للزمخشري ، ومرجعا أساسيا في الكشف عن سر الإعجاز في القرآن الكريم .
__________
(1) . فلسفة البلاغة : 10 ، وانظر الخطيب القزويني ، الإيضاح في علم البلاغة ، دار الجيل ، بيروت ، ص : 62
(2) . البيان والتبيين : 1/139 ، نقلا عن فلسفة البلاغة : 10
(3) . شوقي ضيف : البلاغة تطور وتاريخ ، مكتبة وهبة ، القاهرة : 161(1/1)
وهكذا نشأ هذا العلم على أيدي المتكلمين من علماء المعتزلة ومفكريها من أمثال عمر بن عبيد ، وبشر بن المعتمر ، وأبي عثمان الجاحظ ، وتعهده في فترة التطور والارتقاء الرماني والقاضي عبد الجبار وغيرهما(1).
ولا شك أن عقول هذه الطائفة التي صقلتها الفلسفة والمنطق اللذان أكبوا على درسهما ، وتعمقوا في مباحثهما ، كانت مهيأة للخوض في المسائل البلاغية ودروس البيان ، وتنظيم القول فيهما تنظيما دقيقا ، وربما كانت طبيعة المهمة التي اضطلع بها المعتزلة في الدفاع عن الإسلام ، ومناظرة أعدائه من أصحاب الملل والعقائد الأخرى ، تدفعهم دفعا إلى العناية بمسائل البلاغة والبيان ، وإتقان البحث فيهما ، فقد كانت البلاغة وسيلة من وسائل الإقناع ، وسلاحا مهما في المناظرة والجدل(2).
ومن هنا اجتهد المعتزلة في الإحاطة باللغة وآدابها ليتخيروا التعبير المناسب للفكرة ، وليتفهموا النصوص ويغوصوا إلى أسرارها ، ( ولأنهم كانوا يعدون أنفسهم للإنتصار في المناظرات الدائرة بينهم وبين أهل الكتاب من جهة ، وبينهم وبين مخالفيهم من المسلمين من جهة أخرى ، ولهذا كثر في المعتزلة البلغاء والأدباء واللغويون والفلاسفة . )(3)
ولما كانت الدراسات البلاغية قد نشأت في أجواء من الصراع الفكري والجدل الكلامي ، فإن هذا قد جعل الدراسات التطبيقية تنضج جنبا إلى جنب مع الجانب التنظيري فيها .
__________
(1) . انظر بتفصيل رابح دوب : الدرس البلاغي عند المفسرين حتى نهاية القرن الرابع الهجري ، دار الفجر للنشر والتوزيع ، القاهرة ، ط1 ، 1997م ، ص : 195
(2) . انظر : المصدر نفسه : 196
(3) . الحوفي ، الزمخشري : 200(1/2)
و كانت الدراسات البلاغية في عصر الزمخشري قد بلغت عصر النضج والازدهار في جانبها النظري والتطبيقي على السواء ، فأقبل على دراسة التراث البلاغي عند سابقيه من المعتزلة مما كتبه النظام والجاحظ ، كما اطلع على كتب معاني القرآن للفراء ، والنكت في إعجاز القرآن للرماني وغيرهما ، أما أكثر الناس تأثيرا في الزمخشري في هذا الجانب فهو عبد القاهر الجرجاني الأشعري ونظرية " النظم " التي نضجت على يده ، وإذا كان الجاحظ قد سبق بفكره الثاقب أن لمح البذور الأولى لهذه النظرية في بلاغة القرآن الكريم ، فإن عبد القاهر الجرجاني قد استطاع أن يخرج هذه النظرية في صورتها المكتملة في كتابيه " دلائل الإعجاز " و" أسرار البلاغة " .
ولما جاء الزمخشري لم يكتف بالإلمام بآراء من سبقوه في الدراسات البلاغية ، بل حاول أن يبدأ من حيث انتهى المتقدمون ، فيزيد علم البلاغة تعميقا وتدقيقا .
فنحن إذا رجعنا إلى البلاغة قبل الزمخشري ، فإننا لا نجدها مقسمة هذا التقسيم الثلاثي المعروف وهو : علم المعاني ، وعلم البيان ، وعلم البديع ، وإنما كان يطلق أحيانا على مباحثها جميعا إسم " البديع " كما فعل ابن المعتز مثلا ،كتابه " البديع "(1)وبعضهم أطلق عليها اسم " البيان " كما فعل عبد القاهر ، أما الزمخشري فهو أول من قسم البلاغة إلى ثلاثة أقسام هي: المعاني ، والبيان ، والبديع.
__________
(1) . نشره كراتش قوفسكي ، انظر : البلاغة تطور وتاريخ : 67(1/3)
ولكن هذا لا يعني أن الفوارق بين العلوم الثلاثة كانت واضحة تماما في ذهن الزمخشري وهو يتحدث عنها(1)، بل قد اختلطت هذه العلوم عنده في أكثر من موضع ، فهو مثلا في معرض تفسيره لقوله تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى .."(2)يقول : ( إذا قيل : فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة ؟ قلت هذا من الصنعة البديعية التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ..)(3)
فقد أدخل المجاز في الصنعة البديعية ، ومن هنا يرى بعضهم ـ نقلا عن السيد الشريف ـ أن الزمخشري لم يكن يعد البديع علما مستقلا ، بل كان يراه ذيلا لعلمي المعاني والبيان . )(4)
فالزمخشري وإن كان قد قام بأول محاولة لقسمة البلاغة إلى علومها الثلاثة ، إلا أنه لم يضع الحد الفاصل بين موضوعات كل علم ، بل كانت القسمة الثلاثية بصفة إجمالية موجودة في ذهنه ، فمضى في تطبيقها على تفسيره للقرآن الكريم ، وقد أفلح في ذلك إلا في مواضع قليلة(5).
كما تمثل جهد الزمخشري من جهة أخرى في الجانب التطبيقي لعلوم البلاغة ( حيث طبق جميع قواعد علمي المعاني والبيان التي اهتدى إليها عبد القاهر ، متخذا نصوص القرآن كاملة كأمثلة وشواهد على ذلك .)(6)
__________
(1) . وليد قصاب ، التراث النقدي البلاغي و عند المعتزلة : 241
(2) . سورة البقرة : 15
(3) . الكشاف : 1/70
(4) . البلاغة تطور وتاريخ : 222
(5) . انظر : التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة بتصرف : 242
(6) مجلة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ، العدد : 6 ، السنة : 1999م ، مقال : الإتجاه اللغوي في تفسير القرءان : د. سامي عبد الله الكناني ص : 52(1/4)
وهكذا كان كتاب " الكشاف " بصورته التي وصل عليها يمثل قمة مرتفعة سامية في ازدهار الدراسة البلاغية ، ليس عند المعتزلة الذين نتحدث عنهم فقط ، بل في مجال الدراسات البلاغية عامة ، ففي هذا الكتاب عصارة مجهودات السابقين جميعا من معتزلة وغيرهم ، وزبدة ما تمخضت عنه أذهان البلاغيين العرب الذين تقدموه ، والجدير بالذكر أن الزمخشري قد ابتدأ من حيث انتهى السابقون ـ وهذه حسنة له ـ فهو لم يدرس البلاغة دراسة نظرية ، ولم يكتب عنها كتابة مستقلة ، ولكنه راح بما أوتي من ذوق أدبي مرهف ، وحس فني صادق ، يطبق ما قرأه عن البلاغة في تفسيره للقرآن آية آية ، كاشفا عن الأسرار والدقائق والنكت البلاغية التي اشتمل عليها الذكر الحكيم . كما أن دراسة إعجاز القرآن في ضوء القواعد البلاغية كانت عند من سبقه إما دراسة جزئية لا تتحدث إلى على أمثلة ونمادج قليلة من القرآن ، أو دراسة نظرية تحاول أن تضع مبادئ وأصولا ، وتحدد معالم بارزة يمكن أن تتخذ مقياسا في دراسة الإعجاز القرآني . فالجاحظ مثلا لم يتوقف إلا عند بعض الآيات ، وانشغل القاضي عبد الجبار والشريف المرتضى بالآيات المتشابهات التي يخالف ظواهرها أصول الإعتزال . وانتهى الأمر إلى الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي يعد قمة ما وصلت إليه الدراسات البلاغية ، ووضع في ذلك نظرية أطال في شرحها والحديث عنها حتى أصبحت تعرف به ، وكان يكتفي بإيراد النمادج القليلة في معرض تقرير القاعدة التي يضعها ليحدد المعالم التي يسير عليها من يأتون بعده .(1/5)
فجاء الزمخشري في القرن السادس الهجري ، فلم يخلف ظن عبد القاهر ، ولم يحد عن سنته ، فهو بعد أن أقبل على دراسات المتقدمين يعب منها ، وجد في نظرية الجرجاني الأشعري موردا له ، وكأنما أحس بثاقب ذهنه أن هذه النظرية تمثل ذروة ما وصلت إليه دراسة البلاغة العربية ، ففزع إليها ، واتخذها سلاحا في تفسير القرآن وبيان وجه الإعجاز فيه .)(1)
وأمام هذا الإنبهار للزمخشري تجاه علم البلاغة صرح بأنه لا يمكن لأحد أن يتصدى لتفسير كتاب الله وإن كان عالما بالفقه والأصول وعلم الكلام واللغة والنحو والقصص والأخبار ..إن لم يكن بارعا في علمين مختصين بالقرآن هما : علما المعاني والبيان .
قال الزمخشري : ( ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح ، من غرائب نكت يلطف مسلكها ، ومستودعات أسرار يدق سلكها ، علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه ، وإجالة النظر فيه كل ذي علم ، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن ، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والحكام ، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام ، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه ، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه ، لا يتصدى أحد منهم لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق ، ، إلا رجل برع في علمين مختصين بالقرآن ، وهما علم المعاني وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقيب عنهما أزمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما في معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله ، بعد أن كان آخذا من سائر العلوم بحظ .. )(2)
__________
(1) . التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة : 225
(2) . مقدمة تفسير الكشاف .(1/6)
وهذه هي النزعة التي درج عليها سابقوه من أئمة المعتزلة فيما عرف بكتب " معاني القرءان " حيث ظل علم البلاغة العربية ينشأ ويتطور في كتاباتهم حول إعجاز القرءان إلى نضجت واكتملت على يد الزمخشري .
ولما كانت جهود العلماء من المعتزلة في مباحث الإعجاز البلاغي للقرءان قد قامت في جملتها على التأسيس والتأصيل لنظرية النظم ، فإن هذا يدعونا للتعريف بهذه النظرية من حيث مفهومها ونشأتها وتطورها ، وهذا ما سنعرفه في المبحث اللاحق .
المبحث الثاني
نظرية النظم مفهومها ونشأتها
نتحدث في هذا المبحث عن نظرية النظم من حيث نشأتها ومفهومها باعتبار أن سر الإعجاز القرءاني إنما يكمن في نظمه ، وهو على درجة من الدقة يخفى معها على كثير من العقول ، ولذلك أطال أصحاب هذه النظرية وأنصارها في شرحها وإنضاجها ، وإقامة الحجج النظرية والتطبيقية على صحتها .(1/7)
وتبدأ هذه النظرية مع الجاحظ الذي أعلن في أكثر من موضع من مصنفاته أن ما يدل على تميز القرآن وإعجازه هو نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد ، وقد وضع في ذلك الجاحظ كتابا مستقلا سماه " نظم القرءان " ، ولكن الكتاب مفقود ، مما حرمنا من معرفة السبيل التي سلكها الجاحظ في تفسير هذا النظم ودراسته ، ولكن الإشارات القليلة المبثوثة بين ثنايا كتب الجاحظ الأخرى دلتنا على أن فكرة النظم عند الجاحظ هي ـ فيما يبدو ـ فكرة لفظية ، تعتمد على حسن الصوغ ، وكمال التركيب ، ودقة التأليف ، ( وهي من حيث اللفظة المفردة مراعاة بعض شروط الفصاحة ، كحسن الإنتقاء ، ودقة الاختيار ، بحيث تكون خفيفة على اللسان في النطق ، سهلة المخرج ، رشيقة الوقع في الأذن ، بما يكون بين حروفها من تلاؤم وانسجام ، وأن تكون سهلة مؤنسة بعيدة عن الغرابة والحوشية والتعقيد ، وأن تكون غير ساقطة ولا عامية ، وهي لفظة ملائمة للمعنى ، مشاكلة للغرض ، الذي وردت فيه ، تطبيقا لقاعدة مراعاة مقتضى الحال ، والإيفاء بحق المقام . وهي بعد ذلك ـ من حيث التركيب والتأليف في سياق الكلام ـ تعتمد على مراعاة التجانس والانسجام بين الألفاظ المفردة ، حينما تسلك إلى جانب بعضها بعضا ، فلا يبدو هنالك تنافر بين أجزاء الكلام ، بل يبدو متلاحما آخذا بعضه برقاب بعض ، حتى كأنه أفرغ إفراغا واحدا ، وسبك سبكا واحدا ، وعندئذ يتدفق به اللسان سهلا رهوا ، دون أن يشعر بكد أو صعولة ، ولذلك ترتاح الأذن لهذا الكلام أيضا ، وتهش له الأسماع ، تلك هي فكرة النظم عند الجاحظ . )(1)
__________
(1) . التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة : 324(1/8)
ويبدو أن تصور الجاحظ لنظرية النظم في هذه المرحلة الأولى لا يختلف كثيرا عما ذهب إليه ابن سنان الخفاجي(1)في كتابه سر الفصاحة ، الذي جعل الفصاحة وصفا مقصورا على الألفاظ ، والبلاغة وصفا للألفاظ مع المعاني ، ثم ذهب يقسم شروط الفصاحة إلى قسمين ، فالأول يوجد في اللفظة الواحدة على انفرادها من غير أن ينظم إليها شيء من الألفاظ تؤلف معه ، والقسم الثاني يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض ، ، ثم مضى ابن سنان الخفاجي بعد ذلك يتحدث عن هذين القسمين وشروطه بما لا يزيد كثيرا عما قاله الجاحظ ، ، بل إن ابن سنان نقل كثيرا من أقوال الجاحظ في ذلك(2).
على أن نظرية النظم عند الجاحظ يدخل في مفهومها أيضا أسلوب القرءان في التعبير ، وطريقته في الأداء بشكل متميز يخالف ما تعارف عليه العرب من أفانين القول وطرائق الكلام ، لأن كلام العرب المعروف إما موزون ، وإما منثور مسجوع ، ولكن القرءان يباين جميع ذلك ، فهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع .
__________
(1) . هو عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي ، أديب شاعر ، من آثاره ديوان شعر ، وسر الفصاحة ، انظر : حاجي خليفة كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ، طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة وومطبعتها البهية ، 1943م ص: 988
(2) . التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة : 326 ، وانظر : ابن سنانا الخفاجي ، سر الفصاحة : 59 ـ 60 .(1/9)
ويبدو أن مفهوم النظم لم يكن غريبا على البيئة الاعتزالية ، ولعل كتاب الجاحظ في نظم القرءان قد حظي باهتمام كبير ، فنحن نجد في أوائل القرن الرابع أبا علي محمد بن يزيد الواسطي المعتزلي ( ت:306هـ ) يضع هو أيضا كتابا يرجع فيه إعجاز القرءان إلى نظمه وتأليفه ، وعنوان الكتاب " إعجاز القرءان في نظمه وتأليفه " ، كما يضع ابن الإخشيد المعتزلي ( ت:326هـ) كتابا عنوانه " نظم القرءان " وهو كتاب مفقود أيضا لا نعرف عنه إلا إسمه ، وعندما نرجع إلى قول الباقلاني في كتابه " إعجاز القرءان " : ( وقد صنف الجاحظ في نظم القرءان كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله)(1)نفهم منه أن فكرة النظم القرآني كانت موجودة قبل الجاحظ ، و أن مفهوم النظم لم يكن غريبا على البيئة الاعتزالية ، بل كان منتشرا كمقياس يكشف عن إعجاز القرءان .
__________
(1) . الباقلاني ، إعجاز القرءان ، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت ، 1991م ، ص : 6(1/10)
إلا أن هذه النظرية ما فتئت تنمو وتكتمل عبر عقود من الزمن ، حيث احتضنها الخطابي ( ت: 319هـ ) وزاد فيها مبينا أن الكلام لا يقوم باللفظ والمعنى فقط ، بل يحتاج إلى عنصر ثالث هو الرباط الناظم لهما ، فيقول : ( يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرءان وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا ، ولا أشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه ، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها ..وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام ، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه ، فلم توجد إلا في كلام العلي القدير .. فتفهم الآن ، واعلم أن القرآن إنما صار معجزا ، لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف ، متضمنا أصح المعاني .)(1)
ويأتي بعده القاضي عبد الجبار ، فيستفيد من كلام الخطابي هذا ، مفندا رأي أستاذه أبي هاشم(2)ومبينا أن فضل الكلام لا يقاس باللفظ والمعنى فقط ، ولا يمكن أن يكونا وحدهما ـ مجردين ـ موطن البراعة ، لأن في هذا إهمالا للعنصر الثالث الذي تحدث عنه الخطابي ، وهو ترتيب الألفاظ ، وربطها في سياق واحد خلال السياق(3).
(
__________
(1) . انظر التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة : 328
(2) . هو أبو هاشم ، عبد السلام بن أبي علي الجبائي ، من معتزلة البصرة ، وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة ، انفردا عن أصحابهما بمسائل ، توفي سنة : 321هـ . انظر الشهرستاني ، الملل والنحل ، : 1/98 . والبداية والنهاية : 11/176 .
(3) . التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة : 328(1/11)
وإذا كان الخطابي لم يتحدث عن ماهية هذا الرباط الذي يجمع بين الألفاظ والمعاني ، ولم يشرح مفهوم النظام الذي يربط بينهما ، فإن القاضي عبد الجبار قد توقف عند ذلك ، فبين أن الكلام ينبغي أن يضم على طريقة مخصوصة ، ولابد أن تراعى في هذا الضم صفات معينة للكلمات ، كالإبدال والتأخير ، وحركات الإعراب . وإن هذه الصفات التي تحدث عنها عبد الجبار ، وأرجع إلى ملاحظتها في الضم والتأليف فضل الكلام ، هي باختصار معاني النحو وأحكامه التي أطال عبد القاهر الجرجاني فيما بعد الحديث عنها ، وأطنب في شرحها ، وأقام عليها نظرية النظم التي أصبحت تعرف به ، وتنسب إليه(1).
وفي ذلك يقول عبد القاهر الجرجاني : ( ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو ، وتعمل على قوانينه وأصوله ، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها ، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها ، وذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر وجه كل باب وفروقه ، هذا هو السبيل ، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ، ويدخل تحت هذا الإسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ، ووضع في حقه ، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه ،واستعمل في غير ما ينبغي له ، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة النظم أو فساده ، أو وصف بمزية وفضل فيه ، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة و ذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه ، ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه . )(2)
__________
(1) . انظر المصدر نفسه : 329
(2) . عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، الناشر مكتبة الخانجي ، القاهرة ، ط2 ، 1989م ، ص : 64 ـ 65(1/12)
ويتفنن عبد القاهر الجرجاني في عرض نظرية النظم فيضرب لها مثالا حيا وملموسا ويقول : ( وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش ، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ ، وفي مواقعها ومقاديرها ، وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه ، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب ، وصورته أغرب ، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول علم النظم . )(1)
وقد يتبادر للذهن أن ما ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني من تفسير لمفهوم النظم ـ إذ حصره في التراكيب النحوية ـ يضيق بالإعجاز البياني للقرآن الكريم ، لأن الصور البيانية لا يفسرها علم النحو ، فنجده يسارع إلى الرد على هذه الشبهة فيقول :
( فإن قيل : قولك " إلا النظم " يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز ، من جملة ما هو معجز ، وذلك ما لا مساغ له . قيل : ليس الأمر كما ظننت ، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز ، وذلك لأن هذه المعاني التي هي الاستعارة ، والكناية ، والتمثيل ، وسائر ضروب المجاز من بعدها ، من مقتضيات النحو ، وعنها يحدث ، وبها يكون ، لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم ، وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو . )(2)
ونحن نقف بإعجاب أمام هذه الجهود الضخمة التي سبقت الزمخشري في إنضاج هذه النظرية ، وتعهدها بالبناء لبنة بعد أخرى ، إلى أن استوت على سوقها ، حتى إذا جاء الزمخشري وجدها غضة طرية ، فكان اللبنة الأخيرة في ذلك البناء الذي صار يمثل منارة شامخة يهتدي بها اللاحقون .
__________
(1) . المصدر نفسه : 69
(2) . المصدر نفسه : 300(1/13)
وعلى الرغم من كون الزمخشري قد تلقف هذه النظرية في مرحلة النضج والاكتمال ، ومهما كان قد ألم بها واستوعبها وشغف بها ، فأن ميله إلى الإيجاز والاختصار الشديد في كتابه الكشاف ، قد فوت علينا الوقوف على الكثير من فنون الإعجاز في النظم القرآني ، التي كان بإمكانه أن يكشف عنها بما لم يسبق إليه ، وقد بدا لي هذا الرأي بعد أن اطلعت على رسالة صغيرة كتبها الزمخشري في " إعجاز سورة الكوثر" ، وهي عبارة عن رد على رسالة وجهها إليه أحد تلاميذه(1)، يلح عليه من خلالها أن يكتب شيئا في وجوه إعجاز القرآن ، ليلجم به أفواه بعض المشككين في بلاغة القرآن والمنكرين لإعجازه .
وفي كلامه عن إعجاز القرآن الكريم من حيث نظمه من خلال هذه السورة ، أبرز الزمخشري أن إعجاز القرآن كامن وراء كل حرف من حروف القرآن ، ولكنه لا يتجلى إلا لذوي الأفهام الكبيرة التي تمرست على لغة العرب بكل فنونها .
كما أبان في هذه الرسالة الطريفة عن موقفه من بعض القضايا الأساسية المتعلقة بإعجاز القرآن الكريم بشيء من التفصيل لا نجد له نظيرا في تفسيره الكشاف ، ومنها :
1 ـ موقفه من القول بالصرفة(2):
__________
(1) . انظر الزمخشري : إعجاز سورة الكوثر : 61
(2) . ومعنى القول بالصرفة أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم ، وكان مقدورا لهم ، ولكن عاقهم أمر خارجي ، فصار كسائر المعجزات . السيوطي ، الإتقان في علوم القرءان ، عالم الكتب ، بيروت ، لبنان ، ج2/118(1/14)
ففي موضوع القول بالصرفة قال : ( ودع عنك حديث الصرفة ، فما الصرفة إلا صفرة(1)من النظام وفهة ـ سقطة ـ منه في الإسلام ، ولقد ردت على النظام صفرته ، كما ردت عليه طفرته ، ولو صح ما قاله لوجب في حكمة الله البالغة ، وحجته الدامغة ، أن ينزله على أرك نمط وأنزله ، وأفسل أسلوب وأسفله ، وأعراه من حلل البلاغة وحليها ، وأخلاه من بهي جواهر العقول وثريها ، ثم يقال لولاة أعلى الكلام طبقة وأمتنه ، ولأرباب آنقه طريقة وأحسنه : هاتوا بما ينحو نحوه ، وهلموا بما يحدوه ، فيعترضهم الحجز ، ويتبين فيهم العجز ، فيقال قد استصرفهم الله عن أهون ما كانوا فيه ماهرين ، وأيسر ما كانوا عليه قادرين ، ألم ترهم كيف كانوا يعنقون(2)في المضمار فوقفوا ، وينهبون الحلبة بخطاهم فقطفوا(3)ولا يقال الله قادر على أن يأتي بما هو أفصح وأفصح ، وأملح لفظا ومعنى وأملح ، فهلا أتى بذلك المتناهي في الفصاحة والمتناهي في الملاحة ، فإن الغرض اتضاح الحجة وقد اتضحت ، وافتضاح الشبهة وقد افتضحت ، وإذا حصل الغرض فليس وراءه معترض .)(4)
(
__________
(1) . يقال إنه لفي صفرة للذي يعتريه الجنون ، إذا كان في أيام يزول فيها عقله ، لأنهم كانوا يمسحونه بشيء من الزعفران . الجوهري ، الصحاح : 2/714
(2) . يقنقون : العنق ضرب من سير الدابة والإبل ، وهو سير سريع كقول الراجز : يا ناق سيري عنقا فسيحا . الصحاح : 4/1533.
(3) . يقال قطف إذا قارب بين خطواته بسرعة ، والقطوف من الدواب : البطيء ، انظر الصحاح : 4/1417 .
(4) . إعجاز سورة الكوثر : 61 ـ 62(1/15)
ومهما يكن من بطلان هذه الفكرة وفسادها ، فقد أدت إلى إنشاء علوم البلاغة في ظل القرآن ، فاتجه الكاتبون إلى بيان أسرار البلاغة في هذا الكتاب المبين ، المنزل من عند الله الحكيم ، قرءانا عربيا ، فكان هذا الباطل سببا في خير كثير ، وكما يقول المثل السائر " رب ضارة نافعة " فقد تولد عن هذا الباطل دفاع حكيم ، ، ولدت منه علوم البلاغة العربية ، وكما تولد عن الخطإ في تلاوة آية " علم النحو " تولدت علوم البلاغة العربية عن الخطإ في القول بالصرفة في إعجاز القرآن . )(1)
وإن أكثر ما كتب الأولون في البلاغة والفصاحة كان في ظل القرآن ، ومحاولة لبيان إعجازه ، وإن أول ما كتب في إعجاز القرآن من ناحية البيان كان في الوقت الذي جاء فيه القول بالصرفة بين نفي وإثبات ، وأول من عرف أنه تصدى للكلام في الإعجاز في نظم القرآن هو الجاحظ تلميذ النظام الذي أنكر عليه قوله ، وعابه في منهاجه الفكري .)(2)
ولقد كان الزمخشري بموقفه هذا ضد القول بالصرفة في إعجاز القرآن ، أكثر ذكاء وولاء لمذهبه الإعتزالي من شيخ المعتزلة إبراهيم بن سيار النظام ، ومن ذهب مذهبه في القول بالصرفة ، لأن المعتزلة هم أهل اللغة والأدب ، فهم أولى من غيرهم تذوقا لأسلوب القرآن ومواضع الجمال فيه ، ومن هنا كان الأجدر بهم أن يكونوا أولى الناس إدراكا لمظاهر الإعجاز في النظم القرءاني ، و نفي القول بالصرفة ، لولا تأثرهم بتلك الثقافات الوافدة يومئذ ، فتنبه الزمخشري لهذا المزلق الذي أخفق فيه بعض أسلافه ، فخالفهم ، ووظف القول بإعجاز القرآن أحسن توظيف في خدمة مذهبه .
(
__________
(1) . محمد أبو زهرة ، المعجزة الكبرى ، دار الفكر العربي ، ص : 81
(2) . المصدر نفسه : 82(1/16)
وهكذا خالف قولهم بالصرفة ، لأن في هذه المخالفة ما يكون أقرب إلى أصول مذهبهم ، وأصلح للإحتجاج لبعض آرائهم ، لما يراه الزمخشري من تلازم بين القول بخلق القرءان والقول بإعجازه . )(1)
حيث نجده في تفسير قوله تعالى : " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " سورة الإسراء :88
يقول بضرورة كون القرآن مخلوقا كي يكون معجزا ، ويصح به التحدي ، فإن كان قديما كان محالا على البشر ، ولا يصح أن يتحداهم النبي به ، فيقول : ( والعجب من النوابت ـ ويقصد بهم أهل السنة ـ ومن زعمهم أن القرآن قديم ، مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة ، فيقال : الله قادر على خلق الأجسام ، والعباد عاجزون عنه ، وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة ولا مدخل لها فيه ، فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز ، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز ، لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلا أن يكابروا فيقولوا : هو قادر على المحال ، فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق .)(2)
كما أن الكشف عن وجه الإعجاز في أي نص قرآني يرتبط أساسا بتوجيه معناه نحو مفهوم معين ، وقد وظف الزمخشري هذا الجانب ، فحاول أن يربط وجوه الإعجاز التي أبرزها بنزعته المذهبية ، ويجعل من براعة النظم المترتب على المعنى الذي ينتصر له أقوى حجة على صحة مذهبه .
__________
(1) . نعيم الحمصي ، فكرة إعجاز القرءان ، مؤسسة الرسالة ، ط2 ، 1980م ، ص : 93
(2) . الكشاف : 2/692(1/17)
ومن هنا انبرى له أحد أئمة أهل السنة ، وهو شرف الدين الطيبي(1)فوضع مصنفا ـ وهو عبارة عن حاشية على تفسير الكشاف ـ بين فيه أن وجه الإعجاز القرآني إنما يتحقق ويقع في الآية على ما يفهمه أهل السنة من النص القرآني وليس على ما يفهمه المعتزلة(2).
2 ـ عدم كلام السلف عن إعجاز القرءان وسببه
كما قد يلوح لبعض المشككين في إعجاز القرءان بعض الشبهات حول الموضوع ، منها أن السلف الصالح لم يتكلموا في الإعجاز البلاغي للقرآن ، والجوانب الجمالية فيه ، مما يوحي أن القول بإعجاز القرءان في هذا الجانب هو اتهام للسلف بالتقصير وقلة الفهم لكتاب الله تعالى .
ومن هنا رد الزمخشري على مثل هذه الشبهة بأحسن رد ، مبينا مبررات سكوت السلف عن الخوض في مثل هذا الموضوع وغيره فقال :
( وأما إغفال السلف لما نحن بصدده ، وإهمالهم الدلالة على سننه ، والمشي على جدده(3)، فلأن القوم كانوا أبناء الآخرة ، وإن نشأوا في حجر هذه الغادرة ، ديدنهم قصر الآمال ، وأخذ العلوم لتصحيح الأعمال ، وكانوا يتوخون الأهم فالأهم ، والأولى فالأولى ، والأزلف فالأزلف من مرضاة المولى .
__________
(1) . هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي ، شرف الدين ، عالم بالحديث والتفسير والعربية والمعاني والبيان ، قال ابن حجر : كان آية في استخراج الدقائق من القرءان والسنن ، حسن المعتقد ، شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة ، من مصنفاته : فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب ، وهو حاشية على كشاف الزمخشري ، قال في كشف الظنون : وهي أجل حواشي الكشاف " الدرر الكامنة : 2/156
(2) . ابن خلدون ، المقدمة : 349
(3) . الجدد : الأرض الصلبة . الصحاح : 2/452(1/18)
ولأنهم كانوا مشاغيل بجر أعباء الجهاد ، معنين(1)بتقويم صفات أهل العناد ، معكوفي الهمم على نشر الأعلام لنصرة الإسلام ، فكان ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام لتعليمه وتلقينه ، وأرسل للتوقيف عليه وتبيينه ، أهم عندهم مما كانوا مطبوعين على معرفته ، مجبولين على تبين حاله وصفته ، وكان إذ ذاك البيان غضا طريا ، واللسان سليما من اللكنة ، وطرق الفصاحة مسلوكة سائرة ، ومنازلها مأهولة عامرة ، وقد مهد عذرهم تعويلهم على ما شاع وتواتر ، واستفاض وتظاهر ، من عجز العرب وثبات العلم به ورسوخه في الصدور وبقائه في القلوب على مر العصور .
وبعد انقراض أولئك العرب ، المالئة دلو البلاغة إلى عقد الكرب ، وبقاء ربعها بغير طلل ورسم ، وذهابها ذهاب جديس وطسم(2)ـ بسكون السين ـ لم يبق من هذا العلم إلا نحو الغراب الأعصم(3)والنكتة البيضاء في نقبة الأدهم ، وجملة تلك البقية قد اتبعوا سنن الأولين ، وكانوا على عجز العرب معولين ..ثم ادرج هذا العلم تحت طي النسيان ، كما يدرج الميت في الأكفان . )(4)
ولقد تكلم الزمخشري في هذه الرسالة عن إعجاز سورة الكوثر فأبدع ، وأبرز من مظاهر الإعجاز المتمثل في عجيب نظمها بما لم يسبق إليه ، من ذلك مثلا ما جاء في الآية الأولى منها " إنا أعطيناك الكوثر " حيث قال :
(
__________
(1) . معنين : أي متعبين ، انظر لسان العرب : 13/290
(2) . جديس : هي قبيلة كانت في الدهر الأول فانقرضت . انظر الصحاح : 3/911 . وطسم : قبيلة من عاد كانوا فانقرضوا . الصحاح : 5/1974
(3) . الغراب الأعصم : الذي في جناحه ريشة بيضاء ، لأن جناح الطائر بمنزلة اليد له ، ويقال هذا كقولهم الأبلق العقوق وبيض النوق ، لكل شيء يعز وجوده . الصحاح : 5/1986
(4) . إعجاز سورة الكوثر : 63(1/19)
ثم تبصر كيف نكت في كل شيء تنكيتا ، يترك المنطيق سكيتا ، حيث بنى الفعل على المبتدأ فدل على الخصوصية ، وجمع ضمير المتكلم ، فأذن بعظم الربوبية ، وصدر الجملة المؤخرة على المخاطب أعظم القسم بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم ، ما ورد الفعل بلفظ الماضي ، على أن الكوثر لم يتناول عطاء العاجلة دون عطاء الآجلة ، دلالة على أن المتوقع من سيب الكريم في حكم الواقع ، ، والمترقب من نعمائه بمنزلة الثابت الناقع ، . وجاء بالكوثر محذوف الموصوف ، لأن المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإبهام والشياع ، والتناول على طريق الإتساع ، ، واختار الصفة المؤذنة بإفراط الكثرة ، المترجمة عن المعطيات الدثرة ، ثم بهذه الصفة مصدرة باللام المعرفة ، لتكون لما يوصف بها شاملة ، وفي إعطاء معنى الكثرة كاملة ..)(1)
فإذا رجعنا إلى تفسير الكشاف ، ووقفنا عند تفسير الزمخشري للآية الأولى من سورة الكوثر ، فإننا نجده يمر عليها دون أن يشير إلى موضع واحد من محاسن النظم فيها ، مما يدل على أنه سكت عن كثير من النكات البلاغية مما لم تكن خافية عليه طلبا للإيجاز والاختصار .
وقد قدمت لنا هذه الرسالة القيمة للزمخشري في إعجاز القرآن ـ على الرغم من صغر حجمها ـ صورة حية وواضحة عن رسوخ قدمه وعلو كعبه في هذا المجال ، وهي رد كذلك على الذين بخسوا الزمخشري حقه حينما جزموا بأنه لم يكتب شيئا مستقلا عن إعجاز القرآن ، وقصروا إنتاجه في هذا الجانب على كتابه الكشاف .
__________
(1) . المصدر نفسه : 57(1/20)
من ذلك ما جاء في كتاب " الإعجاز النحوي في القرآن الكريم " حيث قال مؤلفه: ( لم يؤلف الزمخشري كتابا خاصا بالإعجاز ، وإنما قام بمحاولة في هذا الباب لم يسبقه إليها أحد ، ولا نظن أنه جاء من بعده من جرى معه في هذا الطريق ، ذلك أنه أراد أن يقيم أدلة الإعجاز وشواهده من آيات القرآن ، وأن يجعل القرآن كله مجالا للناظرين في الإعجاز ، والباحثين عن مواقعه في كتاب الله تعالى . )(1)
وهو ناقل لهذا الكلام حرفيا عن كتاب " الإعجاز في دراسات السابقين " لعبد الكريم الخطيب(2)دون تبين أو تحقيق في الموضوع .
أما إذا انتقلنا إلى تفسير الكشاف فإننا نجده يمثل بالنسبة للزمخشري ذلك المجال الرحب الذي تحرك فيه بطلاقة ، وزاد من إظهار براعته في تمكنه من تطبيق هذه النظرية وترسيخها في الكشف عن إعجاز القرءان ، وهو ما سنعرفه في المبحث اللاحق إنشاء الله تعالى .
المبحث الثالث
مسلك الزمخشري في الكشف عن النظم القرءاني
وعلى الرغم من ميل الزمخشري إلى الإيجاز في تفسيره الكشاف فقد استطاع أن يجسد هذه النظرية ويبرهن على أنها تسري في أسلوب القرءان من بدايته إلى نهايته ، وكأنها بذلك ثمثل السلك الذي تنتظم فيه حبات العقد في تناسقها وترابطها ، وأن على المفسر أن يتحسس بذوقه هذا النظم الخفي في آي القرءان ويعمل على إبرازه ، وهو ما حرص على مراعاته في كشافه ، فلا تكاد تخلو صفحة واحدة منه من مثل هذه الوقفات البلاغية .
__________
(1) . فتحي عبد الفتح الدجني ، الإعجاز النحوي في القرءان الكريم ، مكتبة الفلاح ، بيروت ط1 ، 1984م ، ص: 58
(2) . عبد الكريم الخطيب ، الإعجاز في دراسات السابقين ، دار الفكر العربي ، ط1 ، 1974م ، ص: 298 ، وانظر نعيم الحمصي : فكرة إعجاز القرءان منذ البعثة حتى العصر الحاضر ، حيث قال : ( وآراء الزمخشري جاءت في تفسيره ، ولم أعرف أنه وضع في هذا البحث كتابا خاصا ، أو أفرد له بابا . ) ص : 94 .(1/21)
وبذلك نجده يقف ابتداء من مطلع سورة البقرة في قوله تعالى : " ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه . هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .." مبهورا أمام عجيب نظم القرءان هذا في مطلع هذه السورة ليبين أن بلاغة القرءان لا تدانيها بلاغة أي كلام آخر مما ألفه الناس .(1/22)
قال الزمخشري : (ومحل " هدى للمتقين " الرفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع " لا ريب فيه " لذلك ، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه ، ويجوز أن ينصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف . والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا ، وأن يقال إن قوله " ألم " جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و" ذلك الكتاب " جملة ثانية ، و" لا ريب فيه " ثالثة ، و" هدى للمتقين " رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة ، وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك لمجيئها متآخية ، آخذا بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة . بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكلام المنعوت بغاية الكمال ، فكان جهة لتقرير التحدي ، وشدا من أعضاده . ثم نفى عنه أن يثشبت به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة ، وقيل لبعض العلماء فيم لذتك ؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحا ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا . ثم أخبر عنه بأنه " هدى للمتقين " فتقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله ، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم لم تخل واحدة من الأربع ـ بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ورتبت هذا الترتيب السري ، من نكتة ذات جزالة ، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو " هدى " موضع الوصف الذي هو " هاد " وإيراده منكرا ، والإيجاز في ذكر المتقين .)(1)
__________
(1) . الكشاف : 1/36 . 37(1/23)
وهكذا يمضي الزمخشري في كشافه ، وهمه الأول هو البحث عن مظان الإعجاز فيما ينكشف له من روائع البييان ، وعجيب النظم .. في تقديم كلمة عن كلمة ، أو اختيار كلمة بدل كلمة أخرى ، أو حرف مكان حرف ، إلى غير ذلك مما تثقل به موازين الكلام في مجال البلاغة والبيان(1).
ولقد كان الزمخشري أديبا ضليعا ، ذواقة لطعوم الكلام بصيرا بمواقع الحسن ومواطن الجمال فيه ..لم تذهب مذاهب الكلام والجدل بشخصية الأديب الذي كان في كيانه ، بل ظل محتفظا بطابعه الأدبي المركوز في فطرته ، لم يفتقده في حال من أحواله أبدا .
وهو في ذلك لم يخل في مرة من المرات أن يكون متأثرا برائده عبد القاهر الجرجاني في التنبيه على مواقع الحسن والجودة في وجوه النظم البلاغي ، ويتضح هذا بجلاء من خلال الأمثلة الآتية :
التقديم والتأخير ودلالته البلاغية :
منها اهتمام الزمخشري بالتقديم والتأخير في كثير من المواضع في تفسيره ، وهو في هذا إنما ينطلق من اهتمام عبد القاهر به حيث قال : ( هو باب كثير الفوائد ، جم المحاسن واسع التصرف ، بعيد الغاية ، لا يزال يفتر لك عن بديعه ، ويفضي بك إلى لطيفه ، ولا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه ، ويلطف لديك موقعه ، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك ، أن قدم فيه شيء وحول اللفظ من مكانه إلى مكان .)(2)
ففي تفسير قوله تعالى : " وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله .. " سورة الحشر : 2
__________
(1) . انظر الإعجاز في دراسات السابقين : 299
(2) . دلائل الإعجاز : 74(1/24)
قال الزمخشري : ( فإن قلت أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت في تقديم الخبر على المبتدإ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لـ " أن " ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ـ أي مغالبتهم ـ ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض .. " سورة الأنعام : 14
قال الزمخشري : ( أولى " غير الله " همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو " أتخذ " لأن الإنكار في اتخاذ غير الله وليا ، لا في اتخاذ الولي ، فكان أولى بالتقديم . ونحوه(2)" أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " و " آلله أذن لكم " . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " سورة البقرة :69
قال الزمخشري : ( " والصابئون " رفع على الابتداء وخبره محذوف ، والنية به التأخير عما في حيز " إن " من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك . وأنشد سيبويه شاهدا له .. ثم قال ـ أي الزمخشري ـ فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم ؟ قلت فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، فما الظن بغيرهم ، ذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين وأشدهم غيا ، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها.)(4)
دلالة الحدف والإثبات :
__________
(1) . الكشاف : 4/499
(2) . سورة الزمر : 61
(3) . الكشاف : 2/8
(4) . الكشاف : 1/661(1/25)
ومنه اهتمامه بالحذف والإثبات لما يرى فيهما من دلالات بلاغية إلى درجة التكلف فيه ، وتقديره في عدة مواضع من غير داع إلى ذلك ، مما جعل أبا حيان يعترض عليه بشدة كما مر معنا . وقد أشاد الجرجاني بهذا الباب من أبواب النظم البلاغي قبل ذلك فقال : ( هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسحر ، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجد أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن .)(1)
ولعلماء البلاغة اعتناء متميز بالحذف والإضمار في الكلام ، وقد ألف في ذلك العز بن عبد السلام(2)كتابه المشهور " الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز " ذكر فيه ما يربو عن السبعين نوعا من أنواع الحذف ، وما يترتب عنها من فنون جمالية في الجانب البلاغي .
فلا عجب أن يبالغ الزمخشري في اهتمامه بهذا الفن البلاغي ، ويتقصى مواضعه في كتابه الله تعالى ، وهو ينقب فيه عن مواطن الإعجاز .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ..فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " سورة البقرة :21
__________
(1) . دلائل الإعجاز : 95
(2) . ، هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم ، الدمشقي الشافعي ، فقيه أصولي ، له مشاركة في العربية والتفسير ، بلغ رتبة الاجنهاد ، له مصنفات منها تفسير القرءان ، توفي سنة : 660هـ . انظر ابن كثير ، البداية والنهاية : 13/235 .(1/26)
قال الزمخشري : ( ومفعول " تعلمون " متروك كأنه قيل : وأنتم من أهل العلم والمعرفة ، والتوبيخ فيه آكد ،أي أنتم العرافون المميزون ، ثم إن ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل . ويجوز أن يقدر : وأنتم تعلمون أنه لا يماثل ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله تعالى(1): " هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء " )(2)
صيغة الفعل الزمنية ودلالتها :
ففي قوله تعالى : " ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و الأرض إلا من شاء الله .." سورة النمل : 89
قال الزمخشري : ( إنه عبر بالماضي لنكتة وهي الاشعار بتحقق الفزع وثبوته ، وأنه كائن لا محالة واقع على أهل السماوات والأرض ، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به ، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون . )(3)
وفي تفسير قوله تعالى : " ..كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون " سورة المائدة : 72
قال الزمخشري : ( فإن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضيا والآخر مضارعا ؟ قلت جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفضاعا للقتل ، واستحضارا لتلك الشنيعة للتعجيب منها .)(4)
أو قد يدل على الاستمرار مثل الآية(5)" فتصبح الأرض مخضرة " فإن قلت : هلا قيل فأصبحت ، ولم صرف إلى لفظ المضارع ؟ قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان .)(6)
وفي تفسير قوله تعالى : " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها " سورة فاطر : 9
__________
(1) . سورة الروم : 39
(2) . الكشاف : 1/96
(3) . الكشاف : 3/386
(4) . الكشاف : 1/662
(5) . سورة الحج : 61
(6) . الكشاف : 3/168(1/27)
قال : ( فإن قلت لم جاء " فتثير " على المضارعة دون ما قبله وما بعده ؟ قلت : ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب ، أو تهم المخاطب ، أو غير ذلك . )(1)
دلالة أسلوب النداء :
وقف الزمخشري عند أسلوب النداء في القرءان الكريم وحاول أن يستبين دلالته وبلاغته ، وقد نقل عنه السيوطي في كتابه " معترك الأقران في إعجاز القرءان " من باب الإعجاب به .
ففي تفسير قوله تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " سورة البقرة : 20
__________
(1) . الكشاف : 3/601(1/28)
قال الزمخشري : ( و " يا " حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، صوت يهتف به الرجل بمن يناديه ، وأما نداء القريب فله " أي " والهمزة ، ثم استعمل في مناداة من سهى وغفل وإن قرب ، تنزيلا له منزلة من بعد ن فإن نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معني به جدا . فإن قلت : فما بال الداعي يقول في جؤاره : يا رب ، ويا ألله ، وهو أقرب غليه من حبل الوريد ، وأسمع به وأبصر ؟ قلت هو استقصار منه لنفسه ، واستبعاد لها من مظان الزلفى ، وما يقربه إلى إلى رضوان الله ومنازل المقربين هضما لنفسه وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله ، مع فرط التهالك على استجابة دعوته ، والإذن لندائه وابتهاله .. فإن قلت لم كثر النداء في القرءان على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره ؟ قلت : لأن فيه أوجها من التأكيد وأسبابا من المبالغة .. منها ما في " يا " من التأكيد والتنبيه ، وما في " ها " من التنبيه وما في التدرج من الإبهام في " أيها " إلى التوضيح ، والمقام يناسب المبالغة والتأكيد ، لأن كل ما نادى الله عباده من أوامره ونواهيه وعظاته وزواجره ، ووعده ووعيده ، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية وغير ذلك مما أنطق الله به كتابه ، أمور عظام وخطوب جسام ، ومعان واجب عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم غافلون ، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد والأبلغ . )(1)
ولقد نقل السيوطي كلام الزمخشري هذا بحرفيته ، وأثنى عليه في بيان النظم البلاغي الذي انطوى عليه هذا الأسلوب من النداء في القرءان الكريم(2).
وفي تفسير قوله تعالى : " يا جبال أوبي معه والطير .." سورة سبأ : 10
__________
(1) . الكشاف : 1/89
(2) . السيوطي ، معترك الأقران في إعجاز القرءان ، تحقيق علي محمد البجاوي ، دار الفكر : 1/448 .(1/29)
يذكر الزمخشري أن نداء الجماد في القرءان مظهر من مظاهر استعلاء الربوبية ، وانقياد الأشياء لها ، لذا يعمد القرءان إلى هذا الأسلوب ـ وله عنه مندوحة ـ ليبث في النفوس هيبة الربوبية ، ويطبع فيها الشعور بعزتها وكبريائها .
قال الزمخشري : ( فإن قلت أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : وآتينا داود منا فضلا تاويب الجبال معه والطير ؟ قلت : كم بينهما ، ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزلة العقلاء ، الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته. )(1)
دلالة إسم الإشارة :
ففي التعبير بأسماء الإشارة دلالة خاصة مقصودة ، من ذلك التعبير بـ " ذلك " للتعظيم والتعبير بـ " هذه " تكون للتحقير بحسب المقام والسياق ، ففي الآية " فذلكن الذي لمتنني فيه .." يوسف : 32
قال الزمخشري : ( قالت : " فذلكن " ولم تقل : فهذا ، وهو حاضر رفعا لمنزلته في الحسن ، واستحقاق أن يحب ويفتتن به ، وربئا بحاله واستبعادا لمحله ، ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن : عشقت عبدها الكنعاني ، تقول : هو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في انفسكن ، ثم لمتنني فيه ، تعني أنكن لم تصورنه بحق صورته ، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الإفتنان به . )(2)
أما في قوله تعالى : "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت : 64
فقال : ( فـ " هذه " فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة ، يريد : ماهي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون . )(3)
__________
(1) . الكشاف : 3/571
(2) . الكشاف : 2/466
(3) . الكشاف : 3/463(1/30)
وأما في كلمة " حيوان في هذه الآية فيقول الزمخشري : ( وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة ، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب ، كالنزوان والنغصان واللهبان ، وما أشبه ذلك ، والحياة حركة ، كما أن الموت سكون ، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة ، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضي للمبالغة . )(1)
دلالة النكرة والمعرفة :
وفي دلالة النكرة والمعرفة على المقصود يقف الزمخشري عند مفردات كثيرة في القرءان الكريم ليبحث سر تنكيرها ، وما أفاده التنكير من معنى بلاغي رفيع ، كالإبهام ، والنوعية ، والتقليل ، والتكثير ، وغيرها .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " سورة البقرة : 4
حيث قال : ( ونكر ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه ، ولا يقدر قدره ، كأنه قيل : على أي هدى ، كما تقول : لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا . )(2)
وفي تفسير قوله تعالى : " وعلى أبصارهم غشاوة .." سورة البقرة : 6
قال الزمخشري : ( ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من غير ما يتعارفه الناس ، وهو التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله . )(3)
وقد يفيد معنى التقليل ، كما في قوله تعالى : " وتعيها أذن واعية " سورة الحاقة : 11
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل " أذن واعية " على التوحيد والتنكير ؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد العظم عند الله ، وأن ما سواها لا يبالى بهم باله وإن ملأوا ما بين الخافقين . )(4)
وفي تفسير قوله تعالى : " وإنا على ذهاب به لقادرون " سورة المؤمنون :18
__________
(1) . الكشاف : 3/463
(2) . الكشاف : 1/44
(3) . الكشاف : 1/53
(4) . الكشاف : 4/600(1/31)
قال الزمخشري : ( وقوله " على ذهاب به " من أوقع النكرات وأحزها للمفصل ، والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان باقتدار المذهب ، وأن لا يتعايا شيء عليه إذا أراده . )(1)
دلالة أسلوب الإلتفات :
وفي أسلوب الالتفات يقول الزمخشري : هو فن من الكلام جزل ، فيه هز وتحريك للسامع ، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما : إن فلانا من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث فقلت : يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك ، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه ، واستدعيت إصغاءه غلى إرشادك زيادة استدعاء ، وأوجدته بالانتقال من الغيبة غلى المواجهة هازا من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث ، والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول . )(2)
وننتهي من هذا المبحث إلى القول بأن الزمخشري قد كان آخر لبنة في هذا البناء الشامخ لهذه النظرية الرائدة في تعليل الإعجاز القرءاني مما هيأ له تلك المكانة الفريدة التي نالها بتفسيره الكشاف ، فكان كل من جاء بعده وتكلم في الإعجاز البلاغي للقرءان الكريم مدينا للزمخشري وتفسيره الكشاف ، وهذا ما برز في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ، وهو ما سنعرض له في المبحث الرابع .
المبحث الرابع
مدى تأثر أبي حيان بجهود الزمخشري
__________
(1) . الكشاف : 3/180
(2) . الكشاف : 1/88.89(1/32)
وأمام هذه الجهود الطيبة للزمخشري في الكشف عن بلاغة القرآن وبيان سر إعجازه ، ما وسع أبا حيان الأندلسي إلا الإشادة بهذا الفضل ، والتنويه بمكانة الزمخشري وسبقه وتفرده في هذا الجانب ، فتابعه في تعليل وجه الإعجاز في القرءان الكريم ، وأثنى علية ثناء بالغا ، ولقد تكرر هذا الذكر والثناء في المقدمة وحدها في أربعة مواضع إلى جانب ابن عطية الأندلسي الذي عاصر الزمخشري ، ونحا نحوه في تفسيره في الكشف عن بلاغة القرءان ، ولأهمية كلام أبي حيان في هذين الرجلين رأينا أن ننقل قطوفا منه ، لنقف على درجة إعجابه بهما وسلوكه مسلكهما .
فقال في الموضع الأول : ( ولله ذر أبي القاسم الزمخشري حيث قال في خطبة كتابه في التفسير ما نصه : ( إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح .. علم التفسير الذي لا يتجلى لمتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرءان .. )(1)
ثم ثنى على هذا الكلام بقوله : ( انتهى كلام الزمخشري في وصف متعاطي تفسير القرءان ، وأنت ترى هذا الكلام وما احتوى عليه من الترصيف الذي يبهر بجنسه الأدباء ، ويقهر بفصاحته البلغاء ، وهو شاهد له بأهليته للنظر في تفسير القرءان ، واستخراج لطائف الفرقان . )(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/9
(2) . المصدر نفسه : 1/9(1/33)
ثم عاد فقال : ( وهذا أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري ، وأبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي ، أجل من صنف في التفسير ، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير ، وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس ، وخلدا في الأحياء وإن هذان في الرمس ، وكلامهما فيه يدل على تقدمهما في علوم ، من منثور ومنظوم ، ومنقول ومفهوم ، وتقلب في فنون وآداب ، وتمكن من علمي المعاني والإعراب ، وفي خطبتي كتابيهما ، وفي غضون كتاب الزمخشري ما يدل على أنهما فارسا ميدان ، وممارسا فصاحة وبيان . )(1)
وفي الثناء على تفسيريهما قال : ( ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا ، واشرقا في سماء هذا العلم بدرين وأنارا ، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسان من العين ، والذهب الإبريز من العين ، ويتيمة الدر من اللآلي ، وليلة القدر من الليالي ، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما ، وثنوا أعنة الاعتناء إليهما ، وكان فيهما ـ على جلالتهما ـ مجال لانتقاد ذوي التبريز ، ومسرح للتخييل فيهما والتمييز ، ثنيت عليهم عنان الانتقاد ، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد : أنهما في التفسير الغاية التي لا تدرك ، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك ، وعرضتهما على محك النظر ، وأوريت فيهما نار الفكر ، حتى خلص دسيسهما ، وبرز نفيسهما ، وسيرى ذلك من هو للنظر أهل ، واجتمع فيه إنصاف وعدل ، فإنه يتعجب من التولج على الضراغم ، والتحرز لأشبالها والأنف راغم ، إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير ، وممارسا تحريره والتحبير ، نشراه نشرا ، وطار لهما به ذكرا.)(2)
__________
(1) . المصدر نفسه : 1/9
(2) . المصدر نفسه : 1/10(1/34)
وبعد هذا كله أجرى بينهما موازنة سريعة في غاية التركيز والدقة والإيجاز ، فقال : ( وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص ، وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص ، إلا أن الزمخشري قائل بالطفرة ، ومقتصر من الذؤابة على الوفرة .. هذا مع ما في كتابه من نصرة مذهبه ، وتقحم مرتكبه .
وتجشم حمل كتاب الله عز وجل عليه ونسبة ذلك إليه ، فمغتفر إساءته لإحسانه ، ومصفوح عن سقطه في بعض ، لإصابته في أكثر تبيانه . )(1)
ومن هنا فإنه لم يخف تُأثره به في كامل تفسيره ، وتبنيه لكثير مما ذهب إليه في الكشف عن وجوه ومواطن الإعجاز في القرآن الكريم ، وقد تجلى هذا التأثر فيما يأتي :
1 ـ تابعه في الرد على القائلين بالصرفة في إعجاز القرآن ، فاتجه إلى أسلوب السخرية من أصحاب هذا القول بنفس المعنى الذي ذهب إليه الزمخشري ، فذكر أولا أنه ( لا يقدم على تفسير كتاب الله تعالى إلا من كان متبحر ا في علم اللسان ، مترقيا منه إلى رتبة الإحسان .. فذلك الذي يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد ، وينفتح لما استغلق إذ بيده الإقليد ، وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم ، أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم ، فإنه بمعزل عن فهم غوامض الكتاب ، وعن إدراك لطائف ما تضمنته من العجب العجاب ، وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار ، وتكرار محفوظ على مر الأعصار .)(2)
__________
(1) . المصدر نفسه : 1/10
(2) . المصدر نفسه : 1/7(1/35)
وهكذا أرجع تفاوت الناس في إدراك ما به وقع الإعجاز في القرآن إلى تفاوتهم في إدراك فصاحة الكلام ، وما به تكون الزجاجة في النظام ، وتبعا لذلك اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، ( فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوقل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ،ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر ، ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولم يسلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله ممكن لمنشئ الخطب ، فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته. )(1)
ثم خلص إلى بيان حال هؤلاء بأسلوب ساخر فقال : ( والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء ، حين رأت زوجها يطأ جارية فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطأها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر قاله فيه ذكر الله ورسوله وكتابه ، فصدقته ، فلم ترزق من الذوق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق .)(2)
2 ـ كما تابع الزمخشري في جعله الكشف عن بلاغة القرءان وإعجازه مقصدا أساسيا من مقاصد المفسر ، حيث قال : ( النظر في تفسير كلام الله تعالى يكون من وجوه . ثم ذكر سبعة وجوه ، قائلا في الوجه الثالث : كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح ، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع ، وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة ..)(3)
وبذلك عمل على مراعاة النظم الذي هو مناط الإعجاز في القرءان الكريم في مواضع غير قليلة من تفسيره ، وذلك على طريقة الزمخشري الذي كان يتخير من وجوه التفسير ما كان أبلغ وأحفظ لنظم الآية القرءانية وتناسق عباراتها .
__________
(1) . المصدر نفسه : 1/8
(2) . المصدر نفسه : 1/8
(3) . المصدر نفسه : 1/6(1/36)
ففي تفسير قوله تعالى : " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " سورة النور : 38
قال أبو حيان : ( والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا ، وان الضمائر فيما بعد " الظمآن " له ، والمعنى في " ووجد الله عنده " أي ووجد مقدور الله عليه من هلاك بالظمأ عنده ، أي عند موضع السراب ، فوفاه ما كتب له من ذلك وهو المحسوب له ، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه ، ، فيكون الكلام متناسقا ، آخذا بعضه بعنق بعض ، وذلك باتصال الضمائر بشيء واحد ، ويكون هذا التشبيه مطابقا لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم ، وحصل لهم الهلاك ، بأثر ما حوسبوا به ، وأما في قول الزمخشري فإنه وإن جعل الضمائر لشيء واحد ، لكنه جعل الظمآن هو الكافر ، وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال : وشبه الماء بعد الجهد بالماء ، وأما في قول غيره ففيه تفكيك للكلام ، إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتا من بعض . )(1)
__________
(1) . البحر المحيط : 6/461(1/37)
3 ـ وتابعه في القول بأهمية الإلمام بعلمي المعاني البيان وضرورتهما لكل من انبرى لتفسير كتاب الله تعالى ، منوها بما نقله عن مقدمة " الكشاف " وهو قوله(1): ( والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام .. واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه ، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق ، إلا رجل برع في علمين مختصين بالقرءان وهما المعاني وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقير عنهما أزمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله ، وحرس على استيضاح معجزة رسول الله .. قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف ، وكيف ينظم ويرصف ، طالما دفع إلى مضايقه ، ووقع في مداحضه ومزالقه ، انتهى كلام الزمخشري في وصف متعاطي تفسير القرءان ، وأنت ترى هذا الكلام وما احتوى عليه من الترصيف الذي يبهر بجنسه الأدباء ، ويقهر بفصاحته البلغاء ..)(2)
4 ـ ونقل كثيرا من أقوال الزمخشري بحرفيتها من " الكشاف " مع التنصيص على ذلك ، وتصويبها واستحسانها ، ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون " سورة الأنبياء : 63
__________
(1) . مقدمة الكشاف .
(2) . البحر المحيط : 1/9(1/38)
حيث قال أبو حيان : ( وقال الزمخشري(1): هذا من تعاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيه إلا الأذهان الراضة من علماء المعاني ، والقول فيه أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى ان ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وغنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ، وهذا كما لو قال لك صاحبك ، وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط ، أأنت كتبت هذا ؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة ، فقلت له بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به ، لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخربش ، لأن إثباته ـ والأمر دائر بينكما للعاجز منكما ـ استهزاء به وإثبات للقادر . )(2)
5 ـ كما وافقه في الوجه الآخر من وجوه الإعجاز القرآني ، وهو إخباره بالغيوب ، حيث أن القرآن الكريم أخبر بغيوب كثيرة تتعلق بما كان زمن البعثة وقبلها وبعدها ، فوقعت هذه النبوءات على الوجه الذي نبأ به ، ولم تتخلف منها واحدة . فكان الزمخشري يقف أمام مثل هذه النبوءات ، ويشيد بهذا الوجه من الإعجاز ، وقد صرح أبو حيان بمثل ما قال به الزمخشري مقررا أن إعجاز القرءان واقع من جهة الفصاحة والبلاغة ، كما أنه واقع من جهة إخباره بالغيوب ، ونقل عنه في مواضع كثيرة من هذا النوع من الإعجاز القرءاني .(3)
المبحث الخامس
جهود أبي حيان في الكشف عن إعجاز القرءان
__________
(1) . الكشاف : 3/124
(2) . البحر المحيط : 6/325
(3) . انظر مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم .." سورة البقرة : 94 . وقوله " الذين جعلوا القرءان عضين " سورة الحجر : 91 . وقوله " فبأي حديث بعده يؤمنون " سورة المرسلات : 50 . وقوله تعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا " سورة الفتح : 28(1/39)
ومع انبهار أبي حيان أمام ما قدمه الزمخشري في هذا الجانب وتأثره الواضح بجهوده ، فإن شخصيته المتميزة ومكانته العلمية كانت تأبى عليه أن يذوب كلية ليكون تفسيره البحر المحيط نسخة ثانية عن الكشاف للزمخشري كما فعل بعض ممن سبقه من المفسرين.
حيث كان أبو حيان ـ وهو مقبل على التصنيف في التفسير ـ مقتنعا بأن كل من يريد أن يكتب في التفسير ، عليه أن يلم بهذا الفن ، ويستوعب ما وضعه المتقدمون ، لأنه يرى أن الكشف عن وجوه الإعجاز في القرءان هي أحد مقاصد كل مفسر ، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع .
وقد نص أبو حيان في مقدمة كتابه البحر المحيط على أنه درس هذا الفن على بعض شيوخه بغرناطة(1)، كما وضع في ذلك مصنفا جامعا سماه " خلاصة التبيان في علم المعاني والبيان "(2).
ومن هنا فإنه فإلى جانب نقوله الكثيرة عنه ، كان من جهة أخرى يتعقبه ويرد عليه ، كاشفا مواطن الزلل والضعف فيما ذهب إليه من تخريجات بلاغية ، سواء منها تلك الأخطاء التي وقع فيها تحت تأثير مذهبه الاعتزالي ، أو تلك التي جانب فيها الصواب لغير تعصب مذهبي ، ومن المواضع التي رد عليه فيها ما يأتي :
في تفسير قوله تعالى : " اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " سورة البقرة : 20
قال الزمخشري : فإن قلت : فهلا قيل " تعبدون " لأجل اعبدوا أو اتقوا لمكان تتقون ، ليتجاوب طرفا النظم ؟ قلت ليست التقوى غير العبادة ، حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم ، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ، ومنتهى جهده ، فإذا قال : " اعبدوا ربكم الذي خلقكم " للإستيلاء على أقصى غايات العبادة ، كان أبعث على العبادة ، وأشد لزاما لها ، وأثبت لها في النفوس . )(3)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/6
(2) . المصدر نفسه : 1/6
(3) . الكشاف : 1/93(1/40)
فقال أبو حيان : ( انتهى كلامه ، وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى ، وقد تقدم ذلك ، وأما قوله : ليتجاوب طرفا النظم ، فليس بشيء ، لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفا النظم ، لأنه يصير المعنى : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ، إذ هو مثل : اضرب زيدا لعلك تضربه ، واقصد خالدا لعلك تقصده . ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ ، وفساد المعنى ، والقرآن منزه عن ذلك ، والذي جاء به القرآن في غاية الفصاحة ، إذ المعنى : أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم ، لأن التقوى مصدر اتقى ، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله ، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة ، فعلى هذا العبادة ليست نفس التقوى ، لأن الإتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز ، فكأنه قال : اعبدوا ربكم فتحرزوا عذابه . )(1)
وهناك مواضع غير قليلة في الكشاف لم يوافقه فيما ذهب إليه من توجيهات بلاغية لما فيها من تحيز لنصرة مذهبه ، ولكن أبا حيان كان يكتفي في الرد بذكر عبارة " وهذا على طريقة الاعتزال " أو ما في معناها ، دون مناقشته ، وذلك لوضوح جانب تعسفه وميله لخدمة مذهبه عند القارئ ، وفي مواضع أخرى ناقشه ورد عليه تفصيلا .
وهكذا فإن أبا حيان إذلم يخف شدة تأثره وإعجابه بجهود الزمخشري في هذا الجانب ، حاول من جهة أخرى أن يلم بهذه الجهود ويزيد عليها ، ويظهر بمظهر المتفوق على الزمخشري في الكشف عن إعجاز القرآن ، وذلك من عدة وجوه :
__________
(1) . البحر المحيط : 1/96(1/41)
1 ـ منها أنه لم يقصر جهة الإعجاز في القرآن على النظم وحده ، بل كان يرى أن الإعجاز واقع من جهة النظم ومن جهة الفصاحة على السواء ، أي أنه جمع بين نظرية " النظم "عبد القاهر الجرجاني التي طبقها الزمخشري في تفسيره ، وبين نظرية " الفصاحة " التي علل به سر الإعجاز ابن سنان الخفاجي ، ولذا نراه يؤكد في عدة مواضع من مقدمة تفسيره أن إدراك الإعجاز القرآني يدرك من هذين الجهتين ولا يقتصر على إحداهما فقط ،
من ذلك قوله : ( فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوغل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يحام عليها .)(1)
ولعل من بين الذين سبقوا أبا حيان في الجمع بين البلاغة والفصاحة في تعليل إعجاز القرآن هو أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأندلسي الأنصاري القرطاجني في كتابه " منهاج البلغاء وسراج الأدباء " ـ وهو من شيوخ أبي حيان ـ وقد صرح في مقدمة البحر المحيط أنه قرأ عليه هذا الكتاب ، وأشاد به ، مما يدل على تأثره بنظرة شيخه وتطبيقها في تفسيره ، وكان أبو حازم القرطاجني يرى في هذا الكتاب ( أن الإعجاز فيه من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة من جميع أنحائها في جميعها ، استمرارا لا توجد له فترة ، ولا يقدر عليه أحد من البشر . )(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/8
(2) . الزركشي ، البرهان في علوم القرءان : 2/101 . وانظر : أحمد رحماني ، نظريات الإعجاز القرءاني : 62(1/42)
ولكن المتتبع لأبي حيان في كتابه " البحر المحيط " يلاحظ أنه لم تكن في ذهنه حدود فاصلة بين معنى البلاغة ومعنى الفصاحة ، بل نجده في أكثر من موضع يطلق لفظ الفصاحة على ما وقع في الآيات من ضروب البلاغة وعلومها الثلاثة ، المعاني ، والبيان ، والبديع ، كما قد يطلق مصطلح البلاغة على بعض ما يكون في الآيات من ألفاظ حسنة مما يدخل تحت مسمى الفصاحة(1).
من ذلك مثلا ما قاله بعد تفسيره للآيات الأولى من سورة آل عمران (10 ـ 16)
قال أبو حيان : (قيل وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة حسن الإبهام وهو فيما افتتحت به لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام ، ومجاز التشبيه في مواضع منها : نزل عليك الكتاب ، وحقيقة النزول طرح جرم من علو إلى أسفل .. وفي قوله " لما بين يديه " ، القرءان مصدق لما تقدمه من الكتب ..)(2)
وفي قوله تعالى : " إن الذي كفروا سواء عليهم ..عذاب عظيم " سورة البقرة : 5.6
قال أبو حيان : ( وذكروا أيضا أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعا :
الأول : الخطاب العام اللفظ الخاص المعنى .
__________
(1) . علما بأن الفرق بين الفصاحة والبلاغة قد كان واضحا عند من سبقه ، فهذا السكاكي يعرف الفصاحة فيقول : ( وأما الفصاحة فهي قسمان : راجع إلى المعنى ، وهو خلوص الكلام من التعقيد ، وراجع إلى اللفظ وهو ان تكون الكلمة عربية أصلية ، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، واستعمالهم لها أكثر ، لا مما أحدثه المولدون ، ولا مما أخطأت فيه العامة ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة ، وأن تكون سليمة من التنافر . ) مفتاح العلوم : 416 . وفي تعريف البلاغة يقول : ( هو بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التركيب حقها ، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها .. ) مفتاح العلوم : 415 .
(2) . البحر المحيط :2/390(1/43)
الثاني : الإستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس ، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم .
الثالث : المجاز ويسمى الإستعارة ، وهو قوله تعالى " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس ، يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم ، والختم هنا معنوي ، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره ، استعير له اسم المختوم عليه ، فتبين أنه من مجاز الاستعارة . )(1)
وأحيانا يجمع بينهما من باب الترادف بين المصطلحين ، كما يجعل بعض الصور البديعية من علم البيان ، وقد جاء ذلك صريحا في تفسيره لقوله تعالى : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف .. " سورة البقرة : 229 ـ 230
قال أبو حيان : ( وقد تضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة والبلاغة من علم البيان :
الأول : الطباق ، وهو الطلاق والإمساك ، فإنهما ضدان ، والتسريح طباق ثان ، لأنه ضد الإمساك ، والعلم وعدم العلم ، لأن عدم العلم هو الجهل .
الثاني : المقابلة في " أمسكوهن بمعروف " و " ولا تمسكوهن ضرارا " قابل المعروف بالضرار ، والضرار منكر ، فهذه مقابلة معنوية .
الثالث : التكرار في " فبلغن أجلهن " كرر اللفظ لتغيير المعنيين ، وهو غاية في الفصاحة ، إذ اختلاف معنى الإثنين دليل على اختلاف البلوغين .
الرابع : الإلتفات في " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن " ثم التفت إلى الأولياء فقال : " فلا تعضلوهن .." .
الخامس : التقديم والتأخير ، التقدير " أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا تراضوا " .
السادس : مخاطبة الواحد بلفظ الجمع لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار ، أو في أخت جابر وقيل ابنته . )(2)
__________
(1) . البحر المحيط : 1/50
(2) . البحر المحيط : 2/211(1/44)
وأحيانا أخرى يعبر عنها بالمصطلحات البلاغية المعروفة ، ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه .." سورة آل عمران : 187 ـ 200
حيث يقول : ( وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع الإستعارة ، عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل ، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى تلك الأحكام ، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله .. )(1)
وإذا كان المتكلمون في القرن الخامس الهجري من الباقلاني إلى عبد القاهر ينحون البديع من مباحث أسرار البلاغة في الذكر الحكيم ، فإن الزمخشري قد مضى على هذا الهدى أيضا ، لا يعنى بما جاء في الآيات الكريمة من بديع إلا عرضا ، وكانت هذه النظرة إلى البديع عنده سببا في ألا يطيل النظر في ألوانه القرآنية ، وأن لا يلم بها إلا في الحين بعد الحين ، وإذا ألم بها مسها في خفة .)(2)
فمن ذلك إشارته إلى الطباق في قوله تعالى : " ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " سورة البقرة : 12
والمشاكلة في قوله تعالى : " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها .." سورة البقرة : 25
واللف والنشر في قوله تعالى : " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى .. " سورة البقرة : 110
أما هذه التقسيمات في عصر أبي حيان فقد كانت موجودة ، بل عرفها البلاغيون قبله ، كما بينها السكاكي في كتابه " مفتاح العلوم "(3)، فمضى أبو حيان يطبقها على نطاق واسع من القرآن الكريم ، فلا يفسرا مقطعا من الآيات القرآنية ويتكلم عن الصور البلاغية فيه إلا ويبين ما فيه من ألوان المحسنات البديعية كما مر معنا في الشواهد السابقة .
__________
(1) . البحر المحيط : 3/148
(2) . شوقي ضيف ، البلاغة تطور وتاريخ : 265
(3) . السكاكي ، مفتاح العلوم ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2 ، 1987م ، ص : 423(1/45)
2 ـ ومنها الخروج من دائرة نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني القائمة على دراسة التراكيب النحوية وأهميتها في بلاغة القرآن ، إلى دائرة أوسع وهو الكلام على تآلف الآيات القرآنية فيما بينها وتناسبها ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك ، وهو تركيزه على إبراز وجه التناسب بين سور القرآن الكريم كلها ، مع التسليم بتوقيفية ترتيبها .
فمن الأمثلة على مراعاة وجه التناسب بين الآيات القرآنية ما يأتي :
في تفسر قوله تعالى : "وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .." سورة البقرة : 24
قال أبو حيان : ( ومناسبة قوله تعالى " وبشر " لما قبله ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤول إليه حالهم في الآخرة ، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار ، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم ، وما أعد لهم في الآخرة من النعيم السرمدي . وهكذا جرت العادة في القرآن غالبا ، متى جرى ذكر الكفار ومآلهم ، أعقب بالمؤمنين ومآلهم ، وبالعكس لتكون الموعظة جامعة ، بين الوعد والوعيد ، واللطف والعنف ، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ، ويجذبه اللطف ، ومنهم من هو العكس . )(1)
ويرى أبو حيان في تناسب الآيات وترابطها نوعا من أنواع الفصاحة ، من حيث أداؤه الغرض وإقناع المخاطبين ، وقد صرح بذلك في تفسير قوله تعالى : " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ...واركعوا مع الراكعين " سورة البقرة : 39 ـ 42
__________
(1) . البحر المحيط : 1/110(1/46)
حيث قال : ( وفي هذه الجمل وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا ، ترتيب عجيب من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض ، ، وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم ، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته ، ثم أمرهم بإبقاء العهد الذي التزموه للمنعم ، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد ، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا ، فاكتنف بالأمر أمر بذكر النعمة والإحسان ، وأمر بالخوف من العصيان ، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص ، وهو ما أنزل من القرآن ، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم ، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم ، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف ، ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس ، ثم أمرهم تعالى باتقائه ، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق تركا للضلال ، ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين إما تمويه الباطل حقا إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع ، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه ، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا ولا تكتموا ، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم ، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية ، والزكاة آكد العبادات المالية ، ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين ، فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم ، واختتامها واختتامها بالانقياد للمنعم ، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية ، وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام . )(1)
ومن الأمثلة على اهتمامه بإبراز وجه التناسب بين سور القرآن ما يأتي :
في مطلع سورة الأنبياء " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " .الأنبياء : 1
__________
(1) . البحر المحيط : 1/180(1/47)
قال أبو حيان : ( ومناسبة هذه السورة لما قبلها ـ سورة طه ـ أنه لما ذكر : " قل كل متربص فتربصوا .." قال مشركو قريش يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال وليس بصحيح .. فأنزل الله تعالى : " اقترب للناس حسابهم .." )(1)
وفي مطلع سورة الحج " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم " . سورة الحج : 1
قال أبو حيان : ( ومناسبة هذه السورة لما قبلها ـ الأنبياء ـ أنه ذكر تعالى حال الأشقياء والسعداء ، وذكر الفزع الأكبر ، وهو ما يكون يوم القيامة ، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم ، نزلت هذه السورة تحذيرا لهم وتخويفا لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدة هولها ، وذكر ما أعد لمنكرها ، وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم ، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات . )(2)
وإذا رجعنا إلى نفس المواضع عند الزمخشري فإننا لا نجد أثرا للحديث عن وجه التناسب بين آيات القرءان وسوره إلا ما كان له تعلق بحسن النظم المترتب على مراعاة التراكيب النحوية(3).
ولا شك أن بيان وجه التناسب بين آيات القرآن وسوره هو بيان لوجه من وجوه إعجاز القرآن ، وفي ذلك يقول الزركشي :
( واعلم أن المناسبة علم شريف ، تحزر به العقول ، ويعرف به قدر القائل فيما يقول .. وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط . )(4)
ثم نقل عن الفخر الرازي وأبي بكر بن العربي وغيرهما ما يؤيد رأيه(5).
__________
(1) . البحر المحيط : 6/295
(2) . البحر المحيط : 6/349
(3) ، انظر الكشاف : 3/141 . 3/100
(4) . البرهان في علوم القرءان : 1/37
(5) . البرهان في علوم القرءان . الصفحة نفسها .(1/48)
ونحن لا نستبعد أن يكون أبو حيان الأندلسي في هذا الجانب متأثرا بأستاذه أبي جعفر إبراهيم بن الزبير الغرناطي صاحب كتاب " البرهان في ترتيب سور القرآن " فقد صحبه في بداية شبابه ، وقر أعليه أكثر كتبه ، وظل أبو حيان يذكره ويثني عليه وينوه بعلمه .
وهكذا فإن أبا حيان في هذا الجانب قد جمع بين النقل والإبداع حيث نقل عن الزمخشري وأفاد منه في الكشف عن أسرار النظم القرءاني وما فيه من إعجاز ، وحاول أن يبدع ويضيف الجديد في هذا المجال حيث عرض لجوانب أخرى من الإعجاز القرءاني لا نجد لها نظيرا في الكشاف للزمخشري ، وهذا ما يدعونا للموازنة بين جهود المفسرين في هذه الجانب ، وهو ما سنفعله في المبحث اللاحق .
المبحث السادس
موازنة بين جهود المفسرين في الكشف عن إعجاز القرءان
ومن خلال عرض جهود هذين المفسرين في الكشف عن إعجاز القرءان الكريم يتبين تقدم الزمخشري عن أبي حيان الأندلسي في هذا الجانب ، وذلك على الرغم مما أضافه أبو حيان في إبراز الجوانب الأخرى للإعجاز القرءاني ، وهي إضافات على قيمتها العلمية لا تزيد كثيرا عن كونها ثمرة أخرى من ثمرات البحث في النظم القرءاني وتطبيقه بشكل أوسع .(1/49)
وربما كان لعامل السبق الزمني أثر في هذا التفاوت بين الزمخشري وأبي حيان ، حيث جاء الزمخشري في القرن الخامس الهجري ، والدراسات البلاغية في مرحلة النضج والازدهار ، وهي لا تزال تنبض بالحركة والحياة ، فاستفاد من مرحلته ، وكانت له إضافات وإبداعات حصل له الفضل والتفوق بها ، أما أبو حيان فقد جاء في مرحلة متأخرة من تاريخ البلاغة العربية وهو القرن السابع الهجري ، وهي مرحلة الجمود والتقليد ، حيث اكتفى الدارسون بالتلخيص والشروح لكتب المتقدمين ، وإلى هذا ذهب محمود السيد شيخون في كتابه الموسوم بـ " الإعجاز في نظم القرآن " حيث قال : ( وبعز الدين بن عبد السلام ـ ت : 660هـ ـ نأتي إلى خاتمة مشاهير العلماء الذين تكلموا في وجه الإعجاز في القرآن الكريم ، وقد جاء من بعده علماء تكلموا في هذه الناحية ، لكن جهودهم اقتصرت على نقل وجمع آراء السابقين ، ولم يكن جديد في هذه الناحية يستحق الدراسة والتسجيل ، ومن هؤلاء الزملكاني ( ت : 727هـ ) والزركشي ( ت : 794هـ ) صاحب البرهان ، وابن قيم الجوزية ( ت : 751هـ ) صاحب كتاب الفوائد . )(1)
بل نجد من الباحثين في تاريخ البلاغة العربية والإعجاز البلاغي للقرآن من يرى ( أن البحث البلاغي قد انتكس منذ بداية القرن السابع الهجري ، على يد أبي يعقوب السكاكي ( ت : 626هـ ) فما أن لخص السكاكي العلوم البلاغية في القسم الثالث من كتابه " مفتاح العلوم " حتى انحرف مسار التأليف البلاغي بسرعة كاسحة ، إلى هذا الإتجاه الذي يقوم على التعقيد والتقنين المنطقي الصارم .)(2)
__________
(1) . الإعجاز في نظم القرءان : 61 ، وانظر أحمد جمال العمري ، المباحث البلاغية في ضوء قضية الإعجاز القرءاني مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1990م ، ص : 323
(2) . البلاغة تطور وتاريخ : 324(1/50)
وذلك أن السكاكي كان ذا عقلية منطقية ، فلم يستوعب من فكر عبد القاهر البلاغي الذي أثر فيه إلا الجانب النظري التقنيني ، أما الجانب التذوقي التحليلي فلم يستطع استيعابه والإفادة منه .
وهكذا فقدت البلاغة العربية بعناصرها المختلفة هذا الجانب الجمالي الذوقي ، وتحولت إلى علم تقنيني يشبه إلى حد كبير قواعد النحو والصرف والعروض وتقسيماتها(1).
وإذا سلمنا بأنه ليس كل من أحاط بقواعد النحو والصرف صار أديبا ، وليس كل من ألم بعلم العروض صار شاعرا ، فإنه يصح القول بأنه ليس كل من ألم بهذه التقنينات لقواعد البلاغة على ما وضعه السكاكي صار ملما بالإعجاز البلاغي للقرآن ذواقا لأسلوبه .
وقد ظهر هذا بجلاء في أعمال أبي حيان الأندلسي ، فبالرغم من تأثره بالزمخشري ، واطلاعه على إنتاجه واستفادته منها ، واطلاعه على " دلائل الإعجاز " لعبد القاهر الجرجاني واستفادته منه أيضا(2)فإنه لم يستطع أن يتجرد مما كان عليه عصره من جمود وتقليد في هذا الجانب ، فوضع كتابه في البلاغة " خلاصة التبيان .." والظاهر من عنوانه أنه عبارة عن جمع وتلخيص لما تقدمه من كتب السابقين ، إن لم نقل إنه نخله من مفتاح العلوم للسكاكي مثلما فعل في كتابه " ارتشاف الضرب "(3)، كما كان في تفسيره البحر المحيط قد غلب عليه تلخيص أقوال من سبقه وتهذيبه لها ، وهذا واضح في كثير من المواضع التي صرح فيها بالنقل ، فمن ذلك ما قاله عند تفسير قوله تعالى : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون " سورة البقرة :178
حيث قال : ( وقالت العرب فيما يقرب هذا المعنى : القتل أوقى للقتل ، وقالوا : القتل أنفى للقتل ، وقالوا أكف للقتل ، وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه :
__________
(1) . المباحث اللغوية في ضوء قضية الإعجاز القرءاني : 324 بتصرف .
(2) . البحر المحيط : 2/128
(3) . انظر : بغية الوعاة : 2/364(1/51)
أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال .
الثاني : تكرار لفظ القتل في جملة واحدة .
الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفى للقتل .
الرابع : أن القتل ظلما هو قتل ، ولا يكون نافيا للقتل ، وقد اندرج في قولهم القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك .
أما في الوجه الأول ففيه أن نوعا من القتل ـ وهو القصاص ـ سبب لنوع من الحياة لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف ، أي " ولكم في شرع القصاص " أتضح كون شرع القصاص سببا للحياة .
وأما في الوجه الثاني فظاهر لعذوبة الألفاظ ، وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف ، لأن في كلام العرب كما قلناه تكرار اللفظ والحذف ، إذ أنفى أو أوقى أو أكف هو أفعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه : أنفى للقتل من ترك القتل .
وأما في الوجه الثالث فالقصاص أعم من القتل ، لأن القصاص يكون في نفس وغير نفس ، والقتل لا يكون إلا في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة .
وأما في الوجه الرابع فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق فترتب على مشروعيته وجود الحياة ، ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى بالطباق ، وهو شبه قوله تعالى " وأنه هو أمات وأحيى " . )(1)
أما الزمخشري فقال عند تفسيره لهذه الآية :
(
__________
(1) . البحر المحيط : 2/15 ـ 16(1/52)
كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة تعريف القصاص وتنكير الحياة ، لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة لارتداع القاتل عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه فارتدع منه سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القتل ، فكان القصاص سبب حياة نفسين . )(1)
وإذا وازنا بين ما أتى به أبو حيان في هذا الموضع وبين ما عند الزمخشري في تفسير نفس الآية ، فإننا نجد أبا حيان قد ذكر من وجوه النظم في الآية ما لم يذكره الزمخشري ، وبذلك بدا أبو حيان متفوقا عليه من هذا الجانب ، إلا أن أبا حيان صرح بأنه ناقل وجامع لأقوال غيره ، وذلك في قوله " وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه .." ، أما الزمخشري فيبدو أنه اعتمد على نظرته الثاقبة للآية ، وما أدركه بحسه الإبداعي وذوقه البلاغي .
والزمخشري قد يمر بآيات فيها من وجوه البلاغة التي تتجلى لكل قارئ للقرءان ، فهو لا يقف عندها ولا ينبه عليها ، لأنه يرى أن الناس في ذلك متساوون ، ولا يكادون يتفاوتون إلا بخطى قليلة ، وإنما يعنى بلطائف النكت ودقائقها التي لا يكشف عنها إلا الخاصة من أولي العلم ، وفي ذلك يقول :
(
__________
(1) . الكشاف : 1/222(1/53)
اعلم أن متن كل علم وعمود كل صناعة طبقات العلماء فيه متدانية ، وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية ، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطى يسيرة ، أو تقدم الصانع الصانع لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة ، وإنما الذي تباينت فيه الرتب ، وتحاكت فيه الركب ، ووقع فيه الاستباق والتناضل ، وعظم فيه التفاوت والتفاضل ، حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد ، وترقى إلى أن عد ألف بواحد ، ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر ، ومن لطائف معان يدق فيها مباحث الفكر ، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار ، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم ، وإلا واسطتهم وفصهم ، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم ، عناة في يد التقليد ، لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم . )(1)
وهكذا نجد أبا حيان وقف عند مقاطع كثيرة من الآيات ، وراح يحصى الصور البلاغية فيها ، بينما نجد الزمخشري يمر عليها ولا يذكر شيئا من ذلك ، فلا يظن به أنه فاتته ، وإنما اشتغل بما هو أدق منها .
ففي تفسير قوله تعالى : " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة .. فتيلا " سورة النساء : 73 ـ78
__________
(1) . مقدمة تفسير الكشاف .(1/54)
قال أبو حيان الأندلسي : ( وقد تضمنت هذه الآيات من وجوه البيان والبديع الإستعارة في يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وفي فسوف نؤتيه أجرا عظيما لما يناله من النعيم في الآخرة ، وفي سبيل الله وفي سبيل الطاغوت ، استعار الطريق للإتباع وللمخافة ، وفي كفوا أيديكم ، أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال ، والإستفهام الذي معناه الإستبطاء والإستبعاد في " وما لكم لا تقاتلون " والإستفهام الذي معناه التعجب في " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في الجهاد ، والإلتفات في " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ـ في قراءة النون ـ والتكرار في " سبيل الله " وفي " واجعل لنا من لدنك " وفي " يقاتلون " وفي " الشيطان " وفي " وإن تصبهم " وفي " وما أصابك " وفي " اسم الله " ، والطباق اللفظي في " الذين آمنوا " ، و" الذين كفروا " ، والمعنوي في سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية ، والإختصاص في " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " وفي " والآخرة خير لمن اتقى " ، والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في " يدرككم الموت " وفي " إن تصبهم " وفي " ما أصابك " ، والتشبيه في " كخشية " وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في خير لمن اتقى ، والتجنيس المغاير في " يخشون و كخشية ، والحذف في مواضع .)(1)
وإذا رجعنا إلى الكشاف وجدناه سكت عن هذه الصور البلاغية التي راح أبو حيان يطبق عليها المصطلحات البلاغية كقوانين جامدة من غير أن يقف عند دقائق النظم القرآني بحسه البياني ، ويتذوق ما فيها من نكت حسنة ، لأن الإكتفاء بذكر ما في هذه الآيات من صور بلاغية دون بيان ما فيها من نظم فريد ومتميز يوهم القارئ أن أسلوب القرءان كأي كلام آخر بليغ ، فيمكن مضاهاته ومعارضته .
__________
(1) . البحر المحيط : 3/302(1/55)
بينما نجد الزمخشري يقف مثلا عند قوله تعالى : " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون "(1)ليكشف عن عجيب النظم الموجود في هذا الشطر من الآية والذي لا ينكشف إلا للحذاق من علماء البيان فيقول : ( ..فقوله " لتكملوا " علة الأمر بمراعاة العدة ، " ولتكبروا " علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر ، " ولعلكم تشكرون " علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان . )(2)
ولقد وقف ابن المنير أما هذا الكلام فما وسعه إلا إظهار الإعجاب به فقال : (ولقبه الخاص في صناعة البديع : رد أعجاز الكلام إلى صدوره ، ولقد أحسن الزمخشري في التنقيب عنه ، فهو منظوم في حسناته . )(3)
ذلك أن نظرية عبد القاهر الجرجاني التي طبقها الزمخشري وتشبع بها لا تعني أن الإعجاز واقع بمجرد الإقرار بصحة النظم القرآني الذي يتولد عنه كلام بليغ ، وإنما تعني أنه واقع باعتبار أن النظم درجات ، وأن النظم القرآني يتعدى دائرة الصحة إلى دائرة الفضائل والمزايا التي تعني حسن التخير في دائرة الحدود التي حددها النحو ( وإلا فإن هذه المعاني وتلك الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة ، وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه ، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكملوا بمعرفتها . )(4)
فهذا الذي كان الزمخشري يراعيه ويقف عنده منفردا بتلك اللطائف البلاغية الناتجة عن بليغ النظم القرآني ، وكان أبو حيان ينقله بحرفيته ، مبديا إعجابه واستحسانه لها .
من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " سورة آل عمران : 97
__________
(1) . سورة البقرة : 184
(2) . الكشاف : 1/ 228
(3) . الانتصاف من الكشاف ، على هامش الكشاف : 1/228 ، هامش : 1
(4) . دلائل الإعجاز : 15(1/56)
قال أبو حيان : ( ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج ، إذ جاء ذلك بقوله " ولله " ليشعر بأن ذلك له تعالى ، وجاء بـ "على" الدالة على الاستعلاء ، وجاء متعلقا بلفظ العموم ، وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين . قال الزمخشري : ( وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد ، فمنها قوله " ولله على الناس حج البيت يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنه انه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا ، وفيه ضربان من التأكيد أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني أن الإيضاح بعدا لإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ، انتهى كلامه وهو حسن . )(1)
( وإذا كان التركيب النحوي له معنى أول يدل على ظاهر الوضع اللغوي ، وله معنى ثان ودلالة إضافية تتبع المعنى الأول ، وهذا المعنى الثاني وتلك الدلالة الإضافية هي المقصد والهدف للبلاغة )(2)فإننا نجد أبا حيان عندما ناقش الزمخشري في مثل هذه المواضع وعارضه في بعض ما تحدث عنه من نظم القرءان إنما ناقشه وعارضه في الشطر الأول فقط ، أي من الوجهة النحوية ولم تتعد هذه المناقشة إلى الدلالة البلاغية في كثير من المواضع ، مما يدل على أنه كان يسلم له بالتفوق ورسوخ القدم في الشطر الثاني ، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها :
في تفسير قوله تعالى : " قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم .." سورة مريم : 46
__________
(1) . البحر المحيط : 3/10
(2) . عبد الفتاح لاشين : التراكيب النحوية من الوجهة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني ، دار المريخ للنشر ، الرياض ، المملكة العربية السعودية ، ص : 4(1/57)
قال أبو حيان : ( قال الزمخشري : وقدم الخبر على المبتدإ في قوله " أ راغب أنت .." لأنه كان أهم عنده ، وهو عنده أعنى ، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وان آلهته ما ينبغي ان يرغب عنها أحد ، وفي هذا سلوى وثلج لصدر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه ، انتهى . والمختار في إعراب " أ راغب أنت .." أن يكون راغب مبتدأ ، لأنه اعتمد على أداة الاستفهام ، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون " أراغب " خبرا و " أنت " مبتدأ من وجهين : أحدهما ألا يكون فيه تقديم وتأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ ، والثاني ألا يكون فصل بين العامل الذي هو " أ راغب " وبين معموله الذي هو " عن آلهتي " بما ليس بمعمول للعامل ، لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدإ ، بخلاف كون " أنت فاعلا فإنه معمول " أ راغب " فلم يفصل بين " أ راغب " وبين " عن آلهتي " بأجنبي إنما فصل بمعمول له . )(1)
وفي تفسير قوله تعالى : " فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم .. " سورة البقرة : 16
__________
(1) . الكشاف : 3/20(1/58)
قال أبو حيان : ( و " لما " جوابها ذهب الله بنورهم ، وقد أجازوا أن يكون جواب لما محذوفا كما حذفوه في قوله " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب .. "(1)قال الزمخشري : وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه . قال أبو حيان : وقوله لاستطالة الكلام غير مسلم به لأنه لم يستطل الكلام ، لأنه قدره خمدت ، واي استطتلة في قوله فلما أضاءت ما حوله خمدت ، بل هذا لما وجوابها فلا استطالة ، بخلاف قوله " فلما ذهبوا به " فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي " لما " فلذلك كان الحذف سائغا لاستطالة الكلام . وقوله " مع أمن الإلباس " وهذا أيضا غير مسلم به ، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف ، بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون " ذهب الله بنورهم هو الجواب ، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتيب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة كان ذلك من باب اللغز ، إذ تركت شيئا يبادر إلى الفهم ، وأضمرت شيئا يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه ، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب " ذهب الله بنورهم .
ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى ، قال : وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوت الضوء خائبين بعد الكدح في إحياء النار ..
__________
(1) . سورة يوسف : 15(1/59)
وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها ، لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله " فلما أضاءت ما حوله " قوله " ذهب الله بنورهم " وأما ما في كلامه بعد تقدير " خمدت " إلى آخره فهو مما يحمل اللفظ ما لا يتحمله ، ويقدر تقادير و جملا محذوفة لم يدل عليها الكلام ، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ، ولا أن يزاد فيه ، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه أو نقص منه . )(1)
وتبقى المواضع التي تعقبه فيها أبو حيان قليلة إذا قيست بتلك التي ارتضاها ونقلها باللفظ أو المعنى أو سكت عنها .
وبهذا يظل الزمخشري على قمة هرم الباحثين والمبدعين في الكشف عن مواطن الإعجاز البلاغي في القرءان الكريم ، وهو أقوى جانب في جوانب إعجازه ، وهذا ما انتهى إليه وقرره الباحث نعيم الحمصي في بحثه الموسوم بـ "فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة حتى عصرنا الحاضر حيث قال : ( قد انتهيت من دراسة أفكار من تكلموا في الإعجاز القرآني إلى أن فكرة الإعجاز بالبلاغة كانت أقوى هذه الأفكار . لكن القدماء الذين أرادوا أن يثبتوها لم يكن عندهم آراء ونظرات فنية كاملة في فنون البلاغة ..ونستثني من القدماء عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم في البلاغة ، والزمخشري صاحب الكشاف ، فلهما نظرات ثاقبة وأبعاد عميقة .)(2)
ولما كانت فكرة الإعجاز البلاغي في القرءان الكريم هي أقوى الجوانب ، وكان الزمخشري أحد الأركان الشامخة في خدمتها وتجسيدها ، فإنه بذلك نال هذا التفوق وهذه المكانة التي طالما نازعه فيها أبو حيان وغير أبي حيان ممن سبقه ولحقه ، ولعله الجانب الذي يصدق فيه قول الزمخشري عندما مدح كشافه بقوله :
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
__________
(1) . البحر المحيط : 1/79 . 80
(2) . فكرة إعجاز القرءان منذ البعثة حتى عصرنا الحاضر : 464(1/60)
ونحن نسلم لكشاف الزمخشري بهذا التفرد والتميز من هذا الجانب ، ولكننا نشاحه في دعوى التفوق في الجوانب الأخرى ، وهو ما سنعرض له في الفصول اللاحقة بإذن الله .(1/61)
الفصل الخامس
أثرهما في حركة التفسير
المبحث الأول
أثر الزمخشري في حركة التفسير
لقد تحدث أكثر من باحث عن أثر الزمخشري في من جاء بعده من المفسرين ، وأسهبوا في ذكر أسماء من نقلوا عن تفسيره ، ولكنهم سكتوا عن تعليل هذا التأثير الواسع الذي امتد عبر قرون طويلة ، كما سكت أغلبهم عن سر شهرة هذا المصنف الذي طاول به الزمخشري كبار المفسرين ممن سبقوه أو جاءوا بعده .
وفي رأيي أنه من الضروري أن نبحث سر هذا التأثير الواسع ، وسبب شهرة هذا التفسير وذيوعه بين طلاب العلم والدارسين .
وربما كان في مقدمة أسباب تقدم هذا التفسير عن غيره ، واحتلاله رتبة الصدارة في درجة تأثيره في من جاء بعده من المفسرين ، سبقه في تطبيق الدراسات البيانية في تفسير القرآن الكريم ، وذلك بعد اكتمال نظرية النظم ونضجها ، ولذا قال ابن خلدون :
( .. والعناية به ـ أي علم البيان ـ لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره .. وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية ، والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران ، والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه ، أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق ، كتفسير الزمخشري ، وهو كله مبني على هذا الفن ، وهو أصله ..)(1)
__________
(1) . ابن خلدون . المقدمة : 475(1/1)
ثم قال : ( وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون ، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه ، حتى ظهر تفسير جار الله الزمخشري ، ووضع كتابه في التفسير ، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن ، بما يبدي البعض من إعجازه ، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير ، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة ، ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة ، مع وفور بضاعته من البلاغة ، فمن أحكم عقائد أهل السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة ، حتى يقدر على الرد عليه من جنس كلامه ، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ، ولا تضره في معتقده ، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب ، للظفر بشيء من الإعجاز ، مع السلامة من البدع والأهواء .)(1)
وقد تابع السيوطي ابن خلدون في تعليل سر شهرة الكشاف وذيوعه واشتغال طلبة العلم به ، سواء كانوا من خصومه أو من أتباعه .
قال السيوطي بعد أن ذكر قدماء المفسرين : ( ثم جاءت فرقة أصحاب نظر في علوم البلاغة التي بها يدرك وجه الإعجاز ، وصاحب الكشاف هو سلطان هذه الطريقة ، فلذا طار كتابه في أقصى الشرق والغرب ، ولما علم مصنفه أنه بهذا الوصف قد تجلى قال ـ تحدثا بنعمة الله وشكرا ـ :
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء ، والكشاف كالشافي)(2)
__________
(1) . الصفحة نفسها : 475
(2) . انظر : يوسف إليان سركيس ، معجم المطبوعات العربية والمعربة ، طبع لبنان : ج1/975 . نقلا عن نواهد الأبكار ، للسيوطي .(1/2)
أما الأستاذ عبد العظيم الزرقاني فيرى أن تفسير الكشاف قد امتاز عن غيره من التفاسير بأمور جعلته يحظى بهذه الصدارة ، ثم ذكر ( منها خلوه من الحشو والتطويل ، ومنها سلامته من القصص والإسرائيليات(1)، ومنها اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم ، ومنها عنايته بعلمي المعاني والبيان والنكات البلاغية تحقيقا لوجوه الإعجاز ، ومنها سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب كثيرا ..)(2)
وقد فصل هذا المعنى حاجي خليفة في " كشف الظنون " مقررا أن ما تميز بن الزمخشري هو توفره على القدر الزائد على التفسير ، من استخراج محاسن النكت والفقر ، ولطائف المعاني التي تستعمل فيها الفكر ، وبيان ما في القرءان من الأساليب لا يتهيأ إلا لمن برع في هذين العلمين ، لأن لكل نوع أصولا وقواعد ، ولا يدرك فن بقواعد فن آخر ، والفقيه والمتكلم بمعزل عن أسرار البلاغة ، وكذا النحوي واللغوي ، وقد كان الصحابة يعرفون هذا المغزى بالسليقة ، فكانوا يعرفون بالطبع وجوه بلاغته ، كما كانوا يعرفون وجوه إعرابه ، ولم يحتاجوا إلى بيان النوعين في ذلك ، لأنه لم يكن يجهلهما أحد من أصحابه ، فلما ذهب أرباب السليقة ، وضع لكل من القواعد والبلاغة قواعد يدرك بها ما أدركه الأولون بالطبع ، فكان حكم علم البيان والمعاني كحكم النحو .
__________
(1) . قد تقدم في الباب الثاني من هذا البحث أننا لا نوافق من حكم بسلامة تفسير الكشاف من القصص الباطلة والإسرائيليات .
(2) . عبد العظيم الزرقاني ، مناهل العرفان في علوم القرءان : 2/70(1/3)
ولما كان كتاب الكشاف هو الكافل في هذا الفن ، اشتهر في الآفاق ، واعتنى الأئمة المحققون بالكتابة عليه ، فمن مميز لاعتزال حاد فيه عن صوب الصواب ، ، ومن مناقش له فيما أتى به من وجوه الاعراب ، ومن محشَ وضَح ونقح ، واستشكل وأجاب ، ومن مخرج لأحاديثه ، عزا وأسند وصحح وانتقد ، ومن مختصر لخص وأوجز .)(1)
كما ينبغي أن لا نغفل سببا آخر من أسباب رواج كشاف الزمخشري ، وهو اختفاء تفاسير المعتزلة على كثرتها ، فلم يبق بين أيدينا تفسير كامل للقرآن ينسب لإمام من أئمة هذه الفرقة التي كان لها أثر واضح وبارز في تاريخ الفكر الإسلامي ، حتى صار دارس الفكر الاعتزالي لا يكاد يجد بين يديه في مجال التفسير كتاب شامل لتفسير كل آي القرءان سوى هذا الكتاب ، ليطلع من خلاله على آراء المعتزلة ، فيتعين عليه الرجوع إليه ليعرف آراءهم من مصادرهم .
__________
(1) . حاجي خليفة ، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 2/1477(1/4)
وثمة عامل آخر بالغ الأهمية في أسباب شهرة كشاف الزمخشري وانتشاره ، وقد سكت عنه أغلب الدارسين ، وهو الصلة التاريخية والفكرية بين المعتزلة والشيعة أولا(1)، وصلة الزمخشري بالشيعة الزيدية عند مجاورته بمكة ثانيا(2)، حيث كان لهم دور بارز في خدمة هذا التفسير والترويج له بعدئذ ، ذلك أن مذهب الزيدية الكلامي هو الاعتزال ، ولا يختلف الزيدية عن المعتزلة في الأصول إلا في مسألة الإمامة(3)ـ وهي مسألة فقهية ـ وقد توثقت هذه الصلة بين الزمخشري وفكر الشيعة الزيدية عن طريق شيخه المفسر الحاكم الجشمي الذي كان يؤكد على هذه الصلة القديمة بين المعتزلة والزيدية ، قال الحاكم : ( ومن أصحابنا البغدادية من يقول " نحن الزيدية " لأنهم كانوا مع أئمة الزيدية والمبايعين لهم والمجاهدين تحت رايتهم ، ولاختلاطهم قديما وحديثا ، ولاتفاقهم في المذهب )(4)وقد ارتقى أيضا بسند المعتزلة من شيوخه حتى انتهى به إلى علي بن أبي طالب وقال : ( لا شبهة أن المعتزلة هم الشيعة لاتباعهم أمير المؤمنين وأهل بيته في كل عصر وحين ، واتفاقهم في مذاهبهم . )(5)
__________
(1) . انظر الفصل الأول من الباب الأول من هذا البحث .
(2) . وهو ما نبه عليه أبو حيان نفسه في تفسير قوله تعالى : " .. قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " سورة البقرة : 23 . حيث استطرد الزمخشري للنيل من خلفاء بني أمية والانتصار لبعض أئمة الزيدية ، فنقل أبو حيان كلامه ثم علق عليه بقوله : ( وإنما ذكره الزمخشري لأنه كان بمكة مجاورا للزيدية ومصاحبا لهم ، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم .. ) البحر المحيط : 1/378
(3) . الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير : 84 . نقلا عن شرح العيون مخ . ورقة 1/23 .
(4) . الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرءان ، نقلا عن شرح العيون ، ورقة 1/50
(5) ..المصدر نفسه :1/50(1/5)
وخير دليل على صحة كلامنا هذا هو كون أغلب الأسماء التي ارتبطت بالتصنيف حول تفسير الزمخشري هي أسماء تعود إلى بعض فرق الشيعة من أهل المشرق ، وهو ما نفهمه من مقالة السبكي ( .. هذا الكتاب الذي اتخذت الأعاجم من دراسته في هذا الزمان ديدنها ..)(1)
ونظرا لهذه الأسباب وغيرها فإننا إذا أردنا أن نتتبع أثر كتاب الكشاف في الحركة العلمية ، فإننا نجده كالشجرة التي امتدت أغصانها الباسقة في الفضاء ، ثم لا زالت تورق وتثمر كل حين ، وهكذا تفرقت مادته العلمية في كتب النحو ، واللغة والبلاغة ، والأدب ، والتفسير ، حتى ليصعب على الدارس أن يحصر حجم هذا الأثر الذي تركه هذا التفسير فيما بين أيدينا من تراث فكري ، وحسبنا أن نلم ببعض هذا الأثر فيما له صلة ببحثنا ، والمتعلق بحركة التفسير وعلوم القرآن ، وسنرصد هذا التأثير من خلال العناصر الآتية :
1 ـ الاقتباس منه :
كان أغلب من كتب في علوم القرآن عالة على تفسير الكشاف فيما تعلق بالمباحث النحوية والبلاغية ، ويأتي في مقدمتهم برهان الدين الزركشي في كتابه " البرهان في علوم القرآن " حيث رجع إلى هذا التفسير فيما يزيد عن مائتي موضع ، وإن كان تارة يوافقه وتارة أخرى يخالفه(2)، فأفاد منه إفادة واسعة فيما يتعلق بالجوانب اللغوية والبلاغية في القرآن الكريم .
ورجع إليه السيوطي في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " في مواضع كثيرة ، يضيق المقام بذكرها(3)، وفعل مثل ذلك في كتابه " معترك الأقران في إعجاز القرءان " فكان تارة يقتبس منه بالمعنى ، وتارة أخرى يقتبس كلامه بحرفيته مع عزو الكلام إلى الزمخشري .
__________
(1) . منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : 267 نقلا عن كتاب معيد النعم ومبيد النقم للسبكي : 114
(2) . انظر البرهان في علوم القرءان ، فهرس الأعلام : 4/467
(3) . انظر الإتقان في علوم القرءان : 1/152 . 1/158 . 1/175 . 1/176 . 1/177(1/6)
وهكذا فإننا إذا تتبعنا الكتابات المتعلقة بإعجاز القرءان الكريم ، فإننا لا نكاد نظفر بدراسة أغفلت جهود الزمخشري وإبداعاته في هذا الجانب ، حتى ذهب بعضهم إلى أن كل من كتب في إعجاز القرءان بعد الزمخشري كان عالة على كشافه(1).
وهذا الإمام يحيى بن حمزة العلوي اليمني ( ت:749هـ ) صاحب كتاب " الطراز " يقرر في مقدمة كتابه أن الباعث على وضع هذا المصنف ، هو أن جماعة من الإخوان شرعوا علي في قراءة كتاب " الكشاف " ـ تفسير الشيخ المحقق أستاذ المفسرين محمود بن عمر الزمخشري ـ فإنه أسسه على قواعد هذا العلم ، فاتضح عند ذلك وجه الإعجاز من التنزيل ، وعرف من أجله وجه التفرقة بين المستقيم والمعوج من التأويل ، وتحققوا أنه لا سبيل إلى الاطلاع على حقائق إعجاز القرءان إلا بإدراكه والوقوف على أسراره وأغواره ، ومن أجل هذا الوجه كان متميزا عن سائر التفاسير ، لأني لم أعلم تفسيرا مؤسسا على علمي المعاني والبيان سواه ، فسألني بعضهم أن أملي فيه كتابا يشتمل على التهذيب والتحقيق يرجع إلى المعاني ، إذ لا مندوحة لأحدهما عن الثاني .)(2)
2 ـ اختصاره :
وعلى الرغم من كون تفسير الكشاف في غاية الإيجاز والاختصار ، فإنه قد استهوى بأسلوبه وبلاغته أكثر الدارسين ، فعمل على اختصاره خلق لا يحصى عددهم ، نذكر منهم :
ـ الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت : 561هـ) الذي عنى بالبلاغة القرآنية ودراسة إعجاز القرآن والكشف عن وجوهه عناية بالغة ، تلفت نظر المختصين بالدرس البلاغي وقضية الإعجاز خاصة في تفسيره " جوامع الجوامع " الذي خصصه لهذا الموضوع .
__________
(1) . انظر مثلا : شوقي ضيف ، البلاغة تطور وتاريخ ، ص : 52
(2) . انظر : منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : 278 . نقلا عن الطراز ، ليحيى بن حمزة العلوي : 1/5(1/7)
والأمر الملفت للنظر أن " جوامع الجوامع " قد ألفه بعد اطلاعه على كشاف الزمخشري ، إذ أشار المؤلف إلى ذلك في مقدمة جوامعه ، ونوه بتأثره بأسلوب الزمخشري ، وبآرائه المتنوعة في المباحث البلاغية ، والتي هي امتداد لآراء عبد القاهر الجرجاني التي ضمنها كتابه دلائل الإعجاز . وهذا الإعتراف من الطبرسي يدل على أمانته العلمية وتواضعه وإخلاصه.
( لقد أفاد المؤلف من كشاف الزمخشري خير إفادة في عرض الصور الجمالية والبيانية التي اختص بها كتاب الله المجيد ، لذا فإن " جوامع الجوامع " عيال على تفسير الزمخشري ، وأنه في الحقيقة جاء مختصرا وبشكل إجمالي من غير تفصيل ، على خلاف الكشاف الذي جاء مفصلا .)(1)
ـ الشيخ محمد بن علي الأنصاري ( ت : 662هـ ) قام باختصاره ، وتركزت جهوده في تخليصه مما جاء فيه من اعتزال ، أو تعسف في توجيه نصوص الآيات ، أو ما جاء فيه من كلام شبيه بالخطابة ، ولا يخدم تفسير النص بما تدعو إليه حاجة طالب العلم(2).
ـ أحمد بن صالح بن محمد بن صالح ، المعروف بابن أبي الرجال ، عالم زيدي ، مشارك في التاريخ والتفسير والأصول والنحو والمعاني والبيان ، من أهل صنعاء مولدا ووفاة ، قال في البدر الطالع : وارتفعت درجته عند الإمام ، وكان يجالسه ويحادثه ورفع درجته حتى كان تارة بدرجة الوزير ، وقد كتب حاشية على الكشاف ، اختصره وبسطه وقرب معانيه . وقد توفي سنة 1092هـ(3).
__________
(1) . مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ، العدد السادس ، السنة : 1999 . مقال : الإتجاه اللغوي في تفسيرالقرءان ،
د. سامي الكناني ص: 53
(2) . انظر : منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : 276
(3) . محمد بن عبد الرحمن السخاوي ، الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع ، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت : ج1/61(1/8)
ـ أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الحمن الكردي ، ثم المصري ، أبو زرعة ، ولي الدين ، ابن الحافظ العراقي المشهور ، قاضي الديار المصرية ، وهو فقيه شافعي أصولي ، عارف بالتفسير والحديث والأدب ، وعالم زمانه ، ترجم له السخاوي ترجمة مطولة ، وأثنى عليه ، من آثاره " حاشية على الكشاف للزمخشري " قال صاحب كشف الظنون : في مجلدين ، لخص فيها كلام ابن المنير وعلم الدين العراقي وأبي حيان ، وأجوبة السمين الحلبي والصفاقسي ، مع زيادة تخريج أحاديثه ، توفي سنة : 826هـ(1).
ـ أحمد بن محمد بن محمد الخجندي ، جلال الدين ، أبو الطاهر ، محدث ، مفسر ، من فقهاء الحنفية ، من أهل خجندة ـ مدينة كبيرة بخراسان ـ رحل في طلب العلم ، ثم استقر بالمدينة المنورة يدرس ويفتي ويصنف إلى أن مات سنة :802هـ ودفن مع شهداء أحد ، من مصنفاته حاشية على الكشاف(2).
ـ ومنهم قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي ، لخصه وسماه " تقريب التفسير ، أتمه سنة :698هـ ببلدة شيراز ، أزال اعتزاله وبعض إطنابه ، فهذب ونقح وضم إلى مواضع الانغلاق حلا وبيانا ، وهو كتاب صغير الحج وجيز النظم ، مشتمل على محض الأهم من الكشاف مع زيادات شريفة . وعليه حاشية لطيفة مفيدة مسماة بتوضيح مشكلات التقريب لعلي بن عمر الأرزنجاني(3).
__________
(1) . الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع : 1/336
(2) . المصدر نفسه : 2/194
(3) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 2/1481 . وانظر البدر الطالع ، للشوكاني : 2/299(1/9)
ـ ولعل خير اختصار لتفسير الكشاف هو " كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل " للقاضي العلامة ناصر الدين ، عبد الله بن عمر بن محمد بن علي ، البيضاوي ، وهو قاض ، مفسر ، أصولي ، من أعيان الشافعية ( ت :692هـ ) فقد لخصه وأجاد ، وأزال عنه الاعتزال كما أضاف عليه فوائد جليلة ، واستنباطات دقيقة ، قال صاحب كشف الظنون : وتفسيره هذا كتاب عظيم الشأن ، غني عن البيان ، لخص فيه من الكشاف ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان .. وضم إليه ما وري زناد فكره من الوجوه المعقولة والتصرفات المقبولة ، فجلا رين الشك عن السريرة ، وزاد في العلم بسطة وبصيرة(1).
3 ـ نقده وتخليصه من اعتزالاته :
لقد كان الزمخشري مجاهرا باعتزاله في كتابه الكشاف ، وصرح في مقدمته أنه وضعه برغبة وإلحاح من علماء الفرقة الناجية ـ علماء العدل والتوحيد ـ فلا جرم بعدئذ أن يلقى هذا التفسير أكثر من معارض وناقد ، ولكن القارئ سرعان ما يلاحظ أن جل الانتقادات الموجهة له تكاد تنحصر فيما أظهره هذا المفسر من تعسف وتعصب في نصرة مذهبه ، وتحكيمه في معاني آيات القرآن الكريم ، وكل من انتقده في هذا الجانب ، قرن هذا النقد بالثناء عليه في الجوانب الأخرى التي أبدع وأجاد فيها .
__________
(1) . انظر الداودي ، طبقات المفسرين : 1/142(1/10)
من ذلك مثلا مقولة ابن خلدون في مقدمته : ( .. ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن ـ علوم اللسان ـ من التفاسير كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق ، إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد ، فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة ، حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة ، فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه ، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة ، وإذا كان الناظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السنية ، محسنا للحجاج عنها فلا جرم أنه مأمون من غوائله ، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان .)(1)
ـ وهذا ابن تيمية بالرغم من شدته على المخالفين يقر له بمحاسن تفسيره الكشاف ، لولا فساد مذهبه الذي صبغ به تفسيره ، فقال في معرض حديثه عن التفاسير المذهبية : ( فما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة ، وذلك من جهتين ، تارة من العلم بفساد قولهم ، وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرءان ، إما دليلا على قولهم ، أو جوابا على المعارض لهم ، ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة ، ويدس البدع في كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون ، كصاحب الكشاف ونحوه ، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله . )(2)
__________
(1) . المقدمة : 349
(2) . مقدمة في أصول التفسير : 22(1/11)
ـ ونجد تاج الدين السبكي ينبري لتفسير الكشاف بالنقد ، فإذا به يصدر كلامه بالمدح والإطراء ، مقررا أنه كتاب فريد في بابه ، ولكنه يجب تجريده مما فيه من ميول مذهبيه ليصلح الانتفاع به ، فيقول : ( اعلم أن الكشاف كتاب عظيم في بابه ، ومصنفه إمام في فنه ، إلا أنه رجل مبتدع ، مجاهر ببدعته ، يضع من قدر النبوة كثيرا ، ويسيء أدبه مع أهل السنة والجماعة ، والواجب كشط ما في كتابه الكشاف من ذلك كله ، ولقد كان الشيخ الإمام يقرئه ، فلما انتهى إلى كلامه في قوله تعالى في سورة التكوير : " إنه لقول رسول كريم .." الآية ، أعرض عنه صفحا ، وكتب ورقة حسنة سماها " الانكفاف عن إقراء الكشاف " وقال فيها : رأيت كلامه على قوله تعالى : " عفا الله عنك "وكلامه في سورة التحريم والزلزلة ، وغير ذلك من الأماكن التي أساء أدبه فيها على خير خلق الله تعالى سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعرضت عن إقراء كتابه حياء من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ما في كتابه من الفوائد والنكت البديعة .)(1)
ثم قال تاج الدين السبكي معلقا على كلام والده : ( فانظر كلام الشيخ الإمام الذي برز في جميع العلوم ، وأجمع الموافق والمخالف على أنه بحر البحار منقولا ومعقولا في حق هذا الكتاب الذي اتخذت الأعاجم دراسته في هذا الزمان ديدنها ، والقول عندنا فيه أنه لا يسمح بالنظر فيه إلا لمن صار على منهاج أهل السنة ، لا تزحزحه شبهات القدرية .)(2)
فهذا القول للسبكي في الحقيقة بقدر ما يكشف عن حجم المزالق التي تدحرج فيها الزمخشري ، يكشف من جهة أخرى عن حسناته في هذا الكتاب ، حيث نراه لا يعفي أحدا من قراءته إذا أمن على نفسه السقوط في حبال القدرية .
__________
(1) . منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : 267، نقلا عن معيد النعم ومبيد النقم ، لتاج الدين السبكي : 114
(2) . المصدر نفسه : 114(1/12)
وقد انتقد تفسير الكشاف الشيخ حيدر(1)في حاشية لم يتمها ، وقدم لذلك بمقدمة تكلم فيها عن محاسن هذا التفسير ومساوئه ، ومما جاء فيها : ( .. وبعد ، فإن كتاب الكشاف كتاب علي القدر ، رفيع الشأن ، لم ير مثله في تصانيف الأولين ، ولم ير مثله في تآليف الآخرين ، اتفقت على متانة تراكيبه الرشيقة كلمة المهرة المتقنين ، واجتمعت على رصانة أساليبه الأنيقة ألسنة الكملة المفلقين ، ما قصر في تنقيح قوانين التفسير ، وتهذيب براهينه ، وتمهيد قواعده ، وتشييد معاقده ، وكل كتاب بعده في التفسير ولو فرض أنه لا يخلو من النقير والقطمير ، إذا قيس به لا تكون له تلك الطلاوة ، ولا تجد فيه شيئا من تلك الحلاوة ، على أن مؤلفه يقتفى أثره ، ويسأل خبره ، وقلما غير تركيبا من تراكيبه إلا وقع في الخطإ والخطل ، وسقط في مزالق الخبط والزلل ، ومع ذلك كله إذا فتشت عن حقيقة الخبر فلا عين منه ولا أثر ، ولذلك قد تداولته أيدي النظار ، فاشتهر في الأقطار كالشمس وسط النهار ، إلا أنه لإخطائه طريق الأدب ، وإغفاله للإجمال في الطلب ، أدركته حرفة الأدب ، ولفرط تصلبه في باطل الاعتزال ، وإخلاله بإجلال أرباب الكمال ، أصابته عين الكمال ، فالتزم في كتابه أمورا أدهشت رونقه وماءه ، وأبطلت منظره ورواءه ، فتكدرت مشاربه الصافية ، وتضيقت موارده الضافية ، وتنزلت رتبته العالية .
__________
(1) .هو حيدر بن محمد الحوفي ، الهروي ، مفسر ، متكلم ، عالم بالعربية والمعاني والبيان ، توفي بعد سنة : 820هـ ابن العماد : شذرات الذهب : 7/145(1/13)
منها أنه كلما شرع في تفسير آية من الآي القرآنية مضمونها لا يساعد هواه ، ومدلولها لا يطاوع مشتهاه ، صرفها عن ظاهرها بتكلفات باردة ، وتعسفات جامدة ، وصرف الآية بلا نكتة من غير ضرورة عن الظاهر تحريف لكلام الله سبحانه وتعالى ، وليته يكتفي بقدر الضرورة ، بل يبالغ في الإطناب والتكثير لئلا يوهم بالعجز والتقصير ، فتراه مشحونا بالاعتزالات الظاهرة التي تتبادر إلى الأفهام ، والخفية التي لا يتسارع إليها الأوهام ، بل لا يهتدي إلى حبائله إلا وارد بعد وارد من الاذكياء الحذاق ، ولا يتنبه لمكايده إلا واحد من فضلاء الآفاق ، ، وهذه آفة عظيمة ، ومصيبة جسيمة .
ومنها أنه يطعن في أولياء الله المرتضين من عباده ، ويغفل عن هذا الصنع لفرط عناده ، ونعم ما قال الرازي في تفسير قوله تعالى " يحبهم ويحبونه .." (خاض صاحب الكشاف في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى ، وكتب منها ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش ، فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى ، فكيف اجتراؤه على كتبه ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله المجيد ..)(1)
ومنها أنه مع تبحره في جميع العلوم على الإطلاق موصوف بلطائف المحاورة ونفائس المحاضرة أورد فيها أبياتا كثيرة ، وأمثالا غزيرة بنيت على الهزل والفكاهة أساسهما ، وأوقدت على المزاح البارد نبراسهما ، وهذا أمر من الشرع والعقل بعيد ، سيما عند أهل العدل والتوحيد .
ومنها أنه يذكر أهل السنة والجماعة ـ وهم الفرقة الناجية ـ بعبارات فاحشة فتارة يعبر عنهم بالمجبرة ، وتارة ينسبهم على سبيل التعريض إلى الكفر والإلحاد ، وهذه وظيفة السفهاء الشطار ، لا طريقة العلماء الأبرار .)(2)
أما الذين انتقدوه على وجه التفصيل ، ووضعوا في ذلك مصنفات ، فنذكر منهم :
__________
(1) . الفخر الرازي ، مفاتيح الغيب ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ج12/17
(2) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 2/1482(1/14)
ـ الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد ، ابن المنير الاسكندري ، المالكي ، في كتابه " الانتصاف من الكشاف " بين فيه ما تضمنه من الاعتزال ، وناقشه في أعاريب وأجاد فيها ، وهذا الكتاب مطبوع على حاشية الكشاف لأهميته ومكانته .
ـ وتلاه الإمام علم الدين بن عبد الكريم العراقي في كتابه " الإنصاف في مسائل الخلاف بين ابن المنير والزمخشري " جعله حكما بين الكشاف والانتصاف ، وذلك أنه لما رأى بأن انتقادات ابن المنير لا تخلو من تحامل في بعض الأحيان ، حاول أن يدفع عن الزمخشري ويبين مواطن الزلل في قصد واعتدال ، توفي سنة: 704هـ(1).
ـ ولخصهما جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام في مختصر لطيف مع زيادة يسيرة ، وتوفي سنة : 762هـ(2). قال المصنف : اختصرت فيه الانتصاف من الكشاف ، وحذفت منه ما وقعت الإطالة به من نقل كلام الزمخشري على وجهه من غير كلام عليه إعجابا به ، واستحسانا له ، وما قابل به الزمخشري في سبه أهل السنة بمثلها مقتصرا على العقيدة الصحيحة ، وما يتعلق بالآية منها من دليل وحمل على تأويل ، فلم أدع شيئا من معاني الكتاب المذكور ، فما وافق منه الصواب أبقيته بحاله ، وما خالف ذلك بينت وجه ضعفه ، وإخلاله(3).
ـ وصنف أبو علي ، عمر بن محمد بن حمد بن خليل السكوني ( ت : 717هـ ) كتاب " التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزالات في تفسير الكتاب العزيز " ، وقد تكلم فيه في الإمام فخر الدين الرازي وغيره بما لا يعاب به عالم(4).
__________
(1) . الدرر الكامنة : 3/13 . وطبقات الشافعية للسبكي : 6/126
(2) ، هو عبد الله بن يوسف بن احمد بن عبد الله بن هشام ، جمال الدين ، النحوي المشهور . انظر بغية الوعاة : 2/68
(3) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون:2/1477
(4) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 1482(1/15)
ـ ووضع العلامة شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي على الكشاف حاشية مطولة أيضا ، قال صاحب كشف الظنون : وهي أجل حواشيه ، في ست مجلدات ضخمات ، قال : رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبيل الشروع أنه ناولني قدحا من اللبن ، وأشار إلي فأصبت منه ، ثم ناولته عليه الصلاة والسلام ، فأصاب منه ، أقول سماها " فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب "(1)، وتوفي سنة :743هـ.
ـ ومنها حاشية العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ، قال في كشف الظنون : وهي ملخصة من حاشية الطيبي ، مع زيادة تعقيد في العبارة ولم يتمها ، وصل فيها إلى سورة الفتح ، وفرغ منها سنة : 789هـ ، وتوفي سنة:792هـ(2).
وعن قيمة حاشية السعد العلمية قال : ( وأما شرح المحقق النحرير ـ أي السعد ـ فماله من نظير ، لاشتماله على التحقيق والتدقيق ، ولطائف التوفيق والتلفيق ، لكنه فوت الفرصة واشتغل به في آخر عمره ، فأتاه بريد الأجل قبل الفراغ من العمل ، وقد تحققت منه أن هذا الكتاب على تعاقب الشهور والأعوام مهرة لم تركب ، ودرة لم تثقب . )(3)
كما يعتبر تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي من أوسع المراجع التي تضمنت الرد على اعتزالات الزمخشري في كشافه ، حيث كان يفيض في عرض آراء المعتزلة بصفة عامة وأدلتهم ، وما بذله الزمخشري في ذلك من جهد للتوفيق بين نصوص القرءان وأصول مذهبه ، ثم يكر على ذلك مبينا فساده .
4 ـ شروحه :
وعليه شروح كثيرة كانت في أغلبها في بسط الوجوه البلاغية وإسناد المرويات ، ونسبة الشواهد الشعرية لأصحابها ، وكانت هذه الشروح لا تخلو من انتقادات ، بقيت محل نزاع بين أنصار الزمخشري وخصومه ، مما أحدث حركة واسعة في التأليف فيما سمي بالمحاكمات .
__________
(1) . ابن خلدون ، المقدمة : 349
(2) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 2/1477
(3) . المصدر نفسه : 2/1477(1/16)
منها اعتراضات أوردها جمال الدين محمد بن محمد الاقسرائي(1)وقد كان ملما بعلوم العربية والعلوم الشرعية ، وصاحب مصنفات منها : شرح الإيضاح في المعاني والبيان للقزويني ، وقد توفي سنة : 771هـ(2). وعليه محاكمات لعبد الكريم بن عبد الجبار ذكر فيها أن شرح الكشاف للعلامة قطب الدين الرازي كتاب جليل الشأن ، لكن جمال الدين الاقسرائي اعترض عليه اعتراضات ، فكتبت الأجوبة وسميتها بالمحاكمات . وأجاب عن المحاكمات ابن سماونة ، ذكره عرب زادة(3)في حاشية الشقائق . أما شرح الطيبي فلم يأل جهدا في إيراد مباديه المنتشرة من تبيين وجوه القراءات ، وتصحيح الأحاديث والروايات ، وتحقيق لغاته ، وتدقيق نكاته ، وبذل جهده في تقرير مسائله ، ومع ذلك ففيه شيئان ، أحدهما ليس من الأفعال الاختيارية وهو أن هذا الكتاب كتاب متين وحصن حصين ، لا يكمل علمه بمجرد العثور على العلوم الظاهرة بل له شرائط ، بعضها ما ذكره مؤلفه ـ يقصد الزمخشري ـ وثانيهما أنه كان مولعا بكثرة إيراد النكات البيانية ، فصار شرحه كبير الحجم في غير المقصود ، واختلاط الموجود بالمفقود .
__________
(1) . نسبة إلى " آق سراي " من بلاد الروم ، ومعناه القصر الأبيض . انظر رضا كحالة ، معجم المؤلفين :3/627
(2) . البغدادي ، إيضاح المكنون ، استانبول ، 1947م ، ج2/433
(3) . هو محمد بن محمد الشهير بعرب زاده ، مفسر فقيه بياني ، درس في القسطنطينية ، وعين قاضيا بالقاهرة ، مات في البحر غرقا في بعض أسفاره ، له حواش في التفسير منها حاشية على البيضاوي ، توفي سنة : 969هـ . معجم المؤلفين : 3/657(1/17)
قال في كشف الظنون : ( وأما شرح الفاضل الجيلوهي(1)على أنه واف بمقاصده ، فإن فيه ثلاثة أشياء ، أحدها أنه لم يشرحه مرتبا كما يكون حال الشروح مع المتون ، وثانيها قد بذل جهدا فيما يتعلق بالرواية وقوانينها ، لكنه كثيرا ما يزلق في المضايق ، ويدحض في التعقلات ، ولا أدري أهو لقصور استعداده الفطري ، أم لعدم تمرنه في المعقولات ، وثالثها ، أنه بالغ في اختصار عبارته والاقتصار على إشارته ، فخرج من حيز الانتفاع إلى حد الألغاز ، والإخلال ، فلا يحصل بمطالعته سوى التخيل الفاسد مع تعب الكلال . )(2)
وشرحه محمد بن أحمد بن عيسى المغربي ( ت : 1005هـ ) وهو فقيه مالكي ، مفسر ، صاحب تصانيف ، في كتاب " غاية الإتحاف فيما خفي من كلام القاضي والكشاف "(3).
وممن شرحه أيضا العلامة عماد الدين يحيى بن قاسم العلوي ، المعروف بالفاضل اليمني ، كتب حاشية في مجلدين سماها " درر الأصداف في حل غوامض الكشاف " فرغ من تأليفها سنة :738هـ ، وتوفي سنة : 750هـ ، وله حاشية أخرى سماها " تحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف " ألفها بعد فراغه من كتابة حاشيته " درر الأصداف .." ذكر فيها أنه لما وقف على حاشية الطيبي وجد مذكورا فيها ما ذكره صاحب الانتصاف والإنصاف وغيرهما ، فأراد أن يجمع بين حاشية الطيبي ودرر الأصداف ، وسماها " تحفة الأشراف .."(4)
وشرح خطبة تفسير الكشاف مجد الدين الفيروزابادي ( ت : 816هـ ) وسماه " قطبة الخشاف لحل خطبة الكشاف " ، ثم كتب شرحا آخر وسماه " نغبة الرشاف من خطبة الكشاف " ، وتوجد منهما نسخة بدار الكتب المصرية(5)، وغيره كثير ذكرهم صاحب كشف الظنون(6).
__________
(1) . لم أقف له على ترجمة .
(2) . كشف الظنون 2/1481
(3) . عادل نويهض ، معجم المفسرين : 2/485
(4) . كشف الظنون : 2/1480
(5) . الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع : 10/79 . وانظر : بغية الوعاة : 1/274
(6) . انظر كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 2/1479 ـ 1482(1/18)
5 ـ تخريج شواهده الحديثية والنحوية :
ولما كان كتاب الكشاف قد اشتمل على عدد وفير من الأحاديث والآثار المرفوعة والموقوفة ، إلى جانب الشواهد الشعرية في اللغة والنحو والبلاغة ، فإن هذا قد حمل بعضا من رجال الحديث واللغة والنحو والبيان على خدمته من هذه الجوانب ، ونذكر منهم :
ـ الإمام المحدث جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي ، الحنفي ، المتوفي سنة :762هـ الذي وضع كتابا في تخريج مروياته وسماه : تخريج أحاديث الكشاف ، وقد اعتمده ابن حجر فيما بعد وزاد عليه(1).
ـ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي ، ابن حجر العسقلاني ، الحافظ ، المتوفي سنة :852هـ في كتاب سماه " الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " في مجلد ، واستدرك عليه في مجلد آخر ، استوعب ما فيه من الأحاديث المرفوعة ، فأكثر من تبيين طرقها ، وتسمية مخرجيها على نمط ما في أحاديث الهداية ، لكنه فاته كثير من الأحاديث المرفوعة التي يذكرها الزمخشري بطريق الإشارة ، ولم يتعرض غالبا لشيء من الآثار الموقوفة . وهو مطبوع على هامش الكشاف(2).
وشرح غير واحد أبيات الكشاف ، وقد ذكر بعضهم صاحب كشف الظنون فقال :
( وشرح أبيات الكشاف لبعض الأفاضل مختصر ، ذكر فيه أن بعض إخوانه أشار إليه بعد أن شرح أبيات المفصل ، أن يشرح أبيات الكشاف ، فأجاب ، وهي زهاء ألف بيت أكثرها منثور المقاطع خافية معانيها على أكثر الأدباء حتى الفحول . )(3)
وشرح شواهد الكشاف في مجلدات لخضر بن محمد الموصلي ، نزيل مكة المكرمة(4)،
__________
(1) . الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة : 2/310
(2) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 2/1482
(3) . المصدر نفسه : 2/1482
(4) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 2/1482(1/19)
كما شرح الشواهد الشعرية لتفسير الكشاف محمد عليان المرزوقي الشافعي ، المصري ( ت : 1355هـ )(1)في كتاب سماه " مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف " ، وهو مطبوع على هامش الكشاف .
6 ـ الجمع بينه وبين غيره من كتب التفسير :
وقد قام غير واحد من المفسرين بالجمع بين الكشاف وغيره من كتب التفسير بالرأي بصفة خاصة ، ونذكر منهم :
ـ أبو حيان الأندلسي الذي أقام كتابه " البحر المحيط " على ثلاثة كتب في التفسير كان يراها من أحسن ما كتب في هذا العلم ، وهي كتاب " المحرر الوجيز " لابن عطية الأندلسي ، والكشاف للزمخشري ، والتحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير لابن النقيب المقدسي(2).
ـ ومنهم الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري ، توفي سنة: 606هـ وهو محدث لغوي ، مفسر له كتاب " الإنصاف في الجمع بين الثعلبي والكشاف " وهو تفسير كبير جمع فيه بين تفسير الكشف والبيان للثعلبي والكشاف(3).
__________
(1) . معجم المفسرين : 2/594
(2) . البحر المحيط : 1/10 ـ 11
(3) . ابن كثير ، البداية والنهاية : 13/54(1/20)
ـ ومنهم الإمام بدر الدين محمد المقري الحلبي ، المعروف بالقاذفي المتوفي سنة :705هـ الذي صنف " مختصر الراشف من زلال الكاشف من التفاسير " اختصره من الكشاف ، مع المحاكمات من فوائد أبي العباس أحمد المهدوي(1)، ومن كتاب أبي الليث السمرقندي(2)، ومن الكشف والبيان للثعلبي(3).
ولأبي السعود العمادي المتوفي سنة : 982هـ تفسير " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم " ويعرف بتفسير أبي السعود ، جمع فيه بين درر الكشاف وغرر أنوار التنزيل ، وأضاف إلى ذلك ما التقطه من بعض التفسير الأخرى ، وهو تفسير مطبوع ومشهور .
وهكذا فإننا إذا ذهبنا نحصي من خدم هذا التفسير شرحا أو تلخيصا ، أو تهذيبا ، أو تخريجا لمروياته ، أو نقدا وتمحيصا لما جاء فيه ، فإن الحديث يطول ، ويمكن أن يكون بحثا مستقلا حول أثر الزمخشري في حركة التفسير والمفسرين ، غير أن سر هذا الانتشار والتأثير لا ينحصر فيما ضمنه صاحبه من خالص علم التفسير ، بل ترجع إلى أسباب مختلفة بسطناها من قبل .
المبحث الثاني
أثر أبي حيان في حركة التفسير
__________
(1) . هو أحمد بن عمار بن أبي العباس ، المهدوي ، مقرئ كبير ، مفسر نحوي ، من أهل تونس ، له كتاب " التفصيل الجامع لعلوم التنزيل " في التفسير ، توفي سنة : 440هـ . انظر : الداودي ، طبقات المفسرين : 1/56
(2) . هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي ، أبو الليث ، الملقب بإمام الهدى ، محدث مفسر ، صوفي ، من أئمة الحنفية ، له تفسر القرءان ، قال حاجي خليفة : وهو كتاب مشهور ، لطيف مفيد ، انظر طبقات الداودي : 2/345 ، وكشف الظنون : 441.
(3) . منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : 273(1/21)
لقد كان لتفسير البحر المحيط لأبي حيان أثر واضح فيمن جاء بعده وكتب حول تفسير الكشاف للزمخشري ، ويستطيع الباحث في حركة التفسير أن يلحظ بوضوح ذلك التحول الذي أحدثه أبو حيان بهذا المصنف في التفسير ، حيث نجد من كان قبله يقتصرون في نقد الزمخشري على تتبع اعتزالاته والتنبيه عليها في مواضعها من " الكشاف " ، وتوجيه شيء من العتاب لشخص الزمخشري على بعض مما جاء في كتابه الكشاف من تهجم وسخرية من أهل السنة ، وقسوة على بعض مخالفيه ، وبالمقابل فإنهم يفيضون في الثناء عليه وتمجيده لسبقه في تطبيق نظرية النظم البلاغي في التفسير ، والكشف من خلالها عن مواضع الإعجاز البياني في القرءان الكريم ، حتى جاء أبو حيان الأندلسي ، وقام بدراسة نقدية شاملة امتدت إلى مختلف الجوانب العلمية في هذا التفسير ، كما أن أبا حيان لم يغفل ذكر محاسن هذا الكتاب ، وجوانب التفوق والتفرد فيه ، بل كان منصفا لصاحبه في الغالب الأعم ، ولم يكن تحامله عليه بأكثر من دفاعه عنه ، بل لم يمنعه تحامله عليه أن يكون كثير التنويه بمواضع التوفيق والإجادة في المواطن التي كان فيها الزمخشري جديرا بذلك .
ولما كان تفسير البحر المحيط قد تميز من جهة أخرى بمباحثه الفياضة في اللغة والنحو والقراءات وغيرها ، فإن هذا كله قد ترك أثرا بارزا فيمن جاء بعده ، فأثار نشاطا علميا ملحوظا ، بالرغم من الإسهاب الذي غلب عليه في أغلب مباحثه ، وأتعب الدارسين في الإفادة منه ، وقد أحس أبو حيان نفسه بهذا ، مما حمله على تهذيبه واختصاره ، وفي ذلك يقول : (..فإني لما صنفت كتابي الكبير المسمى بالبحر المحيط في علم التفسير ، عجز عن قطعه ـ لطوله ـ السابح ، وتفلت له عن اقتناصه البارح منه والسانح ، فأجريت منه نهرا تجري عيونه ، وتلتقي بأبكاره فيه عيونه ، لينشط الكسلان في اجتلاء جماله ، ويرتوي الظمآن بارتشاف زلاله ..)(1)
__________
(1) . أبو حيان الأندلسي ، النهر الماد : المقدمة .(1/22)
ولا يزال عامل التوسع والإطالة في التأليف منذ القديم صارفا من الصوارف عن بعض الكتب في التفسير وفي غير التفسير ، ومن ذلك مثلا ما ذكره الطبري المفسر عن كتابه " جامع البيان " لما ألفه فقال لأصحابه : أتنشطون لتفسير القرءان ؟ قالوا : كم يكون قدره ؟ قال : ثلاثون ألف ورقة ، فكأنهم أظهروا عجزهم عن وقالوا : هذا مما يفني العمار قبل تمامه ، فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة(1).
ومع هذا الإسهاب والتفصيل من أبي حيان فإنه لم يمنع بعضا من أنصاره والمعجبين به من العكوف على البحر المحيط ، واستخراج درره ونفائسه .
وقد تجلى هذا الأثر في أول الأمر في بعض تلاميذه الذين صاروا شيوخا في حياته ، ودرسوا عليه التفسير ، وتأثروا بمنهجه وبكثير من آرائه ، فعمدوا إلى هذا السفر العظيم ، وجعلوا يتتبعون جوانب الإبداع و الابتكار فيه ، وإبراز قيمته العلمية ، فظهر نتيجة لذلك عدة مصنفات في الموازنة بين أبي حيان من جهة وبين الزمخشري وابن عطية من جهة أخرى ، ونذكر من هؤلاء التلاميذ :
ـ أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم ، أبو محمد ، تاج الدين ، وهو نحوي ، لغوي عارف بالتفسير والحديث وفقه الحنفية ، لازم أبا حيان مدة طويلة ، وصنف " الدر اللقيط من البحر المحيط " قال الصفدي : التقط فيه إعراب البحر المحيط لشيخنا أثير الدين ، فجاء في غاية الحسن ، وقد اشتهر هذا الكتاب ، وورد إلى الشام ، ونقلت به النسخ ، قال ابن حجر : اقتصر فيه على مباحث أبي حيان مع ابن عطية والزمخشري(2).
__________
(1) . انظر جامع البيان عن تأويل آي القرءان : 1/8
(2) . الدرر الكامنة :1/186(1/23)
وقد قال المصنف في مقدمته : ( .. فهذا كتاب يشتمل على ما ذكر في كتاب شيخنا الأستاذ العالم الحافظ أبي حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي الأندلسي نزيل القاهرة ، أيده الله ، في تفسير القرءان المسمى بالبحر المحيط ، من الكلام مع الإمام العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر بن محمود الزمخشري والقاضي المفسر العالم أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي ، رحمهم الله ، والرد عليهما فيما ذكراه في كتابيهما في التفسير ، والتنبيه على خطئهما في الأحكام الإعرابية ، وتقرير ذلك أحسن تقرير ، وجردته منه لنفسي ، وجعلته عمدة عند الوحشة لأنسي .. )(1)
ـ أحمد بن يوسف بن عبد الدايم بن محمد الحلبي ، أبو العباس ، شهاب الدين ، المعروف بالسمين ( ت : 756هـ ) وهو مقرئ ، نحوي ، مفسر ، درس القراءات في الجامع الطولوني ، له مصنفات منها: " الدر المصون في علم الكتاب المكنون " قال صاحب كشف الظنون : هو مع اشتماله على غيره أجل ما صنف فيه ، أي في علم إعراب القرءان ، لأنه جمع العلوم الخمسة : الإعراب والتصريف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان ، ولخصه من البحر المحيط لأبي حيان )(2)، وقد كان كتاب الدر المصون لا تخلو صفحة من ذكر أبي حيان وتفسيره حتى إن صاحب كشف الظنون ما كان يرى في في كتاب السمين شيئا يزيد على ما جاء في البحر المحيط.
أما الداودي في طبقاته فيرى أنه زاد عليه وناقشه في مواضع مناقشة حسنة(3)، ونحن نوافقه فيما ذهب إليه ، وما رسالة بدر الدين الغزي الموسومة بـ " الدر الثمين في بعض ما ذكره أبو حيان وعارضه السمين " إلا شاهد صدق على ذلك .
__________
(1) . ابن مكتوم ، الدر اللقيط من البحر المحيط ـ مطبوع على هامش البحر المحيط : 1/8
(2) . كشف الظنون : 1/122 . وانظر : بغية الوعاة : 1/402 . وكتاب الدر المصون مطبوع في ستة مجلدات .
(3) . الداودي ، طبقات المفسرين : 1/100(1/24)
وقد كان السمين كثير النقل عن تفسير البحر المحيط معتمدا منهجه ومعولا على مصادر شيخه في التفسير ، وبذلك كان شديد التأثر به ، حيث لا تكاد تخلو أغلب صفحات مصنفه من النقل عنه ، مصدرا قوله دائما بعبارة " قال الشيخ .."(1).
وقد أشار في مقدمته إلى صلته بشيخه أبي حيان ومصادره في التفسير عندما قال : ( وذكرت كثيرا من المناقشات الواردة على أبي القاسم الزمخشري وأبي محمد بن عطية ، وإن أمكن الجواب عنهم بشيء ذكرته ، وكذلك تعرضت لكلام كثير من المفسرين كالمهدوي .. وهذا التصنيف في الحقيقة نتيجة عمري وذخيرة دهري ، فإنه لب كلام هذه العلوم .)(2)وهو يقصد بالمناقشات الواردة على الزمخشري وابن عطية اعتراضات شيخه أبي حيان وانتقاداته لهما .
ـ وممن تأثر بأبي حيان الأندلسي في التفسير عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجزائري المالكي المتوفي سنة : 875هـ صاحب تفسير " الجواهر الحسان في تفسير القرآن " وهو تفسير فيه كثير من المحاسن ، وقد لخصه مما يزيد عن مائة كتاب ، وهو يمتاز بالتحري وشدة التحرز فيما ينقله ، وقد قال في مقدمته : ( فإني جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر ما أرجو أن يقر الله به عيني وعينك في الدارين من كتب الأئمة ، وثقاة أعلام هذه الأمة ، حسبما رأيته ورويته عن الأثبات ، وذلك قريب من مائة تأليف ، وما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين ، ومعدود في المحققين ، وكل من نقلت عنه من المفسرين شيئا فمن تأليفه نقلت ، ولم أنقل شيئا من ذلك بالمعنى خوف الوقوع في الزلل .. )(3)
__________
(1) . الدر المصون في علوم الكتاب المكنون : 1/335 ، 1/388 ، 1/389
(2) . الدر المصون في علوم الكتاب المكنون : 1/46
(3) . عبد الرحمن الثعالبي ، الجواهر الحسان في تفسير القرءان ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، 1984م ، ج1/4(1/25)
ثم ذكر أن ما نقله عن البحر المحيط لأبي حيان إنما نقله بواسطة الصفاقسي ، وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم القيسي ، النحوي المشهور ، المتوفى سنة : 724هـ(1)وهو أحد تلاميذ أبي حيان . قال الثعالبي : ( وما نقلته من إعراب عن غير ابن عطية فمن الصفاقسي مختصر أبي حيان .. وكل ما نقلته عن أبي حيان فإنما نقلته بواسطة الصفاقسي ..)(2)
وكان الثعالبي ينقل عن أبي حيان ـ بواسطة الصفاقسي ما يتعلق بالنواحي الإعرابية والقراءات وغيرها ، فتارة يوافقه وتارة أخرى يناقشه ويرد عليه ، ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : " .. وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " البقرة : 56
حيث نقل رد أبي حيان على ابن عطية والزمخشري في تقديرهما قبل هذه الجملة محذوفا ، أي فعصوا وما ظلمونا ، وأنه لا حاجة إلى ذلك ، لأن ما تقدم من القبائح يغني عنه . فاعترض الثعالبي على رد أبي حيان بقوله : ( وقول أبي حيان لا حاجة إلى هذا التقدير .. إلى آخره ، يرد بأن المحذوفات في الكلم الفصيح هذا شأنها ، لابد من دليل في اللفظ يدل عليها ، إلا أنه يختلف ذلك في الوضوح والخفاء ، فأما حذف ما لا دليل عليه فإنه لا يجوز.)(3)
والظاهر أن اعتراض الثعالبي غير وجيه ، لأن أبا حيان لم يذكر شيئا عن وجوب وجود الدليل ـ عما يحذف ـ وإنما رأى أنه لا حاجة إلى هذا التقدير قبل هذه الجملة ، وهو قوله " ولا يتعين تقدير محذوف كما زعم ابن عطية والزمخشري ، لأنه قد صدر منهما ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها ، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت مما لم يقص علينا ، فجاء قوله تعالى " وما ظلمونا " جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر .. )(4)
__________
(1) . بغية الوعاة : 2/425
(2) . الجواهر الحسان في تفسير القرءان : 1/4
(3) . المصدر نفسه : 4/133
(4) . البحر المحيط : 1/215(1/26)
ـ وممن تأثر بأبي حيان الأندلسي أحمد بن محمد بن شهاب الدين ، المصري ، وهو فقيه ، أديب ، صاحب تصانيف ( ت : 1069هـ ) صنف التفسير المسمى " عناية القاضي وكفاية الراضي " الشهير بحاشية الشهاب على البيضاوي(1)، حيث كان يرجع إليه في فض الخلافات النحوية واللغوية والقراءات وغيرها ، ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى :" إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " سورة البقرة : 6 حيث استعان بكلامه في الدفاع عن القراءة المتواترة ضد الزمخشري ومن ذهب مذهبه حيث قال الشهاب(2): ( قال أبو حيان : القراءة المتواترة لا تدفع ببعض المذهب ..)(3)
__________
(1) . كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : 1/855
(2) . الشهاب ، عناية القاضي وكفاية الراضي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ط1 ، 1997م : ج1/273
(3) . والذي هو عند أبي حيان في البحر المحيط : ( وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرءان ، وقرأ الزهري وابن محيصن " أنذرتهم " بهمزة واحدة ، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها ، ولأجل ثبوت ما عادلها ، وهو " أم " .. ) البحر المحيط : 1/48(1/27)
ـ ومنهم محمود بن عبد الله بن محمود درويش الحسيني ، الآلوسي ، البغدادي ، شهاب الدين شيخ علماء العراق في عصره ، كان محدثا ، مفسرا ، وفقيها لغويا أديبا له تصانيف أشهرها " روح المعاني في تفسير القرءان والسبع المثاني " توفي سنة :1270هـ(1)حيث كان تفسير البحر المحيط في مقدمة مصادره ، وأفاد منه في نواح كثيرة ، فكان ينقل عنه توجيه القراءات والدفاع عنها ضد الطاعنين عليها بغير علم(2)، ويأخذ عنه بعض وجوه الإعراب في كثير من المواضع ، ويجعل من كلامه حكما في مواضع الخلاف(3)، فتارة يقول : قال أبو حيان ، وتارة أخرى ينقل عنه قائلا " كما في البحر " وغالبا ما يتخذ الألوسي من البحر المحيط ملاذا في الرد على الزمخشري وتفنيذ مزاعمه النحوية واللغوية التي طالما تذرع بها لنصرة مذهبه(4)، كما نقل عنه في أسباب النزول(5)وجوانب أخرى في التفسير .
وإذا كان أبو حيان قد لقي انتقادات من بعض معاصريه وتلاميذه ، فإن هذه الحركة النقدية المضادة له هي الأخرى قد ضاعفت من نشاط الحركة العلمية التي نفخ فيها أبو حيان من روحه ، فلقيت تلك الانتقادات ردودا من أنصاره ومؤيديه ، ونذكر من ذلك مثلا :
ـ رسالة لعلي أفندي شلبي الشهير بقنالي زادة تتعلق بأجوبة السمين على اعتراضات شيخه أبي حيان على مواضع من الكشاف ، وهي مخطوط بدار الكتب المصرية(6). وقد توفي سنة : 979 هـ(7).
__________
(1) . التفسير والمفسرون : 1/352 . وانظر معجم المفسرين : 2/665
(2) . روح المعاني : 1/267
(3) . روح المعاني : 1/357 . 1/305 . 2/241
(4) . روح المعاني : 1/319
(5) . روح المعاني : 1/311
(6) . الدرر الكامنة : 2/22 ، وانظر : منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : 272 .
(7) . ابن العماد الحنبلي ، شذرات الذهب : 8/388(1/28)
ـ الدر الثمين في بعض ما ذكره أبو حيان وعارضه السمين ، لبدر الدين الغزي(1)، وهو لغوي ، أديب ، شاعر ، والرسالة لا تزال مخطوطة .
ـ كما أثارت ردود ابن هشام على أبي حيان نشاطا علميا ملحوظا قديما وحديثا ، نذكر منها رسالة تحت عنوان " التبيان في سر تحامل ابن هشام على أبي حيان "(2)
ـ وفي القرن الحادي عشر الهجري نجد أحد الأعلام وهو يحيى بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عيسى ، أبو زكريا ، الشاوي ، الملياني ، الجزائري ، وقد كان نحويا ، مفسرا، متكلما وصاحب مصنفات ، صنف كتابا بعنوان " المحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري(3). وقد بسط فيه مواطن الخلاف بين أبي حيان والزمخشري وابن عطية محاولا تبيين وجه الصواب والإنصاف في كل موطن من مواطن الخلاف بينهم ، وقد توفي سنة :1096هـ والكتاب توجد منه نسخة خطية بمكتبة جامعة الأزهر ، وقد حقق بعض أجزائه مؤخرا(4).
__________
(1) . هو الحسن بن علي بن أحمد بن حمي بن إبراهيم الغزي ، بدر الدين ، ولد بغزة ، وأنشد بدمشق وبالديار المصرية غالب شعلاه من آثاره رسالة سماها قريض القرين ، تشتمل على نظم ونثر ، توفي سنة : 753هـ . الدرر الكامنة : 2/22 ، ومعجم المؤلفين : 1/564.
(2) . وهي رسالة علمية للباحث يوسف عبد الرحمن الضبع ، طبع دار الزينة للطباعة ، القاهرة . انظر النحو وكتب التفسير : 2/1440.
(3) . محمد مخلوف ، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ، ط1 ، القاهرة : 1349هـ . ص : 316
(4) . وقد حقق جزءا منه الباحث مصطفى الغماري ، تقدم به لنيل درجة الدكتوراه في قسم اللغة والعربية وآدابها بجامعة الجزائر في سنة : 1999م(1/29)
وقد قال المصنف في مقدمة كتابه : ( .. وبعد ، فالكتاب قصدت فيه جمع اعتراضات الإمام ذي البيان ، المشتهر بأبي حيان ، على ابن عطية ومحمود الزمخشري ، والتكلم بما يظهر للقريب والبعيد ، وأسأل الله في ذلك التسديد . )(1)
وهذه نماذج قصيرة منه :
في إعراب البسملة قال يحيى الشاوي : ( قال الزمخشري : يقدر عامل البسملة مؤخرا ، لأن تقديم المعمول يوجب الاختصاص(2).
وقال أبو حيان : وليس كما زعم ، قال سيبويه في المفعول : تقديمه على عامله وتأخيره ، كل منهما عربي جيد ، والاهتمام والعناية بالتقديم والتأخير كتقديمه على الفاعل وتأخيره عنه(3).
قلت : نأخذ منه الاهتمام لا الاختصاص ، وأنه في مختلف النسبة كالفاعل والمفعول ، لا في متحدها كالمبتدأ والخبر ، وما ذهب إليه الزمخشري مذهب البيانيين لا مذهب النحويين . )(4)
وفي تفسير قوله تعالى : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته .." سورة النساء : 158
قال يحيى الشاوي : ( قال الزمخشري " ليؤمنن به " جملة قسمية واقعة صفة لمحذوف ، أي : وإن من اليهود أحدا إلا ليؤمنن ، نحو : " وما منا إلا له مقام معلوم " ، و" وإن منكم إلا واردها .
قال أبو حيان : هذا غلط فاحش ، إنما الصفة لـ " أحد " هي " من أهل الكتاب " أي وما أحد من أهل الكتاب ، وأما " ليؤمنن " فليسا صفة لمحذوف ، وهو وجوابه خبر " أحد " المحذوف ، إذ لا ينتظم من " أحد " والمجرور إسناد ، لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو محط الفائدة ، وكذلك الخبر وهو " إلا له مقام معلوم " ، وكذا " إلا واردها " إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي .
__________
(1) . يحيى الشاوي ، المحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري ، تحقيق : مصطفى الغماري ، نسخة خطية ، ص: 166
(2) . الكشاف : 1/3
(3) . سيبويه ، الكتاب : 1/34
(4) . المحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري : 167(1/30)
قلت : اعتراضه عليه متجه ظاهرا ، ويكمن إطلاق الصفة على الخبر ، فهو صفة ، ثم لم يعترضه بما تكرر منه مرارا من التناقض حيث يكون الشيء له محل ولا محل لأن كونه صفة أو خبرا ، كما قال الشيخ أبو حيان يوجب المحل ، ، وكونه جواب قسم يوجب أنه لا محل له .
وجوابه اختلاف الجهتين ، أو ضم جملة القسم إليه في الخبرية ، ويصح بقاؤه على ظاهره من الوصفية ، والمجرور وهو " من أهل الكتاب " خبر " أحد " ، وتميم الفائدة بالصفة ، وكثيرا ما يتم بها كقولك : الماء ماء بارد . وفي الحال كقوله :
إنما الميت من يعيش كئيبا . )(1)
__________
(1) . المحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري : 452(1/31)
وأما في مجال اللغة والنحو فقد كان البحر المحيط مرجعا من مراجع ابن هشام في كتابه مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، وعلى الرغم من كون ابن هشام لم يتتلمذ على يد أبي حيان في هذا الجانب ـ حيث اقتصر على سماع ديوان زهير بن أبي سلمى منه ـ فإنه كان كثير النقل عنه ، وفي الوقت ذاته كان كثير الرد عليه ، كثير المخالفة له ، وكثرت مخالفة ابن هشام لأبي حيان لمخالفته له في المنهج أولا(1)، ولمنازعته المكانة التي كان يحظى بها أبو حيان ثانيا ، حيث كان أبو حيان مبرزا في هذا الميدان ، مصاولا للمعاصرين له والسابقين عليه كالزمخشري ، وقد كان يطلق عليه " أمير المؤمنين في النحو " ونال لقب شيخ النحاة(2)وابن هشام لم يولد بعد ، إذ قد ولد سنة : 708هـ ولكن ابن هشام ظهرت عليه مؤهلات المنافسة والتبريز في سن مبكرة ، وقد رسخت قدمه في علم النحو قبل وفاة شيخه أبي حيان ، وكانت بينهما مراجعات في النحو ومناقشات استعظم فيها أبو حيان أمر هذا التلميذ الناشئ ، وتوسم فيه ملامح التفوق والمنافسة ، وقد صدقت نبوءته فيه(3).
__________
(1) . حيث عرف أبو حيان بالقسوة والتحامل في الرد على خصومه ، وعرف ابن هشام بضد ذلك .
(2) . خديجة الحديثي ، أبو حيان النحوي : 101 .
(3) . انظر بتوسع : النحو وكتب التفسير : 2/1275(1/32)
ولكن الذي يتضح لنا في الأخير من تتبع أثر تفسير الكشاف في الحركة العلمية بصفة عامة ، وفي حركة التفسير بصفة خاصة ، أنه بفعل الأسباب السابق ذكرها أو بفعل أسباب أخرى(1)، قد استطاع أن يحظى بهذه المكانة المميزة بين كتب التفسير لفترة طويلة من الزمان امتدت إلى عصرنا الحاضر .
وعلى الرغم مما كان يحظى به أبو حيان من مكانة علمية عند معاصريه ، وما قدمه في تفسيره البحر المحيط من دراسة نقديةلتفسير الكشاف بشكل لم يسبق إليه ، والنقلة التاريخية المميزة التي أحدثها في حركة التأليف في التفسير من خلال إبداعاته ومبتكراته ، فإن تفسيره لم يرق إلى درجة لينافس تفسير الزمخشري ، وأن شهرة الكشاف قد ظلت تحجب تفسير البحر المحيط ، وهذا ما نلحظه من خلال تتبعنا لما أثاره من نشاط علمي نعتبره محدودا قياسا مع النشاط العلمي الذي أحدثه تفسير الكشاف ، مما حملنا على البحث في سر هذا التفاضل وتعليله بأسباب خارجة عن التفسير أكثر من الأسباب التي ترجع إلى ما هو من التفسير .
__________
(1) . كما أن هناك أسبابا أخرى لا يمكن إنكارها كانت من وراء شهرة تفسير الكشاف وكثرة الاهتمام به ذكرناها سابقا ، منها إحياؤه منهج اللغويين في نقد القراءات وتأكيده على هذا المنهج ، وآراؤه النحوية الجريئة كعدم تقيده في التطبيق ببعض القواعد والضوابط في الشواهد النحوية ، وإفراطه في الاهتمام بالمعنى على حساب الأحكام الإعرابية ، ومنها مؤهلاته العلمية التي مكنته من استيعاب فكر أئمة اللغة والنحو والبلاغة يومئذ ، وهضم أقوالهم وتمثيلها وتلوينها بفكره واتجاهاته الشخصية حتى ليجعلك تؤمن أن ما ينقله هو من اجتهاداته وليس من نقله واقتباساته .. وغيرها .(1/33)
وفي الأخير نقول : إنه بالمقابلة بين جوانب التفوق في تفسير البحر المحيط عن تفسير الكشاف من جهة ، وبين أثر كل منهما في حركة التفسير من جهة أخرى ، تتضح لنا صحة الفرضية التي انطلقنا منها في بداية بحثنا هذا وسلامة النتائج التي انتهينا إليها ، والله أعلى وأعلم ، وصلى الله على النبي الأكرم .(1/34)
معجزات الانبياء عليهم السلام
المعجزة هي أمر خارق للعادة ولا يقدر على فعله البشر ولا تكون المعجزة ألا للانبياء فقط أما الصحابه او غيره فأن حدث شي من هذا القبيل فهو كرامات مثل قصة عمر بن الخطاب وسارية الجبل
والمعجزه تحدى من الله للبشر وإثبات ان هذا الرسول مرسل من عند الله عز وجل، ودائما تأتي المعجزه حسب طبيعة واشتغال الناس فاذا كان الناس مهتمين بالسحر تأتي فوق السحر وأذا كان الناس مهتمين بالطب والعلاج تأتي في هذا المجال واذا كان الناس مهتمين بالبلاغة تأتي في مجال البلاغة
أبراهيم عليه السلام.................. معجزته النار
موسي عليه السلام.....................معجزته العصا واليد
عيسى عليه السلام...................معجزته علاج الابرص والاكمه واحياء الموتي وخلق الطير بأذن الله
صالح عليه السلام.......................معجزته الناقه
محمد صلى الله عليه وسلم...........معجزته القرآن الكريم وهي المعجزة الخالدة
للرسول محمد صلوات الله عليه 1000 معجزه منها تكلم الضب ومنها بكاء المنبر ...الخ(1/1)
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وبتوفيقه تدرك الغايات وبعد:
فإن هذه الدراسة التي تمثلت في الموازنة بين هذين الكتابين في التفسير قادتنا في نهاية المطاف إلى تقرير النتائج الآتية :
ـ إن دراسة تفسير الكشاف دراسة سليمة لا تتهيأ إلا لمن درس حياة الزمخشري وما كان يحوطها من ظروف سياسية واجتماعية وفكرية ، تلك الحياة التي كانت تتقاسمها الآلام والآمال ، حيث نشأ الزمخشري منذ صباه في بيئة تموج بالاعتزال ، واحتضنه منذ بداية حياته العلمية شيخه أبو مضر محمود بن جرير الأصفهاني المعتزلي وآواه ، في الوقت الذي لقي من سلاطين آل سلجوق كل الصدود والحرمان ، مما قذف به إلى مكة ليلتقي بولي نعمته أمير مكة ابن وهاس الذي كان يقاسمه في الفكر والرأي ، فبالغ في تكريمه والإحسان إليه ، وعوضه عن كل ما فاته ، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، كما لقي هناك من أرباب الفرق الكلامية الأخرى من كان يشايعه ويناصره في فكره ، مما شجعه على كتابه تفسيره في مكة ، وقد كان لكل تلك العوامل أثرها الواضح في توجهه الفكري في كشافه .
ـ في حين تميزت حياة أبي حيان بالاستقرار النسبي مقارنة بحياة الزمخشري ، فما أن دخل مصر حتى لقي حظوة وعناية يليقان بمقامه ، مما هيأ له الإقامة بها إلى آخر حياته ، وقد كانت مصر قبلة للعلماء وطلاب العلم من أهل السنة يومئذ ، فكانت فرصته في إشباع رغبته في التعلم والتعليم في آن واحد ، ويبدو من مقدمة تفسيره أنه كانت بين يديه مجموعة هامة من كتب التفسير والعلوم الشرعية الأخرى ، فعمل على انتقاء مادة تفسيره من مصادر كثيرة ، كما أن ما كان يتميز به أبو حيان من حاسة نقدية وأمانة علمية في النقل والاقتباس قد زاد منهجه في التفسير إتقانا وإحكاما ، وزاد من قيمة كتابه البحر المحيط رفعة وتقديرا ، وبذلك تجلى عامل التفاضل بين هذين الكتابين في التفسير في جوانب مختلفة .(1/1)
ـ ففي التفسير بالمأثور تجلى لنا تفوق أبي حيان على الزمخشري بشكل واضح ، حيث رأينا مسلك الزمخشري في تفسير القرءان بالقرءان ، إذ اتخذ منه ذريعة ليضرب صفحا عن تفسير القرءان بالسنن والأحاديث النبوية ، وقد ظهر موقفه من مرويات السنة الواردة في تفسير القرءان في صورة مماثلة لموقف أسلافه من علماء المعتزلة ، وذلك بالمغالاة في الطعن في عدالة الرواة وإن كانوا من رواة الصحيح من الحديث النبوي ، وتقديم العقل وتحكيمه في قبول الأحاديث وردها أو تأويلها ، كما تجلى ضعفه وقصر باعه في الرواية والنقل من حيث خلطه بين المرويات الصحيحة والضعيفة والموضوعة من غير ضابط يرجع إليه ، فكان يقبل الضعيف والموضوع من الحديث ويرويه بصيغة توهم صحته ، ويروي الصحيح من الحديث ويرده أو يورده بصيغة توهم ضعفه ، وفي كلا الموقفين مذمة ومنقصة لتفسير الكشاف وصاحبه .
ـ في حين رأينا أبا حيان بالرغم من إقلاله من تفسير القرءان بالقرءان فإنه رجع إلى تفسير القرءان بالسنة ، وسار في ذلك وفق قواعد واضحة وسليمة ، حيث كان يقدم مرويات السنة عن التفسير بالرأي ، ويرجع إلى الصحيح من السنة ويكثر منه ، وينفر من كل ما هو ضعيف أو معلول من قصص وأخبار وإسرائيليات وغيرها ، كما تتبع أغلبها النقد مبينا زيفها وبطلانها ، وكان يحيل في الأغلب الأعم على مصادره من السنة بكل أمانة ، وهو في ذلك يقف على طرف نقيض من مسلك الزمخشري .(1/2)
ـ أما فيما تعلق بالتفسير بالرأي فإن أهم جانب برز فيه تفوق الزمخشري وبز أقرانه هو جانب الكشف عن بلاغة القرءان ودلائل إعجازه عن طريق تطبيق نظرية النظم البلاغي ، وتبين لنا أن نجاح الزمخشري في هذا الجانب لم يكن عفويا بل له أسبابه ، منها توظيفه لهذه النظرية وهي في مرحلة لا تزال غضة طرية بعد ما أضفى عليها من مهارته اللغوية والأدبية ما زادها قبولا وتألقا . ومنها إفادته من التراث البلاغي والإنتاج التفسيري العريض عند المعتزلة في هذا الجانب ، ومهما حاول الزمخشري أن يقلل من إحالاته على مصادره ، وهو يتحدث عن وجوه الإعجاز القرآني وبلاغته ، فإنه لا يستطيع أن ينفي أن جهوده هذه هي امتداد لجهود سلفه من المعتزلة ، ثم من شاركهم من الأشاعرة ، فقد قامت نظرية النظم ـ التي تبناها الزمخشري ـ في بدايتها على يد الجاحظ في شكل بسيط يعني حسن الصياغة وكمال الترتيب ، وتلاؤم الألفاظ مفردة ومركبة في الكلام ، ثم تطورت إلى شكل فني ممتاز ، إذ أصبحت تعني الأسلوب بمعناه العام الشامل ، الذي يراعي ما بين أجزاء الكلام من علاقات النحو وروابطه ، فهي نظرية أبدعها الجاحظ ، و أقام صرحها القاضي عبد الجبار ، ووسعها وطورها عبد القاهر الأشعري ، وطبقها الزمخشري ، فنجح إلى حد بعيد في تطبيقها حتى كادت محاسنه في هذا الجانب أن تحجب مساوئه في الجوانب الأخرى ، ومهما حاول أبو حيان أن يزاحم الزمخشري في الكشف عن إعجاز القرءان بما أضافه من جديد ، فإن جهده هذا لم يرق إلى درجة منافسته في ذلك الفن ، ومن هنا ظل الزمخشري كما قال السيوطي سلطان هذه الطريقة .(1/3)
ـ أما في الجوانب الأخرى من التفسير بالرأي كجانب اللغة والنحو والقراءات وغيرها مما بسطنا القول فيه سابقا ، فقد استطاع أبو حيان أن يقدم دراسة نقدية شاملة للكشاف بما لم يسبق إليه ، وبذلك وضع تفسير الكشاف في حجمه الحقيقي ، وغير من نظرة الدارسين إليه ، وأحدث بذلك نشاطا علميا ملحوظا تجلى في تلك الدراسات التي انصبت حول الموازنة بين هذين التفسيرين ، حتى أصبحت تمثل حلقة مستقلة في تاريخ التأليف في التفسير ، وصار إسم الزمخشري وتفسيره لا يذكر في الغالب إلا مقرونا باسم أبي حيان وتفسيره البحر المحيط .
ـ وإذا كانت فصول هذا البحث قد تجلى من خلالها تفوق تفسير البحر المحيط على تفسير الكشاف في أغلب الجوانب ، مع بقاء كشاف الزمخشري في الصدارة ، فإن هذا يجعلنا نميل إلى ما قاله صاحب كشف الظنون بأن سر اشتهار تفسير الكشاف هو القدر الزائد على التفسير ، وهو ما تؤكده مقالة ابن خلدون والسيوطي والزرقاني فيما سبق ذكره ، وبذلك يتجلى أن عامل الشهرة والانتشار لكتاب ما في التفسير لا يكون كافيا للحكم على حجم القيمة العلمية لذلك الكتاب في تفسير القرءان الكريم ، وذلك بعد أن امتزجت كتب التفسير بخليط كثيف من العلوم العقلية ، وصارت هذه العلوم مقصدا أساسيا من مقاصد المفسر ، بل ربما كانت صارفا لاهتمام المفسر عن النظر في جوانب العظة ومواضع العبرة من كتاب الله تعالى ، واستحوذت عليه الاستطرادات المناسبة لتلك الإشارات القرءانية التي تتصل ببعض العلوم العقلية ، فأنفق فيها جهده وسود بها أغلب صفحات كتابه ، حتى أصبح ما هو من التفسير قليلا بل نشازا إلى جانب ما هو ليس من التفسير ، ولقد قيل قديما في كتاب مفاتيح الغيب للفخر الرازي " فيه كل شيء إلا التفسير " .(1/4)
ومنذ أن امتزجت كتب التفسير بهذه الألوان من العلوم العقلية ، وما فتئت هذه العلوم تطغى وتتسع ، وما هو من التفسير يضيق ويختصر حتى اختلت موازين الحكم على كتب التفسير في كثير من الأحيان ، فنجد عددا من كتب التفسير كان حقها التقديم قد أخرت وربما هجرت ، وكتبا أخرى كان حقها التأخير ، أو على الأقل التمحيص والتقويم ، قد قدمت ونالت من الشهرة والرفعة ما ينزهها ويحميها من أصابع النقد والإتهام .
ـ وفي الختام أقول لقد خرجت من هذا البحث وأنا أشعر بحاجة ملحة للقيام بمراجعة جادة وواسعة في كتب التفسير ، وإقامة دراسة تقويمية لها من هذا الجانب لفصل ما هو من التفسير عما هو ليس منه ، ليتيسر لأهل العلم معرفة القيمة العلمية لكل مصنف في هذا الفن ، والإفادة منه على أسس سليمة .
وأحسب أن قناعتي هذه تلتقي مع ما ذهب إليه محمد رشيد رضا في تفسير المنار ، حيث أحس بهذا وهو يستطرد إلى مباحث جانبية مختلفة في كتابه مما قد يفيد القارئ من جهة ، ويكون صارفا له عن تحصيل ما هو من التفسير من جهة أخرى ، ولذلك أوصى في مقدمة كتابه " تفسير المنار" أن تقرأ هذه المباحث المفيدة في غير الوقت الذي يقرأ فيها تفسير كتاب الله تعالى على اعتبار أنها مباحث إضافية يلج القارئ من خلالها إلى فهم هدايات القرءان وحكمته العالية ، ولكنها ليست هي عين تفسير كلام الله تعالى ، لأن أغلب هذه العلوم العقلية نسبية ، وخاضعة لقانون النشوء والارتقاء ، كما أنها مما يخفى على أفهام العامة ، وكتاب الله تعالى منزه عن ذلك كله .
كما تجلى لي بعد طول البحث أن تفسير الكشاف وأثره فيمن جاء بعده من المفسرين يرقى ليكون مشروع بحث علمي مستقل جليل الفائدة ، وكذلك القول في تفسير البحر المحيط .(1/5)
وإنني أسأل الله تعالى في الأخير أن يوفقني وغيري من طلبة العلم والباحثين لمواصلة البحث في هذا الاتجاه ، لخدمة عدد من كتب التفسير هي في حاجة لهذا النوع من الخدمة ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، والحمد لله رب العالمين .(1/6)