بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وصلى الله على سيد الهداة وأفضل المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه ومن أحيا سنته وأقام شريعته إلى يود الدين وسلم تسليما كثيرا .
وبعد فإن من مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق كتابا اسمه ( الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري ) لإبن عروة الحنبلي الدمشقي وهو لم يقتصر فيه على أحاديث المسند ، بل تعرض لكل ما يناسبها من بحوث العلماء ورسائلهم ومؤلفاتهم فأوردها في كتابه كلما عرضت لذلك مناسبة .
وأكثر ما يورده من هذه البحوث والرسائل والمؤلفات ما كان منها بأقلام علماء الحنابلة ، ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه وطبقتهم فاتسع بذلك كتاب ( الكواكب الدراري ) حتى بلغ مائة وخمسين مجلدا كبيرا فقد ويا للأسف الكثير منها ، وحفظ في دار الكتب الظاهرية بضعة وأربعون مجلدا من هذا المؤلف الحافل ، بعضها من أوائل الكتاب وبعضها من أواسطه أو أواخره ، وقد تجاوز بعضها المجلد العاشر بعد المائة . وإن كثيرا من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ورسائله التي طبعة إنما استخرجت من هذا البحر الذي لا ينضب معينه .
وفي جمادى الأولى من سنة 1321 ، وكنت يافعا أتطلع إلى علم السلف بلهفة الناشئ المتزود ، عثرت في المجلد الحادي والأربعين من ( الكواكب الدراري ) على مذكرات لشاهد عيان ألمت بنواحي من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يغني عنها ما كتبها الكاتبون وألفه المؤرخون في ترجمته ، وبعض هذه المذكرات عما قام به هذا الوارث لعلم النبوة من واجب العلماء في الحياة العملية والإرشاد الفعلي ، وبعضها الآخر عما وقع للشيخ وهو مسجون في قاعة الترسيم في القاهرة .
وكاتب المذكرات خادمه إبراهيم بن أحمد الفياني الذي كان معه طول مدة حبسه في قاعة الترسيم ، ثم كان رسوله إلى دمشق عندما نقلوه إلى البرج الأخضر في الإسكندرية ومنعوا في بادئ الأمر أن يكون معه أحد .(1/1)
ومذكرات خادم الشيخ مكتوبة بلغة بين العامية والفصحى ، وكاتبها لطول صحبته بالشيخ اكتسب من علمه وصلاحه وصحة إيمانه ، إلا أنه لم يكن له ملكة العربية الفصحى ما يرفعه عن مستوى أمثاله (1) . وقد حرصت على إبقاء ألفاظه كما هي لما في ذلك من فائدة الوقوف على لغة الجمهور في ذلك الحين ، ولم أصحح غير الإعراب في مواضع قليلة من الرسالة لأن إبقاءه على غير الصواب لا فائدة منه كالفائدة التاريخية التي توقعتها من المحافظة على الألفاظ العامية ، وبهذا أعطيت الأمانة حقها بالمحافظة على ألفاظ خادم شيخ الإسلام ابن تيمية ، كما أديت للعربية حقها فيما يتعلق بالإعراب لأن مخالفته لا فائدة منها .
وقد علقت على مواضع من هذه المذكرات بما يزيدها وضوحا ولا سيما في تعيين أوقات الحوادث وتسمية أيامها ، مقتبسا ذلك مما كتبه أبو عبدالله محمد بن عبدالهادي المقدسي ( 704-744 ) في العقود الدرية وما نقله عن العالم المؤرخ علم الدين القاسم ابن محمد البرزالي الأشبيلي ( 665-739 ) والحافظ شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ( 673 – 748 ) وغيرهما من أعلام ذلك العصر .
وكان يجب أن أنشر هذه الرسالة قبل عشرات السنين ، ولكن نسختها التي كتبتها بخطي في طفولتي لم تقع في يدي إلا الآن فحمدت الله على وجودها ، فبادرت بنشرها وإحيائها ، لما أرجوه من فوائدها العلمية والتاريخية ، والله الموفق .
محب الدين الخطيب
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) * هذا القطع فيه نظر فقد يكون كتبها في سيرة الشيخ لأهله من العامة مثلا ولم تكن موجهة على أنها تأليف وتصنيف لسائر الأمة ، وثيقة تاريخية . تعليق ( م ) .(1/2)
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، وقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون .
وصلى الله على عبده ورسوله ، خير الخلق وأكرمهم على الله المصطفى المأمون ، صلاة دائمة ما دامت الأيام والدهور والسنون ، أما بعد :
فهذا فصل فيما قام به الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وتفرد به دون غيره من العلماء رضي الله عنهم ، الذين كانوا قبله وفي زمانه ، وذلك بتكسير الأحجار التي كان الناس يزورونها ، ويتبركون بها ، ويقبّلونها ، وينذرون لها النذور ، ويلطخونها بالخلوق ، ويطلبون عندها قضاء حاجاتهم ، ويعتقدون أن فيها أو لها سرا ، وأن من تعرض لها بسوء بقال أو فعال أصابته في نفسه آفة من الآفات .
فشرع الشيخ يعيب تلك الأحجار ، وينهى الناس عن إتيانها ، أو أن يفعل عندها شيء مما ذكر ، أو أن يحسن بها الظن .
فقال له بعض الناس : إنه قد جاء حديث أن أم سلمة رضي الله عنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بالتين والزيتون ، فأخذت تينة وزيتونة وربطت عليهما وعلقتهما حرزا ، وبقيت كلما جاء إليها أحد به مرض تحطه عليه فيبرأ من ذلك المرض . فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك ، فقالت : سمعتك تقرأ بالتين والزيتون ، فقلت : ما قرأ رسول الله بذلك إلا وفيه سرا أو منفعة ، فعملت تينة وزيتونة لي حرزا ، وأحسنت ظني به ، ونفعت بذلك الناس . فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به ) .(1/3)
فقال الشيخ : هذا الحديث كله من أوله إلى آخره كذب مختلق ، وإفك مفترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أم سلمة رضي الله عنها ، والذي صح وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني .. ) الحديث . و : ( أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي عبدي خيرا ) . وقال : ( لا يموتن أحدكم إلا ويحسن ظنه بالله الذي تفرد بخلقه ، وأوجده من العدم ولم يكن شيئا ، وبيده ضره ونفعه ) ، كما قال إمامنا وقدوتنا إبراهيم خليل الرحمن : { الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين . والذي يميتني ثم يحين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } فهذا الرب العظيم الكبير المتعال ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، يحسن العبد به ظنه ، ما يحسن ظنه بالأحجار ، فإن الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فأدخلتهم النار ، وقد قال الله تعالى في الأحجار وفيمن أحسنوا بها الظن حتى عبدوها من دونه : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } وقال : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستجمر من البول بثلاثة أحجار ، ما قال أحسنوا ظنكم بها ، بل قال : استجمروا بها من البول ، وقد كسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحجار التي أُحسن بها الظن حتى عبدت حول البيت وحرّقها بالنار .(1/4)
فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل الباب الصغير الذي عند درب النافدانيين فشد عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره ، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبد الله بن تيمية قال : فخرجنا لكسره ، فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسرالعمود المخلق ، فاجتمع معنا خلق كثير . قال : فلما خرجنا نحوه ، وشاع في البلدان ( ابن تيمية طالع ليكسر العمود المخلق ) صاح الشيطان في البلد ، وضجت الناس بأقوال مختلفة ، هذا يقول ( ما بقيت عين الفيجة تطلع ) ، وهذا يقول ( ماينزل المطر ، ولا يثمر شجر ) وهذا يقول : ( ما بقي ابن تيمية يفلح بعد أن تعرض لهذا ) ، وكل من يقول شيئا غير هذا .
قال الشيخ شرف الدين : فما وصلنا إلى عنده إلا وقد رجع عنا غالب الناس ، خشية أن ينالهم منه في أنفسهم آفة من الآفات ، أو ينقطع بسبب كسره بعض الخيرات .
قال : فتقدمنا إليه ، وصحنا على الحجّارين : دونكم هذا الصنم ، فما جسر أحد منهم يتقدم إليه . قال : فأخذت أنا والشيخ المعاول منهم ، وضربنا فيه ، وقلنا : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } وقلنا : إن أصاب أحد منه شيء نكون نحن فداه ، وتابعنا الناس فيه بالضرب حتى كسرناه ، فوجدنا خلفه صنمين حجارة مجسدة مصوّرة ، طول كل صنم نحو شبر ونصف .
وقال الشيخ شرف الدين : قال الشيخ النووي ( اللهم أقم لدينك رجلا يكسر العمود المخلق ، ويخرب القبر الذي في جيرون ) فهذا من كرامات الشيخ محيي الدين ( أي النووي ) . فكسرناه ولله الحمد ، وما أصاب الناس من ذلك إلا الخير والحمد لله وحده .
فصل
...(1/5)
قد بلغ الشيخ أن في المسجد الذي خلف قبة اللحم في العلافين ويعرف بإسم مسجد الكف بلاطة سوداء ، وقد شاع بين الناس أن إنسانا من قديم الزمان رأى في منامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدثه بأمور فقال : يا رسول الله ، إن حدثت الناس بالذي حدثتني لا يصدقونني . فقال له : هذا كفّي اليمين في هذه البلاطة دليلا على صدقك ، وحط كفه فيها فغاص ، فبقي فيها موضع كف وخمس أصابع ، وانعكف الناس عليه كما ذكر بالنذر له والاستسقاء ، فبلغ ذلك الشيخ ، فطلع إليها ومعه جماعته وأخوه الشيخ شرف الدين فسمعته غير مرة يحدث يقول : لما نظرت إليها قلت : هذا الكف منحوت ، مصنوع ، مكذوب فإن النحّات جاء يعمله كف يمين فعمله كف شمال ، فبقي معكوسا يجيء الخنصر مكان الإبهام ، والإبهام موضع الخنصر ، فكسرها وما بقي لها ذكر ولا أثر ولله الحمد .
فصل
... وكانت صخرة كبيرة عظيمة في وسط محراب مسجد النارنج فيتوجه المصلي إليها ضرورة ، وعليها ستر أسود مرخي ودرابزين حولها ، وقد استفاض بين الناس أنه حط عليها رأس الحسين عليه السلام فانشقت له ، وأنها متى انشقت كلها قامت القيامة ، ولها في كل سنة ـ يوم عاشوراء ـ عيد يجتمع فيه الناس ، ويبقون في ذلك اليوم وفي غيره من الأيام يتبركون بها ويقبلونها ، وينذرون لها النذور ، ويلطخونها بالخلوق ، ويدعون عندها ، فبلغ ذلك الشيخ ، فطلب الحجارين من القلعة ، وخرج إليها ومعه شرف الدين في جماعة كبيرة ، فأول شيء عمله هو قلع الدرابزين من حولها ، ونتش الستر عنها ورماه ، وصاح على الحجارين : دِه عليه ، فتأخروا عنها ، فتقدم هو وأخوه شرف الدين وضربها بنعله وقال : إن أصاب أحد منكم شيء أصابنا نحن قبله . فتقدم إليه عند ذلك الحجارون ، وحفروا عليها ، فإذا هي رأس عمود كبير قد حفر له ونزل في ذلك المكان ، فكسروه ، وحملوه على أربع عشرة بهيمة وأحرقوه كلسا .(1/6)
قال الشيخ : بعض الرافضة عمل هذا في هذا المكان ، ولوح بين الناس أن رأس الحسين حطوه على هذا الحجر ، حتى يضل به جهال الناس . قال : والرافضة من عادتهم أنهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد ويعظمونها بخلاف المساجد ، وقد قال الله سبحانه : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله اليوم الآخر } ولم يقل : ( مشاهد الله ) . وقال { وأن المساجد لله } ما قال : ( وأن المشاهد لله ) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) ما قال : من بنى لله مشهدا بنى الله له بيتا في الجنة .
وتكلم وهو جالس في هذا المكان وقال من هذا الجنس شيئا كثيرا . وقال : زيارة القبور زيارة شرعية مأمور بها ، والزيارة البدعية منهي عنها ، فالزيارة الشرعية هي التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه زار قبر أمه فقال : ( استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، فإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ) . فالكافر يزار قبره ليتذكر الآخرة ، ولا يدعى له ولا يستغفر له ، بخلاف المؤمن فإنه يزار قبره ليتذكر به الآخرة ، ويدعى له ، ويستغفر له ويترحم عليه ، ويسأل الله له من كل خير ، فإن زيارة قبره من جنس الصلاة عليه .(1/7)
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، ويرحم الله منا ومنكم المستقدمين والمستأخرين ، ونسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم ، واغفر لنا ولهم ) . فهذا كله حق للمؤمن ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم عليّ معروضة عليّ . قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : تقولون أني بليت ؟ قالوا : نعم . قال : ( إن الله حرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ) . وقد روى ابن عبد البر حديثا وصححه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما من رجل مؤمن يمر بقبر رجل مؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) .
وأما الزيارة البدعية ، فهي أن تزار القبور للتبرك بها ، أو الدعاء عندها ، أو الاستغاثة بأهلها ، أو النذر لها مثل زيت أو كسوة أو شمع أو دراهم أو يشعلون عندها السُرُج أو يصلون عندها ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جميع ذلك فقال : ( لعن الله زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسُرُج ) وقال : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) وقال : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما فعلوا ، قالت عائشة رضي الله عنها : ولولا ذلك لأُبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا . فهذه الزيارة على هذا الوجه بدعية منهيٌ عنها .
فصل(1/8)
وكان تحت الطاحون التي قبلي مسجد النارنج في الماء عند فرّاش الطاحون صنم حجر يعظّم ويستسقى به ، فكان بعض الناس يكون عنده مولود صغير وقد طال به المرض ، فيأتون به حتى يغطّسوه عند الصنم في الماء فيشفى ، ويحطّون عند الصنم خبزا وحلوى وغير ذلك . فخرج إليه الشيخ شرف الدين وأخوه تقي الدين فكسره وخلص أولاد الناس منه .
وكان عمود في حارة الفرما يقال له العمود المخلّق وكان حاله كما ذكر , فكسره وأراح الناس منه .
فصل
... وكان مع أناس حجارين حجر رخام وقد قمّعوه بقصدير ، وفي وسط الحجر أثر قدم ، دائرين في البلاد ، ويدخلون به على بيوت الكبراء والسعداء في الأسواق ويقولون لهم : هذا موضع قدم نبيكم ، فيبقى الناس يقبلونه ويتبركون به ويعطونهم الأموال لأجل ذلك ، فأمسكهم الشيخ ، فكسر ذلك الحجر ، وتهارب أصحابه من قدام الشيخ مخافة أن يضرهم .
فصل
... وجاء إنسان إلى الشيخ يوما بخبز يابس فقال له : يا سيدي قد جبت هذا من سماط الخليل على اسمك . فقال له : ما لي به حاجة ، أنا حاجتي إلى الدين الذي كان عليه الخليل ، ومتابعة ملة الخليل الذي أمر الله بها أمة محمد بمتابعتها ، ما لي حاجة بهذا الخبز ، والخليل ما عمل هذا ، ولا أمر بهذا القدس ، ولا كان يطعم ويضيف إلا اللحم , قال الله تعال : ( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ) . وأما القدس فإنه شهوة اليهود ، وقد سئل عبد الله بن المبارك رضي الله عنه فقيل له : جاء حديث أن القدس قدّسه سبعون نبيا ، فقال : لا ، ولا نصف نبي .
فصل(1/9)
ولماكان الشيخ في ديار مصر (1)
__________
(1) نقل الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي في ص 196ـ 198 وص 248ـ 253 من كتابه العقود الدرية عن الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ( 673ـ 748 ) وغيره أن مسير شيخ الإسلام من دمشق إلى مصر في رمضان سنة 705 بسعاية أعدائه لدى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، فكتب إلى نائب دمشق الأفرم بأن يرسله هو والقاضي نجم الدين ابن صصري على البريد ، فوصلا القاهرة يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان وفي اليوم التالي عقد له بعد صلاة الجمعة مجلس برئاسة قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف كان فيه هو المدعي وهو الحاكم ، وأقام الشيخ مرسما عليه ، وحبس في برج أياما ، ثم نقل ليلة عيد الفطر إلى الحبس المعروف بالجب بقلعة الجبل هو وأخواه شرف الدين عبدالله وزين الدين عبدالرحمن ، وسجن وبقي سنة ونصف . وفي شهر ربيع الأول سنة 707 دخل الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى مصر ، وحضر بنفسه إلى الجب ، وأخرج الشيخ بعد أن استأذن في ذلك فخرج يوم الجمعة 23 ربيع الأول إلى نائب السلطنة بالقلعة . وعقدت له مجالس مناظرة كان القضاة يتهربون منها بحجة المرض وغيره . وأقام الشيخ بدار ابن شقير بالقاهرة ، ووصلت الأخبار إلى دمشق بإطلاقه فكان السرور عاما وشاملا ، وأقام بمصر يقرئ العلم ويجتمع عنده خلق . وتكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود ، فأخرج على البريد مساء الأربعاء 12 شوال سنة 707 إلى بلاد الشام ، ثم ردوه في يوم الخميس وهو على مرحلة من مصر ، وسجنوه أولا بسجن الحاكم بحارة الديلم ليلة الجمعة 19 شوال . ووجد المحابيس مشتغلين باللهو ويضيعون الصلاة ، فمازال يرغبهم في الخير حتى صار الحبس بما فيه خيرا من الزوايا والمدارس ، وكثر المترددون على الحبس ، والظاهر أنه نقل من هنا إلى حبس القضاة ولعله هو الذي يسمى ( قاعة الترسيم ) فلبث فيه سنة ونصف سنة ..وكان أصحابه يدخلون إليه في السر ، ثم تظاهروا ، فأخرجته الدولة على البريد إلى الإسكندرية ، وحبس ببرج منها ، وأشيع بأنه قتل ، وأنه غرق غير مرة ، فلما عاد السلطان الناصر من الكرك وشرد أضداده بادر باستحضار الشيخ إلى القاهرة مكرما ، واجتمع به وحادثه وساره بحضرة القضاة والكبار وزاد في إكرامه ، ونزل وسكن في دار واجتمع بعد ذلك بالسلطان ، فلما قدم السلطان إلى الديار الشامية لكشف العدو عن الرحبة عاد الشيخ إلى دمشق سنة 712 .(1/10)
كان ينهى عن إتيان المشاهد وتعظيمها ، وأعظم المشاهد بالقاهرة مشهد الحسين (1) فإن أمره عظيم ، فإن جميع ما ذكر من البدع والضلال يقام عنده وأضعاف ذلك ، حتى إذا غلظ أحد اليمين يحلفه عند مشهد الحسين ، فكان الشيخ ينهاهم عن ذلك وينكره بجنابه وحاله ، وقال : إن السلف ومن اتبعهم كانوا إذا حلّفوا أحدا وغلّظوا عليه اليمين يحلّفونه بين المحراب والمنبر ، ولم يحلِّفوه عند قبور أو أثر ، قال : وأما الحسين رضي الله عنه وعن سلفه ولعن قاتله فما حمل رأسه إلى القاهرة ، فإن القاهرة بناها الملك المعز في أوائل المائة الرابعة ، والحسين عليه السلام قتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ، ودفنت جثة الحسين حيث قتل . وقد روى البخاري في تاريخه أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن بها في البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها . وبعض العلماء يقول إنه حمل إلى دمشق ودفن بها (2) . فبين مقتل الحسين وبين بناية القاهرة نحو مائتين وخمسين سنة . فإنه من المتواتر أن القاهرة بنيت بعد بغداد ، وبعد البصرة والكوفة وواسط ، فأين هذا من هذا ؟ .
... وقد ذكر صاحب الكتاب الذي سماه ( العلم المشهور في فضل الأيام والشهور ) وصنف هذا الكتاب للملك الكامل رحمه الله ، ذكر فيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد الملاحدة الزنادقة ملوك مصر في أواخر سنة خمسين وخمسمائة ، وقرض الله دولة بني عبيد بعد بنائهم لهذا المشهد بنحو أربع عشرة سنة ، وهذا مشهد الكذب والمين ، ما هو مشهد الحسين .
__________
(1) لم يكن مشهد السيدة زينب معروفا مقصودا يومئذ ، وإنما أحدث له هذا البناء عبدالرحمن كتخدا سنة 1173 هـ .
(2) في مسجد بني أمية في الجدار الشرقي منه بأقصى الشمال قبل ملتقى الجدار الشرقي بالجدار الشمالي باب يفضي منه إلى مشهد كبير اسمه مشهد الحسين في داخله قبر يقال أنه دفن به رأس الحسين عليه السلام .(1/11)
وكلام العلماء في ذم بني عبيد القداح مشهور ، وفي ذم مذاهبهم وما كانوا عليه ، قال الشيخ أبو حامد الغزالي : ظاهرهم الرفض ، وباطنهم الكفر المحض .
وكان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق رحمه الله في زمن بني عبيد في ديار مصر ، وكان يفتي أنه لا تحل ذبائح بني عبيد ، ولا نكاحهم ، ولا يصلى خلفهم . وكان يغلظ في أمرهم .
وبلغ نور الدين بن زنكي حالهم وما هم عليه ، فسأل العلماء في قتالهم وأخذ البلاد منهم ، فأفتاه العلماء بذلك ، وكتبت بذلك محاضر ، وأثبتت على الحكام ، فسير صلاح الدين ومن معه جيش عظيم ، فغزاهم وفتح البلاد منهم .
وبعض الجهال يظن أن بني عبيد كانوا شرفاء من ذرية فاطمة (1)
__________
(1) قال القاضي ابن خلكان في ترجمة المهدي العبيدي من كتابه وفيات الأعيان : إن أهل العلم بالأنساب ينكرون دعواه في النسب وزوج أم المهدي هو الحسين بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن ميمون القداح ، قال : وسمي قداحا لأنه كان كحالا يقدح العين إذا نزل فيها الماء .
... وفي ( مختصر الفرق بين الفرق ) ص 170ـ 171 أن نفرا عرفوا بآل حمدان مختار اجتمعوا مع الملقب بديدان ـ وهو محمد بن الحسين ـ وميمون بن ديصان ( أي القداح ) في سجن والي العراق وأسسوا في ذلك السجن مذهب الباطنية ، ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن ، وابتدأ ديدان بالدعوة من جهة الجبل فدخل في دينه جماعة من أكراد الجبل ، ثم رحل ميمون إلى ناحية المغرب وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب ، فلما دخل دعوته قوم من غلاة الرافضة والحلولية إدعى أنه من ولد محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق ، فقبل الأغبياء منه ، مع علم أصحاب الأنساب بأن محمد بن اسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب . ثم ظهر سعيد بن أحمد بن عبيدالله بن ميمون القداح فقال لأتباعه : أنا عبيدالله بن الحسين بن ميمون بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق ، ثم ظهرت فتنته بالمغرب . قال المصنف : وأولاده اليوم ( أي في عصر مؤلف الفرق بين الفرق ) مستولون على أعمال مصر .(1/12)
وأنهم كانوا صالحين ، وإنما كانوا زنادقة ملاحدة قرامطة باطنية وإسماعيلية ونصيرية ، ومن عندهم طلع الرفض إلى الشام وإلاّ قبل ذلك ما كان يعرف الرفض في الشام وبقاياهم في ديار مصر إلى اليوم (1) .
وكانت قصورهم بين القصرين , وكانوا ينادون ( كل من لعن وسب ، فله دينار وأردب ) . فبينما انسان منهم يلعن عائشة وانسان مغربي أنكر عليه ، فتحاملوا إلى عند الحاكم ، فقال له الحاكم : لم أنكرت عليه ؟! ، قال المغربي : إن امرأة جدي اسمها عائشة ، وقد ربتني وأحسنت إلي ، فلما سمعته يلعنها ما هان علي . فقال له الحاكم : ذا ما يلعن امرأة جدك أنت ، ذا يلعن امرأة جدي أنا . فقال له المغربي : منك إليه ! .
ورأيت رجلا من أهل القاهرة جاء إلى الشيخ بالقاهرة بعد مجيئه من اسكندرية (2) فقال له : إن أبي حدثني عن أبيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد ، وأن رأس الحسين ما جاء إلى ديار مصر ، لكن جرت واقعة ، أني وأنا صغير كنت أجري فوق سطح هذا المشهد ، وما له عندي حرمة بما حدثني أبي عنه ، فبينما أنا نائم ليلة وأنا أرى عجوزا زرقاء العينين شمطاء الرأس ومعها قيد ، فحطته في رجلي وقالت : تتوب ولا تعود تجري فوق سطح المشهد ؟ فقلت : التوبة ، التوبة ما بقيت أعود ، فقعدت وأنا مرعوب . فقال الشيخ : وهذا أيضا حجة لي على صحة ما أقوله ، فإن هذه شيطانة هذا الموضع ، وهي التي تزينه للناس . وكذلك لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد رضي الله عنه بقطع العُزّى فقال له : ( لماّ قطعت العُزّى أي شيء رأيت خرج ؟ ) فقال : خرجت منها عجوز شمطاء هاربة نحو اليمن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( تلك شيطانة العُزّى ) . وسمعت الشيخ غير مرة يحكيها للناس .
فصل
في كشف حال بني عبيد
__________
(1) أي أوائل القرن الثامن الهجري ، زمن كتابة هذه الرسالة .
(2) كان مجيئه من الإسكندرية إلى القاهرة في شوال 709 .(1/13)
سمعت الشيخ يحكي غير مرة في مجالسه يقول : زرت يوما المارستان المنصوري ، فجاء إلي أناس فقالوا لي : تصدق وزر المارستان العتيق فرحت معهم أزوره ، فقالوا لي : ألا تزور قبور الخلفاء ؟ ـ يعنون بني عبيد ـ فرحت معهم إلى قبورهم ، فوجدت قبورهم إلى القطب الشمالي : فتكلم عليهم وعلى مذاهبهم فقال الحاضرون : نحن نعتقد أن هؤلاء قوم صالحون ، لأنّا إذا مغلت عندنا الخيل (1) نجيء بها إلى قبور هؤلاء فتبرأ ، فلولا أنهم صالحون ما برأت الدواب من المغل عند قبورهم ، فقلت : وهو حجة أيضا على صحة ما أقوله فيهم ، فإن المغل من برد يحصل للدواب ، فإذا جيء بها إلى قبور اليهود والنصارى في الشام ، وإلى قبور المنافقين كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية ، فإن الدواب إذا سمعت أصوات المعذبين في قبورهم تفزع فيحصل لها حرارة تذهب بالمغل الذي حصل لها . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما راكبا على بغلته فحادت حتى كادت تلقيه عن ظهرها ، فقالوا : ما شأنها يا رسول الله ؟ فقال : ( إنها سمعت أصوات يهود تعذب في قبورها ) وقال الشيخ : إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم ، فما يروح أصحاب الدواب بها إلى قبر الشافعي ولا إلى قبر أشهب (2) فإن عند قبورهم تنزل الرحمة . وتكلم شيئا كثيرا من هذا الجنس ما ينحصر ، وهذا شيء منه .
فصل
__________
(1) المغل : مغص يأخذ الدواب .
(2) هو أبو عمر أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي ، ولد سنة 145 وتوفي سنة 204 رحمه الله ، كان فقيه الديار المصرية في القرن الثاني للهجرة ، وكان صاحب الإمام مالك رحمه الله ، قال الإمام الشافعي : ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه . قيل : اسمه مسكين ، وأشهب لقب له ، مات بمصر .(1/14)
ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم دخل إلى عنده ثلاثة رهبان من الصعيد ، فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار وما هم على الدين الذي كان عليه ابراهيم والمسيح (1) . فقالوا له : نحن نعمل مثل ما تعملون ، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة ونحن نقول بالسيدة مريم ، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة ، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك . فقال لهم : وإن من فعل ذلك ففيه شبه منكم ، وهذا ما هو دين ابراهيم الذي كان عليه فإن الدين الذي كان ابراهيم عليه أن لا نعبد إلا الله وحده ، لا شريك له ، ولا ند له ، ولا صاحبة له ، ولا ولد له ، ولا نشرك معه ملكا ولا شمسا ولا قمرا ولا كوكبا ، ولا نشرك معه نبيا من الأنبياء ولا صالحا { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وإن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره ، مثل إنزال المطر ، وانبات النبات ، وتفريج الكربات ، والهدى من الضلالات ، وغفران الذنوب فإنه لا يقدر أحد من جميع الخلق على ذلك ، ولا يقدر عليه إلا الله .
__________
(1) لشيخ الأسلام ابن تيمية كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) في أربعة أجزاء بأكثر من 1400 صفحة طبع في القاهرة سنة 1322 دل به على أنه لا نظير له في فهم التوراة والإنجيل وحسن الاستدلال بهما وبيان الحقائق عنهما ، وقد ألفه جوابا على كتاب ورد إليه من قبرص في هذا الموضوع .(1/15)
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام نؤمن بهم ونعظمهم ونوقرهم ونتبعهم ونصدقهم في جميع ما جاءوا به ونطيعهم كما قال نوح وصالح وهود وشعيب : { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده والطاعة لهم ، فإن طاعتهم من طاعة الله , فلو كفر أحد بنبي من الأنبياء وآمن بالجميع ما نفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي ، وكذلك لو آمن بجميع الكتب وكذَّب بكتاب كان كافرا حتى يؤمن بذلك الكتاب وكذلك الملائكة واليوم الآخر ، فلما سمعوا ذلك منه قالوا : الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن عليه وهؤلاء عليه ، ثم انصرفوا من عنده .
فصل(1/16)
لما كان الشيخ في قاعة الترسيم ، وكان الشيخ العارف القدوة شمس الدين الدباهي قد طلع من الشام إلى مصر حتى يصلح بين الشيخ وبين الشيخ نصر المنبجي ، فكتب ورقة فيها : ( الطفيلي على الله محمد بن الدباهي يسأل من الشيخين الصالحين - شيخ المشايخ أبي الفتح نصر المنبجي ، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية - أنهما يتفقان على طاعة الله ورسوله بحسب ما يمكنهما ) وذكر أشياء يلتزمانها بحسب الإمكان ويتفقان عليها . وجاءت الورقة إلى الشيخ فقال : إني أجيب إلى ذلك . فراح بها إلى الشيخ نصر فوجد عنده المشايخ التدامرة - أبا بكر والشيخ ابراهيم أولاد بروان - فقام الشيخ نصر من مجلسه وأقعد الشيخ شمس الدين فيه وعظّمه تعظيما كبيرا , فأوقفه على الورقة ، فقال له : يا سيدي ، ولم كتبت إلى الشيخ مثل هذه وما سمع منا بعد كلام كثير ؟ ، فقال له : اكتب أنك أجبت إلى ذلك . فقال : إن كتب الشيخ كتبت . فقال له : والله على ما تقول وكيل ؟ ، فقال : نعم . فسير الورقة إلى الشيخ ، فكتب : أجبت إلى ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكتبه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية . وجاب الرسول الورقة إليه ، فقال له الشيخ شمس الدين : اكتب مع الشيخ مثل ما قلت وعاهدت الله عليه . فقال : ما بقيت أكتب شيئا . فقال له شمس الدين : عاديتك في الله ، وكشف رأسه وقال : ثم نبتهل ، ثم نبتهل ، وقام ونزل من عنده .(1/17)
فسير الشيخ نصر إلى والي المدينة أن يكبس بيت ابن تيمية ، ويمسك أصحابه ويحطهم في الحبس ، فسير الوالي نائبه فكبس البيت ، وكان قصدهم أن يمسكوا شرف الدين أخا الشيخ ، فهربوه من فوق السطح ، وأمسك أصحاب الشيخ وجابهم إلى الوالي ، فحطهم في قاعة عند بيته ومنعوا الناس من الدخول إلى عند الشيخ (1) ثم بعد أيام عزل الوالي ، فسيب الجماعة ، فتأخر عنده زين الدين أخو الشيخ ، فسير إلى القاضي ابن مخلوف برسالة الشيخ نصر فأمسك زين الدين وحبسه عند الشيخ في قاعة الترسيم .
__________
(1) نقل ابن عبدالهادي في العقود الدرية ص371 عن الشيخ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي الإشبيلي ( 665 ـ 739 ) من معاصري شيخ الإسلام ابن تيمية ما يأتي : في ليلة الأربعاء 20 من شوال سنة 708 طلب الشيخ شرف الدين أخو الشيخ تقي الدين فوجد زين الدين وعنده جماعة ، فرسم عليهم ولم يوجد شرف الدين ، ثم أطلق الجماعة سوى زين الدين فإنه حمل إلى المكان الذي فيه الشيخ وهو قاعة الترسيم في القاهرة ، ثم أخرج في خامس صفر سنة 709 .(1/18)
وفي تلك الأيام سرق مملوك زين الدين له قماش نفته ومروزي وغيره وسافر به ، ومرض زين الدين فطلب الحمام فراح السجان وخادم الشيخ ابراهيم بن أحمد الفياني إلى القاضي ، فقال له خادم الشيخ : هذا إن كان في حبسك فاكتب له ورقة اعتقال ، وإن كان ما هو في حبسك فلم ترسم عليه ؟ فقال : ما هو في حبسي ، أنا بلغني أنه يطلب يخدم أخاه ما استحللت منعه . فقال له : أخوه رجل تاجر يريد وحده عشرة تخدمه ، والشيخ أنا أخدمه ، وقد قال نائب السلطان وغيره إنهم ما رسموا بحبس زين الدين ، والشيخ يفتي بأن القماش الذي سرق لزين الدين يلزمك ، ويقول السجان : ما هو في حبسي ولا نخليه يطلع . فقال له : إذا نزلت في بيتي عد تعال إلى عندي مع السجان . قال ابراهيم : ثم حدثنا الشيخ بذلك فقال لزين الدين : قم اطلع ؟ هذا القاضي قد تبرأ من قضيتك . فقال السجان : حتى يروح إلى القاضي مثلما رأيتم . فقال الشيخ إن الظلمة وأعوان الظلمة يحطون يوم القيامة في توابيت من نار ، ثم يقذفون في الجحيم ، قال الله تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } فقال : أنا ما أجسر أقول له هذا ، ثم أنه رسم بأن يخرج ، فقال الشيخ : ما بقي يخرج ، فأرسل القاضي ابنه محب الدين يسأله مرارا متعددة حتى خرج .(1/19)
وفي تلك الأيام جاء المشايخ التدامرة - ابراهيم وأبو بكر - إلى الشيخ وقالوا له : قد اجتمعنا بهؤلاء القائمين عليك ، وقالوا قد بُلشنا به ، والناس تلعننا بسببه ، وقد قلنا أنا قد أخذناه بحكم الشرع في الظاهر ، فليبصر شيئا لا يكون علينا ولا عليه فيه رد فيكتبه لنا ونتفق ونحن وهو عليه . فلما قالوا له ذلك قال لهم : أنا منشرح الصدر ، وما عندي قلق ، وهم برّا الحبس فلم يقلقون ؟ . وكتب : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله يرضى لكم ثلاثة ، أن تعبدوه لا تشركون به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تتفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ) رواه مسلم . فخرجوا من عنده على ذلك .(1/20)
ثم أنهم بعد أيام جاءوا إلى عنده وقالوا له : قد وقفوا على الورقة وقالوا : هذا رجل محجاج خصم ، وما له قلب يفزع من الملوك ، وقد اجتمع بغازان ملك التتر وكبار دولته وما خافهم ، ومتى اجتمع بالسلطان والدولة وقرأ عليهم كتاب الفصوص الذي كانت الفتنة بسببه قتلونا أو قطعونا من المناصب ويقال عنا : أنه ما خرج من الحبس حتى دخلتم تحت ما شرط عليكم . ابعثوا أنتم اشرطوا عليه ما أردتم ، فإن لم يدخل تحته تكونوا قد عذرتم فيه . فلما أخبره بذلك المشايخ التدامرة قالوا : يا سيدي قد حملونا كلام نقوله لك ، وحلفونا أنه ما يطلع عليه أحد غيرنا أن تنزل لهم عن مسألة العرش (1) ومسألة القرآن (2) ونأخذ خطك بذلك نوقف عليه السلطان ونقول له : هذا الذي حبسنا ابن تيمية عليه قد رجع عنه ونقطع نحن الورقة . فقال لهم : تدعونني أن أكتب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد ، ولا في المصاحف قرآن ، ولا لله في الأرض كلام ، ودق بعمامته الأرض وقام واقفا ورفع برأسه إلى السماء وقال : اللهم إني أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك ، وأن هذا الشيء ما أعمله ، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين ، نفذت فيهم سهام الله والله لتقلبن دولة بيبرس أسفلها أعلاها ويكون أعز من فيها أذل من فيها ولينتقمن الله من الكبير والصغير ، وكم أجد عليهم ولا أدعو عليهم . فقلت أنا وشرف الدين بن سعد الدين : شيخ الإسلام الأنصاري (3) عرض على السيف أربع عشرة مرة لا يقال له ( وافقنا ) إلاّ سكت ويقول : أقتل ولا يسعني أن أسكت عمّن خالفني .
__________
(1) أي مسألة الاستواء التي قال فيها الإمام مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب .
(2) أنه كلام الله غير مخلوق .
(3) كذا في الأصل ، ويحتمل أن تكون هذه الكلمة محرفة .(1/21)
وكان الشيخ سكت عنهم في دمشق ، وما كان جرى شيء من هذا ، وهم انفلتوا فينا بالسب والشتم ، وما عليه أضر من أصحابه ، ثم خرجوا من عنده .
وبعد ذلك جاء إلى عند الشيخ رجل يقال له الشيخ علي الفرا له منامات خوارق فقال : رأيت في منامي كأن البحر قد زاد حتى دخل الماء في جميع حارات المدينة ، وهو أسود مثل القطران وهو يغلي مثل القدر على النار ، والشيخ راكب سفينة وقد ركب معه جماعة يسيرة وهو يقول : النجاء ، النجاء ، وقد طلعت به من باب السعادة حتى جاءت به إلى باب اللوق ، وإذا بالسلطان سنقر راكب فيلا وخلفه راكب القاضي ابن مخلوف والشيخ نصر ، وأنا أقول : يا سيدي كيف نعمل حتى نخرج من هذا الكدر الذي نحن فيه إلى البحر الصافي وهذا الفيل في طريقنا ؟ وأنت تقرأ { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } إلى آخرها ، وما أصابت السفينة إلا أنها قد صارت في البحر الكبير .
ثم بعد أيام جاء إلى عند الشيخ شمس الدين بن سعد الدين الحراني وأخبره أنهم يسفّرونه إلى الإسكندرية ، وجاءت المشايخ التدامرة وأخبروه بذلك ، وقالوا له : كل هذا يعملونه حتى توافقهم ، وهم عاملون على قتلك ، أو نفيك ، أو حبسك . فقال : لهم : أنا إن قتلت كانت لي شهادة ، وإن نفوني كانت لي هجرة (1) ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني وإن حبسوني كان لي معبدا ، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت ، تقلبت على صوف . فيئسوا منه وانصرفوا .
__________
(1) ومثل هذا ما نقله الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب المتوفى سنة 795 في ترجمته لشيخ الإسلام من كتابه طبقات الحنابلة عن شيخه أبي عبد الله شمس الدين بن القيم أنه سمع شيخ الإسلام يقول : ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري ، اينما رحت لا تفارقني ، أنا حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة .(1/22)
فلما كان بعد في صلاة المغرب جاء نائب والي المدينة بدر الدين المحب بن عماد الدين بن العفيف ومعه جماعة فقال : يا سيدي ، باسم الله . فقال الشيخ : إلى أين ؟ قال : إلى الإسكندرية قد رسم السلطان بذلك الساعة . فقال له : لو كنتم أخبرتموني بذلك حتى تجهزت للسفر وأخذت معي نفقة . فقال له : قد أمرت لك ولأصحابك ما يكفيك . فقال له أنا الليلة ما أسافر . فقال له : ما يمكنني أن أخالف مرسوم السلطان . فقال له : معك مرسوم بأن تسخطني ؟ فقال : لا ، وقام خرج من عنده ، فغلق السجان باب الحبس ، وراح .
فلما كان ثاني يوم ، جاء الشيخ عبد الكريم ابن أخت الشيخ نصر وحلف أن الشيخ نصر ما عنده علم عن هذا ، وانصرف .
فلما كان بعد صلاة العصر وقفت أبكي ، فقال لي الشيخ : لا تبك ، ما بقيت هذه المحنة تبطئ ، فقلت له أفتح لك في المصحف ؟ فقال : افتح ، فطلع قوله تعالى : { واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ، فقال : افتح في موضع آخر ، فطلع قوله تعالى : { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون } إلى آخرها ، فقال : افتح آخر ، فطلع قوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه . . . } إلى آخرها .(1/23)
فلما صلينا المغرب ، وأنزل الله عليه من النور والبهاء والجمال شيئا عظيما ، وأشرت إلى . . . (1) كأن وجهه شمع يجلوه مثل العروس ، حتى إذا راق الليل جاء نائب الوالي فقال : باسم الله ، باسم الله . فبقوا يودعونه ويبكون ويدعون عليهم بدعاء مختلف ، أقله أن يسلبهم الله نعمته ، وركب على باب الحبس ، فقال له إنسان : يا سيدي هذا مقام الصبر. فقال له : بل هذا مقام الحمد والشكر ، والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قسم على أهل الشام ومصر لفضل عنهم ، ولو أن معي في هذا الموضع ذهبا وأنفقته ما أديت عُشر هذه النعمة التي أنا فيها (2) .
__________
(1) في مكان هذه النقط ( المحسنين ) ولعلها ( المحبوسين ) .
(2) ونقل الحافظ ابن رجب عن شيخه شمس الدين بن القيم أن شيخ الإسلام كان يقول في حبسه : لو بذلت ملئ هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة . أو قال : ما جازيتهم على ما ساقوا إليّ من الخير .(1/24)
وخرج من باب السعادة ، وركبنا في البحر إلى ذلك البر فلقينا أمير يقال له بدر الدين طبر أمير عشرة مقدم مائة ، فمنعنا من السفر مع الشيخ وقال : ما معي مرسوم أن يجيء أحد مع الشيخ (1) ، فقال الشيخ : يا إبراهيم أنزل إلى الشام ، وقل لأصحابنا : وحق القرآن ـ ثلاث مرات ـ ما بقيت هذه المحنة تبطئ ، وتنفرج قريبا فوق ما في النفوس ، ويقلب الله مملكة بيبرس أسفلها أعلاها (2)
__________
(1) قال الشيخ علم الدين البرزالي : وفي الليلة الأخيرة من شهر صفر سنة 708 وهي ليلة الجمعة توجه الشيخ تقي الدين من القاهرة إلى الإسكندرية مع أمير مقدم ، ولم يمكن أحد من جماعته من السفر معه ووصل هذا الخبر إلى دمشق بعد عشرة أيام فحصل التألم لأصحابه ومحبيه ، وضاقت الصدور ، وتضاعف الدعاء له . وبلغنا أن دخوله الإسكندرية كان يوم الأحد ، دخل من باب الخوخة إلى دار السلطان ، ونقل ليلا إلى برج في شرقي البلد ، ثم وصلت الأخبار أن جماعة من أصحابه توجهوا بعد ذلك ، وصار الناس يدخلون إليه .
(2) هو ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، وقد تم ما قاله شيخ الإسلام وزال سلطانه والشيخ في السجن ، وعقب ذلك خرج الشيخ من سجنه مكرما واحتفى به السلطان الملك الناصر حفاوة فوق الذي يكون للملوك ، وأراد أن يعاقب الذين آذوه فمنعه الشيخ من ذلك .
... وكان السلطان الناصر قد خلع بتواطؤ أعدائه من الحكام ورجال الجيش مع العلماء الرسميين والفقهاء ، وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، وكانت إقامة الناصر في تلك الفترة بمدينة الكرك بشرق الأردن ، ثم انقلبت الحال على أعدائه فعاد إلى أريكة الحكم . والعجيب أن الذين تواطأوا عليه من الحكام والعلماء الرسميين هم الذين كانوا أيضا متواطئين على شيخ الإسلام ابن تيمية . ولو شاء الشيخ بعد انقلاب الحال أن يقتص منهم بحقه جزاء بغيهم عليه لفعل ، لكنه عفا وصفح . قال قاضي المالكية ابن مخلوف : ما رأينا أتقى لله من ابن تيمية ، لم نبق ممكنا في السعي فيه ، ولما قدر علينا عفا عنا .(1/25)
وليجعلن الله أعز من فيها أذل من فيها .
... فلما رجعنا بعد أن ودّعناه انكسر في تلك الليلة البحر ، ونقص الماء ، وغلا الخبز وغيره ، وما بقي شيء يُلتقى ، وبقيت الناس تلعنهم ويقولون : غرّقوا ابن تيمية في البحر ، ما بقي يطلع . فطلع جماعة من أكابر اسكندرية وصلحائها التقوا الشيخ ، وقعد في البرج الأخضر حتى طلع السلطان الناصر من الكرك ، وهرب بيبرس من السلطنة وسير بطلبه مكرما (1) .
( تمت مذاكرات خادم الشيخ )
رسالتان من شيخ الإسلام ابن تيمية
وهو في مصر إلى دمشق
أوردهما الحافظ ابن عبد الهادي في العقود الدرية :
الرسالة الأولى : إلى والدته .
الرسالة الثانية : إلى أصحابه وتلاميذه .
الرسالة الأولى : إلى والدته .
من أحمد ابن تيمية إلى الوالدة السعيدة ، أقر الله عينها بنعمه ، وأسبغ عليها جزيل كرمه ، وجعلها من خيار إمائه وخدمه .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وهو للحمد أهل ، وهو على كل شيء قدير ، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين ، وإمام المتقين ، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
__________
(1) قال الحافظ ابن عبد الهادي المقدسي في العقود ( ص 277 ) بقي الشيخ بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيما ببرج مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر ، يدخل إليه من شاء ، ويتردد عليه الأكابر والأعيان والفقهاء ويقرأون عليه ويستفيدون منه . فلما دخل السلطان الناصر إلى مصر ، وكان قدومه يوم عيد الفطر سنة 709 ، أنفذ لإحضار الشيخ من الإسكندرية في اليوم الثامن من شوال . وخرج الشيخ منها متوجها إلى مصر ومعه خلق من أهلها يودعونه ويسألون الله أن يرده إليهم ، وكان وقتا مشهودا . ووصل إلى القاهرة يوم السبت 18 الشهر ، واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة 24 منه وأكرمه وتلقاه في مجلس حفل به قضاة المصريين والشاميين والفقهاء وأصلح بينه وبينهم .(1/26)
كتابي إليكم عن نعم من الله عظيمة ، ومنن كريمة ، وآلاء جسيمة ، نشكر الله عليها ونسأله المزيد من فضله ، ونعم الله كلما جاءت في نمو وازدياد ، وأياديه جلت عن التعداد .
وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا . ولسنا والله مختارين البعد عنكم ، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم ، ولكن الغائب عذره معه ، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور فإنكم ولله الحمد ما تختارون الساعة إلا ذلك . ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا ، بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم . وادعوا لنا بالخيرة ، فنسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخيرة في خير وعافية ، ومع هذا فقد فتح الله من أبواب الخير والرحمة والهداية والبركة ما لم يكن يخطر بالبال ، ولا يدور في الخيال .
ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر ، مستخيرون الله سبحانه وتعالى ، فلا يظن الظان أنّا نؤثر على قربكم شيئا من أمور الدنيا قط ، بل ولا نؤثرمن أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه ، ولكن ثم أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
والمطلوب كثرة الدعاء بالخيرة ، فإن الله يعلم ولا نعلم ، ويقدر ولا نقدر ، وهو علام الغيوب ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من سعادة ابن آدم استخارة الله ، ورضاه بما يقسم الله له ، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله ، وسخطه بما يقسم الله له ) . والتاجر يكون مسافرا فيخاف ضياع بعض ماله ، فيحتاج أن يقيم حتى يستوفيه . وما نحن فيه أمر يجل عن الوصف ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كثيرا كثيرا ، وعلى سائر من بالبيت من الكبار والصغار وسائر الجيران والأهل والأصحاب واحدا واحدا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .
الرسالة الثانية : إلى أصحابه وتلاميذه .(1/27)
بعد حمد الله تعالى ، والصلاة على نبيه ، أما بعد :
فإن الله وله الحمد قد أنعم عليّ من نعمه العظيمة ، ومننه الجسيمة ، وآلائه الكريمة ، ما هو مستوجب لعظيم الشكر والثبات على الطاعة ، واعتياد حسن الصبر على فعل المأمور ، والعبد مأمور بالصبر في السراء أعظم من الصبر في الضراء ، قال تعالى : { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } .
وتعلمون أن الله سبحانه منّ في هذه القضية من المنن التي فيها من أسباب نصر دينه ، وعلو كلمته ، ونصر جنده ، وعزة أوليائه ، وقوة أهل السنة والجماعة ، وذل أهل البدعة والفرقة , وتقرير ما تقرر عندكم من السنة ، وزيادات على ذلك بانفتاح أبواب من الهدى والنصر وظهور الحق لأمم لا يحصي عددهم إلا الله تعالى ، وإقبال الخلائق إلى سبيل السنة والجماعة ، وغير ذلك من المنن ما لابد معه من عظيم الشكر ، ومن الصبر ، وإن كان صبرا في سراء .
وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين تأليف القلوب ، واجتماع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، فإن الله تعالى يقول : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ويقول : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ويقول : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف ، وتنهى عن الفرقة والاختلاف ، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة ، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة .(1/28)
وجماع السنة طاعة الرسول ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة : ( إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم ) وفي السنن من حديث زيد بن ثابت وابن مسعود ـ فقيهي الصحابة ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( نضَّر الله امرءا سمع منّا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : اخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم ) وقوله ( لا يغل ) أي لا يحقد عليهن ، فلا يبغض هذه الخصال قلب المسلم ، بل يحبهن ويرضاهن .
وأول ما أبدأ به من هذا الأصل ما يتعلق بي ، فتعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين فضلا عن أصحابنا بشيء أصلا ، لا باطنا ولا ظاهرا ، ولا عندي عتب على أحد منهم ولا لوم أصلا ، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف ما كان ، كل بحسبه . ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدا مصيبا ، أو مخطئا ، أو مذنبا ، فالأول مأجور مشكور ، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له ، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين .
فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل : فلان قصر ، فلان عمل ، فلان أوذي الشيخ بسببه ، فلان كان سبب هذه القضية ، فلان كان يتكلم في كيد فلان ، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان ، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام ، إلاّ أن يكون له من حسنة ، وممن يغفر الله له إن شاء ، وقد عفا الله عما سلف .(1/29)
وتعلمون أن ما جرى من نوع تغليظ أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان مما كان يجري بدمشق ، وما جرى الآن بمصر فليس ذلك غضاضة ولا نقصا في حق صاحبه ، ولا حصل بسبب ذلك تغير منا ولا بغض ، بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدرا ، وأنبه ذكرا ، وأحب وأعظم ، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التي يصلح بها بعضهم ببعض ، فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة ، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما يحمد معه ذلك التخشين .
وتعلمون أننا جميعا متعاونون على البر والتقوى ، واجب علينا نصر بعضنا بعضا أعظم مما كان وأشد ، فمن رام أن يؤذي بعض الأصحاب أو الإخوان لما قد يظنه من نوع تخشين عومل به بدمشق أو بمصر الساعة أو غير ذلك فهو الغالط ، وكذلك من ظن أن المؤمنين يبخلون عما أمروا به من التعاون والتناصر فقد ظن ظن سوء { وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } وما غاب عنا أحد من الجماعة ، أو قدم إلينا الساعة أو قبل الساعة ، إلا ومنزلته عندنا اليوم أعظم مما كانت وأجل وأرفع .
وتعلمون رضي الله عنكم أن ما دون هذه القضية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الآراء ، واختلاف الأهواء ، وتنوع أهل الإيمان ، وما لابد منه من نزغات الشيطان ما لا يتصور أن يعرى عنه نوع الإنسان ، وقد قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } .(1/30)
بل أنا أقول ما هو أبلغ من ذلك (1) تنبيها بالأدنى على الأعلى ، وبالأقصى على الأدنى ، تعلمون كثرت ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة والأغاليط المظنونة ، والأهواء الفاسدة ، وأن ذلك أمر يجل عن الوصف ، وكل ما قيل من كذب وزور في حقنا خير ونعمة قال تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم . لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ما رد به إفك الكاذب وبهتانه ، فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم ، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي ، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلّ من جهتي ، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم ، وإلا فحكم الله نافذ فيهم . فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية ، لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة ، لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، وأهل القصد الصالح يشكرون على عملهم ، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم . وأنتم تعلمون هذا من خلقي والأمر أزيد مما كان وأوكد ، لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض ، وحقوق الله عليهم فيها تحت حكم الله .
__________
(1) أي مما تقدم من كلامه عن اختلاف آراء الناس وأهوائهم في مثل هذه القضية وما هو دونها .(1/31)
وأنتم تعلمون أن الصديق الأكبر في قضية الإفك التي أنزل الله فيها القرآن حلف لا يصل مسطح بن أثاثة ، لأنه كان من الخائضين في الإفك ، فأنزل الله تعالى : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } فلما نزلت قال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . فأعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق (1) .
ومع ما ذكر من العفو والإحسان ، وأمثاله وأضعافه ، فالجهاد على ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة أمر لا بد منه : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما .
__________
(1) روى ذلك الإمام أحمد في مسنده ، والبخاري ومسلم في صحيحيهما ، عن عائشة رضي الله عنها ، وهذه الأخلاق الإسلامية لم تعرفها الإنسانية إلا في الإسلام وأهله .(1/32)