...
مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية
المؤتمر العلمي العالمي الثاني
التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون
بحث بعنوان :
منهج الإمام الغزالي في المعرفة نشأته وتطوره
أ . عبد الله إبراهيم صلاح الدين
المحرّم 1430هـ – يناير 2009م
مقدمة :
تعتبر الأزمة الفكرية أخطر ما أصابت الأمة العربية والإسلامية ،سُدت بسببها سبل الابتكار الذي يقود إلى التقدّم الحضاري والتقني والاقتصادي والسياسي وغيرها،ويسبب ذلك ابتعاد أو عدم معرفة منهج إسلامي صحيح في التعامل مع المعضلات الفكرية المعاصرة ،وتجيء هذه الدراسة لتوضح منهج المعرفة عند الإمام الغزالي كنموذج إسلامي في تأصيل المعرفة والاستفادة منها في حل المشكلات الفكرية وذلك عن طريق الإجابة عن الأسئلة التالية :
- ما حد المعرفة اليقينية عند الغزالي ومتى تصح المعرفة عنده ؟
- ما هي الوسائل للوصول إلى المعرفة ؟
- وما هي طبيعة المعرفة التي يدعو إليها الغزالي؟
- وهل يقبل منهج الغزالي للتطبيق ؟
وتأتي أهمية هذه الدراسة في أنها تمثل نصف الكلّ ،لأن الأعمال تتبع المعارف، فقضايا الإيمان كلها معارف وقضايا الأعمال كلها تطبيق المعارف ،ففي ذلك يقرن الله تعالى الإيمان الذي يمثل المعرفة بالعمل الذي يمثل التطبيق ويقول: ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? (1) .
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا الجهد خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
القضايا الرئيسية
لمنهج الغزالي في المعرفة
المبحث الأول : إمكانية الوصول إلي المعرفة ، حدودها ، وصحتها :
اختلف العلماء بعد الأخذ والرد في حد المعرفة اليقينية وكذلك صحتها ،وانقسموا جراء ذلك إلي مذهبين رئيسيين ، هما : مذهب العقليين والتجريبيين ، ومذهب أصحاب الشك المنهجي .
أولاً : مذهب العقليين والتجريبيين :
__________
(1) سورة الكهف : الآية (107) .(1/1)
اعتبر أصحاب هذا المذهب العقل مصدرا رئيسيا للمعرفة اليقينية ، ويرون أن لدى الإنسان القدرة علي معرفة الأشياء معرفة يقينية إما بواسطة الإدراك الحسّي أو التفكير ، كما أنهم يجزمون بصدق المعرفة المكتسبة عن طريق الحواس أو العقل بدون إخضاعها للاختبار (1) ، فعلي هذا ،المعرفة عندهم تكون معرفة بظواهر الأشياء.
وقد اعترف القرآن الكريم بذوي العقل المفكّر فأشادهم الله سبحانه و تعالى بعبارات مختلفة في مواضع شتى: ? ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? چ ? (2) ، ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ ? (3) ، و حماية لسلامة عقل الإنسان ، بدأ الله سبحانه بتحريم الخمر لما تصاحبها من الضرر المؤدية إلي فقد الوعي في الصلاة فقال: ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ? (4) .
وقال سبحانه وتعالى منددا بالذين لا يفكرون ولا يستعملون عقولهم في الخير والمعرفة:
? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ? (5) .
وقد عرض القرآن آيات الله في الكون .. عرضا ربى العقل على حسن المعرفة ، والمنطق العلمي ، والفكر الاستدلالي ، والمنهج التجريبي .
__________
(1) منير مرسى(محمد): فلسفة التربية اتجاهاتها ومدارسها ،عالم الكتب ،القاهرة ،1993م ، ص 42
(2) سورة طه 128
(3) سورة البقرة 164
(4) سورة النساء 43
(5) سورة الأنفال 22(1/2)
... أما الإمام الغزالي لم يختلف رأيه في أن للإنسان القدرة علي اكتساب المعرفة إما عن طريق الحواس أو العقل ، ولكنه يرى أن الحواس قاصرة عن الإدراك الحقيقي ، ولا تؤتمن ، لأنها لا تدرك الأشياء إلا بمماسة ،أو بقرب منها كما أن العقل لا يؤتمن إلا إذا كان منقاداً للعلم والحكمة ، وصار مسيطرا علي الشهوات فيما يفتقر العقل إليه ، لأن الإنسان إذا أدرك بعقله عاقبة الأمر وطريق الصلاح انبعث من ذاته شوق إلي جهة المصلحة ، وإلى تعاطي أسبابها والإرادة لها ، وذلك غير إرادة الشهوة أو إرادة الحيوانات بل يكون ضد الشهوة ، فإن الشهوة تنفر مثلا من الفصد والحجامة ، والعقل المسيطر علي الشهوة و المسخر للحكمة يريدها ويطلبها بل يبذل المال فيها . ولو خلق الله العقل العارف بعواقب الأمر ، ولم يخلق قي الإنسان الباعث المحرك للأعضاء علي مقتضى الحكمة لضاع العقل علي التحقيق (1) .
هذا هو موقف الإمام الغزالي من المدرسة العقلية والتجريبية ، فموقفه هذا - فيما يبدو- موفق وسط بين إعمال العقل و إهماله، فإنه لم ير تفويض الحكم المطلق للعقل بحيث لا يختبر ، بل قيّد صحة حكم العقل بشرط موافقته للحكمة (وهي السنة ) والعلم (وهو الكون ) و مخالفته لهوى النفس وشهواتها(القرآن الكريم ) .
ثانياً : مذهب أصحاب الشك المنهجي :
__________
(1) الغزالي : المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ،دار الكتب العلمية،بيروت لبنان ،الطبعة الأولى 2001م ، ص28 ، و المنقذ من الضلال ، المكتبة الشعبية ،بيروت لبنان ،دون تاريخ ، ص15 ، وإحياء علوم الدين ،مكتبة الصفا ،مطابع دار البيان الحديثة ،القاهرة ،الطبعة الأولى، ج2/420-22 .(1/3)
الشاك هو ذلك الشخص الذي لا يرى إمكانية الوصول إلي المعرفة الحقيقية ولا يعترف بأن هناك طريقا يوصله إلي المعرفة ، مع أنه يفرض وجودها (1) ، وينكر أصحاب مذهب الشك قيام المعرفة اليقينية أصلاً ، ويرون أنه لا يمكن الوصول إلي المعرفة الصحيحة ، وذلك لأنهم فقدوا ثقتهم بالحواس ، و ظلوا يوجهون الإدراك الحسي من أجل بناء نمط من التفكير العقلاني ، والعقل عندهم متفاوت القدرات في إدراك المعلومات ، فبالتالي يبقوا حيارى و يئسوا من إدراك المعرفة اليقينية ، وجعلوا الفرد مقياسا للمعرفة ، لكنهم مع ذلك أخذوا يستخدمون الطرق العلمية للبحث عن المعرفة رغم إيمانهم بأن هذه المعرفة احتمالية وليست يقينية (2) .
و يرأس هذا المذهب الشكي الفيلسوف الفرنسي ؛ رينيه ديكارت ، في مطلع عصر النهضة ، حيث نادى بأن الوصول إلي المعرفة يتطلب التزام بعدة قواعد : قاعدة البداهة و الوضوح ، قاعدة التحليل ، قاعدة التركيب ، قاعدة المراجعة و الإحصاء ، و استخدام الشك المنهجي.. فقد توصل علي سبيل المثال إلي إثبات وجود الله تعالى بقوله :" أنا أشك ، والشك دليل نقص ، فمن أين جاءتني فكرة النقص إن لم يكن لدي فكرة عن الكمال ؟ وهذا الكمال هو الله تعالى (3) .
__________
(1) عبد الحليم محمود : تحقيق والتعليق علي المنقذ من الضلال ،دار الطباعة الحديثة ص141
(2) منير مرسي : فلسفة التربية 42- 53- 54 .
(3) لطفي بركات : المعرفة التربوية ،مطبعة العربي ،القاهرة ،الطبعة الأولى ص116-117(1/4)
يمكن التعقيب علي هذا المذهب بأنه خالي من التطبيق ولن تزال هذه المدرسة في الحيز النظري ؛ لأن من عرف وجود الله مثلا عن طريق الشك المنهجي –كما سبق ذكره- لا يتوقع رسوخ إيمان وجود الله في نفسه ، بما أن المعرفة بالشيء يلزم الجزم به بالبرهان القاطع دون فرض المعرفة ، ونتيجة عدم يقينية المعرفة عند أصحاب هذا المذهب ،أنهم جعلوها احتمالية ، ولا يكاد يلتفت إلي هذه المدرسة البتة كوسيلة المعرفة إلا عند عدم وجود أيِّ معرفة محققة علميًّا.
قال الإمام الغزالي في حق هذا المذهب بعد نقده الشديد للتقليد ودعوته إلي الاستقلال في النظر، ما نصه :"ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعًا ، إذ الشكوك هو الموصلة إلي الحق ، ومن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر بقي في عمي والضلال (1) .
__________
(1) الغزالي : ميزان العمل ،دار الكتب العلمية ، بيروت ،الطبعة الأولى 1989م181-182 ، اتُّهم الإمام الغزالي بسبب هذه العبارة و غيرها ، أنه مهّد الطريق للشك في الإيمان ، وأنه قد استفادت من انتدابه إلي الاستقلال في النظر هذا جماعة إلحادية التي ساعدت في نشر الإلحاد في أوروبا ، وخاصة المذهب الديكاراتي الذي قيل إنه اعتمد في إقامة مذهبه علي ما كتبه الإمام الغزالي في كتابه :" المنقذ من الضلال" و بالتحديد قي فترة الشك التي عانى منها الإمام الغزالي ما عانى ، و استودعه في كتابه " الأسلوب و التأملات" لديكارت. وكتب كاتب فرنسي شارل شومان مقالا أثبت فيه ، أن ديكارات أخذ كثيرا من المبادئ التي بنى عليها مذهبه من الإمام الغزالي ،- انظر أبو حامد الغزالي و التصوف لعبد الرحمن دمشقية ص 41-42 ،
ولكن مع كل هذا ، يرى الباحث أن هناك فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً ما بين مذهب ديكارت وغيره من الشاكيين من جانب وبين مذهب الإمام الغزالي من جانب آخر ، وهذا ما ستثبته الأدلة – إن شاء الله .(1/5)
يبدو من هذا أن الإمام الغزالي قد استفاد من الشك غير أنه انتهجه كمذهب و جعله وسيلة توسله إلي العلم اليقيني ، بعد ما جعله أصحابه غاية توقفوا عنده .
فقد اتخذ الإمام الغزالي موقفه من هذه المدرسة ، حيث لم ينكر إمكانية الوصول إلي المعرفة رأسا ، ولكنه يرى أن حقيقة المعرفة المطلقة ليست بمتناول أيد البشر ، اللهم إلا عن سبيل المجازي أو التشبيه الغير الحقيقي ، أما عن سبيل المطلق الحقيقي -الذي يفيد الإحاطة -، فمستحيل والطريق إلي ذلك مسدود ، ذلك لأنه لا يمكن للإنسان أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه خاصية تناسبه ، فيعلم أولا ما هو متصف به في نفسه ثم يعلم غيره بالمقايسة. فإذا كان لله تعالى وصف وخاصية ليست في الإنسان ما تناسبه و تشاركه في أي وجه من الأوجه لم يتصور فهمه البت .
وقد مثل الإمام الغزالي بالمعرفة المجازية التي يمكن للإنسان الوصول إليها ، أنها هي بحيث لو أشار المشير إلي شئ ، وقال ما هو؟ فذكر الأشياء المشتقة ، يكون ذلك بمثابة المعرفة المجازية لذلك الشيء ، بخلاف المعرفة الحقيقية التي تكون هي ماهية و حقيقة ذلك الشيء . فلو أشار إلي شخص مثلا وقال : ما هو ؟ فقيل : طويل أو أبيض أو قصير ، أو أشار إلي ماء أو النار ، وقال : ما هي ؟ فقيل : بارد أو حار ، فكل ذلك ليس بجواب عن الماهية البتة ، لأن المعرفة بالشيء هي معرفة حقيقته و ماهيته دون معرفة الأسامي المشتقة ، فماهية النار : شيء مبهم له وصف الحرارة (1) .
__________
(1) الغزالي : المقصد الأسنى 29 و ما بعدها .(1/6)
فاكتساب المعرفة المجازية في رأي الإمام الغزالي مفتوح و ممكن لكل الناس ، إلا أنهم يتفاوتون فيها –حسب قربهم و بعدهم عن الله سبحانه و تعالى- إذ ليس من يعلم أن الله تعالى عالمُ قادر علي الجملة بدون أي برهان ، كمن شاهد عجائب آياته سبحانه و تعالى في ملكوت السماوات والأرض ،وخلق الأرواح والأجساد ، واطلع علي بدائع المملكة الربانية ، وغرائب الصنعة الإلهية.. ممعنا في التفصيل ومستقصيا دقائق الحكمة ، ومستوفيا لطائف التدبير ، ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله تعالى (1) .
فمثال المعرفة الحقيقية في رأي الإمام الغزالي كمثل قول الصبيّ أو العنين : ما السبيل إلي معرفة لذة الوقاع ،وإدراك حقيقته ؟فيقال له : هاهنا سبيلان : أحدهما طريقة الوصف والآخر طريقة المباشرة ، وهذا السبيل الثاني هو السبيل المحقق المفضي إلي حقيقة المعرفة ، أما السبيل الأول فلا يفضي إلا إلي وهمٍ (2) .
و الطريق الثاني المفضي إلي حقيقية المعرفة المطلقة فمستحيل الوصول إلي الله به ، لأنه تعالى : ?? ? ?? ? ٹ ٹ ? (3) ، فلا يعرف الله إلا الله ولا يعرف أحد حقيقة الموت ، وحقيقة الجنة وحقيقة النار إلا بعد الموت ودخول النار والجنة ؛ لأن النار أسباب مؤلمة ، والجنة عبارة عن أسباب ملذة ، وكذلك كل ما سمع الإنسان اسمه وصفته، وما ذاقه وما أدركه و ما انتهى إليه علمه وما اتصف به (4) .
__________
(1) المرجع السابق 35
(2) المرجع السابق نفسه 36
(3) سورة الشورى 11
(4) الغزالي : المقصد الأسنى 33-34(1/7)
بناء علي هذا ، يرى الإمام الغزالي أن نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفون ، وحتى لو انكشف لهم العلوم انكشافا برهانيا ،فإن ذلك بلوغ المنتهى الذي يمكن في حق الخلق معرفته . واستدل الإمام الغزالي في ذلك بقول سيدنا أبي بكر الصديق أنه قال : " العجز عن الإدراك إدراك " وقول النبي صلي الله عليه وسلم :( َلا أُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَي نَفْسِكَ ) (1) .
يلاحظ من خلال استعراض آراء الإمام الغزالي – في هذا الصدد – أنه عظّم أمر المعرفة جعلها أمرًا رفيع الشأن عسير المنال ، بَيْدَ أن مع استحالة الوصول إلي المعرفة المحيطة المطلقة ، لم يستبعد الإمام الغزالي الوصول إلى المعرفة المجازية التي فيها يهيم جميع الأنبياء والأولياء بتفاوت درجاتهم ، ولا أحد منهم ولا من غيرهم يصل إلي الحقيقة المحيطة المطلقة التي تأثر الله بها ، ولا يحيط بها أحد إلا الله ، يقول الله تعالى: ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? (2) ،فإن يكن هذا شيء ، فإنما هو نتيجة سلوك الإمام الغزالي مسلك الشك ثم لم يرض لنفسه اليأس عن المعرفة حتى تجاوزه إلي المعرفة اليقينية المؤيدة بالبرهان والتي لا يزحزحها أي شك ولا ارتياب.ويلاحظ أن الشك عنصر مهم من عناصر بلوغ المعرفة عند الإمام الغزالي ، فمن لم يشك في اعتقاده فلا يتصور نهوضه إلي المعرفة أصلاً ؛ لأن من لم يشك لم ينظر ولم يبصر ، ويبقى في التقليد أبداً .
__________
(1) المرجع السابق 34 ، والحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة و أحمد . انظر صحيح الترمذي 3/180 ، و صحيح ابن ماجه 1/194 ، والإرواء 2/175
(2) سورة البقرة 255(1/8)
جاءت الآيات القرآنية لتؤيّد رأي الإمام الغزالي – بهذا الخصوص- حيث قسّم الله تبارك وتعالى المعرفة إلي الثلاثة ، قسم سماه علم اليقين ؛ وقسم سماه عين اليقين ؛ وقسم ثالث سماه حق اليقين . فقد استأثر الله تعالى وحده بحق اليقين من دون خلقه ، وجعل عين اليقين لخواص خلقه من الأنبياء و الأولياء ،وعلم ليقين درجة بقية العلماء والنظار وغيرهم من الناس ،فتجمع هذه الدرجات الثلاثة هاتان الآيتان : ? ے ? ? ? ? ? (1) ،
وقال تعالى أيضًا : ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ? (2) "
وقد تبين من قصص بعض الأنبياء والصالحين التي أوردتها الآيات القرآنية ، أنهم انتهجوا منهج الشك للوقوف علي صريح الإيمان الذي لا يتزلزل أبدا .ففي قصة أبي الأنبياء ؛ سيدنا إبراهيم عليه السلام ، نقرأ هذه الآية التالية :
? ? ? ? ? ? پ پ پپ ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ ? (3) .
__________
(1) سورة الواقعة :95 [ فأحوال المقربين إلي روح و ريحان و جنة نعيم ، و كذلك أحوال أصحاب اليمين المنسوبة إلي سلام ، و أيضا أحوال المكذبين الضالين الذين تكون نزلهم من حميم و تصلية جحيم ، كلها علم حقيقي مطلق لا يحيط به أحد إلا الله و حده عز و جلّ ، لذلك قال الله تعالى:" إنه لحق اليقين .."الآية ولمراتب العلم الثلاثة ،انظر : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 2/1233 ، و غيرها من التفاسير المفيدة.
(2) سورة التكاثر 5 ، 6 ، 7 : هذه الآيات ة ما قبلها تدل علي إمكانية معرفة الأمر الوارد في السورة ؛ وهو "الجحيم " وليس من علم الجحيم كمن عاين الجحيم ، لذلك فسّر "عين اليقين" بالمشاهدة ، انظر النور المبين في تفسير القرآن الكريم(600)
(3) سورة البقرة 260(1/9)
قال ابن كثير مفسرا هذه الآية :" ذُكر لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابٌ ، منها أنه لما قال لنمرود (ربي الذي يحي و يميت ) أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلي عين اليقين ، وأن يرى ذلك مشاهدة ، فقال ? ? ? پ پ پپ ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? (1) ، فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يوسف عن أبي شهاب ، عن أبي سلمة و سعيد عن أبي هريرة – رضي الله عنه-قال : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : ("َنحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اْلمَوْتَى ، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ : بَلَى ، َولَكِنْ لِيَطْمَئِنَ قَلْبِي). وكذا رواه مسلم عم حرملة بن يحي عن وهب به (2) .
__________
(1) سورة البقرة 260
(2) ابن كثير (إسماعيل بن عمر) : تفسير القرآن العظيم ، مؤسسة الريان ،مشروع مكتبة طالب العلم ،جمعية إحياء التراث الإسلامي ،الطبعة الرابعة 1998م ،المجلد الأول 411-412 ، المجلد الثاني 625 .(1/10)
شكُّ نبي الله إبراهيم عليه وعلي نبينا أفضل الصلاة وأتمَّ التسليم ، ليس في إمكانية ووجود قدرة الله تعالي علي البعث – فحاشاه-، ولكنه يشك في كمال اعتقاده ذلك وجزمه به ، و إلا لما طلب الدليل والبرهان والمشاهدة علي ذلك ، وكذلك الإمام الغزالي لم يشك في وجود الله ولا في النبوة ولا يوم الآخرة ، بدليل قوله في المنقذ من الضلال:" وكان قد حصل معي – من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية – إيمانٌ يقيني بالله وبالنبوة وباليوم الآخر . فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي ، لا بدليل معيّن محرر، بل بأسباب وقرائن ، وتجاريب لا تدخل تحت الحصر (1) ، ولكن الغزالي يطلب الكشف والبرهان والمشاهدة علي صحة ما رسخت في نفسه . ولقد جوز الإمام الغزالي أن يكون الشك في كمال الإيمان لا في أصله حيث يقول:" وكل إنسان شاك في كمال إيمانه وذلك ليس بكفر، وشك في كمال الإيمان حق (2) ، فإذا كان قد جاز طلب المشاهدة والبرهان من الله تعالى ، لنبي من أنبياء الله تعالى- و هم أشرف خلق الله تعالى علي الإطلاق (عليهم الصلاة والسلام)
- لم ير الباحث ما قد يمنع عالما من العلماء - مثل الإمام الغزالي – من طلب الكشف والبرهان والمشاهدة ، من خلال البحث والتفتيش في العلوم الشرعية والعقلية، فإذا كان الشك في ذلك حراما لما نسبه رسول الله صلي الله عليه و سلم لنفسه ، ويراه هو وأصحابه أحق وأولي بالشك من إبراهيم .
__________
(1) الغزالي : المنقذ من الضلال 61
(2) الغزالي :إحياء علوم الدين 1/144(1/11)
وقد تشدد بعض الباحثين علي مسألة الشك في الإيمان والمعرفة ، من القدماء ناهيك عن المتأخرين ،ونسبوا الشاك إلي الإلحاد والزندقة والكفر ، ولعلهم في ذلك لم يفهموا للشك إلا المعني اللغوي الذي لا يراد به غالبًا في المعرفة ، وإلا يكون ذلك مكابرة عن الحق ، وخاصة بعد رواية أصح الأحاديث سندا عن جواز الشك ، وينجم ذلك عادة من رسوب الكراهية الطائفية-في النفس- الأمر الذي لا يجدي علميًّا عند التحقيق ، ولبعض الناس تجاه الإمام الغزالي في ذلك حظ أوفر ، حيث يكره بعض الناس مجرد ذكر اسمه استدلالا ، ويشمئز برؤية كتبه جهلا و حمقا.
ويعتقد الباحث هنا - حسب هذه الأدلة - أن الشك بالمعني الاصطلاحي في المعرفة سنة ورثه الأنبياء كابرا عن كابر، و الشك بهذا المعني يكون جعل الشاكُّ شكَّه مطيّةً لبلوغ الكمال المعرفي .
المبحث الثاني
وسيلة المعرفة
... إن السلوك الصحيح تحددها المعرفة الصحيحة ،التي تُستمد منه ، والمعرفة لن تكون صحيحة حتى تصح وسائلها المستخدمة للحصول عليها، وبعبارة أوجز يقال : المعرفة هي الوسيلة ، فإن كانت وسيلة المعرفة بهذه الأهمية، فإنه يجدر الاهتمام البالغ في التأكد من صحتها و صحة استخدامها ؛ فكم يملك وسيلة صحيحة ويخفق في استخدامها استخداما صحيحا مما يجعله يتساوى مع فاقديها .ولقد تعددت مذاهب الفلاسفة تجاه وسائل المعرفة ، منها ما لم تر الوصول إلى المعرفة الصحيحة إلا عبر الحس أو العقل
أو غيرها ، الأمر الذي أنتج أنماطا مختلفة من المعارف .
... وستعرض هنا مواقف الفلاسفة من وسائل المعرفة عرضًا وجيزًا يقود إلى بيان رأي الإمام الغزالي فيها ،ثم المقارنة بينهما ،مع بيان موقف الإسلام من رأي الإمام الغزالي ،مستعينا في ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية – ما أمكن .
وتنحصر محاور هذه الوسائل في ثلاثة :
- الحس .
- العقل .
- النبوة أو البصيرة .
الحس :(1/12)
الحس : قوة نفسانية مدركة في الإنسان ، وهي خمسة :السمع البصر،الشم، الذوق، اللمس (1) ، ولكل من هذه الحواس وظائفها الخاصة بها :
حاسة اللمس : أول ما يخلقه الله في الإنسان يدرك بها أجناسًا من الموجودات ، كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها ، ولكنها قاصرة عن درك الألوان و الأصوات ، بل كأنهما في حقها معدومان .
حاسة البصر : وهي أوسع وأقوى عوالم المحسوسات ، يخلقها الله في الطفل بعد حاسة اللمس ، ليدرك بها الإنسان الأشكال المختلفة والألوان ، ولكنها أيضا قاصرة عن درك وظائف حاسة اللمس ، والأذواق و النغمات المختلفة .
حاسة السمع : ينفخ الله تعالى في السمع ، فيسمع الأصوات دون غيرها ، وذلك بعد حاسة البصر.
الذوق : يخلق الله للإنسان الذوق (2) ،ليدرك الطعم بأنواعها المختلفة .
الشم : به يدرك الإنسان الروائح المختلفة ؛ الطيبة منها و الكريهة .
و قد ذكر الله سبحانه و تعالى الحواس باختلاف أنواعها في القرآن الكريم ، ليرينا أهميتها في اكتساب المعرفة يقول تعالى :
? ? ? ? ? ? پ پپ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ? ?? ? ? ? ? (3) .
ولقد كان الحس وسيلة رئيسية عند طائفة الفلاسفة الحسيين والتجريبيين ، ويرون أن المعرفة الصحيحة تستمد عن طريق الحواس والإدراك التجريبي.
نادى بهذا المصدر الحسي في عصر النهضة ، الفيلسوف الإنجليزي ، فرنسيس بيكون ، في مؤلفاته : "إله الجديد" ، وقد نادى بضرورة تطهير الفكر من الأوهام المسيطرة عليها (4) .
__________
(1) لويس ملوف : المنجد معجم مدرسي للغة العربية،الطبعة الثانية عشرة ،نيسان 1951م، ص 126.
(2) الغزالي : المنقذ من الضلال 67
(3) سورة الأعراف 179
(4) لطفي بركات : في المعرفة التربوية ، 116-117(1/13)
و يري أصحاب هذا المذهب أن كل ما تدركه الحواس هو معرفة حسية ، وبتراكم هذه الإدراكات والمعارف تتكون تجارب الإنسان ،بل يرون أن العقل نفسه مع عظم شأنه ، يعمل في إطار ما تمد به الحواس . وقد أعرب أحد الأشخاص البارزة الذي أنتجته هذه المدرسة ، عن هذا الرأي ، بلهجة شديدة ، حيث يقول: ( إن العقل يسبح مسافات بعيدة يفكر ويتأمل ، لكنه في كل ذلك لا يخرج قيد أنملة عما أمدته به الحواس ) (1) .
كان الإمام الغزالي يحكي تجربته بالمعرفة الحسية ، وما آل إليه أمره ، فذكر أنه ظل يقتبس المعلومات عن طريق الحواس ، وأنه أتقن هذه العلوم المكتسبة عن طريقها ، ثم أمعن النظر فيها، ما إذا كان يمكنه شك فيها أو الأمان منها من الخطأ ، ذلك أن المقصود هو العلم اليقيني الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقي معه ريب ، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ، ويرى في نفسه أن لابد له من طلب حقيقة ، ما هي ؟ ومعياره في ذلك : الأمان من الخطأ ، وكل علم لا أمان معه من الخطأ، فليس بعلم يقيني عنده (2) ، فأنتهي به طول الشك و النظر إلي أن اعترفت له الحواس بالعجز عن إدراك حقائق الأمور
أو العلم اليقيني الذي هو الهدف عند الإمام الغزالي ؛ ذلك لأن أقوى الحواس – وهي حاسة البصر- تنظر إلي الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة ، تعرف أنه لم يتحرك بغتة واحدة بل علي التدرج ، حتى تتواري حالة الوقوف ، كما أنك تنظر إلي الكواكب، فتراه صغيرا ، ثم بالأدلة الهندسية تبين أنه أكبر من الأرض (3) ، هذا و أمثاله كثيرة يحكم الحس بإثباته ، ويأتي العقل و يحكم بنفيه حكما لا سبيل لمدافعته ، فكل هذا دليل علي خطأ الحواس ، ولا أمان مع الخطأ ، فبالتالي لا ثقة بكل ما لم يكن فيه الأمان .
__________
(1) منير مرسي : فلسفة التربية 43
(2) الغزالي : المنقذ من الضلال 12 وما بعدها
(3) المرجع السابق 15(1/14)
... نتج من هذا الرأي أن اعتبر الإمام الغزالي هذا النوع من الإدراك – المعرفة الحسية- إدراك البهيمة ؛وأن فيها نقص ، و يتبلورى نقصانها في أنها مقصورة علي الحواس : و الحواس معزولة عن الإدراك إذا لم يكن مماسة أو بقرب منها، فاللمس و الذوق يحتاجان إلي المماسة ، والسمع و البصر و الشم احتاجت إلي القرب ، فكل الموجودات التي لا يتصور فيها المماسة و لا قرب ، فالحواس معزولة عن إدراكها (1) .
هكذا نرى أن الإمام الغزالي قد فقد ثقته جملة واحدة من الاعتماد علي الحواس في المعرفة اليقينية ، اللهم إلا فيما خلقت لها ؛ وهي المحسوسات .
يلاحظ هنا ملاحظة لا غبار فيها ،أن هناك فرقا واضحا وبونا شاسعا بين رأي الإمام الغزالي وبين رأي الحسيين في استخدام الحواس في اكتساب المعرفة ،وتتمثل تلك الفروق في النقاط التالية :-
- إن الإمام الغزالي كذّب الحواس في كونها تدرك بها حقائق الأمور ، بَيْدَ أن الفلاسفة الحسيين أوثقوها.
- اعتبر الإمام الغزالي المعرفة الحسية أخس درجة المعارف ، حين صنفها من جنس إدراك البهيمة ، و هي المرجع الأساسي الذي يمد العقل بالمعارف عند الطائفة الحسيين.
- فالمعرفة الحسية عند الإمام الغزالي مكمَّلة بغيرها ، كما أن الحواس تكمَّل بغيرها من الوسائل ، والأمر خلاف ذلك عند الحسيين المستقلِّين بالمعرفة الحسية.
__________
(1) الغزالي : المقصد الأسنى 28(1/15)
- و لقد سبق ذكر بعض الآيات القرآنية التي ندّد الله بها الذين لا يستفيدون أسماعهم وأبصارهم و بقية الحواس ، ففي تلك الآيات وغيرها من الأحاديث التي تضيق الفرصة عن ذكرها ، دليل بارز علي أن الله تعالى خلق الحواس لنا لنستخدمها في التفكر والتأمُّل وننظر نظرة تمحيص ، ونلاحظ ما حولنا ثم نمحص ذلك بعقولنا وأفئدتنا لنستخدم ما سخر الله لنا ،أي لنتربى تربية علمية علي الملاحظة والمناقشة والاستنتاج والتفكير،فنجمع أكبر قسط من المعرفة والمخترعات ، وحينئذ نظفر بميزة الزعامة علي الإنسانية كما ظفر بها أسلافنا (1) ، ولم يدع الإسلام قط الإنسان إلي الاكتفاء بوسيلة واحدة من وسائل المعرفة ولكنه يحرض المؤمنين بجمع أكبر قدر ممكن من الوسائل المعرفية ،عكس ما هو معمول به لدى معظم الفلسفات الحديثة .
العقل :
إن من المعارف ما تكتسب عن طريق العقل و التأمل الفكري واستنتاج حقائق غير مدركة بالحواس ،فالاستدلال العقلي مسلك من مسالك اكتساب المعارف والعلوم وما يرتبط بذلك من تحليل ،وتركيب ،وقياس ،واستنتاج ،وربط .ولن تزال المعرفة الحقيقية هي نتاج العقل وحده عند الطائفة المثالية ،التي تعتبر أقدم نظام فلسفي عرفه الإنسان ، وكذلك فرقة المعتزلة ،بل كل العقليين جميعهم ،فالعقل عندهم وحده هو الذي يستطيع أن يمدنا بالمعرفة الحقيقية ، والإنسان عندهم قادر علي المعرفة الحقيقية من خلال عملية التفكير التي هي وظيفة العقل ، وبهذه العملية يستطيع أن يختبر مدي صحة الأفكار وتماسكها المنطقي .
بناءا علي هذا ، يرى العقليون أن المعرفة الصادقة لا تكتسب إلا عن طريق العقل
لا الحواس ،وأن المعرفة المستمدة عن طريق العقل هي المعرفة التي نستطيع أن نثق فيها ، في حين كانت الحواس لا يمكن أن تكون وسيلة للمعرفة ، لأن الحواس مضللة ،
__________
(1) النخلاوي : أصول التربية الإسلامية 35-36(1/16)
و خدَّاعة ومخطئة ، ولا يكن الاطمئنان علي المعلومات الحاصلة عن طريقها (1) .
يطلق "العقل" بالاشتراك علي أربعة معان عند الإمام الغزالي ، كما يطلق "العين" مثلا علي معان عدة :
الأول : إن العقل وصف الذي به يفارق الإنسان عن سائر البهائم ،وهو الذي يستعدّ به الإنسان لقبول العلوم النظرية ، والتدبير الصناعات الخفية الفكرية ،وبعبارة أخرى :إنه تلك الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لأدراك العلوم النظرية ،ويشبه نورا يقذفه الله في القلب ، به يستعد لإدراك الأشياء .
الثاني :إن العقل هي العلوم التي تخرج إلي الوجود في ذات الطفل الممِّيز، بجواز الجائزات ،واستحالة المستحيلات ، كعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد.
الثالث: إن العقل علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال ، فإن من حنكته التجارب وهذبته المذاهب ، يقال له: عاقل : في العادة ، ومن لا يتصف بهذه الصفة يقال له : غبيُّ ،أو غمرُ ،أو جاهل ، فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا
الرابع : أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلي أن يعرف عواقب الأمور ، ويقمع الشهوة الداعية إلي اللذة العاجلة ،ويقهرها ،فإذا حصلت هذه القوة ، يسمى صاحبها عاقلا ،من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب (2) ، فقد قسم الإمام الغزالي العقل من حيث المصدر ، إلي قسمين : (الغريزي ، المكتسب ) .
__________
(1) منير مرسي : فلسفة التربية ص : ( 46) ، (163) ، (169) ، (236)
(2) الغزالي : إحياء علوم الدين 1/91-92 ، وانظر كذلك المنقذ من الضلال 67 .(1/17)
فالأولان ، أساسهما الطبع ، و الأخيران ، أساسهما الاكتساب ، ويري التفاوت والزيادة تكون في كل هذه الأقسام إلا القسم الثاني ،الذي يعتبر علما يخرج إلي الوجود في ذات الطفل المميِّز ،والناس في ذلك النوع سواء ، ويستدل الإمام الغزالي علي تفاوت العقل بحديث النبي صلي الله عليه وسلم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اْلمَلاَئِكَةَ قَالَتْ : "يَا رَبِّ ، هَلْ خَلَقْتَ شَيْئًا أَعْظَمُ مِنَ اْلعَرْشِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، َالْعَقْلُ ، قَالُوا : َومَا بَلَغَ ِمنْ قَدْرِهِ ؟ قَالَ هَيْهَاتَ ! لاَ يُحَاطَ بِعِلْمِهِ ، هَلْ لَكُمْ عِلْمٌ بِعَدَدِ الرَّمْلِ؟ قَالُوا :لاَ ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ : " فَإِنِّي خَلَقْتُ اْلعَقْلَ أَصْنَافاً شَتَّى كَعَدَدِ الرَّمْلِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ أُعْطِيَ حَبَّة ، وَ مِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ حَبَّتَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ الثَّلاَث و الأربع ، و منهم من أعطي فِرْقاً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ وَسَقًا ، وَ مِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيِ أَكْثرَ مِنْ ذَلِكَ ) (1) .
... ولقد اعتبر الإمام الغزالي هذا القسم الأول من العقل الذي هو القوة التي يستعد بها الإنسان لإدراك الأشياء من العلوم النظرية -أساسا، و سماه "نور البصيرة" (2)
هذا، وبعد أن شكَّ الإمام الغزالي في ثقة الحواس ، خاض التجربة مع العقل ، ولندعه الآن يحكي لنا تجربته و معركته مع "الحكم العقلي" ، قال الإمام الغزالي:
__________
(1) حديث ابن سلام هذا ، أخرجه ابن المجبر من حديث أني بتمامه و الترمذي الحكيم في النوادر مختصرا ، انظر : المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار للحافظ العراقي ، ذيل إحياء علوم الدين 1/94 .
(2) الغزالي : إحياء علوم الدين 1/ 91 إلى 94 ؛ ميزان العمل 126 ، معراج القدس 59(1/18)
... " فقلت بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديما، موجودا معدوما ،واجبا محالاً .فقالت المحسوسات: " بما تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات ، كثقتك بالمحسوسات ؟ وقد كنتَ واثقا بي ، فجاء حاكم العقل فكذَّبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر علي تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر ، إذا تجلي كذب العقل في حكمه ، كما تجلي حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك لا يدل علي استحالته !!"
هذا التفكير تفكير منطقي للغاية من جانب الإمام الغزالي ، لإبطال حاكمي الحس و العقل معاً ،إلا أن هذا البطلان عنده احتماليا –في هذا الوقت- لأنه لم يستند إلي دليل غير وهمي ، لذلك نري أنه لم يقف عند هذا الحدّ ، بل أمعن نظره كرتين في حاكم العقل لعله يجد فيه غير ذلك ممّا يشككه فيه ، فجعل يقول:
... (وقفتْ النفس في جواب ذلك قليلا ، وأيَّدت إشكاله بالمنام ، وقالت :أما تراك تعتقد في المنام أمورا، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتا و استقرارا ، ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ ، فتعلم : أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل ، وطائل ، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك ، بحس أو عقل : هو حق، بالإضافة إلي حالتك التي أنت فيها )؟
ولكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلي يقظتك ، كنسبة يقظتك إلي منامك ، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها ، فإذا وردت تلك الحالة ، تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها (1) .
فقد أيد الإمام الغزالي هذا الاحتمال بالأدلة من النصوص الشرعية ؛ منها قوله تعالى :
__________
(1) الغزالي : المنقذ من الضلال 15-16(1/19)
? ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? (1) . وما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (النَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا) (2) .
بهذا يري الإمام الغزالي أن العقل مع عظم شأنه عاجزا عن إدراك ما وراء الطبيعة ،من الغيبيات التي هي من اختصاص الأنبياء ، لذلك يعتبر أسمى وظيفة العقل ، وفائدته وتصرفه هو أن يعرِّفنا عظم مكانة الأنبياء ، ويشهد للنبوة بالتصديق ، ولنفسه بالعجز عن درك حقائق المعارف اليقينية ، وأن يأخذ بأيدينا ويسلمنا إلي الأنبياء الموحي إليهم المبصرين بعين النبوة، تسليم العميان إلي القائدين ،وتسليمَ المرضى المتحيِّرين إلي الأطباء المشفقين .وإلي هاهنا مجري العقل ،ومخطاه عند الإمام الغزالي ، والعقل معزول عما بعد ذلك إلا أن يفهم ما يلقي إليه الطبيب (3) .
فخلاصة رأي الإمام الغزالي في حاكم العقل هي أن للعقل نطاق واسع يدرك المعلومات أكثر وأوثق من الحس ، وأن حكمه أصدق بكثير من حكم الحس إلا أن إدراكاته مع اتساعها ،لم تدرك المغيبات وأمورا ما وراء الطبيعة ، مثل : النار ، و الجنة ،و الصراط ، والميزان و غير ذلك من الأشياء التي كانت مجالا لإدراك آخر وراء العقل وهو النبوة .
يمكن تحديد النقاط التالية بعد المقارنة بين رأي الإمام الغزالي ورأي العقليِّين :
__________
(1) سورة ق ، الآية 22
(2) الغزالي : المنقذ من الضلال 16-17 ، و لكن لم يصح هذا حديثا ، بل هو من قول علي بن أبي طالب أو قول سهل التستري حسب قول الشعراني في الطبقات ، ولفظه في ترجمته ومن كلامه :" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، وإذا ماتوا ندموا ، فإذا ندموا ، لم تنفعهم ندامتهم " انظر كشف الخفاء و مزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث علي ألسنة الناس ، للعجلواني الجراحي مؤسسة مناهل العرفان ،بيروت ،مكتبة الغزالي دمشق،2/312
(3) الغزالي : المنقذ من الضلال 73 .وانظر كذلك :المستصفى في علم الفقه للمؤلف أيضا1/7(1/20)
النقطة الأولى : إن موقف الإمام الغزالي من العقل أقرب إلي أن يجعل العقل أصل الإيمان بالشرع (1) بينما يقدم المعتزلة وبقية العقليين العقل علي الشرع .
النقطة الثانية: الشرع أو الوحي هو الحاكم الأساسي عند الإمام الغزالي الذي يبنى عليه حكم العقل ، ثم يقبل حكم العقل أو يرفض حسب ما اقتضاه حال الشرع ، في الوقت الذي يري العقليون أن حكم العقل موكَّل للتفكير المنطقي ، فكل ما حسنه العقل فهو حسن ، وما قبحه فهو قبيح ، بل لا بد أن يوافق الشرعُ العقلَ في الحكم ، وإلا لا يطاع عندهم .
النقطة الثالثة: لا يري الإمام الغزالي استقلال العقل في إدراك الحقائق المعرفية ، واستقلال العقل ضروري في المعرفة عند العقليين .
هذا وقد جاء القرآن الكريم ليكون فيصل الحق بين الحق و الباطل ، وليُرينا أي الفريقين أصوب رأيا ، إذ تبين باستقراء الآيات القرآنية والسنن النبوية أنها حافلة بالأمثلة التي تحث المسلمين علي استخدام عقولهم وتفكيرهم في الاختيار والتمييز والمفاضلة ، وكذلك تحكيم العقل في أمور لا نص شرعي قاطع فيها ، يقول الله تعالى : ? ک ک ک ک گ گ گ گ ?? ? ?? ? ? ? ں ? (2) ، وقال : ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?? ? (3) . وغيرهما من الآيات كثيرة تدل علي عدم تحكيم العقل فيما ورد فيه نص قاطع.
أما الآيات التي تدل علي استخدام العقل -عامة- كثيرة ، منها قوله تعالي : ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? (4) .
النبوة أو البصيرة
لقد رأينا فيما سبق كيف انتهت بالإمام الغزالي معركتُه مع حاكم العقل إلي الحيرة، وكيف حكم الغزالي بعجز العقل عن حل المعضلات الإلهية ، وعن تبديد الاضطراب ، فهل يصح أن يعتمد العقل – بعد ذلك - في حل ما هو عاجز عنه و خارج عن نطاقه ؟!
__________
(1) زكريا بشير : فلسفة نورانية القرآنية عند الغزالي 191
(2) سورة الحجرات الآية 1
(3) سورة الأحزاب 36 .
(4) سورة الملك الآية 10(1/21)
... فما أن وصل الإمام الغزالي إلي الحيرة ، حتى قذف الله في قلبه قذفة نورانية ، بها أدرك أنه كان علي السفسطة (1) ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها علي أمن و يقين ، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بإرادة الله سبحانه و تعالى (2) .
يرى الإمام الغزالي أن هذه القذفة مفتاح أكثر المعارف ، وقد استدل بقوله تعالي:
__________
(1) السفسطة و السفسطة : الاستدلال و القياس الباطل أو الذي يقصد به تمويه الحقائق .. المنجد 347
(2) الغزالي : المنقذ من الضلال 17(1/22)
? ? ? ? ? ? پ پ پپ ? (1) " وأن الرسول صلي الله عليه وسلم قد فسَّر" الشرْحُ "هنا في الآية بنور يقذفه الله تعالي في القلب (2) ، ولا فرق بين هذا النور– عند الإمام الغزالي- وبين العقل في حال كماله ،إذ بنور البصيرة يعرف الله ويعرف صدق رسله كما هو شأن العقل الكامل الذي يصدق النبوة والأنبياء ، ويريد الإمام الغزالي بالعقل[ الكامل ] ما يريد بعين اليقين ونور الإيمان ، وأن هذا العقل [الكامل] هو الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم ، حتى أدرك بها حقائق الأمور ،وأن التفريق بين المُسَمَّيَيْن نتيجة صنعة الكلام وجهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ ،فتخبطوا لتخبط اصطلاحات الناس من الألفاظ (3) .
__________
(1) سورة الأنعام 125
(2) الغزالي : المنقذ من الضلال 17 ، قال ابن كثير في هذه الآية :" قال عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري عن عمرو بن قيس ، وعن عمرو بن مرة ، وعن أبي جعفر ، قال : سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم أي المؤمنين أكيس ؟ قال : "أكثرهم ذكراً للموت و أكثرهم لما بعده استعداداً " قال و سئل النبي صلي الله عليه وسلم عن هذه الآية :" فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " قالوا كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال :" نور يقذف فيه فينشرح له و ينفسح " قالوا فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال :" الإنابة إلي دار الخلود و التجافي عن دار الغرور ، و الاستعداد للموت قبل لقاء الموت " قال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث من طرق شتى : " فهذه طرق لهذا الحديث ، مرسلة و متصلة ، يشدّ بعضها بعضاً ، والله أعلم ." –انظر ابن كثير : تفسير القرآن العظيم 2/235-236
(3) الغزالي : إحياء علوم الدين 1/94(1/23)
... فالبصيرة أو الكشف أو الإلهام أو المشاهدة ، أهم وسيلة المعرفة عند الإمام الغزالي ،والمعرفة المتحصلة عن طريقها حقيقية وليست وهمية ، إذ لا يمكن أن يطرأ عليها الخطأ والغلط . و قد مثَّل ذلك بوجود شخص في الدار ،وأن تدخل الدار ،وتنظر إليه بعينك ، وتشاهده عن قرب ، وفي صحن الدار، في وقت إشراق الشمس ، فيكمل لك إدراكه ، وهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية ،ويختلف هذا عن رجل آمن بوجود الشخص في الدار بالسماع ولم يره ،كما يختلف عمن سمع صوت الشخص ولم يشاهده (1) .
__________
(1) المرجع السابق 2/430(1/24)
ومن وظائف الكشف أو النور الإلهي ،عند الإمام الغزالي، المسارعة لنصرة العقل في حالة الحيرة حتى لا يميل العقل في حيرته إلي ما يملي عليه الهوى والوسواس (1) ،.والبصيرة بهذا المعنى أرفع درجة من الإيمان والعلم ،لأن الإيمان (2) قبول من التسامع بحسن الظن ، وعلي هذا يمكن التشكيك فيه ، ذلك لأن اليهودي والنصارى والكفار أيضا يتلقون اعتقاداتهم من أبويهم بالتسامع وحسن الظن ، دون النظر والاستدلال وطلب البرهان عليها ، ولا فرق بينهم وبين المسلمين في هذا الشأن غير أن المسلمين اعتقدوا حقا ، ومال غيرهم إلي الخطأ فاعتقدوا باطلا ،فهذا معني قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" (كل مولود يولد علي الفطرة ، وإنما أبواه يهودانه ، و ينصرانه ، ويمجسانه ) (3) ،ويرى أن الذين حصلوا علي الإيمان من هذا الطريق التقليدي من غير بحث عن الطرق البرهانية ،مسلمون والحكم بإسلامهم واجب ، إذ إن ذلك الإيمان يكفيهم لدخول الجنة ، غير أن إيمانهم من جملة إيمان العوام (4) .
أما العلم عند الإمام الغزالي ، فهو التحقيق بالبرهان ،وهو درجة قريبة من درجة العوام المقلِّدين ، لأنه ممزوج بنوع من الاستدلال ، وهذا الإيمان أيضاً قابل للتشكيك والتخطئة ، فقد مثل ذلك بالعنين الذي يتصور أن يعلم وجود شهوة الوقاع من غيره بالبرهان ، فمن أين له أن يأمن أن تكون شهوة الوقاع مشابهة بشهوة الطعام ، فهذا –عنده -
مثال إيمان المتكلمين (5) .
__________
(1) الغزالي : ميزان العمل 59
(2) (() أي إيمان العوام الذي كان مبنياً علي التقليد المحض _ الإحياء 2/429-430
(3) الغزالي : المنقذ من الضلال 23 ، و الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- رواه البخاري في الجنائز باب 93,80، ومسلم في القدر حديث 22 و 25.
(4) الغزالي: فضائح الباطنية 70 ، وكتاب الأربعين في أصول الدين 45
(5) الغزالي :إحياء علوم الدين 2/429-430 ، كتاب الأربعين 45 ، المنقذ 66(1/25)
والبصيرة ذوق و هي ملابسة الحالة ، وتعتبر طوراً آخر تحصل فيه عينٌ لها نورٌ ، يَظهَرُ في نورها الغيبُ (1) ، وأمورٌ لا يدركها العقل العادي ،وهذا ما يقصده الإمام الغزالي بخاصية النبوة ،والمعرفة والولاية (2) . وقد تفتح هذه البصيرة في النوم أو اليقظة علي حسب الطهارة الباطنة ، وخصائصها كثيرة ، فَبِهَا تُدرَك الأشياء علي حقيقتها (3) ، ولن تُنال هذه المعرفة إلا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتبدُّل الصفات ، ولا يتأتى كل ذلك إلا بالعلم والعمل المؤديان إلي السعادة الأبدية (4) .
فالنبوة عند الإمام الغزالي ليست كما تصورها البعض علمًا خاصا بالأنبياء –عليهم وعلي نبينا أفضل الصلاة وأتمَّ التسليم – وغير مكتسبة ، إنما النبوة عنده علي ضربتين:
(أ) نوع خاص بالأنبياء ، والرسول صلي الله عليه وسلم علي قمة ذلك،وهي التي تستمد منها العلوم والمعارف كلها فدونها تبقى التكاليف باهظة ولا شيء يرام.
(ب) ونوع آخر مكتسبة لعلماء الأمة المحمدية . ... ...
فالنوع الأول :
__________
(1) الغيب هنا ليس إلا ما غاب عن الحواس و العقول لدقته ورقته، من العلوم و الأحوال و غيرها ، و يعدّ ذلك كرامة للأولياء و الصالحين ، والكرامة أمر لا يجحد في الإسلام لكونها معروفة مشتهرة في سير صالحي هذه الأمة المحمدية . الباحث .
(2) قد يستخدم الإمام الغزالي كلاًّ من هذه المصطلحات الثلاثة علي حدة ، في مواقف مختلفة حسب ما يقتضيه سياق كلامه ، ولا تزال علاقة المشترك المعنوي بينها قائمة .
(3) الغزالي : المنقذ من الضلال 68 ، و إحياء علوم الدين 3/388 .
(4) الغزالي : ميزان العمل 19-21(1/26)
هو الوحي السمائي الخاص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والنبي محمد صلي الله عليه وسلم علي ذروته ، لأن من فهم معنى النبوة وأكثر النظر في القرآن الكريم و الأحاديث الصحاح ، يحصل له العلم الضروري بكونه صلي الله عله وسلم في أعلي درجة النبوة (1) ، فهذا النوع من النبوة لا مطمع لأحد في الحصول عليها ،ولا سبيل إلي اكتسابها إلا لهؤلاء المختارين من الله تعالى ،المعدِّين لحمل أعباء النبوة الكاملة المعصومة ،فمثالهم كمثل الموروث للوارث ، فإن الموروث اشتغل بتحصيل المال وحصل له المال و اقتدر عليه ، فكذلك لا يستقلّ بدرك النبوة ابتداءً إلا الأنبياء (2) .
النوع الثاني :
مكتسب لعلماء الأمة الذين هم ورثة الأنبياء ،ولن يستحق عالم مقام وراثة النبي صلي الله عليه وسلم إلا إذا اطلع علي جميع معاني الشريعة المطهرة ، حتى لا يكون بينه و بين النبي صلي الله عليه وسلم إلا درجة النبوة ، فلم يقدروا مع ذلك علي الحصول علي النبوة المُسْتَمَدَّة ابتداءً ، بل تلقيًّا من صاحب النبوة الأصلية (الرسالة). فلا يستقل باستنباطها تلقيًّا بعد تنبيه الأنبياء عليها إلا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وهذا في الرأي الإمام الغزالي ما يقال له نور البصيرة أو الولاية أو المعرفة أو الكشف أو الإلهام أو المشاهدة أو خاصية النبوة (3) .
تظهر من رأي الإمام الغزالي في طريقة البصيرة ،كوسيلة من وسائل المعرفة ،الأمور الآتية:
- إن البصيرة تعني في الأغلب معني النبوة.
- إن النبوة هي المصدر الوحيد لكسب المعرفة الحقيقية ، ولا يطرأ عليها الغلط والوهم.
- إن النبوة أقسام ودرجة ،موهبة وكسبية ،وأن رسول الله صلي الله عليه وسلم، في أعلى درجة النبوة علي الإطلاق ،وهو أعرف الإنسان بربه .
__________
(1) الغزالي : المنقذ من الضلال 70
(2) الغزالي : إحياء علوم الدين 1/169
(3) المرجع السابق(1/27)
إذا كان هذا هو رأي الإمام الغزالي ، فإن لغيره من العلماء آراءً تمكن المقارنة بينهم والموازنة بالمعيار الإسلامي .
لو رجعنا إلي موقف أبي يوسف الكندي (1) . الذي يعتبر فيلسوف العرب ، ورأيه في النبوة والمعرفة ، وجدنا أنه لم يقتصر من وسائل المعرفة علي الحس والعقل ، بل أضاف إليهما الإشراق الذي تمثل قمته علم النبوة ،إلا أنه يؤكد أن هذا العلم خاص بهؤلاء الذين اصطفاهم الله ،أي الأنبياء ، وأن هذا الاصطفاء يجعل لعلمهم خصائص ذاتية تنأى به من أن يكون علما مكتسبا نتيجة البحث والدرس ، وأن النبوة علم بلا طلب،ولا تكلف ، ولا بحيلة بشرية ، ولا زمان ، بل مع إرادته جلّ وعلا ،بتطهير أنفسهم (2) .
يلاحظ هنا أن النبوة عند الكندي لا تختلف كثيرا عن موقف الإمام الغزالي في أنها أهم وسيلة من وسائل المعرفة ،وأنها تنال بتطهير النفس ، إلا أنه خصص هذا العلم بالأنبياء فقط دون من سواء .
أما تفسير الفارابي لظاهرة النبوة فإنه تتصل اتصالا وثيقاً بكل من نظرية المعرفة والسعادة ، والفيض ، إذ إن قمة المعرفة التي تشكل في الوقت نفسه قمة السعادة، تتم عن الاتصال بالعقل الفعّال الذي احتل المرتبة الثالثة في الوجود في نظام الفارابي الفيضي المستقى من الفكرة الأفلاطونية ، إلا أن الفارابي حاول أن يجعل هذه الفكرة إسلامية ، لذلك اعتبر المعرفة بالله عن طريق النظر والاستدلال من الموجودات أوثق من معرفتنا بالله مباشرة .
__________
(1) هو يعقوب بن اسحق الكندي فيلسوف العرب ، و أول فلاسفة في الإسلام ، يرجع نسبه إلي يعرب بن قحطان ، من عرب الجنوب، وكان أجداده ملوكا علي كندة ،ولد حوالي سنة 185 هـ ،( تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام لأبي ريان ص219 )
(2) محمد كمال إبراهيم جعفر : في الفلسفة الإسلامية ،مكتبة الفلاح ،الكويت ،الطبعة الأولى 1986م، ص178.(1/28)
و تتلخص نظرية الفيض عند الفارابي في أن الواحد( الله سبحانه و تعالى) يصدر منه العالم حين يعقل أو يعلم ذاته ،ولكن هذا الصدور ليس صدورا مباشراً ، بل يتمّ بوسائط ، فمن الأول يفيض وجود ثاني ،وهو العقل الأول المحرك للفلك الأكبر ، وتفيض بعد ذلك عقول ثمانية- الواحد من الآخر تنازليا- مع فيض نفوس لهذه العقول نتيجة تأملها في ذاتها، لا في ذات الواحد ، أو العقل الذي يسبقه.وهكذا تتدرج حلقات الفيض في مراتبها حتى تأتي لمرتبة العقل الفعال الذي يشكل حلقة الاتصال بين العالم العلوي والعالم السفلي.
والعقل الفعال أعلي مرتبة من العقل الإنساني ،ويقع خارجه ،وفيه توجد كل الصور والحقائق ، وهو الذي يخرج العقل الإنساني من القوة إلي الفعل ،وبذلك تكون المعرفة هبة وفيضها آتيا إلي العقل الإنساني من الخارج ،وليست حصيلة الاجتهاد والاكتساب (1) .
ويبدو من رأي الفارابي للنبوة ،أنه وافق الإمام الغزالي في كونها تتصل بالسعادة المعرفية وأنها ليست نتيجة الاكتساب والاجتهاد ،ولكن الفارابي كالكندي لم يفرق بين الاستقلال بالنبوة والاستمداد منها ،كما أن الفارابي تناول هذه النظرية من المنظور الفلسفي المستقى من الفكرة الأفلاطونية ،وإن كان قد حاول جهدا لصبغه صبغة إسلامية.
و لبيان ما يحتمل الصواب من وجهات النظر المتباينة هذه في طريقة البصيرة ،يمكن الرجوع إلي القرآن أولا و السنة ثانيا :
__________
(1) المرجع السابق 236-237(1/29)
ففي القرآن قصص الأنبياء و قصص الصالحين الذين انفتحت بصيرتهم بخاصية النبوة ،إما في النوم أو اليقظة. أما انفتاح العين الباصرة في النوم ،فقد حكي لنا القرآن الكريم نموذجا رائعا في ذلك وحصولها للنبي المرسل (وهو يوسف عليه السلام) وللصالح من صالحي الأمم السابقة ( وهو ملك مصر) ، وجمع ذلك في سورة يوسف (1) فكلتا الرؤيتان أمر خارق للعادة، انفتحت بسببها عين أدركت بها أمرا غيبيا وهو المستقبل (2) ، وقد جاء ذلك عن طريق الرؤية عبَّرها يعقوب لابنه يوسف ، وعبَّر يوسف للملك رؤياه ، ولم يفرق الله تعالى في ذلك بين الأنبياء وغيرهم (3) ،و عنه قوله تعالى : ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ ? (4)
... ويقول الرسول مشيرا إلي النبوة ودورها في المعرفة فيما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه –قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:" َلمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الْمُبَشِّرَات" قَالُوا وَ مَا اْلمُبَشِّرَاتُ ؟قَالَ :"الرُّؤْيَةُ الصَّادِقَةُ" رواه البخاري
__________
(1) سورة يوسف الآية 4-5 . لرؤية يوسف ، 43-44 لرؤية ملك مصر
(2) ) و المستقبل غيب بدليل قوله تعالي " وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا .." سورة لقمان 34 ويقال هنا إن الغيب لا يطلع عليه إلا بإرادة الله تعالى ، وهنا صار عدم الاختيار في النبوة واضحا ، فإنها أمر بيد الخالق المدبر العالم القادر.
(3) بل كانت الرؤيا الصادقة أول ما كانت عليه الرسول صلي الله عليه وسلم ثم يعث نبيا مرسلا ،مما يشهد علي أن الرؤيا الصالحة لها نصيب في المعرفة الحقيقية .انظر مختصر صحيح البخاري لأحمد بن عبد اللطيف الزبيدي ، مكتبة دار السلام ،طبعة خاصة بمؤسسة الحرمين الشريفين .ص14-15
(4) سورة يوسف 108(1/30)
... وعنه أن النبي صلي الله عليه و سلم قال :( إِذَا اْقتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَةُ اْلمُؤْمِنِ تَكْذِبُ ، وَرُؤْيَةُ اْلمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةِ وَأَرْبَعِينَ جزءً مِنَ النُّبُوَّةِ ) (1) متفق علية (2)
... و لقد كان مقررا من عقيدة أهل السنة و الجماعة ما يوافق مذهب الإمام الغزالي و هو أن الفراسة ثلاثة أنواع :
الأولى : فراسة إيمانية :
__________
(1) لا يعترض هذا الحديث مع قول الرسول صلي الله عليه وسلم :" وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون ، كلهم يزعم أنه نبي ، و أنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي " لأن النبوة المستقلة التي يوحى بها إلى صاحبها بخبر السماء هي التي ختمت بخاتمة الرسل محمد صلي الله عليه وسلم ،أما كون الإنسان يرزق بخاصية النبوة ،مثل صدق الرؤيا و مطالعة إلي بعض الأسرار الغيبية و أمور عدها العلماء من الكرامة، فهذا أمر لا يجحد شرعا ولا عقلا ، وذلك هو المراد من هذا الحديث، والله أعلم.
الحديث :(وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون ) رواه الإمام مسلم عن ثوبان ، ورواه كذلك أبو داود و أحمد وغيرهما ،انظر: شرح عقيدة الطحاوية بتخريج محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت ، طبعة 1416 هـ- 1996م مشروع مكتبة طالب العلم ، لجمعية إحياء التراث الإسلامي كويت، ص 159 .
(2) النووي (يحي بن شرف) :رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين 190 .(1/31)
... و سببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، وحقيقتها أنها خاطر يهجم علي القلب ، يثب عليه كوثوب الأسد علي الفريسة ، ومنها اشتقاقها ، وهذه الفراسة علي حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة. قال أبو سليمان الداراني- رحمه الله- "الفراسة مكاشفة النفس و معاينة الغيب" وهي من مقامات الإيمان (1) ولا يخفى علي القارئ أن هذا القسم هو مراد الإمام الغزالي بالبصيرة والإلهام والكشف والمشاهدة وخاصية النبوة، فلا تعني النبوة عنده الوحي أو الأمور الخاصة بالأنبياء كما سبقت الإشارة إليها،وقد أنكر بعض الناس على الإمام الغزالي بسبب هذا الاصطلاح الشرعي وعدوه ممن يدعي اكتساب النبوة والوحي وهذا يخالف قصد الغزالي. ولا سبيل إلي إنكار الكرامة (2) التي خص الله بها أولياءه ، ولقد ظهر بطلان قول المعتزلة في إنكار الكرامة، فإنكارهم إياها يشبه إنكارهم المحسوسات.
__________
(1) ابن أبي العز الحنفي : شرح عقيدة الطحاوية ، المكتب الإسلامي بيروت ، طبعة 1416 هـ- 1996م مشروع مكتبة طالب العلم ، لجمعية إحياء التراث الإسلامي كويت، ص 498-499
(2) إن كلمة الكرامة في اللغة تعم كل خارق للعادة ، و كذلك المعجزة في عرف أئمة أهل العلم المتقدمين، ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعلون المعجزة للنبي ، والكرامة للولي، و جماعها : الأمر الخارق للعادة.المرجع السابق :ص494(1/32)
و قولهم : لو صحت لأشبهت المعجزة ، فيؤدي إلي التباس النبي بالولي ، وذلك لا يجوز! فهذه الدعوى إنما تصح ما إذا كان الولي يأتي بالخارق للعادة و يدّعي النبوة، وهذا لا يقع ،ولو ادع النبوة لم يكن وليا أصلا،بل كان متنبِّئًا كذابا (1) وتنبغي الإشارة هنا بأن عالمنا اليوم يحتاج إلى تزكية النفس التي يتوسل بها عالم الحقيقة العلمية المبتكرة مقرونة بالسلوك السوي الملهم من القرآن والسنة ،وقد رأينا كيف آل أمر الدول التي اكتفت بالعلوم الخالية عن الفضائل والاعتصام بالوحي السماءي إلى الخراب والدمار ،وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
الثانية : فراسة رياضية :
... وهي التي تحصل بسبب الجوع والسهر والتخلي ،فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه الفراسة يشترك فيها المؤمن والكافر ،ولا تدل علي إيمان ولا علي ولاية ،وتكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم ، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبادة الرؤساء ونحوهم (2) ،فهذا النوع من الفراسة هي التي روَّج لها أعداءُ الإسلام من الغرب وخاصة اليهود ،في كثير من جامعات ومؤسسات التعليمية المختلفة في الدول العربية و الإفريقية حتى اشتهر أمرهم بين طلاب العلم والطالبات ولم يسلم من هذا المرض حتى كبار الأساتذة ، ويجمعهم عنوان : "جمعيات الدينية"(secret cults) أو " ديانات السِّر" (secret religions)، ولكل مجموعة اسم خاص يميزها من الأخرى، ولقد حاولت بعض الحكومات محاربة هذه الظاهرة في الجامعات إلا أنها لم تكلل بنجاح لوجود بعض الشخصيات المعتبرة في الدولة في مثل هذه الجمعية أو الدين كما يسمونها.
__________
(1) المرجع السابق 498
(2) المرجع السابق 499(1/33)
وإن من سلبيات هذه الجمعية أن فراستهم لا تمنعهم من ارتكاب أي نوع من الجرائم من القتل والدعارة و إدمان المخدرات من الخمر والحشيش غيرها وإن كان الجرائم الجنسية والقتل هي الأكثر وقوعا بينهم ؛ وما ذلك إلا لعدم بناء كشفهم علي الشريعة الصحيحة المؤيدة من المولي عز و جل ،التي تشجع علي الحرص في التطهير النفس من الرذائل والتحلي بالأخلاق الفاضلة وفق ما قرره الوحي الصحيح.
الثالثة : الفراسة الخِلقية :
وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم ،واستدلوا بالخَلْق علي الخُلْق، لما بينهما من الارتباط ،الذي اقتضته حكمة الله تعالى ،كاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة علي صغر العقل ، وبكبره علي كبره ،وسعة الصدر علي سعة الخُلْق ،وبضيقه على ضيقه ،وبجمود العينين و كلال نظرهما علي بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ، ونحو ذلك (1) .
ومن هنا ندين بالاعتراف والتقدير لبعد نظر الإمام الغزالي حين اعتمد على الوحي كليا وجعل ما سواه تبعا له في المعرفة اليقينية.
المبحث الثالث
طبيعة المعرفة
... يقصد بطبيعة المعرفة رؤية العلماء الفاحصة في الجواهر الحقيقية للمعرفة ،وقد انقسم الفلاسفة إزاء هذه القضية إلي قسمين: مثاليين وواقعيين.
... أما الواقعيون فهم المتمسكون بالرأي الظاهري ،ويرون أن ما نراه من الأشياء هي بلا شك حقيقة تلك الأشياء وجوهرها .وليس هناك معنى آخر باطني لهذه الأشياء ، وأن العالم الخارجي ليس إلا الحقيقة كما ندركه بعقولنا وحواسنا ،وبالتالي قرر أصحاب هذا المذهب بأن إدراكنا للأشياء كما هي بدون تأويل آخر في الواقع هو المعرفة الحقيقية لتلك الأشياء.
__________
(1) المرجع السابق(1/34)
... وأما رأي المثاليين في طبيعة المعرفة ،فهو علي عكس ما ذهب إليه الواقعيون ، ويرون أن المعرفة لا تتمثل في ظواهر الأشياء أو مظاهرها الخارجية ،وإنما في جوهرها والفكرة التي وراءها ،ويرون كذلك أن كل مظاهر مادية للأشياء التي نشاهدها ليست هي حقيقة هذه الأشياء ،وإنما هي رموز لجوهرها وحقيقتها ،وبناء علي هذا ،فإن المعرفة الحقيقية عند المثاليين ليست إدراك الأشياء كما هي في الواقع ،كما أن المظهر الخارجي لهذه الأشياء لا يعني الأشياء بذاتها ،والعالم الخارجي ليس إلا نتاج عقولنا (1) .
ولقد شغلت قضية المعرفة بال علماء المسلمين ،وأخذوا يبحثون عنها من شتى النواحي ؛وقد انقسموا إلي رأيين متباينين :
الرأي الأول:
يقول بأن المعرفة يجب أن تكون توقيفية ملهمة ومحتمة من الله علي عباده،وحسب هذا الرأي فالكون وما فيه يعمل وفق قوانين الله الثابتة ،ويسير علي نظام محكم، وعلي هذا فإن ما يتوصل إليه الإنسان من معرفة تتعلق بهذا الكون وقوانين الله فيه ونظمه لا تعتبر شيئا جديدا ، لأن هذه القوانين والنظم موجودة بالفعل ، ومهمة الإنسان هي في التوصل إليها والكشف عنها ؛ذلك لأن الله قد زود الإنسان بالعقل والحس والوسائل والإمكانيات الأخرى التي تمكِّنه من المعرفة .
... وقد استدل أصحاب هذا الرأي بمجموعة من الآيات القرآنية ،ومنها قوله تعالى:
? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ? (2) ،فإذا كان آدم أبا البشر وقد علمه الله تعالى الأسماء كلها- وهي المعرفة- فهو علمها لذريته من بعده كذلك( لأنهم فرع من آدم ويحملون خصائصه الإنسانية)، فهذه النظرة الإسلامية تتشابه مع نظرة الفلسفة الواقعية (3) .
الرأي الثاني :
__________
(1) منير مرسي : فلسفة التربية 44-45 ، بالتصرف
(2) سورة البقرة 31-32
(3) منير مرسي : فلسفة التربية 231(1/35)
ذهبت جماعة من العلماء إلي أن المعرفة مكتسبة وليست توقيفية كما تزعم الطائفة الأخرى ،فالمعرفة عندهم مكتسبة لوجود الإمكانيات والقدرات التي يستعملها الإنسان ليتحصل علي المعرفة اكتسابا وليس اكتشافًا ،وقد استدل أصحاب هذا الرأي في ذلك بآيات قرآنية ، منها قوله تعالي : ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ?? (1) ،أوجد الله الإنسان في العالم و ليس له من العلم شيء ،ثم تدرج في اكتساب العلم شيئا فشيئا – بالوسائل المختلفة- حتى صار عالما واعيًا (2) .
... ولقد اتخذ الإمام الغزالي من هذه المسألة موقفا متميِّزا ، حيث لا يهمل مذهبا إلا ويعطيه ما يستحقه من التقدير ،فقد رأي الإمام الغزالي أن النفس الإنسانية في أصلها محل العلوم والحقائق وهي موجودة فيها وملازمة لها ولكن الآثام والذنوب منعت الإنسان من الإطلاع علي ملكوت الله تعالى ،ويمكن للإنسان أن يقدم المجاهدة بمحو الصفات المذمومة ،وقطع العلائق كلها والإقبال بكل الهمة علي الله تعالي ،وإذا حصل له ذلك فاضت عليه الرحمة ،وانكشف له سر ملكوت السماوات والأرض وظهرت له حقائق المعرفة، وقد استدل الإمام الغزالي بسير الأنبياء- عليهم وعلي نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم-و الأولياء أنه انكشفت لهم الأمور وسعدت نفوسهم بنيل كمالها الممكن لها لا بالتعلم ،بل بالزهد في الدنيا والإعراض والتبري عن علائقها والإقبال بكل الهمة علي الله تعالى ،وهنا ذكر الإمام الغزالي تجربته الشخصية لهذه الطريقة ، حيث جرَّبها في نفسه ولم يزل بها حتى أفضته إلي المقصود ،ونسب هذا المنهج إلي الصوفية ؛لأنهم ردوا الأمر إلي تطهير محض وتصفية وجلاء من جانب الإنسان ثم استعداد وانتظار فقط لما يفاد عليه من الرحمة والعلوم والحقائق.
__________
(1) سورة النحل 78.
(2) منير مرسي : فلسفة التربية 231-232 .(1/36)
... ولكن الإمام الغزالي لم يتجاهل وجود طريقة أخرى تفضي إلي المعرفة المستهدفة، وقد نسب هذا المذهب الثاني إلي أناس استوعروا المنهج الأول الذي هو منهج الأنبياء والأولياء ،ورأوا أن محو العلائق والصفات المذمومة إلي ذلك الحد بالاجتهاد كالممتنع ،حتى ولو حصل في حالة فاستقراره وثباته أبعد منه ؛لأن أدنى وسواس وخاطر يشوش الصفاء .
... وقد أيد الإمام الغزالي الرأي الثاني وذهب إلي أن اكتساب العلوم بمعرفة معيار العلم وتحصيل براهين العلوم المفصلة أولى من الطريق الأول ،وهو الذي يقود – بالسهولة- إلي المعرفة قيادة موثوق بها ،واستدل في ذلك بأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان فقيه النفس ،من غير اجتهاد ،وقرر الإمام الغزالي بأنه لو أراد مريد أن ينال رتبته المعرفية بمجرد الرياضة ،فقد توقع توقعا بعيدًا ،فيجب عليه أولا تحصيل العلوم الحقيقية في النفس بطريق البحث والنظر علي غاية الإمكان ،اقتباسا مما حصله الأولون،ثم إن أراد المعرفة الحقيقية فلا بأس له بعد ذلك بالانتظار – بعد المجاهدة و الرياضة- لما لم ينكشف للعلماء عن الأمور الإلهية ؛لأن ما حصل عليها الخلق من المعارف الإلهية ، لا تقارن بما لم ينكشف لهم سعة وكثرة (1) .
... هكذا جمع الإمام الغزالي بين توقيفية المعرفة وكسبيتها في دائرة طبيعة المعرفة.
... ... ... ... ... ...
تطبيقات تربوية
لمنهج الغزالي للمعرفة
__________
(1) الغزالي : ميزان العمل 40-43(1/37)
وبعد استعراض لمنهج الإمام الغزالي في المعرفة ، يلاحظ أنها تؤثر وتنعكس في المجالات كثيرة ،فلننظر إلى المجال التربوي كمثال لتطبيق هذا المنهج المعرفي : فإننا نرى أنه ينمي المواهب الاكتشافية لدي الطالب عن طريق التعلُّم بحل المشكلات (problem-solving method) والتعلم بالاستقصاء (learning by inquiry) إذ كلتا الطريقتين بمثابة نوع خاص من التعلّم بالاكتشاف ، كما يراها بعض العلماء ،فهو يعرِّف التعلم بالاكتشاف بأنه :"نوع من التعلم المقصود خلال حل المشكلات و تحت إشراف المعلِّم ." و كما عرَّف بعضهم التعلم بالاكتشاف أنه :" هو ذلك النوع من التعلم الذي يقوم فيه التلميذ بالدور الأساسي في اكتسابه ،ويقتصر دور المعلم علي توجيه التلميذ وحفزه علي القيام علي عملية الاكتشاف ." وإذا لم يقدم الأستاذ لطالبه أي توجيه أو قليل من التوجيه سمي الاكتشاف هنا بالاكتشاف الحر (Free- Discovery) ،أما إذا قدم الأستاذ علي طالبه مزيدًا من التوجيه لطالبه يسمي الاكتشاف من هذا النوع بالاكتشاف الموجَّه (Guided – Discovery) (1) .
__________
(1) علي راشد : الجامعة والتدريس الجامعي ص117 ، ط 1، 1408 هـ- 1988م ،دار الشروق للنشر و التوزيع و الطباعة ، جدة ، المملكة العربية السعودية .(1/38)
... ومن المعلوم أن الشك عنصر مهم من عناصر بلوغ المعرفة عند الإمام الغزالي ، وكان من هذا النوع من الشك أن يصاحبه الاستقصاء حتى يتوسل به إلي المعرفة ، فهذا له بعد تربوي حيث تتيح الفرصة أمام الطلاب للتفكير المنطقي المستقلّ للحصول علي الحقائق بأنفسهم ،وتجعلهم مكتشفين ومبتكرين بعد ما كانوا منفِّذين لأفكار غيرهم، كما تضع أمام الطلاب مشكلات تحتاج إلي حلّ ،وعلي الطلاب أن يخططوا بأنفسهم لحلها، ويناقشوها ويصمموا التجارب اللازمة ،ويجمعوا البيانات والنتائج ،ثم يبوبوها ويضعوا لها تفسيرا مناسبا ثم يطبقوا ما تعلموه في المواقف الجديدة ، وتعتبر هذه الترتيبات الأولية نقاط مهمة التي منها تنطلق نظرية المعرفة لتربية القدرة الاكتشافية والابتكارية لدي الطلاب والأكدميين بصفة عامة.
الخاتمة
... يتضح لنا من خلال المحاور المعروضة عن منهج الغزالي في المعرفة : إمكانية المعرفة وحدها وصحتها ،ووسائل المعرفة ،وطبيعتها ،وكذلك تطبيقات تربوية لمنهج الغزالي في المعرفة- أن الغزالي سلك مسلكا ابتكاريا ليس فقط في الجمع بين الوحي والواقع لكن في تأصيل علوم الوحي وجعلها منبعا يستقى منه وتؤول إليه العلوم الكونية كلها،فهو ممن لم ير استحالة المعرفة الحقيقية ولكنه يرى أن الشك الذي يقود في النهاية إلى تجاوز الحيرة المعرفية هو طريق آخر للوصول إلي المعرفة اليقينية ،وبها يشن هجوما شرسا على التقليد ويدعو إلى استقلالية في النظر.
... ويلاحظ أن الغزالي جعل منهجه في المعرفة متكاملا لا يرى الاستغناء بوسيلة دون أخرى وإن كان على اعتقاد أن بعضها أصدق من بعض ،ولعل هذا أيضا يعد ميزة أخرى لمنهجه على منهج الغرب في المعرفة .(1/39)
... واعتمد الغزالي في منهجه على ما سماه -في عرفه- بخاصية النبوة أو الولاية أو نور البصيرة أو المشاهدة أو الكشف أو الإلهام واعتبره أهم وسائل المعرفة لأنها بمثابة نور يقذفه الله في قلب عبد من عباده به يعرف صدق الأنبياء لأنه قد انفتحت بصيرته واستطاع أن يستفيد من علوم الوحي المنزلة على الأنبياء ،غير أن الغزالي يرى أن هذه الولاية لا تنال إلا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتبدل الصفات ،ولا يتأتى كل ذلك إلا بالعلم والعمل المؤديان إلى السعادة الأبدية .
... فإني لا أنسى أن أوصي بالاستفادة من منهج الغزالي في المعرفة في تفجير طاقات الباحثين والموهوبين من الطلاب وغيرهم إذ مجرد العقل لا يكفي في كشف أسرار الكون الكامنة في مدلولات الكتاب والسنة ما لم تزكى النفس وتطهر الباطن فحينئذ ينكشف لنا ما خفي لكثير من البشر من كنوز المعرفة التي تدفع بعجلة الأمة إلى الأمام،فبالإمكان تشجيع الأخلاق وتحفيز على الفضائل في المدارس عبر المسابقات الخلقية كما يمكن تخصيص مادة لتزكية النفس في كل المؤسسات التعليمية يتولى تدرسها علماء المتخصصون في مجال التزكية والسلوك ،حتى إذا سادت التزكية ساد مسلمو اليوم كما سادوا بالأمس –والله تعالى أعلم.وصل اللهم على خير خلقك محمد وعلى آله وأصحابه وسلم .
المصادر والمراجع
??? القرآن الكريم
1- ابن أبي العز الحنفي : شرح عقيدة الطحاوية ، المكتب الإسلامي بيروت ، طبعة 1416 هـ- 1996م مشروع مكتبة طالب العلم ، لجمعية إحياء التراث الإسلامي كويت.
2- ابن كثير (إسماعيل بن عمر) : تفسير القرآن العظيم ، مؤسسة الريان ،مشروع مكتبة طالب العلم ،جمعية إحياء التراث الإسلامي ،الطبعة الرابعة 1998م ،المجلد الأول ، والمجلد الثاني.
3- زكريا بشير : فلسفة نورانية القرآنية عند الغزالي .
4- عبد الحليم محمود : تحقيق والتعليق علي المنقذ من الضلال ،دار الطباعة الحديث.(1/40)
5- علي راشد : الجامعة والتدريس الجامعي ص117 ، ط 1، 1408 هـ- 1988م ،دار الشروق للنشر و التوزيع و الطباعة ، جدة ، المملكة العربية السعودية .
6- الغزالي : إحياء علوم الدين ،مكتبة الصفا ،مطابع دار البيان الحديثة ،القاهرة ،الطبعة الأولى، ج2.
7- الغزالي : المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ،دار الكتب العلمية،بيروت لبنان ،الطبعة الأولى 2001م .
8- الغزالي : المنقذ من الضلال ، المكتبة الشعبية ،بيروت لبنان ،دون تاريخ.
9- الغزالي : ميزان العمل ،دار الكتب العلمية ، بيروت ،الطبعة الأولى 1989م.
10- الغزالي: فضائح الباطنية.
11- لطفي بركات : المعرفة التربوية ،مطبعة العربي ،القاهرة ،الطبعة الأولى.
12- لويس ملوف : المنجد معجم مدرسي للغة العربية،الطبعة الثانية عشرة ،نيسان 1951م.
13- منير مرسى(محمد): فلسفة التربية اتجاهاتها ومدارسها ،عالم الكتب ،القاهرة ،1993م .
14- النخلاوي : أصول التربية الإسلامية .
15- النووي (يحي بن شرف) :رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين.(1/41)