أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية
د.أحمد بن عبدالعزيز الحليبي
تقديم بقلم الأستاذ عمر عبيد حسنه
الحمدُ للهِ الذي تَعَهَّدَ بحفظِ القرآنِ، خطابِ السماءِ الخاتمِ الخالدِ، المجردِ عن قيود الزمان والمكان، إلى الإنسان المخلوق المكلف المكرم، فقال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر : 9).
وهذا التعهد بالحفظ، بمقدار ما يمنح الأمة المسلمة من الاطمئنان لصحة وسلامة عالم أفكارها، ومصدر قيمها، بمقدار ما ينيط بها من المسؤوليات ويكلفها من التبعات في حمل الأمانة، التي تقع ضمن عزمات البشر، والتي هي تشريف للإنسان وارتقاء به، قبل أن تكون تكليفًا له وتبعة عليه، فهو المخلوق المكرم، لأنه يمتلك من الصفات والخصائص والمزايا ما يجعله أهلاً لهذا القول العظيم الثقيل، وهو المخلوق المكلف -والتكليف دليل الحرية وعلامة الاختيار- لأنه يمتلك من القدرة والإرادة، ما يجلعه قادرًا على إدراك الحق وحسن التلقي، وترجمة القيم والتعاليم السماوية والأفكار والقناعات إلى أفعال.
وتَعَهُّد الله الأكرم بحفظ الذكر، لم يقتصر على القرآن، على أهمية ذلك وضرورته على المستويات الدينية والثقافية والحضارية، وإنما امتد التعهد بالحفظ أيضًا إلى البيان، ذلك أن حفظ البيان (التفسير والتطبيق والتنزيل على الواقع)، لا يقل أهمية وضرورة عن حفظ القرآن، من حيث حماية مدلولات النص من التحريف، والتأويل، والانتحال، والغلو، قال تعالى : (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) (القيامة : 17-19).(1/1)
فالبيان النبوي المعصوم، أو ما صح من البيان المأثور، الذي توفرت له ضوابط النقل والتوثيق، من فُهوم وتطبيقات القرون المشهود لها بالخيرية، هو الذي يشكل المرجعية الشرعية، والمعيارية لفهم آيات القرآن الكريم في كل زمان ومكان.. فللإنسان المسلم أن يمتد بالرؤية القرآنية إلى أمداء وآفاق وفضاءات حضارية واسعة، وينظر إلى المشكلات الإنسانية، ويجتهد في إيجاد الحلول الملائمة لها، ويبصر مسارات المستقبل، ويرسم معالمها في ضوء هدايات ومعارف الوحي، شريطة ألا يعود ذلك بالنقض أو الإلغاء للبيان المحفوظ، الذي يشكل المرجعية، التي لم تكتف بوضع الإطار، ورسم المسارات، ووضع المنهج للفهم القرآني، وإنما أقامت المنارات، ووضعت الإشارات الهادية، للحماية من السقوط أثناء السير في الطريق.
وفي اعتقادنا أن البيان النبوي الذي تعهد الله بحفظه، وفهم القرون المشهود لها بالخيرية من الرسول عليه الصلاة والسلام، له صفة الخلود والامتداد، ومقاصده مجردة عن قيود الزمان والمكان أيضًا، لأنه بيان النص الخالد.. ومن هنا نقول : إننا لا نعني فقط بتوفر المرجعية الشرعية، أن لا يعود أي فهم أو اجتهاد في كل زمان ومكان، بالنقض أو الإلغاء للبيان النبوي، أو فهم القرون المشهود لها بالخيرية، وإنما نعني أيضًا ضرورة استصحاب أي فهم أو اجتهاد، للبيان النبوي ابتداءً، لما في ذلك من التقوى وأمن السلامة، والحماية من الزيغ والزلل والضلال، وعدم التقدم إلى التعامل مع أي قضية والنظر فيها، قبل التحقق بالمرجعية الشرعية، التي أشرنا إليها، استجابة لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) (الحجرات : 1). ونرى أن غياب هذه المرجعية وعدم وضوحها بالشكل المطلوب، إضافة إلى الجنوح إلى الهوى واتباع الظن، كان وراء الكثير من حركات الرفض والخروج، وتَشَكُّل الفرق الضالة، على هوامش المجتمع الإسلامي.(1/2)
والصلاة والسلام على الرسول الذي عهد الله إليه بمهمة البلاغ والبيان، فقال تعالى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (المائدة : 67). وقال : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (النحل : 44).
وبذلك لم تقتصر مهمة البيان والتصويب وبناء المرجعية الشرعية على حاضر الناس، وإنما امتدت لبيان وتصويب ما لحق بالأقوام السابقة من علل التدين، نتيجة لتحريفات نصوص الدين ومدلولاته، التي عبث فيها أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولعل النص : (لتبين للناس) ينصرف أول ما ينصرف بمقصد بيانه إليهم، أي : اليهود والنصارى، لتبين -يا محمد- حقيقة ما نُزل إليهم، وزيف ما هم عليه، وتبين للمسلمين معاني ومقاصد الآيات القرآنية، وكيفيات التعامل معها، وتجسيدها في الواقع، وتكون في ذلك قدوة عملية، وتبين لهم سنن الله الاجتماعية التي تحكم الحياة والأحياء، والتي كان التاريخ وقصص الأنبياء مختبرًا حقيقيًا لها، ليأخذوا حذرهم، ويقوِّموا حاضرهم، من خلال ماضي الأمم السابقة والنبوات السابقة، ويبصروا مستقبلهم من خلال حاضرهم، فيهتدوا إلى سنن السقوط والنهوض، ويتعظوا ويحققوا الوقاية الحضارية، فلا تتسرب إليهم علل التدين التي كانت سببًا في هلاك الأمم السابقة.
وبعد :(1/3)
فهذا كتاب الأمة الخامس والخمسون : (أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية) للدكتور أحمد بن عبد العزيز ابن محمد الحليبي، في سلسلة (كتاب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في التشكيل الثقافي، وتحقيق الوعي الحضاري، وإعادة بناء المسلم المعاصر، وإحياء وعيه برسالته الإسلامية الإنسانية، ووظيفته في الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير، وإلحاق الرحمة بهم، بعد تحققه بالمرجعية الشرعية، وتبصره بالسنن الإلهية في الأنفس والآفاق، التي تمثل أقدار الله وسننه المطردة التي لا تتبدل ولا تتحول، ليحسن التعامل معها، ويمتلك القدرة على تسخيرها، ومُغالبة قَدَرٍ بقَدَرٍ أحب إلى الله، في محاولة لتصويب المفاهيم وتصحيح المعايير، والتحقق بفقه النص في الكتاب والسنة، وفهم الواقع الذي عليه الناس، للمساهمة بتجديد أمر الدين، ونفي نوابت السوء عنه، ولا سبيل لتجديد أمر الدين إلا بالعودة بالتدين إلى التلقي عن الينابيع الأولى، وبناء الفهم والفقه العملي، في ضوء ما تمنحه السيرة النبوية الصحيحة والخلافة الراشدة وفهم خير القرون المشهود لها، في كيفية فهم وتنزيل الكتاب والسنة على الواقع المعيش، وامتلاك القدرة على التعامل مع قيم الكتاب والسنة، من خلال مشكلات الإنسان والمجتمع وقضاياه، وإيجاد الحلول الشرعية التي تتلائم مع هذا الواقع في ضوء إمكاناته واستطاعاته، والتعامل مع الواقع وتصويب مسيرته على هدي من قيم الوحي، والتحول من التفكير الارتجالي الآني القائم على ردود الأفعال، إلى التفكير الاستراتيجي، الذي يحيط بمعرفة الواقع، ويدرس الأسباب والسنن التي تقف وراءه، ويتعرف بدقة على الإمكانات والاستطاعات، ويحدد مدى التكليف الشرعي المطلوب والممكن في كل مرحلة، والتبصر بالعواقب والمآلات، وعدم الخضوع إلى الإثارة والاستفزاز، فالرسول صلى الله عليه و سلم يقول :(1/4)
(ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) (متفق عليه من حديث أبي هريرة).
والقضية التي لابد من الاستمرار في طرحها، والتأكيد عليها، هي ضرورة استئناف السير في الأرض، والتوغل في التاريخ البشري بشكل عام، والتاريخ الإسلامي بشكل خاص، للاهتداء إلى سنن السقوط والنهوض، وأخذ الدروس والعبرة، والحذر من تسرب علل تدين الأمم السابقة إلى أمة الرسالة الخاتمة، وتحقيق الوقاية الحضارية، استجابة لقوله تعالى : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران : 137-138)» والتوقف طويلاً بالدرس والتحليل والاستقراء والاستنتاج لحركات الإصلاح والتجديد والتغيير، والتعرف على حياة المجددين كنماذج تاريخية، وخاصة أولئك الذين شكّلوا منعطفات تاريخية، والذين كانت تتشابه ظروفهم مع ظروفنا وواقعنا، حيث لا ينكر دور النماذج التاريخية المضيئة في بناء الأجيال، والإفادة من تجاربهم سلبًا وإيجابًا، وتأصيل منهج التقويم والمراجعة والمناصحة والنقد والمشاورة والمثاقفة والمفاقهة والحوار.(1/5)
إن عمليات التجديد والإصلاح لا يمكن أن تتم بالفراغ، أو ترسم في البروج العاجية البعيدة عن ساحة التفاعل الاجتماعي، فأولى خطواته -فيما نرى- تتمثل في نقد الواقع، ومراجعة تقويمه، ومعايرته بقيم الكتاب والسنة، وتحديد مواقع الخلل، وإدراك أسبابه، ورسم سبل الخروج والتصويب، وهذا لا يمكن أن يتم أو يتحقق بعيدًا عن أدواته وآلياته، من الحوار والمثاقفة والمفاقهة والمناصحة والنقد، لأننا نعتقد أن قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (إن الله تعالى يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يُجَدِّد لها دينها) (رواه أبو داود والحاكم)، هو إخبار بامتداد هذا الدين، واستمرار سلامة قيمه، من خلال التصويب والمراجعة والتوثيق، وهو -من جانب آخر- تكليف للأمة أن تستمر فيها حاسة الرقابة العامة، ومراجعة المسيرة، ومعايرة الواقع، بعيدًا عن أي استنقاع حضاري، أو ركود ثقافي، أو استسلام وخلود إلى الأرض.
ولعل حركات الإصلاح والتجديد، تكون معنية بالدرجة الأولى بتحديد مواطن الشر، والتعرف على أسبابه، مخافة أن يدركها، أو يعلق بمسيرتها وسلوكها بعض أمراض مجتمعها التي تريد إصلاحه، ولتكون على بصيرة في معالجة الأسباب، عندما تحاول التصويب والإصلاح والوقاية ونفي نوابت السوء من جانب، والتجديد والتنمية لمجالات الخير من جانب آخر.(1/6)
ولا شك أن ظهور ووجود حركات الإصلاح والتجديد والتغيير، ووجود نماذج مضيئة من المجددين الذين ينفون نوابت السوء، ويقتلعون البدع في الفقه والفكر والعقيدة بالقرآن والبيان، ويقفون سدًا منيعًا في وجه التحريف، والمغالاة، والتعطيل والإرجاء، والتأويل والتضليل والضلال، يعتبر من لوازم الرسالة الخاتمة الخالدة المجردة عن حدود الزمان والمكان، حيث توقف عندها التصويب من السماء، لأن سمة الخلود تؤكد من بعض الوجوه قدرتها على التجدد الذاتي، وذلك بإنتاج نماذج للاقتداء والاتباع، قادرة على التجديد، وإعادة معايرة الواقع بقيم الكتاب والسنة، وتجديد الفاعلية، وتجاوز التقاليد الاجتماعية المترسبة، إلى التعاليم الشرعية المعصومة.
وهذه النماذج التجديدية، على مستوى الأفراد والجماعات، قد تضيق مساحتها وقد تتسع، لكنها لم تنقطع عبر التاريخ، القديم والوسيط والمعاصر، فسنن المدافعة جارية في الحياة، لأن الشر من لوازم الخير.. وتتبع هذه النماذج ودراستها، وتحليل طروحاتها الفكرية، ووسائلها في الدعوة والإصلاح، ضرورة علمية ودعوية وثقافية وحضارية وسياسية معًا، وذلك لإثارة الاقتداء، وإحياء الفاعلية واستشعار المسؤولية في حمل الأمانة، واختبار وسائل السقوط والنهوض، والفقه بكيفية التعامل مع قيم الكتاب والسنة، وتنزيلها على واقع الناس، وتحقيق العبرة بالتعرف على جوانب النجاح والإخفاق، وتحديد مواطن التقصير وأسباب القصور والإخفاق، لتكون سبيل اهتداء، للتعامل مع الحاضر، وبصارة المستقبل، واستدراك الخلل، وتصويب المسيرة، وإضافة هذا الرصيد الثقافي والحضاري والدعوي لإمكانات الحاضر وتطلعات المستقبل.(1/7)
ولعل الأَوْلَى بالتحليل والدراسة والاتباع، وإثارة الاقتداء في تاريخ حركات التجديد والإصلاح والتغيير والمجددين : أولئك الذين واجهوا ظرفًا مشابهًا لما حولنا، وواقعًا مماثلاً لواقعنا، واغترفوا من معين الكتاب والسنة، واهتدوا بفهم القرون المشهود لها بالخيرية من الرسول صلى الله عليه و سلم، وعاشوا في قلب الواقع الإسلامي بكل مشكلاته وقضاياه ومعاناته، وقادوا المسيرة بفقه وفكر وفعل، وكانوا من الطلائع التي تتقدم الصفوف، تعطي الأنموذج لفعل الحلال ومنع الحرام، أو بعبارة أخرى : كانوا يصنعون التاريخ، ولم يكونوا من السّاقة الذين يخرجون من المعركة، ويسيرون خلف الصفوف، كل همهم أن يحكموا على تصرفات ومسالك الناس وأفعالهم بعد وقوعها، بالحل والحرمة، بعيدًا عن أي صناعة حضارية، فتحولوا من صناعة التاريخ ومغالبة الأقدار في ضوء السنن الربانية، إلى الاقتصار على قراءة التاريخ، والخروج من الواقع.
وقد يكون الشيخ الإمام المجدد ابن تيمية رحمه الله، ومدرسته الفقهية ومنهجه الفكري، على رأس قائمة هؤلاء المجددين، من حيث أهمية التعرف على منهجه، نظرًا للتشابه الكبير بين ظروف عصرنا وظروف عصره، بكل ما حمل من تقليد فقهي، وجمود فكري، ووهن حضاري، وغزو ثقافي، وتسلط سياسي وعسكري، وتمزق اجتماعي، وتضليل فلسفي، وهجمة باطنية، وموالاة غير المسلمين، واختراق سياسي، وإشاعة الثقافات اليهودية والنصرانية، والافتتان بتقليد الكفار والتخلق بأخلاقهم، وتوهين قيم الكتاب والسنة، وتمزيق وحدة العالم الإسلامي العقدية والفكرية والسياسية، وكثرة فرق الضلال والتضليل.(1/8)
لقد اهتم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالحفاظ على الثقافة الإسلامية، والشخصية المسلمة بكل خصائصها وامتيازاتها، وخاصة عندما رأى من آثار اجتياح التتار للدول الإسلامية، وظهور اليهود والنصارى.. ولعل من القضايا المبكرة التي تنبه لها وأدرك خطرها، من الناحية الدينية والثقافية والسياسية والحضارية، قضية التقليد والمحاكاة، والتشبه بالكفار من اليهود والنصارى ومضاهاتهم، والانسلاك في منهجهم، والتتبع لسننهم، وما يؤدي إليه ذلك من الانحلال الثقافي، ونقض عُرى الإيمان، والضلال.. والمعروف نفسيًا وثقافيًا، أن شيوع تقليد الغالب، والتشبه به في لباسه وعاداته وأعياده ولغته، يورث تشاكلاً وتناسبًا، كما يورث مودّة وموالاة بين المتشابهين.
ولقد توقف رحمه الله عند قضية اعتماد العربية، لغة القرآن، وأهمية تعلمها والتزام النطق بها، وأنها من الدين، ودورها كوعاء للتفكير وأداة للتعبير، وإحدى وسائل التشكيل الثقافية، وبيّن موقف الصحابة من ذلك، الذي يتمثل في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (إياكم ورطانة الأعاجم)، فكان الصحابة يكرهون أن يتكلم المسلم بغير العربية، على وجه الاعتياد والدوام ولغير ضرورة، لأن اللغة الأجنبية بشكل عام، إذا لم تؤخذ بحذر ودقة، وبعد التحصين وبناء المرجعية، تصبح أحد معابر الغزو الثقافي، لأنها أداة تفكير وتغيير، وليست وسيلة تعبير فقط.
إن تشابه الظروف بين الحال التي نحن عليها، والواقع التاريخي الذي تعامل معه الإمام المجدد ابن تيمية رحمه الله، يجعل مدرسته في الإصلاح، ومنهجه في التغيير والتعامل مع الواقع في ضوء قيم الكتاب والسنة، هي الأولى بالدرس والتحليل، على الرغم من البُعد الزماني الذي يفصلنا عنه، والذي قد يتجاوز السبعة قرون، لأن أصول المشكلات الإنسانية واحدة، وإن اختلفت أعراضها وأحجامها وأشكالها من حين لآخر.(1/9)
ونحن لا ندّعي بهذه الإلماحة السريعة، الإحاطة بمنهج ابن تيمية ومدرسته في الإصلاح والتجديد والتغيير، وإنما هي نوافذ وإضاءات وملامح أساسية لمنهجه، قد تكون قادرة على إعطاء فكرة عن السمات والخصائص البارزة لهذا المنهج، المحددة لبعض منطلقاته الأساس.
لقد كان المحور الأساس الذي انطلق منه شيخ الإسلام رحمه الله، في فكره وفقهه ودعوته التجديدية والإصلاحية، هو : تنقية التوحيد، والعودة به إلى صفائه، وتحرير مفهوم العبودية بكل أبعادها، لأن تنقية التوحيد وتحرير العبودية، هو الذي يحقق السعادة للإنسان، ويرفع عنه الآصار والأغلال، ويمنحه الأمن النفسي تجاه مسألتي الرزق والأجل، وبذلك ينعتق من كل العبوديات الأرضية، مهما كان نوعها، ويتمتع بالحرية والإرادة.
وقد بيّن رحمه الله أن العبودية لله نوعان : عبودية قسرية تتمثل في كون الله ربنا ومالكنا، وكوننا خاضعين للقوانين التي جرى عليها الكون، والسنن التي نظم بها الخليقة، فنحن عباد لله بهذا المعنى، شئنا أم أبينا.
ونوع آخر من العبودية نستطيع أن نسميه : (الخضوع الإرادي)، أو (الانقياد الشرعي)، وهو الإقرار لله وحده بالعبادة والطاعة فيما شرعه لنا، من قوانين لا تصبح نافذة وجارية في الواقع، إلا بتدخل من إرادتنا، وهو ما يعبر عنه بـ (عبودية الإلهية).
ويرى : أن كل من استكبر عن عبادة الله، لابد أن يعبد غيره ويذل له، ويعلل ذلك بقوله : (... إن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وكل إرادة لابد لها من مراد تنتهي إليه، فيكون الإنسان عبدًا ذليلاً لذلك المراد المحبوب).
ويبلغ الآفاق الاجتماعية والسياسية، حين يتحدث عن بعض مظاهر العبودية لغير الله وآثارها، تلك التي تبدو ظاهرًا بعيدة كل البعد عن أن يكون صاحبها عبدًا، فيقول :(1/10)
(وكذلك طالِب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه، ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع. والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، (عبودية متبادلة). (انظر التقديم القيم الذي كتبه الأستاذ عبد الرحمن الباني لرسالة العبودية، إصدار المكتب الإسلامي).
ولابن تيمية رحمه الله، سيرة حافلة بالعلم والجهاد، والمعاناة والمحن، وقد تضافرت جهود الحكام في عصره مع جهود بعض العلماء لمحاربته والنيل منه، فمنهم من كفّره، ومنهم من رماه بالزندقة، ومنهم من وصفه بالفيلسوف الغارق في التشبيه والتجسيم.
وهكذا كانت حياته سلسلة من الصراعات الفكرية والفقهية مع خصومه.. وقد رافق هذه الحياة الحافلة بالمواجهة، جهد علمي، وانقطاع لا مثيل له إلى المناصحة والدعوة وإعلاء كلمة الحق.. حارب في كل الجبهات، وصنف في شتى العلوم والمعارف.
ولعل إلقاء نظرة على عناوين مؤلفاته، التي لا يتسع المجال لسردها جميعًا، يمكن أن تعطي فكرة واضحة عن سمات شخصيته وطبيعة اهتماماته، وساحات معاركه الفكرية والفقهية.. وقد يكون أبرز ما يميزه، معرفته بمن حوله، واستيعابه لعصره، ومعرفته الدقيقة بمكوناته الثقافية والسياسية.
لقد تناول علوم عصره بالدرس العميق، والفحص الدقيق، ثم تناولها بالتأليف والرد، وكانت معركته حامية الوطيس مع الفلاسفة، وعلماء الكلام والمنطق والتصوف المنحرف، وكان نتيجة ذلك أن ترك ثروة غنية من المؤلفات قد تصل إلى خمسمائة مصنَّف.
فقد كتب في التفسير رسائل كثيرة بالغة الأهمية، منها رسالة في أصول التفسير، وكيف يكون؟ ولاتزال هذه الرسالة مرجعًا في منهجه في التفسير واستخراج الأحكام الشرعية.(1/11)
وكتبه في العقيدة كثيرة، منها كتاب (الإيمان)، ثم كتاب (الاستقامة)، وكتاب (اقتضاء الصراط المستقيم)، وكتاب (الفرقان).
وفي مناهج الاستدلال، كتاب (نقض المنطق والرد على المنطقيين)، وكتاب (منهاج السنة)، وكتاب (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، أو درء تعارض العقل والنقل).
وفي الفقه، الفتاوى المختلفة، التي كان بعضها في مصر، وبعضها في الشام، ووضع ضوابط وقواعد يلتقي عندها المختلفون.. ومن رسائله القيمة، رسالة (القياس)، ورسالة (الحسبة)، وكتاب (في نكاح المحلِّل)، وكتاب (العقود)، وغير ذلك من كتب ورسائل في الفقه والأحكام (انظر كتاب : (ابن تيمية ومنهجه الفكري)، للدكتور محمد حسني الزين).
وقد كان معيار الفتوى والاجتهاد عند شيخ الإسلام رحمه الله، تحقيق مقاصد الدين، وتحصيل مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، واعتماد الفقه العملي الذي يعايش واقع الناس ويعالج مشكلاتهم ويبصرهم بالحكم الشرعي، لينضبطوا به، بعيدًا عن التجريدات الذهنية في الاجتهاد، التي لا تشكل حاجة عملية، على الرغم من خصوبة ذهنيته، ورصيده الشرعي والعقلي في الرد على الفلاسفة، ودحض مفتريات الفرق الضالة وشبهات الملحدين على مستوى الفكر والعقيدة.
وقد كانت له فتاوى واجتهادات فقهية خالف فيها الجمهور، وبعضها خالف فيها أصحاب المذاهب الأربعة، لما تبين له من دلالات النصوص في تحقيق المقاصد وتحصيل المصالح، من أبرزها :
* جواز إقدام الحائض على الطواف عند الضرورة، ولا فدية عليها.
* أن الطلاق البدعي -الطلاق في الحيض، أو في طُهْر بعد الوطء قبل أن يتبين الحمل- لا يقع.
* وأن طلاق الثلاث المجموعة -في طُهْر واحد- محرّم، ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة.
* وأن مَن علّق الطلاق على شرط والتزمه، لا يقصد بذلك إلا الحظر أو المنع، يجزئه كفارة يمين.
* وأن الخلع لا ينقص به عدد الطلاق، ولو وقع بلفظ الطلاق.
* وأنه يجوز التضحية بما كان أصغر من الضأن.(1/12)
* وأنه يجوز قَصْر الصلاة في كل ما يُسمى سفرًا، وأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء.
* وأنه يجوز إبدال الوقف للحاجة أو المصلحة.
* وأنه يجوز إخراج القيمة في الزكاة، للحاجة أو المصلحة أو العدل.
هذا عدا عن الفتاوى الكثيرة في المجالات السياسية و الاجتماعية، التي كانت ترتكز إلى الانطلاق من النص الشرعي، وتهدف إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، إلى درجة يمكن معها اعتبار منهجه في الفتاوى والاجتهادات أقرب ما يكون إلى ما اصطلح على تسميته : السياسة الشرعية.
ولعل من أبرز ما يميز منهجه الفكري ومدرسته في التجديد والإصلاح والتغيير، إعادة الاعتبار لمعرفة الوحي في الكتاب والسنة، والامتداد بالرؤية التجديدية، والانطلاق بها من خلال فهم القرون المشهود لها بالخيرية، واعتماد النبوة وسيلة المعرفة الصحيحة، والتركيز على حاجة البشرية إلى النبوة على أنها الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة والهداية الكاملة، وأن الأنبياء هم الأدلاء على ذات الله وصفاته الحقيقية، وهم الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله تعالى، المعرفة الصحيحة، التي لا يشوبها جهل ولا ضلال، ولا سوء فهم، ولا سوء تعبير، وأن هذه المعرفة لا يستقل بها العقل، ولا يغني فيها الذكاء، ولا تكفي فيها سلامة الفطرة، والإغراق في القياس العقلي والتأمل الفلسفي، وأن سر ضلال الفلاسفة، اعتمادهم في ذلك على عقلهم وعلمهم وذكائهم ومهارتهم في بعض العلوم والصناعات.. حتى ليمكننا القول :(1/13)
إن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، استطاع وإلى حد بعيد، حل المعضلة المزمنة بين العقل والوحي، وخلّص الفكر الإسلامي من الثنائية والانشطار الثقافي والخيار بين الوحي والعقل، والعلم والإيمان، وإعادة فحص واختبار المقدمات المغلوطة التي كانت مطروحة على سبيل التقابل والثنائية بين العقل والدين، أو بين العلم والإيمان، وأعاد بناءها الصحيح، وصوّب المعادلة، لتتحول من التقابل والثنائية إلى التكامل والوحدانية، وكان مِن أَجَلِّ وأهم مؤلفاته : (درء تعارض العقل والنقل، أو موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، في وقت كان يخضع فيه العالم الإسلامي أو العقل الإسلامي، للاجتياح الفلسفي والجدل الكلامي، وتغييب معرفة الوحي، فجاء إنتاج ابن تيمية ومنهجه الفكري بحق، يشكل الترسانة الفكرية التي حمت الثقافة الإسلامية من الاجتياح، كما وصف ذلك بعض الباحثين المسلمين المعاصرين، فلا دين بلا عقل، ولا عقل بلا دين.
وقضية أخرى على صلة بأهمية الارتكاز على معرفة الوحي وإعادة الاعتبار إليها، التي كانت من أبرز محاور اهتمام شيخ الإسلام، وهي في تقديرنا على غاية من الأهمية، لأن الفقه بها وحسن إدراكها، يعتبر من التفكير العلمي والموضوعي، أو بعبارة أدق : من التفكير الاستراتيجي، الذي يحفظ الطاقات، ويحمي الإمكانات، ويحول دون هدر الأوقات، ويُحسن توظيفها، ويخلص العقل والعمل الإسلامي من الإحباطات المتلاحقة، واختلاط الأمنيات بالإمكانيات، واختلال الموازين الشرعية في النظر للأشياء والحكم عليها، وهي :(1/14)
أن ابن تيمية لم يقصر النظر على تحرير النص الشرعي، والاجتهاد في بيان دلالاته ومقاصده، وإنما اجتهد وبذل جهدًا مقدورًا في فحص واختبار وبيان محل النص وخصائص مورده، وحدود وقوع التكليف، وربط ذلك بمدى توفر الاستطاعة.. فكان له اجتهاد في مورد النص، كما أن له اجتهادًا في تحرير النص وتبيين مقاصده ومدلولاته، لأن الأمر لا يتعلق فقط بمعرفة حكم الشرع وما يطلبه منا، والتأكد منه، والانطلاق لإنجازه، بل يتعلق باستكمال أبعاد أخرى تخص ساحة التنفيذ والتنزيل على الواقع، وكيفياته، ومنهجية ومرحلية الإنجاز، خصوصًا عند تراجع أقدار التدين، وانتقاص آثار النبوة في الخلق، وضعف صلة الناس بالإسلام فهمًا وممارسة، حيث يحتاج الاجتهاد والعمل إلى بصيرة نافذة وعقل راشد، وفقه نضيج، يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة التي يفرزها التدافع غير المتكافئ بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والمصلحة والمفسدة، وهو ما عناه العلماء بقولهم : ليس الفقيه هو مَن يعرف بأن هذا مصلحة وهذا مفسدة، بل الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين. وقد يكون من المفيد أن نجلي هذه الفكرة بإيراد نص كلام شيخ الإسلام نفسه، يقول شيخ الإسلام :
(العالِم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي... كما قيل : إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء، حتى علا الإسلام وظهر. فالعالِم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخَّر الله سبحانه إنزال الآيات، وبيان الأحكام، إلى وقت تمكّن رسول الله صلى الله عليه و سلم من بيانها.(1/15)
فالمُحيي للدين والمجدد للسنة، لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقّن جميع شرائعه، ويؤمر بها كلها، كذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه، لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا رسول الله صلى الله عليه و سلم عما عفا عنه إلى وقت بيانه.. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات، وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل.. ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب والتحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان في الأصل) (مجموع الفتاوى : 20¯58-60).
هذه النظرة الفقهية الدقيقة لمحل تنزيل النص، ومدى توفر الشروط والظروف لهذا التنزيل، أي توفر الاستطاعة بمعناها الأشمل، ليقع التكليف -حيث لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها- التي يمكن أن نسميها : (فقه المرحلة)، أو فقه الحالة التي عليها الناس، ووضع الإجابات الشرعية لكيفية التعامل معها، لا تعني القبول بالواقع، وعدم تنمية القدرات والاستطاعات للارتقاء بمستويات التكليف، وبلوغ حالة القوة والتمكين، وإنما تعني -من بعض الوجوه- تعامل الشريعة مع حالة الناس التي هم عليها، والارتقاء بهم من خلال تنفيذ ما يطيقون من أحكامها، أي يتربون ويترقون وتتطور استطاعاتهم، من خلال ما يقع عليهم من أحكام التكليف، وبذلك يكون الحضور المستمر لأحكام الدين في حياة الناس، مهما كانت استطاعاتهم وأقدار تدينهم صعودًا وهبوطًا.(1/16)
ويمكن أن نقول : بأن هذا ليس انتقاصًا لتطبيق الشريعة، وإنما هو تطبيق للشريعة في حدود الاستطاعة وواقع الناس في الحالة التي هم عليها، وتأهيل للمجتمع من خلال أحكامها.. أما رفع الشريعة بحجة عدم تأهل المجتمع لأحكامها، والبدء بتحضير المجتمع ليصبح محلاً لتطبيقها، فأعتقد أن القضية من الخطورة بمكان، ذلك أن التأهيل إنما يتم ضمن أحكام الشريعة نفسها، الملائمة للمجتمع في حالته الراهنة.. فالمشكلة تكون عند عدم فقه الحالة التي عليها الناس (محل الحكم)، والأحكام الشرعية التي تتلائم مع استطاعاتهم في تلك الحالة، لأن غياب الاستطاعة تعني من بعض الوجوه، أنهم ليسوا مكلفين في هذه المرحلة إلا بهذه الأحكام، فتطبيق الشريعة بالنسبة لهم حدوده هي هذه الأحكام، التي يقع بها التكليف.(1/17)
ولعل من فقه شيخ الإسلام ونظراته الدقيقة، أن دراسته لمحل تنزيل الحكم الشرعي، وتحديد استطاعته، التي تستدعي نوع ومستوى التكليف، عادت بفقه جديد للنص الشرعي نفسه، أو بمعنى آخر : إن محل الحكم الشرعي عنده، كان له الأثر الكبير في إعادة النظر بمقاصد النص نفسه وتحليله وتعليله، وعدم الاقتصار على تفسيره وبيان معناه المقصود، فمثلاً قوله تعالى : (إن خير من استأجرت القوي الأمين) (القصص : 26)، يعني أن القوة والأمانة، أو بمعنى آخر : الإخلاص والصواب، أو التدين والتخصص، هما الصفتان المطلوب توفرهما في كل مسؤول ولكل مسؤولية.. لكن إذا كانت الحاجة قائمة والظروف تستدعي مباشرة بعض المهمات، ولم تتوافر الكفاءة المطلوبة من القوة والأمانة، نرى هنا أن من فقه ابن تيمية العملي والواقعي، النظر في طبيعة الوظيفة وطبيعة المهمة، فبعض المهام والأعمال تتطلب مزيدًا من الأمانة والحرص والحماية وعدم التفريط، كالقيام على الأموال وما في حكمها، فيرجح لهذا العمل الأمين.. وهناك أعمال تتطلب قوة وشكيمة وصمودًا وثباتًا وتضحية، كالأعمال العسكرية والقيادية، فيُختار ذو القوة.. كل هذا في حال عدم توفر القوة والأمانة معًا، وهي الصورة الأمثل التي لابد من الانتهاء إليها، لكن لا يقف الفقيه عاجزًا عن التعامل مع الحالة القائمة للناس، ضمن إطار الأحكام الشرعية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتاب السياسة الشرعية، تحت عنوان : (قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس) :(1/18)
(اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة. فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قُدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررًا فيها، فتُقدَّم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينًا، كما سُئل الإمام أحمد، عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف : مع أيهما يغزي؟ فقال : أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر. وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)، ورُوي : (أقوام لا خلاق لهم). فإذا لم يكن فاجرًا، كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين، إذا لم يسد مسده.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال : (إن خالدًا سيف سلَّه الله على المشركين)، مع أنه أحيانًا كان قد يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه و سلم، حتى إنه -مرة- رفع يديه إلى السماء وقال : (اللهم إنِّي أبرأ إليك مما فعل خالد)، لمَّا أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك...
وكان أبو ذر رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه و سلم : (يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) (رواه مسلم). نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية، لأنه رآه ضعيفًا، مع أنه قد رُوي : (ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر)...(1/19)
ويُقدم في ولاية القضاء، الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قُدم -فيما قد يظهر حكمه، ويخاف فيه الهوى- الأورع، وفيما يدق حكمه، ويخاف فيه الاشتباه : الأعلم). (انظر كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية، ص29-34).
ولعل من القضايا المهمة التي عرض لها شيخ الإسلام رحمه الله، ووضع المنهج الصحيح للتعامل معها، المنهج الذي يضمن لها السداد والصواب : الاهتمام بخُلُق المعرفة والعلم، والنظر في غاياتهما ومقاصدهما، ذلك أن الاهتمام بخلق المعرفة وأمانتها، لا يقل عنده عن الاهتمام بالمعرفة نفسها، لأن العلم بدون توفر الخلق وتحديد الأهداف والمقاصد، سوف ينقلب إلى لون من البغي والظلم والفساد وتفريق الدين، ويكون سببًا للفرقة والتنازع والتآكل، بدل أن يكون سببًا في الوحدة والتكامل والقوة.. فقيام الحضارة، والتحرك في الإصلاح، وتجديد أمر الدين، لابد له من الكتاب : (العلم والمعرفة الصحيحة، عن طريق النبوة)، ولابد له أيضًا من الميزان : (العدل والالتزام بخلق المعرفة ومقاصدها)، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد : 25).
ذلك أن غياب الميزان واهتزاز المعيار، ولو كان صاحبه على شيء من العلم، فإن علمه يقوده إلى البغي والتطفيف، وبخس الناس أشياءهم، وإلحاق الأذى والسوء بهم، كما يؤدي إلى عدم الإنصاف، وشيوع فقه الحيل والمخارج الشرعية وأكل الحقوق، وغياب فقه المقاصد وميزان الاعتدال، كما يؤدي إلى التفرق والتعصب والغلو والتشرذم، وغلبة النزوع الحزبي والطائفي.. وعند فقد الميزان، تصبح الكبائر المهلكة من الهنات واللمَم، إذا وقعت من جماعتي وحزبي وعصبتي وطائفتي!! وتنقلب الهنات واللمم إلى كبائر، إذا وقعت من الآخرين!!(1/20)
ولا شك أن هذا من علل التدين، التي وقعت بها الأمم السابقة، وقص الله علينا تاريخها وسبب هلاكها في القرآن، لتأخذ الأمة المسلمة حذرها، قال تعالى : ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم) (الشورى : 14).
إن صور البغي التي تتسلل إلينا، دليل على غياب الميزان واهتزاز المعيار، حتى ولو كنا على شيء من الفقه والعلم، حيث أصبح الحق يُعرف بالناس، ولا يُعرف الناس بالحق، ولانزال نرى امتداد الكثير من فرق الرفض والخروج والمغالاة تتحرك تحت شعار العلم والجدل العلمي، فانقلبت المعادلة، وأصبحت معرفة الوحي تبعًا لهوانا، بدل أن يكون هوانا تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم، وهذا لا يعني أن ابن تيمية رحمه الله، كان يتنكر للاختلاف في الرأي والفقه، لأن الاختلاف ظاهرة طبيعية وصحية، ومن سنن الله في الخلق، لكن الاختلاف المحمود هو الذي يُتَحلى بأدبه، ويكون اختلاف تنوع لا اختلاف التضاد المذموم.. نختلف وتتعدد وتتنوع وجهات نظرنا، لكن لا نفترق، فلابد أن تكون لنا أصول وقواعد، لنعرف كيف نختلف، كما نعرف كيف نتفق.
لذلك دافع عن أئمة الهدى والاجتهاد، وألف في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، على الرغم من مخالفته لهم في كثير من المسائل الاجتهادية.(1/21)
وطرح منهجًا دقيقًا ومتميزًا، ووضع معايير منضبطة في الحكم على الأفكار والأشخاص.. لقد فرّق بين الحكم على الأفكار ومعايرتها وتقويمها، وبين الحكم على الأشخاص، وبذلك استطاع أن يتحدث عن الأفكار والعقائد والفلسفات الضالة، والمكفرة المخرجة عن الملة، وجاهد في ذلك جهادًا كبيرًا، لكنه لم يقع في عملية تكفير الأشخاص، الذين تنسب إليهم تلك الأفكار والعقائد، إلا بعد التحقق والتأكد، والإصرار بعد الاستتابة والبيان، وبذلك فرّق بين الفعل والشخص، وكان هذا مسلكًا تربويًا رائعًا حقًا.. فالتنفير والتخويف والترهيب من الأفكار والمبادئ والعقائد المخرجة عن الدين أمر مطلوب، ليكون الناس على بينة، أما الحكم على الأشخاص قضائيًا، فيتطلب التأكد والتحقق والبينة.
ونستطيع أن نقول : إن ابن تيمية رحمه الله، تميّز من بين روّاد الإصلاح والتجديد، بأنه كسّر قيود التقليد الجماعي، التي عطلت وجمدت حركة الأمة الإسلامية، بمجاهداتها الفقهية والفكرية، وأوضح منهج التحول من التقليد والابتداع، إلى الاقتداء والاتباع، بكل شروطه ومستلزماته، ومقوماته، وأبعاده.
وأن فقهه انطلق من القيم الخالدة في الكتاب والسنة، ومرجعيته من خلال فهم القرون المشهود لها بالخيرية، واستوعب ما حوله من فلسفات وأفكار وأوضاع اجتماعية وأسرية واستطاعات بشرية، لا يمكن للفقيه تجاوزها أثناء محاولة تنزيل النصوص الشرعية على واقع الناس.
لذلك كان له هذا الدور المتميز بين قادة الإصلاح والتجديد، حيث شكَّل إضافة نوعية على مستوى المنهج، في الفقه والفكر، مايزال عطاؤها ممتدًا في الحياة الإسلامية، على الرغم من تطاول الزمن.. ولعل من أبرز خصائص منهجه، أنه لم يتحرك في إطار فكر الآخرين، وإنما جاءت اجتهاداته منطلقة من قيم الكتاب والسنة وفهم خير القرون، واستيعاب وفهم ما حوله من واقع الناس.(1/22)
والكتاب الذي نقدمه اليوم، يشكل لبنة مهمة في بناء المنهجية الفكرية والفقهية وأصول التربية الاجتماعية، حيث يسعى إلى تصويب معايير النظر والحكم على القضايا والأشخاص، وتأصيل المرجعية الشرعية، من خلال قيم الكتاب والسنة، وفهم القرون المشهود لها بالخيرية، والتي تكاد تصبح غائبة عن الكثير من الكتّاب والمفكرين والباحثين، على الرغم من حماسهم للإسلام وانتصارهم له.
ذلك أن من أخطر الإصابات الذاتية، التي يمكن أن تلحق بالنخبة والأمة على حد سواء : انتقال علل التدين، التي كانت سببًا في سقوط الأمم السابقة وانقراضها عندما افتقد العلم أخلاقه وأهدافه الخيرة، فتحول من معرفة بانية، إلى وسيلة باغية، وأصبح سببًا في تمزيق الأمة وتفريق الدين، قال تعالى : (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم) (الشورى : 14)، فجاء الإسلام مصححًا للمعادلة، مصوبًا للمعيار، مرتكزًا في بنائه الحضاري على العلم والعدل، على الكتاب والميزان : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد : 25).
وتأتي أهمية إبراز جوانب من منهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التجديد، في هذا الوقت بالذات، حيث يعيش العالم الإسلامي اليوم على المستوى الداخلي والخارجي، ظروفًا مشابهة لتلك الظروف التي عاشها ابن تيمية، من حيث الاجتياح الفكري، والاستلاب الحضاري، والانشطار الثقافي، والتحكم الدولي، بإنسانه وإمكاناته، ومحاولات تغييب ما جاء به الوحي كمصدر للمعرفة الصحيحة، إضافة إلى حالة التآكل والتمزق والتنازع، التي تفتك بنسيج الأمة الاجتماعي، وما يخلفه ذلك من الفشل والإحباط والتلاوم، والمجازفات التي توصل إلى انطلاق موجة الاتهام بالتكفير والتفسيق، والتطرف والمغالاة، وشيوع التطفيف وبخس الناس أشياءهم.(1/23)
كل ذلك بسبب غياب العلم تارة، وغياب الميزان والمعيار تارة أخرى، واعتبار الأشخاص هم المعيار، وفي هذا ما فيه من الاضطراب والخلل، وخضوعٍ للأمزجة والهوى.. فلو عرفنا الحق واعتمدناه معيارًا، لعرفنا أهله : (اعرف الحق تعرف أهله)، وبذلك تتوقف المجازفات الباخسة، ويلجم الهوى والرغائب الجانحة، ويصبح الحكم على الأفعال والأفكار والنظر إليها، من خلال أصول ثابتة حددتها معرفة الوحي، ويصبح التعامل معها من خلال مقاصد الدين.
لذلك نقول : إن هذا الكتاب جاء في الوقت المناسب، سائلين المولى أن ينفع به ويجزي المؤلف أجزل الجزاء.
والحمد لله رب العالمين.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد :
فإن نقد مقالات المبتدعة وأعمالهم ومسالكهم، والرد عليهم، وكشف ما عندهم من باطل، والتحذير من زيفهم، وظيفة العلماء، لا يجوز التساهل فيها، أو التقصير في أدائها، إذ بها تتم حماية الدين ونقاوته من شائبة الباطل، وقد أكمل الله دينه، وأتم نعمته، ورضي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم دينًا، قال تعالى : (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) (المائدة : 3). وقال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر : 7). وقال صلى الله عليه و سلم : (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا ما ليس منه فهو رَدٌّ) (1)، وفي رواية : (من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ) (2).(1/24)
قد أقام الله تعالى للعلماء ميزان الحق، الذي يَزِنُون به الأقوال المخالفة، ويصدرون عنه أحكامهم.. أقامه على العلم والعدل : العلم الذي يتبين به الحق من الباطل، وتُقام به الحجة على قائله أو فاعله، قال تعالى : (ولا تَقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (الإسراء : 36)، والعدل الذي يثبت به لكل ذي حق حقه من مدح أو ذم غير مغموط فيه، ولا متعتع، وبقدر متساوٍ مع الأولياء والأعداء، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة : 8).
ويُعد شيخ الإسلام ابن تيمية عَلَمًا من أعلام الدين، وإمامًا من أئمة الهدى، نَافَحَ بلسانه وقلمه عن السُّنَّة، وجاهد بنفسه رؤوس الفتنة، ووقف موقف الأبطال من دعاة البدعة، وصبر على ما لاقاه في سبيل إعلاء كلمة الله من العَنَت والمحنة، فلم تَلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، حتى أظهر الله بعلمه وجهاده ومواقفه منهج أهل السنة، ونشر على يديه عقيدتهم، بعد أن كانت الغلبة في عصره لعقائد أهل الكلام، والرواج لأقوال أهل الابتداع.(1/25)
واعتمد ابن تيمية في كل ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في أصول الدين وفروعه، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، غير متبع لهوى، أو مقلد لأشخاص، فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم الهدى، قال الله تعالى : (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) (النجم : 23)، وأقام العدل في حكمه على أقوال الناس وأعمالهم، وإن كانوا من المخالفين له في الأصول، مراعيا ما يسوغ فيه الخلاف، أو ما يقع فيه خطأ بسبب اجتهاد، أو تأول صحيح، أو ما يلائمه التماس العذر للمخالف، فإن ذلك أسلم من الوقوع في الظلم الذي حرمه الله تعالى على عباده، أو القول على الله بغير حق، وذلك أقرب للتقوى.
فكان ابن تيمية قائمًا بميزان الحق، الذي صرَّح بوجوب الوزن به، وأنه الحد الفاصل بين منهج أهل السنة والجماعة، ومنهج أهل البدع والغواية في الكلام على الناس، قائلاً : (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع) (3).
ذلك أن الأصل حفظ جارحة اللسان من القول إلا حقًا، وحماية أعراض الناس من انتهاكها زورًا وبُهتانًا، قال صلى الله عليه و سلم : (مَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليتَّقِ اللهَ وليَقُلْ حقًّا أو ليَسْكُت) (4)، وقال صلى الله عليه و سلم : (بِحَسْبِ امرئٍ من الشرِّ أن يَحْقِرَ أَخَاه المسلم، كلُّ المسلمِ على المسلم حَرام، دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُه) (5).(1/26)
وقد حرَّمَ الله سبحانه أذية المؤمنين، أو إساءة الظن بهم أو غيبتهم، فقال سبحانه : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا ) ( الأحزاب : 58 ). وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (الحجرات : 12)، وعَظَّمَ القول في المسلم بغير علم، مرشدًا إلى إمساك اللسان عن الخوض في عرضه بغير حق، وموجهًا إلى تبرئة ساحته مما قيل فيه، إبقاء على الأصل : وهو عدالته من الجارح، وسلامته من القادح، قال تعالى : (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك) (النور : 15 16).
إن اعتماد العلم والعدل شرطان في الكلام على الناس عمومًا، وفي الحكم على أقوال المخالفين وأعمالهم خصوصًا.. لا يعني المداهنة مع المبتدعة، ولا الدفاع عن باطلهم، ولا تذويب العقيدة أو إضعاف جانبها أمام الضلالة، أو التقصير نحو إظهارها أو إعلائها على غيرها من الأقوال والآراء المخالفة، لكنه المنهج الحق الذي شرعه الله لأنبيائه وعباده، وارتضاه لهم في كتبه، واتبعه رسوله صلى الله عليه و سلم، وسار عليه سلف الأمة وعلماؤها.. يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بعد تقريره : (ولما كان أَتْبَاعُ الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة، مع الكفار وأهل البدع، بالعلم والعدل لا بالظن وما تهوى الأنفس) (6).(1/27)
يستهدف هذا المنهج ضبط الأحكام، لتصدر بعد تحر وتثبت، وصيانتها من الانسياق مع جواذب الأهواء، وسلامتها من الجهل على الناس وبخسهم حقوقهم.. ويتحقق هذا المنهج في صياغة أصول كلية قائمة على الأدلة المعتبرة، يرجع إليها من احتاج الكلام في الناس، والحكم على أقوالهم وأعمالهم كلما اقتضت الحاجة، تفاديًا لما ينشأ عن الجهل بها من مفاسد وعظائم لا تخفى.
ومن يراجع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ورسائله، يصل إلى نتيجة واضحة، هي تمكُّنه من تحديد هذه الأصول، التي كثيرًا ما كان يشير إليها بحسب ما يقتضي المقام، عند حواره ومناقشته ورده على مقالات المبتدعة وأعمالهم، والتي ساعدته على وحدة أسلوبه واستواء أحكامه.. وقد أبان رحمه الله، أهميتها، فقال : (لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم) (7).
إن أهمية هذه الأصول تتلخص في أمرين :
الأول : أنها قاعدة الوصول إلى أحكام دقيقة ومنضبطة ومنصفة، مبنية على العلم والعدل، وملتزمة بالمنهج الحق.
الثاني : أنها سبيل الوقاية من التخبط في الأحكام على غير هدى، وما يتولد عنه من أضرار كبيرة ومفاسد عظيمة، تلحق بالأفراد والجماعات.
لهذه الأهمية، رأيتُ جمع هذه الأصول المتناثرة في مواضع مختلفة من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لكي يسهل الانتفاع بها والرجوع إليها، وقد حافظتُ على نصها، معتمدًا على النقل من مظانها، ومجتهدًا في ترتيبها على حسب مراده منها، باذلاً غاية جهدي في التعرف على الأصول التي اعتمدها في الحكم على المبتدعة والكلام فيهم، ولا أقول : إني استطعتُ الإحاطة بجميعها أو الإلمام بأجزائها، ولكن حسبي أني جمعت ما تيسر لي منها مما أمكنني الوقوف عليه.
والله أسأل أن يلهمني رشدي، وأن يرزقني صوابًا في القول والعمل، والله وحده الهادي إلى سواء السبيل.(1/28)
د. أحمد بن عبد العزيز الحليبي
ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية
هو الإمام المجتهد شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني(8).
ولد بحَرَّان(9) يوم الاثنين عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وستمائة، ونشأ في بيئة علمية، فكان جده أبو البركات عبد السلام(10) ابن عبد الله، صاحب كتاب : (المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه و سلم)، من أئمة علماء المذهب الحنبلي، ووالده من علماء المذهب، اشتغل بالتدريس والفتوى، وولي مشيخة دار الحديث السكرية حتى وفاته(11).
انتقل مع أسرته إلى دمشق على إثر تخريب التتار لبلده حران، وهو ابن سبع سنين، وبدت عليه مخايل النجابة والذكاء والفطنة منذ صغره، فحفظ القرآن في سن مبكرة، ولم يتم العشرين إلا وبلغ من العلم مبلغه، ذكر ابن عبد الهادي(12) في ترجمته : أن (شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، سمع مسند الإمام أحمد بن حنبل(13) مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني(14) الكبير، وعُني بالحديث، وقرأ ونسخ وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي(15)، ثم فهمها، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه(16)، حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كليًا، حتى حاز فيه قَصَب السَّبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه) (17).(1/29)
أفتى وله تسع عشرة سنة، وشرع في التأليف وهو ابن هذا السن، وتولى التدريس بعد وفاة والده، سنة 682هـ بدار الحديث السكرية، وله إحدى وعشرون سنة، حتى اشتهر أمره بين الناس، وبعد صيته في الآفاق(18)، نظرًا لغزارة علمه وسعة معرفته، فقد خصه الله باستعداد ذاتي أهّله لذلك، منه قوة الحافظة، وإبطاء النسيان، فلم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء إلا ويبقى غالبًا على خاطره، إما بلفظه أو معناه(19). ففي محنته الأولى بمصر، صنف عدة كتب وهو بالسجن، استدل فيها بما احتاج إليه من الأحاديث والآثار، وذكر فيها أقوال المحدثين والفقهاء، وعزاها إلى قائليها بأسمائهم، كل ذلك بديهة اعتمادًا على حفظه، فلما روجعت لم يعثر فيها على خطأ ولا خلل(20).
قضى حياته في التدريس والفتوى والتأليف والجهاد، فكانت تفد إليه الوفود لسماع دروسه، وتَرِدُه الرسائل للاستفتاء في مسائل العقيدة والشريعة، فيجيب عليها كتابة.. ترك ثروة علمية تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه، وتكامل إدراكه لأطراف ما يبحثه واستوائه لديه، ومن ذلك مسائل علم الكلام ومباحث الفلسفة، فهو يناقش المتكلمين والفلاسفة بأدلتهم، وينقد مناهجهم، ويبطل حججهم بثقة وعلم، ذكر ابن عبد الهادي أن مصنفاته وفتاواه ورسائله لا يمكن ضبط عددها، وأنه لا يَعلم أحدًا من متقدمي الأمة جمع مثل ما جمعه، وصنف نحو ما صنفه(21).
شارك في معركة شقحب، التي وقعت بين أهل الشام والبُغاة من التتار، بقرب دمشق في شهر رمضان سنة 702هـ، وانتهت بانتصار أهل الشام ودحر التتار، الذين أرادوا بسط نفوذهم في الشام، وتوسيع سلطتهم على أطرافها، وقد ضرب ابن تيمية في هذه المعركة أروع مثال للفارس الشجاع(22).(1/30)
وجاهد المخالفين من أهل الأهواء والبدع، مستعينًا بسلاح العلم، ومتحليًا في منازلتهم بالعدل والرحمة، فقد حاور أهل الكلام، مظهرًا منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، ومفندًا آراءهم بالحجة والبيان، وتصدى للفلاسفة وغلاة التصوف من أتباع ابن عربي(23) وتلاميذه، فكشف أستارهم، وأبان عوار مسلكهم.
اتبع مسلك الاجتهاد في المسائل العلمية (ففي بعض الأحكام يفتي بما أداه إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور من مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة في مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف) (24).(1/31)
ابتلي رحمه الله في سبيل إظهار الحق وبيانه، ونصيحة المسلمين، فصبر، فقد وُشي به لدى السلطان، واتهم بالباطل زورًا وبهتانًا، وسُجن بسبب ذلك مرارًا، ليُثنى عن منهجه، ويُحال بينه وبين الناس، ولكنه قابل ذلك كله بالصبر على قَدَر الله، والرضا بقضائه، والحِلْم على من آذاه، والعفو عنهم، ولا أدلّ على ذلك من رسالته التي بعثها من مصر إلى أهله وأنصاره في دمشق، يدعوهم فيها إلى تأليف القلوب وجمع الكلمة، وإصلاح ذات البين، ويحذرهم فيها من أذية من آذاه أو إهانتهم، يقول فيها : (تعلمون رضي الله عنكم، أني لا أحب أن يُؤذى أحدٌ من عموم المسلمين فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه، مغفور له، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين، فنطوي بساط الكلام لهذا الأصل، كقول القائل : فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلامات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله...) (25).(1/32)
اتصف بسلامة النفس، والبراءة من التشفي والانتقام حتى ممن كاده، ذُكر أن الناصر بن قلاوون(26) لما رجع إلى الحكم في مصر بعد خلعه، جلس معه، (وأخرج من جيبه فتاوى لبعض المشايخ من خصومه في قتله، واستفتاه في قتل بعضهم، قال : ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقًا شديًا عليهم لما خلعوه، وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير(27)، فشرعتُ في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حِلٍّ من حقي ومن جهتي، وسَكَّنْتُ ما عنده عليهم. قال : فكان قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف(28) يقول بعد ذلك : ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبق ممكنًا في السعي فيه، ولما قَدِرَ علينا عفا عنا) (29).(1/33)
كان منهجه قائمًا على اتباع الدليل، وغايته إظهار الحق والانتصار له، دون خوف من أحد ولا مداهنة فيه، فإنه (كان سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين) (30). من قرأ رسائله وتراثه العلمي، أدرك دقة وصف تلميذه الحافظ عمر بن علي البزار(31) لمنهجه لما قال : (إذا نظر المنصف إليه بعين العدل، يراه واقفًا مع الكتاب والسنة، لا يميله عنهما قول أحد كائنًا من كان، ولا يراقب في الأخذ بعلومهما أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحد، وهو مستمسك بالعروة الوثقى واليد الطولى، وعامل بقول الله تعالى : (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) (النساء : 59)، وبقوله تعالى : (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) (الشورى : 10)، وما سمعنا أنه اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة متابعته للكتاب والسنة، والإمعان في تتبع معانيهما، والعمل بمقتضاهما، ولهذا لا يرى في مسألة أقوالاً للعلماء، إلا وقد أفتى بأبلغها موافقة للكتاب والسنة، وتحرى الأخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول) (32).
توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، بقلعة دمشق محبوسًا، بعد مرض أصابه بضعة وعشرين يومًا، فاشتد أسف الناس عليه.. قيل : إن عدد مَن حضر جنازته يزيد على نحو خمسمائة ألف(33)، وإنه لم يسمع بجنازة حضرها مثل هذا الجمع، إلا جنازة الإمام أحمد(34) رحمه الله.
مفهوم السنة والبدعة عند ابن تيمية(1/34)
يحسن قبل الشروع في بيان أصول شيخ الإسلام ابن تيمية في الحكم على أهل البدع، أن أعرض بشيء من الاختصار ما يبين مفهومه رحمه الله للسنة، ويحدد أهلها، ويوضح طريقتهم، ويبين مفهومه للبدعة وتفاوتها، ودعوته إلى الاعتصام بالسنة، وتحذيره من البدعة وفسادها بحيث يتحدد لنا موقفه من الاتباع والابتداع ابتداءً.
1 ـ تعريفه للسنة :
يرى أن السنة من الفعل هي : (ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم، أو فُعل على زمانه، أم لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضي حينئذ لفعله ،أو وجود المانع منه، فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب(35)، وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف(36)، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة(37)) (38).
قصد الشيخ في هذا التعريف، المعنى العام للسنة، وهو الطريقة الموافقة لهدي الرسول صلى الله عليه و سلم وعمل الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما الخلفاء الراشدون، وقد استقاه من وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثَات الأمور، فإن كُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة) (39).
2 ـ مَن هم أهل السنة ؟(1/35)
يرى أنهم المتبعون لسلف الأمة، الذين عاشوا في القرون الثلاثة المفضلة، وحازوا كل فضيلة، وثبت لهم ذلك بالضرورة، وأنه (من المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد... القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ،كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه(40)، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة، من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل.. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم) (41)، كما قال عبد الله بن عمر(42) رضي الله عنهما : (مَن كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، كانوا على الهدى المستقيم) (43).
وقال غيره : (عليكم بآثار مَن سَلَف، فإنهم جاءوا بما يكفي ويشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه) (44)، وقال الإمام الشافعي(45) : (هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب يُنال به علم أو يُدرك به هوى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) (46).
وحَدَّدَ رحمه الله أهل السنة والجماعة، فقال : (أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم والتابعين، وأئمة أهل السنة وأهل الحديث، وجماهير الفقهاء والصوفية(47)، مثل مالك(48) والثوري(49) والأوزاعي(50) وحماد بن زيد(51)، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ومحققي أهل الكلام(52)) (53)، فلم يحصر أهل السنة والجماعة في مدرسة معينة، لأن طريق السنة يتسع لكل من اعتصم بها، واتبع آثار السلف رحمهم الله تعالى).
3 ـ طريقة أهل السنة :(1/36)
بين الإمام ابن تيمية أن (طريقة أهل السنة والجماعة، اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال : (عليكم بسنتي) (54) إلى آخر الحديث) (55)، فهم إنما سُموا بأهل السنة لهذا المعنى، وسُموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفُرقة، نسبة إلى الأصل الثالث وهو الإجماع، ويقصد به الإجماع المنضبط، وهو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بَعْدَهم كَثُر الاختلاف، وافترقت الأمة(56).
وإنما كان السلف على السنة، لأن غاية ما عندهم أن يكونوا موافقين لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ولأن عامة ما عندهم من العلم والإيمان استفادوه منه صلى الله عليه و سلم، الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد(57)، لذا كان الحق معهم، لأن (الحق دائمًا مع سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وآثاره الصحيحة، وأن كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة، لم يكن القول الذي انفردت به إلا خطأ، بخلاف المضاف إليه أهل السنة والحديث، فإن الصواب معهم دائمًا، ومَن وافقهم كان الصواب معه دائمًا لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول صلى الله عليه و سلم، فمن كان أعلم بسنته وأَتْبَع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته، وأتبع لها، وأكثر سلف الأمة كذلك، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين) (58).(1/37)
لذا كانت متابعة السلف شعارًا للتمييز بين أهل السنة وأهل البدعة، كما قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك(59) : (أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم) (60)، فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف.. ولما كان الرافضة(61) أشهر الطوائف بالبدعة، حتى إن العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا الرفض، صار السني في اصطلاحهم مَن لا يكون رافضيًا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة(62)، وهناك طوائف أقرب منهم إلى طريقة السلف مثل (متكلمة أهل الإثبات من الكُلاَّبية(63) والكرامية(64) والأشعرية(65) مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم، وله أتبع، وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها) (66).
4 ـ تعريفه للبدعة :
يرى البدعة في مقابل السنة، وهي : (ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات) (67)، أو هي بمعنى أعم : (ما لم يشرعه الله من الدين.. فكل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة، وإن كان متأولاً فيه) (68)، أي مما استحدثه الناس، ولم يكن له مستند في الشريعة.(1/38)
وهي (نوعان : نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني) (69)، فمثال الأول في الأقوال : بدعة الأوراد المحدثة، وفي الاعتقادات : بدعة الرافضة والخوارج(70) ، والمعتزلة(71) ، والمرجئة(72)، والجهمية(73).. ومثال الثاني في الأفعال : لبس الصوف عبادةً، وعمل المولد(74)، وفي العبادات، الجهر بالنية في الصلاة، والأذان في العيدين(75).
ـ تفاوت البدعة :
يرى أن البدعة تكون باطلاً على قدر ما فيها من مخالفة للكتاب والسنة، وابتعاد عن متابعة السلف، فهي ليست باطلاً محضًا، إذ لو كانت كذلك لظهرت وبانت وما قُبلت، كما أنها ليست حقًا محضًا لا شوب فيه، وإلا كانت موافقة للسنة التي لا تناقض حقًا محضًا لا باطل فيه، وإنما تشتمل على حق وباطل(76)، وعلى هذا يكون بعضها أشد من بعض(77)، ويكون أهلها (على درجات : منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة) (78).
وهذا التفاوت يقع في مسائل العقيدة والعبادة على حد سواء، فإن (الجليل من كل واحد من الصنفين، مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع) (79).. وما درج عليه الناس من تسمية مسائل العقيدة الخبرية بالأصول، ومسائل العبادة العملية بالفروع، تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء المتكلمين، وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن المسائل العملية آكد وأهم من المسائل الخبرية المتنازع فيها، لذا كثر كلامهم فيها، وكرهوا الكلام في الأخرى، كما أثر ذلك عن مالك وغيره من أهل المدينة(80).
وقد أشار الشيخ إلى هذا التفاوت من حيث قُرب الفِرَق وبُعْدها عن الحق قائلاً : (وأصحاب ابن كلاب(81) كالحارث المحاسبي(82)، وأبي العباس القلانسي(83)، ونحوهما، خير من الأشعرية في هذا وهذا، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب، كان قوله أعلى وأفضل) (84).
6 ـ تأكيده على العمل بالسنة :(1/39)
يؤكد شيخ الإسلام على أنه لا عاصم من الوقوع في الباطل إلا بملازمة السنة، ذلك أن (السنة مثال سفينة نوح عليه السلام، من رَكِبَها نجا، ومن تَخَلَّف عنها غرق، قال الزهري(85) : كان من مضى من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة) (86)، لذا فإن المبتدعة لما كانوا مخالفين للسنة، وقعوا في الباطل وإن كانوا متأولين، لأنهم اتبعوا الهوى، وضلوا طريق السنة المنصوب على العلم والعدل والهدى، ومن هُنا سُمي أصحاب البدع، أصحاب الأهواء(87).
أما أهل العلم والإيمان من السلف، فإنهم تمسكوا بالسنة، وكان منهجهم على النقيض من منهج المبتدعة، فهم (يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقًا، وما خالفه كان باطلاً، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين، وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه، غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو المسائل العملية، فإنه ليس كل ما كان معلومًا متيقنًا لبعض الناس، يجب أن يكون معلومًا متيقنًا لغيره، وليس كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمه كل الناس ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيرًا منه، وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده، وإن كان كلامه في نفسه محكمًا مقرونًا بما يبين مراده) (88).(1/40)
لكن إذا لم يُتَّبَع منهج السلف، فإنه يُخاف على المنتسبين إلى العلم والنظر العقلي، وما يَتْبَع ذلك، من الوقوع في بدعة الأقوال والاعتقادات، ويُخاف على المنتسبين إلى العبادة والإرادة، وما يَتْبَع ذلك، من الوقوع في بدعة الأفعال والعبادات، وكل ذلك من الضلال والبغي، وقد أُمر المسلم أن يقول في صلاته : (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفاتحة : 6 7)، آمين، وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون) (89)، قال سفيان بن عيينة(90) : كانوا يقولون : من فَسَد من العلماء ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من العُبَّاد ففيه شبه من النصارى.. وكان السلف يقولون : احذروا فتنة العَالِم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فِعْلُ ما يجب عليه، وتَرْكُ ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال(91).
7 ـ تحذيره من البدعة، وبيانه لوجه فسادها :(1/41)
حذر الشيخ من البدعة، وبين أنها أشر من المعصية(92)، لذم رسول الله صلى الله عليه و سلم إياها في قوله : (شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) (93)، وفي رواية : (وكل ضلالة في النار) (94).. وذمه عليه الصلاة والسلام الواقعين فيها، في ذمه للرجل الذي اعترض على رسول الله صلى الله عليه و سلم في قسمته، فقال فيه : (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئي(95) هذا قومٌ يَحْقِرُ أحدُكُم صلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِم، وصيامَهُ مَعَ صِيَامِهِم، وقِرَاءَتَه مَعَ قِرَاءتِهم، يقرؤونَ القرآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمْرُقُون(96) مِنَ الإسلامِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة، لَئِن أدركتُهُم لأَقْتُلَنَّهم قَتلَ عاد) (97).. وفي رواية : (لو يعلمُ الذين يقاتلونهم ماذا لهم عن لسان محمدٍ لاتَّكَلُوا عن العمل) (98).. وفي رواية : (شر قَتْلَى تحتَ أديمِ السماء، خير قَتْلَى مَنْ قَتَلُوه) (99).
قال الشيخ معلقًا على هذا الحديث : (فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبيُ صلى الله عليه و سلم بقتلهم، وقَتَلَهم علي بن أبي طالب(100) ومَن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، وذلك لخروجهم عن سُنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرتُ قول الشافعي : لأن يُبتلى العبد بكل ذنب، ما خلا الشرك بالله، خير من أن يُبتلى بشيء من هذه الأهواء) (101).
كما بين الشيخ أن فساد البدعة وضررها من وجهين :
الأول : أن البدع مفسدة للقلوب، مزاحمة للسنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، وفي هذا المعنى يقول (الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث) (102).(1/42)
الثاني : أن البدع معارضة للسنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة والأعمال الفاسدة والخروج عن الشريعة، وفي هذا المعنى يقول : مبينًا أن (من أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة، الخروج عن الشِّرعة والمنهاج، الذي بعث به الرسول صلى الله عليه و سلم إلينا، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (103)، وهذا ظاهر في منهج المبتدعة، القائم على معارضة الكتاب والسنة، لمَّا (جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة، التي جعلوها أصول دينهم، وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يُستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم، ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة، وعُلُوه على خَلْقه، وكون القرآن كلامه ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً عليها، أو مردودًا، أو غير ملتفت إليه، ولا متلقى للهدى منه) (104).
الأصل الأول : الاعتذار لأهل الصلاح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد، وحمل كلامهم المحتمل على أحسن محمل(1/43)
لا ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، يعفى عنه خطؤه، ويثاب، لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) (106)، لذا يُعذر كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد(107)، فإن كثيرًا (من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرَدْ منها، وإما لرأي رَأَوْه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286)، وفي الصحيح أن الله قال : (قد فعلتُ) (108)) (109).
وقد اعتذر الشيخ لبعض أهل الفضل والصلاح، ممن شهدوا سماع الصوفية ورقصهم متأولين، قائلاً : (والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والإخلاص والصلاح، غمرت حسناتهم ما كان لهم فيه وفي غيره من السيئات، أو الخطأ في مواقع الاجتهاد، وهذا سبيل كل صالحي هذه الأمة في خطئهم وزلاتهم) (110)، مستندًا في هذا على قول الله تعالى : (والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون) (الزمر : 33-35).
كما اعتذر لشيوخ أهل التصوف، الذين حسن ذكرهم وثبت إيمانهم، فقال : (لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتًا، غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاد) (111).(1/44)
وإذا كان الاجتهاد عذرًا في العفو عن الخطأ البدعي، فإن هذا الخطأ لا ينقص من قدر المجتهد، متى كان من أهل القدم في الصلاح والتقوى، فإنه مع خطئه (قد يكون صدِّيقًا عظيمًا، فليس من شرط الصدِّيق أن يكون قوله كله صحيحًا، وعمله كله سنة) (112).. كما أن فعل أهل الفضل للبدعة ليس دليلاً على صحتها، فإن الصحة تُعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم.. قال رحمه الله مبينًا هذا : (إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين، فقد تركها في زمان هؤلاء من كان معتقدًا لكراهتها، وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم، ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فتُرد إلى الله ورسوله) (113).. هذا إذا وقع الخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، أما من أخطأ مخالفًا (الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع) (114).(1/45)
وكذلك تُحمل الأقوال المحتملة لأهل الفضل والصلاح، على أحسن محمل وأسلم مقصد، من ذلك حَمْله رحمه الله لقول الجنيد(115) رحمه الله : (التوحيد إفراد القِدَم من الحدث)، قائلاً : (هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسنًا، وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة، وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة، وهو أن يُفْرَد الحق سبحانه وهو القديم، بهذا كله، فلا يشركه في ذلك محدث، وتمييز الرب من المربوب في اعتقادك وعبادتك، وهذا حق صحيح، وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.. ومما يدخل في كلام الجنيد، تمييز القديم عن المحدث، وإثبات مباينته له، بحيث يعْلَمه ويشهد أن الخالق مباين للخلق، خلافًا لما دخل فيه الاتحادية(116) من المتصوفة وغيرهم من الذين يقولون بالاتحاد معينًا أو مطلقًا) (117). ومنه أيضًا حمله قول بعض الصوفية : ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك أو إجلالاً لك -مع ما فيه من خطأ، على حسن القصد- فيقول : (وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات، يكون لأحدهم وَجْدٌ صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين مراده، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب(118) مع صحة مقصوده) (119).
الأصل الثاني : عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية .. وأولى من ذلك، عدم تكفيره أو تفسيقه(1/46)
نسب ابن تيمية هذا الحكم إلى السلف وأئمة الفتوى، كأبي حنيفة(120) والشافعي والثوري وداود(121) بن علي وغيرهم، أنهم كانوا لا يؤثمون مجتهدًا أخطأ في المسائل الأصولية والفروعية، وذكر ذلك عنهم ابن حزم(122) وغيره، وعلل هذا بأن أبا حنيفة والشافعي وغيرهما كانوا يقبلون شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية(123)، ويصححون الصلاة خلفهم(124)، والكافر لا تُقبل شهادته على المسلمين، ولا يُصلى خلفه، وأنهم قالوا : هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهم لا يكفرون ولا يفسّقون ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا : والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع، من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية، ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غَوره(125).
وبيَّن رحمه الله بطلان رأي مَن قال : إن (مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية، التي يُطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل -من جهة الحكم- فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم شهر رمضان، وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش، وفي المسائل العلمية، ما لا يأثم المتنازعون فيه، كتنازع الصحابة : هل رأى محمد ربه؟ كتنازعهم في بعض النصوص : هل قاله النبي صلى الله عليه و سلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات، هل هي من القرآن أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة : هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام، كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ونحو ذلك، فليس في هذا تكفير ولا تفسيق) (126).(1/47)
وأوضح الشيخ بطلان جعل العقائد هي الأصول، والعبادات والمعاملات هي الفروع، فقال : (الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع، فالعلم بوجوب الواجبات، كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا مَن جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كَفَر، كما أن مَن جحد هذه كَفَر.. وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية، بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل : وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقَدَر خيره وشره.. وأما الأعمال الواجبة، فلابد من معرفتها على التفصيل، لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة، ولهذا تُقِرُّ الأمةُ مَن يُفصلها على الإطلاق وهم الفقهاء، وإن كان قد يُنكر على مَن يتكلم في تفصيل الجمل القولية، للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة) (127).
وعلل رحمه الله، عدم تأثيم المجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية بقوله : (ليس كل مَن اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا مَن ترك مأمورًا أو فعل محظورًا، وهذا قول الفقهاء والأئمة(128)، وهو القول المعروف عن سلف الأمة، وقول جمهور المسلمين) (129).(1/48)
لكنه يُفَرِّقُ بين خطأين : خطأ مؤاخذ عليه، وخطأ مغفور له، فيقول : (مَن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله، بسلوك السبيل التي نُهي عنها، أو لاتباع هواه بغير هدىً من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله، فهذا مغفور له خطؤه، كما قال تعالى : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا...) إلى قوله : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 285-286)، وقد ثبت في صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه و سلم، أن الله قال : (قد فعلتُ) (130)، وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس(131) رضي الله عنهما : (أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك) (132)، فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا) (133).(1/49)
وإذا كان خطأ المجتهد من علماء المسلمين مغفورًا له، فإنه لا يجوز تكفير أحد منهم بمجرد الخطأ، بل ولا يُفَسّق ولا يُؤثم، وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام : (إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم، لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه... فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض، الذين يكفّرون أئمة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم، وليس كُل مَن يُترك بعضُ كلامِه لخطأ أخطأه، يكفر، ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286)، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إن الله قال : قد فعلتُ) (134)) (135).
بل يرى الشيخ أن (دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطأوا، هو من أحق الأغراض الشرعية...) (136).
على أنه ينبغي أن يعلم أن رفع الإثم عن العالم المجتهد إذا أخطأ، لا يعني الإغضاء عن البدعة التي أخطأ فيها، فقد بيّن رحمه الله أن إثمها يزول للاجتهاد أو غيره، إلا أنه يجب بيان حالها، وعدم الاقتداء بمن استحلها، وأن لا يقصر أحد في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها(137)، ذلك أن الإثم مزال عن المجتهد، لا عن وجه المخالفة من المبتدع.(1/50)
وتأكيدًا لما سبق، فإن الشيخ يقرر أن مسلك أهل السنة، عدم تكفير المجتهد المخطئ في المسائل العملية أو المسائل الاعتقادية، فيقول : (إن المتأوِّل الذي قَصْدُه متابعةُ الرسول صلى الله عليه و سلم لا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يُكفّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل مَن خرج عما هو عليه، من أهل البدع.. وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفّر مَن قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفّر كلُّ مَن قاله مع الجهل والتأويل) (138).. لذا كان (من عيوب أهل البدع، تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخَطِّئون ولا يكفّرون) (139).(1/51)