وهذا مطابق لكتاب الله . وقد تواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، ذكرها مسلم فى صحيحه، وأخرج منها البخارى غير وجه . وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله : صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه . قال صلى الله عليه وسلم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه /مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ) ، وفى رواية : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ، وفى رواية : ( شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه ) .
وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلهم بحرورى لما خرجوا عن السنة والجماعة، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب، وأغاروا على ماشية المسلمين . فقام أمير المؤمنين على بن أبى طالب وخطب الناس، وذكر الحديث، وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال، فاستحل قتالهم، وفرح بقتلهم فرحًا عظيمًا، ولم يفعل فى خلافته أمرًا عامًا كان أعظم عنده من قتال الخوارج . وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين، حتى كفروا عثمان وعليا . وكانوا يعملون بالقرآن فى زعمهم، ولا يتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى يظنون أنها تخالف القرآن . كما يفعله سائر أهل البدع مع كثرة عبادتهم وورعهم .
وقد ثبت عن على فى صحيح البخارى وغيره، من نحو ثمانين وجهًا، أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر ثم عمر . وثبت عنه /أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية . وروى عنه بأسانيد جيدة أنه قال : لا أوتى بأحد يفضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى . وعنه أنه طَلَب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه .(2/252)
وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أمر برجل فَضله على أبى بكر أن يجلد لذلك . وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ لصبيغ بن عَسْل؛ لما ظن أنه من الخوارج : لو وجدتك محلوقًا لضربت الذى فيه عيناك .
فهذه سنة أمير المؤمنين على وغيره، قد أمر بعقوبة الشيعة؛ الأصناف الثلاثة، وأخفهم المفَضِّلة . فأمر هو وعمر بجلدهم . والغالية يقتلون باتفاق المسلمين، وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة فى على وغيره، مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم : بيت صاد، وبيت سين، ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع، أو ينكرون القيامة، أو ينكرون ظواهر الشريعة، مثل الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام، ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم، وكتمان أسرارهم، وزيارة شيوخهم . ويرون أن الخمر حلال لهم، ونكاح ذوات المحارم حلال لهم .
فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى، فإن لم يظهر /عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم فى الدرك الأسفل من النار، ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرًا . فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة، ولا يحل نكاح نسائهم، ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين . فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب، وإذا كانوا فى قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة، وألزموا بشرائع الإسلام التى تجب على المسلمين .
وليس هذا مختصًا بغالية الرافضة، بل من غلا فى أحد من المشايخ، وقال : إنه يرزقه، أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبى، أو أنه مستغن عن شريعة النبى صلى الله عليه وسلم، وأن له إلى الله طريقًا غير شريعة النبى صلى الله عليه وسلم، أو أن أحدًا من المشايخ يكون مع النبى صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى .
وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل الواحد المقدور عليه منهم .(2/253)
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة،فقد روى عنهما ـ أعنى : عمر وعلى ـ قتلهما أيضًا . والفقهاء وإن تنازعوا فى قتل الواحد /المقدور عليه من هؤلاء، فلم يتنازعوا فى وجوب قتالهم إذا كانوا ممتنعين؛ فإن القتال أوسع من القتل، كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة، وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به .
وهذه النصوص المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الخوارج، قد أدخل فيها العلماء لفظًا أو معنى من كان فى معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين، بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية، مثل الخرمية، والقرامطة، والنصيرية، وكل من اعتقد فى بشر أنه إله، أو فى غير الأنبياء أنه نبى، وقاتل على ذلك المسلمين فهو شر من الخوارج الحرورية .
والنبى صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية؛ لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج فى حياته . فذكرهم لقربهم من زمانه، كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها فى ذلك الزمان، مثل قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] ، وقوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، ونحو ذلك . ومثل تعيين النبى صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار، وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميم وأسد وغطفان وغيرهم بأحكام؛ لمعان قامت به، وكل من وجدت فيه تلك المعانى ألحق بهم؛ لأن /التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم، بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم؛ هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم .
وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرًا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم؛ فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليًا، وأتباع عثمان وعلى فقط، دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك .(2/254)
والرافضة كَفَّرتْ أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكَفَّروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين .
فيُكفِّرون كلَّ من اعتقد فى أبى بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة، أو تَرضي عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم؛ ولهذا يكفرون أعلام الملة، مثل سعيد بن المسيب، وأبى مسلم الخولانى، وأويس القرنى، وعطاء بن أبى رباح، وإبراهيم النَّخَعِى، ومثل مالك والأوزاعى، وأبى حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والثورى، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وفضيل بن عياض، وأبى سليمان الدارانى، ومعروف الكرخى، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التسترى، وغير هؤلاء . ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور، كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك،/ وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو، والعامة وأهل الحديث . ويرون فى أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم، وأن المائعات التى عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة، ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى؛ لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلى .
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فيعاونون التتار على الجمهور . وهم كانوا من أعظم الأسباب فى خروج جنكزخان ـ ملك الكفار ـ إلى بلاد الإسلام، وفى قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفى أخذ حلب، ونهب الصالحية، وغير ذلك، بخبثهم ومكرهم؛ لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم .(2/255)
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر فى النوبة الأولى . وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين . وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين، والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر، وكذلك لما فتح المسلمون الساحل ـ عكة وغيرها ـ ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم . وكل هذا الذى وصفت بعض أمورهم، وإلا فالأمر أعظم من ذلك .
/وقد اتفق أهل العلم بالأحوال : أن أعظم السيوف التى سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها، وأعظم الفساد الذى جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة، إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم .
فهم أشد ضررًا على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية؛ ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة . فليس فى الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبًا ولا أكثر تصديقًا للكذب وتكذيبًا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر منه فى سائر الناس، وهى التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) ، وفى رواية : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) . وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التى هى سيما المنافقين واليهود، ويستعملونها مع المسلمين { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] ، ويحلفون ما قالوا وقد قالوا، ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه .(2/256)
وقد أشبهوا اليهود فى أمور كثيرة، لاسيما السامرة من اليهود؛ فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف، يشبهونهم فى دعوى الإمامة فى /شخص أو بطن بعينه، والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه، وفى اتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه، وتأخير الفطر، وصلاة المغرب، وغير ذلك، وتحريم ذبائح غيرهم .
ويشبهون النصارى فى الغلو فى البشر والعبادات المبتدعة، وفى الشرك، وغير ذلك .(2/257)
وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين، وهذه شيم المنافقين، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ المائدة : 51 ] ، وقال تعالى : { تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 80، 81 ] . وليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة، وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة ـ والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة ـ وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين، ولا الصلاة خلفهم، ولا طاعتهم فى طاعة الله، ولا تنفيذ شىء من أحكامهم؛ لاعتقادهم أن ذلك لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم . ويرون أن المعصوم قد دخل فى السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، وهو إلى الآن لم يخرج، ولا رآه أحد، ولا علَّم أحدًا دينًا، ولا /حصل به فائدة، بل مضرة . ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به، ولا يكون مؤمنًا إلا من آمن به، ولا يدخل الجنة إلا أتباعه، مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادى، أو من استحوذ عليهم بالباطل، مثل ابن العود ونحوه، ممن قد كتب خطه مما ذكرناه من المخازى عنهم، وصرح بما ذكرناه عنهم، وبأكثر منه .
وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التى فى الكتاب والسنة، وكل من آمن بقدر الله وقضائه،فآمن بقدرته الكاملة،ومشيئته الشاملة،وأنه خالق كل شىء .(2/258)
وأكثر محققيهم ـ عندهم ـ يرون أن أبا بكر وعمر، وأكثر المهاجرين والأنصار، وأزواج النبى صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة، وسائر أئمة المسلمين وعامتهم، ما آمنوا بالله طرفة عين قط؛ لأن الإيمان الذى يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلاً من أصله، كما يقوله بعض علماء السنة . ومنهم من يرى أن فرج النبى صلى الله عليه وسلم الذى جامع به عائشة وحفصة لابد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم؛ لأن وطء الكوافر حرام عندهم .
ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخارى ومسلم، ويرون أن /شعر شعراء الرافضة، مثل الحميرى، وكوشيار الديلمى، وعمارة اليمنى خيرًا من أحاديث البخارى ومسلم . وقد رأينا فى كتبهم من الكذب والافتراء على النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب فى كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل .
وهم مع هذا يعطلون المساجد التى أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة، ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور، ونهى أمته عن ذلك . وقال قبل أن يموت بخمس : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك ) . ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات، حتى إن من مشائخهم من يفضلها على حج البيت الذى أمر الله به ورسوله . ووصف حالهم يطول .
فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج . وهذا هو السبب فيما شاع فى العرف العام : أن أهل البدع هم الرافضة . فالعامة شاع عندها أن ضد السنى هو الرافضى فقط؛ لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء .(2/259)
/وأيضا، فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم، وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذى لا وجود له . فمستند الخوارج خير من مستندهم .
وأيضا، فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال، وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله . وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ؛ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وطلب أن يفسد الإسلام، كما فعل بولص النصرانى، الذى كان يهوديا فى إفساد دين النصارى .
وأيضا، فغالب أئمتهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض؛ لأنه طريق إلى هدم الإسلام، كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان فى زمن المعتصم مع بابك الخرمى، وكانوا يسمون [ الخرمية ] و [ المحمرة ] . و [ القرامطة الباطنية ] الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك، وأخذوا الحجر الأسود، وبقى معهم مدة، كأبى سعيد الجنابى وأتباعه . والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر، وبنوا القاهرة، وادعوا أنهم فاطميون، مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريؤون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نسبهم متصل
بالمجوس واليهود، واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى، بل الغالية الذين يعتقدون /إلهية على والأئمة . ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة، الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك .
وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك، لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار [ هولاكو ] يقرر أصنامهم .
وأيضا، فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد، وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد .(2/260)
وأما ذكر المستفتى أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . فهذا عين الكذب، بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله؛ فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه، وتارة يكذبون بمعانى التنزيل . وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم .
فإن الله قد ذكر فى كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته . وذكر فى كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولى الأمر ما هم خارجون عنه . وذكر فى كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون . وذكر فى كتابه من النهى عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون /عنه . وذكر فى كتابه من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم، وتحريم الغيبة والهمز، واللمز، ما هم أعظم الناس استحلالا له . وذكر فى كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهى عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه . وذكر فى كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه . وذكر فى كتابه من حقوق أزواجه ما هم برآء منه . وذكر فى كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه . فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث؛ لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التى اتخذت أوثانا من دون الله . وهذا باب يطول وصفه .
وقد ذكر فى كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به . وذكر فى كتابه من قصص الأنبياء والنهى عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به . وذكر فى كتابه من أنه على كل شىء قدير، وأنه خالق كل شىء، وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما هم كافرون به . ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة .(2/261)
ومعلوم قطعا أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من إيمانهم . فإذا كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ قد قتلهم ونهب عسكره ما فى عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال، فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم، كما أخذ أمير المؤمنين على بن /أبى طالب أموال الخوارج .
ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ، كقتال أمير المؤمنين على بن أبى طالب لأهل الجمل وصفين، فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام، وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها .
فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التى يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك، وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ؛ فإن التأويل السائغ هو الجائز الذى يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين فى موارد الاجتهاد . وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعى الزكاة، والخوارج، واليهود، والنصارى . وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء .
ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل فى مختصراتهم .
وكثير من الأئمة المصنفين فى الشريعة لم يذكروا فى مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية، كمانعى الزكاة والخوارج ونحوهم، إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام، كأهل /الجمل وصفين . وهذا غلط، بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين، كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه، والسنة، والحديث، والتصوف، والكلام وغيرهم .(2/262)
وأيضا، فقد جاءت النصوص عن النبى صلى الله عليه وسلم بما يشملهم وغيرهم، مثل ما رواه مسلم فى صحيحه، عن أبى هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية، ويقاتل للعصبية، فليس منى، ومن خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يبقى لذى عهدها فليس منى ) ، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان، وعن جماعة المسلمين، وذكر أن أحدهم إذا مات، مات ميتة جاهلية، فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة، بل كل طائفة تغالب الأخرى . ثم ذكر قتال أهل العصبية، كالذين يقاتلون على الأنساب مثل قيس ويمن، وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته، ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم، وذكر أن من فعل هذا فليس منه .
وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها . فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة، يقتلون المؤمن والمعاهد، لا يرون لأحد من ولاة /المسلمين طاعة سواء كان عدلا أو فاسقا، إلا لمن لا وجود له . وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوى الأنساب، وهى العصبية للدين الفاسد، فإن فى قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس فى قلب أحد . وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله، مستقدمهم، ومستأخرهم . وأمثلهم عندهم الذى لا يلعن ولا يستغفر .
وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد، فهذا ـ أيضا ـ حالهم، مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائر الأمة كفار . وروى مسلم فى صحيحه عن محمد بن شريح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ) ، وفى لفظ : ( فاقتلوه ) ، وفى لفظ : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه ) .(2/263)
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين؛ فإنهم لا يقرون لولى أمر بطاعة، سواء كان عدلا أو فاسقا، ولا يطيعونه لا فى طاعة ولا فى غيرها، بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور، كالخلفاء الراشدين، والعلماء المسلمين، ومشائخهم، لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذى لا وجود له فما آمن /بالله ورسوله .
وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء، لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج؛ وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجاً عن السنة والجماعة، مع وجود بقية الخلفاء الراشدين، وبقايا المهاجرين والأنصار، وظهور العلم والإيمان، والعدل فى الأمة، وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة، وسلطان القدرة، حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة .
وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلى ومن معهما من الأنواع التى فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد، بل الحسنات ذنوبا، وجعلوا الذنوب كفرا؛ ولهذا لم يخرجوا فى زمن أبى بكر وعمر؛لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم .
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف؛ فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية، والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها . كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبى صلى الله عليه وسلم كانت أفضل . فالسنن ضد البدع، فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبى بكر وعمر، كان أفضل مما / تأخر كسيرة عثمان وعلى، والبدع بالضد، كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه، وأقربها من زمنه الخوارج . فإن التكلم ببدعتهم ظهر فى زمانه، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا فى خلافة أمير المؤمنين على ـ رضي الله عنه .(2/264)
ثم ظهر فى زمن على التكلم بالرفض، لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين ـ رضي الله عنه بل لم يظهر اسم الرفض إلا حين خروج زيد بن على بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ رفضته الرافضة فسموا [ رافضة ] ، واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم . واتبعه آخرون فسموا [ زيدية ] نسبة إليه .
ثم فى أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة، كابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبى سعيد، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم، ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك .
ثم فى أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية ـ نفاة الصفات ـ ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية فى إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون؛ فإنه أظهر التجهم، وامتحن الناس عليه، وعرب كتب /الأعاجم، من الروم، واليونانيين، وغيرهم . وفى زمنه ظهرت [ الخرمية ] وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام، وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة، والباطنية، والإسماعيلية . وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض فى الظاهر . وصارت الرافضة الإمامية فى زمن بنى بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة، فيهم الخروج، والرفض، والقدر، والتجهم .
وإذا تأمل العالم ما ناقضوه ـ من نصوص الكتاب والسنة ـ لم يجد أحدا يحصيه إلا الله . فهذا كله يبين أن فيهم ما فى الخوارج الحرورية وزيادات .(2/265)
وأيضا، فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون اتباع القرآن بآرائهم، ويدعون اتباع السنن التى يزعمون أنها تخالف القرآن . والرافضة تنتحل اتباع أهل البيت، وتزعم أن فيهم المعصوم الذى لا يخفى عليه شىء من العلم، ولا يخطئ، لا عمدا، ولا سهوا، ولا رشدا . واتباع القرآن واجب على الأمة، بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذى بعث به رسوله، وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجب محبتهم، وموالاتهم، ورعاية حقهم . وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . فروى مسلم فى صحيحه، عن زيد بن أرقم قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغَدِير يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فقال : ( يا أيها الناس، إنى تارك فيكم الثقلين ـ وفى رواية : أحدهما أعظم من الآخر ـ كتاب الله فيه الهدى /والنور ) فرغب فى كتاب الله، وفى رواية : ( هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، وعترتى أهل بيتى . أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى ) . فقيل لزيد بن أرقم : مَنْ أهلُ بيته ؟ قال : أهل بيته من حرم الصدقة، آل العباس، وآل على، وآل جعفر، وآل عقيل .
والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا . وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته : ( والذى نفسى بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلى ) ، وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد، وطهرهم من الصدقة التى هى أوساخ الناس، وجعل لهم حقا فى الخمس والفىء، وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت فى الصحيح : ( إن الله اصطفى بنى إسماعيل، واصطفى كنانة من بنى إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بنى هاشم من قريش، واصطفانى من بنى هاشم، فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا ) . ولو ذكرنا ما روى فى حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة .(2/266)
ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرؤوا من الناصبة الذين يكفرون على بن أبى طالب ويفسقونه، /ويتنقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك، أو يعرض عن حقوقهم الواجبة، أو يغلو فى تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق . وتبرؤوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفرون عامة صالحى أهل القبلة . وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك، كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج، وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين، لكن القرآن أعظم .
فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض، مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله، ومخالفة لصحابته وقرابته، ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته .
وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فى إجماع الخلفاء، وفى إجماع العترة هل هو حجة يجب اتباعها ؟ والصحيح أن كليهما حجة؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ ) . وهذا حديث صحيح فى السنن . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنى تارك فيكم الثقلين : كتاب الله، وعترتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) . رواه الترمذى وحسنه، وفيه نظر . وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية فى زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة .(2/267)
/والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبى صلى الله عليه وسلم على قتالهم ورغب فيه . وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته . ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم شمل الجميع، ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم فى معناهم . فإن الحديث روى بألفاظ متنوعة، ففى الصحيحين ـ واللفظ للبخارى ـ عن على ابن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فوالله لأن أخر من السماء أحب إلىَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بينى وبينكم، فإن الحرب خدعة، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ) . وفى صحيح مسلم : عن زيد بن وهب أنه كان فى الجيش الذين كانوا مع على ـ رضي الله عنه ـ الذين ساروا إلى الخوارج . فقال على : يا أيها الناس، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشىء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشىء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشىء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، /لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدى عليه شعرات بيض ) . والله إنى لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا فى سرح الناس، فسيروا على اسم الله . وذكر الحديث إلى آخره .(2/268)
وفى مسلم ـ أيضا ـ عن عبد الله بن رافع ـ كاتب على ـ رضي الله عنه ـ أن الحرورية لما خرجت وهو مع على قالوا : لا حكم إلا لله . فقال على : كلمة حق أريد بها باطل . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إنى لأعرف صفتهم فى هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم ـ وأشار إلى حلقه ـ من أبغض خلق الله إليه،منهم رجل أسود إحدى يديه طِبْى شاة أو حلمة ثدى . فلما قتلهم على بن طالب قال : انظروا . فنظروا فلم يجدوا شيئاً . فقال : ارجعوا، فوالله ما كذبت ولا كُذِبت ـ مرتين أو ثلاثا ـ ثم وجدوه فى خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه .
وهذه العلامة التى ذكرها النبى صلى الله عليه وسلم هى علامة أول من يخرج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر /فى غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال . وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر .(2/269)
وأيضا، فالصفات التى وصفها تعم غير ذلك العسكر؛ ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا، مثل ما فى الصحيحين، عن أبى سلمة، وعطاء بن يسار : أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية : هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ؟ قال : لا أدرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يخرج فى هذه الأمة ـ ولم يقل : منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو حلوقهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامى إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى فى الفوقة هل علق بها شىء من الدم ) . اللفظ لمسلم . وفى الصحيحين ـ أىضا ـ عن أبى سعيد، قال : بينما النبى صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمى ـ وفى رواية : أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم ـ فقال : اعدل يا رسول الله . فقال : ( ويلك ! من يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ؟ ) . قال عمر بن الخطاب : ائذن لى فأضرب عنقه . قال : ( دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى نضيه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شىء، /ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم ) . وذكر ما فى الحديث .
فهؤلاء أصل ضلالهم : اعتقادهم فى أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم . ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً . ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها .(2/270)
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، فى كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام، حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية، وفى الصحيحين فى حديث أبى سعيد : ( يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ، وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره . وفى حديث أبى سعيد : أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون فى أمته : ( يخرجون فى فرقة من الناس، سيماهم التحليق ) . قال : ( هم شر الخلق ـ أو من شر الخلق ـ تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ) . وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم .(2/271)
/وأخرجا فى الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى، ورواه البخارى من حديث عبد الله بن عمر، ورواه مسلم من حديث أبى ذر، ورافع بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وغيرهم، وروى النسائى عن أبى بَرْزَة أنه قيل له : هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج ؟ قال : نعم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذنى، ورأيته بعينى، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه، ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئاً . فقام رجل من ورائه، فقال : يا محمد، ما عدلت فى القسمة ـ رجل أسود مطموم الشعر، عليه ثوبان أبيضان ـ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال له : ( والله لا تجدون بعدى رجلا هو أعدل منى ) ، ثم قال : ( يخرج فى آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة ) . وفى صحيح مسلم، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن بعدى من أمتى ـ أو سيكون بعدى من أمتى ـ قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة ) . قال ابن الصامت : فلقيت /رافع بن عمرو الغفارى أخا الحكم بن عمرو الغفارى، قلت : ما حديث سمعته من أبى ذر كذا وكذا ؟ فذكرت له الحديث، فقال : وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .(2/272)
فهذه المعانى موجودة فى أولئك القوم الذين قتلهم على ـ رضي الله عنه ـ وفى غيرهم . وإنما قولنا : إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما يقال : إن النبى صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار، أى : قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة، وكذلك الشرك أنواع مختلفة، وإن لم تكن الآلهة التى كانت العرب تعبدها هى التى تعبدها الهند والصين والترك، لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه .
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان فى معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم، كما وجب قتال أولئك . وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة، وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير .
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج، كالحرورية، والرافضة، ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد . والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه، ونحو ذلك ممن فيه /فساد . فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم ) ، وقال : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) . وقال عمر لصَبِيع بن عَسْل : لو وجدتك محلوقا لضربت الذى فيه عيناك . ولأن على بن أبى طالب طلب أن يقتل عبد الله ابن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه . ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين فى الأرض . فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا، ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان فى قتله مفسدة راجحة . ولهذا ترك النبى صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجى ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك على قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقاً كثيراً، وكانوا داخلين فى الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة، ولم يكن يتبين له أنهم هم .(2/273)
وأما تكفيرهم وتخليدهم، ففيه ـ أيضاً ـ للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد . والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم . والصحيح أن هذه الأقوال التى يقولونها التى يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التى هى من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هى كفر أيضا . وقد ذكرت دلائل ذلك فى غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده فى النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه . فإنا نطلق /القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة فى ( قاعدة التكفير ) .
ولهذا لم يحكم النبى صلى الله عليه وسلم بكفر الذى قال : إذا أنا مت فأحرقونى، ثم ذرونى فى اليم، فوالله لأن قدر الله علىَّ ليعذبنى عذابا لا يعذبه أحداً من العالمين، مع شكه فى قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة . وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التى يكفر تاركها، دون غيره . والله أعلم .(2/274)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=542 - TOP#TOPما تقول السادة العلماء أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على بيان الحق المبين، وكشف غمرات الجاهلين والزائغين ـ فى هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة، وتكلموا بالشهادتين، وانتسبوا إلى الإسلام، ولم يبقوا على الكفر الذى كانوا عليه فى أول الأمر، فهل يجب قتالهم أم لا ؟ وما الحجة على قتالهم ؟ وما مذاهب العلماء فى ذلك ؟ وما حكم من كان معهم ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين ـ الأمراء وغيرهم ؟ وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرها ؟ وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك ؟ وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون، والمقاتلون لهم مسلمون، وكلاهما ظالم، فلا يقاتل مع أحدهما، وفى قول من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون ؟ وما الواجب على جماعة المسلمين من أهل العلم والدين، وأهل القتال، وأهل الأموال فى أمرهم ؟ أفتونا فى ذلك بأجوبة مبسوطة شافية، فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين، بل على أكثرهم . تارة لعدم العلم بأحوالهم . وتارة لعدم العلم بحكم الله/ ـ تعالى ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم فى مثلهم . والله الميسر لكل خير بقدرته ورحمته، إنه على كل شىء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، نعم يجب قتال هؤلاء بكتاب الله، وسنة رسوله، واتفاق أئمة المسلمين . وهذا مبنى على أصلين : أحدهما : المعرفة بحالهم . والثانى : معرفة حكم الله فى مثلهم .
فأما الأول : فكل من باشر القوم يعلم حالهم، ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين . ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذى يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول :(2/275)
كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين . فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا . وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة . وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق . وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة . وكذلك إن امتنعوا عن الحكم فى الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة . وكذلك / إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها، مثل أن يظهروا الإلحاد فى أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن فى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا فى طاعتهم التى توجب الخروج عن شريعة الإسلام، وأمثال هذه الأمور .
قال الله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] ، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله .(2/276)
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 278، 279 ] ، وهذه الآية نزلت فى أهل الطائف، وكانوا قد أسلموا وصلوا وصاموا، لكن كانوا يتعاملون بالربا . فأنزل الله هذه الآية، وأمر المؤمنين فيها بترك ما بقى من الربا، وقال : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] ، وقد قرئ { فَأْذَنُواْ } ، و ( وآذنوا ) وكلا المعنيين صحيح . والربا /آخر المحرمات فى القرآن، وهو مال يؤخذ بتراضى المتعاملين . فإذا كان من لم ينته عنه محاربا لله ورسوله، فكيف بمن لم ينته عن غيره من المحرمات التى هى أسبق تحريما وأعظم تحريما ؟ ! .
وقد استفاض عن النبى صلى الله عليه وسلم الأحاديث بقتال الخوارج، وهى متواترة عند أهل العلم بالحديث . قال الإمام أحمد : صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه، وقد رواها مسلم فى صحيحه، وروى البخارى منها ثلاثة أوجه : حديث على، وأبى سعيد الخدرى، وسهل ابن حنيف . وفى السنن والمسانيد طرق أخر متعددة . وقد قال صلى الله عليه وسلم فى صفتهم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم،يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية،أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛فإن فى قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) .(2/277)
وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب بمن معه من الصحابة، واتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها، لم يتنازعوا فى قتالهم كما تنازعوا فى القتال يوم الجمل وصفين . فإن الصحابة كانوا فى قتال الفتنة ثلاثة أصناف : قوم قاتلوا مع على ـ رضي الله عنه . وقوم قاتلوا مع من قاتله . وقوم قعدوا عن القتال لم يقاتلوا الواحدة من الطائفتين . وأما الخوارج /فلم يكن فيهم أحد من الصحابة، ولا نهى عن قتالهم أحد من الصحابة وفى الصحيح عن أبى سعيد، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) . وفى لفظ : ( أدنى الطائفتين إلى الحق ) . فبهذا الحديث الصحيح ثبت أن عليا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن تلك المارقة التى مرقت من الإسلام ليس حكمها حكم إحدى الطائفتين، بل أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتال هذه المارقة، وأكد الأمر بقتالها، ولم يأمر بقتال إحدى الطائفتين كما أمر بقتال هذه، بل قد ثبت عنه فى الصحيح من حديث أبى بكرة أنه قال للحسن : ( إن ابنى هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ) ، فمدح الحسن وأثنى عليه بما أصلح الله به بين الطائفتين حين ترك القتال، وقد بويع له واختار الأصلح، وحقن الدماء مع نزوله عن الأمر . فلو كان القتال مأموراً به لم يمدح الحسن ويثنى عليه بترك ما أمر الله به وفعل ما نهى الله عنه .
والعلماء لهم فى قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان :(2/278)
منهم من يرى قتال علىٍّ يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغى، وكذلك يجعل قتال أبى بكر لمانعى الزكاة، وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة، كما ذكر ذلك من ذكره /من أصحاب أبى حنيفة والشافعى ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم . وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فساقا بل هم عدول؛ فقالوا : إن أهل البغى عدول مع قتالهم، وهم مخطئون خطأ المجتهدين فى الفروع .
وخالفت فى ذلك طائفة كابن عقيل وغيره، فذهبوا إلى تفسيق أهل البغى، وهؤلاء نظروا إلى من عدوه من أهل البغى فى زمنهم فرأوهم فساقا، ولا ريب أنهم لا يدخلون الصحابة فى ذلك ـ وإنما يفسق الصحابة بعض أهل الأهواء من المعتزلة ونحوهم، كما يكفرهم بعض أهل الأهواء من الخوارج والروافض، وليس ذلك من مذهب الأئمة والفقهاء أهل السنة والجماعة ـ ولا يقولون : إن أموالهم معصومة كما كانت، وما كان ثابتا بعينه رد إلى صاحبه، وما أتلف فى حال القتال لم يضمن، حتى إن جمهور العلماء يقولون : لا يضمن لا هؤلاء ولا هؤلاء، كما قال الزهرى : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر .
وهل يجوز أن يستعان بسلاحهم فى حربهم إذا لم يكن إلى ذلك ضرورة ؟ على وجهين : فى مذهب أحمد يجوز، والمنع قول الشافعى والرخصة قول أبى حنيفة .
واختلفوا فى قتل أسيرهم،واتباع مدبرهم،والتَّذْفِيف على جريحهم / إذا كان لهم فئة يلجؤون إليها . فجوز ذلك أبو حنيفة، ومنعه الشافعى، وهو المشهور فى مذهب أحمد، وفى مذهبه وجه : أنه يتبع مدبرهم فى أول القتال . وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يُذَفَّف على جريح، كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال : خرج صارخ لعلى يوم الجمل : لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن .(2/279)
فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغى المتأولين، ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام، كما أدخل من أدخل فى هذا الحكم مانعى الزكاة والخوارج . وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى .
والطريقة الثانية : أن قتال مانعى الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين، وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين، وهو الذى يذكرونه فى اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره، ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره .
وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا فى غير موضع، حتى فى الأموال . فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج، وقد نص أحمد فى رواية أبى طالب فى حرورية كان لهم سهم فى قرية فخرجوا / يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون،فأرضهم فىء للمسلمين،يقسم خمسه على خمسة، وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم بينهم، أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم، مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين . فجعل أحمد الأرض التى للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار . وبالجملة، فهذه الطريقة هى الصواب المقطوع به .
فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا، وسيرة على ـ رضي الله عنه ـ تفرق بين هذا وهذا . فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح بذلك، ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة . وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر . وقال فى أهل الجمل وغيرهم : إخواننا بغوا علينا، طهرهم السيف . وصلى على قتلى الطائفتين .
وأما الخوارج، ففى الصحيحين عن على بن أبى طالب، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ) .(2/280)
وفى صحيح مسلم، عن زيد بن وهب أنه كان فى الجيش الذى/ كانوا مع على، الذين ساروا إلى الخوارج، فقال على : أيها الناس، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشىء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشىء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشىء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدى، عليه شعرات بيض ) . قال : فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام، ويتركون هؤلاء يخلفونكم فى ذراريكم وأموالكم، والله إنى لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا فى سرح الناس، فسيروا على اسم الله . قال : فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيسا . فقال لهم : القوا الرماح، وسلّوا سيوفكم من حقوتها، فإنى أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء . فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم . قال : وأقبل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان . فقال على : التمسوا فيهم المخدج . فالتمسوه فلم يجدوه . فقام على سيفه حتى أتى ناسا قد أقبل بعضهم على بعض . قال : أخروهم . فوجدوه مما يلى الأرض . فكبر، ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله . قال : فقام إليه عبيدة السلمانى . فقال : يا أمير المؤمنين، الله الذى لا إله إلا / هو، أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إى والله الذى لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثا، وهو يحلف له أيضا .
فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا فى تكفيرهم على قولين مشهورين فى مذهب مالك وأحمد، وفى مذهب الشافعى ـ أيضا ـ نزاع فى كفرهم .(2/281)
ولهذا كان فيهم وجهان فى مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى : أحدهما : أنهم بغاة . والثانى : أنهم كفار كالمرتدين، يجوز قتلهم ابتداء، وقتل أسيرهم، واتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل؛ كما أن مذهبه فى مانعى الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها، هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها ؟ على روايتين .
وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعى الزكاة، وقتال على للخوارج، ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين . فكلام على وغيره فى الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفارا كالمرتدين عن أصل الإسلام، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين، بل هم نوع ثالث . وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم .
/وممن قاتلهم الصحابة ـ مع إقرارهم بالشهادتين والصلاة وغير ذلك ـ مانعى الزكاة، كما فى الصحيحين عن أبى هريرة : أن عمر بن الخطاب قال لأبى بكر : يا خليفة رسول الله، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) . فقال له أبو بكر : ألم يقل لك : ( إلا بحقها ) . فإن الزكاة من حقها . والله لو منعونى عَنَاقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعلمت أنه الحق .
وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعى الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، فلهذا كانوا مرتدين، وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب، كما أمر الله . وقد حكى عنهم أنهم قالوا : إن الله أمر نبيه بأخذ الزكاة بقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ، وقد سقطت بموته .(2/282)
وكذلك أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتال الذين لا ينتهون عن شرب الخمر .
وأما الأصل الآخر ـ وهو معرفة أحوالهم ـ فقد علم أن هؤلاء/ القوم جازوا على الشام فى المرة الأولى ـ عام تسعة وتسعين ـ وأعطوا الناس الأمان، وقرؤوه على المنبر بدمشق، ومع هذا فقد سبوا من ذرارى المسلمين ما يقال : إنه مائة ألف أو يزيد عليه، وفعلوا ببيت المقدس، وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا، وغير ذلك من القتل والسبى ما لا يعلمه إلا الله، حتى يقال : إنهم سبوا من المسلمين قريبا من مائة ألف، وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين فى المساجد وغيرها، كالمسجد الأقصى والأموى وغيره، وجعلوا الجامع الذى بالعقيبة دكا .
وقد شاهدنا عسكر القوم، فرأينا جمهورهم لا يصلون، ولم نر فى عسكرهم مؤذنا ولا إماما، وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله .
ولم يكن معهم فى دولتهم إلا من كان من شر الخلق : إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام فى الباطن، وإما من هو من شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم، وإما من هو من أفجر الناس وأفسقهم . وهم فى بلادهم ـ مع تمكنهم ـ لا يحجون البيت العتيق، وإن كان فيهم من يصلى ويصوم فليس الغالب عليهم إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة .
وهم يقاتلون على ملك جنكسخان . فمن دخل فى طاعتهم جعلوه /وليا لهم وإن كان كافرا، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين . ولا يقاتلون على الإسلام، ولا يضعون الجزية والصغار .(2/283)
بل غاية كثير من المسلمين منهم ـ من أكابر أمرائهم ووزرائهم ـ أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصارى، كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام، وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون . فقال : هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله، محمد وجنكسخان . فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين، أن يسوى بين رسول الله وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين، وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفراً وفساداً وعدواناً من جنس بختنصر وأمثاله .
وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان فى جنكسخان عظيما، فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى فى المسيح، ويقولون : إن الشمس حبلت أمه، وأنها كانت فى خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت . ومعلوم عند كل ذى دين أن هذا كذب . وهذا دليل على أنه ولد زنا، وأن أمه زنت فكتمت زناها، وادعت هذا حتى تدفع عنها مَعَرَّة الزنا، وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله فى تعظيم ما سنه لهم وشرعه بظنه وهواه،حتى / يقولوا لما عندهم من المال : هذا رزق جنكسخان،ويشكرونه على أكلهم وشربهم، وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادى لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين .
فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم بمنزلة هذا الملعون . ومعلوم أن مسيلمة الكذاب كان أقل ضرراً على المسلمين من هذا، وادعى أنه شريك محمد فى الرساله، وبهذا استحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين، فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمدًا كجنكسخان ؟ ! وإلا فهم مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكسخان على المسلمين المتبعين لشريعة القرآن، ولا يقاتلون أولئك المتبعين لما سنه جنكسخان كما يقاتلون المسلمين بل أعظم .(2/284)
أولئك الكفار يبذلون له الطاعة والانقياد، ويحملون إليه الأموال، ويقرون له بالنيابة، ولا يخالفون ما يأمرهم به إلا كما يخالف الخارج عن طاعة الإمام للإمام . وهم يحاربون المسلمين ويعادونهم أعظم معاداة، ويطلبون من المسلمين الطاعة لهم وبذل الأموال، والدخول فيما وضعه لهم ذلك الملك الكافر المشرك المشابه لفرعون أو النمروذ ونحوهما، بل هو أعظم فسادا فى الأرض منهما . قال الله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 4 ] .
وهذا الكافر علا فى الأرض؛ يستضعف أهل الملل كلهم من المسلمين واليهود والنصارى ومن خالفه من المشركين بقتل الرجال وسبى الحريم، وبأخذ الأموال، وبهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد . ويرد الناس عما كانوا عليه من سنن الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما ابتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية .
فهم يدعون دين الإسلام، ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين، ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين، والحكم فيما شجر بين أكابرهم بحكم الجاهلية، لا بحكم الله ورسوله .
وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم، يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله، بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين .(2/285)
ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجح دين المسلمين، وهذا القول فاش غالب فيهم، حتى فى فقهائهم وعبادهم لاسيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم، فإنه غلبت عليهم الفلسفة . وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم، وعلى /هذا كثير من النصارى أو أكثرهم، وكثير من اليهود أيضا، بل لو قال القائل : إن غالب خواص العلماء منهم والعباد على هذا المذهب لما أبعد . وقد رأيت من ذلك وسمعت ما لا يتسع له هذا الموضع .
ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين : أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر . وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [ النساء : 150، 151 ] ، واليهود والنصارى داخلون فى ذلك، وكذلك المتفلسفة يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض . ومن تفلسف من اليهود والنصارى يبقى كفره من وجهين .
وهؤلاء أكثر وزرائهم الذين يصدرون عن رأيه غايته أن يكون من هذا الضرب، فإنه كان
يهوديا متفلسفا، ثم انتسب إلى الإسلام مع ما فيه من اليهودية والتفلسف، وضم إلى ذلك الرفض . فهذا هو أعظم من عندهم من ذوى الأقلام، وذاك أعظم من كان عندهم من ذوى السيف . فليعتبر المؤمن بهذا .
وبالجملة، فما من نفاق وزندقة وإلحاد إلا وهى داخلة فى اتباع التتار؛/لأنهم من أجهل الخلق وأقلهم معرفة بالدين، وأبعدهم عن اتباعه، وأعظم الخلق اتباعًا للظن وما تهوى الأنفس .(2/286)
وقد قسموا الناس أربعة أقسام : يال، وباع، وداشمند، وطاط ـ أى : صديقهم وعدوهم والعالم والعامى ـ فمن دخل فى طاعتهم الجاهلية وسنتهم الكفرية كان صديقهم . ومن خالفهم كان عدوهم ولو كان من أنبياء الله ورسله وأوليائه . وكل من انتسب إلى علم أو دين سموه [ داشمند ] كالفقيه والزاهد والقسيس والراهب ودنان اليهود والمنجم والساحر والطبيب والكاتب والحاسب، فيدرجون سادن الأصنام . فيدرجون فى هذا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع ما لا يعلمه إلا الله، ويجعلون أهل العلم والإيمان نوعًا واحدًا .
بل يجعلون القرامطة الملاحدة الباطنية الزنادقة المنافقين كالطوسى وأمثاله، هم الحكام على جميع من انتسب إلى علم أو دين من المسلمين واليهود والنصارى . وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان، حتى تولى قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والإلحاد والكفر بالله ورسوله، بحيث تكون موافقته للكفار والمنافقين من اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة على ما يريدونه أعظم من غيره .
/ويتظاهر من شريعة الإسلام بما لابد له منه، لأجل من هناك من المسلمين، حتى إن وزيرهم الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفًا، مضمونه أن النبى صلى الله عليه وسلم رضى بدين اليهود والنصارى، وأنه لا ينكر عليهم، ولا يذمون ولا ينهون عن دينهم، ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام . واستدل الخبيث الجاهل بقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ سورة الكافرون ] ، وزعم أن هذه الآية تقتضى أنه يرضى دينهم، قال : وهذه الآية محكمة؛ ليست منسوخة . وجرت بسبب ذلك أمور .(2/287)
ومن المعلوم أن هذا جهل منه، فإن قوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، ليس فيه ما يقتضى أن يكون دين الكفار حقًا ولا مرضيًا له، وإنما يدل على تبرئه من دينهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فى هذه السورة : ( إنها براءة من الشرك ) ، كما قال فى الآية الأخرى : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] ، فقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، كقوله : { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } [ البقرة : 139 ] ، وقد اتبع ذلك بموجبه ومقتضاه حيث قال : { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } . ولو قدر أن فى هذه السورة ما يقتضى أنهم لم يؤمروا بترك دينهم، فقد علم بالاضطرار من /دين الإسلام بالنصوص المتواترة وبإجماع الأمة أنه أمر المشركين وأهل الكتاب بالإيمان به، وأنه جاءهم على ذلك، وأخبر أنهم كافرون يخلدون فى النار .
وقد أظهروا الرفض، ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين، وذكروا عليًا وأظهروا الدعوة للاثنى عشر، الذين تزعم الرافضة أنهم أئمة معصومون، وأن أبا بكر وعمر وعثمان كفار وفجار ظالمون، لا خلافة لهم، ولا لمن بعدهم . ومذهب الرافضة شر من مذهب الخوارج المارقين؛ فإن الخوارج غايتهم تكفير عثمان وعلى وشيعتهما . والرافضة تكفير أبى بكر وعمر وعثمان وجمهور السابقين الأولين، وتجحد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما جحد به الخوارج، و فيهم من الكذب والافتراء والغلو والإلحاد ما ليس فى الخوارج، وفيهم من معاونة الكفار على المسلمين ما ليس فى الخوارج .(2/288)
والرافضة تحب التتار ودولتهم؛ لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين . والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب فى دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين /وسبى حريمهم . وقضية ابن العلقمى وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم فى حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس . وكذلك فى الحروب التى بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام، قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين، وأنهم عاونوهم على أخذ البلاد لما جاء التتار، وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل، وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة، وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدًا ومسرة عند الرافضة .
ودخل فى الرافضة أهل الزندقة والإلحاد من [ النصيرية ] و [ الإسماعيلية ] وأمثالهم من الملاحدة [ القرامطة ] وغيرهم ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك . والرافضة جهمية قدرية، وفيهم من الكذب والبدع والافتراء على الله ورسوله أعظم مما فى الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين على وسائر الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما فى مانعى الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة .(2/289)
ومن أعظم ما ذم به النبى صلى الله عليه وسلم الخوارج قوله فيهم : ( يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان ) ، كما أخرجا فى الصحيحين، عن أبى سعيد، قال : بعث على إلى النبى صلى الله عليه وسلم /بذهيبة فقسمها بين أربعة ـ يعنى من أمراء نجد ـ فغضبت قريش والأنصار . قالوا : يعطى صناديد أهل نجد ويدعنا ! ! قال : ( إنما أتألفهم ) . فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، فقال : يا محمد، اتق الله . فقال : ( من يطع الله إذا عصيته، أيأمننى الله على أهل الأرض ولا تأمنونى ؟ ) . فسأله رجل قَتْلَه فمنعه . فلما ولى قال : ( إن من ضئضئ هذا ـ أو فى عقب هذا ـ قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية،يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ، وفى لفظ فى الصحيحين عن أبى سعيد، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقسم قسمًا ـ أتاه ذو الخويصرة ـ وهو رجل من بنى تميم ـ فقال : يا رسول الله، اعدل . فقال : ( ويلك، فمن يعدل إذا لم أعدل ! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ) . فقال عمر : يا رسول الله، أتأذن لى فيه فأضرب عنقه ؟ فقال : ( دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم . آيتهم رجل أسود، إحدى /عضديه مثل ثدى المرأة، أو مثل البضعة، يخرحون على حين فرقة من الناس ) . قال أبو سعيد : فأشهد أنى سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه .(2/290)
فأمر بذلك الرجل فالتمس، فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى نعته .
فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمهم به النبى صلى الله عليه وسلم : أنهم يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان، وذكر أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس، والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين،والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين، فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكفار مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار، فكانوا أعظم مروقًا عن الدين من أولئك المارقين بكثير، كثير .
وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين، كما قاتلهم على ـ رضى الله عنه ـ فكيف إذا ضموا إلى ذلك من أحكام المشركين ـ كنائسًا ـ وجنكسخان ملك المشركين : ما هو من أعظم المضادة لدين الإسلام، وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام . وإذا كان السلف قد /سموا مانعى الزكاة مرتدين ـ مع كونهم يصومون، ويصلون، ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين ـ فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين ؟ ! مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله، المحادون لله ورسوله، المعادون لله ورسوله، على أرض الشام ومصر فى مثل هذا الوقت، لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه .
أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما، فهم فى هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولاً فى الطائفة المنصورة التى ذكره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله فى الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه : ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لايضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة ) . وفى رواية لمسلم : ( لا يزال أهل الغرب ) .(2/291)
والنبى صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية، فغربه ما يغرب عنها، وشرقه ما يشرق عنها، فإن التشريق والتغريب من الأمور النسبية، إذ كل بلد له شرق وغرب؛ ولهذا إذا قدم الرجل إلى الإسكندرية من الغرب يقولون : سافر إلى الشرق، وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام : أهل الغرب، ويسمون أهل نجد والعراق : أهل الشرق، كما فى حديث ابن عمر قال : قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا، وفى /رواية : من أهل نجد . ولهذا قال أحمد بن حنبل : ( أهل الغرب ) هم أهل الشام ـ يعنى : هم أهل الغرب ـ كما أن نجد والعراق أول الشرق، وكل ما يشرق عنها فهو من الشرق، وكل ما يغرب عن الشام من مصر وغيرها فهو داخل فى الغرب . وفى الصحيحين : أن معاذ بن جبل قال فى الطائفة المنصورة : وهم بالشام . فإنها أصل المغرب، وهم فتحوا سائر المغرب، كمصر، والقيروان، والأندلس، وغير ذلك .
وإذا كان غرب المدينة النبوية ما يغرب عنها، فالحيرة ونحوها على مسامتة المدينة النبوية، كما أن حران، والرقة، وسميساط ونحوها على مسامتة مكة، فما يغرب عن البيرة فهو من الغرب الذين وعدهم النبى صلى الله عليه وسلم؛ لما تقدم . وقد جاء فى حديث آخر فى صفة الطائفة المنصورة : ( أنهم بأكناف البيت المقدس ) . وهذه الطائفة هى التى بأكناف البيت المقدس اليوم .(2/292)
ومن يتدبر أحوال العالم فى هذا الوقت، يعلم أن هذه الطائفة هى أقوم الطوائف بدين الإسلام، علمًا، وعملاً، وجهادًا عن شرق الأرض وغربها؛ فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى، ومع المشركين من الترك، ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين فى الرافضة وغيرهم، كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة، معلومة قديمًا وحديثًا . والعز الذى للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم؛ ولهذا لما هزموا /سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها ما لا يعلمه إلا الله . والحكايات فى ذلك كثيرة ليس هذا موضعها .
وذلك أن سكان اليمن فى هذا الوقت ضعاف، عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له، وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد، حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء، وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى . وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو?
كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون، وإنما تكون القوة والعزة فى هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلت هذه الطائفة ـ والعياذ بالله تعالى ـ لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس، لاسيما وقد غلب فيهم الرفض، وملك هؤلاء التتار المحاربون لله ورسوله الآن مرفوض، فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية . وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها، وهم من شر الخلق، بل هم مستحقون للجهاد والغزو . وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنجة على أكثر بلادهم، لا يقومون بجهاد النصارى هناك، بل فى عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم . لو استولى التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس، لاسيما والنصارى /تدخل مع التتار فيصيرون حزبًا على أهل المغرب .(2/293)
فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التى بالشام ومصر فى هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام . فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز، ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه .
فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار؛ فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلى من وجوه متعددة . منها : أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلى . ومنها : أن المرتد يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلى الذى ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبى حنيفة ومالك وأحمد؛ ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعى وأحمد . ومنها : أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلى . إلى غير ذلك من الأحكام .(2/294)
وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلى عن شرائعه؛ ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار، ويعلم أن المرتدين الذين فيهم / من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم، وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم، وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارًا؛ فإن المسلم الأصلى إذا ارتد عن بعض شرائعه، كان أسوأ حالاً ممن لم يدخل بعد فى تلك الشرائع، مثل مانعى الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق . وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقها أو متصوفًا أو تاجرًا أو كاتبًا أو غير ذلك، فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا فى تلك الشرائع وأصروا على الإسلام؛ ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك، وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين، ونافقوا فى بعضه، وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين .
وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحدًا، نصيريًا، أو إسماعيليًا، أو رافضيًا . وخيارهم يكون جهميًا اتحاديًا أو نحوه، فإنه لا ينضم إليهم طوعًا من المظهرين للإسلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر . ومن أخرجوه معهم مكرهًا فإنه يبعث على نيته . ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره .(2/295)
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : / ( يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم ) . فقيل : يا رسول الله، إن فيهم المكره . فقال : ( يبعثون على نياتهم ) . والحديث مستفيض عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة، وحفصة، وأم سلمة . ففى صحيح مسلم عن أم سلمة، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم ) . فقلت : يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا ؟ قال : ( يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ) ، وفى الصحيحين عن عائشة قالت : عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منامه . فقلنا : يا رسول الله، صنعت شيئًا فى منامك لم تكن تفعله . فقال : ( العجب ! إن ناسًا من أمتى يؤمون هذا البيت برجل من قريش وقد لجأ إلى البيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسفت بهم ) . فقلنا : يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس . قال : ( نعم، فيهم المستنصر، والمجنون، وابن السبيل، فيهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله ـ عز وجل ـ على نياتهم ) ، وفى لفظ للبخارى عن عائشة، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ) . قالت : قلت : يارسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ ! قال : ( يخسف بأولهم وآخرهم،ثم يبعثون على نياتهم ) ،/ وفى صحيح مسلم عن حفصة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سيعوذ بهذا البيت ـ يعنى الكعبة ـ قوم ليست لهم منعة، ولا عدد، ولا عدة، يبعث إليهم جيش يومئذ حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم ) . قال يوسف بن ماهك : وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة . فقال عبد الله بن صفوان : أما والله ما هو بهذا الجيش .(2/296)
فالله ـ تعالى ـ أهلك الجيش الذى أراد أن ينتهك حرماته ـ المكره فيهم وغير المكره ـ مع قدرته على التمييز بينهم، مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره، وهم لا يعلمون ذلك ؟ ! بل لو ادعى مدع أنه خرج مكرهًا لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روى أن العباس بن عبد المطلب قال للنبى صلى الله عليه وسلم ـ لما أسره المسلمون يوم بدر : يا رسول الله، إنى كنت مكرهًا . فقال : ( أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله ) . بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضًا، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا، فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار . ولو لم نخف على المسلمين جاز رمى أولئك المسلمين ـ أيضًا ـ فى أحد قولى العلماء . ومن قتل لأجل الجهاد الذى/ أمر الله به ورسوله ـ هو فى الباطن مظلوم ـ كان شهيدًا، وبعث على نيته، ولم يكن قتله أعظم فسادًا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين .(2/297)
وإذا كان الجهاد واجبًا وإن قتل من المسلمين ما شاء الله . فقتل من يقتل فى صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، بل قد أمر النبى صلى الله عليه وسلم المكره فى قتال الفتنة بكسر سيفه . وليس له أن يقاتل، وإن قتل، كما فى صحيح مسلم، عن أبى بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتن، ألا ثم تكون فتن، القاعد فيها خير من الماشى، والماشى فيها خير من الساعى، ألا فإذا نزلت ـ أو وقعت ـ فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه ) . قال : فقال رجل : يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض ؟ قال : ( يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة . اللهم هل بلغت . اللهم هل بلغت . اللهم هل بلغت ) . فقال رجل : يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بى إلى إحدى الصفين ـ أو إحدى الفئتين ـ فيضربنى رجل بسيفه، أو بسهمه، فيقتلنى . قال : ( يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار ) .
/ففى هذا الحديث أنه نهى عن القتال فى الفتنة، بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال، أو إفساد السلاح الذى يقاتل به، وقد دخل فى ذلك المكره وغيره . ثم بين أن المكره إذا قتل ظلمًا كان القاتل قد باء بإثمه وإثم المقتول، كما قال ـ تعالى ـ فى قصة ابنى آدم عن المظلوم : { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ } [ المائدة : 29 ] ، ومعلوم أن الإنسان إذا صال صائل على نفسه جاز له الدفع بالسنة والإجماع، وإنما تنازعوا : هل يجب علىه الدفع بالقتال ؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد : إحداهما : يجب الدفع عن نفسه ولو لم يحضر الصف . والثانية : يجوز له الدفع عن نفسه . وأما الابتداء بالقتال فى الفتنة فلا يجوز بلا ريب .(2/298)
والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال فى الفتنة ليس له أن يقاتل، بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يقتل مظلومًا، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام، كمانعى الزكاة والمرتدين ونحوهم ؟ ! فلا ريب أن هذا يجب علىه إذا أكره على الحضور ألا يقاتل، وإن قتله المسلمون، كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل، فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس، /فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو، بل إذا فعل ذلك كان القود على المكِره والمكرَه جميعًا عند أكثر العلماء، كأحمد، ومالك، والشافعى فى أحد قوليه، وفى الآخر يجب القود على المكره فقط، كقول أبى حنيفة ومحمد . وقيل : القود على المكره المباشر، كما روى ذلك عن زفر . وأبو يوسف يوجب الضمان بالدية بدل القود، ولم يوجبه . وقد روى مسلم فى صحيحه عن النبى صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود، وفيها : أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين؛ ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم فى صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان فى ذلك مصلحة للمسلمين . وقد بسطنا القول فى هذه المسألة فى موضع آخر .(2/299)
فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد،مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضى إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التى لا تحصل إلا بذلك، ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذى لا يندفع إلا بذلك أولى . وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل، وإن كان المال الذى يأخذه قيراطًا من دينار . كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح : ( من قتل دون ماله فهو شهيد،ومن قتل دون دمه فهو شهيد، من قتل دون حرمه فهو شهيد ) ، فكيف /بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام، المحاربين لله ورسوله، الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم ؟ . فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع، وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين فى أنفسهم، وأموالهم، وحرمهم، ودينهم . وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها . ومن قتل دونها فهو شهيد، فكيف بمن قاتل عليها كلها، وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين ؟(2/300)
لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحًا، وضل ضلالاً بعيدًا، فإن أقل ما فى البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به؛ ولهذا قالوا : إن الإمام يراسلهم، فإن ذكروا شبهة بينها،وإن ذكروا مظلمة أزالها . فأى شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله، الساعين فى الأرض فسادًا الخارجين عن شرائع الدين ؟ ولا ريب أنهم لا يقولون : إنهم أقوم بدين الإسلام علمًا وعملاً من هذه الطائفة، بل هم مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلم بالإسلام منهم، وأتبع له منهم . وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك، وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال، فامتنع أن تكون لهم شبهة بينة يستحلون بها قتال المسلمين، كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين لم يقاتلوهم ؟ ! حتى إن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال، ويعظمون الرجل /ويتبركون به ويسلبونه ما عليه من الثياب، ويسبون حريمه، ويعاقبونه بأنواع العقوبات التى لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم، والمتأول تأويلاً دينيًا لا يعاقب إلا من يراه عاصيًا للدين، وهم يعظمون من يعاقبونه فى الدين ويقولون : إنه أطوع لله منهم . فأى تأويل بقى لهم ؟ ! ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغًا، بل تأويل الخوارج ومانعى الزكاة أوجه من تأويلهم .
أما الخوارج فإنهم ادعوا اتباع القرآن، وأن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به . وأما مانعو الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا : إن الله قال لنبيه : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ، وهذا خطاب لنبيه فقط، فليس علينا أن ندفعها لغيره . فلم يكونوا يدفعونها لأبى بكر، ولا يخرجونها له . والخوارج لهم علم وعبادة، وللعلماء معهم مناظرات، كمناظرتهم مع الرافضة والجهمية . وأما هؤلاء فلا يناظرون على قتال المسلمين، فلو كانوا متأولين لم يكن لهم تأويل يقوله ذو عقل .(2/301)
وقد خاطبنى بعضهم بأن قال : ملكنا ملك، ابن ملك، ابن ملك، إلى سبعة أجداد، وملككم ابن مولى . فقلت له : آباء ذلك الملك كلهم كفار، ولا فخر بالكافر، بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر، قال الله تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } [ البقرة : 221 ] . فهذه وأمثالها حججهم . ومعلوم أن من كان مسلمًا وجب /عليه أن يطيع المسلم ولو كان عبدًا، ولا يطيع الكافر، وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّرَ عليكم عبد حبشى، كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله ودين الإسلام ) . إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه،لا بآبائه، ولو كانوا من بنى هاشم أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفًا قرشيًا، وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] . وفى السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب ) .
وفى الصحيحين عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه : ( إن آل أبى فلان ليسوا بأوليائى، إنما وليى الله وصالح المؤمنين ) ، فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن موالاته ليست بالقرابة والنسب، بل بالإيمان والتقوى . فإذا كان هذا فى قرابة الرسول، فكيف بقرابة جنكسخان الكافر المشرك ؟ ! وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه فى الإيمان والتقوى، وإن كان الأول أسود حبشيًا، والثانى علويًا أو عباسيًا .(2/302)
وَسُئِل ـ رَحِمَهُ الله ـ عن طائفة من رعية البلاد كانوا يرون مذهب النصيرية، ثم أجمعوا على رجل، واختلفت أقوالهم فيه . فمنهم من يزعم أنه إله، ومنهم من يزعم أنه نبى مرسل، ومنهم من ادعى أنه محمد بن الحسن ـ يعنون المهدى ـ وأمروا من وجده بالسجود له وأعلنوا بالكفر بذلك، وسب الصحابة، وأظهروا الخروج عن الطاعة، وعزموا على المحاربة . فهل يجب قتالهم وقتل مقاتلتهم ؟ وهل تباح ذراريهم وأموالهم أم لا ؟
فأجاب :
الحمد لله، هؤلاء يجب قتالهم ما داموا ممتنعين حتى يلتزموا شرائع الإسلام؛ فإن النصيرية من أعظم الناس كفرًا بدون اتباعهم لمثل هذا الدجال، فكيف إذا اتبعوا مثل هذا الدجال ؟ ! وهم مرتدون من أسوأ الناس ردة، تقتل مقاتلتهم، وتغنم أموالهم . وسبى الذرية فيه نزاع، لكن أكثر العلماء على أنه تسبى الصغار من أولاد المرتدين، وهذا هو الذى دلت عليه سيرة الصديق فى قتال المرتدين . وكذلك قد تنازع العلماء فى استرقاق المرتد، فطائفة تقول : إنها تسترق،/ كقول أبى حنيفة . وطائفة تقول : لا تسترق، كقول الشافعى وأحمد . والمعروف عن الصحابة هو الأول، وأنه تسترق منه المرتدات نساء المرتدين؛ فإن الحنفية التى تسرى بها على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ أم ابنه محمد بن الحنفية، من سبى بنى حنيفة المرتدين، الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ والصحابة لما بعث خالد ابن الوليد فى قتالهم .
و [ النصيرية ] لا يكتمون أمرهم، بل هم معروفون عند جميع المسلمين، لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يصومون شهر رمضان، ولا يحجون البيت، ولا يؤدون الزكاة، ولا يقرون بوجوب ذلك، ويستحلون الخمر وغيرها من المحرمات، ويعتقدون أن الإله على بن أبى طالب، ويقولون :
نشهد أن لا إله إلا ** حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا ** محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا ** سلمان ذو القوة المتين(2/303)
وأما إذا لم يظهروا الرفض، وأن هذا الكذاب هو المهدى المنتظر، وامتنعوا؛ فإنهم يقاتلون ـ أيضًا ـ لكن يقاتلون كما يقاتل الخوارج المارقون، الذين قاتلهم على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ بأمر رسول الله /صلى الله عليه وسلم، وكما يقاتل المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه . فهؤلاء يقاتلون ما داموا ممتنعين، ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم التى لم يستعينوا بها على القتال . وأما ما استعانوا به على قتال المسلمين من خيل وسلاح وغير ذلك . ففى أخذه نزاع بين العلماء . وقد روى عن على بن أبى طالب أنه نهب عسكره ما فى عسكر الخوارج . فإن رأى ولى الأمر أن يستبيح ما فى عسكرهم من المال كان هذا سائغًا . هذا ما داموا ممتنعين .
فإن قدر عليهم؛ فإنه يجب أن يفرق شملهم، وتحسم مادة شرهم، وإلزامهم شرائع الإسلام، وقتل من أصر على الردة منهم .
وأما قتل من أظهر الإسلام وأبطن كفرًا منه، وهو المنافق الذى تسميه الفقهاء [ الزنديق ] ، فأكثر الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب، كما هو مذهب مالك، وأحمد فى أظهر الروايتين عنه، وأحد القولين فى مذهب أبى حنيفة والشافعى .
ومن كان داعيًا منهم إلى الضلال لا ينكف شره إلا بقتله قتل ـ أيضًا ـ وإن أظهر التوبة، وإن لم يحكم بكفره، كأئمة الرفض الذين يضلون الناس، كما قتل المسلمون غيلان القدرى، والجعد بن درهم، وأمثالهما من الدعاة . فهذا الدجال يقتل مطلقًا . والله أعلم .(2/304)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=544 - TOP#TOPوَسُئِل الشيخ عن قوم ذوى شوكة مقيمين بأرض، وهم لا يصلون الصلوات المكتوبات، وليس عندهم مسجد، ولا أذان، ولا إقامة، وإن صلى أحدهم صلى الصلاة غير المشروعة ، ولا يؤدون الزكاة مع كثرة أموالهم من المواشى والزروع، وهم يقتتلون فيقتل بعضهم بعضًا، وينهبون مال بعضهم بعضًا، ويقتلون الأطفال، وقد لا يمتنعون عن سفك الدماء وأخذ الأموال، لا فى شهر رمضان ولا فى الأشهر الحرم ولا غيرها، وإذا أسر بعضهم بعضًا باعوا أسراهم للإفرنج . ويبيعون رقيقهم من الذكور والإناث للإفرنج علانية، ويسوقونهم كسوق الدواب، ويتزوجون المرأة فى عدتها، ولا يورثون النساء، ولا ينقادون لحاكم المسلمين، وإذا دعى أحدهم إلى الشرع قال : أنا الشرع، إلى غير ذلك . فهل يجوز قتالهم والحالة هذه ؟ وكيف الطريق إلى دخولهم فى الإسلام مع ما ذكر ؟
فأجاب :(2/305)
نعم . يجوز، بل يجب بإجماع المسلمين قتال هؤلاء وأمثالهم من كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة /المتواترة؛ مثل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس، أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف الثمانية التى سماها الله ـ تعالى ـ فى كتابه، أو عن صيام شهر رمضان، أو الذين لا يمتنعون عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم، أو لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذى بعث الله به رسوله، كما قال أبو بكر الصديق وسائر الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فى مانعى الزكاة، وكما قاتل على بن أبى طالب وأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الخوارج، الذين قال فيهم النبى صلى الله عليه وسلم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) ، وذلك بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] ، وبقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ } [ البقرة : 278، 279 ] . والربا آخر ما حرمه الله ورسوله، فكيف بما هو أعظم تحريمًا ؟ !(2/306)
ويدعون قبل القتال إلى التزام شرائع الإسلام، فإن التزموها استوثق منهم، ولم يكتف منهم بمجرد الكلام . كما فعل أبو بكر بمن قاتلهم بعد أن أذلهم، وقال : اختاروا؛ إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية، وقال : أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالوا : هذه الحرب المجلية قد عرفناها، فما السلم /المخزية ؟ قال : تشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار، وننزع منكم الكُرَاع ـ يعنى الخيل والسلاح ـ حتى يرى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أمرًا بعد .
فهكذا الواجب فى مثل هؤلاء إذا أظهروا الطاعة يرسل إليهم من يعلمهم شرائع الإسلام، ويقيم بهم الصلوات، وما ينتفعون به من شرائع الإسلام . وإما أن يستخدم بعض المطيعين منهم فى جند المسلمين، ويجعلهم فى جماعة المسلمين . وإما بأن ينزع منهم السلاح الذى يقاتلون به، ويمنعون من ركوب الخيل . وإما أنهم يضعوه حتى يستقيموا، وإما أن يقتل الممتنع منهم من التزام الشريعة . وإن لم يستجيبوا لله ولرسوله وجب قتالهم حتى يلتزموا شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين . والله أعلم .
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل وقف وقفًا وشرط فيه شروطًا على جماعة قراء، وألهم يحضرون كل يوم بعد صلاة الصبح يقرؤون ما تيسر من القرآن إلى طلوع الشمس، ثم يتداولون النهار بينهم يومًا، مثنى مثنى، ويجتمعون ـ أيضًا ـ بعد صلاة العصر يقرأ كل منهم حزبين، ويجتمعون ـ أيضًا ـ في كل ليلة جمعة، جملة اجتماعهم في الشهر سبعة وسبعون مرة على هذا النحو عند قبره بالتربة، وشرط عليهم ـ أيضًا ـ أن يبيتوا كل ليلة بالتربة المذكورة، وجعل لكل منهم سكنًا يليق به، وشرط لهم جاريًا من ريع الوقف يتناولون في كل يوم، وفي كل شهر، فهل يلزمهم الحضور على شرطه عليهم ؟ أم يلزمهم أن يتصفوا بتلك الصفات في أي مكان أمكن إقامتهم بوظيفة القراءة، أو لا يتعين المكان ولا الزمان ؟(2/307)
وهل يلزمهم ـ أيضًا ـ أن يبيتوا بالمكان المذكور أم لا ؟ وإن قيل باللزوم فاستخلف أحدهم من يقرأ عنه وظيفته في الوقف، والمكان، والواقف شرط في كتاب الوقف أن يستنيبوا في أوقات الضرورات، فما هي الضرورة التي تبيح النيابة ؟
/وأيضًا، إن نقصهم الناظر من معلومهم الشاهد به كتاب الوقف، فهل يجوز أن ينقصوا مما شرط عليهم ؟ وسواء كان النقص بسبب ضرورة، أو من اجتهاد الناظر، أو من غير اجتهاده، وليشف سيدنا بالجواب مستوعبًا بالأدلة، ويجلي به عن القلوب كل عسر مثابًا في ذلك .
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، أصل هذه المسألة ـ وهو على أهل الأعمال التي يتقرب بها إلى اللّه ـ تعالى، والوصية لأهلها والنذر لهم ـ أن تلك الأعمال لابد أن تكون من الطاعات التي يحبها اللّه ورسوله، فإذا كانت منهيًا عنها لم يجز الوقف عليها، ولا اشتراطها في الوقف باتفاق المسلمين، وكذلك في النذر ونحوه، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف والنذر، ونحو ذلك، ليس فيه نزاع بين العلماء أصلًا .
ومن أصول ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه ) .
ومن أصوله ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة ـ أيضًا، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر لما أراد أهل بريرة أن/ يشترطوا الولاء لغير المعتق ـ فقال : ( ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب اللّه ؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب اللّه فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق ) .(2/308)
وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول، اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصًا عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطًا تخالف ما كتبه اللّه على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى اللّه عنه، أو النهي عما أمر به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره .
وقد روي أهل السنن ـ أبو داود وغيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حراما، أو حرم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالًا ) .
وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب، وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون : إنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ، ولا يقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها كالآيات النازلة بسبب معين، مثل آيات المواريث، والجهاد، والظهار، /واللعان، والقذف، والمحاربة، والقضاء، والفيء، والربا، والصدقات وغير ذلك، فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة في كتب الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازي، مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام في حق غير أولئك المعينين، وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه .
وكذلك الأحاديث، وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه، وأنه من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وبعث بها حيث قال : ( من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط اللّه أوثق ) .(2/309)
ولكن تنازعوا في العقود المباحات، كالبيع، والإجارة، والنكاح : هل معني الحديث من اشترط شرطًا لم يثبت أنه خالف فيه شرعًا، أو من اشترط شرطًا يعلم أنه مخالف لما شرعه اللّه ؟ هذا فيه تنازع؛ لأن قوله في آخر الحديث : ( كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق ) يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك، وقوله : ( من اشترط شرطًا ليس في كتاب اللّه فهو باطل ) قد يفهم منه ما ليس بمشروع .
وصاحب القول الأول يقول : ما لم ينه عنه من المباحات، فهو مما أذن فيه فيكون مشروعًا بكتاب اللّه، وأما ما كان في العقود التي يقصد بها/ الطاعات كالنذر، فلابد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحًا لم يجب الوفاء به، لكن في وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء، كالنزاع في الكفارة بنذر المعصية، لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، ونذر المباح مخير بين الأمرين، وكذلك الوقف ـ أيضًا .
وحكم الشروط فيه يعرف بذكر أصلين : أن الواقف إنما وقف الوقوف بعد موته لينتفع بثوابه، وأجره عند اللّه لا ينتفع به في الدنيا، فإنه بعد الموت لا ينتفع الميت إلا بالأجر والثواب .
ولهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا، وبين ما لا يقصد به إلا الأجر والثواب، فالأول، كالبيع، والإجارة، والنكاح، فهذا يجوز للإنسان أن يبذل ماله فيها ليحصل أغراضًا مباحة دنيوية، ومستحبة، ودينية، بخلاف الأغراض المحرمة . وأما الوقف فليس له أن يبذل ملكه إلا فيما ينفعه في دينه، فإنه إذا بذله فيما لا ينفعه في الدين، والوقف لا ينتفع به بعد موته في الدنيا، صار بذل المال لغير فائدة تعود إليه، لا في دينه، ولا في دنياه وهذا لا يجوز .(2/310)
ولهذا فرق العلماء بين الوقف على معين وعلى جهة، فلو وقف أو وصى لمعين جاز، وإن كان كافرًا ذميًا؛ لأن صلته مشروعة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [ لقمان : 15 ] ، ومثل حديث/أسماء بنت أبي بكر لما قدمت أمها وكانت مشركة، فقالت : يا رسول اللّه، إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : ( صلي أمك ) والحديث في الصحيحين . وفي ذلك نزل قوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الممتحنة : 8 ] ، وقوله تعالى : { لَّيْسَ عليكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إليكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 272 ] .
فبين أن عطية مثل هؤلاء إنما يعطونها لوجه اللّه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في كل ذات كبد رطبة أجر ) . فإذا أوصى أو وقف على معين، وكان كافرًا، أو فاسقًا، لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق، ولا شرطًا فيه، بل هو يستحق ما أعطاه وإن كان مسلمًا عدلًا، فكانت المعصية عديمة التأثير، بخلاف ما لو جعلها شرطًا في ذلك على جهة الكفار والفساق، أو على الطائفة الفلانية، بشرط أن يكونوا كفارًا أو فساقًا، فهذا الذي لا ريب في بطلانه عند العلماء .(2/311)
ولكن تنازعوا في الوقف على جهة مباحة، كالوقف على الأغنياء على قولين مشهورين، والصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة والأصول : أنه باطل ـ أيضًا؛ لأن اللّه ـ سبحانه ـ قال في مال الفيء : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ ً } [ الحشر : 7 ] ، فأخبر ـ سبحانه ـ أنه شرع ما ذكره؛ لئلا يكون الفيء متداولًا بين الأغنياء، دون الفقراء، فعلم أنه ـ سبحانه ـ يكره هذا وينهى عنه ويذمه، فمن جعل الوقف للأغنياء فقط، فقد جعل المال دولة بين الأغنياء، فيتداولونه بطنًا بعد بطن دون الفقراء، وهذا مضاد للّه في أمره ودينه، فلا يجوز ذلك .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا سبق إلا في خف، أو حافر أو نصل ) . فإذا كان قد نهى عن بذل السبق إلا فيما يعين على الطاعة والجهاد، مع أنه بذل لذلك في الحياة وهو منقطع غير مؤبد، فكيف يكون الأمر في الوقف ؟ ! وهذا بين في أصول الشريعة من وجهين :
أحدهما : أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء، ومن خرج عن ذلك كان سفيهًا، وحجر عليه عند جمهور العلماء الذين يحجرون على السفيه، وكان مبذرًا لماله، وقد نهى اللّه في كتابه عن تبذير المال : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [ الإسراء : 26 ] وهو إنفاقه في غير مصلحة وكان مضيعًا لماله، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال في الحديث المتفق عليه عن المغيرة/ بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال .
وقد قال اللّه ـ تعالى ـ في كتابه : { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [ النساء : 5 ] .(2/312)
وقد قال كثير من الصحابة والتابعين ـ رضي اللّه عنهم ـ : هذا مثل توكيل السفيه، وهو أن يدفع الرجل ماله إلى ولده السفيه أو امرأته السفيهة، فينفقان عليه، ويكون تحت أمرهما . وقال آخرون : ذلك أن يسلم إلى السفيه مال نفسه، فإن اللّه نهى عن تسليم مال نفسه إليه، إلا إذا أونس منه الرشد .
والآية تدل على النوعين كليهما، فقد نهى اللّه أن يجعل السفيه متصرفًا لنفسه أو لغيره بالوكالة أو الولاية . وصرف المال فيما لا ينفع في الدين ولا الدنيا من أعظم السفه، فيكون ذلك منهيًا عنه في الشرع .
إذا عرف هذا، فمن المعلوم أن الواقف لا ينتفع بوقفه في الدنيا، كما ينتفع بما يبذله في البيع والإجارة والنكاح، وهذا ـ أيضًا ـ لا ينتفع به في الدين إن لم ينفقه في سبيل اللّه، وسبيل اللّه طاعته وطاعة رسوله، فإن اللّه إنما يثيب العباد على ما أنفقوه فيما يحبه، وأما ما لا يحبه فلا ثواب في النفقة عليه . ونفقة/ الإنسان على نفسه وولده وزوجته واجبة؛ فلهذا كان الثواب عليها أعظم من الثواب على التطوعات على الأجانب .
وإذا كان كذلك، فالمباحات التي لا يثيب الشارع عليها لا يثيب على الإنفاق فيها والوقف عليها، ولا يكون في الوقف عليها منفعة، وثواب في الدين، ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا، فالوقف عليها خال من انتفاع الواقف في الدين والدنيا، فيكون باطلًا، وهذا ظاهر في الأغنياء وإن كان قد يكون مستحبًا، بل واجبًا، فإنما ذاك إذا أعطوا بسبب غير الغني من القرابة والجهاد والدين ونحو ذلك .
فأما إن جعل سبب الاستحقاق هو الغني، وتخصيص الغني بالإعطاء مع مشاركة الفقير له في أسباب الاستحقاق سوي الغني، مع زيادة استحقاق الفقير عليه، فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة أن اللّه لا يحبه ولا يرضاه، فلا يجوز اشتراط ذلك في الوقف .(2/313)
الوجه الثاني : أن الوقف يكون فيما يؤبد على الكفار ونحوهم، وفيما يمنع منه التوارث، وهذا لو أن فيه منفعة راجحة، وإلا كان يمنع منه الواقف؛ لأنه فيه حبس المال عن أهل المواريث، ومن ينتقل إليهم، وهذا مأخذ من قال : لا حبس عن فرائض اللّه، لكن هذا القول ترك لقول عمر وغيره، وما في ذلك من المصلحة الراجحة، فأما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، بل قد حبس المال/فمنعه الوارث وسائر الناس أن ينتفع به، وهو لم ينتفع به، فهذا لا يجوز تنفيذه بلا ريب .
ثم هذه المسألة المتنازع فيها هي في الوقف على الصفات المباحة الدنيوية كالغني بالمال، وأما الوقف على الأعمال الدينية كالقرآن، والحديث، والفقه، والصلاة والأذان، والإمامة، والجهاد، ونحو ذلك، والكلام في ذلك هو الأصل الثاني، وذلك لا يمكن أن يكون في ذلك نزاع بين العلماء، في أنه لا يجوز أن يوقف إلا على ما شرعه اللّه وأحبه من هذه الأعمال .
فأما من ابتدع عملًا لم يشرعه اللّه وجعله دينًا، فهذا ينهى عن عمل هذا العمل، فكيف يشرع له أن يقف عليه الأموال ؟ ! بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات، وهذا من الدين المبدل، أو المنسوخ؛ ولهذا جعلنا هذا أحد الأصلين في الوقف .(2/314)
وذلك أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن اللّه ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئًا عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي، قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشوري : 21 ] ، وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال تعالى : { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 1 : 3 ] ، /ونظائر ذلك في الكتاب كثير، يأمر اللّه فيه بطاعة رسوله، واتباع كتابه، وينهى عن اتباع ما ليس من ذلك .
والبدع جميعها كذلك، فإن البدعة الشرعية - أي : المذمومة في الشرع ـ هي ما لم يشرعه اللّه في الدين، أي : ما لم يدخل في أمر اللّه ورسوله وطاعة اللّه ورسوله، فأما إن دخل في ذلك فإنه من الشرعة لا من البدعة الشرعية، وإن كان قد فعل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بما عرف من أمره، كإخراج اليهود والنصارى بعد موته، وجمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، ونحو ذلك .(2/315)
وعمر بن الخطاب الذي أمر بذلك وإن سماه بدعة؛ فإنما ذلك لأنه بدعة في اللغة، إذ كل أمر فعل على غير مثال متقدم يسمي في اللغة بدعة، وليس مما تسميه الشريعة بدعة، وينهى عنه، فلا يدخل فيما رواه مسلم من صحيحه عن جابر قال : كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : ( إن أصدق الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) فإن قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) حق، وليس فيما دلت عليه الأدلة الشرعية على الاستحباب بدعة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية عن/ النبي صلى الله عليه وسلم قال : وعظنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا : يا رسول اللّه، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بتقوى اللّه، وعليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ) ، وفي رواية : ( فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) ، وفي رواية : ( وكل ضلالة في النار ) .
ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك، فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه، وأفعاله عليها؛ لكان أدني أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين، فلا تكون من البدع الشرعية التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم بدعة، ونهى عنها .(2/316)
وبالجملة، لا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحو ذلك لم يصح وقفه، بل هو ينهى عن ذلك العمل، وعن البذل فيه، والخلاف الذي بينهم في المباحات لا يخرج مثله هنا؛ لأن اتخاذ الشيء عبادة، واعتقاد كونه عبادة، وعمله؛ لأنه عبادة لا يخلو من أن يكون مأمورًا به، أو منهيًا عنه، فإن كان مأمورًا به ـ واجبًا /أو مستحبًا في الشريعة ـ كان اعتقاد كونه عبادة، والرغبة فيه لأجل العبادة، ومحبته وعمله مشروعًا، وإن لم يكن اللّه يحبه ولا يرضاه فليس بواجب ولا مستحب، لم يجز لأحد أن يعتقد أنه مستحب، ولا أنه قربة وطاعة، ولا يتخذه دينًا، ولا يرغب فيه لأجل كونه عبادة .
وهذا أصل عظيم من أصول الديانات، وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح، وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة واعتقادًا ورغبة وعملًا . فمن جعل ما ليس مشروعًا ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة جعله دينًا وطاعة وقربة، كان ذلك حرامًا باتفاق المسلمين .
لكن قد يتنازع العلماء في بعض الأمور : هل هو من باب القرب والعبادات أم لا ؟ سواء كان من باب الاعتقادات القولية، أو من باب الإرادات العملية حتى قد يرى أحدهم واجبًا ما يراه الآخر حرامًا، كما يرى بعضهم وجوب قتل المرتد، ويرى آخر تحريم ذلك، ويرى أحدهم وجوب التفريق بين السكران وامرأته إذا طلقها في سكره، ويرى الآخر تحريم التفريق بينهما، وكما يرى أحدهم وجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم ويرى الآخر كراهة قراءته إما مطلقًا، وإما إذا سمع جهر الإمام، ونحو ذلك من موارد النزاع . كما أن اعتقادها وعملها من موارد النزاع، فبذل المال عليها هو من موارد النزاع ـ أيضًا ـ وهو الاجتهادية .(2/317)
/ وأما كل عمل يعلم المسلم أنه بدعة منهي عنها، فإن العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين، وإن كان قد يشرط بعضهم بعض هذه الأعمال من لم يعلم الشريعة، أو من هو يقلد في ذلك لمن لا يجوز تقليده في ذلك، فإن هذا باطل، كما قال عمر بن الخطاب : ردوا الجهالات إلى السنة . ولما في الصحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
ولهذا اتفق العلماء : أن حكم الحاكم العادل إذا خالف نصَّا أو إجماعًا لم يعلمه فهو منقوض، فكيف بتصرف من ليس يعلم هذا الباب من واقف لا يعلم حكم الشريعة، ومن يتولي ذلك له من وكلائه ؟ ! وإن قدر أن حاكمًا حكم بصورة ذلك ولزومه فغايته أن يكون عالمًا عادلًا، فلا ينفذ ما خالف فيه نصًا أو إجماعًا باتفاق المسلمين .
والشروط المتضمنة للأمر بما نهى اللّه عنه، والنهي عن ما أمر اللّه به مخالفة للنص والإجماع، وكل ما أمر اللّه به أو نهى عنه، فإن طاعته فيه بحسب الإمكان، كما قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
/فهذه القواعد هي الكلمات الجامعة والأصول الكلية التي تبني عليها هذه المسائل ونحوها، وقد ذكرنا منها نكتًا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب في فقه الدين .(2/318)
وبعد هذا ينظر في تحقيق مناط الحكم في صورة السؤال وغيرها بنظره، فما تبين أنه من الشروط الفاسدة ألغي، وما تبين أنه شرط موافق لكتاب اللّه عمل به، وما اشتبه أمره أو كان فيه نزاع فله حكم نظائره، ومن هذه الشروط الباطلة ما يحتاج تغييره إلى همة قوية وقدرة نافذة، ويؤيدها اللّه بالعلم والدين، وإلا فمجرد قيام الشخص في هوي نفسه لجلب دنيا، أو دفع مضرة دنيوية، إذا أخرج ذلك مخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يكاد ينجح سعيه . وإن كان متظلمًا طالبًا من يعينه، فإن أعانه اللّه بمن هو متصف بذلك، أو بما يقدره له من جهة تعينه حصل مقصوده . ولا حول ولا قوة إلا باللّه .
وما ذكره السائلون فرض تمام الوجود، واللّه يسهل لهم ولسائر المسلمين من يعينهم على خير الدين والدنيا، إنه على كل شيء قدير .
فمما لا نزاع فيه بين العلماء : أن مبيت الشخص في مكان معين دائمًا ليس قربة ولا طاعة باتفاق العلماء، ولا يكون ذلك إلا في بعض الأوقات إذا كان في التعيين مصلحة شرعية، مثل المبيت في ليإلى منى، ومثل/ مبيت الإنسان في الثغر للرباط، أو مبيته في الحرس في سبيل اللّه، أو عند عالم أو رجل صالح ينتفع به، ونحو ذلك .
فإما أن المسلم يجب عليه أن يرابط دائما ببقعة بالليل لغير مصلحة دينية فهذا ليس من الدين، بل لو كان المبيت عارضًا وكان يشرع فيها ذلك؛ لم يكن أيضًا من الدين، ومن شرط عليه ذلك، ووقف عليه المال لأجل ذلك؛ فلا ريب في بطلان مثل هذا الشرط وسقوطه .
بل تعيين مكان معين للصلوات الخمس، أو قراءة القرآن، أو إهدائه غير ما عينه الشارع ليس ـ أيضًا ـ مشروعًا باتفاق العلماء، حتى لو نذر أن يصلى أو يقرأ، أو يعتكف في مسجد بعينه غير الثلاثة، لم يتعين، وله أن يفعل ذلك في غيره؛ لكن في وجوب الكفارة لفوات التعيين قولان للعلماء .(2/319)
والعلماء لهم في وصول العبادات البدنية، كالقراءة، والصلاة، والصيام إلى الميت قولان : أصحهما أنه يصل؛ لكن لم يقل أحد من العلماء بالتفاضل في مكان دون مكان، ولا قال أحد قط من علماء الأمة المتبوعين : إن الصلاة أو القراءة عند القبر أفضل منها عند غيره، بل القراءة عند القبر قد اختلفوا في كراهتها، فكرهها أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد ـ في إحدى الروايتين ـ وطوائف من السلف، ورخص فيها طائفة أخري/ من أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وليس عن الشافعي في ذلك كله نص نعرفه .
ولم يقل أحد من العلماء : إن القراءة عند القبر أفضل، ومن قال : إنه عند القبر ينتفع الميت بسماعها، دون ما إذا بعد القارئ فقوله هذا بدعة باطلة، مخالفة لإجماع العلماء، والميت بعد موته لا ينتفع بأعمال يعملها هو بعد الموت، لا من استماع، ولا قراءة، ولا غير ذلك باتفاق المسلمين، وإنما ينتفع بآثار ما عمله في حياته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم ـ انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) .
وينتفع ـ أيضًا ـ بما يهدي إليه من ثواب العبادات المالية، كالصدقة، والهبة باتفاق الفقهاء، وكذلك العبادات البدنية في أصح قوليهم، وإلزام المسلمين ألا يعملوا ولا يتصدقوا إلا في بقعة معينة، مثل كنائس النصارى باطل .
وبكل حال، فالاستخلاف في مثل هذه الأعمال المشروطة جائز، وكونها عن الواقف إذا كان النائب مثل المستنيب، فقد يكون في ذلك مفسدة راجحة على المصلحة الشرعية، كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة؛ لأن/التعيين فيه مصلحة شرعية، فشرط باطل، ومتى نقصوا من المشروط لهم كان لهم أن ينقصوا من المشروط عليهم بحسب ذلك . واللّه أعلم .
********(2/320)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=592 - TOP#TOPوسئل الشيخ ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل قرشي : تزوج بجارية مملوكة، فأولدها ولدا . هل يكون الولد حرا ؟ أم يكون عبدا مملوكا ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، إذا تزوج الرجل المرأة، وعلم أنها مملوكة . فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة؛ فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء، ويتبع أمه في الحرية والرق .
فإن كان الولد ممن يسترق جنسه بالاتفاق، فهو رقيق بالاتفاق، وإن كان ممن تنازع الفقهاء في رقه، وقع النزاع في رقه، كالعرب .
والصحيح أنه يجوز [ استرقاق العرب والعجم ] ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال : لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث/سمعتهن من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقولها فيهم، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( هم أشد أمتى على الرجال ) . وجاءت صدقاتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذه صدقات قومنا ) . قال : وكانت سبية منهم عند عائشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل ) .
وفي لفظ لمسلم : ثلاث خلال سمعتهن من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بني تميم، لا أزال أحبهم بعدها، كان على عائشة محرر، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( اعتقي من هؤلاء ) . وجاءت صدقاتهم فقال : ( هذه صدقات قومي ) ، وقال : ( هم أشد الناس قتلا في الملاحم ) .
وفي الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ) . ففي هذا الحديث أن بني إسماعيل يعتقون . فدل على ثبوت الرق عليهم، كما أمر عائشة أن تعتق عن المحرر الذي كان عليها [ من بني إسماعيل ] . وفيه : [ من بني تميم ] لأنهم من ولد إسماعيل .(2/321)
وفي صحيح البخاري عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( معي من ترون، /وأحب الحديث إلى أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين، إما المال، وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم ) ، وكان انتظرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا : فإنا نختار سبينا؛ فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسلمين؛ وأثنى على اللّه بما هو أهله ثم قال : ( أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفيء اللّه علينا فليفعل ) . فقال الناس : طيبنا ذلك يا رسول اللّه . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إنا لا ندري من أذن في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ) ، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا، وأذنوا . ففي هذا الحديث الصحيح أنه سبي نساء هوازن، وهم عرب، وقسمهم بين الغانمين . فصاروا رقيقا لهم؛ ثم بعد ذلك طلب أخذهم منهم، إما تبرعا، وإما معاوضة، وقد جاء في الحديث أنه أعتقهم، كما في حديث عمر لما اعتكف وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق السبي، فأعتق جارية كانت عنده والمسلمون كانو يطؤون ذلك السبي بملك اليمين، كما في سبي أوطاس، وهو من سبي هوازن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ) .(2/322)
/وفي المسند للإمام أحمد عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت : قسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، فوقعت جويرية بنت الحارث لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، كاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، فأتت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول اللّه، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وجئتك أستعينك على كتابتي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( هل لك في خير من ذلك ؟ قالت : وما هو يا رسول اللّّه ؟ قال : ( أقضي كتابتك، وأتزوجك ) . قالت : نعم، يا رسول اللّه، قال : ( قد فعلت ) ، قالت : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية بنت الحارث، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت : فقد عتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، وما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها . وهذه الأحاديث ونحوها مشهورة، بل متواترة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبي العرب وكذلك خلفاؤه بعده، كما قال الأئمة وغيرهم : سبى النبي صلى الله عليه وسلم العرب، وسبى أبو بكر بني ناحية، وكان يطارد العرب بذلك الاسترقاق، وقد قال الله لهم : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] ، وفي حديث أبي سعيد وغيره : أنها نزلت في المسبيات، أباح الله لهم وطأها بملك اليمين .
/وإذا سبيت واسترقت بدون زوجها جاز وطؤها بلا ريب، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب أحمد، وحكى الخلاف في مذهب مالك . قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة إذا وقعت في ملك ولها زوج مقيم بدار الحرب، أن نكاح زوجها قد انفسخ، وحل لمالكها وطؤها بعد الاستبراء، وأما إذا سبيت مع زوجها ففيه نزاع بين أهل العلم .(2/323)
ومعلوم أن عامة السبي الذي كان يسبيه النبي صلى الله عليه وسلم كان في [ الحرب ] ، وقد قاتل أهل الكتاب، فإنه خرج لقتال النصارى عام تبوك، ولم يجر بينهم قتال، وقد بعث إليهم السرية التي أمر عليها زيد، ثم جعفر، ثم عبد الله بن رواحة . ومع هذا فكان في النصارى العرب، والروم . وكذلك قاتل اليهود بخيبر والنضير وقينقاع؛ وكان في يهود العرب، وبنو إسرائيل . وكذلك يهود اليمن، كان فيهم العرب، وبنو إسرائيل .
وأيضًا، فسبب الاسترقاق هو [ الكفر ] بشرط [ الحرب ] ، فالحر المسلم لا يسترق بحال، والمعاهد لا يسترق، والكفر مع المحاربة موجود في كل كافر، فجاز استرقاقه، كما يجوز قتاله، فكل ما أباح قتل المقاتلة أباح سبي الذرية؛ وهذا حكم عام في العرب والعجم، وهذا مذهب مالك والشافعي في الجديد من قوليه، وأحمد .
وأما أبو حنيفة فلا يجوز استرقاق العرب، كما لا يجوز ضرب الجزية عليهم؛ لأن العرب اختصوا بشرف النسب؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، /واختص كفارهم بفرط عدوانه؛ فصار ذلك مانعا من قبول الجزية، كما أن المرتد لا تؤخذ منه الجزية؛ للتغليظ؛ ولما حصل له من الشرف بالإسلام السابق . واحتج بما روي عن عمر أنه قال : ليس على عربي ملك .
والذين نازعوه لهم قولان في جواز استرقاق من لا تقبل منه الجزية، هما روايتان عن أحمد .
إحداهما : أن الاسترقاق كأخذ الجزية، فمن لم تؤخذ منه الجزية لا يسترق، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره وهو اختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما من أصحاب أحمد، وهو قول الاصطخري من أصحاب الشافعي . وعند أبي حنيفة تقبل الجزية من كل كافر، إلا من مشركي العرب، وهو رواية عن أحمد . فعلى هذا لا يجوز استرقاق مشركي العرب؛ لكون الجزية لا تؤخذ منهم، ويجوز استرقاق مشركي العجم، وهو قول الشافعي؛ بناء على قوله : إن العرب لا يسترقون .(2/324)
والرواية الأخرى عن أحمد : أن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب، والمجوس، كمذهب الشافعي . فعلى هذا القول في مذهب أحمد : لا يجوز استرقاق أحد من المشركين، لا من العرب، ولا من غيرهم كاختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما . وهذان القولان في مذهب أحمد لا يمنع فيه الرق؛ لأجل النسب، لكن لأجل الدين . فإذا سبي عربية فأسلمت /استرقها، وإن لم تسلم أجبرها على الإسلام . وعلى هذا يحملون ما كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يفعلونه من استرقاق العرب .
وأما الرقيق الوثني، فلا يجوز إقراره عندهم برق، كما يجوز بجزية . وهذا كما أن الصحابة سبوا العربيات والوثنيات؛ ووطؤوهم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ) . ثم الأئمة الأربعة متفقون على أن الوطأ إنما كان بعد الإسلام؛ وأن وطء الوثنية لا يجوز، كما لا يجوز تزويجها .
والقول الثاني : أنه يجوز استرقاق من لا تؤخذ منهم الجزية من أهل الأوثان، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى؛ بناء على أن الصحابة استرقوهم؛ ولم نعلم أنهم أجبروهم على الإسلام؛ ولأنه لا يجوز قتلهم، فلابد من استرقاقهم، والرق فيه من الغل ما ليس في أخذ الجزية . وقد تبين مما ذكرناه أن الصحيح جواز استرقاق العرب .
وأما [ الأثر ] المذكور عن عمر ـ إذا كان صحيحا صريحا في محل النزاع ـ فقد خالفه أبو بكر وعلى؛ فإنهم سبوا العرب . ويحتمل أن يكون قول عمر محمولا على أن العرب أسلموا قبل أن يسترق رجالهم، فلا يضرب عليهم رق، كما أن قريشا أسلموا كلهم فلم يضرب عليهم رق؛ لأجل إسلامهم، لا لأجل النسب، ولم تتمكن الصحابة من سبي نساء قريش، كما تمكنوا /من سبي نساء طوائف من العرب؛ ولهذا لم يسترق منهم أحد، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن سبيهم شيء .(2/325)
وأما إذا تزوج العربي مملوكة فنكاح الحر للمملوكة لا يجوز إلا بشرطين : خوف العنت، وعدم الطول إلى نكاح حرة، في مذهب مالك والشافعي وأحمد . وعللوا ذلك بأن تزوجه يفضي إلى استرقاق ولده، فلا يجوز للحر العربي ولا العجمي أن يتزوج مملوكة إلا لضرورة، وإذا تزوجها للضرورة كان ولده مملوكا . وأما أبو حنيفة فالمانع عنده أن تكون تحته حرة، وهو يفرق في الاسترقاق بين العربي وغيره .
وأما إذا وطئ الأمة بزنا فإن ولدها مملوك لسيدها بالاتفاق، وإن كان أبوه عربيا؛ لأن النسب غير لاحق . وأما إذا وطئها بنكاح، وهو يعتقدها حرة، أو استبرأها فوطئها يظنها مملوكته، فهنا ولده حر، سواء كان عربيا أو عجميا . وهذا يسمى [ المغرور ] . فولد المغرور من النكاح أو البيع حر؛ لاعتقاده أنه وطئ زوجة حرة، أو مملوكته . وعليه الفداء لسيد الأمة كما قضت بذلك الصحابة؛ لأنه فوت سيد الأمة ملكهم، فكان عليه الضمان . وفي ذلك تفريع ونزاع ليس هذا موضعه . واللّه أعلم .
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن يقول : إن المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث تباح بدون نكاح ثان للذي طلقها ثلاثا : فهل قال هذا القول أحد من المسلمين، ومن قال هذا القول ماذا يجب عليه ؟ ومن استحلها بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان ماذا يجب عليه ؟ وما صفة النكاح الثاني الذي يبيحها للأول ؟ أفتونا مأجورين مثابين يرحمكم الله .
فأجاب ـ رضي الله عنه :(2/326)
الحمد لله رب العالمين، إذا وقع بالمرأة الطلاق الثلاث فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين : إنها تباح بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون زوج ثان، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد كذب . ومن قال ذلك أو استحل وطأها بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون نكاح زوج ثان، فإن كان جاهلا يعذر بجهله ـ مثل أن يكون نشأ بمكان قوم لا يعرفون فيه شرائع الإسلام، أو يكون حديث عهد بالإسلام، أو نحو ذلك ـ فإنه يعرف دين الإسلام؛ فإن أصر على القول بأنها تباح بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان أو على استحلال هذا الفعل، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كأمثاله من / المرتدين الذين يجحدون وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وحل المباحات التي علم أنها من دين الإسلام، وثبت ذلك بنقل الأمة المتواتر عن نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام . وظهر ذلك بين الخاص والعام، كمن يجحد وجوب [ مباني الإسلام ] من الشهادتين، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام، أو جحد [ تحريم الظلم، وأنواعه ] كالربا والميسر، أو تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما يدخل في ذلك من تحريم [ نكاح الأقارب ] سوي بنات العمومة والخؤولة، وتحريم [ المحرمات بالمصاهرة ] وهن أمهات النساء وبناتهن وحلائل الآباء والأبناء ونحو ذلك من المحرمات، أو حل الخبز، واللحم، والنكاح واللباس؛ وغير ذلك مما علمت إباحته بالاضطرار من دين الإسلام . فهذه المسائل مما لم يتنازع فيها المسلمون، لاسنيهم ولا بدعيهم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=605 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه اللّه ـ عمن له زوجة لا تصلى : هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة ؟ وإذا لم تفعل : هل يجب عليه أن يفارقها، أم لا ؟
فأجاب :(2/327)
نعم عليه أن يأمرها بالصلاة، ويجب عليه ذلك، بل يجب عليه أن يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال / تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عليها } الآية [ طه : 132 ] . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } الآية [ التحريم : 6 ] . وقال عليه الصلاة والسلام : ( علموهم وأدبوهم ) .
وينبغى مع ذلك الأمر أن يحضها على ذلك بالرغبة، كما يحضها على ما يحتاج إليها، فإن أصرت على ترك الصلاة فعليه أن يطلقها، وذلك واجب في الصحيح . وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلى باتفاق المسلمين، بل إذا لم يصل قتل . وهل يقتل كافراً مرتداً ؟ على قولين مشهورين . واللّه أعلم .
********
وعن أحمد في عدة المختلعة روايتان : ذكرهما أبو بكر في كتاب الشافي قال أبو بكر في الشافي : باب عدة المختلعة والملاعنة وامرأة عصبي، وروي بإسناده عن الأثرم، وإبراهيم بن الحارث؛ أنه قيل لأبي عبد الله : عدة كل مطلقة ثلاث حيض ؟ قال : نعم، إلا الأمة . قيل له : المختلعة، والملاعنة وامرأة المرتد ؟ قال : نعم . كل فرقة عدتها ثلاث حيض . وعن أبي طالب أن / أبا عبد الله قال في المختلعة تعتد مثل المطلقة ثلاث حيض . وروي عن أحمد ابن القاسم قال أبو عبد الله : عدة المختلعة حيضة . قال عبد العزيز : والعمل على رواية الأثرم، والعبادي : أن كل فرقة من الحرائر عدتها ثلاث حيض، وحديث المختلعة أمرت أن تعتد بحيضة ضعيف؛ لأنه مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما قلت أذهب، وهو قول عثمان بن عفان .(2/328)
قلت : ابن القاسم كثيرًا ما يروى عن أحمد الأقوال المتأخرة التي رجع إليها، كما روي عنه أن جمع الثلاث محرم، وذكر أنه رجع عن قوله : إنه مباح، وأنه تدبر القرآن فلم يجد فيه الطلاق إلا رجعيًا . وهكذا قد يكون أحمد ثبتت عنده في المختلعة فرجع إليها، فقوله : عدتها حيضة، لا يكون إلا إذا ثبت عنده الحديث، وإذا ثبت عنده لم يرجع عنه . ولأصحاب أحمد في وطء الشبهة وجهان، وكذلك ابن عمر كان يقول أولاً : إن عدتها ثلاث حيض، فلما بلغه قول عثمان بن عفان أنها تستبرأ بحيضة رجع إليه ابن عمر .
وما ذكره أبو بكر عن عثمان رواية مرجوحة، والمشهور عن عثمان أنها تعتد بحيضة، وهو قول ابن عباس، وآخر القولين عن ابن عمر، ولم يثبت عن صحابي خلافه، فإنه روي خلافه عن عمر وعلى بإسناد ضعيف، وهو قول أبان بن عثمان، وعكرمة، وإسحاق ابن راهويه، وغيره من فقهاء الحديث .
/وقد روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه، وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، ولهما للمهاجرين، ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم يردوا وردت أثمانهم .(2/329)
ففي هذا الحديث أن المهاجرة من دار الحرب إذا حاضت ثم طهرت، حل لها النكاح، فلم يكن يجب عليها إلا الاستبراء بحيضة، لا بثلاثة قروء، وهي معتدة من وطء زوج، لكن زال نكاحه عنها بإسلامها . ففي هذا أن الفرقة الحاصلة باختلاف الدين ـ كإسلام امرأة الكافر ـ إنما يوجب استبراءًا بحيضة : وهي فسخ من الفسوخ، ليست طلاقا . وفي هذا نقض لعموم من يقول : كل فرقة في الحياة بعد الدخول توجب ثلاثة قروء . وهذه حرة مسلمة؛ لكنها معتدة من وطء كافر .
/وقد تنازع العلماء في امرأة الكافر هل عليها عدة أم استبراء ؟ على قولين مشهورين، ومذهب أبي حنيفة ومالك لا عدة عليها .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=625 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عن بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين .
فأجاب :(2/330)
وأما على سيد الأمة إذا زنت أن يقيم عليها الحد، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت في الرابعة فليبعها ولو بضفير ) ، والضفير : الحبل، فإن لم يفعل ما أمره به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان عاصيا للّه ورسوله . وكان إصراره على المعصية قادحًا في عدالته، فأما إذا كان هو يرسلها لتبغي وتنفق على نفسها من مهر البغاء، أو يأخذ هو شيئًا من ذلك، فهذا ممن لعنه اللّه ورسوله، وهو فاسق خبيث، آذن في الكبيرة، وآخذ مهر البغي، ولم ينهها عن الفاحشة . ومثل هذا لا يجوز أن يكون معدلًا، بل لا يجوز إقراره بين المسلمين، بل يستحق العقوبة /الغليظة حتى يصون إماءه . وأقل العقوبة أن يهجر فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة خلف غيره، ولا يستشهد ولا يولى ولاية أصلًا . ومن استحل ذلك فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان مرتدًا لا ترثه ورثته المسلمون . وإن كان جاهلًا بالتحريم عرف ذلك حتى تقوم عليه الحجة، فإن هذا من المحرمات المجمع عليها .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=627 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه ؟
فأجاب :(2/331)
الحمد لله، هذه الحشيشة الصلبة حرام، سواء سكر منها أو لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا، لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأما إن اعتقد ذلك قربة، وقال : هي لقيمة الذِّكر والفكر، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في/ الطريق، فهو أعظم وأكبر، فإن هذا من جنس دين النصاري الذين يتقربون بشرب الخمر، ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة، قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، ومن كان يستحل ذلك جاهلاً وقد سمع بعض الفقهاء يقول :
حرموها من غير عقل ونقل ** وحرام تحريم غير الحرام
فإنه ما يعرف الله ورسوله، وأنها محرمة، والسكر منها حرام بالإجماع . وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك، فإنه يكون كافرًا مرتدًا، كما تقدم . وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب العقل حرام بإجماع المسلمين . وأما تعاطي البنج الذي لم يسكر، ولم يغيب العقل، ففيه التعزير .
وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة، وإنما يتناولها الفجار، لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار .
/وعلى تناول القليل منها والكثير حد الشرب، ثمانون سوطًا، أو أربعون . إذا كان مسلمًا يعتقد تحريم المسكر، ويغيب العقل .(2/332)
وتنازع الفقهاء في نجاستها، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ليست نجسة . والثاني : أن مائعها نجس، وأن جامدها طاهر . والثالث ـ وهو الصحيح ـ : أنها نجسة كالخمر، فهذه تشبه العذرة، وذلك يشبه البول، وكلاهما من الخبائث التي حرمها الله ورسوله . ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر، وشر منه من بعض الوجوه، ويهجر، ويعاقب على ذلك، كما يعاقب هذا، للوعيد الوارد في الخمر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، وآكل ثمنها ) ، ومثل قوله : ( من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد وشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ) ، وهي عصارة أهل النار، وقد ثبت عنه في الصحيح ـ أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( كل مسكر حرام ) ، وسئل عن هذه الأشربة وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال صلى الله عليه وسلم : ( كل مسكر حرام ) .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=627 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عما يجب على آكل الحشيشة، ومن ادعي أن أكلها جائز حلال مباح .
فأجاب :
أكل هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها قليلاً أو كثيرًا، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا، لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين . وحكم المرتد شر من حكم اليهودي والنصراني، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر، وأنها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وأنهم لذلك يستعملونها .(2/333)
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة، متأولاً قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } [ المائدة : 93 ] ، فلما رفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم اتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال /قتلوا . وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فإنه يجلد الحد ثمانين سوطًا، أو أربعين . هذا هو الصواب . وقد توقف بعض الفقهاء في الجلد؛ لأنه ظن أنها مزيلة للعقل، غير مسكرة، كالبنج ونحوه مما يغطي العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين : إن كان مسكرًا ففيه جلد الخمر، وإن لم يكن مسكرًا ففيه التعزير بما دون ذلك، ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل .
والصحيح أن الحشيشة مسكرة كالشراب، فإن آكليها ينشون بها، ويكثرون تناولها، بخلاف البنج وغيره، فإنه لا ينشي، ولا يشتهي . وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، ومالا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير . والحشيشة مما يشتهيها آكلوها، ويمتنعون عن تركها، ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك، وإنما ظهر في الناس أكلها قريبًا من نحو ظهور التتار، فإنها خرجت، وخرج معها سيف التتار .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=627 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن المداومة على شرب الخمر، وترك الصلاة، وما حكمه في الإصرار على ذلك ؟
فأجاب :(2/334)
الحمد لله، أما شارب الخمر، فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت ذلك عليه، وحده أربعون جلدة، أو ثمانون جلدة . فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة، وإن اقتصر على الأربعين ففي الإجزاء نزاع مشهور . فمذهب أبي حنفية ومالك وأحمد في إحدى الروايتين أنه يجب الثمانون . ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه أن الأربعين الثانية تعزير يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، فإن احتاج إلى ذلك لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك فعل، وقد كان عمر بن الخطاب يعزر بأكثر من ذلك، كما روي عنه أنه كان ينفي الشارب عن بلده، ويمثل به بحلق رأسه .
/وقد روي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها الثالثة، أو الرابعة، فاقتلوه ) . فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة . وأكثر العلماء لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخًا، وهو المشهور من مذاهب الأئمة . وطائفة يقولون : إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك، كما في حديث آخر في السنن أنه نهاهم عن أنواع من الأشربة قال : ( فإن لم يدعوا ذلك فاقتلوهم ) . والحق ما تقدم . وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً كان يدعي حمارًا، وهو كان يشرب الخمر، فكان كلما شرب جلده النبي صلى الله عليه وسلم، فلعنه رجل، فقال : لعنه الله، ما أكثر ما يؤتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ( لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله ) ، وهذا يقتضي أنه جلد مع كثرة شربه .(2/335)
وأما تارك الصلاة فإنه يستحق العقوبة باتفاق الأئمة، وأكثرهم ـ كمالك والشافعي وأحمد ـ يقولون : إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . وهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كغيره من أصحاب الكبائر ؟ على قولين . فإذا لم تمكن إقامة الحد على مثل هذا فإنه يعمل معه الممكن، فيهجر، ويوبخ حتى يفعل المفروض، ويترك المحظور، ولا يكون ممن قال الله فيه : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] ، مع أن إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فكيف بتاركها ؟ ! !
********
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=633 - TOP#TOPباب حكم المرتد
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=633 - TOP#TOPسئل شيخ الإسلام ـ رضي الله عنه ـ عن رجلين تكلما في [ مسألة التأبير ] فقال أحدهما : من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكلم بما يدل علي نقص الرسول كفر، لكن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يكفر، وإن كان قد يكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة، ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزمنا أن نكفر فلانا ـ وسمي بعض العلماء المشهورين الذين لا يستحقون التكفير وهو الغزالي ـ فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئة الرسول في مسألة تأبير النخل : فهل يكون هذا تنقيصًا بالرسول بوجه من الوجوه ؟ وهل عليه في تنزيه العلماء من الكفر إذا قالوا مثل ذلك تعزير، أم لا ؟ وإذا نقل ذلك وتعذر عليه في الحال نفس الكتاب الذي نقله منه وهو معروف بالصدق : فهل عليه في ذلك تعزير أم لا ؟ وسواء أصاب في النقل عن العالم أم أخطأ ؟ وهل يكون في ذلك تنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن اعتدي علي مثل هذا، أو نسبه إلي تنقيص بالرسول، أو العلماء، وطلب عقوبته علي ذلك : فما يجب عليه ؟ أفتونا مأجورين ؟
/فأجاب :(2/336)
الحمد لله، ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه باتفاق علماء المسلمين، ولا فيه تنقص لعلماء المسلمين، بل مضمون هذا الكلام تعظيم الرسول وتوقيره، وأنه لا يتكلم في حقه بكلام فيه نقص، بل قد أطلق القائل تكفير من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم بما يدل علي نقصه، وهذا مبالغة في تعظيمه، ووجوب الاحتراز من الكلام الذي فيه دلالة علي نقصه .
ثم هو مع هذا بين أن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه، وهذا كلام حسن تجب موافقته عليه؛ فإن تسليط الجهال علي تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين . وقد اتفق أهل السنة والجماعة علي أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالي قال في دعاء المؤمنين : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الله تعالي قال : قد فعلت ) .
واتفق علماء المسلمين علي أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء، والذين قالوا : إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون / علي ذلك لم يكفر أحد منهم علي ذلك باتفاق المسلمين؛ فإن هؤلاء يقولون : إنهم معصومون من الإقرار علي ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والتفسير، والصوفية، الذين ليسوا كفارًا باتفاق المسلمين، بل أئمة هؤلاء يقولون بذلك .(2/337)
فالذي حكاه عن الشيخ أبي حامد الغزالي قد قال مثله أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه الذين هم أعظم في مذهب الشافعي من أبي حامد، كما قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني، الذي هو إمام المذهب بعد الشافعي، وابن سريج في تعليقه : وذلك أن عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا، ولكن الفرق بيننا أنا نقر علي الخطأ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه، وإنما يسهو ليسن، وروي عنه أنه قال : ( إنما أسهو لأسن لكم ) .
وهذه المسألة قد ذكرها في أصول الفقه هذا الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكذلك ذكرها بقية طوائف أهل العلم؛ من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة ومنهم من ادعي إجماع السلف علي هذا القول، كما ذكر ذلك عن أبي سليمان الخطابي ونحوه، ومع هذا فقد اتفق المسلمون علي أنه لا يكفر أحد من هؤلاء الأئمة، ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره / وأمثاله عن تكفير المسلمين، وإنما يقال في مثال ذلك : قولهم صواب أو خطأ . فمن وافقهم قال : إن قولهم الصواب . ومن نازعهم قال : إن قولهم خطأ، والصواب قول مخالفهم .
وهذا المسؤول عنه كلامه يقتضي أنه لا يوافقهم علي ذلك، لكنه ينفي التكفير عنهم . ومثل هذا تجب عقوبة من اعتدي عليه، ونسبه إلي تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم أو العلماء، فإنه مصرح بنقيض هذا، وهذا .(2/338)
وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة، وهو من أبلغ القائلين بالعصمة، قسم الكلام في هذا الباب، إلي أن قال : [ الوجه السابع ] : أن يذكر ما يجوز علي النبي صلى الله عليه وسلم، ويختلف في إقراره عليه، وما يطرأ من الأمور البشرية منه ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله علي شدته من مقاسات أعدائه وأذاهم له، ومعرفة ابتداء حاله، وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومر عليه من معانات عيشه، كل ذلك علي طريق الرواية، ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت به العصمة للأنبياء، وما يجوز عليهم . فقال : هذا فن خارج من هذه الفنون الستة؛ ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف، ولا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ، لكن يجب أن يكون الكلام مع أهل العلم، وطلبة الدين ممن يفهم مقاصده، ويحققون فوائده، ويجنب ذلك ممن عساه لا يفقه، أو يخشي به فتنة .
/وقد ذكر القاضي عياض قبل هذا : أن يقول القائل شيئاً من أنواع السب حاكيًا له عن غيره، وآثرًا له عن سواه : فهذا ينظر في صورة حكايته، وقرينة مقالته، ويختلف الحكم باختلاف ذلك علي [ أربعة وجوه ] الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم . ثم ذكر أنه يحمل من ذلك ما ذكره علي وجه الشهادة ونحوها مما فيه إقامة الحكم الشرعي علي القائل، أو علي وجه الرذالة والنقص علي قائله، بخلاف من ذكره لغير هذين . قال : وليس التفكه بعرض النبي صلى الله عليه وسلم، والتمضمض بسوء ذكره لأحد لاذاكرًا، ولا آثرًا لغير غرض شرعي مباح .
فقد تبين من كلام القاضي عياض أن ما ذكره هذا القائل ليس من هذا الباب فإنه من مسائل الخلاف، وأن ما كان من هذا الباب ليس لأحد أن يذكره لغير غرض شرعي مباح .(2/339)
وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا ـ هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد .
/فبكل حال هذا القائل محمود علي ما فعل، مأجور علي ذلك، مثاب عليه إذا كانت له فيه نية حسنة ، والمنكر لما فعله أحق بالتعزير منه ؛ فإن هذا يقتضي قوله القدح في علماء المسلمين من الكفر ، ومعلوم أن الأول أحق بالتعزير من الثاني إن وجب التعزير لأحدهما ، وإن كان كل منهما مجتهدًا اجتهادًا سائغًا بحيث يقصد طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته فلا إثم علي واحد منهما ، وسواء أصاب في هذا النقل أو أخطاء فليس في ذلك تنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك أحضر النقل أو لم يحضره؛ فإنه ليس في حضوره فائدة، إذ ما نقله عن الغزالي قد قال مثله من علماء المسلمين من لا يحصي عددهم إلا الله تعالي، وفيهم من هو أجل من الغزالي، وفيهم من هو دونه . ومن كفر هؤلاء استحق العقوبة باتفاق المسلمين، بل أكثر علماء المسلمين وجمهور السلف يقولون مثل ذلك، حتى المتكلمون، فإن أبا الحسن الأشعري قال : أكثر الأشعرية والمعتزلة يقولون بذلك، ذكره في [ أصول الفقه ] وذكره صاحبه أبو عمرو بن الحاجب . والمسألة عندهم من الظنيات، كما صرح بذلك الأستاذ أبو المعالي، وأبو الحسن الآمدي، وغيرهما، فكيف يكفر علماء المسلمين في مسائل الظنون ؟ ! أم كيف يكفر جمهور علماء المسلمين، أو جمهور سلف الأئمة وأعيان العلماء بغير حجة أصلاً ؟ ! والله تعالى أعلم .
وسئل ـ رحمه الله :(2/340)
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في رجل قال : أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ولم يصل، ولم يقم بشيء من الفرائض، وأنه لم يضره، ويدخل الجنة، وأنه قد حرم جسمه علي النار ؟ وفي رجل يقول : أطلب حاجتي من اللهومنك : فهل هذا باطل، أم لا ؟ وهل يجوز هذا القول، أم لا ؟
فأجاب :
الحمد لله، إن من لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ولا يحرم ما حرم اللهورسوله من الفواحش، والظلم، والشرك، والإفك، فهو كافر مرتد، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل باتفاق أئمة المسلمين، ولا يغني عنه التكلم بالشهادتين .
وإن قال : أنا أقر بوجوب ذلك عَلَي، وأعلم أنه فرض، وأن من تركه كان مستحقًا لذم الله وعقابه، لكني لا أفعل ذلك، فهذا ـ أيضًا ـ مستحق للعقوبة / في الدنيا والآخرة باتفاق المسلمين، ويجب أن يصلي الصلوات الخمس باتفاق العلماء . وأكثر العلماء يقولون : يؤمر بالصلاة، فإن لم يصل وإلا قتل . فإذا أصر علي الجحود حتي قتل كان كافرًا باتفاق الأئمة، لا يغسل ولا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين .(2/341)
ومن قال : إن كل من تكلم بالشهادتين، ولم يؤد الفرائض، ولم يجتنب المحارم، يدخل الجنة، ولا يعذب أحد منهم بالنار، فهو كافر مرتد . يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ بل الذين يتكلمون بالشهادتين أصناف؛ منهم منافقون في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالي : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } الآية [ النساء : 145، 146 ] وقال تعالي : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } الآية [ النساء : 142 ] ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق؛ يرقب الشمس حتي إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر اللهفيها إلا قليلاً ) ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يؤخر الصلاة وينقرها منافق، فكيف بمن لا يصلي ؟ ! وقد قال تعالي : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِين َهُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } [ الماعون : 4 : 6 ] قال العلماء : الساهون عنها : الذين يؤخرونها عن وقتها، والذين يفرطون في واجباتها . فإذا كان هؤلاء المصلون الويل لهم، فكيف بمن لا يصلي ؟ !(2/342)
/وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أمته بأنهم غُرٌّ مُحَجَّلُون من آثار الوضوء ) ، وإنما تكون الغرة والتحجيل لمن توضأ وصلى، فابيض وجهه بالوضوء، وابيضت يداه ورجلاه بالوضوء، فصلى أغرا محجلا . فمن لم يتوضأ ولم يصل لم يكن أغرا ولا محجلا، فلا يكون عليه سيما المسلمين التي هي الرنك للنبي صلى الله عليه وسلم، مثل الرنك الذي يعرف به المقدم أصحابه، ولا يكن هذا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وثبت في الصحيح : أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا آثار السجود . فمن لم يكن من أهل السجود للواحد المعبود، الغفور الودود، ذو العرش المجيد، أكلته النار . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة ) ، وقال : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ) ، وقال : ( أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة ) .
ولا ينبغي للعبد أن يقول : ما شاء اللهوشاء فلان، ومالي إلا اللهوفلان، وأطلب حاجتي من اللهثم من فلان، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تقولوا : ما شاء اللهوشاء محمد، ولكن قولوا ماشاء اللهثم شاء محمد ) ،وقال له رجل : ماشاء الله وشئت ، وفقال : ( أجعلتني لله ندا ؟ ! بل ما شاء اللهوحده ) . والله أعلم، وصلى الله عليه محمد .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=634 - TOP#TOPما تقول السادة العلماء ـ رضي الله عنهم
ـ في [ الحلاج الحسين بن منصور ] هل كان صديقًا ؟ أو زنديقًا ؟ وهل كان وليًا للّه متقيا له ؟ أم كان له حال رحماني ؟ أو من أهل السحر والخزعبلات ؟ وهل قتل علي الزندقة بمحضر من علماء المسلمين ؟ أو قتل مظلومًا ؟ أفتونا مأجورين ؟(2/343)
فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ـ قدس الله روحه : الحمد لله رب العالمين، الحلاج قتل علي الزندقة، التي ثبتت عليه بإقراره، وبغير إقراره والأمر الذي ثبت عليه بما يوجب القتل باتفاق المسلمين . ومن قال : إنه قتل بغير حق فهو إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال . والذي قتل به ما استفاض عنه من أنواع الكفر، وبعضه يوجب قتله، فضلاً عن جميعه . ولم يكن من أولياء الله المتقين، بل كان له عبادات ورياضات ومجاهدات، بعضها شيطاني، وبعضها نفساني، وبعضها موافق للشريعة من وجه دون وجه، فلبس الحق بالباطل .
وكان قد ذهب إلي بلاد الهند، وتعلم أنواعاً من السحر، وصنف كتابا في السحر معروفًا، وهو موجود إلي اليوم، وكان له أقوال شيطانية، ومخاريق بهتانية .
/وقد جمع العلماء أخباره في كتب كثيرة أرخوها، الذين كانوا في زمنه، والذين نقلوا عنهم مثل أبي علي الحطي ذكره في [ تاريخ بغداد ] والحافظ أبو بكر الخطيب ذكر له ترجمة كبيرة في [ تاريخ بغداد ] وأبو يوسف القزويني صنف مجلدًا في أخباره، وأبو الفرج بن الجوزي له فيه مصنف سماه : [ رفع اللجاج في أخبار الحلاج ] . وبسط ذكره في تاريخه أبو عبد الرحمن السلمي في [ طبقات الصوفية ] أن كثيرا من المشائخ ذموه وأنكروا عليه، ولم يعدوه من مشائخ الطريق . وأكثرهم حط عليه . وممن ذمه وحط عليه أبو القاسم الجنيد، ولم يقتل في حياة الجنيد، بل قتل بعد موت الجنيد؛ فإن الجنيد توفي سنة ثمان وتسعين ومئتين .(2/344)
والحلاج قتل سنة بضع وثلاثمائة، وقدموا به إلي بغداد راكباً علي جمل ينادي عليه : هذا داعي القرامطة ! وأقام في الحبس مدة حتي وجد من كلامه الكفر والزندقة، واعترف به، مثل أنه ذكر في كتاب له : من فاته الحج فإنه يبني في داره بيتًا ويطوف به، كما يطوف بالبيت، ويتصدق علي ثلاثين يتيمًا بصدقة ذكرها، وقد أجزأه ذلك عن الحج . فقالوا له : أنت قلت هذا ؟ قال : نعم . فقالوا له : من أين لك هذا ؟ قال : ذكره الحسن البصري في [ كتاب الصلاة ] ، فقال له القاضي أبو عمر : تكذب يازنديق ! أنا قرأت هذا الكتاب وليس هذا فيه، فطلب منهم الوزير أن يشهدوا بما سمعوه، ويفتوا بما يجب عليه، فاتفقوا علي وجوب قتله .
/لكن العلماء لهم قولان في الزنديق إذا أظهر التوبة : هل تقبل توبته فلا يقتل ؟ أم يقتل؛ لأنه لا يعلم صدقه؛ فإنه ما زال يظهر ذلك ؟ فأفتي طائفة بأنه يستتاب فلا يقتل، وأفتي الأكثرون بأنه يقتل وإن أظهر التوبة، فإن كان صادقًا في توبته نفعه ذلك عند الله وقتل في الدنيا، وكان الحد تطهيرًا له، كما لو تاب الزاني والسارق ونحوهما بعد أن يرفعوا إلي الإمام، فإنه لابد من إقامة الحد عليهم، فإنهم إن كانوا صادقين كان قتلهم كفارة لهم، ومن كان كاذبًا في التوبة كان قتله عقوبة له .
فإن كان الحلاج وقت قتله تاب في الباطن فإن الله ينفعه بتلك التوبة، وإن كان كاذبًا فإنه قتل كافرًا .(2/345)
ولما قُتل لم يظهر له وقت القتل شيء من الكرامات، وكل من ذكر أن دمه كتب علي الأرض اسم الله، وأن رجله انقطع ماؤها، أو غير ذلك، فإنه كاذب . وهذه الأمور لا يحكيها إلا جاهل أو منافق، وإنما وضعها الزنادقة وأعداء الإسلام، حتي يقول قائلهم : إن شرع محمد بن عبد الله يقتل أولياء الله . حتي يسمعوا أمثال هذه الهذيانات، وإلا فقد قتل أنبياء كثيرون، وقتل من أصحابهم وأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم والتابعين وغيرهم من الصالحين من لا يحصي عددهم إلا الله، قتلوا بسيوف الفجار والكفار والظلمة غيرهم، ولم يكتب دم أحدهم اسم الله . والدم أيضًا نجس،/ فلا يجوز أن يكتب به اسم الله تعالي . فهل الحلاج خير من هؤلاء، ودمه أطهر من دمائهم ؟ ! وقد جزع وقت القتل، وأظهر التوبة والسنة فلم يقبل ذلك منه . ولو عاش افتتن به كثير من الجهال؛ لأنه كان صاحب خزعبلات بهتانية، وأحوال شيطانية .
ولهذا إنما يعظمه من يعظم الأحوال الشيطانية، والنفسانية، والبهتانية . وأما أولياء الله العالمون بحال الحلاج فليس منهم واحد يعظمه؛ ولهذا لم يذكره القشيري في مشائخ رسالته، وإن كان قد ذكر من كلامه كلمات استحسنها . وكان الشيخ أبو يعقوب النهرجوري قد زوجه بابنته، فلما اطلع علي زندقته نزعها منه . وكان عمرو بن عثمان يذكر أنه كافر، ويقول : كنت معه فسمع قارئًا يقرأ القرآن، فقال : أقدر أن أصنف مثل هذا القرآن . أو نحو هذا من الكلام .
وكان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلي تعظيمه، فيظهر عند أهل السنة أنه سني، وعند أهل الشيعة أنه شيعي، ويلبس لباس الزهاد تارة، ولباس الأجناد تارة .(2/346)
وكان من [ مخاريقه ] أنه بعث بعض أصحابه إلي مكان في البرية يخبأ فيه شيئًا من الفاكهة والحلوي، ثم يجيء بجماعة من أهل الدنيا إلي قريب من / ذلك المكان، فيقول لهم : ما تشتهون أن آتيكم به من هذه البرية ؟ فيشتهي أحدهم فاكهة، أو حلاوة، فيقول : امكثوا، ثم يذهب إلي ذلك المكان ويأتي بما خبأ أو ببعضه، فيظن الحاضرون أن هذه كرامة له ! ! وكان صاحب سيما وشياطين تخدمه أحيانًا، كانوا معه علي جبل أبي قُبَيْس، فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلي مكان قريب منهم وجاء بصحن حلوي، فكشفوا الأمر فوجدوا ذلك قد سرق من دكان حلاوي باليمن، حمله شيطان من تلك البقعة .
ومثل هذا يحصل كثيرًا لغير الحلاج ممن له حال شيطاني، ونحن نعرف كثيرًا من هؤلاء في زماننا وغير زماننا؛ مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلي قرية حول دمشق، فيجيء من الهوي إلي طاقة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه . ويجيء بالليل إلي [ باب الصغير ] فيعبر منه هو ورفقته، وهو من أفجر الناس .
وآخر كان بالشويك، في قرية يقال لها : [ الشاهدة ] يطير في الهوي إلي رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطان يحمله، وكان يقطع الطريق . وأكثرهم شيوخ الشر، يقال لأحدهم [ البوي ] أي المخبث، ينصبون له حركات في ليلة مظلمة، ويصنعون خبزًا علي سبيل القربات، فلا يذكرون الله، ولا يكون عندهم من يذكر الله، ولا كتاب فيه ذكر الله؛ ثم يصعد ذلك / البوي في الهوي، وهم يرونه . ويسمعون خطابه للشيطان، وخطاب الشيطان له، ومن ضحك أو شرق بالخبز ضربه الدف . ولا يرون من يضرب به .
ثم إن الشيطان يخبرهم ببعض ما يسألونه عنه، ويأمرهم بأن يقربوا له بقرًا وخيلاً وغير ذلك، وأن يخنقوها خنقًا ولا يذكرون اسم الله عليها، فإذا فعلوا قضي حاجتهم .(2/347)
وشيخ آخر أخبر عن نفسه أنه كان يزني بالنساء، ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم : [ الحوارات ] ، وكان يقول : يأتيني كلب أسود بين عينيه نكتتان بيضاوان، فيقول لي : فلان، إن فلانا نذر لك نذرًا، وغدًا يأتيك به، وأنا قضيت حاجته لأجلك، فيصبح ذلك الشخص يأتيه بذلك النذر، ويكاشفه هذا الشيخ الكافر . قال : وكنت إذا طلب مني تغيير مثل اللاذن أقول حتي أغيب عن عقلي؛ وإذ باللاذن في يدي، أو في فمي وأنا لا أدري من وضعه ! ! قال : وكنت أمشي وبين يدي عمود أسود عليه نور فلما تاب هذا الشيخ، وصار يصلي، ويصوم ويجتنب المحارم، ذهب الكلب الأسود وذهب التغيير؛ فلا يؤتي بلاذن ولا غيره .
وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلي الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلي أتباعه فيفارقون ذلك / المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، وكان أحيانًا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس، حتي إن بعض الناس كان له تين في كوارة، فيطلب الشيخ من شياطينه تينا، فيحضرونه له، فيطلب أصحاب الكوارة التين فوجدوه قد ذهب .
وآخر كان مشتغلاً بالعلم والقراءة، فجاءته الشياطين أغرته، وقالوا له : نحن نسقط عنك الصلاة، ونحضر لك ما تريد، فكانوا يأتونه بالحلوي والفاكهة، حتي حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه، وأعطي أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك المفتون بالشيطان .
فكل من خرج عن الكتاب والسنة، وكان له حال من مكاشفة، أو تأثير، فإنه صاحب حال نفساني، أو شيطاني، وإن لم يكن له حال، بل هو يتشبه بأصحاب الأحوال فهو صاحب محال بهتاني . وعامة أصحاب الأحوال الشيطانية يجمعون بين الحال الشيطاني والحال البهتاني، كما قال تعالي : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] .(2/348)
و [ الحلاج ] كان من أئمة هؤلاء أهل الحال الشيطاني ، والحال البهتاني . وهؤلاء طوائف كثيرة .
/فأئمة هؤلاء هم شيوخ المشركين الذين يعبدون الأصنام مثل الكهان والسحرة الذين كانوا للعرب المشركين، ومثل الكهان الذين هم بأرض الهند والترك وغيرهم .
ومن هؤلاء من إذا مات لهم ميت يعتقدون أنه يجيء بعد الموت، فيكلمهم ويقضي ديونه، ويرد ودائعه ويوصيهم بوصايا، فإنهم تأتيهم تلك الصورة التي كانت في الحياة، وهو شيطان يتمثل في صورته، فيظنونه إياه .
وكثير ممن يستغيث بالمشائخ فيقول : يا سيدي فلان، أو يا شيخ فلان، اقض حاجتي . فيري صورة ذلك الشيخ تخاطبه، ويقول : أنا أقضي حاجتك وأطيب قلبك فيقضي حاجته، أو يدفع عنه عدوه، ويكون ذلك شيطانا قد تمثل في صورته لما أشرك بالله فدعي غيره .
وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة، حتي إن طائفة من أصحابي ذكروا أنهم استغاثوا بي في شدائد أصابتهم . أحدهم كان خائفًا من الأرمن، والآخر كان خائفًا من التتر، فذكر كل منهم أنه لما استغاث بي رآني في الهوي وقد دفعت عنه عدوه . فأخبرتهم أني لم أشعر بهذا، ولا دفعت عنكم شيئًا، وإنما هذا الشيطان تمثل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالي . وهكذا جري لغير واحد من أصحابنا المشائخ مع أصحابهم، يستغيث أحدهم بالشيخ، فيري /الشيخ قد جاء وقضي حاجته، ويقول ذلك الشيخ : إني لم أعلم بهذا، فيتبين أن ذلك كان شيطانا وقد قلت لبعض أصحابنا لما ذكر لي أنه استغاث باثنين كان يعتقدهما، وأنهما أتياه في الهوي، وقالا له : طيب قلبك، نحن ندفع عنك هؤلاء، ونفعل، ونصنع . قلت له : فهل كان من ذلك شيء ؟ فقال : لا . فكان هذا مما دله علي أنهما شيطانان؛ فإن الشياطين وإن كانوا يخبرون الإنسان بقضية أو قصة فيها صدق، فإنهم يكذبون أضعاف ذلك، كما كانت الجن يخبرون الكهان .(2/349)
ولهذا من اعتمد علي مكاشفته التي هي من أخبار الجن كان كذبه أكثر من صدقه؛ كشيخ كان يقال له : [ الشياح ] توبناه، وجددنا إسلامه، كان له قرين من الجن يقال له : [ عنتر ] يخبره بأشياء، فيصدق تارة ويكذب تارة، فلما ذكرت له أنك تعبد شيطانًا من دون الله، اعترف بأنه يقول له : يا عنتر، لا سبحانك؛ إنك إله قذر، وتاب من ذلك، في قصة مشهورة .
وقد قتل سيف الشرع من قتل من هؤلاء مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة، وكان له قرين يأتيه ويكاشفه فيصدق تارة، ويكذب تارة . وقد انقاد له طائفة من المنسوبين إلي أهل العلم والرئاسة، فيكاشفهم حتي كشف الله لهم . وذلك أن القرين كان تارة يقول له : أنا رسول الله . ويذكر أشياء / تنافي حال الرسول، فشهد عليه أنه قال : إن الرسول يأتيني، ويقول لي كذا وكذا من الأمور التي يكفر من أضافها إلي الرسول؛ فذكرت لولاة الأمور أن هذا من جنس الكهان، وأن الذي يراه شيطانا؛ ولهذا لا يأتيه في الصورة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم، بل يأتيه في صورة منكرة، ويذكر عنه أنه يخضع له، ويبيح له أن يتناول المسكر وأمورًا أخري وكان كثيرًا من الناس يظنون أنه كاذب فيما يخبر به من الرؤية؛ ولم يكن كاذبًا في أنه رأي تلك الصورة، لكن كان كافرًا في اعتقاده أن ذلك رسول الله، ومثل هذا كثير .
ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان، فكلما بعدوا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وطريق المؤمنين قربوا من الشيطان . فيطيرون في الهواء؛ والشيطان طار بهم ومنهم من يصرع الحاضرين، وشياطينه صرعتهم . ومنهم من يحضر طعامًا وإدامًا، وملأ الإبريق ماء من الهوي، والشياطين فعلت ذلك، فيحسب الجاهلون أن هذه كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال السحرة والكهنة وأمثالهم .(2/350)
ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية اشتبه عليه الحق بالباطل، ومن لم ينور الله قلبه بحقائق الإيمان واتباع القرآن لم يعرف طريق المحق من / المبطل، والتبس عليه الأمر والحال، كما التبس علي الناس حال مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين في زعمهم أنهم أنبياء، وإنما هم كذابون، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتي يكون فيكم ثلاثون دجالون كذابون، كلهم يزعم أنه رسول الله ) .
وأعظم الدجاجلة فتنة [ الدجال الكبير ] الذي يقتله عيسي ابن مريم؛ فإنه ما خلق الله من لدن آدم إلي قيام الساعة أعظم من فتنته، وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم . وقد ثبت ( أنه يقول للسماء : أمطري، فتمطر، وللأرض أنبتي، فتنبت، وأنه يقتل رجلاً مؤمنًا، ثم يقول له : قم فيقوم؛ فيقول : أنا ربك، فيقول له كذبت، بل أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيقتله مرتين، فيريد أن يقتله في الثالثة فلا يسلطه الله عليه ) ، وهو يدعي الإلهية . وقد بين له النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث علامات تنافي ما يدعيه : أحدها : ( أنه أعور، وأن ربكم ليس بأعور ) . والثانية : ( أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن من قارئ وغير قارئ ) . والثالثة : قوله : ( واعلموا أن أحدكم لا يري ربه حتي يموت ) .
/فهذا هو الدجال الكبير ودونه دجاجلة، منهم من يدعي النبوة، ومنهم من يكذب بغير ادعاء النبوة كما قال صلى الله عليه وسلم : ( يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم ) .
فالحلاج كان من الدجاجلة بلا ريب، ولكن إذا قيل : هل تاب قبل الموت، أم لا ؟ قال الله أعلم، فلا يقول ما ليس له به علم، ولكن ظهر عنه من الأقوال والأعمال ما أوجب كفره وقتله باتفاق المسلمين والله أعلم به .(2/351)
وَسئل ـ رَحمه اللّه تعالي ـ عن [ المعز معد بن تميم ] الذي بني القاهرة، والقصرين : هل كان شريفًا فاطميا ؟ وهل كان هو وأولاده معصومين ؟ وأنهم أصحاب العلم الباطن ؟ وإن كانوا ليسوا أشرافًا : فما الحجة علي القول بذلك ؟ وإن كانوا علي خلاف الشريعة : فهل هم [ بغاة ] أم لا ؟ وما حكم من نقل ذلك عنهم من العلماء المعتمدين الذين يحتج بقولهم ؟ ولتبسطوا القول في ذلك ؟
فأجاب :
الحمد لله، أما القول بأنه هو أو أحد من أولاده أو نحوهم كانوا معصومين من الذنوب والخطأ، كما يدعيه الرافضة في [ الاثني عشر ] ، فهذا القول شر من قول الرافضة بكثير : فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه، بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة؛ كعلي، والحسن، والحسين ـ رضي الله عنهم . ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان علي أن هذا القول من أفسد الأقوال، وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان؛ فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء ـ عليهم السلام .(2/352)
بل كان من سوي الأنبياء يؤخذ من قوله ويترك، ولا تجب طاعة من سوي الأنبياء والرسل في كل ما يقول، ولا يجب علي الخلق اتباعه والإيمان / به في كل ما يأمر به ويخبر به، ولا تكون مخالفته في ذلك كفرًا، بخلاف الأنبياء، بل إذا خالفه غيره من نظرائه وجب علي المجتهد النظر في قوليهما، وأيهما كان أشبه بالكتاب والسنة تابعه، كما قال تعالي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] ، فأمر عند التنازع بالرد إلي الله وإلي الرسول؛ إذ المعصوم لا يقول إلا حقًا . ومن علم أنه قال الحق في موارد النزاع وجب اتباعه، كما لو ذكر آية من كتاب الله تعالي، أو حديثًا ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد به قطع النزاع .(2/353)
أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل علي صحة ما يقول فليس بصحيح، بل هذه المرتبة هي [ مرتبة الرسول ] التي لا تصلح إلا له، كما قال تعالي : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] ، وقال تعالي : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } [ النساء : 64 ] ، وقال تعالي : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، وقال تعالي : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] ، وقال تعالي : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ النور : 51 ] ، وقال : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 ] ، وقال تعالي : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء : 13، 14 ] ، وقال تعالي : { رُّسُلاً(2/354)
مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، وقال تعالي : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالي : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ المائدة : 12 ] ، وأمثال هذه في القرآن كثير، بين فيه سعادة من آمن بالرسل واتبعهم وأطاعهم، وشقاوة من لم يؤمن بهم ولم يتبعهم، بل عصاهم .
فلو كان غير الرسول معصومًا فيما يأمر به وينهي عنه لكان حكمه ذلك حكم الرسول، والنبي المبعوث إلي الخلق رسول إليهم، بخلاف من لم يبعث إليهم . فمن كان آمرًا ناهيا للخلق؛ من إمام، وعالم، وشيخ، وأولي أمر غير هؤلاء من أهل البيت أو غيرهم، وكان معصومًا، كان بمنزلة الرسول في ذلك، وكان من أطاعه وجبت له الجنة، ومن عصاه وجبت له النار، كما يقوله القائلون بعصمة علي أو غيره من الأئمة، بل من أطاعه يكون مؤمنًا، ومن عصاه يكون كافرًا، وكان هؤلاء كأنبياء بني إسرائيل، فلا / يصح حينئذ قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي ) .
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر ) . فغاية العلماء من الأئمة وغيره من هذه الأمة أن يكونوا ورثة أنبياء .(2/355)
وأيضًا فقد ثبت بالنصوص الصحيحة والإجماع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصديق في تأويل رؤيا عبرها : ( أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا ) ، وقال الصديق : أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم . وغضب مرة علي رجل فقال له أبو بردة : دعني أضرب عنقه فقال له : أكنت فاعلاً ؟ ! قال : نعم . فقال : ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولهذا اتفق الأئمة علي أن من سب نبيا قتل، ومن سب غير النبي لا يقتل بكل سب سبه، بل يفصل في ذلك : فإن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم، قتل مسلمًا كان أو كافرًا : لأنه قدح في نسبه، ولو قذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يعلم براءتها لم يقتل .
وكذلك عمر بن الخطاب كان يقر علي نفسه في مواضع بمثل هذه، فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما قال، ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتي يستفيدها منهم، ويقول في مواضع : والله ما يدري عمر أصاب الحق أو أخطأه، ويقول : امرأة أصابت، ورجل أخطأ، ومع هذا فقد ثبت في / الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ) ، وفي الترمذي : ( لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ) ، وقال : ( إن الله ضرب الحق علي لسان عمر وقلبه ) ، فإذا كان المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق علي لسانه وقلبه بهذه المنزلة يشهد علي نفسه بأنه ليس بمعصوم، فكيف بغيره من الصحابة وغيرهم الذين لم يبلغوا منزلته ؟ !
فإن أهل العلم متفقون علي أن أبا بكر وعمر أعلم من سائر الصحابة، وأعظم طاعة لله ورسوله من سائرهم، وأولي بمعرفة الحق واتباعه منهم، وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر ) ، روي ذلك عنه من نحو ثمانين وجهًا، وقال علي ـ رضي الله عنه : لا أوتي بأحد يفضلني علي أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري .(2/356)
والأقوال المأثورة عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة كثرة .
بل أبو بكر الصديق لا يحفظ له فتيا أفتي فيها بخلاف نص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وجد لعلي وغيره من الصحابة من ذلك أكثر مما وجد لعمر، وكان الشافعي ـ رضي الله عنه ـ يناظر بعض فقهاء الكوفة في مسائل الفقه، فيحتجون عليه بقول علي، فصنف كتاب [ اختلاف علي وعبد الله بن مسعود ] ، وبين فيه مسائل كثيرة تركت من قولهما : لمجيء السنة بخلافها، وصنف بعده محمد بن نصر الثوري كتابًا أكبر من ذلك، كما ترك من قول علي ـ رضي الله عنه ـ / أن المعتدة المتوفي عنها إذا كانت حاملاً فإنها تعتد أبعد الأجلين، ويروي ذلك عن ابن عباس أيضًا، واتفقت أئمة الفتيا علي قول عثمان وابن مسعود وغيرهما في ذلك، وهو أنها إذا وضعت حملها حلت، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن سبيعة الأسلمية كانت قد وضعت بعد زوجها بليال، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال : ما أنت بناكح حتي تمر عليك أربعة أشهر وعشرًا، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقال : ( كذب أبو السنابل . حللت فانكحي ) . فكذب النبي صلى الله عليه وسلم من قال بهذه الفتيا . وكذلك المفوضة التي تزوجها زوجها ومات عنها ولم يفرض لها مهر قال فيها علي وابن عباس : إنها لا مهر لها، وأفتي فيها ابن مسعود وغيره : إن لها مهر المثل، فقام رجل من أشجع فقال : نشهد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه . ومثل هذا كثير .
وقد كان علي وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضًا في العلم والفتيا، كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضًا، ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، وقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه ويكره كثيرًا مما يفعله، ويرجع علي ـ رضي الله عنه ـ في آخر الأمر إلي رأيه، وكان يقول :
لئن عجزت عجزةً لا أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر
وأجبر الرأي النسيب المنتشر(2/357)
/وتبين له في آخر عمره أن لو فعل غير الذي كان فعله لكان هو الأصوب، وله فتاوي رجع ببعضها عن بعض، كقوله في أمهات الأولاد، فإن له فيها قولين : أحدهما : المنع من بيعهن، والثاني : إباحة ذلك . والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان، إلا أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم السنة استقرت فلا يرد عليها بعده نسخ إذ لا نبي بعده .
وقد وصي الحسن أخاه الحسين بألا يطيع أهل العراق، ولا يطلب هذا الأمر، وأشار عليه بذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما ممن يتولاه ويحبه ورأوا أن مصلحته ومصلحة المسلمين ألا يذهب إليهم، لا يجيبهم إلي ما قالوه من المجيء إليهم والقتال معهم، وإن كان هذا هو المصلحة له وللمسلمين، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ فعل ما رآه مصلحة، والرأي يصيب ويخطئ . والمعصوم ليس لأحد أن يخالفه؛ وليس له أن يخالف معصومًا آخر، إلا أن يكونا علي شريعتين، كالرسولين، ومعلوم أن شريعتهما واحدة . وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود أن من ادعي عصمة هؤلاء السادة، المشهود لهم بالإيمان والتقوي والجنة : هو في غاية الضلال والجهالة، ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق، بل ولا من له عقل محمود .
/فكيف تكون العصمة في ذرية [ عبد الله بن ميمون القداح ] مع شهرة النفاق والكذب والضلال ؟ ! وهب أن الأمر ليس كذلك ، فلا ريب أن سيرتهم من سيرة الملوك، وأكثرها ظلمًا وانتهاكًا للمحرمات، وأبعدها عن إقامة الأمور والواجبات، وأعظم إظهارًا للبدع المخالفة للكتاب والسنة، وإعانة لأهل النفاق والبدعة .(2/358)
وقد اتفق أهل العلم علي أن دولة بني أمية وبني العباس أقرب إلي الله ورسوله من دولتهم، وأعظم علماً وإيمانًا من دولتهم، وأقل بدعًا وفجورًا من بدعتهم، وأن خليفة الدولتين أطوع لله ورسوله من خلفاء دولتهم، ولم يكن في خلفاء الدولتين من يجوز أن يقال فيه إنه معصوم، فكيف يدعي العصمة من ظهرت عنه الفواحش والمنكرات، والظلم والبغي، والعدوان والعداوة لأهل البر والتقوي من الأمة، والاطمئنان لأهل الكفر والنفاق ؟ ! فهم من أفسق الناس . ومن أكفر الناس . وما يدعي العصمة في النفاق والفسوق إلا جاهل مبسوط الجهل، أو زنديق يقول بلا علم .(2/359)
ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم بالإيمان والتقوي، أو بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله تعالي : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ، وقال تعالي : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 68 ] ، وقال عن إخوة يوسف : { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [ يوسف : 81 ] ، وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم /ولا بثبوت إيمانهم وتقواهم، فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطن؛ إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق، قال الله تعالي : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] ، وقال تعالي : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، وقال تعالي { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] ، وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نزاع مشهور . فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه؛ إذ ليس معه شيء يدل علي إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل علي نفاقهم وزندقتهم .(2/360)
وكذلك [ النسب ] ، قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس، أو اليهود . هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف؛ من الحنيفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم . وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتي بعض من قد يتوقف في أمرهم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه؛ فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم .
/وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتي القاضي ابن خلكان في تاريخه، فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي، وأبو شامة وغيرهما من أهل العلم بذلك، حتي صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابة المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصاري، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية علي أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلي في كتابه [ المعتمد ] فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه [ فضائل المستظهرية، وفضائح الباطنية ] قال : ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض .(2/361)
وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون علي علي غيره، بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله، يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة . فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة ؟ ! والرافضة الإمامية ـ مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة ـ نعم يعلمون أن مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين، ويعلمون أن مقالة هؤلاء / الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية علي ـ رضي الله عنه ـ . وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف .
وقد تولي الخلافة غيرهم طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والظلم ما فيه، فلم يقدح الناس في نسب أحد من أولئك، كما قدحوا في نسب هؤلاء ولا نسبوهم إلي الزندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء . وقد قام من ولد علي طوائف؛ من ولد الحسن، وولد الحسين، كمحمد بن عبد الله بن حسن، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمثالهما . ولم يطعن أحد لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الداعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلبوا بالأندلس مدة، وأمثال هؤلاء لم يقدح أحد في نسبهم، ولا في إسلامهم، وقد قتل جماعة من الطالبيين من علي الخلافة، لاسيما في الدولة العباسية، وحبس طائفة كموسي بن جعفر وغيره، ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم، ولا دينهم .
وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه، وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمر لا يخفي، وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي علي نقله، ولا يجوز أن تتفق علي ذلك أقوال العلماء .(2/362)
/وهؤلاء [ بنو عبيد القداح ] مازالت علماء الأمة المأمونون علمًا ودينًا يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض والتشيع، فإن لهم في هذا شركاء كثيرين، بل يجعلونهم من [ القرامطة الباطنية ] الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية، ومن جنسهم الخرمية المحمرة ـ وأمثالهم من الكفار ـ المنافقون، الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل، وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه، وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم، وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة، فوضعوا لهم [ السابق ] و [ التالي ] و [ الأساس ] و [ الحجج ] و [ الدعاوي ] وأمثال ذلك من المراتب . وترتيب الدعوة سبع درجات، آخرها [ البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم ] مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك .
وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم، قاف ما ليس له به علم؛ وذلك حرام باتفاق الأمة، بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق، ومعاداة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، دليل علي بطلان نسبهم الفاطمي؛ فإن من يكون من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء، فلم يعرف في بني هاشم، ولا ولد أبي طالب، ولا بني أمية من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام، فضلاً عن أن يكون معاديا كمعاداة /هؤلاء، بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدي ودين الحق كيف يعادي دينه هذه المعاداة؛ ولهذا نجد جميع المأمونين علي دين الإسلام باطنًا وظاهرًا معادين لهؤلاء، إلا من هو زنديق عدو الله ورسوله، أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله . وهذا مما يدل علي كفرهم، وكذبهم في نسبهم .
فَصْل(2/363)
وأما سؤال القائل : [ إنهم أصحاب العلم الباطن ] فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل علي أنهم زنادقة منافقون، لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر، فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصاري، بل أكثر المشركين علي أنه كفر أيضًا؛ فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر، والنواهي، والأخبار .
أما [ الأوامر ] فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلوات المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق .
/وأما [ النواهي ] فإن الله تعالي حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، والبغي بغير الحق، وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وأن يقولوا علي الله ما لا يعلمون، كما حرم الخمر، ونكاح ذوات المحارم، والربا والميسر، وغير ذلك . فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون، ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الإسماعيلية، الذين انتسبوا إلي محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذين يقولون : إنهم معصومون، وأنهم أصحاب العلم الباطن، كقولهم : [ الصلاة ] معرفة أسرارنا، لا هذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة . و [ الصيام ] كتمان أسرارنا ليس هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح . و [ الحج ] زيارة شيوخنا المقدسين . وأمثال ذلك . وهؤلاء المدعون للباطن لا يوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات، بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونكاح الأمهات والبنات، وغير ذلك من المنكرات، ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصاري، فمن يكون هكذا كيف يكون معصومًا ؟ !(2/364)
وأما [ الأخبار ] فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب، بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة، بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته، بل أخبارهم الذي يتبعونها أتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو، ويريدون أن يجمعوا / بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء، كما فعل أصحاب [ رسائل إخوان الصفا ] وهم علي طريقة هؤلاء العبيديين، ذرية [ عبيد الله بن ميمون القداح ] . فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين، أو اليهود، أو النصاري : أن ما يقوله أصحاب [ رسائل إخوان الصفا ] مخالف للملل الثلاث، وإن كان في ذلك من العلوم الرياضية، والطبيعية، وبعض المنطقية، والإلهية، وعلوم الأخلاق، والسياسة، والمنزل، ما لا ينكر؛ فإن في ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به، والتكذيب بكثير مما جاءت به، وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفي علي عارف بملة من الملل . فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث .
ومن أكاذيبهم وزعمهم : أن هذه [ الرسائل ] من كلام جعفر بن محمد الصادق . والعلماء يعلمون أنها إنما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة، وقد ذكر واضعها فيها ما حدث في الإسلام من استيلاء النصاري علي سواحل الشام، ونحو ذلك من الحوادث التي حدثت بعد المائة الثالثة . وجعفر بن محمد ـ رضي الله عنه ـ توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، قبل بناء القاهرة بأكثر من مائتي سنة؛ إذ القاهرة بنيت حول الستين وثلاثمائة، كما في [ تاريخ الجامع الأزهر ] . ويقال : إن ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين، وأنه في سنة اثنين وستين قدم [ معد بن تميم ] من المغرب واستوطنها .(2/365)
/ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الإسلام كانوا من أتباع مبشر ابن فاتك أحد أمرائهم، وأبي علي بن الهيثم اللذين كانا في دولة الحاكم نازلين قريبًا من الجامع الأزهر . وابن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما : قال ابن سينا : وقرأت من الفلسفة، وكنت أسمع أبي وأخي يذكران [ العقل ] و [ النفس ] ، وكان وجوده علي عهد الحاكم، وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه، وما فعله هشكين الدرزي بأمره من دعوة الناس إلي عبادته، ومقاتلته أهل مصر علي ذلك، ثم ذهابه إلي الشام حتي أضل وادي التيم بن ثعلبة . والزندقة والنفاق فيهم إلي اليوم، وعندهم كتب الحاكم، وقد أخذتها منهم، وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم، وإسقاطه عنهم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرم الله ورسوله بالحشوية . إلي أمثال ذلك من أنواع النفاق التي لا تكاد تحصي .
وبالجملة [ فعلم الباطن ] الذي يدعون؛ مضمونه الكفر بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل هو جامع لكل كفر، لكنهم فيه علي درجات فليسوا مستوين في الكفر؛ إذ هو عندهم سبع طبقات، كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه .
ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس، والفلاسفة، والرافضة، مثل قولهم : [ السابق ] و [ التالي ] جعلوهما بإزاء [ العقل ] / و [ النفس ] كالذي يذكره الفلاسفة، وبإزاء النور والظلمة كالذي يذكره المجوس . وهم ينتمون إلي [ محمد بن إسماعيل بن جعفر ] ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون في الباطن، والأساس، والحجة، والباب، وغير ذلك مما يطول وصفهم .(2/366)
ومن وصاياهم في [ الناموس الأكبر، والبلاغ الأعظم ] أنهم يدخلون علي المسلمين من [ باب التشيع ] وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف، وأضعفها عقلاً وعلمًا، وأبعدها عن دين الإسلام علمًا وعملاً، ولهذا دخلت الزنادقة علي الإسلام من باب المتشيعة قديمًا وحديثًا، كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة كما جري لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما، بل كما جري بتغير المسلمين مع النصاري وغيرهم، فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم نقلوه إلي الرفض والقدح في الصحابة، فإن رأوه قابلا نقلوه إلي الطعن في علي وغيره، ثم نقلوه إلي القدح في نبينا وسائر الأنبياء، وقالوا : إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم، وكانوا قومًا أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية، ثم قدحوا في المسيح ونسبوه إلي يوسف النجار، وجعلوه ضعيف الرأي حيث تمكن عدوه منه حتي صلبه، فيوافقون اليهود في القدح في المسيح، لكن هم شر من اليهود . فإنهم يقدحون في الأنبياء . وأما موسي ومحمد فيعظمون أمرهما؛ لتمكنهما وقهر/ عدوهما، ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة، وأن لذلك أسرارًا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين .
ويقولون : إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات، وأخذ أموال الناس بكل طريق، ولم يجب علينا شيء مما يجب علي العامة؛ من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك؛ إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب .(2/367)
وفي [ إثبات واجب الوجود ] المبدع للعالم علي قولين لأئمتهم، تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة في نزاع إلا في واجب الوجود؛ ويستهينون بذكر الله واسمه حتي يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله؛ وأمثال ذلك من كفرهم كثير . وذو الدعوة التي كانت مشهورة، والإسماعيلية الذين كانوا علي هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها في بلاد خراسان؛ وبأرض اليمن وجبال الشام، وغير ذلك، كانوا علي مذهب العبيديين المسؤول عنهم؛ وابن الصباح الذي كان رأس الإسماعيلية؛ وكان الغزالي يناظر أصحابه لما كان قدم إلي مصر في دولة المستنصر، وكان أطولهم مدة، وتلقي عنه أسرارهم .
وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجًا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي،/ واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلي العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر، وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف، وأذنوا علي المنابر : [ حي علي خير العمل ] حتي جاء الترك [ السلاجقة ] الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلي مصر، وكان من أواخرهم [ الشهيد نور الدين محمود ] الذي فتح أكثر الشام، واستنقذه من أيدي النصاري؛ ثم بعث عسكره إلي مصر لما استنجدوه علي الإفرنج، وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر، فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتي سكنها حينئذ من أظهر بها دين الإسلام .(2/368)
وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل، كما حكي ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد، وامتنع من رواية الحديث خوفًًا أن يقتلوه، وكانوا ينادون بين القصرين : من لعن وسب، فله دينار وإردب . وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة، بل يتكلم فيها بالكفر الصريح، وكان لهم مدرسة بقرب [ المشهد ] الذي بنوه ونسبوه إلي الحسين وليس فيه الحسين، ولا شيء منه باتفاق العلماء . وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين، بل المنطق، والطبيعة، والإلهي، ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة . وبنوا أرصادًا علي / الجبال وغير الجبال، يرصدون فيها الكواكب، يعبدونها، ويسبحونها، ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل علي المشركين الكفار، كشياطين الأصنام، ونحو ذلك .
و [ المعز بن تميم بن معد ] أول من دخل القاهرة منهم في ذلك، فصنف كلامًا معروفًا عند أتباعه؛ وليس هذا [ المعز بن باديس ] ، فإن ذاك كان مسلمًا من أهل السنة، وكان رجلاً من ملوك المغرب؛ وهذا بعد ذاك بمدة . ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان، حتي قالت فيها العلماء : إنها كانت دار ردة ونفاق، كدار مسيلمة الكذاب .
و [ القرامطة ] الخارجين بأرض العراق الذين كانوا سلفًا لهؤلاء القرامطة، ذهبوا من العراق إلي المغرب، ثم جاؤوا من المغرب إلي مصر ؛ فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة، وهم أعظم كفرًا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين؛ فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء؛ ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين، كما يميز بين قبور المسلمين والكفار؛ فإن قبورهم موجهة إلي غير القبلة .(2/369)
وإذا أصاب الخيل مغل أتوا بها إلي قبورهم، كما يأتون بها إلي قبور الكفار، وهذه عادة معروفة للخيل إذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلي قبور / النصاري بدمشق، وإن كانوا بمساكن الإسماعيلية والنصيرية ونحوهما ذهبوا بها إلي قبورهم، وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلي قبور اليهود والنصاري، أو لهؤلاء العبيديين الذين قد يتسمون بالأشراف، وليسوا من الأشراف . ولا يذهبون بالخيل إلي قبور الأنبياء والصالحين، ولا إلي قبور عموم المسلمين وهذا أمر مجرب معلوم عند الجند وعلمائهم . وقد ذكر سبب ذلك : أن الكفار يعاقبون في قبورهم، فتسمع أصواتهم البهائم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أن الكفار يعذبون في قبورهم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان راكبًا علي بغلته، فمر بقبور فحادت به، كادت تلقيه، فقال : ( هذه أصوات يهود تعذب في قبورها ) ، فإن البهائم إذا سمعت ذلك الصوت المنكر أوجب لها من الحرارة ما يذهب المغل، وكان الجهال يظنون أن تمشية الخيل عند قبور هؤلاء لدينهم وفضلهم، فلما تبين لهم أنهم يمشونها عند قبور اليهود والنصاري والنصيرية ونحوهم دون قبور الأنبياء والصالحين، وذكر العلماء أنهم لا يمشونها عند قبر من يعرف بالدين بمصر والشام وغيرها؛ إنما يمشونها عند قبور الفجار والكفار، تبين بذلك ما كان مشتبهًا .(2/370)
ومن علم حوادث الإسلام،وما جري فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين، علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذي بعث الله به رسوله أعظم من عدواة التتار، وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدًا، بل إبطال جميع المرسلين،وأنهم لا يقرون / بما جاء به الرسول عن الله،ولا من خبره، ولا من أمره، وأن لهم قصدًا مؤكدًا في إبطال دعوته وإفساد ملته، وقتل خاصته واتباع عترته، وأنهم في معاداة الإسلام، بل وسائر الملل، أعظم من اليهود والنصاري، فإن اليهود والنصاري يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل؛ كإثبات الصانع، والرسل، والشرائع، واليوم الآخر، ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل، كما قال الله سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [ النساء : 150، 151 ] .
وأما هؤلاء القرامطة، فإنهم في الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل، يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به، لا يظهرونه، كما يظهر أهل الكتاب دينهم؛ لأنهم لو أظهروه لنفر عنهم جماهير أهل الأرض من المسلمين وغيرهم، وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور،بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارًا يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور، ويرون كتمان مذهبهم، واستعمال التقية، وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلمًا في الباطن ولا يكون زنديقًا، لكن يكون جاهلاً مبتدعًا . وإذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم وإسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوي لكن جمهور الناس يخالفونهم، فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصاري .(2/371)
/وإنما يقرب منهم [ الفلاسفة المشاؤون أصحاب أرسطو ] ، فإن بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة .
ولهذا يوجد فضلاء القرامطة في الباطن متفلسفة؛ كسنان الذي كان بالشام، والطوسي الذي كان وزيرًا لهم بالألموت، ثم صار منجمًا لهؤلاء وملك الكفار، وصنف [ شرح الإشارات لابن سينا ] وهو الذي أشار علي ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم علي الذين يسمونهم [ الداسميدية ] ، فهؤلاء وأمثالهم يعلمون أن ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك أنه باطل، لكن يكون أحدهم متفلسفًا، ويدخل معهم لموافقتهم له علي ما هو فيه من الإقرار بالرسل والشرائع في الظاهر، وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار أنها مخالفة لما جاءت به الرسل .
فإن [ المتفلسفة ] متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر بالنفي والتعطيل الذي يوافق مذهبهم، وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة، بل يوجبونها علي العامة، ويوجبون بعضها علي الخاصة، أو لا يوجبون ذلك . ويقولون : إن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور، ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة، وإن كان هو كذبًا في الحقيقة .
ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد صلاح العامة، كما فعل [ ابن التومرت ] الملقب بالمهدي، ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة / لأنه كان مثلها في الجملة، ولم يكن منافقًا مكذبًا للرسل معطلاً للشرائع، ولا يجعل للشريعة العملية باطنًا يخالف ظاهرها، بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة، ونوع من رأي الخوارج الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب .(2/372)
فهؤلاء [ القرامطة ] هم في الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصاري، وأما في الظاهر فيدعون الإسلام، بل وإيصال النسب إلي العترة النبوية، وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء، وأن إمامهم معصوم . فهم في الظاهر من أعظم الناس دعوي بحقائق الإيمان، وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعي النبوة من الكذابين، قال تعالي : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ } [ الأنعام : 93 ] . وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا .
فإن الذي يضاهي الرسول الصادق لا يخلو؛ إما أن يدعي مثل دعوته، فيقول : إن الله أرسلني وأنزل علي، وكذب علي الله . أو يدعي أنه يوحي إليه ولا يسمي موحيه، كما يقول : قيل لي، ونوديت، وخوطبت، ونحو ذلك، ويكون كاذبًا، فيكون هذا قد حذف الفاعل . أو لا يدعي واحدًا من الأمرين، لكنه يدعي أنه يمكنه أنه يأتي بما أتي به الرسول . ووجه القسمة أن ما يدعيه في مضاهاة الرسول : إما أن يضيفه إلي الله، أو إلي نفسه أو لا يضيفه إلي أحد .
/فهؤلاء في دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصاري، فكيف بالقرامطة الذين يكذبون علي الله أعظم مما فعل مسيلمة، وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة، وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة . وبسط حالهم يطول، لكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا .(2/373)
وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم، ولا موافقًا لهم علي ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين، الموالي لهم، الناصر لهم بمنزلة أتباع الاتحادية الذين يوالونهم، ويعظمونهم، وينصرونهم، ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق . فمن كان مسلما في الباطن وهو جاهل معظم لقول ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظما للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد، فإن نسبة هؤلاء إلي الجهمية كنسبة أولئك إلي الرافضة والجهمية، ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير؛ ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية . وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي ولا جهمي صريح؛ ولكن لا يفهم كلامهم، ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين . وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا . والله أعلم .(2/374)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=635 - TOP#TOPوَسئل ـ رَحمه اللّه تعالي ـ ما تقول السادة العلماء أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم علي إظهار الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين ـ في [ النصيرية ] القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح،وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأن [ الصلوات الخمس ] عبارة عن خمسة أسماء، وهي : علي، وحسن، وحسين ، ومحسن، وفاطمة . فذكر هذه الأسماء الخمسة علي رأيهم يجزيهم عن الغسل من الجنابة، والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها . وبأن [ الصيام ] عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا،واسم ثلاثين امرأة، يعدونهم في كتبهم، ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم . وبأن إلاههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن طالب ـ رضي الله عنه ـ فهو عندهم الإله في السماء، والإمام في الأرض، فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت علي رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده؛ ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه .(2/375)
وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه، ويشربون معه الخمر، ويطلعونه علي أسرارهم، ويزوجونه من نسائهم، حتي يخاطبه معلمه . وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه علي كتمان دينه، ومعرفة مشائخه،/ وأكابر أهل مذهبه؛ وعلي ألا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه، وعلي أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره، فيعرف انتقال الاسم والمعني في كل حين وزمان . فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعني هو شيث، والاسم يعقوب، والمعني هو يوسف . ويستدلون علي هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فيقولون : أما يعقوب فإنه كان الاسم، فما قدر أن يتعدي منزلته فقال : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ } [ يوسف : 98 ] ، وأما يوسف فكان المعني المطلوب فقال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } [ يوسف : 92 ] فلم يعلق الأمر بغيره؛ لأنه علم أنه الإله المتصرف، ويجعلون موسي هو الاسم، ويوشع هو المعني، ويقولون : يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره، وهل ترد الشمس إلا لربها ؟ ! ويجعلون سليمان هو الاسم، وآصف هو المعني القادر المقتدر، ويقولون : سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس، وقدر عليه آصف؛ لأن سليمان كان الصورة، وآصف كان المعني القادر المقتدر، وقد قال قائلهم :
هابيل شيث يوسف يوشع ** آصف شمعون الصفا حيدر
ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا علي هذا النمط إلي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون : محمد هو الاسم، وعلي هو المعني، ويوصلون العدد علي هذا الترتيب في كل زمان إلي وقتنا هذا . فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليًا هو الرب، وأن محمداً هو الحجاب، وأن / سلمان هو الباب، وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور سنة سبع مائة فقال :
أشهد أن لا إله إلا ** حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا ** محمد الصادق الأمين(2/376)
ولا طريق إليه إلا ** سليمان ذو القوة المتين
ويقولون : إن ذلك علي هذا الترتيب لم يزل ولا يزال، وكذلك الخمسة الأيتام، والاثنا عشر نقيبا، وأسماؤهم مشهورة عندهم، ومعلومة من كتبهم الخبيثة، وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبداً سرمداً علي الدوام والاستمرار، ويقولون : إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ثم عثمان ـ رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلي رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين ـ فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب . ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلي هذه الأصول المذكورة .
وهذه الطائفة الملعونة استولت علي جانب كبير من بلاد الشام وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامة الناس أيضا في / هذا الزمان؛ لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين علي البلاد الساحلية، فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم، والابتلاء بهم كثير جداً .(2/377)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=635 - TOP#TOPفهل يجوز لمسلم أن يزوجهم، أو يتزوج منهم ؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه، أم لا ؟ وما حكم الجبن المعمول من أنفحة ذبيحتهم ؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم ؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين، أم لا ؟ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم ؟ أم يجب علي ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة، وهل يأثم إذا أخر طردهم ؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك ؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم، وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمي، فأخره ولي الأمر عنه وصرفه علي غيره من المسلمين أو المستحقين، أو أرصده لذلك : هل يجوز له فعل هذه الصور ؟ أم يجب عليه ؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال، أم لا ؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده اللّه تعالي بإخماد باطلهم، وقطعهم من حصون المسلمين، وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وألزمهم بالصوم والصلاة، ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار : هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد / سيس وديار الإفرنج علي أهلها ؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا ؟ ويكون أجر من رابط في الثغور علي ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر، أم هذا أكبر أجرا ؟ وهل يجب علي من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد علي إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم، فلعل الله تعالي أن يهدي بعضهم إلي الإسلام، وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم، أم يجوز التغافل عنهم والإهمال ؟ وما قدر المجتهد علي ذلك، والمجاهد فيه، والمرابط له والملازم عليه ؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء اللّه تعالي، إنه علي كل شيء قدير، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل ؟(2/378)
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية :
الحمد للّه رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود النصاري، بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم علي أمة محمدصلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم؛ فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه علي أمور/ يفترونها،يدعون أنها علم الباطن،(2/379)
من جنس ما ذكره السائل، ومن غير هذا الجنس، فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء اللّه تعالي وآياته، وتحريف كلام الله تعالي ورسوله عن مواضعه؛ إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل، ومن جنس قولهم : إن [ الصلوات الخمس ] معرفة أسرارهم، و [ الصيام المفروض ] كتمان أسرارهم، و [ حج البيت العتيق ] زيارة شيوخهم، وأن [ يدا أبي لهب ] هما أبو بكر وعمر، وأن [ النبأ العظيم ] والإمام المبين هو علي بن أبي طالب، ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين؛ كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة،وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالي وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره، وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا فيها ماهم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصاري، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام . وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم .
ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولي عليها النصاري من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصاري علي المسلمين . ومن/ أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهار النصاري، بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين علي التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولي ـ والعياذ باللّه تعالي ـ النصاري علي ثغور المسلمين؛ فإن ثغور المسلمين مازالت بأيدي المسلمين، حتي جزيرة قبرص يسر اللّه فتحها عن قريب، وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي اللّه عنه ـ فتحها معاوية بن أبي سفيان إلي أثناء المائة الرابعة .(2/380)
فهؤلاء المحادون للّه ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولي النصاري علي الساحل، ثم بسببهم استولوا علي القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام اللّه ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل اللّه تعالي كنور الدين الشهيد، وصلاح الدين وأتباعهما، وفتحوا السواحل من النصاري، وممن كان بها منهم، وفتحوا ـ أيضاً ـ أرض مصر، فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصاري، فجاهدهم المسلمون حتي فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية .
ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو [ النصير / الطوسي ] كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء .
ولهم [ ألقاب ] معروفة عند المسلمين، تارة يسمون [ الملاحدة ] ، وتارة يسمون [ القرامطة ] ، وتارة يسمون [ الباطنية ] ، وتارة يسمون [ الإسماعيلية ] ، وتارة يسمون [ النصيرية ] ، وتارة يسمون [ الخُرَّمِيَّة ] ، وتارة يسمون [ المحمرة ] . وهذه الأسماء منها ما يعمهم، ومنها ما يخص بعض أصنافهم، كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه : إما لنسب، وإما لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك .
وشرح مقاصدهم يطول، وهم كما قال العلماء فيهم : ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض . وحقيقة أمرهم : أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين؛ لا بنوح، ولا إبراهيم، ولا موسي، ولا عيسي ولا محمد ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ـ ولا بشيء من كتب اللّه المنزلة؛ لا التورة، ولا الإنجيل، ولا القرآن . ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه، ولا بأن له دينا أمر به، ولا أن له دارا يجزي الناس فيها علي أعمالهم غير هذه الدار .(2/381)
/وهم تارة يبنون قولهم علي مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارة يبنونه علي قول المجوس الذين يعبدون النور، ويضمون إلي ذلك الرفض .
ويحتجون لذلك من كلام النبوات، إما بقول مكذوب ينقلونه، كما ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما خلق اللّه العقل ) والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، ولفظه : ( إن اللّه لما خلق العقل، قال له : أقبل، فأقبل . فقال له : أدبر، فأدبر ) فيحرفون لفظه فيقولون : ( أول ما خلق اللّه العقل ) ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل . وإما بلفظ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحرفونه عن مواضعه، كما يصنع أصحاب [ رسائل إخوان الصفا ] ونحوهم، فإنهم من أئمتهم .
وقد دخل كثير من باطلهم علي كثير من المسلمين ، وراج عليهم حتي صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلي العلم والدين، وإن كانوا لا يوافقونهم علي أصل كفرهم؛ فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها [ الدعوة الهادية ] درجات متعددة، ويسمون النهاية [ البلاغ الأكبر والناموس الأعظم ] ، ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالي، والاستهزاء به، وبمن يقر به، حتي قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه ـ أيضًا ـ جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء ، ودعوي أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة، فمنهم من أحسن في طلبها،ومنهم من أساء في/ طلبها حتي قتل، ويجعلون محمدًا وموسي من القسم الأول،ويجعلون المسيح من القسم الثاني . وفيه من الاستهزاء بالصلاة، والزكاة والصوم، والحج، ومن تحليل نكاح ذوات المحارم، وسائر الفواحش، ما يطول وصفه . ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضًا، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون علي من لا يعرفهم، وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلاً عن خاصتهم .(2/382)
وقد اتفق علماء المسلمين علي أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم .
وأما [ الجبن المعمول بأنفحتهم ] ففيه قولان مشهوران للعلماء، كسائر أنفحة الميتة، وكأنفحة ذبيحة المجوس، وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم أنهم لايذكون الذبائح . فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين : أنه يحل هذا الجبن؛ لأن أنفحة الميتة طاهرة علي هذا القول؛ لأن الأنفحة لا تموت بموت البهيمة، وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس . ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : أن هذا الجبن نجس؛ لأن الأنفحة عند هؤلاء نجسة؛ لأن لبن الميتة وأنفحتها عندهم نجس . ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة . وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة، فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس . وأصحاب القول الثاني / نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصاري . فهذه مسألة اجتهاد؛ للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين .
وأما [ أوانيهم وملابسهم ] فكأواني المجوس وملابس المجوس، علي ما عرف من مذاهب الأئمة . والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها؛ فإن ذبائحهم ميتة، فلابد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك، فأما الآنية التي لا يغلب علي الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم، أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها، وقد توضأ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من جرة نصرانية فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك .(2/383)
ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلي علي من مات منهم؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالي ـ نهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة علي المنافقين؛ كعبد الله بن أبي، ونحوه، وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين، ولا يظهرون مقالةتخالف دين الإسلام، لكن يسرون ذلك، فقال الله : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 84 ] ، فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر، والإلحاد .
وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم، فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم، فإنهم من أغش الناس / للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس علي فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر؛ فإن المخامر قد يكون له غرض؛ إما مع أمير العسكر، وإما مع العدو . وهؤلاء مع الملة . ونبيها ودينها، وملوكها، وعلمائها، وعامتها، وخاصتها، وهم أحرص الناس علي تسليم الحصون إلي عدو المسلمين، وعلي إفساد الجند علي ولي الأمر، وإخراجهم عن طاعته .
والواجب علي ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر، ولا في غير ثغر؛ فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلي استخدامه من الرجال المأمونين علي دين الإسلام، وعلي النصح لله ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلمًا، فكيف بمن يغش المسلمين كلهم ؟ !
ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه، بل أي وقت قدر علي الاستبدال بهم وجب عليه ذلك .(2/384)
وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم، فلهم إما المسمي وإما أجرة المثل؛ لأنهم عوقدوا علي ذلك . فإن كان العقد صحيحًا وجب المسمي، وإن كان فاسدًا وجبت أجرة المثل، وإن لم يكن استخدامهم من جنس / الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة، لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم، فالعقد عقد فاسد، فلا يستحقون إلا قيمة عملهم، فإن لم يكونوا عملوا عملاً له قيمة فلا شيء لهم، لكن دماؤهم وأموالهم مباحة .
وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء، فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم . ومن لم يقبلها لم تنقل إلي ورثتهم من جنسهم، فإن مالهم يكون فيئًا لبيت المال؛ لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة؛ لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف، وفيهم من قد لا يعرف . فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم، فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام، من الصلوات الخمس، وقراءة القرآن . ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم .(2/385)
فإن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وسائر الصحابة لما ظهروا علي أهل الردة، وجاؤوا إليه، قال لهم الصديق : اختاروا إما الحرب المجلية، وإما السلم المخزية . قالوا : يا خليفة رسول الله، هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية . قال : تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم، وتردون ما أصبتم من أموالنا، وتنزع منكم الحلقة والسلاح، وتمنعون من ركوب /الخيل،وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتي يري الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرًا بعد ردتكم . فوافقه الصحابة علي ذلك، إلا في تضمين قتلي المسلمين، فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال له : هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم علي الله، يعني : هم شهداء فلا دية لهم، فاتفقوا علي قول عمر في ذلك .
وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء، والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء . فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن، كما اتفقوا عليه آخرًا . وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين . ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري هو القول الأول . فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلي الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه، فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة، ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا . ويلزمون شرائع الإسلام حتي يظهر ما يفعلونه من خير أو شر . ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم، وسير إلي بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور . فإما أن يهديه الله تعالي، وإما أن يموت علي نفاقه من غير مضرة للمسلمين .(2/386)
ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق / وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه . وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين . وحفظ رأس المال مقدم علي الربح .
وأيضًا فضرر هؤلاء علي المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين علي كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب .
ويجب علي كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن يعاونهم علي بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله، ولا يحل لأحد أن ينهي عن القيام بما أمر الله به ورسوله؛ فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالي، وقد قال الله تعالي لنبيه صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التحريم : 9 ] ، وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين .(2/387)
والمعاون علي كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالي؛ فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم؛ كما قال الله / تعالي : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ، قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتي تدخلوهم الإسلام . فالمقصود بالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر : هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان، فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره .(2/388)
ومعلوم أن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أفضل الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالي ) . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلي الدرجة كما بين السماء إلي الأرض، أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ) ، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتنة . والجهاد أفضل من الحج والعمرة، كما قال تعالي : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 : 22 ] ، والحمدلله رب العالمين، وصلاته وسلامه علي خير خلقه سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين .
وَسئل ـ رحمه الله تعالي ـ عن [ الدرزية ] و [ النصيرية ] : ما حكمهم ؟
فأجاب :(2/389)
هؤلاء [ الدرزية ] و [ النصيرية ] كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم، بل ولا يقرون بالجزية؛ فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين؛ ولا يهود، ولا نصاري، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما . وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين .
فأما [ النصيرية ] فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير، وكان من الغلاة الذين يقولون : إن عليا إله، وهم ينشدون :
أشهد ألا إله إلا ** حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا ** محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا ** سلمان ذو القوة المتين
وأما [ الدرزية ] فأتباع هشتكين الدرزي، وكان من موالي الحاكم، أرسله إلي أهل وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلي إلهية الحاكم، ويسمونه / [ الباري،العلام ] ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله، وهم أعظم كفرا من الغالية، يقولون بقدم العالم، وإنكار المعاد، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته، وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصاري ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا [ فلاسفة ] علي مذهب أرسطو وأمثاله، أو [ مجوسا ] . وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس، ويظهرون التشيع نفاقا . واللّه أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=636 - TOP#TOPوقال شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه ـ ردًا علي نبذ لطوائف من [ الدروز ](2/390)
كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون فلا يباح أكل طعامهم، وتسبي نساؤهم، وتؤخذ أموالهم . فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا، ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم، ورفقتهم، والمشي معهم، وتشييع جنائزهم إذا علم موتها . ويحرم علي ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه . والله المستعان وعليه التكلان .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=636 - TOP#TOPوَسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن هؤلاء [ القلندرية ] الذين يحلقون ذقونهم : ماهم ؟ ومن أي الطوائف يحسبون ؟ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أطعم شيخهم قلندر عنباً، وكلمه بلسان العجم ؟
فأجاب :
أما هؤلاء [ القلندرية ] المحلقي اللحى، فمن أهل الضلالة والجهالة، وأكثرهم كافرون باللّه ورسوله، لا يرون وجوب الصلاة والصيام ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وهم ليسوا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة وقد يكون فيهم من هو مسلم، لكن مبتدع ضال، أو فاسق فاجر .(2/391)
ومن قال : إن [ قلندر ] موجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب وافترى، بل قد قيل : أصل هذا الصنف أنهم كانوا قوما من نساك الفرس، يدورون على مافيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات . هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهروردي في عوارفه، ثم إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات، وفعلوا المحرمات،/ بمنزلة [ الملامية ] الذين كانوا يخفون حسناتهم، ويظهرون مالا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء، ولبس العمامة، فهذا قريب . وصاحبه مأجور على نيته، ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة، ثم زاد الأمر ففعل قوم المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك دخول منهم في [ الملاميات ] ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والذم والعقاب من اللّه في الدنيا والآخرة؛ وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون، كما يجب ذلك في كل معلن ببدعة أو فجور .
وليس ذلك مختصاً بهم، بل كل من كان من المتنسكة، والمتفقهة، والمتعبدة، والمتفقرة، والمتزهدة، والمتكلمة، والمتفلسفة، ومن وافقهم من الملوك، والأغنياء، والكتاب ، والحساب، والأطباء، وأهل الديوان والعامة ـ خارجا عن الهدى ودين الحق الذي بعث اللّه به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر اللّه به على لسان رسوله، ولا يحرم ما حرمه اللّه ورسوله؛ أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث اللّه به رسوله باطنًا وظاهراً؛ مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره أو يهديه، أو يغيثه، أو يعينه، أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلا مطلقا، أو مقيدا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى اللّه تعالى، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك، ومنافقون إن لم يظهروه .(2/392)
/وهؤلاء الأجناس، وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك . وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات : يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر اللّه فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف : ( يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صيامًا، ولا حجًا، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة . ويقولون : أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا إله إلا الله فقيل لحذيفة بن اليمان : ما تغني عنهم لا إله إلا اللّه ؟ فقال : تنجيهم من النار ) .(2/393)
وأصل ذلك : أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولا يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن [ الإيمان ] من الأحكام المتلقاة عن اللّه ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم . ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفى موانعه، مثل من قال : إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك / حتى يسألوا عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال : ( إذا أنا مِتُّ فاسحقوني، وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله، ونحو ذلك ) ؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة، كما قال اللّه تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان . وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا . والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=636 - TOP#TOPوَسئل ـ رَحمه اللّه(2/394)
ـ عمن يعتقد أن الكواكب لها تأثير في الوجود، أو يقول : إن له نجما في السماء يسعد بسعادته ويشقى بعكسه، ويحتج بقوله تعالى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } [ النازعات : 5 ] ، وبقوله : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] ، ويقول : إنها صنعة إدريس ـ عليه السلام ـ ويقول عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن نجمه كان بالعقرب والمريخ . فهل هذا من دين الإسلام، أم لا ؟ وحتى لو لم يكن من الدين : فماذا يجب على قائله ؟ والمنكرون على هؤلاء يكونون من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، أم لا ؟
فأجاب :
الحمد للّه، النجوم من آيات اللّه الدالة عليه، المسبحة له، الساجدة له؛ كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ } ثم قال : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } [ الحج : 18 ] وهذا التفريق يبين أنه لم يرد السجود لمجرد ما فيها من الدلالة على ربوبيته، كما يقول ذلك طوائف من الناس؛ إذ هذه الدلالة، يشترك فيها جميع المخلوقات، فجميع الناس فيهم هذه الدلالة، وهو قد فرق، فعلم أن ذلك قول زائد من جنس ما يختص به المؤمن، ويتميز به عن الكافر الذي حق عليه العذاب .(2/395)
وهو ـ سبحانه ـ مع ذلك قد جعل فيها منافع لعباده، وسخرها لهم، كما قال تعالى : { وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ إبراهيم : 33 ] ، وقال : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } [ النحل : 12 ] ، وقال : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ومن منافعها الظاهرة ما يجعله ـ سبحانه ـ بالشمس من الحر والبرد، والليل والنهار ونضاج الثمار وخلق الحيوان والنبات والمعادن، وكذلك ما يجعله بها لهم من الترطيب والتيبيس ، وغير ذلك من الأمور المشهودة، كما جعل في النار الإشراق والإحراق، وفي الماء التطهير والسقى، وأمثال ذلك من نعمه التي يذكرها في كتابه كما قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } [ الفرقان : 48، 49 ] وقد أخبر اللّه في غير موضع أنه يجعل حياة بعض مخلوقاته ببعض : كما قال تعالى : { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا } [ الفرقان : 49 ] ، وكما قال : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] وكما قال : { وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [ البقرة : 164 ] .
فمن قال من أهل الكلام : إن اللّه يفعل هذه الأمور عندها لا بها ، فعبارته مخالفة لكتاب اللّه والأمور المشهودة، كمن زعم أنها مستقلة بالفعل، هو مشرك مخالف العقل والدين .(2/396)
وقد أخبر ـ سبحانه ـ في كتابه من منافع النجوم، فإنه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وأخبر أنها زينة للسماء الدنيا، وأخبر أن الشياطين ترجم بالنجوم، وإن كانت النجوم التي ترجم بها الشياطين من نوع آخر غير النجوم الثابتة في السماء التي يهتدي بها؛ فإن هذه لا تزول عن مكانها، بخلاف تلك؛ ولهذه حقيقة مخالفة لتلك، وإن كان اسم النجوم يجمعها، كما يجمع اسم الدابة والحيوان للملك، والآدمي، والبهائم، والذباب، والبعوض .
وقد ثبت بالأخبار الصحيحة التي اتفق عليها العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر، وأمر بالدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، وقال : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ) ، وفي رواية : ( آيتان من آيات اللّه يخوف بهما عباده ) ، هذا قاله ردَّا لما قاله بعض جهال الناس : إن الشمس كسفت لموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها كسفت يوم موته وظن بعض الناس لما كسفت أن كسوفها كان لأجل موته، وأن موته هو / السبب لكسوفها، كا يحدث عن موت بعض الأكابر مصائب في الناس، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر لا يكون كسوفهما عن موت أحد من أهل الأرض، ولا عن حياته، ونفى أن يكون للموت والحياة أثر في كسوف الشمس والقمر، وأخبر أنهما من آيات اللّه، وأنه يخوف عباده .(2/397)
فذكر أن من حكمة ذلك تخويف العباد؛ كما يكون تخويفهم في سائر الآيات؛ كالرياح الشديدة، والزلازل، والجدب، والأمطار المتواترة، ونحو ذلك من الأسباب التي قد تكون عذابا؛ كما عذب اللّه أمما بالريح والصيحة، والطوفان، وقال تعالى : { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا } [ العنكبوت : 40 ] ، وقد قال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا } [ الإسراء : 59 ] ، وإخباره بأنه يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سببا لعذاب ينزل كالرياح العاصفة الشديدة، وإنما يكون ذلك إذا كان اللّه قد جعل ذلك سببا لما ينزل في الأرض .
فمن أراد بقوله : إن لها تأثيرًا، ما قد علم بالحس وغيره من هذه الأمور، فهذا حق، ولكن الله قد أمر بالعبادات التي تدفع عنا ما ترسل به من الشر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عند الخسوف بالصلاة والصدقة والدعاء والاستغفار والعتق، وكما كان صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح أقبل وأدبر وتغير،وأمر أن يقال عند هبوبها : ( اللهم إنا نسألك خير هذه الريح،وخير ما / أرسلت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما أرسلت به ) ، وقال : ( إن الريح من روح اللّه، وإنها تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها، ولكن سلوا اللّه من خيرها، وتعوذوا باللّه من شرها ) . فأخبر أنها تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، وأمر أن نسأل اللّه من خيرها، ونعوذ باللّه من شرها .(2/398)
فهذه السنة في أسباب الخير والشر : أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة والأعمال الصالحة ما يجلب اللّه به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع اللّه به عنه الشر، فأما ما يخفى من الأسباب فليس العبد مأمورا بأن يتكلف معرفته، بل إذا فعل ما أمر به وترك ما حظر، كفاه اللّه مؤنة الشر، ويسر له أسباب الخير { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 2، 3 ](2/399)
وقد قال تعالى فيمن يتعاطى السحر لجلب منافع الدنيا : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } إلى قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 102، 103 ] فأخبر ـ سبحانه ـ أن من اعتاض بذلك يعلم أنه لا نصيب له في الآخرة؛ وإنما يرجو بزعمه نفعه في الدنيا . كما يرجون بما يفعلونه من السحر المتعلق بالكواكب وغيرها مثل الرياسة والمال . ثم قال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 301 ] فبين أن الإيمان والتقوى هو خير لهما في الدنيا والآخرة، قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون } الآية [ يونس : 62، 63 ] ، وقال في قصة يوسف : { وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يوسف : 56، 57 ] فأخبر أن أجر الآخرة خير للمؤمنين المتقين مما يعطون في الدنيا من الملك والمال كما أعطى يوسف .
وقد أخبر ـ سبحانه ـ بسوء عاقبة من ترك الإيمان والتقوى في غير آية في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 69 ] والمفلح الذي ينال المطلوب وينجو من المرهوب . فالساحر لا يحصل له ذلك، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر ) .(2/400)
و [ السحر ] محرم بالكتاب والسنة والإجماع : وذلك أن النجوم التي من السحر نوعان : أحدهما : علمي، وهو الاستدلال بحركات النجوم على الحوادث، من جنس الاستقسام بالأزلام . الثاني : عملي، وهو الذي يقولون : إنه القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية، كطلاسم ونحوها، وهذا من أرفع أنواع السحر، وكل ما حرمه اللّه ورسوله فضرره أعظم من نفعه .
/فالثاني وإن توهم المتوهم أن فيه تقدمة للمعرفة بالحوادث، وأن ذلك ينفع، فالجهل في ذلك أضعف، ومضرة ذلك أعظم من منفعته؛ ولهذا قد علم الخاصة والعامة بالتجربة والتواتر أن الأحكام التي يحكم بها المنجمون يكون الكذب فيها أضعاف الصدق، وهم في ذلك من أنواع الكهان، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : إن منا قومًا يأتون الكهان، فقال : ( إنهم ليسوا بشيء ) ، فقالوا : يارسول اللّه، إنهم يحدثونا أحيانا بالشيء فيكون حقا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( تلك الكلمة من الحق يسمعها الجني يقرها في أذن وليه ) ، وأخبر ( أن اللّه إذا قضي بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق . وأن كل أهل السماء يخبرون أهل السماء التي تليهم، حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، وهناك مسترقة السمع بعضهم فوق بعض، فربما سمع الكلمة قبل أن يدركه الشهاب، وربما أدركه الشهاب بعد أن يلقيها ) قال صلى الله عليه وسلم : ( فلو أتوا بالأمر على وجهه، ولكن يزيدون في الكلمة مائة كذبة ) .(2/401)
وهكذا [ المنجمون ] ، حتى إني خاطبتهم بدمشق، وحضر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها . قال رئيس منهم : والله إنا نكذب مائة كذبة، حتى نصدق في كلمة،/ وذلك أن مبني علمهم على أن الحركات العلوية هي السبب في الحوادث، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، وهذا إنما يكون إذا علم السبب التام الذي لا يتخلف عنه حكمه، وهؤلاء أكثر ما يعلمون ـ إن علموا ـ جزءًا يسيرا من جملة الأسباب الكثيرة، ولا يعلمون بقية الأسباب، ولا الشروط، ولا الموانع مثل من يعلم أن الشمس في الصيف تعلو الرأس حتى يشتد الحر، فيريد أن يعلم من هذا ـ مثلا ـ أنه حينئذ أن العنب الذي في الأرض الفلانية يصير زبيبا، على أن هناك عنبًا، وأنه ينضج، وينشره صاحبه في الشمس وقت الحر فيتزبب . فهذا وإن كان يقع كثيرا، لكن أخذ هذا من مجرد حرارة الشمس جهل عظيم؛ إذ قد يكون هناك عنب وقد لا يكون . وقد يثمر ذلك الشجر إن خدم وقد لا يثمر، وقد يؤكل عنبا وقد يعصر، وقد يسرق، وقد يزبب، وأمثال ذلك .
والدلالة الدالة على فساد هذه الصناعة وتحريمها كثيرة، وليس هذا موضعها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما ) . و [ العراف ] قد قيل : إنه اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة بهذه الطرق، ولو قيل : إنه في اللغة اسم لبعض هذه الأنواع فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوي، كما قيل في اسم الخمر والميسر ونحوهما .(2/402)
/وأما إنكار بعض الناس أن يكون شيء من حركات الكواكب وغيرها من الأسباب، فهو? ـ أيضا ـ قول بلا علم، وليس له في ذلك دليل من الأدلة الشرعية ولا غيرها، فإن النصوص تدل على خلاف ذلك، كما في الحديث الذي في السنن عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال : ( يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا، فهذا الغاسق إذا وقب ) ، وكما تقدم في حديث الكسوف حيث أخبر ( أن الله يخوف بهما عباده ) .
وقد تبين أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ) أي : لا يكون الكسوف معللا بالموت، فهو نفي العلة الفاعلة، كما في الحديث الآخر الذي فى صحيح مسلم عن ابن عباس، عن رجال من الأنصار، أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رمى بنجم فاستنار، فقال : ( ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية ؟ ) فقالوا : كنا نقول : ولد الليلة عظيم، أو مات عظيم،فقال : ( إنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته،ولكن اللّه إذا قضى بالأمر سبح حملة العرش ) وذكر الحديث في مسترق السمع . فنفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الرمي بها لأجل أنه قد ولد عظيم أو مات عظيم ، بل لأجل الشياطين المسترقين السمع . ففي كلا الحديثين من أن موت الناس وحياتهم لا يكون سبب الكسوف الشمس والقمر ولا الرمي بالنجم، وإن كان موت بعض الناس قد يقتضي حدوث أمر في السموات؛ كما ثبت في الصحاح : ( أن العرش عرش الرحمن اهتز لموت سعد / بن معاذ ) ، وأما كون الكسوف أو غيره قد يكون سببا لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتا أو غيره، فهذا قد أثبته الحديث نفسه .(2/403)
وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا ينافي لكون الكسوف له وقت محدود يكون فيه، حيث لا يكون كسوف الشمس إلا في آخر الشهر ليلة السرار، ولا يكون خسوف القمر إلا في وسط الشهر وليالي الإبدار . ومن ادعى خلاف ذلك من المتفقهة أو العامة فلعدم علمه بالحساب؛ ولهذا يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يستقبل، كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهلة وما يستقبل؛ إذ كل ذلك بحساب، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } [ الأنعام : 96 ] . وقال تعالى : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [ يونس : 5 ] وقال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] .
ومن هنا صار بعض العامة إذا رأى المنجم قد أصاب في خبره عن الكسوف المستقبل يظن أن خبره عن الحوادث من هذا النوع؛ فإن هذا جهل؛ إذ الخبر الأول بمنزلة إخباره بأن الهلال يطلع : إما ليلة الثلاثين، وإما ليلة إحدى وثلاثين فإن هذا أمر أجرى اللّه به العادة لا يخرم أبدا، وبمنزلة خبره أن الشمس تغرب آخر النهار وأمثال ذلك . فمن عرف منزلة الشمس والقمر، ومجاريهما علم ذلك، وإن كان ذلك علما قليل المنفعة .(2/404)
/فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله اللّه سببا لما يقضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممن ينزل اللّه به ذلك، كما أن تعذيب اللّه لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة كقوم عاد كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء، كما قد ذكر ذلك أهل التفسير وقصص الأنبياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة ـ وهو السحاب الذي يخال فيه المطر ـ أقبل وأدبر، وتغير وجهه، فقالت له عائشة : إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا، فقال : ( ياعائشة، وما يؤمنني ؟ قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا : { هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } قال اللّه تعالى : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ) [ الأحقاف : 24 ] ، وكذلك الأوقات الذي ينزل اللّه فيها الرحمة، كالعشر الآخرة من رمضان، والأول من ذي الحجة، وكجوف الليل، وغير ذلك هي أوقات محدودة لا تتقدم ولا تتأخر وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها .
وقد جاء في بعض طرق أحاديث الكسوف ما رواه ابن ماجه وغيره في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن اللّه إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له ) وقد طعن في هذا الحديث أبو حامد ونحوه، وردوا ذلك، لا من جهة علم الحديث، فإنهم قليلوا المعرفة به كما كان أبو حامد يقول عن نفسه : أنا مزجى البضاعة في علم الحديث، /ولكن من جهة كونهم اعتقدوا أن سبب الكسوف إذا كان ـ مثلاـ كون القمر إذا حاذاها منع نورها أن يصل إلى الأرض لم يجز أن يعلل ذلك بالتجلي . والتجلي المذكور لا ينافي السبب المذكور، فإن خشوع الشمس والقمر للّه في هذا الوقت إذا حصل لنوره ما يحصل من انقطاع يرفع تأثيره عن الأرض، وحيل بينه وبين محل سلطانه وموضع انتشاره وتأثيره، فإن الملك المتصرف في مكان بعيد لو منع ذلك لذل لذلك .(2/405)
وأما قوله تعالى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } [ النازعات : 5 ] فالمدبرات هي الملائكة . وأما إقسام اللّه بالنجوم، كما أقسم بها في قوله : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } [ التكوير : 15، 16 ] ، فهو كإقسامه بغير ذلك من مخلوقاته، كما أقسم بالليل والنهار، والشمس والقمر، وغير ذلك، يقتضي تعظيم قدر المقسم به، والتنبيه على ما فيه من الآيات والعبرة، والمنفعة للناس، والإنعام عليهم، وغير ذلك، ولا يوجب ذلك أن تتعلق القلوب به، أو يظن أنه هو المسعد المنحس، كما لا يظن ذلك في { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1، 2 ] وفي { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا } [ الذاريات : 1، 2 ] وفي { وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } [ الطور : 1، 2 ] وأمثال ذلك .
واعتقاد المعتقد أن نجما من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه اعتقاده فاسد، وأن المعتقد أنه هو المدبر له، فهو كافر . وكذلك إن انضم إلى ذلك دعاؤه والاستعانة به كان كفرا، وشركا محضا، وغاية / من يقول ذلك أن يبني ذلك على أن هنا الولد حين ولد بهذا الطالع . وهذا القدير يمتنع أن يكون وحده هو المؤثر في أحوال هذا المولود، بل غايته أن يكون جزءا يسيرا من جملة الأسباب . وهذا القدر لا يوجب ما ذكر، بل ما علم حقيقة تأثيره فيه مثل حال الوالدين، وحال البلد الذي هو فيه، فإن ذلك سبب محسوس في أحوال المولود، ومع هذا فليس هذا مستقلا .(2/406)
ثم إن الأوائل من هؤلاء المنجمين المشركين الصابئين وأتباعهم قد قيل إنهم كانوا إذا ولد لهم المولود أخذوا طالع المولود، وسموا المولود باسم يدل على ذلك، فإذا كبر سئل عن اسمه، أخذ السائل حال الطالع . فجاء هؤلاء الطرقية يسألون الرجل عن اسمه واسم أمه، ويزعمون أنهم يأخذون من ذلك الدلالة على أحواله، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض منافية للعقل والدين . وأما اختياراتهم، وهو أنهم يأخذون الطالع لما يفعلونه من الأفعال : مثل اختياراتهم للسفر أن يكون القمر في شرفه وهو السرطان وألا يكون في هبوطه وهو العقرب فهو من هذا الباب المذموم .
ولما أراد علي بن أبي طالب أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم فقال : يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرت / والقمر في العقرب هزم أصحابك ـ أو كما قال ـ فقال على : بل أسافر ثقة باللّه، وتوكلا على اللّه، وتكذيبا لك، فسافر فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سر به، حيث كان قتاله لهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم . وأما ما يذكره بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر والقمر في العقرب، فكذب مختلق باتفاق أهل الحديث .
وأما قول القائل : إنها صنعة إدريس :
فيقال أولاً : هذا قول بلا علم؛ فإن مثل هذا لا يعلم إلا بالنقل الصحيح، ولا سبيل لهذا القائل إلى ذلك، ولكن في كتب هؤلاء هرمس الهرامسة ويزعمون أنه هو إدريس . والهرمس عندهم اسم جنس؛ ولهذا يقولون : هرمس الهرامسة، وهذا القدر الذي يذكرونه عن هرمسهم يعلم المؤمن قطعًا أنه ليس هو مأخوذاً عن نبي من الأنبياء على وجهه؛ لما فيه من الكذب والباطل .
ويقال ثانيًا : هذا إن كان أصله مأخوذا عن إدريس فإنه كان معجزة له، وعلمًا أعطاه اللّه إياه، فيكون من العلوم النبوية . وهؤلاء إنما يحتجون بالتجربة والقياس، لا بأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .(2/407)
/ويقال ثالثا : إن كان بعض هذا مأخوذا عن نبي فمن المعلوم قطعا أن فيه من الكذب والباطل أضعاف ماهو مأخوذ من ذلك النبي . ومعلوم قطعا أن الكذب والباطل الذي في ذلك أضعاف الكذب والباطل الذي عند اليهود والنصارى فيما يأثرونه على الأنبياء، وإذا كان اليهود والنصارى قد تيقنا قطعا أن أصل دينهم مأخوذ عن المرسلين، وأن اللّه أنزل التوراة والإنجيل والزبور كما أنزل القرآن، وقد أوجب اللّه علينا أن نؤمن بما أنزل علينا وما أنزل على من قبلنا، كما قال تعالى : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] ثم مع ذلك قد أخبرنا اللّه أن أهل الكتاب حرفوا وبدلوا، وكذبوا وكتموا، فإذا كانت هذه حال الوحى المحقق، والكتب المنزلة يقينا، مع أنها إلينا أقرب عهدا من إدريس، ومع أن نقلتها أعظم من نقلة النجوم، وأبعد عن تعمد الكذب والباطل، وأبعد عن الكفر باللّه ورسوله واليوم الآخر، فما لظن بهذا القدر إن كان فيه ما هو منقول عن إدريس ؟ ! فإنا نعلم أن فيه من الكذب والباطل والتحريف أعظم مما في علوم أهل الكتاب .
وقد ثبت في صحيح البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا : / آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون ) فإذا كنا مأمورين فيما يحدثنا به أهل الكتاب ألا نصدق إلا بما نعلم أنه الحق، كما لا نكذب إلا بما نعلم أنه باطل، فكيف يجوز تصديق هؤلاء فيما يزعمون أنه منقول عن إدريس عليه السلام، وهم في ذلك أبعد عن علمهم المصدق من أهل الكتاب ؟ !(2/408)
ويقال رابعا : لا ريب أن النجوم نوعان : حساب، وأحكام . فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب . وصفاتها ومقادير حركاتها، وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه، كمعرفة الأرض وصفتها . ونحو ذلك، لكن جمهور التدقيق منه كثير التعب، قليل الفائدة، كالعالم مثلا بمقادير الدقائق، والثواني، والثوالث في حركات السبعة المتحيرة { بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } [ التكوير : 15، 16 ] . فإن كان أصل هذا مأخوذا عن إدريس فهذا ممكن، واللّه أعلم بحقيقة ذلك، كما يقول ناس إن أصل الطب مأخوذ عن بعض الأنبياء .(2/409)
وأما الأحكام التي هي من جنس السحر فمن الممتنع أن يكون نبي من الأنبياء كان ساحرًا، وهم يذكرون أنواعا من السحر، ويقولون : هذا يصلح لعمل النواميس . أي : الشرائع، والسنن ومنها ما هو دعاية الكواكب، وعبادة لها، وأنواع من الشرك الذي يعلم كل من آمن باللّه ورسوله بالاضطرار أن نبيًا من الأنبياء لا يأمر بذلك / ولا علمه، وإضافة ذلك إلى بعض الأنبياء كإضافة من أضاف ذلك إلى سليمان عليه السلام، لما سخر اللّه له الجن والإنس والطير، فزعم قوم أن ذلك كان بأنواع من السحر، حتى إن طوائف من اليهود والنصارى لا يجعلونه نبيا حكيما، فنزهه اللّه عن ذلك فقال تعالى : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } الآية [ البقرة : 102 ] وكذلك ـ أيضًا ـ الاستدال على الحوادث بما يستدلون به من الحركات العلوية، والاختيارات للأعمال، هذا كله يعلم قطعا أن نبيا من الأنبياء لم يؤمر قط بهذا؛ إذ فيه من الكذب والباطل ما ينزه عنه العقلاء الذين هم دون الأنبياء بكثير، وما فيه من الحق فهو شبيه بما قال إمام هؤلاء ومعلمهم الثاني ـ أبو نصر الفارابي ـ قال ما مضمونه : إنك لو قلبت أوضاع المنجمين، فجعلت مكان السعد نحسا، ومكان النحس سعدا، أو مكان الحار باردا، أو مكان البارد حارا، أو مكان المذكر مؤنثا، أو مكان المؤنث مذكرا، وحكمت، لكان حكمك من جنس أحكامهم، يصيب تارة، ويخطئ أخرى . وما كان بهذه المثابة فهم ينزهون عنه بقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وأصحابه الفلاسفة المشائين، الذين يوجد في كلامهم من الباطل والضلال نظير ما يوجد في كلام اليهود والنصارى، فإذا كانوا ينزهون عنه هؤلاء الصابئين، وأنبياءهم الذين أقل نسبة، وأبعد عن معرفة الحق من اليهود والنصارى : فكيف يجوز نسبته إلى نبي كريم ؟ !(2/410)
/ونحن نعلم من أحوال أئمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق ـ وليس هو بنبي من الأنبياء ـ من جنس هذه الأمور ما يعلم كل عالم بحال جعفر ـ رضي اللّه عنه ـ أن ذلك كذب عليه، فإن الكذب عليه من أعظم الكذب، حتى نسب إليه أحكام الحركات السفلية كاختلاج الأعضاء وحوادث الجو من الرعد، والبرق، والهالة، وقوس اللّه، الذي يقال له : قوس قزح وأمثال ذلك، والعلماء يعلمون أنه بريء من ذلك كله .
وكذلك نسب إليه الجدول الذي بني عليه الضلال طائفة من الرافضة، وهو كذب مفتعل عليه، افتعله عليه عبد اللّه بن معاوية أحد المشهورين بالكذب، مع رياسته، وعظمته عند أتباعه .
وكذلك أضيف إليه كتاب الجفر، والبطاقة، والهفت، وكل ذلك كذب عليه باتفاق أهل العلم به، حتى أضيف إليه رسائل إخوان الصفا، وهذا في غاية الجهل؛ فإن هذه الرسائل إنما وضعت بعد موته بأكثر من مائتي سنة؛ فإنه توفى سنة ثمان وأربعين ومائة، وهذه الرسائل وضعت في دولة بني بويه في أثناء المائة الرابعة في أوائل دولة بني عبيد الذين بنوا القاهرة، وضعها جماعة، وزعموا أنهم جمعوا بها بين الشريعة والفلسفة، فضلوا وأضلوا .
وأصحاب جعفر الصادق الذين أخذوا عنه العلم ـ كمالك بن أنس وسفيان بن عيينة، وأمثالهما من الأئمة أئمة الإسلام براء من هذه الأكاذيب .
/وكذلك كثير ما يذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير عن جعفر من الكذب الذي لا يشك في كذبه أحد من أهل المعرفة بذلك . وكذلك كثير من المذاهب الباطلة التي يحكيها عنه الرافضة وهي من أبين الكذب عليه . وليس في فرق الأمة أكثر كذبا واختلافا من الرافضة من حين نبغوا .(2/411)
فأول من ابتدع الرفض كان منافقا زنديقا، يقال له : عبد اللّه بن سبأ فأراد بذلك إفساد دين المسلمين، كما فعل [ بولص ] صاحب الرسائل التي بأيدي النصارى، حيث ابتدع لهم بدعا أفسد بها دينهم، وكان يهوديا، فأظهر النصرانية نفاقا فقصد إفسادها، وكذلك كان ابن سبأ يهوديا فقصد ذلك، وسعى في الفتنة لقصد إفساد الملة، فلم يتمكن من ذلك، لكن حصل بين المؤمنين تحريش وفتنة قتل فيها عثمان ـ رضي اللّه عنه ـ وجرى ما جرى من الفتنة، ولم يجمع اللّه ـ وللّه الحمد ـ هذه الأمة على ضلالة، بل لا يزال فيها طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة ، كما شهدت بذلك النصوص المستفيضة في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما أحدثت البدع الشيعية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ ردها، وكانت ثلاثة طوائف : غالية، وسبابة، ومفضلة .
/فأما الغالية فإنه حرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له أقوام، فقال : ماهذا ؟ فقالوا : أنت هو اللّه، فاستتابهم ثلاثا فلم يرجعوا، فأمر في الثالث بأخاديد فخدت، وأضرم فيها النار، ثم قذفهم فيها، وقال :
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ** أججت ناري ودعوت قنبرا
وفي صحيح البخاري أن عليا أتى بزنادقتهم فحرقهم، وبلغ ذلك ابن عباس فقال : أما أنا فلو كنت لم أحرقهم، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب اللّه، ولضربت أعناقهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
وأما السبابة فإنه لما بلغه من سب أبا بكر وعمر طلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا، وكلمه فيه، وكان على يداري أمراءه؛ لأنه لم يكن متمكنا ولم يكونوا يطيعونه في كل ما يأمرهم .(2/412)
وأما المفضلة فقال : لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترين، وروي عنه من أكثر من ثمانين وجها أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر . وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية أنه قال لأبيه : يا أبت، من خير الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ / فقال : يابني، أو ما تعرف ؟ قال : لا . قال : أبو بكر، قال : ثم من ؟ قال : عمر . وفي الترمذي وغيره أن عليا روى هذا التفضيل عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والمقصود هنا أنه قد كذب على علي بن أبي طالب من أنواع الكذب الذي لا يجوز نسبتها إلى أقل المؤمنين، حتى أضافت إليه القرامطة والباطنية والخرمية والمزدكية والإسماعيلية والنصيرية مذاهبها التي هي من أفسد مذاهب العالمين، وادعوا أن ذلك من العلوم الموروثة عنه . وهذا كله إنما أحدثه المنافقون الزنادقة الذين قصدوا إظهار ما عليه المؤمنون وهم يبطنون خلاف ذلك واستتبعوا الطوائف الخارجة عن الشرائع، وكان لهم دول، وجرى على المؤمنين منهم فتن، حتى قال ابن سينا : إنما اشتغلت في علوم الفلاسفة لأن أبي كان من أهل دعوة المصريين ـ يعني من بني عبيد الرافضة القرامطة ـ فإنهم كانوا ينتحلون هذه العلوم الفلسفية، ولهذا تجد بين هؤلاء وبين الرافضة ونحوهم من البعد عن معرفة النبوات اتصال وانضمامات يجمعهم فيه الجهل الصميم بالصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .(2/413)
فإذا كان في الزمان الذي هو أقل من سبعمائة سنة قد كذب على أهل بيته وأصحابه وغيرهم وأضيف إليهم من مذاهب الفلاسفة والمنجمين ما يعلم/ كل عاقل براءتهم منه، ونفق ذلك على طوائف كثيرة منتسبة إلى هذه الملة مع وجود من يبين كذب هؤلاء وينهى عن ذلك، ويذب عن الملة بالقلب واليد واللسان، فكيف الظن بما يضاف إلى إدريس وغيره من الأنبياء من أمور النجوم والفلسفة، مع تطاول الزمان، وتنوع الحدثان، واختلاف الملك والملل والأديان، وعدم من يبين حقيقة ذلك من حجة وبرهان، واشتمال ذلك على مالا يحصى من الكذب والبهتان ؟ !
وكذلك دعوى المدعى أن نجم النبي صلى الله عليه وسلم كان بالعقرب والمريخ، وأمته بالزهرة، وأمثال ذلك هو من أوضح الهذيان، المباينة لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم لما يدعونه من هذه الأحكام، فإن من أوضح الكذب قولهم إن نجم المسلمين بالزهرة، ونجم النصارى بالمشترى، مع قولهم إن المشترى يقتضى العلم والدين، والزهرة تقتضي اللهو واللعب .
وكل عاقل يعلم أن النصارى أعظم الملل جهلا وضلالة، وأبعدهم عن معرفة المعقول والمنقول، وأكثر اشتغالا بالملاهى وتعبدا بها .
والفلاسفة متفقون كلهم على أنه ما قرع العالم ناموس أعظم من الناموس الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته أكمل عقلا ودينا وعلما باتفاق الفلاسفة، حتى فلاسفة اليهود والنصارى، فإنهم لا يرتابون في أن المسلمين أفضل عقلا ودنيا .
/وانما يمكث أحدهم على دينه . إما اتباعا لهواه ورعاية لمصلحة دنياه في زعمه، وإما ظنا منه أنه يجوز التمسك بأي ملة كانت، وأن الملل شبيهة بالمذاهب الإسلامية؛ فإن جمهور الفلاسفة والمنجمين وأمثالهم يقولون بهذا، ويجعلون الملل بمنزلة الدول الصالحة، وإن كان بعضها أفضل من بعض .(2/414)
وأما الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،فناطقة بأن الله لا يقبل من أحد دينًا سوى الحنيفية ـ وهي الإسلام العام عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بكتبه؛ ورسله، واليوم الآخر ـ كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] وبذلك أخبرنا عن الأنبياء المتقدمين وأممهم، قال نوح : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 72 ] ، وقال في إبراهيم : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 130 : 132 ] وقال موسى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] وقال : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } [ المائدة : 44 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] وقال في/ الحوارين : { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] ،(2/415)
وقد قال مطلقا : { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 18، 19 ] وقال : { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 84، 85 ] .
فإذا كان المسلمون باتفاق كل ذي عقل أولى أهل الملل بالعلم والعقل والعدل وأمثال ذلك مما يناسب عندهم آثار المشتري، والنصارى أبعد عن ذلك، وأولى باللهو واللعب وما يناسب عندهم آثار الزهرة، كان ما ذكروه ظاهر الفساد .
ولهذا لا تزال أحكامهم كاذبة متهافتة، حتى أن كبير الفلاسفة الذي يسمونه فيلسوف الإسلام يعقوب بن إسحاق الكندي عمل تسييرا لهذا الملة، زعم أنها تنقضي عام ثلاث وتسعين وستمائة، وأخذ ذلك منه من أخرج مخرج الاستخراج من حروف كلام ظهر في الكشف لبعض من أعاده، ووافقهم على ذلك من زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل، الذي للحروف التي في / أوائل السور، وهي مع حذف التكرير أربعة عشر حرفا . وحسابها في الجملة الكثير ستمائة وثلاثة وتسعون . ومن هذا ـ أيضا ـ ما ذكر في التفسير أن اللّه لما أنزل { حم } قال بعض اليهود : بقا هذه الملة إحدى وثلاثون، فلما أنزل بعد ذلك { الر } و { حم } قالوا : خلط علينا .
فهذه الأمور التي توجد في ضلال اليهود والنصارى، وضلال المشركين والصابئين من المتفلسفة والمنجمين، مشتملة من هذا الباطل على مالا يعلمه إلا اللّه تعالى .(2/416)
وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن دين الإسلام محرمة فيه، فيجب إنكارها، والنهي عنها على المسلمين على كل قادر بالعلم والبيان، واليد واللسان؛ فإن ذلك من أعظم ما أوجبه اللّه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل، وسوس الملل .
ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بشوب من الحق، كما أن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذي معهم، يضلون خلقا كثيرا عن الحق الذي يجب الإيمان به، ويدعونه إلى الباطل الكثير الذي هم عليه . وكثيرًا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل، ولا يقيم الحجة التي تدحض باطلهم، ولا يبين حجة اللّه التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة . وقد بسطنا القول في هذا الباطل ونحوه في غير هذا الموضع . واللّه أعلم .(2/417)
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل حبس خصمًا له عليه دين بحكم الشرع، فحضر إليه رجل يشفع فيه فلم يقبل شفاعته، فتخاصما بسبب ذلك، فشهد الشافع على الرجل؛ لأنه صدر منه كلام يقتضى الكفر، وخاف الرجل غائلة ذلك فأحضر إلى حاكم شافعي، وادعى عليه رجل من المسلمين بأنه تلفظ بما قيل عنه، وسأل حكم الشرع في ذلك . فقال الحاكم للخصم عن ذلك فلم يعترف، فلقن أن يعترف ليتم له الحكم بصحة إسلامه وحقن دمه فاعترف بأن ذلك صدر منه جاهلاً بما يترتب عليه، ثم أسلم، ونطق بالشهادتين، وتاب واستغفر الله تعالى ثم سأل الحاكم المذكور أن يحكم له بإسلامه وحقن دمه وتوبته وبقاء ماله عليه، فأجابه إلى سؤاله، وحكم بإسلامه، وحقن دمه، وبقاء ماله عليه، وقبول توبته وعزره تعزير مثله وحكم بسقوط تعزير ثان عنه، وقضى بموجب ذلك كله . ثم نفذ ذلك حاكم آخر حنفي : فهل الحكم المذكور صحيح في جميع ما حكم له به، أم لا ؟ وهل يفتقر حكم الشافعي إلى حضور خصم من جهة بيت المال، أم لا ؟ وهل لأحد أن يتعرض بما صدر منه من أخذ ماله أو شيء منه بعد إسلامه، أم لا ؟ وهل يحل لحاكم آخر بعد الحكم/ والتنفيذ المذكورين أن يحكم في ماله بخلاف الحكم الأول وتنفيذه أم لا ؟ وهل يثاب ولي الأمر على منع من يتعرض إليه بأخذ ماله أو شيء منه بما ذكر، أم لا ؟
فأجاب :(2/418)
الحمد لله، نعم الحكم المذكور صحيح، وكذلك تنفيذه وليس لبيت المال في مال مثل هذا حق باتفاق المسلمين، ولا يفتقر الحكم بإسلامه وعصمة ماله إلى حضور خصم من جهة بيت المال؛ فإن ذلك لا يتوقف على الحكم؛ إذ الأئمة متفقون على أن المرتد إذا أسلم عصم بإسلامه دمه وماله وإن لم يحكم بذلك حاكم، ولا كلام لولي بيت المال في مال من أسلم بعد ردته، بل مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ـ أيضًا ـ في المشهور عنه أن من شهدت عليه بينة بالردة فأنكر وتشهد الشهادتين المعتبرتين حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه، فكيف إذا لم يشهد عليه عدل ؟ فإنه من هذه الصورة لا يفتقر الحكم بعصمة دمه وماله إلى إقراره باتفاق المسلمين .
ولا يحتاج عصمة دم مثل هذا إلى أن يقر ثم يسلم بعد إخراجه إلى ذلك، فقد يكون فيه إلزام له بالكذب على نفسه أنه كفر؛ ولهذا لا يجوز أن يبني على مثل هذا الإقرار حكم الإقرار الصحيح؛ فإنه قد علم أنه لقن الإقرار، وأنه مكره عليه في المعنى؛ فإنه إنما فعله /خوف القتل، ولو قدر أن كفر المرتد كفر سب فليس في الحكام بمذهب الأئمة الأربعة من يحكم بأن ماله لبيت المال بعد إسلامه؛ إنما يحكم من يحكم بقتله لكونه يقتل حدًا عندهم على المشهور . ومن قال يقتل لزندقته، فإن مذهبه أنه لا يؤخذ بمثل هذا الإقرار .
وأيضًا، فمال الزنديق عند أكثر من قال بذلك لورثته من المسلمين فإن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا ماتوا ورثهم المسلمون مع الجزم بنفاقهم، كعبد الله بن أبي وأمثاله ممن ورثهم ورثتهم الذين يعلمون بنفاقهم، ولم يتوارث أحد من الصحابة غير الميراث منافق . والمنافق هو الزنديق في اصطلاح الفقهاء الذين تكلموا في توبة الزنديق .(2/419)
وأيضًا، فحكم الحاكم إذا نفذ في دمه الذي قد يكون فيه نزاع نفذ في ماله بطريق الأولى؛ إذا ليس في الأمة من يقول : يؤخذ ماله ولا يباح دمه، فلو قيل بهذا كان خلاف الإجماع، فإذا لم يتوقف الحكم بعصمة دمه على دعوى من جهة ولي الأمر فماله أولى .
وقد تبين أن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال غير ممكن من وجوه :
أحدها : أنه لم يثبت عليه ما يبيح دمه، لا ببينة، ولا بإقرار متعين،/ ولكن بإقرار قصد به عصمة ماله ودمه من جنس الدعوى على الخصم المسخر .
الثاني : الحكم بعصمة دمه وماله واجب في مذهب الشافعي والجمهور وإن لم يقر، بل هو واجب بالإجماع مع عدم البينة والإقرار .
الثالث : أن الحكم صحيح بلا ريب .
الرابع : أنه لو كان حكم مجتهد فيه لزال ذلك بتنفيذ المنفذ له .
الخامس : أنه ليس في الحكام من يحكم بمال هذا لبيت المال ولو ثبت عليه الكفر ثم الإسلام ولو كان الكفر سبا، فكيف إذا لم يثبت عليه ؟ ! أم كيف إذا حكم بعصمة ماله ؟ ! بل مذهب مالك وأحمد الذي يستند إليها في مثل هذه من أبعد المذاهب عن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال؛ لأن مثل هذا الإقرار عندهم إقرار تلجئة لا يلتفت إليه، ولما عرف من مذهبهما في الساب، والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=638 - TOP#TOPفصل
( ذبائح أهل الكتاب )(2/420)
المأخذ الثاني : الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل، وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة . وهذا مبني على أصل، وهو أن قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب ؟ أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ؟ على قولين للعلماء :
فالقول الأول : هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، بل هو المنصوص عنه صريحًا .
الثاني : قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد .
وأصل هذا القول أن عليا وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب، فقال على : لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم؛ فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب / الخمر، وروى عنه أنه قال : نغزوهم لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان؛ فإنه شرط عليهم أن وغير ذلك من الشروط . وقال ابن عباس : بل تباح؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم، ولا يعرف ذلك إلا عن على وحده، وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب .(2/421)
فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس، وهو قول الجمهور، كأبي حنيفة ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وصححها طائفة من أصحابه، بل هي آخر قوليه، بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول . وقال أبو بكر الأثرم : ما علمت أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كرهه إلا عليًا، وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث والرأي كالحسن وإبراهيم النخعي والزهري وغيرهم وهو الذي نقله عن أحمد أكثر أصحابه، وقال إبراهيم بن الحارث : كان آخر قول أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسًا .
ومن العلماء من رجح قول على، وهو قول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه . وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب،وهم الذين تنازع فيهم الصحابة . فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل : تنوخ، وبهراء / وغيرهما من اليهود، فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعًا، ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف، وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة، ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب . والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك، وما أعلم للقول الآخر قدوة من السلف .(2/422)
ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد قالوا : من كان أحد أبويه غير كتابي بل مجوسيًا لم تحل ذبيحته ومناكحة نسائه . وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيًا؛ وأما الأم فله فيها قولان . فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وحكى ذلك عن مالك . وغالب ظنى أن هذا غلط على مالك؛ فإني لم أجده في كتب أصحابه، وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب، وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب، وهو الرواية التي اختارها هؤلاء ، فأما إذا جعل الروايتين في بني تغلب دون غيرهم من العرب، أو قيل إن النزاع عام وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم كما هو قول الأكثرين، فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب، بل لو كان الأبوان جميعًا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب، كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم .(2/423)
/ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبواه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه فهو مخطئ خطأ لا ريب فيه؛ لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة؛ ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل، ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصرانى العرب مطلقًا ومن كان أحد أبويه غير كتابي، كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد، وهذا تناقض . والقاضي أبو يعلى وإن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير، وهو آخر كتبه، فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان، كالروم وقبائل من العرب،وهم تنوخ، وبهراء، ومن بني تغلب هل تجوز مناكحتهم، وأكل ذبائحهم ؟ وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب، وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه في ذبائحهم، واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم، سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها، وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل، ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته . وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم فمن كان أحد أبويه مشركًا فهو أولى بذلك، هذا هو المنصوص عن أحمد فإنه قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان فإنه يقر بالجزية . قال أصحابه : وإذ أقررناه بالجزية حلت ذبائحهم ونساؤهم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما .
/وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع على وغيره من الصحابة في بني تغلب والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد .(2/424)
ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا فى مأخذ على، فظن بعضهم أن عليًا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم؛ لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلو في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل، وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل، وأن من شككنا في أجداده هل كانوا من أهل الكتاب أم لا أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطاً، وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطاً . وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد . وقال آخرون : بل على لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته ومحظوراته، بل أخذوا منه حل المحرمات فقط؛ ولهذا قال : إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر، وهذا المأخذ من قول على هو المنصوص عن أحمد وغيره، وهو الصواب .(2/425)
وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف . والقول بأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أراد ذلك قول ضعيف، بل الصواب المقطوع به أن كون / الرجل كتابيًا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك . وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك، والمنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف ، وهذا القول هو الثابت عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعًا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم ، واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل، كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب، فإنه تؤكل ذبيحته، وتنكح نساؤه . وهذا يبين خطأ من يناقض منهم . وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور يقولون من دخل هو أو أبواه أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية، سواء دخل في زماننا هذا أو قبله . وأصحاب القول الآخر يقولون : متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية؛ كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي . والصواب قول الجمهور، والدليل عليه وجوه :(2/426)
أحدها : أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، كما قال ابن عباس : إن المرأة كانت مقلاتا ـ والمقلات التي لا يعيش لها ولد، كثيرة القلت، والقلت : الموت والهلاك، كما يقال : امرأة مذكار ومئناث إذا كانت كثيرة الولادة /للذكور والإناث، والسما الكثيرة الموت . قال ابن عباس ـ فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديًا، لكون اليهودية كانوا أهل علم وكتاب، والعرب كانوا أهل شرك وأوثان، فلما بعث الله محمدًا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا، فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام، فأنزل الله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [ البقرة : 256 ] . فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا . ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم فى اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح ـ صلوات الله عليه ـ وهذا بعد النسخ والتبديل، ومع هذا نهى الله ـ عز وجل ـ عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام وأقرهم بالجزية، وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل، فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر . ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه، وأنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين؛ فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب فلا يدخلون، فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع .(2/427)
الوجه الثاني : أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عرباً ودخلوا في دين اليهود، ومع هذا فلم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم في أكل طعامهم، وحل نسائهم، وإقرارهم بالذمة، بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى ـ عليه السلام ـ ومن دخل قبل ذلك، ولا بين المشكوك في نسبه، بل حكم / في الجميع حكمًا واحدًا عامًا، فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة، وجعل طائفة لا تقر بالجزية وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم، وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم، تفريق ليس له أصل في سنة رسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه . وقد علم بالنقل الصحيح المستفيض أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن : ( إنك تأتى قومًا أهل كتاب ) ، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريًا ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده . وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب
كثيرون أقرهم بالجزية، وكذلك سائر اليهود والنصارى من العرب لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه وأصحابه بين بعضهم وبعض بل قبلوا منهم الجزية، وأباحوا ذبائحهم، ونساءهم . وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف . ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة، وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة .(2/428)
الوجه الثالث : أن كون الرجل مسلمًا أو يهوديًا أو نصرانيًا ونحو ذلك من أسماء الدين، هو حكم يتعلق بنفسه،لاعتقاده وإرادته وقوله وعمله،لا يلحقه هذا الاسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك،لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا حكم أبويه؛لكونه لا يستقل بنفسه،فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرًا بنفسه باتفاق المسلمين،فلو كان أبواه / يهودًا أو نصارى فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين،ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرًا باتفاق المسلمين؛ فإن كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدًا لأجل آبائه . وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك . وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب، فمن كان بنفسه مشركًا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين،ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين،فكذلك إذا كان يهوديًا أو نصرانيًا وآباؤه مشركين، فحكمه حكم اليهود والنصارى . أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كون أبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين، فهذا خلاف الأصول .(2/429)
الوجه الرابع : أن يقال : قوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } [ البينة : 1 ] وقوله : { وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ } [ آل عمران : 20 ] وأمثال ذلك، إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم . والمراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى، ليس المراد به من كان متمسكًا به قبل النسخ والتبديل فإن أولئك لم يكونوا كفارًا، ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن ولا قيل لهم في القرآن : ( يا أهل الكتاب ) ، فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن . وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند / أهل الكتاب، فهو من أهل الكتاب، وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ، وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار، والله تعالى مع ذلك شرع إقرارهم بالجزية، وأحل طعامهم ونساءهم .
الوجه الخامس : أن يقال : هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين، وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير أهل الكتاب، بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم، فمن كان أبوه مسلمًا وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد؛ ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام : هل تقبل توبته ؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد .(2/430)
وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر، ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل، ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله ولا عند رسوله، ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفًا لهم؛ فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين؛ فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم، ومن كفر بشيء من كتب الله ورسله فليس مسلمًا في أي زمان كان .(2/431)
/وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين، وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية وحل ذبائحهم ونسائهم دون هؤلاء وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام، وأنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى؛ ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب؛ لأنه ـ تعالى ـ أنعم على أجدادهم نعمًا عظيمة في الدين والدنيا فكفروا نعمته، وكذبوا رسله وبدلوا كتابه، وغيروا دينه، فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوء الكفار عند الله وهو أشد غضبًا عليهم من غيرهم؛ لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم وتحريف الكتاب وتبديل النص وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء، فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على إخوانهم الكفار، مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار، وإما أغلظ منه؛ إذ لا يمكن أحدًا أن يقول : إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود .(2/432)
/الوجه السادس : أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية، الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل؛فإن الله تعالى قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا فضل لعربي على عجمي،ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى . الناس من آدم وآدم من تراب ) ؛ ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدًا بنسبه، ولا يذم أحدًا بنسبه، وإنما يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : ( أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن : الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم ) فجعل الفخر بالأحساب من أمور الجاهلية، فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف، فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين ؟ وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأحد الفريقين على الآخرين في الدين لأجل النسب علم أنه لا فضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل على من كان أبوه داخلاً فيه بعد النسخ والتبديل . وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين .(2/433)
/والشريعة إنما علقت بالنسب أحكامًا مثل كون الخلافة من قريش، وكون ذوي القربي لهم الخمس، وتحريم الصدقة على آل محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك؛ لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم : كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) ، والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت . فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية؛ ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره؛ ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ضعفين من العذاب، كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب .
فذوو الأنساب الفاضلة إذا أساؤوا كانت إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم، وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم، فكفر من كفر من بني إسرائيل ـ إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم ـ أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم؛ ولهذا لم يقل أحد من العلماء إن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخر، بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين، أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر؛ لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه .
/الوجه السابع : أن يقال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم كانوا يأكلون ذبائحهم، لا يميزون بين طائفة وطائفة، ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب، وإنما تنازعوا في بني تغلب خاصة؛ لأمر يختص بهم كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم، ولم يلحق بهم سائر العرب، وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم .(2/434)
الوجه الثامن : أن يقال : هذا القول مستلزم ألا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب؛ لأنا لا نعرف نسب كثير منهم، ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودًا أو نصارى قبل النسخ والتبديل، ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، فإذا كان هذا القول مستلزمًا رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، علم أنه باطل .
الوجه التاسع : أن يقال : ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين . وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل ، وأنه مقتضى الدليل . فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فهذا خلاف إجماع المسلمين .
/فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلا بحجة شرعية . وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله، وفي شحم الثَّرْب والكليتين، وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم، وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من مسائل، وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين فمن صار إلى قول مقلدًا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدًا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت .
ولا يجوز لأحد أن يرجح قولاً على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول ولا قائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدًا لزم حكم التقليد، فلم يرجح، ولم يزيف، ولم يصوب، ولم يخطئ : ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه، فقبل ما تبين أنه حق، ورد ما تبين أنه باطل، ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين، والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان، كما فاوت بينهم في قوى الأبدان .(2/435)
وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم، فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فإنه من العوام المقلدين، لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون، والله ـ تعالى ـ يهدينا وإخواننا لما يحبه ويرضاه، وبالله التوفيق، والله أعلم .
********
فَصْل
( فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه )
فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه، وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه، بل الحكم فيه على جميع الخلق لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره، ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة . وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما أجمعت عليه الأمة، أو تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد المسلمين، من العلماء أو الجند أو العامة، أو غيرهم، لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر، فضلاً عن أن يؤذيه أو يعاقبه .
مثل أن يتنازع حاكم أو غير حاكم في قوله : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } [ المائدة : 6 ] هل المراد به الجماع كما فسره ابن عباس وغيره ؟ وقالوا : إن مس المرأة لا ينقض الوضوء لا لشهوة ولا لغير شهوة . أو المراد به اللمس بجميع البشرة إما لشهوة وإما مطلقًا، كما نقل الأول عن ابن عمر . والثالث قاله بعض العلماء، وللعلماء في هذا ثلاثة أقوال .(2/436)
/والأظهر هو القول الأول، وأن الوضوء لا ينتقض بمس النساء مطلقًا، وما زال المسلمون يمسون نساءهم ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك، ولا نقل عن الصحابة على حياته أنه توضأ من ذلك، ولا نقل عنه قط أنه توضأ من ذلك، بل قد نقل عنه في السنن أنه كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ، وقد اختلف في صحة هذا الحديث، لكن لا خلاف أنه لم ينقل عنه أنه توضأ من المس .
وكذلك تنازع المسلمون في الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة، والجرح، والرعاف، وفي القيء وفيه قولان مشهوران، وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ من ذلك، وعن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت قط أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوضوء من ذلك، بل كان أصحابه يخرجون في المغازي فيصلون ولا يتوضؤون؛ ولهذا قال طائفة من العلماء : إن الوضوء من ذلك مستحب غير واجب، وكذلك قال في الوضوء من مس الذكر ومس المرأة لشهوة : إنه يستحب الوضوء من ذلك ولا يجب، وكذلك قالوا في الوضوء من القهقهة ومما مست النار : إن الوضوء من ذلك يستحب ولا يجب، فمن توضأ فقد أحسن، ومن لم يتوضأ فلا شيء عليه، وهذا أظهر الأقوال .
وليس المقصود ذكر هذه المسائل، بل المقصود ضرب المثل بها .
/وكذلك تنازعوا في كثير من مسائل الفرائض كالجد والمشركة وغيرهما وفي كثير من مسائل الطلاق والإيلاء وغير ذلك، وفي كثير من مسائل العبادات في الصلاة والصيام والحج، وفي مسائل زيارات القبور، منهم من كرهها مطلقًا، ومنهم من أباحها، ومنهم من استحبها إذا كانت على الوجه المشروع، وهو قول أكثرهم .
وتنازعوا في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم : هل يسلم عليه في المسجد وهو مستقبل القبلة، أو مستقبل الحجرة ؟ وهل يقف بعد السلام يدعو له، أم لا ؟(2/437)
وتنازعوا أي المسجدين أفضل : المسجد الحرام، أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أنهما أفضل من المسجد الأقصى، واتفقوا على أنه لا يستحب السفر إلى بقعة للعبادة فيها غير المساجد الثلاثة، واتفقوا على أنه لو نذر الحج أو العمرة لزمه الوفاء بنذره، واتفق الأئمة الأربعة والجمهور على أنه لو نذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة لم يلزمه الوفاء بنذره، وتنازعوا فيما إذا نذر السفر إلى المسجدين إلى أمور أخرى يطول ذكرها، وتنازعوا في بعض تفسير الآيات، وفي بعض الأحاديث : هل ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو لم تثبت ؟
/فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام ـ كائنًا من كان ولو كان من الصحابة ـ أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله، فيقول : ألزمته ألا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي، بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله، والحاكم واحد من المسلمين، فإن كان عنده علم تكلم بما عنده، وإذا كان عند منازعه علم تكلم به، فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله، وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله ـ أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه ـ ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم .(2/438)
وأما باليد والقهر، فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول : أنا لا أرضي حتى يحكم بالقول الآخر . وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكموم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول : أنت حكمت على بالقول الذي لا أختاره، فإن الحاكم عليه أن يجتهد ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) ، وقد يخص الله بعض الأنبياء والعلماء /والحكام بعلم دون غيره، كما قال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [ الأنبياء : 78، 79 ]
وعلى الحكام ألا يحكموا إلا بالعدل . والعدل هو ما أنزل الله، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 58، 59 ] ، فأوجب الله طاعة أولى الأمر مع طاعة الرسول، وأوجب على الأمة إذا تنازعوا أن يردوا ما تنازعوا إلى الله ورسوله إلى كتاب الله وسنة رسوله .(2/439)
فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الحكم الذي يحكم بين عباده،والحكم له وحده وقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليحكم بينهم، فمن أطاع الرسول كان من أوليائه المتقين، وكانت له سعادة الدنيا والآخرة، ومن عصى الرسول كان من أهل الشقاء والعذاب، قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] ، وفي صحيح مسلم عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل يقول : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .(2/440)
وقال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [ آل عمران : 19 ] ، فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه هداهم وبين لهم الحق، لكن بعضهم يبغي على بعض مع معرفته بالحق فيتبع هواه ويخالف أمر الله، وهو الذي يعرف الحق ويزيغ عنه، كما قال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ الى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عليه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 175،176 ] ، فقد بين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه بعث الرسل وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وقال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ الى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَاليه أُنِيبُ } [ الشوري : 10 ] ، وقال يوسف : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 39،40 ] ، فالحكم لله وحده ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه، وأمرهم أمره وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته؛ فإن ذلك هو حكم الله على خلقه .(2/441)
والرسول يبلغ عن الله، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 64،65 ] ، فعلى جميع الخلق أن يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على الله، ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم . ولو أدركه موسي أو عيسي وغيرهما من الرسل كان عليهم اتباعه، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، وروي عن غير واحد من السلف ـ علي وابن عباس وغيرهما ـ قالوا : لم / يبعث الله نبيًا من عهد نوح إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه .(2/442)
وهو ـ سبحانه ـ أخذ الميثاق على النبي المتقدم أن يصدق من يأتي بعده وعلى النبي المتأخر أن يصدق من كان قبله؛ ولهذا لم تختلف الأنبياء، بل دينهم واحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ) ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون : 51، 52 ] ، أي : ملتكم ملة واحدة كقولهم : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ] ، أي : ملة . وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا اليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ على الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ اليه } [ الشوري : 13 ] .(2/443)
فدين الأنبياء واحد، وهو دين الإسلام، كلهم مسلمون مؤمنون، كما قد بين الله في غير موضع من القرآن، لكن بعض الشرائع تتنوع، فقد يشرع في وقت أمرًا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرًا آخر لحكمة، كما شرع في أول الإسلام / الصلاة الى بيت المقدس ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة الى الكعبة، فتنوعت الشريعة والدين واحد، وكان استقبال الشام ذلك الوقت من دين الإسلام، وكذلك السبت لموسي من دين الإسلام، ثم لما نسخ صار دين الإسلام هو الناسخ وهو الصلاة الى الكعبة، فمن تمسك بالمنسوخ دون الناسخ فليس هو على دين الإسلام ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعًا فشرعه باطل لا يجوز اتباعه، كما قال : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشوري : 21 ] ؛ ولهذا كفر اليهود والنصاري؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ، والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فعلى جميع الخلق اتباعه واتباع ما شرعه من الدين وهو ما أتي به من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة وهو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه، وليس لأحد الخروج عنه، وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون، وهو الكتاب والسنة .(2/444)
وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع وهو الكتاب والسنة، كما قال جابر بن عبد الله : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا ـ يعني السيف ـ من خرج عن هذا ـ يعني المصحف، قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] ، فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد . فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد .(2/445)
فالكتاب والعدل متلازمان، والكتاب هو المبين للشرع، فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع، ولكن كثيرًا من الناس ينسبون ما يقولونه الى الشرع وليس من الشرع، بل يقولون ذلك إما جهلاً وإما غلطاً وإما عمدًا وافتراء، وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة، ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله الى خاتم المرسلين فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل، قال تعالى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ المائدة : 42 ] ، وقال تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] ، فالذي أنزل الله هو القسط، والقسط، هو الذي أنزل الله وقال تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [ النساء : 58 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا اليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } [ النساء : 105 ] ، فالذي أراه الله في كتابه هو العدل .
وقد يقول كثير من علماء المسلمين ـ أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم ـ أقوالا باجتهادهم، فهذه يسوغ / القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقًا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقًا له، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فإذا اتقي العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك، وغفر له خطأه .(2/446)
ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله، لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو الشرع المنزل من عند الله، وهو الكتاب والسنة وهو دين الله ورسوله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله لا يجاهدون على قول عالم ولا شيخ متأول، بل يجاهدون ليعبد الله وحده ويكون الدين له، كما في المسند عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتي يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ) . وقال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّي لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] ، وفي الصحيحين عن أبي موسي الأشعري قال : قيل : يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) .(2/447)
/فالمقصود بالجهاد ألا يعبد أحد إلا الله، فلا يدعو غيره، ولا يصلي لغيره ولا يسجد لغيره، ولا يصوم لغيره، ولا يعتمر ولا يحج إلا الى بيته، ولا يذبح القرابين إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يخاف إلا إياه، ولا يتقي إلا إياه، فهو الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ولا يهدي الخلق إلا هو، ولا ينصرهم إلا هو، ولا يرزقهم إلا هو، ولا يغنيهم إلا هو، ولا يغفر ذنوبهم إلا هو، قال تعالى : { وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَاليه تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 51 : 55 ] .(2/448)
والله ـ تعالى ـ قد حرم الشرك كله وأن يجعل له ندًا، فلا يدعي غيره لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحون ولا الشمس ولا القمر ولا الكواكب ولا الأوثان، ولا غير ذلك، بل قد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، قال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 79، 80 ] ،/ وقال تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ الى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56، 57 ] ، ذم [ من ] الله ـ سبحانه وتعالى ـ لمن يدعو الملائكة والأنبياء وغيرهم من الصالحين، وبين أن هؤلاء الذين يدعونهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون الى الله بالوسيلة وهي الأعمال الصالحة، ويرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف يدعون المخلوقين ويذرون الخالق ؟ ! وقال تعالى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } [ الكهف : 102 ] .(2/449)
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ عليم بأحوال عباده، رحيم بهم؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأي امرأة من السبي إذا رأت ولدًا ألصقته ببطنها فقال : أترون هذه واضعة ولدها في النار ؟ قالوا : لا يا رسول الله، قال : ( لله أرحم بعباده من هذه بولدها ) وهو ـ سبحانه ـ سميع قريب قال الله تعالى : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي الي رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [ سبأ : 50 ] ، وهو ـ تعالى ـ رحيم ودود . والود : اللطف والمحبة، فهو يود عباده المؤمنين، ويجعل لهم الود في القلوب، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [ مريم : 96 ] ، قال ابن عباس وغيره : يحبهم ويحببهم الى عباده .
/وهو ـ سبحانه ـ لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، بل يحب من يدعوه ويتضرع اليه، ويبغض من لا يدعوه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لا يسأل الله يغضب عليه ) . وقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] وقال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 681 ] ، قال بعض الصحابة : يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أو بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله هذه الآية .(2/450)
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ ليس كالمخلوقين الذين ترفع اليهم الحوائج بالحجاب، بل في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال الله : حمدني عبدي . فإذا قال : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ، قال الله : أثني علي عبدي . فإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال الله : مجدني عبدي، فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال الله : هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل . فإذا قال : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ } ، قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل .
/وهو ـ سبحانه ـ يتولي كلام عباده يوم القيامة، كما جاء في الصحيح، عن عدي بن حاتم أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ـ عز وجل ـ ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يجد فبكلمة طيبة ) . وهو ـ سبحانه ـ قريب ممن دعاه يتقرب ممن عبده وأطاعه، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب الى شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت منه باعًا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .(2/451)
والله ـ سبحانه ـ يولي عباده إحسانًا وجودًا وكرمًا، لا لحاجة اليهم، كما قال تعالى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } [ الإسراء : 111 ] ،ولا يحاسب العباد إلا هو وحده،وهو الذي يجازيهم بأعمالهم { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7، 8 ] .
وهو الذي يرزقهم ويعافيهم وينصرهم ويهديهم، لا أحد غيره يفعل ذلك قال تعالى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } [ الملك : 20، 21 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 42 ] ، وأصح القولين في الآية أن معناه من ذا الذي يكلؤكم بدلاً من الله ؟ من الذي يدفع الآفات عنكم التي تخافونها من الإنس والجن ؟
والرسول هو الواسطة والسفير بينهم وبين الله ـ عز وجل ـ فهو الذي يبلغهم أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره .(2/452)
وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه، بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قومًا معينين تحاكموا اليه في قضية معينة، لا يلزم جميع الخلق، ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكمًا لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكمًا، ومتي ترك العالم ما عَلِمَه من /كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى : { المص كِتَابٌ أُنزِلَ اليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ اليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 1، 3 ](2/453)
ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذي ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره، كان مستحقًا لعذاب الله بل عليه أن يصبر . وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم . قال الله تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1، 3 ] ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 13 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع / ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر بذلك، ويفتي به ويدعو اليه، ولا يقلد الحاكم . هذا كله باتفاق المسلمين .(2/454)
وإن ترك المسلم عالمًا كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره كان مستحقًا للعذاب، قال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ اليمٌ } [ النور : 63 ] ، وإن كان ذلك الحاكم قد خفي عليه هذا النص ـ مثل كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم تكلموا في مسائل باجتهادهم وكان في ذلك سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف اجتهادهم ـ فهم معذورون لكونهم اجتهدوا، و { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، ولكن من علم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن يعدل عن السنة الى غيرها قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } [ الأحزاب : 36 ]
ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديًا منصورًا بنصرة الله في الدينا والآخرة كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 : 173 ] ، وإذا أصابت العبد مصيبة كانت بذنبه لا باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم، بل باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم / يرحم وينصر، وبذنوبه يعذب ويخذل، قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [ الشوري : 30 ] .(2/455)
ولهذا لما انهزم المسلمون يوم أحد وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم واستظهر عليهم العدو بين الله لهم أن ذلك بذنوبهم، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ آل عمران : 155 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 165] ، وبين ـ سبحانه ـ حكمة ابتلائهم، فقال تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًي وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 137 : 141 ] ، وقال تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، والله قدرها، وقدر كل شيء .(2/456)
لكن ما أصاب العبد من عافية ونصر ورزق فهو من إنعام الله عليه وإحسانه اليه، فالخير كله من الله، وليس للعبد من نفسه شيء، بل هو فقير لا يملك / لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وما أصابه من مصيبة فبذنوبه والله ـ تعالى ـ يكفر ذنوب المؤمنين بتلك المصائب، ويؤجرهم على الصبر عليها، ويغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذي حتي الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه ) ، ولما أنزل الله ـ تعالى ـ قوله : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، قال أبو بكر : يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر ! وأينا لم يعمل سوءًا ؟ قال : ( يا أبا بكر، ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به ) .
وقد قص الله علينا في القرآن أخبار الأنبياء وما أصابهم وما أصاب أتباعهم المؤمنين من الأذي في الله، ثم إنه ـ تعالى ـ نصرهم، وجعل العاقبة لهم، وقص علينا ذلك لنعتبر به قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 111 ] .(2/457)
فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه ويجب على ولاة الأمر نصره والجهاد عليه هو الكتاب والسنة . وأما حكم الحاكم فذاك يقال له قضاء القاضي، ليس هو الشرع الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته، بل القاضي العالم العادل يصيب تارة ويخطئ تارة، ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف /الحق في الباطن لم يجز له أخذه، ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين كما في الصحيحين عن أم سلمة، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم تختصمون الى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه . فإنما أقطع له قطعة من النار ) ، فهذا سيد الحكام والأمراء والملوك يقول : إذا حكمت لشخص بشيء يعلم أنه لا يستحقه فلا يأخذه .
وقد أجمع المسلمون على أن حكم الحاكم بالأملاك المرسلة لا ينفذ في الباطن فلو حكم لزيد بمال عمرو وكان مجتهدًا متحريًا للحق لم يجز له أخذه .
وأما في العقود والفسوخ، مثل أن يحكم بنكاح أو طلاق أو بيع أو فسخ بيع ففيه نزاع معروف، وجمهورهم يقولون : لا ينفذ أيضًا، وهي مسألة معروفة، وهذا إذا كان الحاكم عالمًا عادلاً وقد حكم في أمر دنيوي .(2/458)
والقضاة ثلاثة أنواع ـ كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة : رجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة . ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار . ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار ) ، فالقاضي الذي هو من أهل الجنة إذا حكم للإنسان بما يعلم أنه غير حق لم يحل له أخذه، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فكيف إذا حكم في الدين الذي ليس له أن يحكم فيه، بل هو فيه واحد من المسلمين إن كان له علم تكلم، وإلا سكت؛/ مثل أن يحكم بأن السفر الى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب، يثاب فاعله وأن من قال : إنه لا يستحب يؤذي ويعاقب أو يحبس، فهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين، لا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبعه، ولا لولي أمر أن ينفذه، ومن نفذ مثل هذا الحكم ونصره كان له حكم أمثاله إن قامت عليه الحجة التي بعث الله بها رسوله وخالفها استحقوا العقاب، وكذلك إن ألزم بمثل هذا جهلاً، وألزم الناس بما لا يعلم، فإنه مستحق للعقاب فإن كان مجتهدًا مخطئًا عفي عنه .
وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم، بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب . وأما من يقول : إن الذي قلته هو قولي، أو قول طائفة من العلماء المسلمين، وقد قلته اجتهادًا أو تقليدًا، فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته .(2/459)
ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفًا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، بل قد قال الله تعالى في القرآن : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ اليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَاليكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعليها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ علينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا على الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 285، 286 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله استجاب هذا الدعاء ) . ولما قال المؤمنون : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ، قال الله : ( قد فعلت ) ، وكذلك في سائر الدعاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ) .(2/460)
فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادًا أو تقليدًا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطؤوا خطأ مجمعًا عليه . وإذا قالوا : إنا قلنا الحق، واحتجوا بالأدلة الشرعية، لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله، ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم، بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطي بل يظهر، فإن ظهر رجع الجميع اليه، وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا؛ كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد : إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكمًا، فإن هذا ينقلب، فقد يصير الآخر حاكمًا / فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه، بخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه من عند الله، حق وهدي وبيان، ليس فيه خطأ قط، ولا اختلاف ولا تناقض قال تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [ النساء : 82 ] .
وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم، فإذا تعدي بعضهم على بعض منعوهم العدوان، وهم قد ألزموا بمنع ظلم أهل الذمة، وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم، لا يلزمه أحد بترك دينه، مع العلم بأن دينه يوجب العذاب، فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها؛ فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا .(2/461)
وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف، فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون اليهم، ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين، ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، فكيف يحل مع هذا أن يلزم علماء المسلمين / باتباع هذا القول، وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع، وأن يقال : القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال . ولا يفتي به بل يعاقب ويؤذي من أفتي به، ومن تكلم به، وغيرهم، ويؤذي المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم، وهم يعذرون من خفي عليه ذلك ولا يلزمون باتباعهم، ولا يعتدون عليه، فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هذا ؟ !(2/462)
لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله ـ تعالى ـ وعند ملائكته وأنبيائه وعباده والله لا يغفل عن مثل هذا، وليس الحق في هذا لأحد من الخلق . فإن الذين اتبعوا ما علموه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يظلموا أحدًا في دم ولا مال ولا عرض، ولا لأحد عليهم دعوي، بل هم قالوا : نحن نتبع ما عرفناه من دين الإسلام وما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الله وعبادته لا شريك له، فلا نعبد إلا الله وحده، ونعبده بما أمر به رسوله وشرعه من الدين فما دعانا اليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرنا به أطعناه، وما جعله الرسول دينًا وقربة وطاعة وحسنة وعملاً صالحًا وخيرًا سمعنا وأطعنا لله ولرسوله، واعتقدناه قربة وطاعة، وفعلناه وأحببنا من يفعل به، ودعونا اليه، وما نهانا / عنه الرسول انتهينا عنه وإن كان غيرنا يعتقد أن ذلك قربة، فنحن علينا أن نطيع الرسول، ليس علينا أن نطيع من خالفه وإن كان متأولاً .
ومعلوم أن أهل الكتاب وأهل البدع يتعبدون تعبدات كثيرة يرونها قربة وطاعة، وقد نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قال : أنا أطيع الرسول ولا أتعبد بهذه العبادات، بل أنهي عما نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يسوغ أن يعارض، بل لو كان مخطئًا مع اجتهاده لم يستحق العقوبة بإجماع المسلمين، ولا يجب عليه اتباع حكم أحد بإجماع المسلمين . وليس للحاكم أن يحكم بأن هذا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا العمل طاعة أو قربة، أو ليس بطاعة ولا قربة، ولا بأن السفر الى المساجد والقبور وقبر النبي صلى الله عليه وسلم يشرع، أو لا يشرع ليس للحكام في هذا مدخل إلا كما يدخل فيه غيرهم من المسلمين، بل الكلام في هذا لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده علم تكلم بما عنده من العل .(2/463)
وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين له أنه قد أخطأ فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء الى ذلك وجب أن يمنع من ذلك، ويعاقب إن لم يمتنع، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة / الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين،ولا منعه من ذلك القول،ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول : إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين، فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة، والمنازع له يتكلم بلا علم، والحكم الذي حكم به لم يقله أحد من علماء المسلمين، فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم .(2/464)
فإن الله إنما أوجب على الناس اتباع الرسول وطاعته، واتباع حكمه وأمره وشرعه ودينه، وهو حجة الله على خلقه، وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدي والضلال، والرشاد والغي، وطريق الجنة وطريق النار، وبه هدي الله الخلق، قال الله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا اليكَ كَمَا أَوْحَيْنَا الى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا الى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَي وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عليكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عليكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَي تَكْلِيمًا رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 163 : 165 ] الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما أحد أحب اليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ) ، فالحجة على الخلق تقوم بالرسل، وما جاء به الرسول هو الشرع الذي يجب على الخلق قبوله، والى الكتاب والسنة يتحاكم جميع الخلق .(2/465)
/ولهذا كان من أصول السنة والجماعة أن من تولي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الراشدين وغيرهم لا يجب أن ينفرد واحد منهم بعلم لا يعلمه غيره، بل علم الدين الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم يشترك المسلمون في معرفته، وإذا كان عند بعضهم من الحديث ما ليس عند بعض بلغه هؤلاء لأولئك؛ ولهذا كان الخلفاء يسألون الصحابة في بعض الأمور : هل عندكم علم عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فإذا تبين لهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حكموا بها، كما سألهم أبو بكر الصديق عن ميراث الجدة لما أتته، فقال : ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئًا، ولكن حتي أسأل الناس . فسألهم، فأخبره محمد بن مسلمة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس .(2/466)
وكذلك عمر بن الخطاب لما سألهم عن الجنين إذا قتل، قام بعض الصحابة فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي فيه بغرة عبد أو أمة، أي من قتل جنينًا ضمنه بمملوك أو جارية لورثته، فقضي بذلك، قالوا : وتكون قيمته بقدر عشر دية أمه، وعمر بن الخطاب قد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : ( إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ) ، وروي أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه وقال : ( لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ) ومع هذا فما كان يلزم أحدًا بقوله، ولا يحكم في الأمور العامة، بل كان يشاور الصحابة، ويراجع، فتارة يقول قولاً فترده / عليه امرأة فيرجع اليها، كما أراد أن يجعل الصداق محدودًا لا يزاد على صداقات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : من زاد جعلت الزيادة في بيت المال ـ وكان المسلمون يعجلون الصداق قبل الدخول، لم يكونوا يؤخرونه إلا أمرًا نادرًا فقالت امرأة : يا أمير المؤمنين، لم تحرمنا شيئًا أعطانا الله إياه في كتابه ؟ فقال : وأين ؟ فقالت في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا } [ النساء : 20 ] ، فرجع عمر الى قولها، وقال : امرأة أصابت، ورجل أخطأ .
وكان في مسائل النزاع مثل مسائل الفرائض والطلاق يري رأيًا ويري علي بن أبي طالب رأيًا، ويري عبد الله بن مسعود رأيًا، ويري زيد بن ثابت رأيًا، فلم يلزم أحدًا أن يأخذ بقوله، بل كل منهم يفتي بقوله، وعمر ـ رضي الله عنه ـ إمام الأمة كلها، وأعلمهم، وأدينهم، وأفضلهم، فكيف يكون واحد من الحكام خيرًا من عمر، هذا إذا كان قد حكم في مسألة اجتهاد .(2/467)
فكيف إذا كان ما قاله لم يقله أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا من قبلهم من الصحابة والتابعين، وإنما يقوله مثله وأمثاله ممن لا علم لهم بالكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة، وإنما يحكمون بالعادات التي تربوا عليها، كالذين قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 32 ] ، وكما تحكم / الأعراب بالسوالف التي كانت لهم وهي عادات، كما يحكم التتر بالياساق الذي جرت به عاداتهم، وأما أهل الإيمان والإسلام والعلم والدين فإنما يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله، كما قال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] ، وقال تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] .(2/468)
والله ـ سبحانه ـ لم يرض بحكم واحد بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما فإنه لا يعلم أيهما الظالم، وليس بينهما بينة، بل أمر بحكمين، وألا يكونا متهمين، بل حكمًا من أهل الرجل وحكمًا من أهل المرأة، كما قال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا } [ النساء : 35 ] ، أي الحكمين ـ { يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا } أي : بين الزوجين . فإن رأيا المصلحة أن يجمعا بين الزوجين جمعا، وإن رأيا المصلحة أن يفرقا بينهما فرقا : إما بعوض تبذله المرأة فتكون الفرقة خلعًا إن كانت هي الظالمة، وإن كان الزوج هو الظالم فرق بينهما بغير اختياره . وأكثر العلماء على أن هذين حكمان، كما سماهما الله حكمين، يحكمان بغير توكيل الزوجين، وهذا قول مالك والشافعي والإمام أحمد في أحد قوليهما، وقيل : هما وكيلان كقول أبي حنيفة والقول الآخر في المذهبين .
/فهنا لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد، وهو في قضية معينة بين زوجين، ولو حكم حاكم واحد بين الزوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين، فيكف بأمور الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين، وقد اشتبهت على كثير من الناس . هذا بإجماع المسلمين لا يحكم فيه إلا الله ورسوله، فمن كان عنده علم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بينه وأوضحه للمسلمين، والمسلمون إذا عرفوا شرع نبيهم لم يعدلوا عنه .
وإن كان كل قوم يقولون : عندنا علم من الرسول ولم يكن هناك أمر ظاهر يجمعون فيما تنازعوا فيه كان أحد الحزبين لهم أجران، والآخرون لهم أجر واحد، كما قال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَفَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [ الأنبياء : 78، 79 ](2/469)
وولي الأمر إن عرف ماجاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتي يعرف الحق حكم به . وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدًا بقبول قول غيره وإن كان حاكمًا .
/وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم ) ، وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جري مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه، فإن الله يقول في كتابه : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 40، 41 ] ، فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله، ويتكلم بما لا يعلم، فإن الحاكم إذا كان دَيِّنا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولي أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص . وأما إذا حكم حكمًا عامًا في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهي عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهي الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر .(2/470)
يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين مالك يوم الدين، الذي { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَي وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَاليه تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] ، { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا } [ الفتح : 28 ] ، والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
********
وفي منهاج السنة النبوية
منهاج السنة النبوية [ جزء 1 - صفحة 68 ]
وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد وتعمد الكذب كثير فيهم وهم يقرون بذلك حيث يقولون ديننا التقية وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه وهذا هو الكذب والنفاق ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق فهم في ذلك كما قيل رمتني بدائها وانسلت إذ ليس في المظهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم واعتبر ذلك بالغالية من النصيرية وغيرهم وبالملاحدة الإسماعيلية وأمثالهم
وعمدتهم في الشرعيات ما نقل لهم عن بعض أهل البيت وذلك النقل منه ما هو صدق ومنه ما هو كذب عمدا أو خطأ وليسوا أهل معرفة بصحيح المنقول وضعيفه كأهل المعرفة بالحديث ثم إذا صح النقل عن بعض هؤلاء فإنهم بنوا وجوب قبول قول الواحد من هؤلاء على ثلاثة أصول علي أن الواحد من هؤلاء معصوم مثل عصمة الرسول وعلي أن ما يقوله أحدهم فإنما يقول نقلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم قد علم منهم أنهم قالوا مهما قلنا فإنما نقوله نقلا عن الرسول ويدعون العصمة في أهل النقل والثالث أن إجماع العترة حجة ثم يدعون أن العترة هم الاثنا عشر ويدعون أن ما نقل عن أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه(2/471)
فهذه أصول الشرعيات عندهم وهي أصول فاسدة كما سنبين ذلك في موضعه لا يعتمدون على القرآن ولا على الحديث ولا على إجماع إلا لكون المعصوم منهم ولا على القياس وإن كان واضحا جليا وأما عمدتهم في النظر والعقليات فقد اعتمد متأخروهم على كتب المعتزلة ووافقوهم في مسائل الصفات والقدر والمعتزلة في الجملة أعقل وأصدق وليس في المعتزلة من يطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بل هم متفقون على تثبيت خلافة الثلاثة
منهاج السنة النبوية [ جزء 1 - صفحة 306 ]
وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول فلما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين مرقت المارقة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولي الطائفتين بالحق وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق
وحدثت أيضا بدعة التشيع كالغلاة المدعين لإلاهية علي والمدعين النص على علي رضي الله عنه السابين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعاقب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الطائفتين قاتل المارقين وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الإلاهية فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له فقال لهم ما هذا فقالوا أنت هو قال من أنا قالوا أنت الله الذي لا إله إلا هو فقال ويحكم هذا كفر ارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك فأخرهم ثلاثة أيام لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة وقذفهم في تلك النار وروى عنه أنه قال ... لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا ...(2/472)
وقتل هؤلاء واجب باتفاق المسلمين لكن في جواز تحريقهم نزاع فعلي رضي الله عنه رأى تحريقهم وخالفه ابن عباس وغيره من الفقهاء قال ابن عباس أما أنا فلو كنت لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه وهذا الحديث في صحيح البخاري
وأما السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر فإن عليا لما بلغه ذلك طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك وقيل إنه أراد قتله فهرب منه إلى أرض قرقيسيا
منهاج السنة النبوية [ جزء 1 - صفحة 559 ]
فكان الخير الأول النبوة وخلافة النبوة التي لاقته فيها وكان الشر ما حصل من الفتنة بقتل عثمان وتفرق الناس حتى صار حالهم شبيها بحال الجاهلية يقتل بعضهم بعضا
ولهذا قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية فبين أنهم جعلوا هذا غير مضمون كما أن ما يصيبه أهل الجاهلية بعضهم من بعض غير مضمون لأن الضمان إنما يكون مع العلم بالتحريم فأما مع الجهل بالتحريم كحال الكفار والمرتدين والمتأولين من أهل القبلة فالضمان منتف
ولهذا لم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد دم المقتول الذي قتله متأولا مع قوله أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أقتلتله بعد أن قال لا إله إلا الله ولهذا لا تقام الحدود إلا على من علم التحريم
والخير الثاني اجتماع الناس لما اصطلح الحسن ومعاوية لكن كان صلحا على دخن وجماعة على أقذاء فكان في النفوس ما فيها أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو الواقع
منهاج السنة النبوية [ جزء 2 - صفحة 56 ](2/473)
ولهذا كان مناظرة كثيرة من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ففطن لمكرهم فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه ففعل نقيض ما قصدوه ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضا فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج فأبهت النصارى وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى
ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم كقوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة 217 فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام(2/474)
لكن هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين فيه على ما يذم وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم بل هناك شبه في الموضعين وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر وشبهته أضعف وأخفى فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى
وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين وهو حال أهل البدع مع أهل السنة لا سيما الرافضة(2/475)
وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان على وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليا أو النواصب الذين يفسقونه إنه كان ظالما طالبا للدنيا وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه فهذا الكلام إن كان فاسدا ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا فهذا أولى بالتوجه والقبول لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا لا بسيف ولا عصا ولا أعطى أحدا ممن ولاه مالا واجتمعوا عليه فلم يول أحدا من أقاربه وعترته ولا خلف لورثته مالا من مال المسلمين وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله فلم يأخذ بدله وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ماكان عنده لهم وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء ونحو ذلك حتى قال عبدالرحمن بن عوف لعمر أتسلب هذا آل أبي بكر قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ولا قاتل مسلما بمسلم بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر بالعدل والإحسان
فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة أمكن الناصبي أن يقول كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة قاتل على الولاية حتى قتل المسلمين بعضهم بعضا ولم يقاتل كافرا ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم(2/476)
منهاج السنة النبوية [ جزء 2 - صفحة 70 ]
ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الإنتصار للحسين وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم يسفك الدماء بغير حق والمختار كان كذابا يدعى النبوة وإتيان جبريل إليه وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس فإن هذا كفر وإن كان لم يتب منه كان مرتدا والفتنة أعظم من القتل
وهذا باب مطرد لا تجد أحدا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ولا تجد أحدا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه فإن الروافض شر من النواصب والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب
وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ويتكلمون بعلم وعدل ليسو من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ويتبرءون من طريقة الروافض والنوصب جميعا ويتولون السابقين والأولين كلهم ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى أن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه
منهاج السنة النبوية [ جزء 2 - صفحة 92 ](2/477)
ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم مثل عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم لعلمهم بأنهم يخذلونه ولا ينصرونه ولا يوفون له بما كتبوا له إليه وكان الأمر كما رأى هؤلاء ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم دعاء علي بن أبي طالب حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف فكان لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ودب شرهم إلى من لم يكن منهم حتى عم الشر
وهذه كتب المسلمين التي ذكر فها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي وهؤلاء المعروفون في الأمة بقول الحق وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ليس فيهم رافضي كيف والرافضي من جنس المنافقين مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه في الله لومة لائم
إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم سورة المائدة 54
وهذا حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبدالله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا ولم يا أبا عبدالرحمن قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة
فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم وهم كما قال تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون سورة المنافقون 4 ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل(2/478)
ثم يقال من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال إنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم
وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة
منهاج السنة النبوية [ جزء 3 - صفحة 394 ]
وتقدم حديث عبادة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وفي رواية وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم فهذا أمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر وذلك ظلم منه ونهى عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم وهم الذين لهم سلطان يأمرون به وليس المراد من يستحق أن يولى ولا سلطان له ولا المتولى العادل لأنه قد ذكر أنهم يستأثرون فدل على أنه نهى عن منازعة ولي الأمر وإن كان مستأثرا وهذا باب واسع
الوجه الرابع أنا إذا قدرنا أنه يشترط العدل في كل متول فلا يطاع إلا من كان ذا عدل لا من كان ظالما فمعلوم أن اشترط العدل في الولاة ليس بأعظم من اشتراطه في الشهود فإن الشاهد قد يخبر بما لا يعلم فإن لم يكن ذا عدل لم يعرف صدقه فيما أخبر به وأما ولي الأمر فهو يأمر بأمر يعلم حكمه من غيره فيعلم هل هو طاعة لله أو معصية ولهذا قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا سورة الحجرات 6 فأمر بالتبين إذا جاء الفاسق بنبأ ومعلوم أن الظلم لا يمنع من فعل الطاعة ولا من الأمر بها(2/479)
وهذا مما يوافق عليه الإمامية فإنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار فالفسق عندهم لا يحبط الحسنات كلها بخلاف من خالف في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج الذين يقولون إن الفسق يحبط الحسنات كلها ولو حبطت حسناته كلها لحبط إيمانه ولو حبط إيمانه لكان كافرا مرتدا فوجب قتله
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد فدل على أنه ليس بمرتد
وكذلك قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما الأية سورة الحجرات 9 يدل على وجود الإيمان والأخوة مع الاقتتال والبغي وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار أخرجاه في الصحيحين فثبت أن الظالم يكون له حسنات فيستوفي المظلوم منها حقه
وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تعدون المفلس فيكم قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار قال المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال وقد شتم هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار رواه مسلم
وقد قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود 114 فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو إساءاته وإلا لو كانت السيئات قد زالت قبل ذلك بتوبة ونحوها لم تكن الحسنات قد أذهبتها وليس هذا موضع بسط ذلك(2/480)
والمقصود هنا أن الله جعل الفسق مانعا من قبل النبأ والفسق ليس مانعا من فعل كل حسنة وإذا كان كذلك وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يستشهد إلا ذوو العدل ثم يكفي في ذلك الظاهر فإذا اشترط العدل في الولاية فلأن يكفي في ذلك الظاهر أولى
منهاج السنة النبوية [ جزء 3 - صفحة 456 ]
الوجه الخامس أن الحديث روي تفسيره فيه من وجهين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية فقال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي وفي الرواية الأخرى قال هم الجماعة وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ويتقضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين يكفرون أو يفسقون أئمة الجماعة كأبي بكر وعمر وعثمان دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس وكذلك يكفرون أو يفسقون علماء الجماعة وعبادهم كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والاقتداء بهم لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ومعاداة لأهله فإذا كان وصف الفرقة الناجية أتباع الصحابة علىعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك شعار السنة والجماعة كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة فالسنة ما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عليه في عهده مما أمرهم به أو أقرهم عليه أو فعله هو والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعا فالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برأ الله نبيه منهم فعلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة والجماعة لا وصف الرافضة وأن الحديث وصف الفرقة الناجبة باتباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه وبلزوم جماعةالمسلمين(2/481)
فإن قيل فقد قال في الحديث من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية
قلنا نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأتباعه كمسيلمة الكذاب وأتباعه وغيرهم وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم مثل هذا الإمامي وغيره ويقولون إنهم كانوا على الحق وأن الصديق قاتلهم بغير حق ثم من أظهر الناس ردة الغالية الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار لما ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبدالله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر
وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن ابي عبيد وكان من الشيعة فعلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ولهذا لا يعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالون مرتدين على اعقابهم هم بالرافضة أولى منهم بأهل السنة والجماعة
وهذا بين يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من جنس المرتدين والمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة إن كان فيهم مرتد
منهاج السنة النبوية [ جزء 4 - صفحة 299 ]
وقد قال تعالى في القران في صفة المنافقين ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ومنهم الذين يؤذون النبي ومنهم من عاهد الله ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني فمنهم من يقول أيكم زادنه هذه إيمانا
وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه(2/482)
بل لو قال كنا نعرف المنافقين ببغض على لكان متوجها كما أنهم أيضا يعرفون ببغض الأنصار بل وببغض أبي بكر وعمر وببغض هؤلاء فإن كل من أبغض ما يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويواليه وأنه كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويواليه كان بغضه شعبة من شعب النفاق والدليل يطرد ولا ينعكس ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقا المبغضين لأبي بكر لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه ولا كان فيهم أعظ حبا للنبي صلى الله عليه وسلم منه فبعضه من أعظم ايات النفاق ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم
وإن قال قائل فالرافضة الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدوا للنبي صلى الله عليه وسلم لما يذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فأبغضوه لذلك
قيل إن كان هذا عذرا يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلا وتأويلا فكذلك المبغضون لعلي الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد أو ظالم فاسق فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام أو لما أحبه الله وأمر به من العدل ولاعتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق وأراد علوا في الأرض وفسادا وكان كفرعون ونحوه فإن كانوا جهالا فليسوا بأجهل ممن اعتقد في عمر أنه فرعون هذه الأمة فإن لم يكن بغض أولئك لأبي بكر وعمر نفاقا لجهلهم وتأويلهم فكذلك بغض هؤلاء لعلي بطريق الأولى والأحرى وإن كان بغض على نفاقا وإن كان المبغض جاهلا متأولا فبغض أبي بكر وعمر أولى أن يكون نفاقا حينئذ وإن كان المبغض جاهلا متأولا
منهاج السنة النبوية [ جزء 4 - صفحة 452 ]
فصل(2/483)
ومما ينبغي أن يعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها كالقتال واللعن والتكفير وقد ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فعلوته بالسيف فقال لا إله إلا الله فطعنته فقتلته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله قال قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا من السلاح ألا فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ وفي الصحيحين عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطعها ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فإنك إنقتلته فإنه يمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أ يقول كلمته التي قالها
فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قوما مسلمين لا يحل قتلهم ومع هذا فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ضمن المقتول بقود ولادية ولا كفارة لأن القاتل كان متأولا وهذا قول أكثر العلماء كالشافعي وأحمد وغيرهما ومن الناس من يقول بل كانوا أسلموا ولم يهاجروا فثبتت في حقهم العصمة المؤثمة دون المضمنة بمنزلة نساء أهل الحرب وصبيانهم كما يقوله أبو حنيفة وبعض المالكية ثم إن جماهير العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه يقولون إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء من النفوس والأموال حال القتال ولم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء(2/484)
كما قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القران فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية يعني بذلك أن القاتل لم يكن يعتقد أنه فعل محرما وإن قيل إنه محم في نفس الأمر فقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة واتفاق المسلمين أن الكافر الحربي إذا قتل مسلما أو أتلف ما له ثم أسلم لم يضمنه بقود ولا دية ولا كفارة مع أن قتله له كان من أعظم الكبائر لأنه كان متأولا وإن كان تأويله فاسدا
وكذلك المرتدون المتنعون إذا قتلوا بعض المسلمين لم يضمنوا دمه إذا عادوا إلى الإسلام عند أكثر العلماء كما هو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وإن كان من متأخري أصحابه من يحكيه قولا كأبي بكر عبد العزيز حيث قد نص أحمد على أن المرتد يضمن ما أتلفه بعد الردة
فهذا النص في المرتد المقدور عليه وذاك في المحارب الممتنع كما يفرق بين الكافر الذمى والمحارب أو يكون في المسألة روايتان وللشافعي قولان وهذا هو الصواب فإن المرتدين الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة لم يضمنهم الصحابة بعد عودهم إلى الإسلام بما كانوا قتلوه من المسلمين وأتلفوه من أموالهم لأنهم كانوا متأولين
فالبغاة المتأولون كذلك لم تضمنهم الصحابة رضي الله عنهم وإذا كان هذا في الدماء والأموال مع أن من أتلفها خطأ ضمنها بنص القران فكيف في الأعراض مثل لعن بعضهم بعضا وتكفير بعضهم بعضا(2/485)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث الإفك قال النبي صلى الله عليه وسلم من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا والله ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي قال سعد بن معاذ أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال ذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير فقال كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فاستب الحيان حتى جعل رسول الله صلى الله ليه وسلم يخفضهم وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه يريد الدفع عن عبد الله بن أبي المنافق فقال له أسيد بن حضير إنك منافق وهذا كان تأويلا منه
وكذلك ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لحاطب بن أبي بلتعه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق لما كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وثبت في الصحيحين أن طائفة من المسلمين قالوا في مالك بن الدخشن إنه منافق فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكفرهم فقد ثبت أن في الصحابة من قال عن بعض أمته إنه منافق متأولا في ذلك ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم واحدا منهما
منهاج السنة النبوية [ جزء 4 - صفحة 489 ]
فصل(2/486)
قال الرافضي ولما قبض الني صلى الله عليه وسلم وأنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا ومائتي نفر مع تظاهرهم بالإسلام وقتل مالك بن نويرة صبرا وهو مسلم وعرس بامرأته وسموا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لأنهم لم يعتقدوا إمامته واستحل دماءهم وأموالهم ونساءهم حتى أنكر عمر عليه فسموا مانع الزكاة مرتدا ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدا مع أنهم سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم يا علي حربك حربي وسلمك سلمي ومحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر بالإجماع
والجواب
بعد أن يقال الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين أتباع المرتدين الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه ومرقوا من الإسلام ونبذوه وراء ظهورهم وشاقوا الله ورسوله وعباده المؤمنين وتولوا أهل الردة والشقاق فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصديق رضي الله عنه وحزبه من أصولهم من جنس المرتدين الكفار كالمرتدين الذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه(2/487)
وذلك أن أهل اليمامة هم بنو حنيفة الذين كانوا قد امنوا بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قدم المدينة وأظهر الإسلام وقال إن جعل محمد لي الأمر من بعده امنت به ثم لما صار إلى اليمامة ادعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة وأن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه على ذلك وشهد له الرجال بن عنفوة وكان قد صنف قرانا يقول فيه والطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا فالخابزات خبزا إهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ولكن قريشا قوم لا يعدلون ومنه قوله لعنه الله يا ضفدع بنت ضفدعين نقى كم تنقين لا الماء تدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء ودنبك في الطين ومنه قوله لعنه الله الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل ونحو ذلك من الهذيان السج الذي قال فيه الصديق رضي الله عنه لقومه لما قرؤوه عليه ويلكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل
وكان هذا الكذاب قد كتب للنبي صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فقاتله بمن معه من المسلمين بعد أن قاتل خالد بن الوليد طليحة الأسدي الذي كان أيض قد ادعى النبوة واتبعه طوائف من أهل نجد فلما نصر الله المؤمنين على هؤلاء وهزموهم وقتل ذلك اليوم عكاشة بن محصن الأسدي وأسلم بعد ذلك طليحة الأسدي هذا ذهبوا بعد ذلك إلى قتال مسيلمة الكذاب البيمامة ولقي المؤمنون في حربه شدة عظيمة وقتل في حربه طائفة من خيار الصحابة مثل زيد بن الخطاب وثابت بن قيس بن الشماس وأسيد بن حضير وغيرهم(2/488)
وفي الجملة فأمر مسيلمة الكذاب وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له باليمامة وقتال الصديق لهم على ذلك أمر متواتر مشهور قد علمه الخاص والعام كتواتر أمثاله وليس هذا من العلم الذي تفرد به الخاصة بل علم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال الجمل وصفين فقد ذكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفين وهذا الإنكار وإن كان باطلا فلم نعلم أحدا أنكر قتال أهل اليمامة وأن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة وأنهم قاتلوه على ذلك لكن هؤلاء الرافضة من جحدهم لهذا وجهلهم به بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دفنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم لموالاة أبي بكر وعمر للنبي صلى اله عليه وسلم ودعواهم أنه نص على علي بالخلافة بل منهم من ينكر أن تكون زينب ورقية وأم كلثوم من بنات النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافرا قبل النبي صلى الله عليه وسلم
ومنهم من يقول إن عمر غصب بنت علي حتى زوجه بها وأنه تزوج غصبا في الإسلام ومنهم من يقول إنهم بعجوا بطن فاطمة حتى أسقطت وهدموا سقف بيتها على من فيه وأمثال هذه الأكاذيب التي يعلم من له أدنى علم ومعرفة أنها كذب فهم دائما يعمدون إلى الأمور المعلومة المتواترة ينكرونها وإلى الأمور المعدومة التي لا حقيقة لها يثبتونها فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق فهم يفترون الكذب ويكذبون بالحق وهذا حال المرتدين
وهم يدعون أن أبا بكر وعمر ومن اتبعهما ارتدوا عن الإسلام وقد علم الخاص والعام أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدين فإذا كانوا يدعون أن أهل اليمامة مظلومون قتلوا بغير حق وكانوا منكرين لقتال أولئك متأولين لهم كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لأولئك السلف وأن الصديق وأتباعه يقاتلون المرتدين في كل زمان
وقوله إنهم سموا بني حنيفة مرتدين لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر(2/489)
فهذا من أظهر الكذب وأبينه فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم امنوا بمسيلمة الكذاب واعتقدوا نبوته وأما مانعو الزكاة فكانوا قوما اخرين غير بني حنيفة وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم وأما مانعو الزكاة فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال له أبو بكر ألم يقل إلا بحقها فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه وهؤلاء لم يقاتلوهم لكونهم لم يؤدوها إلى الصديق فإنهم لو أعطوها بأنفسهم لمستحقيها ولم يؤدوها إليه لم يقاتلهم هذا قول جمهور العلماء كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقالوا إذا قالوا نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام لم يكن له قتالهم فإن الصديق رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على طاعته ولا ألزام أحدا بمبايعته ولهذا لما تخلف عن بيعته سعد لم يكرهه على ذلك
فقول القائل سموا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لأنهم لم يعتقدوا إمامته من أظهر الكذب والفرية وذلك قوله إن عمر أنكر قتال بني حنيفة
وأما قوله ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدا مع أنهم سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم يا علي حربك حربي وسلمك سلمي ومحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر بالإجماع(2/490)
فيقال في الجواب أولا دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم أو عنه كذب عليهم فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء الحديث المعروفة لا روي بإسناد معروف ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه فإنه لم يسمع كل منهم كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف إذا لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولا روي بلإسناد معروف بل كيف إذا علم أنه كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم بالحديث
وعلي رضي الله عنه لم يكن قتاله يوم الجمل وصفين بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأياه راه
وقال أبو داوود في سننه حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي حدثنا اب علية عن يونس عن الحسن عن قيس بن عباد قال قلت لعلي رضي الله عنه أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته قال ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولكنه رأى رأيته
ولو كان محارب علي محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتدا لكان علي يسير فيهم السيرة في المرتدين وقد تواتر عن علي يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتبع مدبرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يغنم لهم مالا ولا سبى لهم ذرية وأمر مناديه ينادي في عسكره أن لا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريحهم ولا تغنم أموالهم ولو كانوا عنده مرتدين لأجهز على جريحهم واتبع مدبرهم
وهذا مما أنكره الخوارج عليه وقالوا له إن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم وإن كانوا كفارا فلم حرمت أموالهم ونساءهم فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما فناظرهم وقال لهم كانت عائشة فيهم فإن قلتم إنها ليست أمنا كفرتم بكتاب الله وإن قلتم هي أمنا استحللتم وطأها كفرتم بكتاب الله
وكذلك أصحاب الجمل كان يقول فيهم إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف(2/491)
وقد نقل عنه رضي الله عنه أنه صلى على قتلى الطائفتين وسيجىء إن شاء الله بعض الاثار بذلك
وإن كان أولئك مرتدين وقد نزل الحسن عن أمر المسلمين وسلمه إلى كافر مرتد كان المعصوم عندهم قد سلم أمر المسلمين إلى المرتدين وليس هذا من فعل المؤمنين فضلا عن المعصومين
وأيضا المرتدون منتصرين على المؤمنين دائما
والله تعالى يقول في كتابه إنا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ويقول في كتابه ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرلسني إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ويقول في كتابه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
وهؤلاء الرافضة الذين يدعون أنهم المؤمنون إنما لهم الذل والصغار ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس
وأيضا فإن الله تعالى يقول في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وقال إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظئمتين من المسلمين وقال لعمار تقتلك الفئة الباغية لم يقل الكافرة
وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم بالحديث وهي مروية بأسانيد متنوعة لم يأخذ بعضهم عن بعض وهذا مما يوجب العلم بمضمونها وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان ومدح من أصلح الله به بينهما وقد أخبر أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى الطائفتين إلي الحق
ثم يقال لهؤلاء الرافضة لو قالت لكم النواصب علي قد استحل دماء المسلمين وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله على رياسته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وقال ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فيكون علي كافرا لذلك لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم لأن الأحاديث التي احتجوا بها صحيحة(2/492)
وأيضا فيقولون قتل النفوس فساد فمن قتل النفوس على طاعته كان مريدا للعلو في الأرض والفساد وهذا حال فرعون والله تعالى يقول تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الاخرة وليس هذا كقتال الصديق للمرتدين ولمانعي الزكاة فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله لا على كاعته فإن الزكاة فرض عليهم فقاتلهم عللا الإقرار بها وعلى أدائها بخلاف من قاتل ليطاع هو ولهذا قال للإمام حمد وأبو حنيفة وغيرهما من قال أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام لم يكن للإمام أن يقاتله وهذا فيه نزاع بين الفقهاء فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعي رحمه الله ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله لا على ترك طاعة شخص معين لم يجوز قتال هؤلاء
وفي الجملة فالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به فلهذا كانوا مرتدين بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين كمعاوية وأهل الشام فإن هؤلاء كانوا مقرين بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وقالوا نحن نقوم بالواجبات من غير دخول في طاعة علي رضي الله عنه لما علينا في ذلك من الضرر فأين هؤلاء من هؤلاء(2/493)
وأعلم أن طائفة من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد جعلوا قتال مانعي الزكاة وقتال الخوارج جميعا من قتال البغاة وجعلوا تال الجمل وصفين من هذا الباب وهذا القول خطأ مخالف لقول الأئمة الكبار وهو خلاف نص مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة السلف ومخالف للسنة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخوارج أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم واتفق على ذلك الصحابة وأما القتال بالجمل وصفين فهو قتال فتنة وليس فيه أمر من الله ورسوله ولا إجماع من الصحابة وأما قتال مانعي الزكاة إذا كانوا ممتنعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها فهو أعظم من قتال الخوارج وأهل صفين لم يبدؤوا عليا بالقتال وأبو حنيفة وغيره ولا يجوزون قال البغاة إلا أن يبدؤوا الإمام بالقتال وكذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك لا يجوزون قتال من قام بالواجب إذا كانت طائفة ممتنعة قالت لا نؤدي وكاتنا إلى فلان فيجب الفرق بين قتال المرتدين وقتال الخوارج المارقين(2/494)
وأما قتال البغاة المذكورين في القران فنوع ثالث غير هذا وهذا فإن الله تعالى لم يأمر بقتال البغاة ابتداء بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين بالإصلاح بينهما وليس هذا حكم المرتدين ولا حكم الخوارج والقتال يوم الجمل وصفين فيه نزاع هل هو من باب قتال البغاة المأمور به في القران أو هو قتال فتنة القاعد فيه خير من القائم فالقاعدون من الصحابة وجمهور أهل الحديث والسنة وأئمة الفقهاء بعدهم يقولون هو قتال فتنة ليس هو قتال البغاة المأمور به في القران فإن الله لم يأمر بقتال المؤمنين البغتة ابتداء لمجرد بغيهم بل إنما أمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم وقوله فإن بغت إحداهما على الأخرى ويعود الضمير فيه إلى الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين لا يعود إلى طائفة مؤمنة لم تقاتل بالتقدير فإن بغت أحدى الطائفتين المؤمنتين المقتتلتين على الأخرى فقاتلوا الباغية حتى تفىء إلى أمر الله فمتي كانت طائفة باغية ولم تقاتل لم يكن في الاية أمر بقتالها
ثم إن كان قوله فإن بغت إحداهما على الأخرى بعد الإصلاح فهو أوكد وإن كان بعد الاقتتال حصل المقصود
وحينئذ فأصحاب معاوية إن كانوا قد بغوا قبل القتال لكونهم لم يبايعوا عليا فليس في الاية الأمر بقتال من بغى ولم يقاتل وإن كان بغيهم بعد الاقتتال والإصلاح وجب قتالهم لكن هذا لم يوجد فإن أحدا لم يصلح بينهما
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها هذه الاية ترك الناس العمل بها يعنب إن ذاك
وإن كان بغيهم بعد الاقتتال وقبل الإصلاح فهنا إذا قيل بجواز القتال فهذا القدر إنما حصل في أثناء القتال وحينئذ فشل أصحاب علي ونكلوا عن القتال لما رفعوا المصاحف ففي الحال التي أمر بقتالهم فيها لم يقاتلوهم وفي الحال التي قاتلوهم لم يكن قتالهم مأمورا به فإن كان أولئك بغاة معتدين فهؤلاء مفرطون مقصرون ولهذا ذلوا وعجزوا وتفرقوا وليس الإمام مأمورا بأن يقاتل بمثل هؤلاء(2/495)
وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم بخلاف الكلام في تكفيرهم فإن هذا أمر يعلم فساده الخاصة والعامة بالدلائل الكثيرة
ومما يبين كذب هذا الحديث أنه لو كان حرب علي حربا لرسول الله صلى لله عليه وسلم والله تعالى قد تكفل بنصر رسوله كما في قوله تعالى إنا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وكما في قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن القتال وإن كان واقعا باجتهاد فليس هو من القتال الذي يكون محارب أصحابه محاربا له ورسوله ثم إنه لو قدر أنه محارب لله ورسوله فالمحاربون قطاع الطريق لا يكفرون إذا كانوا مسلمين
وقد تنازع الناس في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوه وتسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا هل هي في الكفار أو في المسلمين ومن يقول إنها في المسلمين يقول إن الله تعالى يقول إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ولو كانوا كفارا مرتدين لم يجز أن يقتصر على قطع أيدهم ولا نفيهم بل يجب قتلهم فإن المرتد يجب قتله
وكذلك من كان متأولا في محاربته مجتهدا لم يكن كافرا كقتل أسامة بن زيد لذلك المسلم متأولا لم يكن به كافرا وإن كان استحلال قتل المسلم المصعوم كفرا وكذلك تكفير المؤمن كفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ومع هذا إذا قالها متأولا لم يكفر كما قال بن عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة دعني أضرب عنق هذا المنافق وأمثاله وكقول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك لمنافق تجادل عن المنافقين في قصة الإفك
منهاج السنة النبوية [ جزء 4 - صفحة 508 ](2/496)
وأما ثانيا فهذا الكلام كلام بلا حجة بل هو باطل في نفسه فلم قلت إن شرا من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان معصية وذلك أن أحدا لا يجري مع إبليس في ميدان معصيته كلها فلا يصور أن يكون في الادميين من يساوي إبليس في معصيته بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم
وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك فإن الردة تحبط العمل فما تقدم من طاعته إن كان طاعة فهي حابطة بكفره وردته وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه فامتنع أن يكون أحد شرا منه وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة وشاركه في قليل من معاصيه لا يكون شرا منه فكيف يكون أحد شرا من إبليس
وهذا ينقض أصول الشيعة حقها وباطلها وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب علي الذين قاتلوا معه وكانوا أحيانا يعصونه شرا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية
ويقال ثالثا ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة وأنه كان يحمل العرش وحده ستة الاف سنة أو أنه كان من حملة العرش في الجملة أو أنه كان طاووس الملائكة أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سحدة وركعة ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس
فإن هذا أمرإنما يعلم بالنقل الصادق وليس في القران شيء من ذلك ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين وأعجب من ذلك قوله ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة(2/497)
فيقال من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين فضلا عن أن يكون هذا متفقا عليه بين العلماء وهذا شيء لم يقله قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل ولم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف فإن كان قاله بعض الوعاظ أو المصنفين في الرقائق أو بعض من ينقل في التفسير من الاسرائيليات مالا إسناد له فمثل هذا لا يحتج به في جرزة بقل فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرا من كل من عصى الله من بني ادم ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم
وما وصف الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته
منهاج السنة النبوية [ جزء 4 - صفحة 512 ]
ويقال خامسا قوله إن معاوية لم يزل في الإشراك إلى أن أسلم به يظهر الفرق فيما قصد به الجمع فإن معاوية أسلم بعد الكفر وقد قال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وتاب من شركه وأقام الصلاة واتى الزكاة وقد قال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فإخوانكم في الدين
وإبليس كفر بعد إيمانه فحبط إيمانه بكفره وذاك حبط كفره بإيمانه فكيف يقاس من امن بعد الكفر بمن كفر بعد الإيمان(2/498)
ويقال سادسا قد ثبت إسلام معاوية رضي الله عنه والإسلام يجب ما قبله فمن ادعى أنه ارتد بعد ذلك كان مدعيا دعوى بلا دليل لو لم يعلم كذب دعواه فكيف إذا علم كذب دعواه وأنه ما زال على الإسلام إلى أن مات كما علم بقاء غيره على الإسلام فالطريق الذي يعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم يعلم به بقاء إسلام معاوية رضي الله عنه والمدعي لارتداد معاوية وعمان وابي بكر وعمر رضي الله عنهم ليس هو أظهر حجة من المدعي لارتداد علي فإن كان المدعي لارتداد علي كاذبا فالمدعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبا لأن الحجة على بقاء إيمان هؤلاء أظهر وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض
ويقال سابعا هذه الدعوى إن كانت صحيحة ففيها من القدح والغضاضة بعلي والحسن وغيرهما مالا يخفي وذلك أنه كان مغلوبا مع المرتدين وكان الحسن قد سلم أمرالمسلمين إلى المرتدين وخالد بن الوليد قهر المرتدين فيكون نصر الله لخالد على الكفار أعظم من نصره لعلي والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحدا منهما فيكون ما استحقه خالد من النصر أعظم مما استحقه علي فيكون أفضل عند الله منه
بل وكذلك جيوش أبو بكر وعمر وعثمان ونوابهم فإنهم كانوا منصورين على الكفار وعلي عاجز عن مقاومة المرتدين الذين هم من الكفار أيضا
فإن الله سبحانه وتعالى يقول ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم
وعلي رضي الله عنه دعا معاوية إلم السلم في اخر الأمر لما عجز عن دفعه عن بلاده وطلب منه أن يبقى كل واحد منهما على ما هو عليه وقد قال تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فإن كان أصحابه مؤمنين وأولئك مرتدين وجب أن يكونوا الأعلين وهو خلاف الواقع(2/499)
ويقال ثامنا من قال إن معاوية رضي الله عنه استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين ولم قلت إنه علم أن ولايته صحيحة وأن طاعته واجبة عليه فإن الدليل على ثبون ولايته ووجوب طاعته من المسائل المشتبهة التي لا تظهر إلا بعد بحث ونظر بخلاف من أجمع الناس على طاعته وبتقدير أن يكون علم ذلك فليس كل من عصى يكون مستكبرا عن طاعة الله والمعصية تصدر تارة عن شهوة وتارة عن كبر وهل يحكم على كل عاص بأنه مستكبر عن طاعة الله كاستكبار إبليس
ويقال تاسعا قوله وبايعه الكل بعد عثمان
إن لم يكن هذا حجة فائدة فيه وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم وأنتم لا ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافرا بل مؤمنا تقيا
منهاج السنة النبوية [ جزء 4 - صفحة 547 ]
والذنوب ترفع عقوبتها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة والقتل الذي وقع في الأمة مما يكفر الله به ذنوبها كما جاء في الحديث والفتنة هي من جنس الجاهلية كما قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القران فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية
وذلك أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق فبالهدى يعرف الحق وبدين الحق يقصد الخير ويعمل به فلا بد من علم بالحق وقصد له وقدرة عليه والفتنة تضاد ذلك فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم ويكون فيه من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير
ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده ولهذا يقال فتنة عمياء صماء ويقال فتن كقطع الليل المظلم ونحن ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها وخفاء العلم(2/500)
فلهذا كان أهلها بمنزلة أهل الجاهلية ولهذا لا تضمن فيها النفوس والأموال لأن الضمان يكون لم يعرف أنه أتلف نفس غيره أو ماله بغير حق فأما من لم يعرف ذلك كأهل الجاهلية من الكفار والمرتدين والبغاة المتأولين فلا يعرفون ذلك فلا ضمان عليهم كما لا يضمن من علم أنه أتلفه بحق وإن كان هذا مثابا مصيبا
وذلك من أهل الجاهلية إما أن يتوبوا من تلك الجهالة فيغفر لهم بالتوبة جاهليتهم وما كان فيها وإما أن يكونوا ممن يستحق العذاب على الجهالة كالكفار فهؤلاء حسبهم عذاب الله في الاخرة وإما أن يكون أحدهم متأولا مجتهدا مخطئا فهؤلاء إذا غفر لهم خطؤهم غفر لهم موجبات الخطأ أيضا
منهاج السنة النبوية [ جزء 4 - صفحة 559 ]
وأما ما ذكره من الأحداث والعقوبات الحاصلة بقتل الحسين فلا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب وأن فاعل ذلك والراضي به والمعين عليه مستحق لعقاب الله الذي يستحقه أمثاله لكن قتله ليس بأعظم من قتل من هو أفضل منه من النبيين والسابقين الأولين ومن قتل في حرب مسيلمة وكشهداء أحد والذين قتلوا ببئر معونة وكقتل عثمان وقتل على لا سيما والذين قتلوه أباه عليا كانوا يعتقدونه كافرا مرتدا وإن قتله من أعظم القربات بخلاف الذين قتلوا الحسين فإنهم لم يكونوا يعتقدون كفره وكان كثير منهم أو أكثرهم يكرهون قتله ويرونه ذنبا عظيما لكن قتلوه لغرضهم كما يقتل الناس بعضهم بعضا على الملك
وبهذا وغيره يتبين أن كثيرا مما روى في ذلك كذب مثل كون السماء أمطرت دما فإن هذا ما وقع قط في قتل أحد ومثل كون الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تظهر قبل ذلك فإن هذا من الترهات فما زالت هذه الحمرة تظهر ولها سبب طبيعي من جهة الشمس فهي بمنزلة الشفق
وكذلك قول القائل إنه ما رفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم عبيط
هو أيضا كذب بين
وأماقول الزهري ما بقى أحد من قتلة الحسين إلا عوقب في الدنيا(3/1)
فهذا ممكن وأسرع الذنوب عقوبة البغي والبغي على الحسين من أعظم البغي
منهاج السنة النبوية [ جزء 5 - صفحة 7 ]
وأما قوله إنهم جعلوه إماما لهم حيث نزهه المخالف والموفق وتركوا غيره حيث روى من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته
فيقال هذا كذب بين فإن عليا رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون بل القادحون في علي طوائف متعددة وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه فإن الخوارج متفقون على كفره وهم عند المسلمين كلهم خبر من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته بل هم والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الأثنى عشرية الذين اعتقدوه إماما معصوما وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما والمروانية الذين ينسبون عليا إلى الظلم ويقولون أنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم فكيف يقال مع هذا إن عليا نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة
ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفه وهم أعلم من الرافضة وأدين والرافضة عاجزون معهم علما ويدا فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم(3/2)
والذين قدحوا في علي رضي الله عنه وجعلوه كافرا وظالما ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة كالغالية الذين يدعون إلاهيته من النصيرية وغيرهم وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيريه وكالغالية الذين يدعون نبوته فإن هؤلاء كفار مرتدون كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام فمن اعتقد في بشر الإلهية أو اعتقد بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيا أو أنه لم يكن نبيا بل كان علي هو النبي دونه وإنما غلط جبريل فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة
بخلاف من يكفر عليا ويلعنه من الخوارج وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت العتيق ويحرمون ما حرم الله ورسوله وليس فيهم كفر ظاهر بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام فكيف يدعي مع هذا أن جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة
بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون عليا وجد هؤلاء خيرا من أولئك من وجوه متعددة فالمنزهون لعثمان القادحون في علي أعظم وأدين وأفضل من المنزهين لعلي القادحين في عثمان كالزيدية مثلا
فمعلوم أن الذين قاتلوه ولعنوه وذموه من الصحابة والتابعين وغيرهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي رضي الله عنه وتحقيق إيمانه ووجوب موالاته لم يكن في المتولين له من يقدر أن يقاوم المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية فإن هؤلاء طوائف كثيرة(3/3)
ومعلوم أن شر الذين يبغضونه هم الخوارج الذين كفروه واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام واستحلو قتله تقربا إلى الله تعالى حتى قال شاعرهم عمران بن حطان ... يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا ... إني لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا ...
فعارضه شاعر أهل السنة فقال ... ياضربة من شقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذى العرش خسرانا ... إني لأذكره حينا فألعنه ... لعنا وألعن عمران بن حطانا وهؤلاء الخوارج كانوا ثمان عشرة فرقة كالأزارقة أتباع نافع بن الأزرق والنجدات أتباع نجدة الحروري والإباضية أتباع عبدالله بن إباض ومقالاتهم وسيرهم مشهورة في كتب المقالات والحديث والسير وكانوا موجودين في زمن الصحابة والتابعين يناظرونهم ويقاتلونهم والصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم ومع هذا فلم يكفروهم ولا كفرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وأما الغالية في علي رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم وكفرهم علي بن أبي طالب نفسه وحرقهم بالنار وهؤلاء الغالية يقتل الواحد منهم المقدور عليه وأما الخوارج فلم يقاتلهم علي حتى قتلوا واحدا من المسلمين وأغاروا على أموال الناس فأخذوها فأولئك حكم فيهم علي وسائر الصحابة بحكم المرتدين وهؤلاء لم يحكموا فيهم بحكم المرتدين وهذا مما يبين أن الذين زعموا أنهم والوه دون أبي بكر وعمر وعثمان يوجد فيهم من الشر والكفر باتفاق علي وجميع الصحابة ما لا يوجد في الذين عادوه وكفروه ويبين أن جنس المبغضين لأبي بكر وعمر شر عند علي وجميع الصحابة من جنس المبغضين لعلي
منهاج السنة النبوية [ جزء 5 - صفحة 172 ](3/4)
وكذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع الأمور فهم في علي وسط بين الخوارج والروافض وكذلك في عثمان وسط بين المرواينة وبين الزيدية وكذلك في سائر الصحابة وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم وهم في الوعيد وسط بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة وهم في القدر وسط بين القدرية من المعتزلة ونحوهم وبين القدرية المجبرة من الجهمية ونحوهم وهم في الصفات وسط بين المعطلة وبين الممثلة
والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد لا ينفردون قط بقول صحيح وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر وليس في الطوائف المنتسبين إلى السنة أبعد عن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرافضة
فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالا في غاية الفساد مثل تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب مضاهاة لليهود وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل المغرب ومثل صومهم قبل الناس بيومين وفطرهم قبل الناس بيومين مضاهاة لمبتدعة أهل الكتاب الذين عدلوا عن الصوم بالهلال إلى الإجتماع وجعلوا الصوم بالحساب
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنا أمة أمية لا تحسب ولا تكتب إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فأكملوا العدة ومثل تحريمهم بعض أنواع السمك مضاهاة لليهود في تحريم الطيبات ومثل معاونة الكفار على قتال المسلمين وترغيب الكفار في قتال المسلمين وهذا لا يعرف لأحد من فرق الأمة(3/5)
ومثل تنجيس المائعات التي يباشرها أهل السنة وهذا من جنس دين السامرة وهم رافضة اليهود هم في اليهود كالرافضة في المسلمين والرافضة تشابههم من وجوه كثيرة فإن السامرة لا تؤمن بنبي بعد موسى وهارون غير يوشع وكذلك الرافضة لا تقر لأحد من الخلفاء والصحابة بفضل ولا إمامة إلا لعلي والسامرة تنجس وتحرم ما باشره غيرهم من المائعات وكذلك الرافضة والسامرة لا يأكلون إلا ذبائح أنفسهم وكذلك الرافضة فإنهم يحرمون ذبائح أهل الكتاب ويحرم أكثرهم ذبائح الجمهور لأنهم مرتدون عندهم وذبيحة المرتد لا تباح والسامرة فيهم كبر ورعونة وحمق ودعاو كاذبة مع القلة والذلة وكذلك الرافضة والرافضة تجعل الصلوات الخمس ثلاث صلوات فيصلون دائما الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا وهذا لم يذهب إليه غيرهم من فرق الأمة وهو يشبه دين اليهود فإن الصلوات عندهم ثلاث وغلاة العباد يوجبون على أصحابهم صلاة الضحى والوتر وقيام الليل فتصير الصلاة عندهم سبعا وهو دين النصارى والرافضة لا تصلي جمعة ولا جماعة لا خلف أصحابهم ولا غير أصحابهم ولا يصلون إلا خلف المعصوم ولا معصوم عندهم وهذا لا يوجد في سائر الفرق أكثر مما يوجد في الرافضة فسائر أهل البدع سواهم لا يصلون الجمعة والجماعة إلا خلف أصحابهم كما هو دين الخوارج والمعتزلة وغيرهم وأما أنهم لا يصلون ذلك بحال فهذا ليس إلا للرافضة
ومن ذلك أنهم لا يؤمنون في الصلاة هم أو بعضهم وهذا ليس لأحد من فرق الأمة بل هو دين اليهود فإن اليهود حسدوا المؤمنين على التأمين وقد حكى طائفة عن بعضهم أنه يحرم لحم الإبل وكان ذلك لركوب عائشة على الجمل وهذا من أظهر الكفر وهو من جنس دين اليهود وكثير من عوامهم يقول إن الطلاق لا يكون إلا برضا المرأة وعلماؤهم ينكرون هذا وهذا لم يقله أحد غيرهم
وهم يقولون بإمام منتظر موجود غائب لا يعرف له عين ولا أثر ولا يعلم بحس ولا خبر لا يتم الإيمان إلا به(3/6)
منهاج السنة النبوية [ جزء 5 - صفحة 228 ]
وأما الصلاة المكتوبة فلا تدخلها النيابة بحال وكذلك صوم رمضان إن كان قادرا عليه وإلا سقط عنه الصوم وأطعم هو عن كل يوم مسكينا عند الأكثرين وعند مالك لا شيء عليه وأما ما وردت به السنة من صيام الإنسان عن وليه فذاك في النذر كما فسرته الصحابة الذين رووه بهذا كما يدل عليه لفظه فإنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه والنذر في ذمته وهو عليه وأما صوم رمضان فليس في ذمته ولا هو عليه بل هو ساقط عن العاجز عنه
فلما كانت الصلوات الخمس وصيام رمضان لا يفعله أحد عن أحد أصلا لم يكن لهما بدل بخلاف الحج وغيره فلهذا وسع الشارع في قضائهما للمعذور لحاجته به إلى ذلك توسعة منه ورحمة وغيرهما لم يوسع في قضائه لأحد لأنه لا حاجة إلى قضائه لما شرع من البدل إما عبادة أخرى كالظهر عن الجمعة والدم عن واجبات الحج وإما فعل الغير كالحج عن المغضوب والميت
فهذا يبين الفرق بين الصلاة والصوم وغيرهما وبين المعذور وغيره ويبين أن من وسع فيهما لغير المعذور كما يوسع للمعذور فقد أخطأ القياس
الجواب الثاني أنا لم نفس قياسا استفدنا به حكم الفرع من الأصل فإن ما ذكرناه ثابت بالأدلة الشرعية التي لا تحتاج إلى القياس معها كما تقدم لكن ذكرنا القياس ليتصور الإنسان ما جاء به الشرع في هذا كما يضرب الله الأمثال للتفهيم والتصوير لا لأن ذلك هو الدليل الشرعي
والمراد بهذا القياس أن يعرف أن فعل الصلاة بعد الوقت حيث حرم الله ورسوله تأخيرها بمنزلة فعل هذه العبادات والمقصود تمثيل الحكم بالحكم لا تمثيل الفعل بالفعل فيعرف أن المقصود أن الصلاة ما بقيت تقبل ولا تصح كما لا تقبل هذه ولا تصح فإن من الجهال من يتوهم أن المراد بذلك تهوين أمر الصلاة وأن من فوتها سقط عنه القضاء فيدعو ذلك السفهاء إلى تفويتها(3/7)
وهذا لا يقوله مسلم بل من قال إن من فوتها فلا إثم عليه فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولكن تفويت الصلاة عمدا مثل تفويت شهر رمضان عمدا بإجماع المسلمين فأجمع المسلمون كلهم من جميع الطوائف على أن من قال لا أصلي صلاة النهار إلا بالليل فهو كمن قال لا أصوم رمضان إلا في شوال فإن كان يستجيز تأخيرها ويرى ذلك جائزا له فهو كمن يرى تأخير رمضان جائزا وهذا وهذا يجب استتابتهما باتفاق العلماء فإن تابا واعتقدا وجوب فعل الصلاة والصوم في وقتهما وإلا قتلا
وكثير من العامة والجهال يعتقدون جواز تأخيرها إلى الليل بأدنى شغل ويرى أن صلاتها بالليل خير من أن يصليها بالنهار مع الشغل وهذا باطل بإجماع المسلمين بل هذا كفر وكثير منهم لا يرى جوازها في الوقت إلا مع كمال الأفعال وأنه إذا صلاها بعد الوقت مع كمال الأفعال كان أحسن وهذا باطل بل كفر باتفاق العلماء
ومن أسباب هذه الإعتقادات الفاسدة تجويز القضاء لغير المعذور وقول القائل إنها تصح وتقبل وإن أثم بالتأخير فجعلوا فعلها بعد الغروب كفعل العصر بعد الإصفرار وذلك جمع بين ما فرق الله ورسوله بينه فلو علمت العامة أن تفويت الصلاة كتفويت شهر رمضان باتفاق المسلمين لاجتهدوا في فعلها في الوقت
منهاج السنة النبوية [ جزء 5 - صفحة 239 ]
وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحا وإذا غلظ في ذم بدعة و معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والإنتقام
كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق(3/8)
وهذا مبني على مسألتين إحداهما أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة
الثاني أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها
وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم
وقد يسلكون في التكفير ذلك فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقا ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم وليس فيهم من كفر كل مبتدع بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه
وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم وإذا قال المؤمن ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان سورة الحشر 10 يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين(3/9)
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بلك كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة ولم ينكر أحد على علي ذلك فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام قال الإمام محمد بن نصر المروزي وقد ولى علي رضي الله عنه قتال أهل البغي وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى وسماهم مؤمنين وحكم فيهم بأحكام المؤمنين وكذلك عمار بن ياسر
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى ين آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال كنت عند على حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له أمشركون هم قال من الشرك فروا فقيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن مسعر عن عامر بن سفيان عن أبي وائل قال قال رجل من دعي إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركون فقال علي من الشرك فروا قال المنافقون قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قال فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم(3/10)
قال حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن أبي خالدة عن حكيم بن جابر قال قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان أمشركون هم قال من الشرك فروا قيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليل قيل فما هم قال قوم حاربونا فحاربناهم وقاتلونا فقاتلناهم
قلت الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليا قال هذا القول في الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذمهم والأمر بقتالهم وهم يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرا ودارهم دار كفر فإنما دار الإسلام عندهم هي دارهم
قال الأشعرى وغيره أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا علي قاتلهم لما بدؤوه بالقتال فقتلوا عبد الله بن خباب وطلب علي منهم قاتله فقالوا كلنا قتلة وأغاروا على ماشية الناس ولهذا قال فيهم قوم قاتلونا فقاتلناهم وحاربونا فحاربناهم وقال قوم بغوا علينا فقاتلناهم
وقد اتفق الصحابة العلماء بعدهم على قتال هؤلاء فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم وهم يبدؤون المسلمين بالقتال ولا يندفع شرهم إلا بالقتال فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق فإن إولئك إنما مقصودهم المال فلو أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن ومع هذا فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارا ولا منافقين(3/11)
وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه يقولون لا نكفر إلا من يكفر فإن الكفر ليس حقا لهم بل هو حق لله وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك لأن هذا حرام لحق الله تعالى ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسبح المسيح
والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين فالظاهر أنه كان يوم النهروان أيضا وقد روى عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا قال إسحاق بن راهويه حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول فقال لا تقولوا إلا خيرا إنما هم قوم زعموا إنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح فقال ما كان أغناه عن ذلك
وقال محمد بن نصر حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن راشد عن مكحول أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ما هم قال هم مؤمنون وبه قال أحمد بن خالد حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن أبي عون قال مر علي وهو متكىء على الأشتر على قتلى صفين فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر إنا لله وإنا اليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية أما والله لقد عهدته مؤمنا قال علي والآن هو مؤمن(3/12)
قال وكان حابس رجلا من أهل اليمن من أهل العبادة والإجتهاد قال محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن نافع عن أبي مطر قال قال علي متى ينبعث أشقاها قيل من أشقاها قال الذي يقتلني فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس علي رضي الله عنه وهم المسلمون بقتله فقال لا تقتلوا الرجل فإن برئت فالجروح قصاص وإن مت فاقتلوه فقال إنك ميت قال وما يدريك قال كان سيفي مسموما وبه قال محمد بن عبيد حدثنا الحسن وهو ابن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث قال إنا لبواد وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر إذ أقبل رجل فقال كفر والله أهل الشام فقال عمار لا تقل ذلك فقبلتنا واحدة ونبينا واحد ولكنهم قوم مفتونون فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق
وبه قال ابن يحيى حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رباح بن الحرث عن عمار بن ياسر قال ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم قال ابن يحيى حدثنا يعلى حدثنا مسعر عن عبد الله بن رباح عن رباح بن الحارث قال قال عمار بن ياسر لا تقولوا كفر أهل الشام قولوا فسقوا قولوا ظلموا
قال محمد بن نصر وهذا يدل على أن الخبر الذي روي عن عمار ابن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان هو كافر خبر باطل لا يصح لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دعم عثمان فهو لتكفير عثمان أشد إنكارا
قلت والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك أنكر عليه علي رضي الله عنه وقال أتكفر برب آمن به عثمان وحدثه بما يبين بطلان ذلك القول فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولا فقد رجع عنه حين بين له علي رضي الله عنه أنه قول باطل(3/13)
ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه في البخاري وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان
وما زالت سيرة المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة
ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين وقد ضعفه ابن حزم وغيره لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره وقد رواه أهل السنن وروي من طرق(3/14)
وليس قوله ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة بأعظم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا سورة النساء 10 وقوله ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوق نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا سورة النساء 30 وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب أو كانت له حسنات محت سيئاته أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم بل المؤمن بالله ورسوله باطنا وظاهرا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب وأما ذلك فليس متعمدا للذنب بل هو مخطىء والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان
والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين وإن كان في الآخرة خيرا ممن لم يعاقب كما يعاقب المسلم المتعدي للحدود ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى والمسلم في الآخرة خير منهم
وأيضا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة ويصدر عن الحق الذي يخالفه هواه فهذا يعاقبه الله على هواه ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فيهم قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون سورة البقرة 26 27 فقد يكون هذا قصده لا سيما إذا تفرق الناس فكان ممن يطلب الرياسة له ولأصحابه
وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه(3/15)
ولهذا قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرا وقد يكون كفرا لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله
والناس لهم فيما يجعلونه كفرا طرق متعددة فمنهم من يقول الكفر تكذيب ما علم بالإضطرار من دين الرسول ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك
ومنهم من يقول الكفر هو الجهل بالله تعالى ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف وقد لا يجعلها وهم مختلفون في الصفات نفيا وإثباتا
ومنهم من لا يحده بحد بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر جعله كفرا إلى طرق أخر
ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة فتكذيب الرسول كفر وبغضه
منهاج السنة النبوية [ جزء 5 - صفحة 291 ]
وقد قال تعالى في آية الطلاق ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق 2 3 وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا(3/16)
ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك ومن أواخر ما نزل من القرآن وقيل إنها آخر آية نزلت قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون سورة البقرة 281 فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك وإن فعل كل ما حرم الله عليه وترك كل ما أمر الله به وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله
وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض المجتنبون للمحارم هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك
قالت المرجئة أما احتجاجكم بقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون سورة السجدة 18 فلا يصح لأن تمام الآية يدل على أن المراد بالفاسق المكذب فإنه قال وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون سورة السجدة 20 فقد وصفهم بالتكذيب بعذاب الآخرة وهذا وصف المكذب لا العاصي
وقالوا مع الجمهور للخوارج لو كان صاحب الكبيرة كافرا لكان مرتدا ووجب قتله والله تعالى قد أمر بجلد الزاني وأمر بجلد القاذف وأمر بقطع السارق ومضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلد الشارب فهذه النصوص صريحة بأن الزاني والشارب والسارق والقاذف ليسوا كفارا مرتدين يستحقون القتل فمن جعلهم كفارا فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة(3/17)
وقالوا لهم وللمعتزلة قد قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون سورة الحجرات 9 10 قالوا فقد سماهم مؤمنين مع الإقتتال والبغي وقد أمر الله تعالى بالإصلاح بينهم وجعلهم إخوة المصلح بينهم الذي لم يقاتل فعلم أن البغي لا يخرج عن الإيمان ولا عن أخوة الإيمان
قالت المرجئة وقوله ليس منا أي ليس مثلنا أو ليس من خيارنا فقيل لهم فلو لم يغش ولم يحمل السلاح أكان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم أو كان يكون من خيارهم بمجرد هذا الكلام
وقالت المرجئة نصوص الوعيد عامة ومنا من ينكر صيغ العموم ومن أثبتها قال لا يعلم تناولها لكل فرد من أفراد العام فمن لم يعذب لم يكن اللفظ قد شمله
فقيل للواقفة منهم عندكم يجوز أن لا يحصل الوعيد بأحد من أهل القبلة فيلزم تعطيل نصوص الوعيد ولا تبقى لا خاصة ولا عامة
منهاج السنة النبوية [ جزء 5 - صفحة 500 ]
وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق الأمة رضي الله عنه من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر دون القول المخالف لذلك
ومما يدل على كمال حال الصديق وأنه أفضل من كل من ولى الأمة بل وممن ولى غيرها من الأمم بعد الأنبياء أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والأخرين وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين(3/18)
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول
ومن المعلوم أنه من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن سياسة الأول ظهر ذلك النقص ظهورا بينا وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك أو قاض بعد قاض أو شيخ بعد شيخ أو غير ذلك فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ثم الصديق تولى بعد أكمل الخلق سياسة فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان عليه وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب وعلم الأمة ما خفي عليهم وقواهم لما ضعفوا وشجعهم لما جبنوا وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهاج السنة النبوية [ جزء 5 - صفحة 517 ](3/19)
ومن قال إن عثمان كان مباح الدم لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ولا الحسين فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين فإن عثمان لم يقتل مسلما ولا قاتل أحدا على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلا فإن وجب أن يقال من قتل خلقا من السلمين على ولايته إنه معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله فلأن يقال عثمان معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى ثم يقال غاية ما يقال في قصة مالك ابن نويرة إنه كان معصوم الدم وإن خالدا قتله بتأويل وهذا لا يبيح قتل خالد كما أن أسامة ابن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله وقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فأنكر عليه قتله ولم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة
وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا الآية سورة النساء 94 نزلت في شأن مرداس رجل من غطفان بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا إلى قومه عليهم غالب الليثي ففر أصحابه ولم يفر قال إني مؤمن فصبحته الخيل فسلم عليهم فقتلوه وأخذوا غنمه فأنزل الله هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ونهى المؤمنين عن مثل ذلك
وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولا ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ومع هذا فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولا(3/20)
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأولى والأحرى
وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله لكن من كان متبعا لهواه أعماه عن اتباع الهدى
وقوله إن عمر أشار بقتله
فيقال غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالدا وكان رأي عمر فيها قتله وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علما ودينا
وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله فهذا مما لم يعرفه ثبوته ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة هل تجب للكافر على قولين وكذلك تنازعوا هل يجب على الذمية عدة وفاة على قولين مشهورين للمسلمين بخلاف عدة الطلاق فإن تلك سببها الوطء فلا بد من براءة الرحم وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا فيه نزاع وكذلك إن كان دخل بها وقد حاضت بعد الدخول حيضة
هذا إذا كان الكافر أصليا وأما المرتد إذا قتل أو مات على ردته ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة لأن النكاح بطل بردة الزوج وهذه الفرقة ليست طلاقا عند الشافعي وأحمد وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها كما ليس عليها عدة من الطلاق(3/21)
ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم وفي الآخر بثلاث حيض وإن كان كافرا أصليا فليس على أمرأته عدة وفاة في أحد قوليهم وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم وهذا مما حرمه الله ورسوله
منهاج السنة النبوية [ جزء 6 - صفحة 369 ]
ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب فقد خرج عن جملة أولى الألباب ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها كالصحاح والسنن والمساند والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك وكتب السير والمغازي وأن كانت دون ذلك وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضد ما في النقل الباطل وعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأن أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون اختلقوا أكاذيب وابتدعوا آراء فاسدة ليفسدوا بها دين الإسلام ويستزلوا بها من ليس من أولى الأحلام فسعوا في قتل عثمان وهو أول الفتن ثم انزووا إلا على لا حبا فيه ولا في أهل البيت لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين(3/22)
ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله كما فعلت الخوارج وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ومنهم من أظهر الطعن على الخلفاء الثلاثة كما فعلت الرافضة وبهم تسترت الزنادقة كالغالية من النصيرية وغيرهم ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم فهم منشأ كل فتنة والصحابة رضي الله عنهم منشأ كل علم وصلاح وهدى ورحمة في الإسلام
ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض ما يفعله من محاربتهم واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره
وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك
وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه فتوقف عمر وكان من نيته أن يكلمه فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله وحبا للمجوس وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعمر هو الذي أنفق كنوزهما وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحة خلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلا عن المحرمة فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله وبغضا في الإسلام ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة(3/23)
ودع ما يسمع وينقل عمن خلا فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة
ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفار وما جرى في الإسلام من الشر
فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت العتيق ولا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا له رئي من الجن وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب
فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم كذرية العباس وغيرهم بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء وإستحلال فروجهن وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة وتعظيم بيوت الأصنام التي يسمونها البذخانات والبيع والكنائس على المساجد ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزا وأنفذ كلمة وأكثر حرمة من المسلمين إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرى على أمته من هذا كان كراهته له وغضبه منه أعظم من كراهته لإثنين مسلمين تقاتلا على الملك ولم يسب أحدهما حريم الآخر ولا نفع كافرا ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة وشعائره الظاهرة(3/24)
ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار وينصرونهم على المسلمين كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين
وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكون إلى العراق وقتل الخليفة وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها
وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى أنهم لما انكسر عسكر المسلمين سنة غازان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال وحمل راية الصليب وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأمول والسلاح من المسلمين إلى النصارى أهل الحرب بقبرس وغيرها
فهذا وأمثاله قد عاينه الناس وتواتر عند من لم يعاينه ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله مالا أعلمه
فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقه ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين
ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك(3/25)
والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله
وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ويكون أولئك الرافضة منبع الخير
ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
منهاج السنة النبوية [ جزء 6 - صفحة 420 ]
وعلماء السنة كلهم مالك وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وغير هؤلاء كلهم يحب الخلفاء ويتولاهم ويعتقد إمامتهم وينكر على من يذكر أحدا منهم بسوء فلا يستجيزون ذكر علي ولا عثمان ولا غيرهما بما يقوله الرافضة والخوارج وكان صار إلى المغرب طوائف من الخوارج والروافض كما كان هؤلاء في المشرق وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام ولكن قواعد هذه المدائن لا تستمر على شيء من هذه المذاهب بل إذا ظهر فيها شيء من هذه المذاهب مدة أقام الله ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق الذي يظهر على باطلهم(3/26)
وبنو عبيد يتظاهرون بالتشيع واستولوا من المغرب على ما استولوا عليه وبنوا المهدية ثم جاءوا إلى مصر واستولوا عليها مائتي سنة واستولوا على الحجاز والشام نحو مائة سنة وملكوا بغداد في فتنة البساسيرى وانضم إليهم الملاحدة في شرق الأرض وغربها وأهل البدع والأهواء تحب ذلك منهم ومع هذا فكانوا محتاجين إلى أهل السنة ومحتاجين إلى مصانعتهم والتقية لهم
ولهذا رأس مال الرافضة التقية وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه
والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه سورة آل عمران 28 ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفار مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه وفتاويه بكفر الجمهور وأنهم مرتدون ودارهم دار ردة يحكم بنجاسة مائعها وأن من أنتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام
وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ثم رجع إلى الكفر بخلاف من يولد مسلما
فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة فهم عندهم كفار فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا
وهذه الآية حجة عليهم فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فقيل لهم لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين سورة آل عمران 28 وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن سورة آل عمران كلها مدنية وكذلك البقرة والنساء والمائدة(3/27)
ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم كما يفعله الرافضة مع الجمهور
وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك وهم لا يظهرون المودة للجمهور وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود فقال يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية
وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر على النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم
وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقال اجتنبوا هؤلاء فأبوا فنزلت هذه الآية
وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عن ذلك
والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ولا يظهر أحدهما دينه كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية
وأما قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة سورة آل عمران 28 قال مجاهد إلا مصانعة
والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان(3/28)
فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وأمرأة فرعون وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه
وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره
والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون عاما من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس ! من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه
وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ومع هذا كان يعظم موسى ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله سورة غافر 28(3/29)
وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ثم هم يدعون الإيمان دون الناس والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين
وقد قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد سورة غافر 51 وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة وأولاهم بالخذلان فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق وأبعدهم عن الإيمان
وآية ذلك أن المنافقين حقيقة الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة يميلون إلى الرافضة والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف
وقد قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن مسعود رضي الله عنه اعتبروا الناس بأخدانهم
فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا قدرا مشتركا وتشابها وهذا لما في الرافضة فإن النفاق شعب
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 18 ]
الوجه الثاني عشر أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار و الأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين مثل كعبد الله بن أبي يوالي اليهود و يقول أني أخاف الدوائر فقال بعض المؤمنين و هو عبادة بن الصامت أني يا رسول الله أتولى الله و رسوله و أبرا إلى الله و رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم(3/30)
ولهذا لمل جاءتهم بنو قينقاع و سبب تأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول فأنزل الله هذه الآية يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين زيادة عموما و ينهى عن موالاة الكفار عموما و قد تقدم كلام الصحابة و التابعين أنها عامة لا تختص بعلي
الوجه الثالث عشر أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن فأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فأنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين
فهذا نهى عن موالاة اليهود و النصارى
ثم قال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده إلى قوله فاصبحوا خاسرين فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض الذين يوالون الكفار المنافقين
ثم قال يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم فذكر فعل المرتدين و أنهم لن يضروا الله شيئا و ذكر من يأتي به بدلهم
ثم قال أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين رسوله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة و هم راكعون و من يتولى الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون
فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين و ممن يرتد عنه وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا و باطنا
فهذا السياق مع أتيناه أتى بصيغة الجمع مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصنفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه لا أبي بكر و لا عمر و لا عثمان و لا علي و لا غيرهم لكن هؤلاء أحق إلامة بالدخول فيها(3/31)
الوجه الرابع عشر أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم فأن عليا ليس قائدا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا هو أيضا قاتلا لكل الكفره بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم
و ما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا و هو قاتل لبعض الكفرة
و كذلك قوله منصور من نصره و مخذول من خذله هو خلاف الواقع و النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فأنهم يدعون أن إلامة كلها خذلته إلى قتل عثمان
و من المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة نصرا لم يحصل لها بعده مثله ثم لما قتل عثمان و صار الناس ثلاثة أحزاب حزب نصره و قاتل معه و حزب قاتلوه و حزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء و لا مع هؤلاء لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين و لا على الكفار بل أولئك الذين نصروا عليهم و صار الأمر لهم لما تولى معاوية فانتصروا على الكفار و فتحوا البلاد أنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج و الكفار
والصحابة الذين قاتلوا الكفار و المرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال أنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد
فالقتال الذي كان بأمر الله و أمر رسوله من المؤمنين للكفار و المرتدين و الخوارج كانوا فيه منصورين نصرا عظيما إذا اتقوا و صبروا فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 212 ](3/32)
و أما أئمة التفسير فروى الطبري عن المثنى حدثنا عبد الله بن هاشم حدثنا سيف بن عمر عن أبي روق عن الضحاك عن أبي أيوب عن علي في قوله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه قال علم الله المؤمنين و وقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم من المنافقين و من في علمه أن يرتدوا فقال من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم بقوم يحبهم و يحبونه بابي بكر و أصحابه رضي الله عنهم و ذكر بإسناده هذا القول عن قتادة و الحسن و الضحاك و ابن جريج و ذكر قوم أنهم الأنصار و عن آخرين أنهم أهل اليمن و رجح هذا الآخر و أنهم رهط أبي موسى قال و لولا صحة الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال هم أبو بكر و أصحابه قال لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر رضي الله عنه الثاني أن هذا قول بلا حجة فلا يجب قبوله
الثالث أن هذا معارض بما هو اشهر منه واظهر و هو أنها نزلت في أبي بكر و أصحابه الذين قاتلوا معه أهل الردة و هذا هو المعروف عند الناس كما تقدم لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعلي و هذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله
و حدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ اعرفه و كان فيه دين و زهد و أحوال معروفة لكن كان فيه تشيع قال و كان عنده كتاب يعظمه و يدعي أنه من الأسرار و أنه أخذه من خزائن الخلفاء و بالغ في وصفه فلما أحضره فإذا به كتاب قد كتب بخط حسن و قد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري و مسلم جميعها في فضائل أبي بكر و عمر و نحوهما جعلوها لعلي و لعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام و كانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله(3/33)
و مثل هؤلاء الجهال يظنون ان الاحداث التي في البخاري و مسلم أنما أخذت عن البخاري و مسلم كما يظن مثل ابن الخطيب و نحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال و أن البخاري و مسلما كان الغلط يروج عليهما أو كانا يتعمد أن الكذب و لا يعلمون أن قولنا رواه البخاري و مسلم علامة لنا على ثبوت صحته لا أنه كان صحيحا بمجرد رواية البخاري و مسلم بل أحاديث البخاري و مسلم رواها غيرهما من العلماء و المحدثين من لا يحصي عدده إلا الله و لم ينفرد واحد منهما بحديث بل ما من حديث إلا و قد رواه قبل زمانه و في زمانه و بعد زمانه طوائف و لو لم يخلق البخاري و مسلم لم ينقص من الدين شيء و كانت تلك الأحاديث موجوده بأسانيد يحصل بها المقصود و فوق المقصود
و أنما قولنا رواه البخاري و مسلم كقولنا قراه القراء السبعة و القرآن منقول بالتواتر لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه و كذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري و مسلما بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقي بالقبول و كذلك في عصرهما و كذلك بعدهما قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما و وافقوهما على تصحيح ما صححاه إلا مواضع يسيرة نحو عشرين حديثا غالبها في مسلم أنتقدها عليهما طائفة من الحفاظ و هذه المواد المنتقدة غالبها في مسلم و قد أنتصر طائفة لهما فيها وطائف قررت قول المنتقدة
و الصحيح التفصيل فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب مثل حديث أم حبيبة و حديث خلق الله البرية يوم السبت و حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات و اكثر
و فيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري فإنه ابعد الكتابين عن الانتقاد و لا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد فما في كتابه لفظ منتقد إلا و في كتابه ما يبين أنه منتقد
و في الجملة من نقد سبعة آلاف درهم فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة و مع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة فهذا إمام في صنعته و الكتابان سبعة آلاف حديث و كسر(3/34)
و المقصود أن أحاديثهما أنتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم بعدهم و رواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله فلم ينفردا لا برواية و لا بتصحيح و الله سبحانه و تعالى هو الكفيل بحفظ هذا الدين كما قال تعالى أنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون
و هذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب الأئمة مثل القدوري و التنبيه و الخرقي و الجلاب غالب ما فيها إذا قيل ذكره فلأن علم أنه مذهب ذلك الإمام و قد نقل ذلك سائر أصحابه و هم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر
و هذه الكتب فيها مسائل أنفرد بها بعض أهل المذهب وفيها نزاع بينهم لاكن غالبا هو قول أهل المذهب و أما البخاري و مسلم فجمهور ما فيهما أتفق عليه أهل العلم بالحديث الذين هم اشد عناية بألفاظ الرسول و ضبطا لها و معرفة بها من اتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول في ألفاظه من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم و النزاع بينهم في ذلك اقل من تنازع اتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم
و الرافضة لجهلهم يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك و جعلوا فضائل الصديق لعلي أن ذلك يخفى على أهل العلم الذين حفظ الله بهم الذكر
الرابع أن يقال أن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة و اتباعه بني حنيفة و أهل اليمامة ز قد قيل كانوا نحو مائة ألف أو اكثر و قاتل طليحة الاسدي و كان قد ادعى النبوة بنجد و اتبعه من أسد تميم وغطفات ما شاء الله ادعت النبوة سجاح امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب فتزوج الكذاب بالكذابة و أيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام و لم يتبع متنبئا كذابا و منهم قوم اقروا بالشهادتين لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة و قصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة(3/35)
و المقاتلون للمرتدين هم من الذين يحبهم الله و يحبونه و هم أحق الناس بالدخول في هذه الآية و كذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم و الفرس و هؤلاء أبو بكر و عمر و من اتبعهما من أهل اليمن و غيرهم و لهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن هؤلاء فأشار إلى أبي موسى الاشعري و قال
هم قوم هذا
فهذا أمر يعرف بالتواتر و الضرورة أن الذين أقاموا الإسلام و ثبتوا عليه حين الردة وقاتلوا المرتدين و الكفار هم داخلون في قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون في الله لومة لائم
و أما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله و يحبه الله لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر و عمر و عثمان و لا كان جهاده للكفار و المرتدين اعظم من جهاد هؤلاء و لا حصل به من المصلحة للدين اعظم مما حصل بهؤلاء بل كل منهم له سعي مشكور و عمل مبرور و آثار صالحة في الإسلام و الله يجزيهم عن الإسلام و أهله خير جزاء فهم الخلفاء الراشدون و الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق و به كانوا يعدلون
و أما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين و الدنيا اعظم فيجعلهم كفارا أو فساقا ظلمة و يأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم فيجعله الله أو شريكا لله أو شريك رسول الله صلى الله عليه و سلم أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من جعله معصوما منصوصا عليه و من خرج عن هذا فهو كافر و يجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين و يجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس و يصومون شهر رمضان و يحجون البيت و يؤمنون بالقرآن يجعلهم كفارا لأجل قتال هؤلاء
فهذا عمل أهل الجهل و الكذب و الظلم و الإلحاد في دين الإسلام عمل من لا عقل له و لا دين و لا إيمان(3/36)
و العلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا مقصوده إفساد دين الإسلام و لهذا صار الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية و المعطلة كالنصيرية و الإسماعيلية و نحوهم
و أول الفكرة آخر العمل فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد دين الإسلام ونقض عراه وقلعه بعروشه اخرا لكن صار يظهر منه ما يكنه من ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
وهذا معروف عن ابن سبا واتباعه وهو الذي ابتدع النص في علي وابتدع أنه معصوم فالرافضة الأمامية هم اتباع المرتدين وغلمان الملحدين وورثة المنافقين لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين
الوجه الخامس أن يقال هب أن الآية نزلت في علي أيقول القائل أنها مختصة به ولفضها يصرح بأنهم جماعة قال تعالى من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه إلى قوله لومة لائم أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا فإن الرجل لا يسمى قوما في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازا
ولو قال المراد هو وشيعته لقيل إذا كانت الآية أدخلت مع على غيره فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة فلا ريب أن أهل اليمن الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين ويعادون السابقين الأولين
فإن قيل الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن
قيل والذين قاتلوه أيظا كان كثير منهم من أهل اليمن فكلا العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة جدا واكثر اذواء اليمن كانوا مع معاوية كذى كلاع وذى وذي رعين عمرو ونحوهم وهم الذين يقال لهم الذوين
كما قال الشاعر ... وما أعني بذلك أصغريهم ... ولكنى أريد به الذوينا ...(3/37)
الوجه السادس قوله فسوف يأتي الله بقوم بحبهم ويحبونه لفظ مطلق ليس فيه تعيين وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان لا يختص ذلك بابي بكر ولا بعلي وإذا لم يكن مختصا بإحداهما لم يكن هذا من خصائصه فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة
بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد عن الدين إلى يوم القيامة إلا اقام الله قوما يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون هؤلاء المرتدين
والردة قد تكون عن اصل الإسلام كالغالية من النصيرية والإسماعيلية فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة وكالعباسية وقد تكون الردة عن بعض الدين كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه ويجاهدون من ارتد عن الدين أو عن بعضه كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين أو عن بعضه في كل زمان
والله سبحانه المسؤول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه الذين يجاهدون المرتدين واتباع المرتدين ولا يخافون لومة لائم
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 405 ]
و قوله محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا
و قوله لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يباعيونك تحت الشجرة
و قوله للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و أمثال ذلك فكيف يجوز إن يرد ما علمنا دلالة القران عليه يقينا بمثل هذه الأخبار المفتراة التي رواها من لا يخاف مقام ربه و لا يرجو لله وقارا
الوجه السادس أن هذه الأحاديث تقدح في علي و توجب انه كان مكذبا بالله و رسوله فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم هو و غيره(3/38)
أما الذين ناصبوه الخلافة فإنهم في هذا الحديث المفترى كفار و أما علي فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين و شر من قاتلهم علي هم الخوارج و مع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفار بل حرم أموالهم و سبيهم و كان يقول لهم قبل قتالهم إن لكم علينا إن لا نمنعكم مساجدنا و لا حقكم من فيئنا و لما قتله ابن ملجم قال إن عشت فأنا ولي دمي و لم يجعله مرتدا بقتله
و أما أهل الجمل فقد تواتر عنه انه نهى عن أن يتبع مدبرهم وأن يجهز على جريحهم وأن يقتل أسيرهم وأن تغنم أموالهم وأن تسبى ذراريهم فإن كان هؤلاء كفارا بهذه النصوص فعلي أول من كذب بها فيلزمهم ان يكون علي كافرا
و كذلك أهل صفين كان يصلي على قتلاهم ويقول إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف و لو كانوا عنده كفارا لما صلى عليهم و لا جعلهم إخوانه و لا جعل السيف طهرا لهم
و بالجملة نحن نعلم بالاضطرار من سيرة علي رضي الله عنه انه لم يكن يكفر الذين قاتلوه بل و لا جمهور المسلمين و لا الخلفاء الثلاثة و لا الحسن و لا الحسين كفروا أحدا من هؤلاء و لا علي بن الحسين و لا أبو جعفر فإن كان هؤلاء كفارا فأول من خالف النصوص علي و أهل بيته و كان يمكنهم إن يفعلوا ما فعلت الخوارج فيعتزلوا بدار غير دار الإسلام و إن عجزوا عن القتال و يحكموا على أهل دار الإسلام بالكفر و الردة كما يفعل ذلك كثير من شيوخ الرافضة و كان الواجب على علي إذا رأى أن الكفار لا يؤمنون أن يتخذ له و لشيعته دار غير أهل الردة و الكفر و يباينهم كما باين المسلمون لمسيلمة الكذاب و أصحابه
و هذا نبي الله صلى الله عليه و سلم كان بمكة هو و أصحابه في غاية الضعف و مع هذا فكانوا يباينون الكفار و يظهرون مباينتهم بحيث يعرف المؤمن من الكافر و كذلك هاجر من هاجر منهم إلى ارض الحبشة مع ضعفهم و كانوا يباينون النصارى و يتكلمون بدينهم قدام النصارى(3/39)
و هذه بلاد الإسلام مملوءة من اليهود و النصارى و هم مظهرون لدينهم متحيزون عن المسلمين
فان كان كل من يشك في خلافة علي كافرا عنده و عند أهل بيته و ليس بمؤمن عندهم إلا من اعتقد انه الإمام المعصوم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و من لم يعتقد ذلك فهو مرتد عند علي و أهل بيته فعلي أول من بدل الدين و لم يميز المؤمنين من الكافرين و لا المرتدين من المسلمين
و هب انه كان عاجزا عن قتالهم و إدخالهم في طاعته فلم يكن عاجزا عن مباينتهم ولم يكن اعجز من الخوارج الذين هم شرذمة قليلة من عسكره و الخوارج اتخذوا لهم دارا غير دار الجماعة و باينوهم كما كفروهم و جعلوا أصحابهم هم المؤمنين و كيف كان يحل للحسن إن يسلم أمر المسلمين إلى من هو عنده من المرتدين شر من اليهود و النصارى كما يدعون في معاوية و هل يفعل هذا من يؤمن بالله و اليوم الآخر وقد كان الحسن يمكنه إن يقيم بالكوفة ومعاوية لم يكن بدأه بالقتال وكان قد طلب منه ما أراد فلو قام مقام أبيه لم قاتله معاوية وأين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في فضل الحسن إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فإن كان علي و أهل بيته والحسن منهم يقولون لم يصلح الله به بين المؤمنين والمرتدين فهذا قدح في الحسن وفي جده الذي أثنى على الحسن إن كان الأمر كما يقوله الرافضة
فتبين إن الرافضة من اعظم الناس قدحا وطعنا في أهل البيت وأنهم هم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر ونسبوهم إلى اعظم المنكرات التي من فعلها كان من الكفار وليس هذا ببدع من جهل الرافضة و حماقاتهم(3/40)
ثم إن الرافضة تدعي أن الإمام المعصوم لطف من الله بعباده ليكون ذلك ادعى إلى إن يطيعوه فيرحموا وعلى ما قالوه فلم يكن على أهل الأرض نقمة اعظم من علي فإن الذين خالفوه وصاروا مرتدين كفارا والذين وافقوه أذلاء مقهورين تحت النقمة لا يد ولا لسان وهم مع ذلك يقولون إن خلقه مصلحة ولطف وان الله يجب عليه أن يخلقه وإنه لا تتم مصلحة العالم في دينهم ودنياهم إلا به وأي صلاح في ذلك على قول الرافضة
ثم انهم يقولون إن الله يجب عليه ان يفعل اصلح ما يقدر عليه للعباد في دينهم و دنياهم و هو يمكن الخوارج الذين يكفرون به بدار لهم فيها شوكة و من قتال أعدائهم و يجعلهم هم و الأئمة المعصومين في ذل اعظم من ذل اليهود و النصارى و غيرهم من أهل الذمة فإن أهل الذمة يمكنهم إظهار دينهم و هؤلاء الذين يدعي انهم حجج الله على عباده و لطفه في بلاده وأنه لا هدى إلا بهم و لا نجاة إلا بطاعتهم و لا سعادة إلا بمتابعتهم قد غاب خاتمتهم من اكثر من أربعمائة و خمسين سنة فلم ينتفع به أحد في دينه و لا دنياه و هم لا يمكنهم إظهار دينهم كما تظهر اليهود و النصارى دينهم
و لهذا ما زال أهل العلم يقولون إن الرفض من إحداث الزنادقة الملاحدة الذين قصدوا إفساد الدين دين الإسلام و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون فإن منتهى أمرهم تكفير علي و أهل بيته بعد أن كفروا الصحابة و الجمهور و لهذا كان صاحب دعوى الباطنية الملاحدة رتب دعوته مراتب أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع ثم إذا طمع فيه قال له علي مثل الناس و دعاه إلى القدح في علي أيضا ثم إذا طمع فيه دعاه إلى القدح في الرسول ثم إذا طمع فيه دعاه إلى إنكار الصانع هكذا ترتيب كتابهم الذي يسمونه البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و واضعه الذي أرسل به إلى القرمطي الخارج بالبحرين لما استولى على مكة و قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود و استحلوا المحارم وأسقطوا الفرائض و سيرتهم مشهورة عند أهل العلم(3/41)
و كيف يقول النبي صلى الله عليه و سلم من مات و هو يبغض عليا مات يهوديا أو نصرانيا و الخوارج كلهم تكفره و تبغضه و هو نفسه لم يكن يجعلهم مثل اليهود و النصارى بل يجعلهم من المسلمين أهل القبلة و يحكم فيهم بغير ما يحكم به بين اليهود و النصارى
و كذلك من كان يسبه و يبغضه من بني أمية وأتباعهم فكيف يكون من يصلي الصلوات و يصوم شهر رمضان و يحج البيت و يؤدي الزكاة مثل اليهود و النصارى و غايته إن يكون قد خفي عليه كون هذا إماما أو عصاه بعد معرفته
و كل أحد يعلم أن أهل الدين و الجمهور ليس لهم غرض مع علي و لا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماما كانوا اسبق الناس إلى التصديق بذلك و غاية ما يقدر انهم خفي عليهم هذا الحكم فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود و النصارى
و ليس المقصود هنا الكلام في التكفير بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم و أنها مناقضة لدين الإسلام و أنها تستلزم تكفير علي و تكفير من خالفه وأنه لم يقلها من يؤمن بالله و اليوم الآخر فضلا عن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم بل إضافتها و العياذ بالله إلى رسول الله من اعظم القدح و الطعن فيه و لا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام فلعن الله من افتراها و حسبه ما وعده به الرسول حيث قال
من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 437 ]
فصل في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول(3/42)
منها أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين لايمانهم بهذا المتنبئ الكذاب وان أبا لؤلؤة قاتل ععر كان مجوسيا كافرا وان أبا الهرمزان كان مجوسيا اسلم وان أبا بكر كان يصلي بالناس مدة مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ويخلفه بالإمامة بالناس لمرضه وان أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر واحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها وما نزل من القران في الغزوات كنزول الأنفال بسبب بدر ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ونزول أولها بسبب نصارى نجران ونزول سورة الحشر بسبب بني النضير ونزول الأحزاب بسبب الخندق ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ونزول براءة بسبب غزوة تبوك وغيرها و أمثال ذلك(3/43)
فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم انه خلاف الواقع علم انه كذب مثل ما يروي هذا الرافضي و أمثاله من الرافضة وغيرهم من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات كما تقدم التنبيه عليه ومثل أن يعلم نزول القران في أي وقت كان كما يعلم أن سورة البقرة وال عمران والنساء والمائدة و الأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة وان الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة وان المعراج كان بمكة وان الصفة كانت بالمدينة وان أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا ناسا معينين بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين وكالعرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون و أمثال ذلك من الأمور المعلومة
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم انه كذب ومن الطرق التي يعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم انه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فانه من المعلوم انه لو اخبر الواحد ببلد عظيم بقدر بغداد والشام وبغداد والعراق لعلمنا كذبه في ذلك لانه لو كان موجودا لأخبر به الناس
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 450 ]
و إما علي و سائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس انهم بايعوه لكن تخلف فانه كان يريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين ثم انه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين و المشركين لم يقاتل مسلمين بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة و اخذ يزيد الإسلام فتوحا و شرع في قتال فارس و الروم و مات و المسلمون محاصرو دمشق و خرج منها ازهد مما دخل فيها لم يستأثر عنهم بشيء و لا أمر له قرابة(3/44)
ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار و قهر الكفار و اعز أهل الإيمان و أذل أهل النفاق و العدوان و نشر الإسلام و الدين و بسط العدل في العالمين و وضع ديوان الخراج و العطاء لأهل الدين و مصر الأمصار للمسلمين و خرج منها ازهد مما دخل فيها لم يتلوث لهم بمال و لا ولى أحدا من أقاربه ولاية فهذا أمر يعرفه كل أحد
و إما عثمان فانه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة و حلم و هدى و رحمة و كرم و لم يكن فيه قوة عمر و لا سياسته و لا فيه كمال عدله و زهده فطمع فيه بعض الطمع و توسعوا في الدنيا و ادخل من أقاربه في الولاية و المال و دخلت بسبب أقاربه في الولايات و الأموال أمور أنكرت عليه فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا و ضعف خوفهم من الله و منه و من ضعفه هو و ما حصل من أقاربه في الولاية و المال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا
و تولى علي على اثر ذلك و الفتنة قائمة و هو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان و الله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه المبغضون لغيره من الصحابة فان عليا لم يعن على قتل عثمان و لا رضي به كما ثبت عنه و هو الصادق انه قال ذلك فلم تصف له قلوب كثير منهم و لا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه و لا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر بل اقتضى رأيه القتال و ظن انه به تحصل الطاعة و الجماعة فما زاد الأمر إلا شدة و جانبه إلا ضعفا و جانب من حاربه إلا قوة و الأمة إلا افتراقا حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 458 ](3/45)
وأيضا فانه من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين علم أن أهل ذلك الزمان كان خيرا وافضل من أهل هذا الزمان وان الإسلام كان في زمنهم أقوى واظهر فان كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم وولوا فاسقا وظالما ومنعوا عادلا عالما مع علمهم بالحق فهؤلاء من شر الخلق وهذه الأمة شر الأمم لان هذا فعل خيارها فكيف بفعل شرارها
وهنا طريق آخر وهو انه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم وكانوا من اعظم الناس اختصاصا به وصحبة له وقربا إليه واتصالا به وقد صاهرهم كلهم وما عرف عنه انه كان يذمهم ولا يلعنهم بل المعروف عنه انه كان يحبهم ويثني عليهم
وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا في حياته وبعد موته و إما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته فان كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب فأحد الأمرين لازم إما عدم علمه بأحوالهم أو مداهنته لهم وأيهما كان فهو اعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل ... فان كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وان كنت تدري فالمصيبة اعظم ... وان كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته و أكابر أصحابه و من قد اخبر بما سيكون بعد ذلك أين كان عن علم ذلك و أين الاحتياط للامة حتى لا يولي مثل هذا أمرها و من وعد أن يظهر دينه على الدين كله فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين
فهذا و نحوه من اعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول كما قال مالك و غيره إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء و لو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين(3/46)
و لهذا قال أهل العلم أن الرافضة دسيسة الزندقة و انه وضع عليها و طريق آخر أن يقال الأسباب الموجبة لعلي أن كان هو المستحق قوية و الصوارف منتفية و القدرة حاصلة و مع وجود الداعي و القدرة و انتفاء الصارف يجب الفعل و ذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم و من أفضلهم نسبا و لم يكن بينه و بين أحد عداوة لا عداوة نسب و لا إسلام بأن يقول القائل قتل أقاربهم في الجاهلية
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 468 ]
و أيضا فانه من المعلوم أن الإسلام في زمن علي كان اظهر و اكثر مما كان في خلافة أبي بكر و عمر و كان الذين قاتلهم علي ابعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر و عمر فان أبا بكر قاتل المرتدين و أهل الكتاب مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه و سلم من الضعف العظيم و ما حصل من الارتداد لأكثر البوادي و ضعف قلوب أهل الأمصار و شك كثيرهم في جهاد مانعي الزكاة و غيرهم
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز و اليمن يقهرونهم و هما فارس و الروم فقهرهم و فتح بلادهم و تمم عثمان ما تمم من فتح المشرق و المغرب ثم فتح بعد ذلك في خلافة بني أمية ما فتح بالمشرق و المغرب كما وراء النهر و الأندلس و غيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك
فمعلوم انه لو تولى غير أبي بكر و عمر موت النبي صلى الله عليه و سلم مثل علي أو عثمان لم يمكنه أن يفعل ما فعلا فان عثمان لم يفعل ما فعلا مع قوة الإسلام في زمانه و علي كان اعجز من عثمان و كان اعوانه اكثر من أعوانهما و عدوه اقل و اقرب إلى الإسلام من عدوهما و مع هذا فلم يقهر عدوه فكيف كان يمكنه قهر المرتدين و قهر فارس و الروم مع قلة الأعوان و قوة العدو(3/47)
و هذا مما يبين فضل أبي بكر و عمر و تمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه و سلم و على الناس بعده و أن من اعظم نعم الله تولية أبي بكر و عمر بعد النبي صلى الله عليه و سلم فانه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا إما لعدم القدرة و إما لعدم الإرادة
فانه إذا قيل لم لم يغلب علي معاوية و أصحابه فلا بد أن يكون سبب ذلك إما عدم كمال القدرة و إما عدم كمال الإرادة و إلا فمع كمال القدرة و كمال الإرادة يجب وجود الفعل و من تمام القدرة طاعة الاتباع له و من تمام الإرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله و لرسوله
و أبو بكر و عمر كانت قدرتهما اكمل و إرادتهما افضل فبهذا نصر الله بهما الإسلام و أذل بهما الكفر و النفاق و علي رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة و الإرادة ما أوتيا
و الله تعالى كما فضل بعض النبيين على بعض فضل بعض الخلفاء على بعض فلما لم يؤت ما أوتيا لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا و حينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه و سلم اعجز و اعجز فانه على أي وجه قدر ذلك فان غاية ما يقول المتشيع أن اتباعه لم يكونوا يطيعونه
فيقال إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه فكيف يطيعه من لم يبايعه و إذا قيل لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم لفعل بهم اعظم مما فعل أبو بكر و عمر فيقال قد بايعه اكثر ممن بايع أبا بكر و عمر و نحوهما و عدوه اضعف و اقرب إلى الإسلام من عدو أبي بكر و عمر و لم يفعل ما يشبه فعلهما فضلا عن أن يفعل افضل منه
و إذا قال القائل أن اتباع أبي بكر و عمر رضي الله عنهما اعظم إيمانا و تقوى فنصرهم الله لذلك
قيل هذا يدل على فساد قول الرافضة فانهم يقولون أن اتباع أبي بكر و عمر كانوا مرتدين أو فاسقين و إذا كان نصرهم و تأييدهم لإيمانهم و تقواهم دل ذلك على أن الذين بايعوهما افضل من الشيعة الذين بايعوا عليا(3/48)
و إذا كان المقرون بإمامتهما افضل من المقرين بإمامة علي دل ذلك على انهما افضل منه
و أن قالوا أن عليا إنما لم ينتصر لان اتباعه كانوا يبغضونه و يختلفون عليه
قيل هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة أن الذين بايعوا عليا و اقروا بإمامته افضل ممن بايع أبا بكر و عمر و اقر بإمامتهما فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم كانوا من اشر الناس فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ولا طائفة ينتصر بها على العدو فيمتنع أن يكون علي مع الشيعة قادرا على قهر الكفار
وبالجملة فلا بد من كمال حال أبي بكر وعمر واتباعهما فالنقص الذي حصل في خلافة علي من إضافة ذلك إما إلى الإمام و إما إلى اتباعه و إما إلى المجموع
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبي بكر وعمر واتباعهما افضل من علي وإتباعه فانه أن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه وان كان من اتباعه كان المقرون بإمامتها أفضل من المقرين بإمامته فتكون أهل السنة افضل من الشيعة وذلك يستلزم كونهما افضل منه لان ما امتاز به الأفضل افضل مما امتاز به المفضول
وهذا بين لمن تدبره فان الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم هم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فان أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان و إما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه كسعد بن أبي وقاص و أسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة و أمثال هؤلاء من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان(3/49)
ومنهم من قاتله كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة و معاوية من السابقين والتابعين
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه لزم أن يكون كل من الثلاثة افضل لان عليا كان موجودا على عهد الثلاثة فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره كما تقوله الرافضة أو كان افضل و أحق بها كما يقوله من يقوله من الشيعة لكان افضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله به إلى ما لم يؤمروا به بل ما نهوا عنه وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان افضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون اتباع علي افضل وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم افضل من الثلاثة لزم أن يكون ما فعلوه من الخير افضل مما فعله الثلاثة
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار الذي تواترت به الأخبار وعلمته البوادي والحضار فانه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه وقمع المرتدين وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ما لم يجر بعدهم مثله
وعلي رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان فانهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله و إنفاق كنوز كسرى وقيصر وغير ذلك من الحوادث المشكورة والأعمال المبرورة(3/50)
وكان أبو بكر وعمر افضل سيرة واشرف سريرة من عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين فلهذا كانا ابعد عن الملام و أولى بالثناء العام حتى لم يقع في زمنهما شيء من الفتن فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار وأهل الإيمان في إقبال وأهل الكفر في إدبار ثم أن الرافضة أو أكثرهم لفرط جهلهم وضلالهم يقولون انهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين وان اليهود والنصارى كانوا خيرا منهم لان الكافر الأصلي خير من المرتد وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم وهذا القول من اعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال من المعلوم بالاضطرار والمتواتر من الأخبار أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة وهاجر طائفة منهم كعمر وعثمان وجعفر بن أبي طالب هجرتين هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة وكان الإسلام إذ ذاك قليلا والكفار مستولون على عامة الأرض وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله وهم صابرون على الأذى متجرعون لمرارة البلوى وفارقوا الأوطان وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما وصفهم الله تعالى بقوله للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم لم يكرههم عليه مكره ولا الجاهم إليه أحد فانه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك هو ومن اتبعه منهيين عن القتال مأمورين بالصفح والصبر فلم يسلم أحد إلا باختياره ولا هاجر أحد إلا باختياره(3/51)
ولهذا قال احمد بن حنبل وغيره من العلماء انه لم يكن من المهاجرين من نافق و إنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ودخل فيه من قبائل الأوس والخزرج ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية وكانوا منافقين
كما قال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية و إما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين فان من اسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق و الذين هاجروا لم يكن فيهم منافق بل كانوا مؤمنين بالله و رسوله محبين لله و لرسوله و كان الله و رسوله احب إليهم من أولادهم و أهلهم و أموالهم
و إذا كان كذلك علم أن رميهم أو رمي أكثرهم أو بعضهم بالنفاق كما يقوله من يقوله من الرافضة من اعظم البهتان الذي هو نعت الرافضة و إخوانهم من اليهود فان النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود و لا يوجد في الطوائف اكثر و اظهر نفاقا منهم حتى يوجد فيهم النصيرية و الإسماعيلية و أمثالهم ممن هو من اعظم الطوائف نفاقا و زندقة و عداوة لله و لرسوله و كذلك دعواهم عليهم الردة من اعظم الأقوال بهتانا فان المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة و معلوم أن الشبهات و الشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته و انتشار أعلامه
و إما الشهوة فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك كانت في أول الإسلام أولى بالأتباع فمن خرجوا من ديارهم و أموالهم و تركوا ما كانوا عليه من الشرف و العز حبا لله و رسوله طوعا غير إكراه كيف يعادون الله و رسوله طلبا للشرف و المال(3/52)
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة و قيام المقتضي للمعاداة لم يكونوا معادين لله و رسوله بل موالين لله و رسوله معادين لمن عادى الله و رسوله فحين قوي المقتضي للموالاة و ضعفت القدرة على المعاداة يفعلون نقيض هذا هل يظن هذا إلا من هو من اعظم الناس ضلالا
و ذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه و كمال الإرادة له وجب وجوده و هم في أول الإسلام كان المقتضي لإرادة معاداة الرسول أقوى لكثرة أعدائه و قلة أوليائه و عدم ظهور دينه و كانت القدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى حتى كان يعاديه آحاد الناس و يباشرون أذاه بالأيدي و الألسن و لما ظهر الإسلام و انتشر كان المقتضى للمعاداة اضعف و القدرة عليها اضعف و من المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته
و معلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولا أقوى و الموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى و لم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم فعلم يقينا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبته و الذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن اسلم بالسيف كأصحاب مسيلمة و أهل نجد فأما المهاجرون الذين اسلموا طوعا فلم يرتد منهم والله الحمد احد وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها هم طئفة منهم بالردة ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو
و أهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة ثم رأوا ظهور الإسلام فاسلموا مغلوبين فهموا بالردة فثبتهم الله بعثمان بن أبي العاص(3/53)
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه و سلم فإنما اسلموا طوعا و المهاجرون منهم و الأنصار و هم قاتلوا الناس على الإسلام و لهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه و سلم و ذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله و قواهم بابي بكر الصديق رضي الله عنه فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقينو جهاد الكافرين فالحمد لله الذي من على الإسلام و أهله بصديق الأمة الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله و حفظه به بعد وفاته فالله يجزيه عن الإسلام و أهله خير الجزاء
منهاج السنة النبوية [ جزء 7 - صفحة 509 ]
و أيضا فالصحابة لم يتنازعوا في زمن أبي بكر في مسالة إلا فصلها و ارتفع النزاع فلا يعلم بينهم في زمانه مسالة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاة النبي صلى الله عليه و سلم و دفنه و ميراثه و تجهيزه جيش أسامة و قتال مانعي الزكاة و غير ذلك من المسائل الكبار
بل كان رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم حقا يعلمهم و يقومهم و يشجعهم و يبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون
و بعده فلم يبلغ علم أحد و كماله علم أبي بكر و كماله فصاروا يتنازعون في بعض المسائل كما تنازعوا في الجد و الاخوة و في الحرام و الطلاق الثلاث و في متعة الحج و نفقة المبتوتة و سكناها و غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر
و كانوا يخالفون عمر و عثمان و عليا في كثير من أقوالهم و لم يعرف انهم خالفوا الصديق في شيء مما كان يفتي به و يقضي و هذا يدل على غاية العلم و قام رضي الله عنه مقام رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام الإسلام فلم يخل بشيء بل ادخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين و غيرهم و كثرة الخاذلين فكمل به من علمهم و دينهم ما لا يقاومه فيه أحد(3/54)
و كانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته قال أبو القاسم السهيلي ظهر سر قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا في اللفظ و المعنى فانهم قالوا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انقطع هذا بموته
و أيضا فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنة و أبو بكر لم يتعلم من علي شيئا و مما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر و عليا كعلقمة و الأسود و شريح وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي و إما تابعو المدينة و مكة و البصرة فهذا عندهم اظهر و اشهر من أن يذكر و إنما ظهر علم علي و فقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته و كل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر و عمر لا في فقه و لا علم و لا دين بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر إلا من كان ينكر عليه و يذمه مع قلتهم و حقارتهم و حقارتهم و خمولهم
و هم ثلاث طوائف طائفة غلت فيه و ادعت فيه الإلهية و هؤلاء حرقهم بالنار و طائفة سبت أبا بكر رأسهم عبد الله بن سبأ فطلب علي قتله حتى هرب منه إلى المدائن
و طائفة كانت تفضله حتى قال لا يبلغني عن أحد انه فضلني على أبي بكر و عمر إلا جلدته جلد المفتري
و قد روي عن علي من نحو ثمانين وجها انه قال على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر
و في صحيح البخاري و غيره من رواية رجال همدان خاصته التي يقول فيهم
... و لو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام ... انه قال و قد سأله ابنه محمد بن الحنفية يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر قال ثم أنت قال إنما أبوك رجل من المسلمين
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 56 ]
فصل(3/55)
قال الرافضي وقال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض والجواب أن يقال لا ريب أن عليا لم يكن يقول هذا بالمدينة بين المهاجرين والأنصار الذين تعلموا كما تعلم وعرفوا كما عرف وإنما قال هذا لما صار إلى العراق وقد دخل في دين الإسلام خلق كثير لا يعرفون كثيرا من الدين وهو الإمام الذي يجب عليه أن يفتيهم ويعلمهم فكان يقول لهم ذلك ليعلمهم ويفتيهم كما أن الذين تأخرت حياتهم من الصحابة واحتاج الناس إلى علمهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لم ينقلها الخلفاء الأربعة ولا أكابر الصحابة لأن أولئك كانوا مستغنين عن نقلها لأن الذين عندهم قد علموها كما علموها
ولهذا يروى لابن عمر وابن عباس وعائشة وأنس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الصحابة من الحديث مالا يروى لعلي ولا لعمر وعمر وعلي أعلم من هؤلاء كلهم لكن هؤلاء احتاج الناس إليهم لكونهم تأخرت وفاتهم وأدركهم من لم يدرك أولئك السابقين فاحتاجوا أن يسألوهم واحتاج أولئك أن يعلموهم ويحدثوهم
فقول علي لمن عنده بالكوفة سلوني هو من هذا الباب لم يقل هذا لابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبي الدرداء وسلمان وأمثالهم فضلا عن أن يقول ذلك لعمر وعثمان
ولهذا لم يكن هؤلاء ممن يسأله فلم يسأله قط لا معاذ ولا أبي ولا ابن مسعود ولا من هو دونهم من الصحابة وإنما كان يستفتيه المستفتي كما يستفتي أمثاله من الصحابة وكان عمر وعثمان يشاورانه كما يشاوران أمثاله فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه
وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله وأمرهم شورى بينهم سورة الشورى 38(3/56)
ولهذا كان رأي عمر وحكمه وسياسته من أسد الأمور فما رؤى بعده مثله قط ولا ظهر الإسلام وانتشر وعز كظهوره وانتشاره وعزه في زمنه وهو الذي كسر كسرى وقصر قيصر والروم والفرس وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص ولم يكن لأحد بعد أبي بكر مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه
وقوله أنا أعلم بطرق السماء من طرق الأرض
كلام باطل لا يقوله عاقل ولم يصعد أحد ببدنه إلى السماء من الصحابة والتابعين وقد تكلم الناس في معراج النبي صلى الله عليه وسلم هل هو ببدنه أو بروحه وإن كان الأكثرون على أنه ببدنه فلم ينازع السلف في غير النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرج ببدنه
ومن اعتقد هذا من الغلاة في أحد من المشايخ وأهل البيت فهو من الضلال من جنس من اعتقد من الغلاة في أحد من هؤلاء النبوة أو ما هو أفضل من النبوة أو الإلهية وهذه المقالات كلها كفر بين لا يستريب في ذلك أحد من علماء الإسلام وهذا كاعتقاد الإسماعيلية أولاد ميمون القداح الذين كان جدهم يهوديا ربيبا لمجوسي وزعموا أنهم أولاد محمد بن إسماعيل بن جعفر واعتقد كثير من أتباعهم فيهم الإلهية أو النبوة وأن محمد بن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
وكذلك طائفة من الغلاة يعتقدون الإلهية أو النبوة في علي وفي بعض أهل بيته إما الاثنا عشر وإما غيره
وكذلك طائفة من العامة والنساك يعتقدون في بعض الشيوخ نوعا من الإلهية أو النبوة أو أنهم أفضل من الأنبياء ويجعلون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وكذلك طائفة من هؤلاء يجعلون الأولياء أفضل من الأنبياء
ويعتقد ابن عربي ونحوه أن خاتم الأنبياء يستفيد من خاتم الأولياء وأنه هو خاتم الأولياء
ويعتقد طائفة أخرى أن الفيلسوف الكامل أعلم من النبي بالحقائق العلمية والمعارف الإلهية(3/57)
فهذه الأقوال ونحوها هي من الكفر المخالف لدين الإسلام باتفاق أهل الإسلام ومن قال منها شيئا فإنه يستتاب منه كما يستتاب نظراؤه ممن يتكلم بالكفر كاستتابة المرتد إن كان مظهرا لذلك وإلا كان داخلا في مقالات أهل الزندقة والنفاق
وإن قدر أن بعض الناس خفى عليه مخالفة ذلك لدين الإسلام إما لكونه حديث عهد بالإسلام أو لنشأته بين قوم جهال يعتقدون مثل ذلك فهذا بمنزلة من يجهل وجوب الصلاة أو بعضها أو يرى الواجبات تجب على العامة دون الخاصة وأن المحرمات كالزنا والخمر مباح للخاصة دون العامة
وهذه الأقوال قد وقع في كثير منها كثير من المنتسبين إلى التشيع والمنتسبين إلى كلام أو تصوف أو تفلسف وهي مقالات باطلة معلومة البطلان عند أهل العلم والإيمان لا يخفى بطلانها على من هو من أهل الإسلام والعلم
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 83 ]
قال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو من الصحابة يعلمهم إذا جهلوا ويقويهم إذا ضعفوا ويحثهم إذا فتروا فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم حتى كان عمر مع كمال قوته وشجاعته يقول له يا خليفة رسول الله تألف الناس فيقول علام أتالفهم أعلى دين مفترى أم على شعر مفتعل وهذا باب واسع يطول وصفه
فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منها في أبي بكر ثم عمر وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل من الكفار أكثر مما قتل علي فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع فكثير من الصحابة أشجع من علي فالبراء ابن مالك أخو أنس قتل مائة رجل مبارزة غير من شورك في دمه
وأما خالد بن الوليد فلا يحصى عدد من قتله إلا الله وقد انكسر في يده في غزوة مؤته تسعة أسياف ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله علي(3/58)
وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وهي قوة يقينية بالله عز وجل وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين وهذه الشجاعة لا تحصل بكل من كان قوي القلب لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين وتنقص بنقص ذلك فمتى تيقن أنه يغلب عدوه كان إقدامه بخلاف إقدام من لم يكن كذلك وهذا كان من أعظم أسباب شجاعة المسلمين وإقدامهم على عدوهم فإنهم كانوا أيقنوا بخبر الله ورسوله أنهم منصورون وأن الله يفتح لهم البلاد
ومن شجاعة الصديق ما في الصحيحين عن عروة بن الزبير قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم سورة غافر 82
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 140 ]
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا سفيان أبا معاوية نجران وكان واليا عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم
وقد اتفق الناس على أن معاوية كان أحسن إسلاما من أبيه ولم يتهم أحد من الصحابة والتابعين معاوية بنفاق واختلفوا في أبيه
والصديق كان قد ولى أخاه يزيد بن أبي سفيان أحد الأمراء في فتح الشام لما ولى خالدا وأبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان لما فتحوا الشام بقي أمير إلى أن مات بالشام وكان من خيار الصحابة رجلا صالحا وأما حمله إلى عند يزيد فباطل وإسناده منقطع
وعمه يزيد الرجل الصالح هو من الصحابة توفي في خلافة عمر فلما مات ولى معاوية مكان أخيه وعمر من أعلم الناس بأحوال الرجال وأحذقهم في السياسة وأبعد الناس عن الهوى لم يول في خلافته أحدا من أقاربه وإنما كان يختار للولاية من يراه أصلح لها فلم يول معاوية إلا وهو عنده ممن يصلح للإمارة(3/59)
ثم لما توفي زاد عثمان في ولاية معاوية حتى جمع له الشام وكانت الشام في خلافة عمر أربعة أرباع فلسطين ودمشق وحمص والأردن ثم بعد ذلك فصلت قنسرين والعواصم من ربع حمص ثم بعد هذا عمرت حلب وخربت قنسرين وصارت العواصم دولا بين المسلمين وأهل الكتاب
وأقام معاوية نائبا عن عمر وعثمان عشرين سنة ثم تولى عشرين سنة ورعيته شاكرون لسيرته وإحسانه راضون به حتى أطاعوه في مثل قتال علي
ومعلوم أنه خير من أبيه أبي سفيان وكانت ولايته أحق بالجواز من ولاية أبيه فلا يقال إنه لم تكن تحل ولايته ولو قدر أن غيره كان أحق بالولاية منه أو أنه ممن يحصل به معونة لغيره ممن فيه ظلم لكان الشر المدفوع بولايته أعظم من الشر الحاصل بولايته
وأين أخذ المال وارتفاع بعض الرجال من قتل الرجال الذين قتلوا بصفين ولم يكن في ذلك عز ولا ظفر
فدل هذا وغيره على أن الذين أشارو على أمير المؤمنين كانوا حازمين وعلى إمام مجتهد لم يفعل إلا ما رآه مصلحة
لكن المقصود أنه لو كان يعلم الكوائن كان قد علم إن إقراره على الولاية أصلح له من حرب صفين التي لم يحصل بها إلا زيادة الشر وتضاعفه لم يحصل بها من المصلحة شيء وكانت ولايته أكثر خيرا وأقل شرا من محاربته وكل ما يظن في ولايته من الشر فقد كان في محاربته أعظم منه
وهذا وأمثاله كثير مما يبين جهل من يقول إنه كان يعلم الأمور المستقبلية بل الرافضة تدعى الأمور المتناقضة يدعون عليه علم الغيب مع هذه الأمور المنافية لذلك ويدعون له من الشجاعة ما يزعمون معه أنه كان هو الذي ينصر النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه وهو الذي قام الإسلام بسيفه في أول الأمر مع ضعف الإسلام
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 145 ](3/60)
وسائر الأحاديث الصحيحة تدل على أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحب إلى الله ورسوله وهذا قول أئمة السنة وأكثر ائمة الإسلام وهذا ظاهر في الاعتبار فإن محبة الله ورسوله للعمل بظهور ثمرته فما كان أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم كان أحب إلى الله ورسوله وقد دل الواقع على أن رأى الحسن كان أنفع للمسلمين لما ظهر من العاقبة في هذا وفي هذا
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للحسن وأسامة اللهم أني أحبها فأحبهما وأحب من يحبهما
وكلاهما كان يكره الدخول في القتال أما أسامة فإنه اعتزل القتال فطلبه علي ومعاوية فلم يقاتل مع واحد من هؤلاء كما اعتزل أكثر فضلاء الصحابة رضي الله عنهم مثل سعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعمران بن حصين وأبي بكرة وغيرهم
وكان ما فعله الحسن أفضل عند الله مما فعله الحسين فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة فقتل الحسين شهيدا مظلوما
وصار الناس في قتله ثلاثة أحزاب
حزب يرون أنه قتل بحق ويحتجون بما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان قالوا وهو جاء والناس على رجل واحد فأراد أن يفرق جماعتهم
وحزب يرون أن الذين قاتلوه كفارا بل يرون أن من لم يعتقد إمامته كافر والحزب الثالث وهم أهل السنة والجماعة يرون أنه قتل مظلوما شهيدا والحديث المذكور لا يتناوله بوجه فإنه رضي الله عنه لما بعث ابن عمه عقيلا إلى الكوفة فبلغه أنه قتل بعد أن بايعه طائفة فطلب الرجوع إلى بلده فخرج إليه السرية التي قتلته فطلب منهم أن يذهبوا به إلى يزيد أو يتركوه يرجع إلى مدينته أو يتركوه يذهب إلى الثغر للجهاد فامتنعوا من هذا وهذا وطلبوا أن يستأسر لهم ليأخذوه أسيرا(3/61)
ومعلوم باتفاق المسلمين أن هذا لم يكن واجبا عليه وأنه كان يجب تمكينه مما طلب فقاتلوه ظالمين له ولم يكن حينئذ مريدا لتفريق الجماعة ولا طالبا للخلافة ولا قاتل على طلب خلافة بل قائل دفعا عن نفسه لمن صال عليه وطلب اسره
وظهر بطلان قول الحزب الأول
وأما الحزب الثاني فبطلان قوله يعرف من وجوه كثيرة من أظهرها أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله حتى ولا الخوارج ولا سبى ذرية أحد منهم ولا غنم ما له ولا حكم في أحد ممن قاتله بحكم المرتدين كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين بل على كان يترضى عن طلحة والزبير وغيرهما ممن قاتله ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممن قاتله بحكم المسلمين
وقد ثبت بالنقل الصحيح أن مناديه نادى يوم الجمل لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يغنم مال وهذا مما أنكرته الخوارج عليه حتى ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه في ذلك كما ذكر ذلك في موضعه
واستفاضت الآثار عنه أنه كان يقول عن قتلى عسكر معاوية إنهم جميعا مسلمون ليسوا كفارا ولا منافقين كما قد ذكر في غير هذا الموضع وكذلك عمار وغيره من الصحابة
وكانت هذه الأحزاب الثلاثة بالعراق وكان بالعراق أيضا طائفة ناصبة من شيعة عثمانتبغض عليا والحسين وطائفة من شيعة علي تبغض عثمان وأقاربه
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب الذي فيها هو المختار بن عبيد وكان الحجاج هو المبير وكان هذا يتشيع لعثمان ويبغض شيعة علي وكان الكذاب يتشيع لعلي حتى قاتل عبيد الله بن زياد وقتله ثم أدعى أن جبريل يأتيه فظهر كذبه
وانقسم الناس بسبب هذا يوم عاشوراء الذي قتل فيه الحسين إلى قسمين فالشيعة اتخذته يوم مأتم وحزن يفعل فيه من المنكرات ما لا يفعله إلا من هو من إجهل الناس وأضلهم وقوم اتخذوه بمنزلة العيد فصاروا يوسعون فيه النفقات والأطعمة واللباس ورووا فيه أحاديث موضوعة(3/62)
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 236 ]
وأما شيعة علي ففيهم من يكفر الصحابة والأمة ويلعن أكابر الصحابة ما هو أعظم من ذاك بأضعاف مضاعفة
وشيعة عثمان تقاتل الكفار والرافضة لا تقاتل الكفار وشيعة عثمان لم يكن فيها زنديق ولا مرتد وقد دخل في شيعة علي من الزنادقة والمرتدين مالا يحصى عدده إلا الله تعالى
وشيعة عثمان لم توال الكفار والرافضة يوالون اليهود والنصارى والمشركين على قتال المسلمين كما عرف منهم وقائع
وشيعة عثمان ليس فيهم من يدعي فيه الإلهية ولا النبوة وكثير من الداخلين في شيعة علي من يدعي نبوته أو إلهيتة
وشيعة عثمان ليس فيهم من قال إن عثمان إمام معصوم ولا منصوص عليه والرافضة تزعم أن عليا منصوص عليه معصوم وشيعة عثمان متفقة على تقديم أبي بكر وتفضيلهما على عثمان وشيعة علي المتأخرون أكثرهم يذمونهما ويسبونهما وإما الرافضة فمتفقة على بغضها وذمهما وكثير منهم يكفرونهما وأما الزيدية فكثير منهم أيضا يذمهما ويسبهما بل ويلعنهما وخيار الزيدية الذين يفضلونه عليهما ويذمون عثمان أو يقعون به
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 317 ]
باب
قال الرافضي الفصل السادس في فسخ حججهم على إمامة أبي بكر احتجوا بوجوه الأول الإجماع والجواب منع الإجماع فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص وابن عباس حتى أن أباه أنكر ذلك وقال من استخلف على الناس فقالوا ابنك فقال وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس قالوا اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أن ابنك أكبر الصحابة سنا فقال أنا أكبر منه
وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم فأنكر عمر عليه ورد السبايا أيام خلافته(3/63)
والجواب بعد أن يقال الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدين ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدين حقا وكشف أسرارهم وهتك أستارهم بألسنتهم فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم تبين عداوتهم لله ورسوله ولخيار عباد الله وأوليائه المتقين ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا فنقول من كان له أدنى علم بالسيرة وسمع مثل هذا الكلام جزم بأحد أمرين إما بأن قائله من أجهل الناس بأخبار الصحابة وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب فظنى أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم من غير اعتبار منهم لذلك ولا نظر في أخبار الإسلام وفي الكتب المصنفة في ذلك حتى يعرف أحوال الإسلام فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول
ولا ريب أن المفترين للكذب من شيوخ الرافضة كثيرون جدا وغالب القوم ذوو هوى أو جهل فمن حدثهم بما يوافق هواهم صدقوه ولم يبحثوا عن صدقة وكذبه ومن حدثهم بما يخالف أهواءهم كذبوه ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه ولهم نصيب وافر من قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه سورة الزمر 32 كما أن أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون سورة الزمر 33
ومن أعظم ما في هذا الكلام من الجهل والضلال جعله بني حنيفة من أهل الإجماع فإنهم لما امتنعوا عن بيعته ولم يحملوا إليه الزكاة سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم وقد تقدم مثل هذا في كلامه(3/64)
وبنو حنيفة قد علم الخاص والعام أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة باليمامة وادعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة وادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقتل هو والأسود العنسى بصنعاء اليمن وكان اسمه عبهلة واتبع الأسود أيضا خلق كثير ثم قتله الله بيد فيروز الديلمي ومن أعانه على ذلك وكان قتله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل
قتله وقال رجل صالح من أهل بيت صالحين
والأسود ادعى الاستقلال بالنبوة ولم يقتصر على المشاركة وغلب على اليمن وأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتله الله ونصر عليه المسلمين بعد أن جرت أمور وقد نقل في ذلك ما هو معروف عند أئمة العلم
وأما مسيلمة فانه ادعى المشاركة في النبوة وعاش إلى خلافة أبي بكر
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت في منامي كأن في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فقيل لي انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين صاحب صنعاء وصاحب اليمامة وأمر مسيلمة وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له أشهر وأظهر من أن يخفي إلا على من هو من أبعد الناس عن المعرفة والعلم
وهذا أمر قد علمه من يعلمه من اليهود والنصارى فضلا عن المسلمين وقرآنه الذي قرأه قد حفظ الناس منه سورا إلى اليوم مثل قوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين
ومثل قوله الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا لقليل ومثل قوله إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر ولاتطع كل ساحر وكافر
ومثل قوله والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا إهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ولكن قريشا قوم لا يعدلون وأمثال هذا الهذيان(3/65)
ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر بعد قتل مسيلمة طلب منهم أبو بكر أن يسمعوه شيئا من قرآن مسيلمة فلما أسمعوه قال لهم ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل أي من رب
وكان مسيلمة قد كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم
من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ولما جاء رسوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله قال نعم قال لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك ثم بعد هذا أظهر أحد الرسولين الردة بالكوفة فقتله ابن مسعود وذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا
وكان مسيلمة قد قدم في وفد بني حنيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام ثم لما رجع إلى بلده قال لقومه إن محمد قد أشركني في الأمر معه واستشهد برجلين أحدهما الرحال بن عنفوة فشهد له بذلك ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لثلاثة أحدهم أبو هريرة والثاني الرحال هذا إن أحدكم ضرسه في النار أعظم من كذا وكذا فاستشهد الثالث في سبيل الله وبقي أبو هريرة خائفا حتى شهد هذا لمسيلمة بالنبوة واتبعه فعلم أنه هو كان المراد بخبر النبي صلى الله عليه وسلم
وكان مؤذن مسيلمة يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسول الله ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الإمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذب وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف
والحنيفة أم محمد بن الحنيفة سرية علي كانت من بني حنيفة وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبي نساءهم ويطأ من ذلك السبي(3/66)
وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا لا نؤديها إليك بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤووها إليه وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع عن أدائها جملة لا من قال أنا أؤديها بنفسي
ولو عد هذا المفترى الوافضي من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى لكان ذلك من جنس عدة لبني حنيفة بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس فإن أولئك كفار مليون وهؤلاء مرتدون وأولئك يقرون بالجزية وهؤلاء لا يقرون بالجزية وإولئك لهم كتاب أو شبهة كتاب وهؤلاء اتبعوا مفتريا كذابا لكن كان مؤذنه يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله وكانوا يجعلون محمدا ومسيلمة سواء
وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب الذي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام وهذا أمر قد خلص إلى العذاري في خدورهن بل قد أفرد الإخباريون لقتال أهل الردة كتبا سموها كتب الردة والفتوح مثل كتاب الردة لسيف بن عمر والواقدي وغيرهما يذكرون فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون كما قد أوردوا مثل ذلك في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوح الشام
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 485 ]
وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة إلى أن يصير إماما ناطقا ثم ينقلب الها روحانيا على ما سنشرح قولهم فيه من بعد
قالوا ومن بلغته إلى هذا المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة على وولده عند البلاغ والرجوع إلى القول بالحق ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد(3/67)
قال القاضي فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه وتكذيب ملائكته ورسله وجحد المعاد والثواب والعقاب وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمحرقون بذكر الأول والثاني والناطق والأساس إلى غير ذلك ويخدعون به الضعفاء حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل وسأصف من بعد من عظيم سبهم لجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتجريدهم القول بالاتحاد وأنه نهاية دعوتهم ما يعلم به كل قار له عظيم كفرهم وعنادهم للدين
قلت وهذا بين فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق
والصديق رضي الله عنه هو الإمام في قتال المرتدين وهؤلاء مرتدون فالصديق وحزبه هم أعداؤه
والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما وأنه كان ابن عمه
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 507 ](3/68)
واذا عرف هذا فوجه الاستدلال من الآية أن يقال قوله تعالى ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح 16 يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد وبأنهم يقاتلون أو يسلمون قالوا فلا يجوز أن يكون دعاهم إلى قتال أهل مكة وهوازن عقيب عام الفتح لأن هؤلاء هم الذين دعوا إليهم عام الحديبية ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم ليس هو أشد بأسا منهم كلهم عرب من أهل الحجاز وقتالهم من جنس واحد وأهل مكة ومن حولها كانوا أشد بأسا وقتالا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق من أولئك وكذلك في غير ذلك من السرايا
فلا بد أن يكون هؤلاء الذين تقع الدعوة إلى قتالهم لهم اختصاص بشدة البأس ممن دعوا إليه عام الحديبية كما قال تعالى أولي بأس شديد سورة الفتح 16 وهنا صنفان أحدهما بنو الأصفر الذين دعوا إلى قتالهم عام تبوك سنة تسع فإنهم أولو بأس شديد وهم أحق بهذه الصفة من غيرهم وأول قتال كان معهم عام مؤتة عام ثمان قبل تبوك فقتل فيها أمراء المسلمين زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة ورجع المسلمون كالمنهزمين
ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا نحن الفرارون فقال
بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة كل مسلم
ولكن قد عارض بعضهم هذا بقوله تقاتلونكم أو يسلمون سورة الفتح 16 وأهل الكتاب يقاتلون حتى يعطوا الجزية فتأول الآية طائفة أخرى في المرتدين الذين قاتلهم الصديق أصحاب مسيلمة الكذاب فإنهم كانوا أولي بأس شديد ولقي المسلمون في قتالهم شدة عظيمة واستحر القتل يومئذ بالقراء وكانت من أعظم الملاحم التي بين المسلمين وعدوهم والمرتدون يقاتلون أو يسلمون لا يقبل منهم جزية وأول من قاتلهم الصديق وأصحابه فدل على وجوب طاعته في الدعاء إلى قتالهم(3/69)
والقرآن يدل والله اعلم على أنهم يدعون إلى قوم موصوفين بأحد الأمرين إما مقاتلتهم لهم وإما إسلامهم لا بد من أحدهما وهم أولو بأس شديد وهذا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية فإنهم لم يوجد منهم لا هذا ولا هذا ولا أسلموا بل صالحهم الرسول بلا إسلام ولا قتال فبين القرآن الفرق بين من دعوا إليه عام الحديبية وبين من يدعون إليه بعد ذلك
ثم إذا فرض عليهم الإجابة والطاعة إذا دعوا إلى قوم أولي بأس شديد فلأن يجب عليهم الطاعة إذا دعوا إلى من ليس بذي بأس شديد بطريق الأولى والأحرى فتكون الطاعة واجبة عليهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهوازن وثقيف
ثم لما دعاهم بعد هؤلاء إلى بني الأصفر كانوا أولي بأس شديد والقرآن وقد وكد الأمر في عام تبوك وذم المتخلفين عن الجهاد ذما عظيما كما تدل عليه سورة براءة وهؤلاء وجد فيهم أحد الأمرين القتال أو الإسلام وهو سبحانه لم يقل تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح 16 إلى أن يسلموا ولا قال قاتلوهم حتى يسلموا بل وصفهم بأنهم يقاتلون أو يسلمون ثم إذا قوتلوا فإنهم يقاتلون كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
فليس في قوله تقاتلونهم ما يمنع أن يكون القتال إلى الإسلام وأداء الجزية لكن يقال قوله ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح 16 كلام حذف فاعله فلم يعين الفاعل الداعي لهم إلى القتال فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد يقاتلونهم أو يسلمون
ولا ريب أن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين ثم قتال فارس والروم وكذلك عمر دعاهم إلىقتال فارس والروم وعثمان دعاهم إلى قتال البربر ونحوهم والآية تناول هذا الدعاء كله(3/70)
أما تخصيصها بمن دعاهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله طائفة من المحتجين بها على خلافة أبي بكر فخطأ بل إذا قيل تتناول هذا وهذا كان هذ مما يسوغ ويمكن أن يراد بالآية ويستدل عليه بها ولهذا وجب قتال الكفار مع كل أمير دعا إلى قتالهم وهذا أظهر الأقوال في الآية وهو أن المراد تدعون إلى قتال أولي بأس شديد أعظم من العرب لا بد فيهم من أحد أمرين إما أن يسلموا وإما أن يقاتلوا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية فإن بأسهم لم يكن شديدا مثل هؤلاء ودعوا إليهم ففي ذلك لم يسلموا ولم يقاتلوا وكذلك عام الفتح في أول الأمر لم يسلموا ولم يقاتلوا لكن بعد ذلك أسلموا
وهؤلاء هم الروم والفرس ونحوهم فإنه لا بد من قتالهم إذا لم يسلموا وأول الدعوة إلى قتال هؤلاء عام مؤتة وتبوك وعام تبوك لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلموا لكن في زمن الصديق والفاروق كان لا بد من أحد الأمرين إما الإسلام وإما القتال وبعد القتال أدوا الجزية لم يصالحوا ابتداء كما صالح المشركون عام الحديبية فتكون دعوة أبي بكر وعمر إلى قتال هؤلاء داخلة في الآية وهو المطلوب
والآية تدل على أن قتال علي لم تتناوله الآية فإن الذين قاتلهم لم يكونوا أولي بأس شديد أعظم من بأس أصحابه بل كانوا من جنسهم وأصحابه كانوا أشد بأسا
وأيضا فهم لم يكونوا يقاتلون أو يسلمون فإنهم كانوا مسلمين
وما ذكره في الحديث من قوله حربك حربي لم يذكر له إسنادا فلا يقوم به حجة فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث(3/71)
ومما يوضح الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول براءة وآية الجزية كان الكفار من المشركين وأهل الكتاب تارة يقاتلهم وتارة يعاهدهم فلا يقاتلهم ولا يسلمون فلما أنزل الله براءة وأمره فيها بنبذ العهد إلى الكفار وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون صار حينئذ مأمورا بأن يدعو الناس إلى قتال من لا بد من قتالهم أو إسلامهم وإذا قاتلهم قاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لم يكن له حينئذ أن يعاهدهم بلا جزية كما كان يعاهد الكفار من المشركين وأهل الكتاب كما عاهد أهل مكة عام الحديبية وفيها دعا الأعراب إلى قتالهم وأنزل فيها سورة الفتح وكذلك دعا المسلمين وقال فيها قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح 16 بخلاف هؤلاء الذين دعاهم إليهم عام الحديبية
والفرق بينهما من وجهين أحدهما أن الذين يدعون إلى قتالهم في المستقبل أولوا بأس شديد بخلاف أهل مكة وغيرهم من العرب
والثاني أنكم تقاتلونهم أو يسلمون ليس لكم أن تصالحوهم ولا تعاهدوهم بدون أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما قاتل أهل مكة وغيرهم والقتال إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وهذا يبين أن هؤلاء أولي البأس لم يكونوا ممن يعاهدون بلا جزية فإنهم يقاتلون أو يسلمون ومن يعاهد بلا جزية له حال ثالث لا يقاتل فيها ولا يسلم وليسوا أيضا من جنس العرب الذين قوتلوا قبل ذلك فتبين أن الوصف لا يتناول الذين قاتلهم بحنين وغيرهم فإن هؤلاء بأسهم من جنس بأس أمثالهم من العرب الذين قوتلوا قبل ذلك
فتبين أن الوصف يتناول فارس والروم الذين أمر الله بقتالهم أو يسلمون وإذا قوتلوا قبل ذلك فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(3/72)
وإذا قيل إنه دخل ذلك في قتال المرتدين لأنهم يقاتلون أو يسلمون كان أوجه من أن يقال المراد قتال أهل مكة وأهل حنين الذين قوتلوا في حال كان يجوز فيها مهادنة الكفار فلا يسلمون ولا يقاتلون والنبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحنين كان بينه وبين كثير من الكفار عهود بلا جزية فأمضاها لهم ولكن لما أنزل الله براءة بعد ذلك عام تسع سنة غزوة تبوك بعث أبا بكر بعد تبوك أميرا على الموسم فأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وأن من كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته وأردفه بعلى يأمره بنبذ العهود المطلقة وتأجيل من لا عهد له أربعة أشهر كان آخرها شهر ربيع سنة عشر
وهذه الحرم المذكورة في قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية سورة التوبة 5 ليس المراد الحرم المذكورة في قوله منها أربعة حرم سورة التوبة 36 ومن قال ذلك فقد غلط غلطا معروفا عند أهل العلم كما هو مبسوط في موضعه
ولما أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس واتفق المسلمون على أخذها من أهل الكتاب والمجوس
وتنازع العلماء في سائر الكفار على ثلاثة أقوال فقيل جميعهم يقاتلون بعد ذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إذا لم يسلموا وهذا قول مالك
وقيل يستثنى من ذلك مشركون العرب وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه
وقيل ذلك مخصوص بأهل الكتاب ومن له شبهة كتاب وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه
والقول الأول والثاني متفقان في المعنى فإن آية الجزية لم تنزل إلا بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من قتال مشركي العرب فإن آخر غزواته للعرب كانت غزوة الطائف وكانت بعد حنين وحنين بعد فتح مكة وكل ذلك سنة ثمان وفي السنة التاسعة غزا النصارى عام تبوك وفيها نزلت سورة براءة وفيها أمر بالقتال حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(3/73)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أمره أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما رواه مسلم في صحيحه وصالح النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران على الجزية وهم أول من أدى الجزية وفيهم أنزل الله صدر سورة آل عمران ولما كانت سنة تسع نفى المشركون عن الحرم ونبذ العهود إليهم وأمره الله تعالى أن يقاتلهم وأسلم المشركون من العرب كلهم فلم يبق مشرك معاهد لا بجزية ولا بغيرها وقبل ذلك كان يعاهدهم بلا جزية فعدم أخذ الجزية منهم هل كان لأنه لم يبق فيهم من يقاتل حتى يعطوا الجزية بل أسلموا كلهما لما رأوا من حسن الإسلام وظهوره وقبح ما كانوا عليه من الشرك وأنفتهم من أن يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون
أو لأن الجزية لا يجوز أخذها منهم بل يجب قتالهم إلى الإسلام فعلى الأول تؤخذ من سائر الكفار كما قاله أكثر الفقهاء وهؤلاء يقولون لما أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ونهى عن معاهدتهم بل جزية كما كان الأمر أولا وكان هذا تبيها على أن من هو دونهم من المشركين أولى أن لا يهادن بغير جزية بل يقاتل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وصالح أهل البحرين على الجزية وفيهم مجوس واتفق على ذلك خلفاؤه وسائر علماء المسلمين وكان الأمر في أول الإسلام أنه يقاتل الكفار ويهادنهم بلا جزية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله قبل نزوله براءة فلما نزلت براءة أمره فيها بنبذ هذه العهود المطلقة وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية فغيرهم أولى أن يقاتلوا ولا يعاهدوا
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 520 ]
وأما قول الرافضي إن الداعي جاز أن يكون عليا دون من قبله من الخلفاء لما قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين يعني أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج
فيقال له هذا باطل قطعا من وجوه(3/74)
أحدها أن هؤلاء لم يكونوا أشد بأسا من بني جنسهم بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا أقل من عسكره وجيشه كانوا أكثر منهم وكذلك الخوارج كان جيشه أضعافهم وكذلك أهل صفين كان جيشه أكثر منهم وكانوا من جنسهم فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأس شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم
ومعلوم أن بني حنيفة وفارس والروم كانوا في القتال أشد بأسا من هؤلاء بكثير ولم يحصل في أصحاب علي من الخوارج من استحرار القتل ما حصل في جيش الصديق الذين قاتلوا أصحاب مسيلمة وأما فارس والروم فلا يشك عاقل أن قتالهم كان أشد من قتال المسلمين العرب بعضهم بعضا وإن كان قتال العرب للكفار في أول الإسلام كان افضل وأعظم فذاك لقلة المؤمنين وضعفهم في أول الأمر لا أن عدوهم كان أشد الناس بأسا من فارس والروم
ولهذا قال تعالى ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة سورة آل عمران 123 فإن هؤلاء تجمعهم دعوة الإسلام والجنس فليس في بعضهم لبعض من البأس ما كان في فارس والروم والنصارى والمجوس للعرب المسلمين الذين لم يكونوا يعدونهم إلا من أضعف جيرانهم ورعاياهم وكانوا يحتقرون أمرهم غاية الاحتقار ولولا أن الله أيد المؤمنين بما أيد به رسوله والمؤمنين على سنته الجميلة معهم لما كانوا ممن يثبت معهم في القتال ويفتح البلاد وهم أكثر منهم عددا وأعظم قوة وسلاحا لكن قلوب المؤمنين أقوى بقوة الإيمان التي خصم الله بها
الوجه الثاني أن عليا لم يدع ناسا بعيدين منه إلى قتال أهل الجمل وقتال الخوارج ولما قدم البصرة لم يكن في نيته قتال أحد بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة والزبير وأما الخوارج فكان بعض عسكره يكفيهم لم يدع أحدا إليهم من أعراب الحجاز
الثالث أنه لو قدر أن عليا تجب طاعته في قتال هؤلاء فمن الممتنع أن يأمر الله بطاعة من يقاتل أهل الصلاة لردهم إلى طاعة ولى الأمر ولا يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بالله ورسوله(3/75)
ومعلوم أن من خرج من طاعة علي ليس بأبعد عن الإيمان بالله ورسوله ممن كذب الرسول والقرآن ولم يقر بشيء مما جاء به الرسول بل هؤلاء أعظم ذنبا ودعاؤهم إلى الإسلام أفضل وقتالهم أفضل إن قدر أن الذين قاتلوا عليا كفار
وإن قيل هم مرتدون كما تقوله الرافضة
فمعلوم أن من كانت ردته إلى أن يؤمن برسول آخر غير محمد كأتباع مسيلمة الكذاب فهو أعظم ردة ممن لم يقر بطاعة الإمام مع إيمانه بالرسول
فبكل حال لا يذكر ذنب لمن قاتله علي إلا وذنب من قاتله الثلاثة أعظم ولا يذكر فضل ولا ثواب لمن قاتل مع علي إلا والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلاثة أعظم
هذا بتقدير أن يكون من قاتله علي كافرا ومعلوم أن هذا قول باطل لا يقوله إلا حثالة الشيعة وإلا فعقلاؤهم لا يقولون ذلك وقد علم بالتواتر عن علي وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفرون من قاتل عليا وهذا كله إذا سلم أن ذلك القتال كان مأمورا به كيف وقد عرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم في هذا القتال هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوب القتال فيه أم لم يكن من ذلك لانتفاء الشرط الموجب للقتال
والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به وأن تركه أفضل من الدخول فيه بل عدوه قتال فتنة وعلى هذا جمهور أهل الحديث وجمهور ائمة الفقهاء فمذهب أبي حنيفة فيما ذكره القدوري أنه لا يجوز قتال البغاة إلا أن يبدأوا بالقتال وأهل صفين لم يبدأوا عليا بقتال
وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة والشام والبصرة وأعيان فقهاء الحديث كمالك وأيوب والأوزاعي وأحمد وغيرهم أنه لم يكن مأمورا به وأن تركه كان خيرا من فعله وهو قول جمهور ائمة السنة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب بخلاف قتال الحرورية والخوارج أهل النهروان فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق الصحابة وعلماء السنة(3/76)
ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة وقال
هل ترون ما أرى قالوا لا قال
فإني ارى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر وفي السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنها ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف
وفي السنن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له واستشراف اللسان فيها كوقوع السيف
وعن أم سلمة قالت استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال
سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن يستشرف لها تستشرف له ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به
ورواه أبو بكرة في الصحيحين وقال فيه
فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال
يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى الحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني فقال
يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار
ومثل هذا الحديث معروف عن سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة والذين رووا هذه الأحاديث من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأبي هريرة وغيرهم جعلوا قتال الجمل وصفين من ذلك بل جعلوا ذلك أول قتال فتنة كان في الإسلام وقعدوا عن القتال وأمرهم غيرهم بالقعود عن القتال كما استفاضت بذلك الآثار عنهم(3/77)
والذين قاتلوا من الصحابة لم يأت أحد منهم بحجة توجب القتال لا من كتاب ولا من سنة بل أقروا بأن قتالهم كان رأيا رأوه كما أخبر بذلك علي رضي الله عنه عن نفسه ولم يكن في العسكرين أفضل من علي فيكون ممن هو دونه أولى وكان علي أحيانا يظهر فيه الندم والكراهة للقتال مما يبين أنه لو لم يكن عنده فيه شيء من الأدلة الشرعية مما يوجب رضاه وفرحه بخلاف قتاله للخوارج فإنه كان يظهر فيه من الفرح والرضا والسرور ما يبين أنه كان يعلم أن قتالهم كان طاعة لله ورسوله يتقرب به إلى الله لأن في قتال الخوارج من النصوص النبوية والأدلة الشرعية ما يوجب ذلك
ففي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق
وفي لفظ مسلم قال
ذكر قوما يخرجون في أمته يقتلهم ادنى الطائفتين إلى الحق سيماهم التحليق هم شر الخلق أو من شر الخلق قال أبو سعيد فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق
ولفظ
البخاري يخرج ناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه حتى يعود السهم
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 533 ](3/78)
وأما تكفير هذا الرافضي وأمثاله لهم وجعل رجوعهم إلى طاعة علي إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم فيما زعمه يا علي حربك حربي فيقال من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شئ من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها لا هو في الصحاح ولا السنن ولا المساند ولا الفوائد ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتدواولونه بينهم ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل هو أخس من ذلك وهو من أظهر الموضوعات كذبا فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه جعل الطائفتين مسلمين وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرا من القتال فيها وأنه أثنى على من أصلح به بين الطائفتين فلو كانت إحدى الطائفتين مرتدين عن الإسلام لكانوا أكفر من اليهود والنصارى الباقين على دينهم وأحق بالقتال منهم كالمرتدين أصحاب مسيلمة الكذاب الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة واتفقوا على قتالهم بل وسبوا ذراريهم وتسرى على من ذلك السبي بالحنفية أم محمد بن الحنيفية
منهاج السنة النبوية [ جزء 8 - صفحة 579 ]
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد قال كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم ليصلح بينه بعد الظهر فقال لبلال(3/79)
إن حضرت الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس وذكر الحديث ثم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى إبا بكر أن يتم بهم الصلاة فسلك أبو بكر مسلك الأدب معه وعلم أن أمره أمر إكرام لا أمر إلزام فتأخر تأدبا معه لا معصية لأمره فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يقره في حال صحته وحضوره على إتمام الصلاة بالمسلمين التي شرع فيها ويصلي خلفه صلى الله عليه وسلم كما صلى الفجر خلف عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك صلى إحدى الركعتين وقضى الأخرى فكيف يظن به أنه في مرضه وإذنه له في الصلاة بالناس حتى يخرج ليمنعه من إمامته بالناس
فهذا ونحوه مما يبين أن حال الصديق عند الله وعند رسوله والمؤمنين في غاية المخالفة لما هي عند هؤلاء الرافضة المفترين الكذابين الذين هم ردء المنافقين وإخوان المرتدين والكافرين الذين يوالون أعداء الله ويعادون أولياءه
ولا ريب أن أبا بكر وأعوانه وهم أشد الأمة جهادا لللكفار والمنافقين والمرتدين وهم الذين قال الله فيهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء سورة المائدة 54 فأعوانه وأولياؤه خير الأمة وأفضلها وهذا أمر معلوم في السلف والخلف فخيار المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقدمونه في المحبة على غيره ويرعون حقه ويدفعون عنه من يؤذيه
مثال ذلك أن أمراء الأنصار اثنان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ أفضلهما
*****************
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 10 ]
و تحرير القول فيه : إن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر و يقتل بغير خلاف و هو مذهب الأئمة الأربعة و غيرهم و قد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه و غيره و إن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك و أهل المدينة و سيأتي حكاية ألفاظهم و هو مذهب أحمد و فقهاء الحديث(3/80)
و قد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم أو تنقصه ـ مسلما كان أو كافراـ فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب ] قال : و سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من نقض العهد و أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة و كذلك قال أبو الصفراء : سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم ماذا عليه ؟ قال : إذا قامت البينة عليه يقتل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم مسلما كان أو كافرا ] رواهما الخلال
و قال في رواية عبد الله و أبي طالب و قد سئل عن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال :
يقتل قيل له : فيه أحاديث ؟ قال : نعم أحاديث منها : حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعتها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و حديث حصين أن ابن عمر قال : [ من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل ] و كان عمر بن عبد العزيز يقول : يقتل و ذلك أنه من شتم النبي صلى الله عليه و سلم فهو مرتد عن الإسلام و لا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه و سلم زاد عبد الله : سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم يستتاب ؟ قال : قد وجب عليه القتل و لا يستتاب لأن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يستتبه رواهما أبو بكر في [ الشافي ] و في رواية أبي طالب : سئل أحمد عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل قد نقض العهد
و قال حرب : سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل إذا شتم النبي صلى الله عليه و سلم رواهما الخلال و قد نص على هذا في غير هذه الجوابات(3/81)
فأقواله كلها نص في وجوب قتله و في أنه قد نقض العهد و ليس عنه في هذا اختلاف و كذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم و متأخرهم لم يختلفوا في ذلك إلا أن القاضي في المجرد ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركها و فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال و هي :
الإعانة على قتال المسلمين و قتل المسلم أو المسلمة و قطع الطريق عليهم و أن يؤوي للمشركين جاسوسا و أن يعين عليهم بدلالة مثل أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين و أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح و أن يفتن مسلما عن دينه
قال : فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط فإن خالف انتقض عهده و ذكر نصوص أحمد في بعضها مثل نصه في الزنا بالمسلمة و في التجسس للمشركين و قتل المسلم و إن كان عبدا كما ذكره الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على أنه لا ينتقض عهده بل يحد حد القذف قال : فتخرج المسألة على روايتين ثم قال : [ و في معنى هذه الأشياء ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ] فهذه أربعة أشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فإن أتوا واحدة منها نقضوا الأمان سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن و كذلك قال في [ الخلاف ] بعد ما ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال و الأقوال
قال : [ و فيه رواية أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية و جري أحكامنا عليهم ]
ثم ذكر نصه على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب قال : [ فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه ](3/82)
و تبع القاضي جماعة من أصحابه و من بعدهم ـ مثل الشريف أبي جعفر و آبن عقيل و أبي الخطاب و الحلواني ـ فذكروا أنه لا خلاف في أنهم إذا امتنعوا من أداء الجزية و التزام أحكام الملة انتقض عهدهم و ذكروا في جميع هذه الأفعال و الأقوال التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب الرسول و ما مثله روايتين أحداهما : ينتقض العهد بذلك و الأخرى : لا ينتقض عهده و تقام في حدود ذلك مع أنهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك
ثم إن القاضي و الأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة مع أن الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف
و أما أبو الخطاب و من تبعه فنقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في افتقاد العهد بالقذف روايتين :
ثم إن هؤلاء كلهم و سائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي صلى الله عليه و سلم في موضع آخر و ذكروا أن سابه يقتل و إن كاب ذميا و أن عهده ينتقض و ذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب إلا أن الحلواني قال : [ و يحتمل أن لا يقتل من سب الله و رسوله إذا كان ذميا ]
و سلك القاضي أبو الحسين في نواقص العهد طريقة ثانية توافق قولهم هذا فقال : [ أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في مال أو نفس فإنها تنقض العهد في أصح الروايتين ] و أما ما فيه إدخال غضاضة و نقص على الإسلام ـ و هي ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ـ فإنه ينقض العهد نص عليه و لم يخرج في هذه رواية أخرى كما ذكرها أولئك في أحد الموضعين و هذا أقرب من تلك الطريقة و على الرواية التي تقول [ لا ينقض العهد بذلك ] فإنما [ ذلك ] إذا لم يكن مشروطا عليه في العقد فأما إن كان مشروطا ففيه وجهان أحدهما : ينتقض قاله الخرقي
و قال أبو الحسن الأمدي : [ و هو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه ](3/83)
صحح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم و الثاني : لا ينتقض قاله القاضي و غيره صرح أبو الحسن بذلك هنا كما ذكره الجماعة فيما إذا أظهروا دينهم و خالفوا هيئتهم من غير إضرار كإظهار الأصوات بكتابهم و التشبه بالمسلمين مع أن هذه الأشياء كلها يجب عليهم تركها بخوصها
و هاتان الطريقتان ضعيفتان و الذي عليه عامة المتقدمين من أصحابنا و من تبعهم من المتأخرين إقرار نصوص أحمد على حالها فقد نص في مسائل سب الله و رسوله على انتقاض العهد في غير موضع و على أنه يقتل و كذلك فيمن جس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده و قتله في غير موضع و كذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما و قطع الطريق أولى و قد نص أحمد على أن قذف المسلم و سحره لا يكون نقضا لعهد في غير موضع هذا هو الواجب لأن تخريج حكم المسألتين إلى الأخرى و جعل المسألتين على روايتين ـ مع و جود الفرق بينهما نصا و استدلالا أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندا للفرق ـ غير جائز و هذا كذلك
و كذلك قد وافقنا على انتقاض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم جماعة لم يوافقوا على الإنتقاض ببعض هذه الأمور و أما الشافعي فالمنصوص عنه نفسه أن عهده ينتقض بسب النبي صلى الله عليه و سلم و أنه يقتل هكذا حكاه ابن المنذر و الخطابي و غيرهما
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 16 ]
أحدها : قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } [ التوبة : 29 ](3/84)
فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية و هم صاغرون و لا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية و معلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها و التزامها إلى حين تسليمها و إقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء و وجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا و امتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد و إذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا و شتم ربنا على رؤوس الملأ منا و طعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير و هذا فعل متعزز مراغم بل هذا غاية ما يكون من الإذلال لنا و الإهانة
قال أهل اللغة : الصغار الذل و الضيم يقال : صغر الرجل ـ بالكسر ـ يصغر ـ بالفتح ـ صغرا و صغرا و الصاغر : الراضي بالضيم و لا يخفى على المتأمل أن إظهار السب و الشتم لدين الأمة التي اكتسبت شرف الدنيا و الآخرة ليس فعل راض بالذل و الهوان و هذا ظاهر لا خفاء به
و إذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين و ليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به و كل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه
و أيضا فإنا لو كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها و لو عقد لهم عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة
و لا يقال فيهم : فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان و شبهة الأمان كحقيقته فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا و إن لم يقصده المسلم
لأنا نقول : لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا و سب نبينا و هم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا ـ مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة ـ دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها(3/85)
و أيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل عمر و قد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه
و أيضا فإنا سنذكر شروط عمر و أنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه و ماله
الموضع الثاني : قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ـ إلى قوله ـ و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ]
نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهدهم إلا قوما ذكرهم فإنه جعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما و معلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة و الوقيعة في ربنا و نبينا و كتابنا و ديننا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا و أموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا و لا يجهر في ديارنا بشيء من أذى الله و رسوله فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما ؟
يوضح ذلك قوله تعالى : { كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة } [ التوبة : 8 ] أي كيف يكون لهم عهد و لو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم و بينهم و لا العهد الذي بينكم و بينهم ؟ فعلم أن من كانت حاله أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا و بينه من العهد لم يكن له عهد و من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على أنه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا و بينه فإنه إذا كان مع وجود العهد و الذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة و القدرة ؟ و هذا بخلاف من لم يظهره لنا مثل هذا الكلام فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد لو ظهر(3/86)
و هذه الآية و إن كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فإن معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى
الموضع الثالث : قوله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] و هذه الآية تدل من وجوه
أحدها : أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة و إنما ذكر الطعن في الدين و أفرده بالذكر تخصيصا له بالذكر و بيانا لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال و لهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره إن شاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح و بيان سبب القتال فإن الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا و أما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعة و حمية و رياء أو يكون ذكر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و بقوله تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة أتخشونهم ؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديهم } [ التوبة : 13 ـ 14 ]
فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يؤمن و يعاهد و أما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله و هذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله و رسوله و طعن في الدين و إن أمسك عن غيره و إذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال و إن تجرد عن الطعن علم أن الطعن في الدين إما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة و إلا كان ذكره ضائعا
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما(3/87)
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما
قلنا : لا ريب أنه لا بد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم و إلا فالوصف العديم التأثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال : [ من زنى و أكل جلد ] ثم قد يكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال : يقتل هذا لأنه مرتد زان و قد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع و لكل وصف تأثير في البعض كما قال : { و الذين لا يدعون مع الله ألها آخر } [ الفرقان : 68 ] الآية و قد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر إيضاحا و بيانا للموجب كما يقال : كفروا بالله و برسوله و عصى الله و رسوله و قد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال : { إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] الآية و هذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دلالة لأن أقصى ما يقال إن نقض العهد هو المبيح للقتال و الطعن في الدين مؤكد له و موجب له
فنقول : إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا و بينه عهد و يوجبه فأن يوجب قتال من بيننا و بينه ذمة و هو ملتزم للصغار أولى و سيأتي تقرير ذلك على أن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا و الذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل و إن لم يؤذنا فحاله أشد و أهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك(3/88)
الوجه الثاني : أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه و طعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك و يؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته و إذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده و طعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية و هذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا و بينه
لكن نقول : ليس إظهار كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر و الخنزير و نحو ذلك فنقول : قد وجد منه شيئان : ما منعه منه العهد و طعن في الدين بخلاف أولئك فإنه لم يوجد منهم إلا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط و القرآن يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده و طعن في الدين و لا يمكن أن يقال [ لم ينكث ] لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل و هو نقض قواه و نكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى لكن قد بقي من قواه ما يستمسك الحبل به و قد يهن بالكلية(3/89)
و هذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا و قد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن بعض الشروط في البيع و النكاح و نحوهما قد يبطل البيع بالكلية كما وصفه بأنه فرس فظهر بعيرا و قد يبيح الفسخ كالإخلال بالرهن و الضمين هذا عند من يفرق في المخالفة و أما من قال [ ينتقض العهد بجميع المخالفات ] فلأمر ظاهر على قوله و على التقديرين قد اقتضى العقد : أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا و أنهم متى أظهروه فقد نكثوا و طعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا و معنى و مثل هذا العموم يبلغ درجة النص الوجه الثالث : أنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين و أوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله { أئمة الكفر } إما أن يعني به الذين نكثوا أو أطعنوا أو بعضهم و الثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذ العلة يجب طردها إلا لمانع و لا مانع و لأنه علل ذلك ثانيا بأنهم بلا أيمان لهم و ذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين و لأن النكث و الطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال و قد رتب عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه و ذلك نص في أن ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت أنه عنى الجميع فليزم أن الجميع أئمة كفر و إمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه و إنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك و هو مناسب لأن الطعن في الدين [ لأن ] يعيبه و يذمه و يدعو إلى خلاف و هذا شأن الإمام فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر(3/90)
فإذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتاله لقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و لا يمين له لأنه عاهدنا على أن لا يظهر عيب الدين و خالف و اليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون و هو كذلك فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية و إنما عاقدهم عقدا و نسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم و هذا لأن اليمين يقال : إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منها يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا و يقال سميت يمينا لأن اليمين هي القوة و الشدة كما قال الله تعالى : { لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 45 ] فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد و بين ربه و إن كان نذرا و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ النذر حلفة ] و قوله : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] و قول جماعة من الصحابة للذي نذر اللجاج و الغضب :
كفر يمينك و للعهد الذي بين المخلوقين
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 72 ](3/91)
الحديث الثاني : ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تقع فيه فينهاها فلا تنتهي و يزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها و اتكأ عليها فقتلها فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فجمع الناس فقال : [ أنشد رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام ] قال : فقام الأعمى يتخطى الناس و هو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك و تقع فيك فأنهاها فلا تنتهي و أزجرها فلا تنزجر و لي منها ابنان مثل اللؤلؤتين و كانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك و تقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها و اتكأت عليه حتى قتلها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا اشهدوا أن دمها هدر ] رواه أبو داود النسائي
و المغول ـ بالغين المعجمة ـ قال الخطابي : شبيه المشمل نصلة دقيق ماض و كذلك قال غيره : هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسوط و المشمل : السيف القصير سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل أي يغطيه بثوبه و اشتقاق المغول من غاله الشيء و اغتياله إذا أخذه من حيث لم يدر و هذا الحديث مما استدل به الإمام أحمد و في رواية عبد الله قال : حدثنا روح حدثنا عثمان الشحام حدثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها فسأله عنها فقال : يل رسول الله إنها كانت تشتمك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا إن دم فلانة هدر ](3/92)
فهذه القصة يمكن أن تكون هي الأولى و يدل عليه كلام الإمام أحمد لأنه قيل له في رواية عبد الله : في قتل الذمي إذا سب أحاديث ؟ قال : نعم منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين و يكون قد خنقها و بعج بطنها بالمغول : أو يكون كيفية القتل غير محفوظ في إحدى الروايتين و يؤيد ذلك أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين كل منهما كانت المرأة تحسن إليه و تكرر الشتم و كلاهما قتلها وحدة و كلاهما نشد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها الناس بعيد في العادة و على هذا التقدير فالمقتولة يهودية كما جاء مفسرا في تلك الرواية و هذا قول القاضي أبي يعلى و غيره استدلوا بهذا الحديث على قتل الذمي و نقضه العهد و جعلوا الحديثين حكاية واقعة واحدة
و يمكن أن تكون هذه القصة غير تلك قال الخطابي : [ فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل و ذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه و سلم ارتداد عن الدين و هذا دليل على أنه أعتقد أنها مسلمة و ليس في الحديث دليل على ذلك بل الظاهر أنها كافرة و كان العهد لها بملك المسلم إياها فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم أهل الذمة و هم أشد في ذلك من المعاهدين أو بتزوج المسلم بها فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهل الذمة في العصمة لأن مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم الإ عن ردة و اختيار دين غير الإسلام و لو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك أياما طويلة و لم يكتف بمجرد نهيها عن السب بل يطلب منها تجديد الإسلام لا سيما إن كان يطوها فإن وطء المرتدة لا يجوز و الأصل عدم تغير حالها و أنها كانت باقية على دينها و مع ذلك إن الرجل لم يقل كفرت و لا ارتدت و إنما ذكر مجرد السب و الشتم فعلم أنه لم يصدر منها قدر زائد على السب و الشتم من انتقال من دين أو نحو ذلك(3/93)
و هذه المرأة إما أن تكون زوجة لهذا الرجل أو مملوكة له و على التقديرين فلو لم يكن قتلها حائزا لبين النبي صلى الله عليه و سلم له أن قتلها كان محرما و أن دمها كان معصوما و لأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم و الدية إن لم تكن مملوكة له فلما قال : [ اشهدوا أن دمها هدر ] ـ و الهدر الذي لا يضمن بقود و لا دية و لا كفارة ـ علم أنه كان مباحا مع كونها ذمية فعلم أن السب أباح دمها لا سيما و النبي صلى الله عليه و سلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قتلت لأجل السب فعلم أنه الموجب لذلك و القصة ظاهرة الدلالة في ذلك
الحديث الثالث : ما احتج به الشافعي : على أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و برئت منه الذمة و هو قصة كعب بن الأشرف اليهودي
قال الخطابي : قال الشافعي : [ يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و تبرأ منه الذمة ] و احتج في ذلك بخبر ابن الأشرف و قال الشافعي في الأم : [ لم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم و لا قربه أحد من مشركي أهل الكتاب إلا يهود أهل المدينة و كانوا حلفاء الأنصار و لم تكن الأنصار أجمعت أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إسلاما فوادعت يهود رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر و لا فعل حتى كانت وقعة بدر فتكلم بعضها بعداوته و التحريض عليه فقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم ](3/94)
و القصة مشهورة مسفيضة و قد رواها عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فقام محمد بن مسلمة فقال : أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فإذن لي أن أقول شيئا قال : قل قال : فأتاه و ذكره ما بينهم قال : إن هذا الرجل قد أراد الصدفة و عنانا فلما سمعه قال : و أيضا و الله لتملنه قال : إنا قد تبعناه الآن و نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال : و قد أردت أن تسلفني سلفا قال : فما ترهنوني ؟ نساءكم قال : أنت أجمل العرب ؟ أنرهنك نساءنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهنت في و سقين من تمر و لمن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال : نعم و واعده أن يأتيه بالحرب و أتى أبا عبس بن جبر و عباد بن بشر فجاؤا فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان : قال غير عمرو : قالت له امرأته : إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال : إنما هذا محمد و رضيعه أبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد : إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل نزل و هو متوشح قالوا : نجد منك ريح الطيب قال : نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال : أفتأذن لي أن أشم منه ؟ قال : نعم فشم ثم قال : أتأذن لي أن أدعو ؟ قال : فاستمكن منه ثم قال : دونكم فقتلوه متفق عليه
و روى ابن أبي أويس عن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يعين عليه و لا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنا لمعادة النبي صلى الله عليه و سلم فكان أول ما خزع خزع عنه قوله :
( أذاهب أنت لم تحلل بمرفثة ... و تارك أنت أم الفضل بالحرم ؟ )(3/95)
في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قتله و هذا محفوظ عن أبي أويس رواه الخطابي و غيره و قال : قوله [ خزع ] معناه قطع عهده و في رواية غير الخطابي [ فخزع منه هجاؤه له بقتله ] و الخزع : القطع يقال : خزع فلان عن أصحابه يخزع خزعا أي انقطع و تخلف و منه سميت خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم و أقاموا بمكة فعلى اللفظ الأول يكون التقدير أن قوله خزعة عن النبي صلى الله عليه و سلم أي أول غضاضة عنه بنقض العهد و على الثاني قيل : معناه قطع هجاء للنبي صلى الله عليه و سلم منه بمعنى أنه نقض عهده و ذمته و قيل : معناه خزع من النبي صلى الله عليه و سلم هجاء : أي نال منه و شعث منه و وضع منه
و ذكر أهل المغازي و التفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي صلى الله عليه و سلم في جملة من وادعه من يهود المدينة و كان عربيا من بني طي و كانت أمه من بني النضير قالوا : فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه و ذهب إلى مكة و رثاهم لقريش و فضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
ثم رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و شبب بنساء المسلمين حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله و رسوله ؟ ] و ذكر قصة مبسوطة(3/96)
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر و ذكر القصة إلى قتله قال : ففزعت يهود و من معها من المشركين فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم حين أصبحوا فقالوا : قد طرق صاحبنا الليلة و هو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم و لا حدث علمناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود و خافت و ذلت من يوم قتل ابن الأشرف و الاستدلال بقتل كعب بن الأشرف من وجهين :
أحدهما : أنه كان معاهدا مهادنا و هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي و السير و هم عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة
و مما لا ريب فيه عند أهل العلم ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه و سلم عاهد لما قدم المدينة جميع أصناف اليهود : بني قينقاع و النضير و قريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الأشرف من بني النضير و أمرهم ظاهر في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه و سلم و إنما نقضوا العهد لما خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري و كان ذلك بعد مقتل كعب ابن الأشرف و قد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدا للنبي صلى الله عليه و سلم ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم جعله ناقضا للعهد بهجائه و أذاه بلسانه خاصة(3/97)
و الدليل على أنه إنما نقض العهد بذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب ابن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فعلل ندب الناس له بأذاه و الأذى المطلق هو باللسان كما قال تعالى : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا } [ آل عمران : 186 ] و قال تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] و قال : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } [ التوبة : 61 ] و قال : { لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } الآية [ الأحزاب : 69 ] و قال : { و لا مستأذنين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } إلى قوله : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } الآية [ الأحزاب : 53 ] ثم ذكر الصلاة عليه و التسليم خبرا و أمرا و ذلك من أعمال اللسان ثم قال : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } إلى قوله : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات } [ الأحزاب : 58 ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تبارك و تعالى : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر و أنا الدهر ] و هذا كثير
و قد تقدم أن الآذى اسم لقليل الشر و خفيف المكروه بخلاف الضرر فلذلك أطلق على القول لأنه لا يضر المؤذي في الحقيقة
و أيضا فإنه جعل مطلق أذى الله تعالى و رسوله موجبا لقتل رجل معاهد و معلوم أن سب الله و سب رسوله أذى لله و لرسوله و إذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم و لا سيما إذا كان مناسبا و ذلك يدل على أن الله و رسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين و هذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله و رسوله و السب من أذى الله و رسوله باتفاق المسلمين بل هو أخص أنواع الأذى(3/98)
و أيضا فقد قدمنا في حديث جابر أن أول ما نقض به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ عندما هجاه بهذه القصيدة ـ ندب إلى قتله و هذا وحده دليل على أنه إنما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة
و ما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك و يؤيده و إن كان الواقدي لا يحتج به إذا انفرد لكن لا ريب في علمه بالمغازي و استعلام كثير من تفاصيلها من جهته و لم نذكر عنه إلا ما أسندناه عن غيره
فقوله : [ لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] نص في أنه إنما انتقض عهد ابن الأشرف بالهجاء و نحوه و أن من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف و حديث لجابر المسند من الطريقين يوافق هذا و عليه العمدة في الاحتجاج و أيضا فإنه لما ذهب إلى مكة و رجع إلى المدينة لم يندب النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله و الحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم أن ذلك الهجاء و الأذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده و لقتله و إذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن الذي يعطي الجزية و يلتزم أحكام الملة ؟
فإن قيل : إن ابن الأشرف كان قد أتى بغير السب و الهجاء(3/99)
فروى الإمام أحمد قال : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم كعب ابن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا و نحن أهل الحجيج و أهل السدانة و أهل السقاية قال : أنتم خير قال : فنزلت فيهم : { إن شانئك هو الأبتر } [ الكوثر : 3 ] قال : و أنزلت فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } إلى قوله { نصيرا } [ النساء : 52 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق قال : قال معمر : أخبرني أيوب عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه و سلم و أمرهم أن يغزوه و قال لهم إنا معكم فقالوا : إنكم أهل كتاب و هو صاحب كتاب و لا نأمن أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين و آمن بهما ففعل ثم قالوا له : أنحن أهدى أم محمد ؟ نحن نصل الرحم و نقري الضيف و نطوف بالبيت و ننحر الكوماء و نسقي اللبن على الماء و محمد قطع رحمه و خرج من بلده قال بل أنتم خير و أهدى قال : فنزلت فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال : إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم : ديننا خير أم دين محمد ؟ قال : اعرضوا علي دينكم قالوا : نعمر بيت ربنا و ننحر الكوماء و نسقي الحاج الماء و نصل الرحم و نقري الضيف قال : دينكم خير من دين محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية(3/100)
قال موسى بن عقبة عن الزهري كان كعب بن الأشرف اليهودي ـ و هو أحد بني النضير أو هو فيهم ـ قد آذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجاء و ركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد و أصحابه ؟ و أينا أهدى في رأيك و أقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء و نسقي اللبن على الماء و نطعم ما هبت الشمال قال ابن الأشرف : أنتم أهدى منهم سبيلا ثم خرج مقبلا حتى أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم معلنا بعداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بهجائه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لنا من ابن الأشرف ؟ قد استعلن بعداوتنا و هجائنا و قد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا و قد أخبرني الله بذلك ثم قدم على أخبث ما ينتظر قريشا أن تقدم فيقاتلنا معهم ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين ما أنزل فيه و إن كان لذلك و الله أعلم قال الله عز و جل : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله { سبيلا } [ النساء : 51 ] و آيات معها فيه و في قريش
و ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت ] فقال له محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله أقتله و ذكر القصة في قتله إلى آخرها ثم قال : فقتل الله ابن الأشرف بعداوته لله و رسوله و هجائه إياه و تأليبه عليه قريشا و إعلانه بذلك
و قال محمد بن إسحاق : كان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر و قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة و عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى و قتل من قتل من المشركين(3/101)
كما حدثني عبد الله ابن المغيث بن أبي بردة الظفري و عبد الله بن أبي بكر و عاصم بن عمر بن قتادة و صالح بن أبي أمامة بن سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا : كان كعب بن الأشرف من طيء ثم أحد بني نبهان و كانت أمه من بني النضير فقال حين بلغه : أحق هذا الذي يروون أن محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان ؟ ـ يعني زيدا و عبد الله بن رواحة ـ فهؤلاء أشراف العرب و ملوك الناس و الله لئن كان محمد أصحاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة و نزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي و عنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية فأنزلته و أكرمته و جعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينشد الأشعار و يبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر و ذكر شعرا و ما رد عليه حسان و غيره ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ كما [ حدثني عبد الله بن أبي المغيث ـ : من لي بابن الأشرف ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله و ذكر القصة(3/102)
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا : ابن الأشرف كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحرض عليهم كفار قريش في شعره و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة و أهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الخلقة و الحصون و منهم حلفاء للحيين جميعا الأوس و الخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم و موادعتهم و كان الرجل يكون مسلما و أبوه مشركا فكان المشركون و اليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه أذى شديدا فأمر الله نبيه و المسلمين بالصبر على ذلك و العفو عنهم و فيهم أنزل : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] و فيهم أنزل الله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } الآية [ البقرة : 109 ] فلما أبى ابن الأشرف أن يمسك عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و إيذاء المسلمين و قد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين و أسر من أسر منهم و رأى الأسرى مقرنين كبت و ذل ثم قال لقومه : ويلكم ! و الله لبطن الأرض خير لكم اليوم هؤلاء سراة قد قتلوا و أسروا فما عندكم ؟ قالوا : عداوته ما حيينا قال : و ما أنتم و قد وطئ قومه و أصابهم ؟ و لكني أخرج إلى قريش فأخصها و أبكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم فخرج حتى قدم مكة و وضع رحله عند أبي وداعة بن أبي صبرة السهمي و تحته عاتكة بنت أسد بن أبي العيص فجعل يرثي قريشا و ذكر ما رثاهم به من الشعر و ما أجابه به حسان فأخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به أهل البيت الذين(3/103)
نزل فيهم قال : فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله و قالت : ما لنا و لهذا اليهودي ؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان ؟ فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حسان فقال : ابن الأشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحله فلما لم يجد مأوى قدم المدينة فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم قدوم ابن الأشرف قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في اعلانه الشر و قوله الأشعار ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لي من ابن الأشرف فقد آذاني ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا به يا رسول الله و أنا أقتله قال : فافعل و ذكر الحديث
فقد جمع لابن الأشرف ذنوب : أنه رثى قتلى قريش و خصهم على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم و واطأهم على ذلك و أعانهم على محاربته بإخباره أن دينهم خير من دينه ز هجا النبي صلى الله عليه و سلم و المؤمنين
قلنا : الجواب من وجوه :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة و قال ما قال هناك و إنما ندب إلى قتله لما قدم و هجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله : [ ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي صلى الله عليه و سلم ] ثم أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع و أن النبي صلى الله عليه و سلم حينئذ ندب إلى قتله
و كذلك في حديث موسى بن عقبة [ من لنا من ابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا و هجائنا ؟ ]
و يؤيد ذلك شيئان :(3/104)
أحدهما : أن سفيان بن عتبة روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : [ جاء حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا : أنتم أهل الكتاب و أهل العلم فأخبرونا عنا و عن محمد فقالوا : ما أنتم و ما محمد ؟ فقالوا : نحن نصل الأرحام و ننحر الكوماء و نسقي الماء على اللبن و نفك العناة و نسقي الحجيج و محمد صنبور قطع أرحامنا و اتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : بل أنتم خير و أهدى سبيلا فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } لإلى قوله : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ]
و كذلك قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف و حيي ابن أخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون : نحن أهدى أم محمد و أصحابه ؟ فإنا أهل السدانة و أهل السقاية و أهل الحرم فقالا : أنتم أهدى من محمد و أصحابه و هما يعلمان أنهما كاذبان إنما حملهما على ذلك حسد محمد و أصحابه فأنزل الله تعالى فيهم : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] فلما رجعا إلى قومهما : إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا و كذا قالا : صدق و الله ما حملنا على ذلك إلا حسده و بغضه(3/105)
و هذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما أن كلا الرجلين ذهبا إلى مكة و قالا ما قالا ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه و سلم إلى قتل ابن الأشرف و أمسك عن ابن أخطب حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه و سلم فلحق بخيبر ثم جمع عليه الأحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجب للندب إلى قتل ابن الأشرف و إنما هو ما اختص به ابن الأشرف من الهجاء و نحوه و إن كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضدا لكن مجرد الأذى لله و رسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] و كما بينه جابر في حديثه
الوجه الثاني : أن ابن أبي أويس قال : حدثني إبراهيم بن جعفر الحارثي عن أبيه عن جابر قال : لما كان من أمر النبي صلى الله عليه و سلم و بني قريظة [ كذا فيه : و أحسبه بني قينقاع ] اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكة و كان منها : و قال : و لا أعين عليه و لا أقاتله فقيل له بمكة أديننا خير أم دين محمد و أصحابه ؟ قال : دينكم خير و أقدم من دين محمد و دين محمد حديث فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربته(3/106)
الجواب الثاني : أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذى باللسان فإن مرثيته لقتلى المشركين و تحضيضه و سبه و هجاءه و طعنه في دين الإسلام و تفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان و لم يعمل عملا فيه محاربة و من نازعنا في سب النبي صلى الله عليه و سلم و نحوه فهو في تفضيل دين الكفار و حضهم باللسان على قتل المسلمين أشد منازعة لأن الذمي إذا تجسس لأهل الحرب و أخبرهم بعورات المسلمين و دعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده أيضا عندما ينتقض عهد الساب و من قال إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول : [ لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار و مطالعتهم بأخبار المسلمين ] بطريق الأولى عندهم و هو مذهب أبي حنيفة و الثوري و الشافعي على خلاف بين أصحابه و ابن الأشرف لم يوجد منه إلا الأذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل
و نحن نقول : إن ذلك كله نقض للعهد
الجواب الثالث : أن تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي صلى الله عليه و سلم بلا ريب فإن كون الشيء مفصولا أحسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فإن كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بطريق الأولى و أما مرثيته للقتلى و حضهم على أخذ ثأرهم فأكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة و قريش كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم عقب بدر و أرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف نعم مرثيته و تفضيله مما زادهم غيظا و محاربة لكن سبه للنبي صلى الله عليه و سلم و هجاؤه له و لدينه أيضا مما يهيجهم على المحاربة و يغريهم به فعلم أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام و أبلغ فإذا كان غيره من الكلام نقضا فهو أن يكون نقضا أولى و لهذا قتل النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه و يهجونه مع عفوه عمن كانت تعين عليه و تحض على قتاله(3/107)
الجواب الرابع : أن ما ذكره حجة لنا من وجوه أخر و ذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوه كثيرة أن قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } [ النساء : 51 ] نزلت في كعب بن الأشرف بما قاله لقريش و قد أخبر الله سبحانه أنه لعنه و أن من لعنه فلن تجد له نصيرا و ذلك دليل على أنه لا عهد له لأنه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب أنتقاض عهده و عدم ناصره فكيف بما هو أغلظ منه من شتم و سب ؟ و إنما لم يجعله النبي صلى الله عليه و سلم و الله أعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لأنه لم يعلن بهذا الكلام و لم يجهر به و إنما أعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم في الأحاديث و لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليأخذ أحدا من المسلمين و المعاهدين إلا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة و أعلن الهجاء و العداوة استحق أن يقتل لظهور اذاه و ثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى يظهر المحاربة و يثبت عليه
فإن قيل : كعب بن الأشرف سب النبي صلى الله عليه و سلم بالهجاء و الشعر كلام موزون يحفظ و يروى و ينشد بالأصوات و الألحان و يشتهر بين الناس و ذلك له من التأثير في الأذى و الصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور و لذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر حسان أن يهجوهم و يقول : [ لهو أنكى فيهم من النبل ] فيؤثر هجاؤه فيهم أثرا عظيما يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور أضعاف الشعر
و أيضا فإن كعب بن الأشرف و أم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي صلى الله عليه و سلم و أذاه و كثر و الشيء إذا كثر و استمر صار له حال اخرى ليست له إذا انفرد و قد حكيتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل هذه الجريمة و إن لم يجيزوا قتل من لم يتكررمنه فإذا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به(3/108)
قلنا أولا : إن هذا يفيدنا أن السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده و يبقى الكلام في الناقض للعهد : هل هو نوع خاص من السب ـ و هو ما كثر أو غلظ ـ أو مطلق السب ؟ هذا نظر آخر فما كان مثل هذا السب وجب أن يقال إنه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحد أن يخالف نص السنة فلو زعم زاعم أن شيئا من الكلام الذمي و أذاه لا يبيح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لأحد
و قلنا ثانيا : لا ريب أن الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدرا أوصفة و قدرا فإنه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والد أو ولد عالم صالح و لا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين أبوين صالحين و ليست الجناية في الأوقات و الأماكن و الأحوال المشرفة كالحرم و الإحرام و الشهر الحرام كالجناية في غير ذلك و كذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الأسباب و قال النبي صلى الله عليه و سلم ـ و قد قيل له : أي الذنب أعظم ؟ ـ قال : [ أن تجعل لله ندا و هو خلقك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ ثم أن تزاني حليلة جارك ] و لا شك أن من قطع الطريق مرات متعددة و سفك دماء خلق من المسلمين و كثر منه أخذ الأموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يقطعه إلا مرة واحدة و لا ريب أن من أكثر من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو نظم القصائد في سبه فإن جرمه أغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث أن تكون إقامة الحد عليه أوكد و الانتصار لرسول الله صلى الله عليه و سلم أوجب و 'ن المقل لو كان أهلا أن يعفى عنه لم يكن هذا أهلا لذلك(3/109)
لكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدل على أن جنس الأذى لله و رسوله و مطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده و إن كان بعض الأشخاص أغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قدرا و ذلك من وجوه : أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فجعل علة الندب إلى قتله أنه آذى الله و رسوله و أذى الله و رسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع و لا بقدر فيجب أن يكون أذى الله و رسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي و غيره و قليل السب و كثيره و منظومه و منثوره أذى بلا ريب فيتعلق به الحكم و هو أمر الله و رسوله بقتله و لو لم يرد هذا المعنى لقال : من لكعب فإنه قد بالغ في أذى الله تعالى و رسوله أو قد أكثر من أذى الله و رسوله أو قد داوم على أذى الله و رسوله و هو صلى الله عليه و سلم الذي أوتي جوامع الكلم و هو الذي لا ينطق عن الهوى و لم يخرج من بين شفتيه صلى الله عليه و سلم إلا حق في غضبه و رضاه و كذلك قوله في الحديث الأخر : [ إنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لا يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و لم يقيده بالكثرة الثاني : أنه آذاه بهجائه المنظوم و اليهودية بكلام منثور و كلاهما أهدر دمه فعلم أن النظم ليس له تأثير في أصل الحكم إذ لم يخص ذلك الناظم و الوصف إذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التأثير فلا يجعل جزءا من العلة و لا يجوز أن يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لأن ذاك إنما يكون إذا لم تكن إحداهما مندرجة في الأخرى كالقتل و الزنا أما إذا اندرجت إحداهما في الأخرى فالوصف الأعم هو العلة و الأخص عديم التأثير(3/110)
الوجه الثالث : أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله و كثيره و غليظه و خفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا أو فعلا كالردة و الزنا و المحاربة و نحو ذلك و هذا هو قياس الأصول فمن زعم أن من الأقوال أو الأفعال ما يبيح الدم إذا كثر و لا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الأصول و ليس له ذلك إلا بنص يكون أصلا بنفسه و لا نص يدل على إباحة القتل في الكثير دون القليل و ما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل و الفاحشة في الدبر دون القبل إنما هو حكاية مذهب و الكلام في الجميع واحد
ثم إنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رضخ رأس يهودي بين حجرين لأنه فعل ذلك بجارية من الأنصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع أنه لم يتكرر منه و قال في الذي يعمل عمل قوم لوط [ اقتلوا الفاعل و المفعول به ] و لم يعتبر التكرر و كذلك أصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك إما رجما أو حرقا أو غير ذلك مع عدم التكرر
و إذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في إباحة الدم بين المرة الواحدة و المرات المتعددة كان الفرق بينهما في إباحة الدم إثبات حكم بلا أصل و لا نظير له بل على خلاف الأصول الكلية و ذلك غير جائز
يوضح ذلك : أن ما ينقص الإمان من الأقوال يستوي فيه واحده و كثيره و إن لم يصرح بالكفر كما لو كفر بآية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو بسب الرسول مرة واحدة فإنه كما [ لو ] صرح بتكذيب الرسول
و كذلك ما ينقض الإمان من الأقوال لو صرح به و قال : [ قد نقضت العهد و برئت من ذمتك ] انتقض عهده بذلك ويكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب و الطعن في الدين و نحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير(3/111)
الوجه الرابع : أنه إذا أكثر من هذه الأقوال و الأفعال فإما أن يقتل لأن جنسها مبيح للدم أو لأن المبيح قدر مخصوص فإن كان الأول فهو المطلوب و إن كان الثاني فما حد ذلك المقدار المبيح للدم ؟ و ليس لأحد أن يحد في ذلك حدا إلا بنص أو إجماع أو قياس عند من يرى القياس في المقدرات و الثلاثة منفية في مثل هذا فإنه ليس في الأصول قول أو فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص فلا يبيحه أقل منه و لا ينتقض هذا بالإقرار في الزنا فإنه لا يثبت إلا بأربع مرات عند من يقول به أو القتل بالقسامة فإنه لا يثبت إلا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها أو رجم الملاعنة فإنه لا يثبت إلا بعد أن يشهد الزوج أربع مرات عند من يرى أنها ترجم بشهادة الزوج إذا نكلت لأن المبيح للدم ليس هو الإقرار و لا الأيمان و إنما المبيح فعل الزنا أو فعل القتل و إنما الإقرار و الأيمان حجة و دليل على ثبوت ذلك و نحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نصب محدودة و إنما قلنا : إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع و إنما الحكم معلق بجنسه
الوجه الخامس : أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدا يجب فعله أو تعزيرا يرجع إلى رأي الإمام فإن كان الأول فلا بد من تحديد موجبه و لا حد له إلا تعليقه بالجنس إذ القول بما سوى ذلك تحكم و إن كان الثاني فليس في الأصول تعزير بالقتل فلا يجوز إثباته إلا بدليل يخصه و العمومات الواردة في ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ]
تدل على ذلك أيضا(3/112)
الوجه الثاني من الاستدلال به : أن النفر الخمسة الذين من المسلمين : محمد بن مسلمة و أبا نائلة و عباد بن بشر و الحارث بن أوس و أبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يغتالوه و يخدعوه بكلام يظهرون به أنهم قد آمنوا و وافقوه ثم يقتلوه و من المعلوم أن من أظهر لكافر أمانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه و كلمه على ذلك صار مستأمنا قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق [ من أمن رجلا على دمه و ماله ثم قتله فأنا منه بريء و إن كان المقتول كافرا ] رواه الإمام أحمد و ابن ماجه
و عن سليمان بن صرد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أمنك الرجل على دمه فلا تقتله ] رواه ابن ماجه(3/113)
و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن ] رواه أبو داود و غيره و قد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان و نقض العهد قبل هذا و زعم مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات و الإغارة عليهم في أوقات الغرة لكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا و أدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان و مثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر فإن الأمان يعصم الحربي و يصير مستأمنا بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه و إنما قتلوه لأجل هجائه و أذاه لله و رسوله و من حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان و لا عهد كما لو آمن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق و محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل أو آمن من وجب زناه أو آمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام و نحو ذلك و لا يجوز له أن يعقد له عقد عهد سواء كان عقد هدنة أو عقد ذمة لأن قتله حد من الحدود و ليس قتله لمجرد كونه كافرا كما سيأتي و أما الإغارة و البيات فليس هناك قول و لا فعل صاروا به آمنين و لا اعتقدوا أنهم قد أومنوا بخلاف قصة كعب بن الأشرف فثبت أن أذى الله و رسوله بالهجاء و نحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فإن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة و الهدنة المؤقتة بطريق الأولى فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر و يعقده كل مسلم و لا يشرط على المستأمن شيء من الشروط و الذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه و لا تعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة : من التزام الصغار و نحوه و قد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمة متقدمة أو بظاهر أمان و ذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن أن العهد لا ينتقض بذلك روى ابن وهب : أخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان ابن سعيد الثوري إن أبيه عن عباية قال : ذكر قتل ابن الأشرف عند(3/114)
معاوية فقال ابن يامين : كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة : يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لا تنكر ؟ و الله لا يظلني و إياك سقف بيت أبدا و لا يخلو لي دم هذا إلا قتله
و قال الواقدي : حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال : قال مروان بن الحكم و هو على المدينة و عنده ابن يامين النضري : كيف كان قتل ابن الأشرف ؟ قال ابن يامين : كان غدرا و محمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال : [ يا مروان أيغدر رسول الله صلى الله عليه و سلم عندك ؟ و الله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله لا يؤويني و إياك سقف بيت إلا المسجد ] و أما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أفلت و قدرت عليك و في يدي سيف إلا ضربت به رأسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر و إلا لم ينزل فبينا محمد في جنازة و ابن يامين في البقيع فرأى محمدا نعشا عليه جرائد يظنه لا يراه فعاجله فقام إليه الناس فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ما تصنع ؟ نحن نكفيك فقام إليه فلم يزل يضربه جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه و رأسه حتى لم يترك به مصحا ثم أرسله و لا طباخ به ثم قال : و الله لو قدرت على السيف لضربتك به فإن قيل : [ فإذا كان هو و بنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق قال : [ حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من ظفرتم به من رجال يهود فأقتلوه ] فوثب محصية ابن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم فقتله و كان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم و كان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه و يقول : أي عدو الله قتله ؟ أما و الله لرب شحم في بطنك من ماله فو الله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة : فقلت له : و الله لقد أمرني بقتله من أمرني بقتلك(3/115)
لضربت عنقك فقال حويصة : و الله إن دينا بلغ منك هذا لمعجب
و قال الواقدي بالأسانيد المتقدمة قالوا : فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ] فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم و لم ينطلقوا و خافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف و ذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال : و فزعت يهود و من معها من المشركين و ساق القصة كما تقدم عنه
فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين و إلا لما أمر بقتل من صودف منهم و يدل هذا على أن العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه و سلم بينه و بين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف و حينئذ فلا يكون الأشرف معاهدا ]
قلنا : إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل من ظفر منهم لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم و قد تقدم أنه قال : ما عندكم ؟ يعني في النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : عداوته ما حيينا و كانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله و كان مما يهيجهم على المحاربة و إظهار نقض العهد انتصارهم للمقتول و ذبهم عنه و اما من قر مقيم على عهده المتقدم لأنه لم يظهر العداوة و لهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك و أما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحده
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 115 ]
لنبي له خائنة الأعين ] رواه أبو داود باسناد صحيح(3/116)
فبايعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه و سلم كلما رآه فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه و سلم : بأبي و أمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ ألم أبايعه و أومنه ؟ ] قال : بلى أي رسول الله يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم مع الناس فوجه الدلالة أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يتمم له الوحي و يكتب له ما يريد فيوافقه عليه و أنه يصرفه حيث شاء و يغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك و زعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على كتابه و الافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به و الردة في الدين و هو من أنواع السب
كذلك ما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله و عاقبه عقوبة خارجة عن العادة لكل أحد افترى إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بأن يقول القائل : كاتبه أعلم الناس بباطنه و بحقيقته أمره و قد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية تبين بها أنه مفتر روى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : كان رجل نصراني فأسلم و قرأ البقرة و آل عمران و كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم فعاد نصرانيا فكان يقول : لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح و قد لفظته الأرض فقالوا : هذا فعل محمد و أصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا في الأرض ما استطاعوا فأصبح قد لفظته فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه(3/117)
و رواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال : كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة و آل عمران و كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال : فرفعوه و قالوا : هذا كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا
فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه و سلم انه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله و فضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا و هذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله و أنه كان كاذبا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا و أن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون و لا يصيبهم مثل هذا و أن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه و سبه و مظهر لدينه و لكذب الكاذب إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد و نظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه و الخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون و المدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا : كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر و هو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الوقيعة في عرضه فعجلنا فتحه و تيسر و لم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة و يكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا : حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا بما قالوه فيه
و هكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك و من سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده و تارة بأيدي عباده المؤمنين(3/118)
و كذلك لما تمكن النبي صلى الله عليه و سلم من ابن أبي سرح أهدر دمه لما طعن في النبوة و افترى عليه الكذب نمع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه و حاربوه أشد المحاربة و مع أن السنة في المرتد أنه لا يقتل حتى يستتاب إما وجوبا أو استحبابا
و سنذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ أن جماعة ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ثم دعوا إلى التوبة و عرضت عليهم حتى تابوا فقبلت توبتهم
و في ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول الله صلى الله عليه و سلم الساب له أعظم من جرم المرتد
ثم إن إباحة النبي صلى الله عليه و سلم دمه بعد مجيئه تائبا مسلما و قوله : [ هلا قتلتموه ] ثم عفوه عنه بعد ذلك ـ دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتله و أن يعفو عنه و يعصم دمه و هو دليل على أن له صلى الله عليه و سلم أن يقتل من سبه و إن تاب و عاد إلي الإسلام
يوضح ذلك أشياء : منها : أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة و كذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه و سلم بها و قد تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي صلى الله عليه و سلم : إن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا و توبة المرتد إسلامه
ثم إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بعد الفتح و هدوء الناس و بعد ما تاب فأراد النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين أن يقتلوه حينئذ و تربص زمانا ينتظر فيه قتله و يظن أن بعضهم سيقتله و هذا دليل واضح على جواز قتله بعد إسلامه(3/119)
و كذلك لما قال له عثمان : إنه يفر منك كلما رآك قال : [ ألم أبايعه و أومنه ] قال : بلى و لكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال : [ الإسلام يجب ما قبله ] فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن خوف القتل سقط بالبيعة و الأمان و أن الإثم زال بالإسلام فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام وجب الإسلام إثم السب و بقي قتله جائزا حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكنا
و سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ذكر هذا في موضعه فإن غرضنا هنا أن نبين أن مجرد الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و الوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيها لمجرد الردة و إذا كان موجبا للقتل استوى فيه المسلم و الذمي و لأن كل ما يوجب القتل ـ سوى الردة ـ يستوي فيه المسلم و الذمي
و في كتمان الصحابة لابن أبي سرح و لإحدى القينتين دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوجب قتلهم و إنما أباحه مع جواز عفوه عنهم و في ذلك دليل على إنه كان مخيرا بين القتل و العفو و هذا يؤيد أن القتل كان لحق النبي صلى الله عليه و سلم
و أعلم أن افتراء ابن أبي سرح و الكاتب الآخر النصراني على رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر
و كذلك قوله : [ إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم ] فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يكتبه إلا ما أنزله الله و لا يأمره أن يكتب قرآنا إلا ما أوحاه الله إليه و لا ينصرف له كيف شاء بل ينصرف كما يشاء الله
و كذلك قوله : [ إني لأكتب ما شئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد و إن محمدا إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل الله ] فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يكتبه ما شاء و لا كان يوحى إليه شيء
و كذلك قول النصراني : [ ما يدري محمد إلا ما كتبت له ] من هذا القبيل و على هذا الافتراء حاق به العذاب و استوجب العقاب(3/120)
ثم اختلف أهل العلم : هل كان النبي صلى الله عليه و سلم أقره على أن يكتب شيئا غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه و سلم بإكتابه ؟ و هل قال له شيئا ؟ على قولين : أحدهما : أن النصراني و ابن أبي سرح افتريا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك كله و أنه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابه غير ما قاله أصلا و إنما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس و يكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد خبرة و ذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول له : هذا الذي قتله ـ أو كتبته ـ صواب و إنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك و هو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك
يبين ذلك أن الذي في الصحيح أن النصراني يقول : [ ما يدري محمد إلا ما كتبت له ] نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي صلى الله عليه و سلم و يغيره و يزيده و ينقصه فظن أن عمدة النبي صلى الله عليه و سلم على كتابه مع ما فيه من التبديل و لم يدر أن كتاب الله آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم و أنه لا يغسله الماء و أن الله حافظ له و أن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه و نسخ تلاوته و أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه و سلم بالقرآن كل عام و أن النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه آية اقرأها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم و أكثر من نقل هذه القصة من المفسرين ذكر أنه كان يملي عليه [ سميعا عليما ] فيكتب هو [ عليما حكيما ] و إذا قال : [ عليما حكيما ] كتب [ غفورا رحيما ] و أشباه ذلك و لم يذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له شيئا(3/121)
قالوا : و إذا كان الرجل قد علم أنه من أهل الفرية و الكذب حتى أظهر الله على كذبه آية بينة و الروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن النبي صلى الله عليه و سلم ما قال أو أنه كتب ما شاء فقد علم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل له شيئا
قالوا : و ما روى في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فهو منقطع أو معلل و لعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك و مثل هذا يلتبس الأمر فيه حتى اشتبه ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم و ما قيل إنه قال رد على هذا القول فلا سؤال
القول الثاني : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له شيئا فروى الإمام أحمد و غيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا أملى عليه [ سميعاعليما ] يقول : كتبت [ سميعا بصيرا ] قال : دعه و إذا أملى عليه [ عليما حكيما ] كتب [ عليما حكيما ] قال حماد نحو ذا قال : و كان قد قرأ البقرة و آل عمران و كان من قرأهما فقد قرأ قرأنا كثيرا فذهب فتنصر و قال : لقد كنت أكتب لمحمد ما شئت فيقول : [ دعه ] فمات فدفن فنبذنه الأرض مرتين أو ثلاثا قال أبو طلحة : فلقد رأيته فوق الأرض رواه الأمام أحمد
وحدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قرأ البقرة و لآل عمران و كان الرجل إذا قرأ البقرة و آل عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي صلى الله عليه و سلم يملي عليه [ غفورا رحيما ] فيكتب [ عليما حكيما ] فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم
:(3/122)
أكتب كذا و كذا اكتب كيف شئت و يملي عليه [ عليما حكيما ] فيكتب [ سميعا بصيرا ] فيقول : اكتب كيف شئت فأرتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين و قال : أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب كيف شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول صلى الله عليه و سلم [ إن الأرض لم تقبله ] قال أنس : فحدثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة : ما شأن هذا الرجل ؟ قالوا : [ قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض ] فهذا إسناد صحيح
وقد قال من ذهب إلى القول الأول : أعل البزار حديث ثابت عن انس قال : رواه عنه و لم يتابع عليه و رواه حميد عن أنس و أظن حميدا إنما سمعه من ثابت قالوا : ثم أن أنسا لم يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم أو شهده يقول ذلك و لعله حكى ما سمع
و في هذا الكلام تكلف ظاهر و الذي ذكرناه في حديث أبن إسحاق و الواقدي و غيرهما موافق لظاهر هذه الرواية و كذلك ذكر طائفة من أهل التفسير و قد جاءت آثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن إسحاق و ذلك أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ عليم حكيم ] فيقول : [ أو أكتب عزيز حكيم ] فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعم كلاهما سواء ] و في الرواية الأخرى : و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يملي عليه فيقول [ عزيز حكيم أو حكيم عليم ] فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول : [ كل صواب ](3/123)
ففي هذا بيان لأن كلا الحرفين كان قد نزل و أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأهما و يقول له : [ أكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب ] و قد جاء مصرحا عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : [ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف إن قلت عزيز حكيم أو غفور رحيم فهو كذلك ما لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة ] و في حرف جماعة من الصحابة { إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم } و الأحاديث في ذلك منتشرة تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن يختم الآية الواحدة بعدة أسماء من أسماء الله على سبيل البدل يخير القاريء في القراءة بأنها شاء و كان النبي صلى الله عليه و سلم يخيره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قرأها النبي صلى الله عليه و سلم بحرف من الحروف فيقول له : [ أو أكتب كذا و كذا ] لكثرة ما سمع النبي صلى الله عليه و سلم
يخير بين الحرفين فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : [ كلاهما سواء ] لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قرأه على النبي صلى الله عليه و سلم فأقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا و ختم الآي بمثل [ سميع عليم ] و [ عليم حليم ] و [ غفور رحيم ] أو بمثل [ سميع بصير ] أو [ عليم حليم ] أو [ حكيم حليم ] كثير في القرآن و كان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل رمضان و كانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان و الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس و لهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ و المنسوخ و كذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه في [ الناسخ و المنسوخ ] لتضمنها نسخ بعض الحروف(3/124)
وروى فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في [ الناسخ و المنسوخ ] : حدثنا مسكين بن بكير ثنا معان قال : و سمعت خلفا يقول : كان ابن أبي سرح كتب للنبي صلى الله عليه و سلم القرآن فكان ربما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن خواتم الآي [ يعمون ] و [ يفعلون ] و نحو ذا فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أكتب أي ذلك شئت ] قال : فيوقفه الله للصواب من ذلك فأتى أهل مكة مرتدا فقالوا : يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن ؟ قال : أكتبه كيف شئت قال : فأنزل الله في ذلك { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] الآية كلها
قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : [ من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما و جده و إن كان متعلقا بأستار الكعبة ]
ففي هذا الأثر أنه كان يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن حرفين جائزين فيقول له : [ أكتب أي ذلك شئت ] فيوقفه الله للصواب فيكتب أحب الحرفين إلى الله و كان كلاها منزلا أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر منزلا و كان هذا التخيير من النبي صلى الله علي و سلم إما توسعة إن كان الله قد أنزلهما أو ثقة بحفظ الله و علما منه بأنه لا يكتب إلا ما أنزل و ليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه و ضمن أنه لا يأته الباطل من بين يديه و لا من خلفه
و ذكر بعضهم وجها ثالثا وهو أنه ربما كان يسمع النبي صلى الله عليه و سلم بمكة الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان فيستدل بما قرأ منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : [ كذلك أنزلت ] كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ](3/125)
وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثل هذا في هذه القصة و إن كان هذا الإسناد ليس بثقة قال : عن ابن أبي سرح أنه كان تكلم بالإسلام و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض الأحايين فإذا أملى عليه [ عزيز حكيم ] كتب [ غفور رحيم ] فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا أو ذاك سواء ] فلما نزلت : { و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله : { خلقا آخر } عجب عبد الله بن سعد فقال : تبارك الله أحسن الخالقين [ المؤمنون : 14 ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كذا أنزلت علي فاكتبها ] فشك حينئذ و قال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلى كما أوحى إليه و لئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الآية [ الأنعام : 93 ]
و مما ضعفت به هذه الرواية أن المشهور أن الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب(3/126)
و من الناس من قال قولا آخر قال الذي ثبت في رواية أنس أنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه و سلم ما كتبه بعد ما كتبه فيملي عليه [ سميعا عليما ] فيقول : قد كتبت [ سميعا بصيرا ] فيقول : [ دعه ] أو [ أكتب كيف شئت ] و كذلك في حديث الواقدي أنه كان يقول : [ كذالك أنزل الله ] و يقره قالوا : و كان النبي صلى الله عليه و سلم به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة و عدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فإن العرب كان الغالب عليهم الأمية حتى إن كان الحي العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد و كان أحدهم إذا أراد كتابة أو شقة وجد مشقة حتى يحصل له كاتب فإذا اتفق للنبي صلى الله عليه و سلم من يكتب له انتهز الفرصة في كتابته فإذا زاد الكاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه و لا يأمره بتغيير ذلك خوفا من ضجره و أن يقطع الكتابة قبل إتمامها ثقة منه صلى الله عليه و سلم بأن تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالإلقاء إلى من يتلقنها منه أو بكتابها تعويلا على المحفوظ عنده و في قلبه كما قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر و ما يخفى } [ الأعلى : 7 ]
و الأشبه و الله أعلم هو الوجه الأول و أن هذا كان فيما أنزل القرآن فيه على حروف عدة فإن القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الآحاديث و القراءات الصحابة أن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة و هو العرضة الآخرة و أن الحروف السبعة خارجة عن هذا المصحف و أن الحروف السبعة كانت تختلف الكلمة مع أن المعنى غير مختلف و لا متضاد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 140 ](3/127)
لحديث الحادي عشر ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل و في الصحيحين من حديث الزهري [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة عام الفتح و على رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : [ اقتلوه ] و هذا مما استفاض نقله بين أهل العلم و اتفقوا عليه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره و أنه قتل ]
و قد تقدم عن ابن المسيب أن أبا برزة أتاه و هو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه
و كذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال : في نزلت هذه الآية { لا أقسم بهذا البلد و أنت حل بهذا البلد } [ البلد : 2 ] أخرجت عبد الله بن خطل و هو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن و المقام
و ذكر الواقدي أن ابن خطل أقبل من أعلى مكة مدججا في الحديد ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة فرأى خيل المسلمين و رأى القتال و دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه و طرح سلاحه فأتى البيت فدخل بين أستاره
و قد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمله على الصدقة و أصحبه رجلا يخدمه فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاما أمره بصنعته فقتله ثم خاف أن يقتل فارتد و استاق إبل الصدقة و أنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه و سلم و يأمر جاريته أن تغنيا به فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم : قتل النفس و الردة و الهجاء(3/128)
فمن احتج بقصته يقول : لم يقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قودا و المقتول من خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قتل قودا أن يسلم إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوا أو يعفوا يأخذوا الدية و لم يقتل لمجرد الردة لأن المرتد يستتاب و إذا استنظر أنظر و هذا ابن خطل قد فر إلى البيت عائذا به طالبا للأمان به تاركا للقتال ملقيا للسلاح حتى نظر في أمره و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بعد علمه بذلك كله أن يقتل و ليس هذا سنة من يقتل من مجرد الردة فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب و الهجاء و إن الساب و إن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة و لا يؤخر قتله و ذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة و قد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين يقتل و إن أسلم حدا
و اعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربيا فقتل لذلك و صوابه انه كان مرتدا بلا خلاف بين أهل العلم بالسير و حتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلما منقادا قد ألقى السلم كالأسير فعلم أن من ارتد و سب يقتل بلا استتابة بخلاف من ارتد فقط
يؤيده أن النبي صلى الله عليه و سلم آمن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة و كان ممن أهدر دمه دون غيره فعلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر و الحراب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 173 ](3/129)
فإذا تقرر بما ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سيرة أصحابه و غير ذلك أن الساب للرسول يتعين قتله فنقول : إنما يكون تعين قتله لكونه كافرا حربيا أو للسب المضموم إلى ذلك و الأول باطل لأن الأحاديث نص في أنه لم يقتل لمجرد كونه كافرا حربيا بل عامتها قد نص فيه على أن موجب قتله إنما هو السب فنقول : إذا تعين قتل الحربي لأجل أنه سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكذلك المسلم و الذمي أولى : لأن الموجب للقتل هو السب لا مجرد الكفر و المحاربة كما تبين فحيثما وجد هذا الموجب وجب القتل و ذلك لأن الكفر مبيح للدم لا موجب لقتل الكافر بكل حال فإنه يجوز أمانه و مهادنته و المن عليه و مفاداته لكن إذا صار للكافر عهد عصم العهد دمه الذي أباحه الكفر فهذا هو الفرق بين الحربي و الذمي فأما ما سوى ذلك من موجبات القتل فلم يدخل في حكم العهد
و قد ثبت بالسنة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأمر بقتل الساب لأجل السب فقط لا لمجرد الكفر الذي لا عهد معه فإذا وجد هذا السب و هو موجب للقتل و العهد لم يعصم من موجبه تعين القتل و لأن أكثر ما في ذلك أنه كان كافرا حربيا سابا و المسلم إذا سب يصير مرتدا سابا و قتل المرتد أوجب من قتل الكافر الأصلي و الذمي إذا سب فإنه يصير كافرا محاربا سابا بعد عهد متقدم و قتل مثل هذا أغلظ
و أيضا فإن الذمي لم يعاهد على إظهار السب بالإجماع و لهذا إذا أظهره فإنه يعاقب عليه بإجماع المسلمين إما بالقتل أو بالتعزيز و هو لا يعاقب على فعل شيء ما عوهد عليه و إن كان كافرا غليظا و لا يجوز أن يعاقب على فعل شيء قد عوهد على فعله و إذا لم يكن العهد مسوغا لفعله ـ و قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالقتل لأجله ـ فيكون قد فعل ما يقتل لأجله و هو غير مقر عليه بالعهد و مثل هذا يجب قتله بلا تردد(3/130)
و هذا التوجيه يقتضي قتله سواء قدر أنه نقض العهد أو لم ينقضه لأن موجبات القتل التي لم نقره على فعلها يقتل بها و إن قيل لا ينتقض عهده كالزنا بذمية و كقطع الطريق على ذمي و كقتل ذمي و كما فعل هذه الأشياء مع المسلمين و قلنا إن عهده لا ينتقض فانه يقتل
و أيضا فإن المسلم قد امتنع من السب بما أظهره من الإيمان و الذمي قد امتنع منه بما أظهره من الذمة و التزام الصغار و لو لم يكن ممتنعا منه بالصغار لما جاز عقوبته بتعزيز و لا غيره إذا فعله فإذا قتل لأجل السب الكافر الذي يستحله ظاهرا و باطنا و لم يعاهدنا عهدا يقتضي تركه فلأن يقتل لأجله من التزم أن لا يظهره و عاهدنا على ذلك أولى و أحرى(3/131)
و أيضا فقد تبين بما ذكرناه من هذه الأحاديث أن الساب يجب قتله فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل الساب في مواضع و الأمر يقتضي الوجوب و لم يبلغه عن أحد السب إلا ندر دمه و كذلك أصحابه هذا مع ما قد كان يمكنه من العفو عنه فحيث لا يمكنه العفو عنه يجب أن يكون قتل الساب أوكد و الحرص عليه أشد و هذا الفعل منه هو نوع من الجهاد و الإغلاظ على الكافرين و المنافقين و إظهار دين الله و إعلاء كلمته و معلوم أن هبذا واجب فعلم أن قتل الساب واجب في الجملة و حيث جاز العفو له صلى الله عليه و سلم فإنما هو فيمن كان مقدورا عليه من مظهر الإسلام مطيع له أو ممن جاءه مستسلما أما الممتنعون فلم يعف عن أحد منهم و لا يرد على هذا أن بعض الصحابة آمن إحدى القينتين و بعضهم آمن ابن أبي سرح لأن هذين كانا مستسلمين مريدين الإسلام و التوبة و من كان كذلك فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم له أن يعفو عنه فلم يتعين قتله فإذا ثبت أن الساب كان قتله واجبا و الكافر الحربي الذي لم يسب لا يجب قتله بل يجوز قتله فمعلوم أن الذمة لا تعصم دم من يجب قتله و إنما تعصم دم من يجوز قتله ألا ترى أن المرتد لا ذمة له و أن القاطع و الزاني لما وجب قتلهما لم تمنع الذمة قتلهما ؟
و أيضا فلا مزية للذمي على الحربي إلا بالعهد و العهد لم يبح له إظهار السب بالإجماع فيكون الذمي قد شرك الحربي في إظهار السب الموجب للقتل و ما اختص به من العهد لم يبح له إظهار السب فيكون قد أتى بما يوجب القتل و هو لم يقر عليه فيجب قتله بالضرورة
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من كان يسبه مع أمانه لمن كان يحاربه بنفسه و ماله فعلم أن السب أشد من المحاربة أو مثلها و الذمي إذا حارب قتل فإذا سب قتل بطريق الأولى(3/132)
و أيضا فإن الذمي و إن كان معصوما بالعهد فهو ممنوع بهذا العهد من إظهار السب و الحربي ليس له عهد يعصمه و لا يمنعه فيكون الذمي من جهة كونه ممنوعا أسوأ حالا من الحربي و أشد عداوة و أعظم جرما و أولى بالنكال و العقوبة التي يعاقب بها الحربي على السب و العهد الذي عصمه لم يف بموجبه فلا ينفعه : لأنا إنما نستقيم له ما استقام لنا و هو لم يستقم بالاتفاق و كذلك يعاقب و العهد يعصم دمه و بشره إلا بحق فلما جازت عقوبته بالاتفاق علم أنه قد أتى ما يوجب العقوبة
و قد ثبت بالسنة أن عقوبة هذا الذنب القتل و سر الاستدلال بهذه الأحاديث انه لا يقتل الذمي لمجرد كون عهده قد انتقض فإن مجرد نقض العهد يجعله ككافر لا عهد له و قد ثبت بهذه السنن أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بقتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد و إنما قتله لأجل السب مع كون السب مستلزما للكفر و العداوة و المحاربة و هذا القدر موجب للقتل حيث كان و سيأتي الكلام إنشاء الله تعالى على تعين قتله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 208 ](3/133)
فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب الردة و الفتوح عن شيوخه قال : و رفع إلى المهاجر ـ يعني المهاجر بن أبي أمية و كان أميرا على اليمامة و نواحيها ـ امرأتان مغنيتان غنت إحداهما بشتم النبي صلى الله عليه و سلم فقطع يدها و نزع ثنيتيها و غنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها و نزع ثنيتها فكتب إليه أبو بكر : بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت و زمزمت بشتم النبي صلى الله عليه و سلم فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها لن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر و كتب إليه أبو بكر في التي تغنت بهجاء المسلمين : أما بعد فإنه بلغني أنك قطعت يد امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين و نزعت ثنيتيها فإن كانت ممن تدعي الإسلام فأدب و تقدمه دون المثلة و إن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم و لو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهك فاقبل الدعة و إياك في المثلة في الناس فإنها مأثم و منفرة إلا في قصاص(3/134)
و قد ذكر هذه القصة غير سيف و هذا يوافق ما تقدم عنه أن من شتم النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتله و ليس ذلك لأحد بعده و هو صريح في وجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه و سلم من مسلم و معاهد و إن كان امرأة و أنه يقتل بدون استتابة بخلاف من سب الناس و أن قتله حد للأنبياء كما أن جلد من سب غيرهم حد له و إنما لم يأمر أبو بكر بقتل تلك المرأة لأن المهاجر سبق منه فيها حد باجتهاده فكره أبو بكر أن يجمع عليها حدين مع أنه لعلها أسلمت أو تابت فقبل المهاجر توبتها قبل كتاب أبي بكر و هو محل اجتهاد سبق منه فيه حكم فلم يغيره لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد و كلامه يدل على أنه إنما منعه من قتلها ما سبق من المهاجر و روى حرب في مسائله عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : أتي عمر برجل سب النبي صلى الله عليه و سلم فقتله ثم قال عمر : من سب الله أو سب أحد من الأنبياء فاقتلوه
قال ليث : و حدثني مجاهد عن ابن عباس قال : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن رجع و إلا قتل و أيما معاهد عاند فسب الله أو أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 230 ]
و عن جابر قال : سلم ناس من اليهود على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم فقال : [ و عليكم ] فقالت عائشة و غضبت : ألم تسمع ما قالوا ؟ قال : [ بلى قد سمعت فرددت عليهم و إنا نجاب [ عليهم ] و لا يجابون علينا ] رواه مسلم
و مثل هذا الدعاء أذى للنبي صلى الله عليه و سلم و سب له و لو قاله المسلم لصار به مرتدا لأنه دعاء على رسول الله صلى الله عليه و سلم في حياته بأنه يموت و هذا فعل كافر و مع هذا فلم يقتلهم بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استأمره أصحابه في قتله(3/135)
قلنا : عن هذا أجوبة : أحدها : أن هذا كان في حال ضعف الإسلام ألا ترى أنه قال لعائشة : [ مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله ] و هذا الجواب كما ذكرنا في الأذى الذي أمر الله بالصبر عليه إلى أن أتى الله بأمره
ذكر هذا الجواب طوائف من المالكية و الشافعية و الحنبلية : منهم القاضي أبو يعلى و أبو إسحاق الشيرازي و أبو الوفاء بن عقيل و غيرهم و من أجاب بهذا جعل الأمان كالإيمان في انتقاضه بالشتم و نحوه
و في هذا الجواب نظر لما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا : و عليك ]
و عن [ أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا سلم عليكم أهل كتاب فقولوا : و عليكم ] متفق عليهما
فعلم أن هذا سنة قائمة في حق أهل الكتاب مع بقائهم على الذمة و أنه صلى الله عليه و سلم حال عز الإسلام لم يأمر بقتلهم لأجل هذا و قد ركب إلى بني النضير فقال : [ إذا سلموا عليكم فقولوا : و عليكم ] و كان ذلك بعد قتل ابن الأشرف فعلم أنه كان بعد قوة الإسلام
نعم قد قدمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسمع من الكفار و المنافقين في أول الإسلام أذى كثيرا و كان يصبر عليه امتثالا لقوله تعالى : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] لأن إقامة الحدود عليهم كان يفضي إلى فتنة عظيمة و مفسدة أعظم من مفسدة الصبر على كلماتهم
فلما فتح الله مكة و دخل الناس في دين الله أفواجا و أنزل الله البراءة قال فيها : { جاهد الكفار و المنافقين و آغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] و قال تعالى : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض } إلى قوله { أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 61 ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 240 ](3/136)
و من ذلك قول الأنصاري الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له صلى الله عليه و سلم : [ اسق يا زبير ثم سرح إلى جارك ] فقال : أن كان ابن عمتك ؟
و حديث الرجل الذي قضى عليه فقال : لا أرضى ثم ذهب إلى أبي بكر ثم إلى عمر فقتله
و لهذا نظائر في الحديث إذا تتبعت مثل الحديث المعروف عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن أخاه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : جيراني على ماذا أخذوا فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن الناس يزعمون أنك تنهى عن الغي و تستخلي به فقال : [ لئن كنت أفعل ذلك إنه لعلي و ما هو عليهم خلوا له جيرانه ] رواه أبو داود بإسناد صحيح
فهذا و إن كان قد حكى هذا القذف عن غيره فإنما قصد به انتقاصه و إيذاءه بذلك و لم يحكه على وجه الرد على من قاله و هذا من أنواع السب
و مثل حديث ابن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة قال : ابتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة فجاء به إلى منزلة فالتمس التمر فلم يجده في البيت قال : فخرج إلى الأعرابي فقال : [ يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة و نحن نرى أنه عندنا فلم نجده ] فقال الأعرابي : و اعذراه و اعذراه فوكزه الناس و قالوا : لرسول الله صلى الله عليه و سلم تقول هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعوه ] رواه ابن أبي عاصم و ابن حبان في الدلائل(3/137)
فهذا الباب كله مما يوجب القتل و يكون به الرجل كافرا حلال الدم كان النبي صلى الله عليه و سلم و غيره من الأنبياء يعفون ويصفحون عمن قاله امتثالا لقوله تعالى : { خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] و كقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن } [ المؤمنين : 96 ] و قوله تعالى : { و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } [ فصلت : 35 ] و كقوله تعالى : { و لو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] و كقوله تعالى : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ]
و ذلك لأن درجة الحلم و الصبر على الأذى و العفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا و الآخرة يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام و القيام قال تعالى : { و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين } [ آل عمران : 134 ] و قال تعالى : { و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا و أصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] و قال تعالى : { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } [ النساء : 149 ] و قال تعالى : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين } [ النحل : 126 ](3/138)
و الأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة ثم إن الأنبياء أحق الناس بهذه الدرجة لفضلهم و أحوج الناس إليها لما ابتلوا به من دعوة الناس و معالجتهم و تغيير ما كانوا عليه من العادات و هو أمر لم يأت به أحد إلا عودي فالكلام الذي يؤذيهم يكفر به الرجل فيصير به محاربا إن كان ذا عهد و مرتدا أو منافقا إن كان ممن يظهر الإسلام و النوع و وسع عليهم ذلك لما فيه من حق الآدمي تغليبا لحق الآدمي على حق الله كما جعل لمستحق القود وحد القذف أن يعفو عن القاتل و القاذف و هم أولى لما في جواز عفو الأنبياء و نحوهم من المصالح العظيمة المتعلقة بالنبي و بالأمة و بالدين و هذا معنى قول عائشة رضي الله عنها : [ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده خادما و لا امرأة و لا دابة و لا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله و لا انتقم لنفسه قط ] و في لفظ : [ ما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ] متفق عليه و معلوم أن النيل منه أعظم من انتهاك المحارم لكن لما دخل فيها حقه كان الأمر إليه في العفو أو الانتقام فكان يختار العفو و ربما أمر بالقتل إذا رأى المصلحة في ذلك بخلاف ما لا حق له فيه من زنا أو سرقة أو ظلم لغيره فإنه يجب عليه القيام به
و قد كان أصحابه إذا رأوا من يؤذيه أرادوا قتله لعلمهم بأنه يستحق القتل فيعفو هو عنه صلى الله عليه و سلم و بين لهم أن عفوه أصلح مع إقراره لهم على جواز قتله و لو قتله قاتل قبل عفو النبي صلى الله عليه و سلم لم يعرض له النبي صلى الله عليه و سلم لعلمه بأنه قد انتصر لله و رسوله بل يحمده على ذلك و يثني عليه كما قتل عمر رضي الله عنه الرجل الذي لم يرض بحكمه و كما قتل رجل بنت مروان و آخر اليهودية السابة فإذا تعذر عفوه بموته صلى الله عليه و سلم بقي حقا محضا لله و لرسوله و للمؤمنين لم يعف عنه مستحقه فيجب إقامته(3/139)
و يبين ذلك ما روى إبراهيم بن الحكم بن أبان : حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم يستعينه في شيء فأعطاه شيئا ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا و لا أجملت قال : فغضب المسلمون و قاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثم قام فدخل منزله ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت يعني فأعطاه فرضي فقال : إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت و في أنفس المسلمين شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال : نعم فلما كان الغد أو العشي جاء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبكم جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال و إنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضي أكذلك ؟ قال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل و عشيرة خيرا فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ألا 'ن مثلي و مثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدها إلا نفورا فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني و بين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فجاءت فاستناخت فشد عليها رحلها و استوى عليها و إني لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ]
و رواه أبو أحمد العسكري بهذا الإسناد قال : [ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أعطني فإنك لا تعطيني من مالك و لا من مال أبيك فأغلظ للنبي صلى الله عليه و سلم فوثب إليه أصحابه فقالوا : يا عدو الله تقول هذا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ](3/140)
و ذكر بهذا يبين لك أن قتل ذلك الرجل لأجل قوله ما قال كان جائزا قبل الاستتابة و أنه صار كافرا بتلك الكلمة و لو لا ذلك لما كان يدخل النار إذا قتل على مجرد تلك الكلمة بل كان يدخل الجنة لأنه مظلوم شهيد و كان قاتله دخل النار لأنه قتل مؤمنا متعمدا و لكان النبي صلى الله عليه و سلم يبين أن قتله لم يحل لأن سفك الدم بغير حق من أكبر الكبائر و هذا الأعرابي كان مسلما و لهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حقه لفظ [ صاحبكم ] و لهذا جاءه الأعرابي يستعينه و لو كان كافرا محاربا لما جاء يستعينه في شيء و لو كان النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه ليسلم لذكر في الحديث أنه أسلم فلما لم يجر للاسلام ذكر دل على أنه كان ممن دخل في الإسلام و فيه جفاء الأعراب و ممن دخل في قوله تعالى : { فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } [ التوبة : 58 ](3/141)
و مما يوضح ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم حتى قال [ لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت ] حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم و الاستغار لهم و أمره بالإغلاظ عليهم فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام و ما يعاملهم من الصفح و العفو و الاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له : { و لا تطع الكافرين و المنافقين ودع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] لا حتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم و خشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم و قد صرح صلى الله عليه و سلم لما قال ابن أبي : { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقين : 8 ] و لما قال ذو الخويصرة [ اعدل فإنك لم تعدل ] و عند غير هذه القصة : [ إنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدا من أصحابه قد قتل فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام و إذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله و تعلو كلمته فلأن يتألفهم بالعفو أولى و أحرى
فلما أنزل الله تعالى براءة و نهاه عن الصلاة على المنافقين و القيام على قبورهم و أمره أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ عليهم نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم و لم يبق إلا إقامة الحدود و إعلاء كلمة الله في حق كل إنسان
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 253 ](3/142)
فإن قيل : فقد أقروا على ما هم عليه من الشرك الذي هو أعظم من سب الرسول عليه الصلاة و السلام فيكون إقرارهم على سب الرسول أولى بل قد أقروا على سب الله تعالى و ذلك لأن النصارى يعتقدون التثليث و نحوه و هو شتم لله تعالى لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال الله عز و جل : { كذبني أبن آدم و لم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا و أنا الأحد الصمد الذي لم ألد و لم أولد و لم يكن لي كفوا أحد }
و روى في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه
و كان معاذ بن جبل يقول إذا رأى النصارى : لا ترحموهم فلقد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر
و قد قال الله تعالى : { و قالوا : اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا } الآية [ مريم : 88 ـ 91 ]
و قد أقر اليهود على مقالتهم في عيسى عليه السلام و هي من أبلغ القذف
قلنا : الجواب من وجوه : أحدهما أن هذا السؤال فاسد الاعتبار فإن كون الشيء في نفسه أعظم إثما من غيره يظهر أثره في العقوبة عليه في الآخرة لا في الإقرار عليه في الدنيا ألا ترى أن أهل الذمة يقرون على الشرك و لا يقرون على الزنا و لا على السرقة و لا على قطع الطريق و لا قذف المسلم و لا على محاربة المسلمين و هذه الأشياء دون الشرك بل سنة الله في خلقه كذلك فإنه عجل لقوم لوط العقوبة و في الأرض مدائن مملوءة من الشرك لم يعالجهم بالعقوبة لا سيما و المحتج بهذا الكلام يرى أن قتل الكفار إنما هو لمجرد المحاربة سواء كان كفره أصليا أو طارئا حتى إنه لا يرى قتل المرتدة و يقول : ليست دار الجزاء على الكفر و إنما الجزاء على الكفر في الآخرة فإنما يقاتل من يقاتل فقط لدفع أذاه(3/143)
ثم لا يجوز أن يقال : إذا أقررناهم على الكفر فلأن نقرهم على المحاربة التي هي دون الكفر بطريق الأولى و سبب ذلك أن ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا و تقديرا و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : [ ما من ذنب أحرى أن تعجل لصاحبه العقوبة من البغي و قطيعة الرحم ] لأن تأخير عقوبته فساد لأهل الأرض بخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله فإنه قد تؤخر عقوبته و إن كان أعظم كالكفر و نحوه فإذا أقررناهم على الشرك أكثر ما فيه تأخير العقوبة عليه و ذلك لا يستلزم تأخير عقوبة ما يضر بالمسلمين لأنه دونه كما قدمناه
الوجه الثاني : أن يقال : لا خلاف أنهم إذا أقروا على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لا يجوز أذاهم لا في دمائهم و لا في أبشارهم و لو أظهروا السب و نحوه عوقبوا على ذلك إما في الدماء أو في الأبشار
ثم إنه لا يقال : إذا لم يعاقبوا بالعزيز على الشرك لم يعاقبوا على السب الذي هو دونه و إذا كان هذا السؤال معترضا على الإجتماع لم يجب جوابه كيف و المنازع قد سلم أنهم يعاقبون على السب ؟ فعلم أنهم لم يقرهم عليه فلا يقبل منه السؤال
و الجواب عن هذه الشبهة مشترك فلا يجب علينا الأنفراد به
الوجه الثالث : أن الساب ينضم السب إلى شركه الذي عوهد عليه بخلاف المشرك الذي لم يسب و لا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الإقرار عليه مع ذنب آخر و إن كان دونه فإن اجتماع الذنبين يوجب جرما مغلظا لا يحصل حال الانفراد(3/144)
الوجه الرابع : قوله : [ ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول ] ليس بجيد على الإطلاق و ذلك لأن أهل الكتاب طائفتان أما اليهود فأصل كفرهم تكذيب الرسول و سبه أعظم من تكذيبه فليس لهم كفر أعظم من سب الرسول فإن جميع ما يكفرون به ـ من الكفر بدين الإسلام و بعيسى و بما أخبر الله به من أمور الآخرة و غير ذلك ـ متعلق بالرسول فسبه كفر بهذا كله لأنه ذلك إنما علم من جهته و ليس عند أهل الأرض في وقتنا هذا علم موروث عليه أنه من عند الله إلا العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه و سلم و ما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الأنبياء فقد اشتبه و اختلط كثير منه أو أكثره و الواجب فيما لا يعلم حقيقته منه أن لا يصدق و لا يكذب
و أما النصارى فسبهم للرسول طعن فيما جاء به من التوحيد و أنباء الغيب و الشرائع و إنما ذنبه الأعظم عندهم أن قال : إن عيسى عبد الله و رسوله كما أن ذنبه الأعظم عند اليهود أن غير شريعة التوراة و إلا فالنصارى ليسوا محافظين على شريعة مورثة بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الأحبار شريعة من الدين لم يأذن الله بها ثم لا يرعونها حق رعايتها فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد و للشرك و للتكذيب بالأنبياء و الدين و مجرد شركهم ليس متضمنا لتكذيب جميع الأنبياء و رد جميع الدين فلا يقال : ما هم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول بل سب الرسول فيه ما هم عليه من الشرك و زيادة(3/145)
و بالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له و لما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى و الصفات العلى و لا كانت له شريعة في الأرض و لا تحسبن أن العقول لو تركت و علومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته و أسمائه على وجه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل و استصغى بذلك و استأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر و قد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية و إنما ينال به الظن و الحسبان
و القدر الذي يمكن العقل إدراكه بنظره فإن المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم نبهوا الناس عليهم و ذكروهم به و دعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا و آذانا صما و قلوبا غلفا
و القدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه و أنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله و أسمائه و صفاته و كلامه و دينه و شرائعه و أنبيائه و ثوابه و عقابه و عامة الأسباب التي بينه و بين خلقه بل يقال : إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو أثر نبوة و إن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات و لا يستريبن العاقل في هذا الباب الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة و الصابئة و المجوس و نحوهم فلاسفتهم و عامتهم قد أعرضوا عن الله و توحيده و أقبلوا على عبادة الكواكب و النيران و الأصنام و غير ذلك من الأوثان و الطواغيت فلم يبق بأيديهم لا توحيد و لا غيره
و ليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل قال الله سبحانه : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ](3/146)
فأخبر أن دينه الذي يدعو إليه المرسلون كبر على المشركين فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك و هذا حق لا ريب فيه فعلم أن سب الرسل و الطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر و جماع جميع الضلالات و كل كفر ففرع منه كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان و جماع مجموع أسباب الهدى
الوجه الخامس : أن نقول : قد ثبت بالسنة ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأمر بقتل من سبه و كان المسلمون يحرصون على ذلك مع الإمساك عمن هو مثل هذا الساب في الشرك أو أسوأ منه من محارب و معاهد فلو كانت هذه الحجة مقبولة لتوجه أن يقال : إذا أمسكوا عن المشرك فالإمساك عن الساب أولى و إذا عوهد الذمي على كفره فمعاهدته على السب أولى و هذا لو قبل معارضة لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كل قياس عارض السنة فهو رد
الوجه السادس : أن يقال : ما هم عليه من الشرك و إن كان سبا لله فهم لا يعتقدونه سبا إنما يعتقدونه تمجيدا و تقديسا فليسوا قاصدين به قصد السب و الاستهانة بخلاف سب الرسول فلا يلزم من إقرارهم على شيء لا يقصدون به الاستخفاف إقرارهم على ما يقصدون به الاستخفاف و هذا جواب من يقتلهم إذا أظهروا سب الرسول و لا يقتلهم إذا أظهروا ما يعتقدونه من دينهم
الوجه السابع : أن إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين و إضرار بهم و مجرد التكلم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها و إن كانت دون الشرك و هذا أيضا جواب القائل
الوجه الثامن : منع الحكم في الأصل المقيس عليه فإنا نقول : متى أظهروا كفرهم و أعلنوا به نقضوا العهد بخلاف مجرد رفع الصوت بكتابهم فإنه ليس كل ما فيه كفر و لسنا نفقه ما يقولون و إنما فيه إظهار شعار الكفر و فرق بين إظهار الكفر و بين إظهار شعار الكفر(3/147)
أو نقول : متى أظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا و هذا لأن العهد إنما اقتضى أن يقولوا و يفعلوا بينهم ما شاءوا مما لا يضر المسلمين فأما أن يظهروا كلمة الكفر أو أن يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البتة و سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذين القولين ة اللذين قبلهما
قال كثير من الفقهاء الحديث و أهل المدينة من أصحابنا و غيرهم : لم نقرهم على أن يظهروا شيئا من ذلك و متى أظهروا شيئا من ذلك نقضوا العهد
قال أبو عبد الله في رواية حنبل : [ كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك و تعالى فعليه القتل مسلما كان أم كافرا و هذا مذهب أهل المدينة
و قال جعفر بن محمد : سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن و هو يؤذن فقال له : كذبت فقال : يقتل لأنه شتم ]
و من الناس من فرق بين ما يعتقدونه و ما لا يعتقدونه و من الناس من فرق بين ما يعتقدونه و إظهاره يضر بنا لأنه قدح في ديننا و بين ما يعتقدونه و إظهاره ليس بطعن في نفس ديننا و سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك فإن فروع المسألة تظهر مأخذها
و قد قدمنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمحضر من المهاجرين و الأنصار للنصراني الذي قال إن الله لا يضل أحدا : إنا لم نعطك ما أعطيناك على أن تدخل علينا في ديننا فو الذي نفسي بيده لئن عدت لأخذن الذي فيه عيناك
و جميع ما ذكرناه من الآيات و الاعتبار يجيئ أيضا في ذلك فإن الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا و حتى يكون الدين كله لله و حتى يظهر دين الله على الدين كله و حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون
و النهي عن إظهار المنكر واجب بحسب القدرة فإذا أظهروا كلمة الكفر و أعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه و الصغار الذي التزموه و وجب علينا أن نجاهد الذين أظهروا كلمة الكفر و جهادهم بالسيف لأنهم كفار لا عهد لهم و الله سبحانه أعلم(3/148)
أنه يتعين قتله و لا يجوز استرقاقه و لا المن عليه و لا فداؤه
أما إن كان مسلما فبالإجماع لأنه نوع من المرتد أو من الزنديق و المرتد يتعين قتله و كذلك الزنديق و سواء كان رجلا أو مرأة و حيث قتل يقتل مع الحكم بإسلامه فإن قتله حد بالاتفاق فتجب إقامته و فيما قدمناه دلالة واضحة على قتل السابة المسلمة من السنة و أقاويل الصحابة فإن في بعضها تصريحا بقتل السابة المسلمة و في بعضها تصريحا بقتل السابة الذمية و إذا قتلت الذمية للسب فقتل المسلمة أولى كما لا يخفى على الفقيه
و من قال من أهل الكوفة : [ إن المرتدة لا تقتل ] فقياس مذهبه أن لا تقتل السابة لأن الساب عنده مرتد و قد كان يحتمل مذهبه أن تقتل السابة حدا كقتل الساحرة عند بعضهم و قتل قاطعة الطريق و لكن أصوله تأبى ذلك
و الصحيح الذي عليه العامة قتل المرتدة فالسابة أولى و هو الصحيح لما تقدم و إن كان الساب معاهدا فإنه يتعين أيضا قتله سواء كان رجلا أو امرأة عند عامة الفقهاء من السلف و من تبعهم
و قد ذكرنا قول ابن المنذر فيما يجب على من سب النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ و أجمع أعوام العلم على أن سب النبي صلى الله عليه و سلم فحده القتل ] و ممن قاله مالك و الليث و أحمد و إسحاق و هو مذهب الشافعي
قال : و حكى عن النعمان : [ لا يقتل من سبه من أهل الذمة ]
و هذا اللفظ دليل على وجوب قتله عند العامة و هذا مذهب مالك و إسحاق و سائر فقهاء المدينة و كلام أصحابه يقتضي أن لقتله مأخذين :
أحدهما : انتقاض عهده
و الثاني : أنه حد من الحدود و هو قول فقهاء الحديث(3/149)
قال إسحاق بن راهويه : [ إن أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمع منهم ذلك أو تحقق عليهم قتلوا ] و أخطأ هؤلاء الذين قالوا : [ ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال إسحاق : [ يقتلون ] لأن ذلك نقض للعهد و كذلك فعل عمر بن عبد العزيز و لا شبهة في ذلك لأنه يصير بذلك ناقضا للصلح و هو كما قتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي صلى الله عليه و سلم و قال : [ ما على هذا صالحناهم ]
و كذلك نص الإمام أحمد على وجوب قتله و انتقاض عهده و قد تقدم بعض نصوصه في ذلك و كذلك نص عامة أصحابه على وجوب قتل هذا الساب ذكروه بخصوصه في مواضع و هكذا ذكروه أيضا في جملة ناقضي العهد من أهل الذمة
ثم المتقدمون منهم و طوائف من المتأخرين قالوا : [ إن هذا و غيره من ناقضي العهد يتعين قتلهم كما دل عليه كلام أحمد ]
و ذكر طوائف منهم أن الإمام مخير فيمن نقض العهد من أهل الذمة كما يخير في الأسير بين الاسترقاق و القتل و المن و الفداء و يجب عليه فعل الأصلح للأمة من هذه الأربعة بعد أن ذكروه في الناقضين للعهد فدخل هذا الساب في عموم هذا الكلام و إطلاقه و إلا وجب أن يقال فيه بالتخيير إذا قيل به في غيره من ناقضي العهد و لكن قيد محققو أصحاب هذه الطريقة و رؤوسهم ـ مثل القاضي أبي يعلى في كتبه المتأخرة و غيره ـ و هذا الكلام و قالوا : [ التخيير في غير ساب الرسول و أما سابه فإنه يتعين قتله و إن كان غيره مخيرا فيه كالأسير ] و على هذا فإما أن لا يحكى في تعين قتله خلاف لكون الذين أطلقوا التخيير في موضع قد قالوا في موضع آخر بأن الساب يتعين قتله و صرح رأس أصحاب هذه الطريقة بأنه مستثنى من ذلك الإطلاق أو يحكى فيه وجه ضعيف لأن الذين قالوا به في موضع نصوا على خلافه في موضع آخر(3/150)
و اختلف أصحاب الشافعي أيضا فيه فمنهم من قال : [ يجب قتل الساب حتما و إن خير في غيره ] و منهم من قال : [ هو كغيره من الناقضين للعهد و فيه قولان : أضعفهما أنه يلحق بمأمنه و الصحيح منها جواز قتله قالوا : و يكون كالأسير يجب على الإمام أن يفعل فيه الأصلح للأمة من القتل و الاسترقاق و المن و الفداء ]
و كلام الشافعي في موضع يقتضى أن حكم الناقض للعهد حكم الحربي فلهذا قيل : إنه كالأسير و في موضع آخر أمر بقتله عينا من غير تخيير
و تحرير الكلام في ذلك يحتاج إلى تقديم فيما ينتقض به العهد و في حكم ناقض العهد عل سبيل العموم ثم يتكلم في خصوص مسألة السب إن ناقض العهد قسمان : ممتنع لا يقدر عليه إلا بقتال و من هوى في أيدي المسلمين
أما الأول فأن يكون لهم شوكة و منعة فيمتنعوا بها على الإمام من أداء الجزية و التزام أحكام الملة الواجبة عليهم دون ما يظلمهم به الوشاة أو يلحقوا بدار الحرب مستوطنين بها فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع فإذا أسر الرجل منهم فحكمه عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه حكم أهل الحرب إذا أسروا يفعل بهم الإمام ما يراه أصلح
قال في رواية أبي الحارث ـ و قد سئل عن قوم من أهل العهد نقضوا العهد و خرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم ـ(3/151)
قال أحمد : [ إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى و أما الذرية فما ولد بعد نقضهم العهد فهو بمنزلة من نقض العهد و من كان ممن ولد قبل نقض العهد فليس عليه شيء ] و ذلك أن امرأة علقمة بن علاثة قالت : إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد و كذلك روى عن الحسن فيمن نقض العهد في حصن و معهم مسلمون فنقضوا العهد و المسلمون معهم بالحصن : ما السبيل فيهم ؟ ـ قال : [ ما ولد لهم بعد نقض العهد فالذرية بمنزلة من نقض العهد يسبون و من كان قبل ذلك لا يسبون ] فقد نص على أن ناقض العهد إذا أسر بعد المحاربة يخير الإمام فيه و على أن الذرية الذين ولدوا بعد ما نقضوا العهد بمنزلة من نقض العهد يجوز استرقاقه و هذا هو المشهور من مذهبه
و عنه : أنهم إذا قدروا عليهم فإنهم لا يسترقون بل يردون إلى الذمة في رواية أبي طالب ـ في رجل من أهل العهد لحق بالعدو هو و أهله و ولده و ولد له في دار العدو ـ قال : [ يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار العدو و يردون هم و أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام إلى الجزية قيل له : لا يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام ؟ قال : لا قيل له : فإن كانوا أدخلوهم صغارا ثم صاروا رجالا قال : لا يسترقون أدخلوهم مأمنهم ] و كذلك قال في رواية ابن إبراهيم ـ و قد سأله عن رجل لحق بدار الحرب هو و أهله و ولد له في بلاد العدو و قد أخذه المسلمون ـ قال : [ ليس على ولده و أهله شيء و لكن ما ولد له و هو في أيديهم يسترقون و يردون هم إلى الجزية ](3/152)
فقد نص على أن الرجل الذي نقض العهد يرد إلى الجزية هو و ولده الذين كانوا موجودين و أنهم لا يسترقون و ذلك لأن ولده الذين حدثوا بعد المحاربة يسترقون و ذلك لأن صغار ولده سبى من أولاد أهل الحرب و هم يصيرون رقيقا بنفس السبي فلا يدخلون في عقد الذمة أولا و لا آخرا و أما أولاده الذين ولدوا قبل النقض فلهم حكم الذمة المتقدمة
فعلى الرواية الأولى المشهورة يخير الإمام في الرجال إذا أسروا فيفعل ما هو الأصلح للمسلمين من قتل و استرقاق و من فداء و إذا جاز أن يمن عليهم جاز أن يطلقهم على قبول الجزية منهم و عقد الذمة لهم ثانيا لكن لا يجب عليه ذلك كما يجب عليه في الأسير الحربي الأصلي إذا كان كتابيا و قد قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم أسرى بني قريظة و أسرى من أهل خيبر و لم يدعهم إلى إعطاء الجزية و لو دعاهم إليها لأجابوا
و على الرواية الثانية يجب دعاؤهم إلى العود إلى الذمة كما كانوا كما يجب دعاء المرتد إلى أن يعود إلى الإسلام أو يستحب كما يستحب دعاء المرتد و متى بذلوا العود إلى الذمة وجب قبول ذلك منهم كما يجب قبول الإسلام من المرتد و قبول الجزية من الحربي الأصلي إذا بدلها قبل الأسر و متى امتنعوا فقياس هذه الرواية وجوب قتلهم دون استرقاقهم جعلا لنقض الأمان كنقض الإيمان و لو تكرر النقض منهم فقد يقال فيهم ما يقال فيمن تكررت ردته
و بنحو من هذه الرواية قال أشهب صاحب مالك في مثل هؤلاء قال : [ لا يعود الحرقنا و لا يسترق أبدا بحال بل يردون إلى ذمتهم بكل حال ] و كذلك قال الشافعي في الأم ـ و قد ذكر نواقض العهد و غيرها ـ قال : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا ذلك فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا بنقض عهد(3/153)
و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم و لكنه قال [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون قد فعل فعلا يوجب القصاص و الحد ]
[ فإن فعل أو قال مما وصفنا و شرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول أسلم أو أعطي جزية قتل و أخذ ماله فيئا ]
فقد نص على وجوب قبول الجزية منه إذا بذلها و هو في أيدينا و أنه إذا امتنع منها و من الإسلام قتل و أخذ ماله و لم يخير فيه
و لأصحابه في وجوب قبول الجزية من الأسير الحربي الأصلي وجهان
و عن الإمام أحمد رواية ثالثة : أنهم يصيرون رقيقا إذا أسروا
و قال في رواية ابن إبراهيم : إذا أسر الروم من اليهود ثم ظهر المسلمون عليهم فإنهم لا يبيعونهم و قد وجبت لهم الحرمة إلا من ارتد منهم عن جزيته فهو بمنزلة المملوك و هذا هو المشهور من مذهب مالك قال ابن القاسم و غيره من المالكية : [ إذا خرجوا ناقضين للعهد و منعوا الجزية و امتنعوا منا غير أن يظلموا و لحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم و إذا انتقض عهدهم ثم أسروا فهم فيء و لا يردون إلى ذمتنا ]
فأوجبوا استرقاقهم و منعوا أن نعقد لهم الذمة ثانيا كأنه جعل خروجهم من الذمة مثل ردة المرتد بمنع إقراره بالجزية و لكن هؤلاء لا يسترقون لكون كفرهم أصليا و قال أصحاب أبي حنيفة : [ من نقض العهد فإنه يصير كالمرتد إلا أنه يجوز استرقاقه و المرتد لا يجوز استرقاقه ](3/154)
فأما إن لم يقدر عليهم حتى بذلوا الجزية و طلبوا العود إلى الذمة فإنه يجوز عقدها لهم لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عقدوا الذمة لأهل الكتاب من أهل الشام مرة ثانية و ثالثة بعد أن نقضوا العهد و القصة في ذلك مشهورة في فتوح الشام و ما أحسب في هذا خلافا فإن مالكا و أصحابه قالوا : إذا منعوا الجزية و قاتلوا المسلمين و الإمام عدل فإنهم يقاتلون حتى يردوا إليه مع أن المشهور عندهم أن الأسير منهم لا يرد إلى الذمة بل يكون فيئا فإذا كان مالك لا يخالف فيها لأنه هو الذي اشتهر عنه القول بمنع عود الأسير منهم إلى الذمة(3/155)
فإن بذل هؤلاء العود إلى الذمة فهل يجب قبول ذلك منهم كما يجب قبوله من الحربي الأصلي ؟ إن قلنا إنه يجب رد الأسير منهم إلى ذمته فهؤلاء أولى و إن لا يجب هناك فيتوجه أن لا يجب هنا أيضا لأن بني قينقاء لما نقضوا العهد الذي بينهم و بين النبي صلى الله عليه و سلم أراد قتلهم حتى ألح عليه عبد الله ابن أبي في الشفاعة فيهم فأجلاهم إلى [ أذرعات ] و لم يقرهم بالمدينة مع أن القوم كانوا حراصا على المقام بالمدينة بعهد يجددونه و كذلك بنو قريظة لما حاربت أرادوا الصلح و العود إلى الذمة فلما لم يجبهم النبي صلى الله عليه و سلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ و كذلك بنو النضير لما نقضوا العهد فحاصرهم أنزلهم على الجلاء من المدينة مع أنهم كانوا أحرص شيء على المقام بدارهم بأن يعودوا إلى الذمة و هؤلاء الطوائف كانوا أهل ذمة عاهدوا النبي صلى الله عليه و سلم أن الدار دار الإسلام يجرى فيها حكم الله تعالى و رسوله و أنه مهما كان بين أهل العهد من المسلمين و بين هؤلاء المتعاهدين من حدث فأمره إلى النبي صلى الله عليه و سلم هكذا في كتاب الصلح فإذا كانوا نقضوا العهد فبعضا قتل و بعضا أجلى و لم يقبل منهم ذمة ثانية مع حرصهم على بذلها علم أن ذلك لا يجب ن و لا يجوز أن يكون ذلك لكون أرض الحجاز لا يقر فيها أهل دينين و لا يمكن الكفار من المقام بها لأن هذا الحكم لم يكن شرع بعد بل قد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و درعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي بالمدينة و بالمدينة غيره من اليهود و بخيبر خلائق منهم و هي من الحجاز و لكن عهد النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه أن يخرج اليهود و النصارى من جزيرة العرب و أن لا يبقى بها دينان فأنفذ عهده في خلافة عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه(3/156)
والفرق بين هؤلاء و بين المرتدين أن المرتد إذا عاد إلى الإسلام فقد أتى بالغاية التي يقاتل الناس حتى يصلوا إليها فلا يطلب منه غير ذلك و إن ظننا أن باطنه خلاف ظاهره فإنا لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس و أما هؤلاء فإن الكف عنهم إنما كان لأجل العهد و من خفنا منه الخيانة جاز لنا أن ننبذ إليه العهد و إن لم يجز نبذ العهد إلى من خفنا منه الردة فإذا نقضوا العهد فقد يكون ذلك أمارة على عدم الوفاء و أن إجابتهم إلى العهد إنما فعلوه خوفا و تقية و متى قدروا فيكون هذا الخوف مجوزا لترك معاهدتهم على أخذ الجزية كما كان يجوز نبذ العهد إلى أهل الهدنة بطريق الأولى
و في هذا دليل على أنه لا يجب رد الأسير الناقض للعهد إلى الذمة بطريق الأولى فإن النبي صلى الله عليه و سلم إذا لم يردهم إلى الذمة و قد طلبوها ممتنعين فأن لا يردهم إذا طلبوها موثقين أولى و قد أسر بني قريظة بعد نقض العهد فقتل مقاتلتهم و لم يردهم إلى العهد و لأن الله تعالى قال : { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } [ الفتح : 10 ] فلو كان الناكث كلما طلب العهد منا وجب أن نجيبه لم يكن للنكث عقوبة يخافها بل ينكث إذا أحب لكن يجوز أن نعيدهم إلى الذمة لأن النبي صلى الله عليه و سلم وهب الزبير بن باطا القرظي لثابت بن قيس بن شماس هو و أهله و ماله على أن يسكن أرض الحجاز و كان من أسرى بني قريظة الناكثين فعلم جواز إقرارهم في الدار بعد النكث و إجلاء بني قينقاع بعد القدرة عليهم إلى [ أذرعات ] فعلم جواز المن عليهم بعد النكث و إذا جاز المن على الأسير الناكث و إقراره في دار الإسلام فالمفاداة به أولى
و سيرة النبي صلى الله عليه و سلم في هؤلاء الناقضين تدل على جواز القتل و المن على أن يقيموا بدار الإسلام و أن يذهبوا إلى دار الحرب إذا كانت المصلحة في ذلك و في ذلك حجة على من أوجب إعادتهم إلى الذمة و على من أوجب استرقاقهم(3/157)
فإن قيل : إنما أوجبنا إعادتهم إلى الذمة لأن خروجهم عن الذمة و مفارقتهم لجماعة المسلمين كخروجهم عن الإسلام و مفارقة جماعة المسلمين أو نقض الأمان كنقض الإيمان فإذا كان المرتد عن الإسلام لا يقبل منه ما يقبل من الكافر الأصلي بل إما الإسلام أو السيف فكذلك المرتد عن العهد لا يقبل منه ما يقبل من الحربي الأصلي بل إما الإسلام أو العهد و إلا فالسيف و لأنه قد صارت لهم حرمة العهد المتقدم فمنعت استرقاقهم كما منع استرقاق المرتد حرمة إسلامه المتقدم
قلنا المرتد بخروجه عن الدين الحق بعد دخوله فيه تغلظ كفره فلم يقر عليه بوجه من الوجوه فتحتم قتله إن لم يسلم عصمة للدين كما تحتم غيره من الحدود حفظا للفروج و الأموال و غير ذلك و لم يجز استرقاقه لأن فيه قرارا له على الردة لتشرفه بدين قد بدله و ناقض العهد قد نقض عهده الذي كان يرعى به فزالت حرمته و صار بأيدي المسلمين من غير عقد و لا عهد فصار كحربي أسرناه و أسوأ حالا منه و مثل ذلك لا يجب المن عليه بجزية و لا بغيرها لأن الله تعالى إنما أمرنا أن نقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون فمن أخذناه قبل أن يعطي الجزية لم يدخل في الآية لأنه لا قتال معه بل قد خيرنا الله إذا شددنا الوثاق بين المن و الفداء و لم يوجب المن في حق ذمي و لا كتابي و لأن الأسير قد صار للمسلمين في حق بإمكان استعباده و المفاداة به فلا يجب عليهم بذل حقهم منه مجانا و جاز قتله لأنه كافر لا عهد له و إنما هو باذل للعهد في حال لا تجب معاهدته و ذلك لا يعصم دمه
فإن قال من منع من إعادته إلى الذمة وجعله فيئا : هذا من على الأسير مجانا و ذلك إضاعة لحق المسلمين فلم يجز إتلاف أموالهم
قلنا : هذا مبني على أنه لا يجوز المن على الأسير و المرضي جوازه كما دل عليه الكتاب و السنة و مدعى النسخ يفتقر إلى دليل(3/158)
فإن قيل : خروجه عن العهد موجب للتغليظ عليه فينبغي إما أن يقتل أو يسترق كما أن المرتد يغلظ حاله بتعين قتله فإذا جاز في هذا ما يجوز في الحربي الأصلي لم يبق بينهما فرق
قلنا : إذا جاز استرقاقه جاز إقراره بالجزية إذا لم يكن المانع حقا لأنه ليس في ذلك إلا فوات ملك رقبته و قد يرى الإمام أن في إقراره بالجزية أو في المن عليه و المفاداة به مصلحة أكبر من ذلك بخلاف المرتد فإنه لا سبيل إلى استبقائه و بخلاف الوثني إذا جوزنا استرقاقه فإن المانع من إقراره بالجزية حق الله و هو دينه و ناقض العهد دينه قبل النقض و بعده سواء و نقضه إنما يعود ضرره على من يحاربه من المسلمين فكان الرأي فيه إلى أميرهم فإن قيل : فهلا حكيتم خلافا أنه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سيأتي و قد قال أبو الخطاب : إذا حكمنا بنقض عهد الذمي فظاهر كلام الإمام أحمد أنه يقتل في الحال قال : و قال شيخنا :
يخير الإمام فيه بين أربعة أشياء فأطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقا و تبعه طائفه على الإطلاق و من قيده قيده بأن ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين مثل قتالهم و نحوه فأما إن نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالأسير و يؤيد هذا ما رواه عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد و قاتلوا المسلمين قال : أرى أن لا يقتل الذرية و لا يسبون و لكن يقتل رجالهم قلت لأبي : فإن ولد لرجالهم أولاد في دار الحرب قال : أرى أن يسبوا أولئك و يقتلوا قلت لأبي : فإن هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسباهم المسلمون ترى لهم أن يسترقوا ؟ قال : الذرية لا يسترقون و لا يقتلون لأنهم لم ينقضوا هم إنما نقض العهد رجالهم و ما ذنب هؤلاء ؟ فقد أمر رحمه الله بقتل المقاتلة من هؤلاء إما لمجرد النقض أو للنقض و القتال(3/159)
قلنا : قد ذكرنا فيما مضى نص أحمد على أن من نقض العهد و قاتل المسلمين فإنه يجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام و إذا أسر حكم فيه الإمام بما رأى
و نص رحمه الله فيمن لحق بدار الحرب على أنه يسترق في رواية و على أن يعاد إلى ذمته في رواية أخرى فلم يجز أن يقال : ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله مع تصريحه بخلاف ذلك كيف و الذين قالوا ذلك إنما أخذوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها ؟ على أن أبا الخطاب و غيره لم يذكروا هذه الصورة و لم يدخل في كلامهم أعنى صورة اللحاق بدار الحرب و إنما ذكروا من نقض العهد بأن ترك ما يجب عليه في العهد أو فعل ما ينتقض به عهده و هو في قبضة المسلمين
و ذكروا أن ظاهر كلام أحمد يعين قتله و هو صحيح فمن فهم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فهمه أتي لا من كلامهم و من ذكر اللحاق بدار الحرب و قتال المسلمين و الامتناع من أداء الجزية و غير ذلك من النواقض فإنه احتاج أن يفرق بين اللحاق بدار الحرب و بين غيره كما ذكرناه من نصوص الإمام أحمد و غيره من الأئمة على الناقض الممتنع
و الفرق بينهما أنه من لم يوجد منه إلا اللحاق بدار الحرب فإنه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها و إنما ترك العهد الذي بيننا و بينه فصار ككافر له كما سيأتي إن شاء تعالى تقريره فإن قيل : فهلا حكيتم خلافا أنه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سيأتي و قد قال أبو الخطاب : إذا حكمنا بنقض عهد الذمي فظاهر كلام الإمام أحمد أنه يقتل في الحال قال : و قال شيخنا :(3/160)
يخير الإمام فيه بين أربعة أشياء فأطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقا و تبعه طائفه على الإطلاق و من قيده قيده بأن ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين مثل قتالهم و نحوه فأما إن نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالأسير و يؤيد هذا ما رواه عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد و قاتلوا المسلمين قال : أرى أن لا يقتل الذرية و لا يسبون و لكن يقتل رجالهم قلت لأبي : فإن ولد لرجالهم أولاد في دار الحرب قال : أرى أن يسبوا أولئك و يقتلوا قلت لأبي : فإن هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسباهم المسلمون ترى لهم أن يسترقوا ؟ قال : الذرية لا يسترقون و لا يقتلون لأنهم لم ينقضوا هم إنما نقض العهد رجالهم و ما ذنب هؤلاء ؟ فقد أمر رحمه الله بقتل المقاتلة من هؤلاء إما لمجرد النقض أو للنقض و القتال
قلنا : قد ذكرنا فيما مضى نص أحمد على أن من نقض العهد و قاتل المسلمين فإنه يجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام و إذا أسر حكم فيه الإمام بما رأى
و نص رحمه الله فيمن لحق بدار الحرب على أنه يسترق في رواية و على أن يعاد إلى ذمته في رواية أخرى فلم يجز أن يقال : ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله مع تصريحه بخلاف ذلك كيف و الذين قالوا ذلك إنما أخذوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها ؟ على أن أبا الخطاب و غيره لم يذكروا هذه الصورة و لم يدخل في كلامهم أعنى صورة اللحاق بدار الحرب و إنما ذكروا من نقض العهد بأن ترك ما يجب عليه في العهد أو فعل ما ينتقض به عهده و هو في قبضة المسلمين(3/161)
و ذكروا أن ظاهر كلام أحمد يعين قتله و هو صحيح فمن فهم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فهمه أتي لا من كلامهم و من ذكر اللحاق بدار الحرب و قتال المسلمين و الامتناع من أداء الجزية و غير ذلك من النواقض فإنه احتاج أن يفرق بين اللحاق بدار الحرب و بين غيره كما ذكرناه من نصوص الإمام أحمد و غيره من الأئمة على الناقض الممتنع(3/162)
و الفرق بينهما أنه من لم يوجد منه إلا اللحاق بدار الحرب فإنه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها و إنما ترك العهد الذي بيننا و بينه فصار ككافر له كما سيأتي إن شاء تعالى تقريره و يجب أن يعلم أن من لحق بدار الحرب صار حربيا فما وجد منه من الجنايات بعد ذلك فهي كجنايات الحربي لا يؤخذ بها إن أسلم أو عاد إلى الذمة و كذلك قال الخرقي : [ و من هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا ] و كذلك أيضا إذا امتنعوا بدار الإسلام من الجزية أو الحكم و لهم شوكة و منعة قاتلوا بها عن أنفسهم فإنهم قد قاتلوا بعد أن انتقض عهدهم و صار حكمهم حكم المحاربين فلا يتعين قتل من استرق منهم بل حكمه إلى الإمام و يجوز استرقاقه كما نص الإمام أحمد على هذه بعينها لأن المكان الذي تحيزوا فيه و امتنعوا بمنزلة دار الحرب و لم يجنوا على المسلمين جناية ابتدؤا بها للمسلمين و إنما قاتلوا عن أنفسهم بعد أن تحيزوا و امتنعوا و علم أنهم محاربون فمن قال من أصحابنا إن من قاتل المسلمين يتعين قتله و من لحق بدار الحرب خير الإمام فيه فإنما ذاك إذا قاتلهم ابتداء قبل أن يظهر نقض العهد و يظهر الامتناع بأن يعين أهل الحرب على قتال المسلمين و نحو ذلك فأما إذا قاتل بعد أن صار في شوكة و منعة يمتنع بها عن أداء الجزية فإنه يصير كالحربي سواء كما تقدم و لهذا قلنا على الصحيح : إن المرتدين إذا أتلفوا دما أو مالا بعد الامتناع لم يضمنوه و ما أتلفوه قبل الامتناع ضمنوه و سيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في الفرق و أما ما ذكره الإمام أحمد في رواية عبد الله فإنما أراد به الفرق بين الرجال و الذرية لتبين أن الذرية لا يجوز قتلهم و أن الرجال يقتلون كما يقتل أهل الحرب و لهذا قال في الذرية الذين ولدوا بعد النقض [ يسبون و يقتلون ] و إنما أراد أنهم يسبون إذا كانوا صغارا و يقتلون إذا كانوا رجالا أي يجوز قتلهم كأهل الحرب(3/163)
الأصليين و لم يرد أن القتل يتعين لهم فإنهم على خلاف الإجماع و الله أعلم
القسم الثاني : إذا لم يكن ممتنعا عن حكم الإمام فمذهب أبي حنيفة أن مثل هذا لا يكون ناقضا للعهد و لا ينقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة و منعة و يمتنعوا بذلك عن الإمام و لا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم أو تخلفوا بدار الحرب لأنهم إذا لم يكونوا ممتنعين أمكن الإمام أن يقيم عليهم الحدود و يستوفي منهم الحقوق فلا يخرجون بذلك عن العصمة الثابته كمن خرج عن طاعة الإمام من أهل البغي و لم تكن له شوكة
و قال الإمام مالك : [ لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ناقضين للعهد و منعا للجزية و امتنعوا منا من غير أن يظلموا أو يلحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم ] لكن يقتل عنده الساب و المستكره للمسلمة على الزنى و غيرهما
و أما مذهب الإمام الشافعي و الإمام أحمد فإنهم قسموا الأمور المتعلقة بذلك قسمين أحدهما : يجب عليهم فعله و الثاني : يجب عليهم تركه
فأما الأول فإنهم قالوا : إذا امتنع الذمي مما يجب عليه فعله ـ و هو أداء الجزية أو جريان أحكام الملة عليه إذا حكم بها حاكم المسليمين ـ انتقض العهد بلا تردد قا ل الإمام أحمد في الذي يمنع الجزية : إن كان واحدا أكره عليها و أخذت منه و لم يعطيها ضربت عنقه و ذلك لأن تعالى أمر بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون و الإعطاء له مبتدأ و تمام فمبتدأه الألتزام و الضمان و منتهاه الأداء و الإعطاء و من الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم فمتى لم يتموا إعطاء الجزية أو أعطوها و ليسوا بصاغرين فقد زالت الغاية التي أمرنا بقتالهم إليها فيعود القتال و لأن حقن دمائهم إنما ثبت ببذل الجزية و التزام جريان أحكام الإسلام عليهم فمتى امتنعوا منه و أتوا بضده صاروا كالمسلم الذي ثبت حقن دمه بالإسلام إذا امتنع منه و اتى بكلمة الكفر(3/164)
و على ما ذكره الإمام أحمد فلابد أن يمتنع من ذلك على وجه لا يمكن استيفاؤه منه مثل أن يمتنع من حق بدني لا يمكن فعله و النيابة عنه دائما أو يمتنع من أداء الجزية و لعيب ماله كما قلنا في المسلم إذا امتنع من الصلاة أو الزكاة فأما إن قاتل الإمام على ذلك فذلك هو الغاية في انتقاض العهد كمن قاتل على ترك الصلاة أو الزكاة
أما القسم الثاني ـ و هو ما يجب عليهم تركه ـ فنوعان :
أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين و الثاني ما لا ضرر فيه عليهم و الأول قسمان أيضا :
أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم و أموالهم : مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يعين على قتال المسلمين أو يتجسس للعدو بمكاتبة أو كلام أو إيواء عين من عيونهم أو يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح
و القسم الثاني ما فيه أذى و غضاضة عليهم : مثل أن يذكر الله أو كتابه و رسوله أو دينه بالسوء
و النوع الثاني ما لا ضرر فيه عليهم : مثل إظهار أصواتهم بشعائر دينهم من الناقوس و الكتاب و نحو ذلك و مثل المسلمين في هيآتهم و نحو ذلك و قد تقدم القول في انتقاض العهد بكل واحد من هذه الأقسام فإذا نقض الذمي العهد ببعضها و هو في قبضة الإسلام ـ مثل أن يزني بمسلمة أو يتجسس للكفار ـ فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه يقتل قال في رواية حنبل : [ كل من نقض العهد أو أحداث في الإسلام حدثا مثل هذا ـ يعني سب النبي صلى الله عليه و سلم ـ رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة ]
فقد نص على أن من نقض العهد و أتى بمفسده مما ينقض العهد قتل عينا و قد تقدمت نصوصه أن من لم يوجد منه إلا نقض العهد بالامتناع فإنه كالحربي
و قال في مواضع متعددة في ذمي فجر بامرأة مسلمة : يقتل ليس على هذا صولحوا و المرأة إن كانت طاوعته أقيم عليها الحد و أن كان استكرهها فلا شيء عليها(3/165)
و قال في يهودي زنى بمسلمة : يقتل : لأن عمر رضي الله عنه أتى بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى أشد من نقض العهد قيل : فعبد نصراني زنى بمسلمة قال : يقتل أيضا و إن كان عبدا
و قال في مجوسى فجر بمسلمة : يقتل هذا قد نقض العهد و كذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد فقيل له : ترى عليه الصلب مع القتل ؟ قال : إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه
و قال مهنا : سألت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة : ما يصنع به ؟ قال : يقتل فأعدت عليه قال : يقتل قلت : إن الناس يقولون غير هذا قال : كيف يقولون ؟ فقلت : يقولون عليه الحد قال : لا و لكن يقتل فقلت له : في هذا شيء ؟ قال : نعم عن عمر أنه أمر بقتله
و قال في رواية جماعة من أصحابه في ذمي فجر بمسلمة : يقتل قيل : فإن أسلم قال : يقتل هذا قد وجب عليه
فقد نص رحمه الله على وجوب قتله بكل حال سواء كان محصنا أو غير محصن و أن القتل واجب عليه و إن أسلم و أنه لا يقام عليه حد الزنا الذي يفرق فيه بين المحصن و غير المحصن و اتبع في ذلك ما رواه خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك أن رجلا نخس بامرأة فتجللها فأمر به عمر فقتل و صلب و رواه المروزي عن مجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة أن رجلا من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام و هي على حمار فصرعها و ألقى نفسه عليها فرآه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فأتى عوف عمر فحدثه فأرسل إلى المرأة يسألها فصدقت عوفا فقال : قد شهدت أختنا فأمرنا به عمر فصلب قال : فكان أول مصلوب في الإسلام ثم قال عمر : أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه و سلم و لا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له
و روى سيف في الفتوح هذه القصة عن عوف بن مالك مبسوطة و ذكر فيها أن الحمار صرع المرأة و أن النبطي أرداها فامتنعت و استغاثت قال عوف :(3/166)
فأخذت عصاي فمشيت في أثره فأدركته فضربت رأسه ضربة ذا عجر و رجعت إلى منزلي و فيه : [ فقال للنبطي : اصدقني فأخبره ]
و قال الإمام أحمد أيضا في الجاسوس : إذا كان ذميا قد نقض العهد يقتل و قال في الراهب : لا يقتل و لا يؤذى و لا يسأل عن شيء إلا أن نعلم منه أنه يدل على عوارت المسلمين و يخبر عن أمرهم عدوهم فيستحل حينئذ دمه
و قد نص الإمام أحمد على أنه من نقض العهد بسب الله أو رسوله فإنه يقتل
ثم اختلف أصحابنا بعد ذلك فقال القاضي و أكثر أصحابه مثل أبيه أبي الحسين و الشريف أبي جعفر و أبي المواهب العبكري و ابن عقيل و غيره و طوائف بعدهم : [ إن من نقض العهد بهذه الأشياء و غيرها فحكمه حكم الأسير يخير الإمام فيه كما يخير في الأسير بين القتل و المن و الاسترقاق و الفداء و عليه أن يختار من الأربعة ما هو الأصلح للمسلمين ] قال القاضي في المجرد : [ إذا قلنا قد انتقض عهده فانا نستوفي منه الحقوق و القتل و الحد و التعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه و هذه أحكامنا فإذا استوفينا منه فالإمام مخير فيه بين القتل و الاسترقاق و لا يرد إلى مأمنه لأنه بفعل هذه الأشياء قد نقض العهد و إذا نقض عاد بمعناه الأول فكأنه وجد نصراني بدار الإسلام ]
ثم إن القاضي في الخلاف قال : [ حكم ناقض العهد حكم الأسير الحربي يتخير الإمام فيه بين أربعة أشياء : القتل و الاسترقاق و المن و الفداء لأن الإمام أحمد قد نص في الأسير على الخيار بين أربعة أشياء و حكم الأسير لأنه كافر حصل في أيدينا بغير أمان قال : و يحمل كلام الإمام أحمد إذا رآه الإمام صلاحا و استثنى في الخلاف و هو الذي صنفه آخرا ساب النبي صلى الله عليه و سلم خاصة قال : فإنه لا يقبل توبته و يتحتم قتله و لا يخير الإمام في قتله و تركه لأن قذف النبي صلى الله عليه و سلم حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي(3/167)
و قد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام أحمد و تعليله حيث قال في قوم من أهل العهد نقضوا العهد و خرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال : [ إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجرى على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى ] و على هذا نقول : فللامام أن يعيدهم إلى الذمة إذا رأى المصلحة في ذلك كما له مثل ذلك في الأسير الحربي الأصلي
و هذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي الإمام الشافعي و القول الآخر للشافعي أن من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مأمنه ثم من أصحابه من استثنى سب رسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة فجعله موجبا للقتل حتما دون غيره و منهم من عمم الحكم هذا هو الذي ذكره أصحابه و أما لفظه فإنه قال في الأم : [ إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب و ذكر الشروط إلى أن قال : و على أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين و جميع المسلمين و نقض ما أعطي من الأمان و حل لأمير المؤمنين ماله و دمه كما يحل أموال أهل الحرب و دماؤهم و على أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده و أحل دمه و ماله و إن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم
ثم قال : [ فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فإن لم يرضها فلا عقد له و لا جزية ](3/168)
ثم قال : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ] و لكنه قال [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول يعاقب عليه و لا يقتل ]
قال : فإن فعل أو قال ما وصفنا و شرط أن يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول [ أسلم أو أعطى جزية قتل و أخذ ماله فيئا ]
و هذا اللفظ يعطي وجوب قتله إذا امتنع من الإسلام و العود إلى الذمة
و سلك أبو الخطاب في : الهداية و الحلواني و كثير من متأخري أصحابنا مسلك المتقدمين في إقرار نصوص الإمام أحمد بحالها و هو الصواب فإن الإمام أحمد قد نص على القتل عينا فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام و جعل هذا أشد من نقض العهد باللحاق و دار الحرب ثم إنه نص هناك على أن الأمر إلى الإمام كالأسير و نص هنا على أن الإمام يخير أن يقتل و لا يخفى لمن تأمل نصوصه أن القول بالتخيير مطلقا مخالف لها
و أما أبو حنيفة فلا تجيء هذه المسألة على أصله لأنه لا ينتقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة و منعة فيمتنعون بذلك على الإمام و لا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم(3/169)
و مذهب مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين منا ما نعين للجزية من غير ظلم أو يلحقوا بدار الحرب و لكن مالكا يوجب قتل ساب الرسول صلى الله عليه و سلم عينا و قال : إذا استكره الذمي مسلمة على الزنا قتل إن كانت حرة و إن كانت أمة عوقب العقوبة الشديدة فمذهبه إيجاب القتل عينا لبعض أهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين فمن قال [ إنه يرد إلى مأمنه ] قال : لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله حتى يرد إلى مأمنه كما لو دخلها بأمان صبي و هذا ضعيف جدا لأن الله قال في كتابه : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } الآية [ التوبة : 13 ]
فهذه الآية و إن كانت نزلت في أهل الهدنة فعمومها لفظا و معنى يتناول كل ذي عهد على ما لا يخفى و قد أمر سبحانه بالمقاتلة حيث وجدناهم فعم ذلك مأمنهم و غير مأمنهم و لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون فمتى لم يعطوا الجزية أو لم يكونوا صاغرين جاز قتالهم من غير شرط على معنى الآية و لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من رأوه من رجال يهود صبيحة قتل ابن الأشرف و كانوا معه معاهدين و لم يأمر بردهم إلى مأمنهم
و كذلك لما نقضت بنو قينقاع العهد قاتلهم ولم يردهم إلى مأمنهم و لما نقضت بنو قريظة العهد قالتهم و أسرهم و لم يبلغهم مأمنهم و كذلك كعب بن الأشرف نفسه أمر بقتله غيلة و لم يشعره أنه يريد قتله فضلا عن أن يبلغه مأمنه و كذلك بنو النضير أجلاهم على أن لا ينقلوا إلا ما حملته الإبل إلا الحلقة و ليس هذا بإبلاغ للمأمن لأن من بلغ مأمنه يؤمن على نفسه و أهله و ماله حتى يبلغ مأمنه(3/170)
و كذلك سلام بن أبي الحقيق و غيره من يهود لما نقضوا العهد قتلهم نوبة خبير و لم يبلغهم مأمنهم و لأنه قد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر و أبا عبيدة و معاذ بن جبل و عوف بن مالك قتلوا النصراني الذي أراد أن يفجر بالمسلمة و صلبوه و لم ينكره منكر فصار إجماعا و لم يردوه إلى مأمنه و لأن في شروط عمر التي شرطها على النصارى [ فإن نحن خالفنا عن شيء شرطناه لكم و ضمناه على أنفسنا فلا لنا و قد حل لكم منا ما حل لأهل المعاندة و الشقاق ] رواه حرب بإسناد صحيح
و قد تقدم عن عمر و غيره من الصحابة مثل أبي بكر و ابن عمر و ابن عباس و خالد بن الوليد و غيرهم رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا أو أمروا بقتل ناقض العهد و لم يبلغوه مأمنه و لأن دمه كان مباحا و إنما عصمته الذمة فمتى ارتفعت الذمة بقي على الإباحة و لأن الكافر لو دخل دار الإسلام بغير أمان و حصل في أيدينا جاز قتله في دارنا و أما من دخل بأمان صبي فإنما ذلك لأنه يعتقد أنه مستأمن فصارت له شبهة أمان و ذلك يمنع قتله كمن وطىء فرجا يعتقد أنه حلال لا حد عليه و كذلك ينسب في دخوله دار الإسلام إلى تفريط و أما فإنه ليس له أمان و لا شبهة أمان لأن مجرد حصوله في الدار ليس بشبهة أمان بالاتفاق بل هو مقدم على ما ينقض به العهد مفرط في ذلك عالم أنا لم نصالحه على ذلك فأي عذر له في حقن دمه حتى يلحقه بمأمنه ؟ نعم لو فعل من نواقض العهد مالم يعلم أنه يضرنا ـ مثل أن يذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بشيء يحسبه جائزا عندنا ـ كان معذورا بذلك فلا ينقض العهد كما تقدم مالم يتقدم إليه كما فعل عمر بقسطنطين النصراني(3/171)
و أما من قال إنه كالأسير الحربي إذا حصل في أيدينا فقال : [ لأنه كافر حلال الدم حصل في أيدينا و كل من كان كذلك فإنه مأسور فلنا أن نقتله كما قتل النبي صلى الله عليه و سلم عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث و لنا أن نمن عليه كما من النبي صلى الله عليه و سلم على ثمامة بن أثال الحنفي و على أبي عزة الجمحي و لنا أن نفادي كما فادى النبي صلى الله عليه و سلم بعقيل و غيره و لنا أن نسترقه كما استرق المسلمون خلقا من الأسرى مثل أبي لؤلؤة قاتل عمر و مماليك العباس و غيرهم
أما قتل الأسير و استرقاقه فما أعلم فيه خلافا لكن قد اختلف العلماء في المن عليه و المفاداة هل هو باق أو منسوخ ؟ على ما هو معروف في مواضعه و هذا لأنه إذا نقض العهد عاد كما كان و الحربي الذي لا عهد له إذا قدر عليه جاز قتله و استرقاقه و لأنه ناقض للعهد فجاز قتله و استرقاقه كاللاحق بدار الحرب و المحارب في طائفة ممتنعة إذا أسر بل هذا أولى لأن نقض العهد بذلك متفق عليه فهذا أغلظ فإذا جاز أن يحكم فيه بحكم الأسير ففي هذا أولى نعم إذا انتقض العهد بفعل له عقوبة تخصه ـ مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق عليه و نحو ذلك ـ أقيمت عليه تلك العقوبة سواء كانت قتلا أو جلدا ثم إن بقي حيا بعد إقامة حد تللك الجريمة عليه صار كالكافر الحربي الذي لاحد عليه
و من فرق بين سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين سائر النواقض قال : لأن هذا حق لرسوله الله صلى الله عليه و سلم و لم يعف عنه فلا يجوز إسقاطه بالاسترقاق و لا بالتوبة كسب غير رسول الله عليه الصلاة و السلام و سيأتي إن شاء الله تعالى تحرير مأخذ السب(3/172)
و أما من قال إنه يتعين قتله إذا نقضه بما فيه مضرة على المسلمين دون ما إذا لم يوجد منه إلا مجرد اللحاق بدار الحرب و الامتناع عن المسلمين فلأن الله تعالى قال : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة } إلى قوله : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف قوم مؤمنين } [ التوبة : 12 ـ 14 ]
فأوجب سبحانه قتال الذين نكثوا العهد و طعنوا في الدين و معلوم أن مجرد نكث العهد موجب للقتال الذي كان واجبا قبل العهد و أوكد فلا بد أن يفيد هذا زيادة توكيد و ما ذاك إلا لأن الكافر الذي ليس بمعاهد يجوز الكف عن قتاله إذا اقتضت المصلحة ذلك إلى وقت فيجوز استرقاقه بخلاف هذا الذي نقض و طعن فإنه يجب قتاله من غير استتابة و كل طائفة وجب قتالها من غير استئناف لفعل يبيح دم آحدها فإنه يجب قتل الواحد منهم إذا فعله و هو في أيدينا كالردة و القتل في المحاربة و الزنا و نحو ذلك بخلاف البغي فإنه لا يبيح دم الطائفة إلا إذا كانت ممتنعة و بخلاف الكفر الذي لا عهد معه فإنه يجوز الاستيفاء بقتل أصحابه في الجملة
و قوله سبحانه : { يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم } دليل على أن الله تعالى يريد الانتقام منهم و ذلك لا يحصل من الواحد إلا إذا قتل و لا يحصل إن من عليه أو فودي به أو استرق نعم دلت الآية على أن الطائفة الناقضة الممتنعة يجوز أن يتوب الله على من يشاء منها بعد أن يعذبها و يخزيها بالغلبة لأن ما حاق بهم من العذاب و الخزي يكفي في ردعهم و ردع أمثالهم عما فعلوه من النقض و الطعن أما الواحد فلو لم يقتل بل من عليه لم يكن هناك رادع قوي عن فعله(3/173)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما سبى بني قريظة قتل المقاتلة و استرق الذرية إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين فقتلها لذلك و حديثها مع عائشة رضي الله عنها معروف ففرق صلى الله عليه و سلم بين من اقتصر على نقض العهد و بين من آذى المسلمين مع ذلك و كان لا يبلغه عن أحد من المعاهدين أنه آذى المسلمين إلا ندب إلى قتله و قد أجلى كثيرا و من على كثير ممن نقض العهد فقط
و أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عاهدوا أهل الشام من الكفار ثم نقضوا العهد فقاتلوهم ثم عاهدوهم مرتين أو ثلاثا و كذلك مع أهل مصر و مع هذا فلم يظفروا بمعاهد آذى المسلمين بطعن في الدين أو زنا بمسلمة و نحو ذلك إلا قتلوه و أمروا بقتل هؤلاء الأجناس عينا من غير تخيير فعلم أنهم فرقوا بين النوعين(3/174)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل مقيس بن صبابة و عبد الله بن خطل و نحوهما ممن ارتد و جمع إلى ردته قتل مسلم و نحوه من الضرر و مع هذا فقد ارتد في عهد أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير و قتلوه من المسلمين عددا بعد الامتناع مثل ما قتل طليحة الأسدي عكاشة بن محصن و غيره و لم يؤخذ أحد منهم بقصاص بعد ذلك فإذا كان المرتد يؤخذ بما أصابه قبل الامتناع من الجنايات و لا يؤخذ بما فعله بعد الامتناع فكذلك الناقض للعهد لأن كليهما خرج عما به دمه : هذا نقض إيمانه و هذا نقض أمانه و إن كان في هذا خلاف بين الفقهاء في المذهب و غيره فإنما قسنا على أصل ثبت بالسنة و إجماع الصحابة نعم المرتد إذا عاد إلى الإسلام عصم دمه إلا من يقتل بمثله المسلم و المعاهد يقتل على ما فعله من الجنايات المضرة بالمسلمين لأنه يصير مباحا بالنقض و لم يعد إلى شيء يعصم دمه فيصير كحربي يغلظ قتله يبين ذلك أن الحربي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا آذى المسلمين و ضرهم قتله عقوبة له على ذلك و لم يمن عليه بعد القدرة عليه فهذا الذي نقض عهده بضرر المسلمين أولى بذلك
ألا ترى أنه لما من على أبي عزة الجمحي و عاهده أن لا يعين عليه فغدر به ثم قدر عليه بعد ذلك و طلب أن يمن عليه فقال : [ لا تمسح سبلاتك بمكة و تقول : سخرت بمحمد مرتين ] ثم قال : [ لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ] فلما نقض يمينه منعه ذلك من المن عليه لأنه ضره بعد أن كان عاهده على ترك ضراره فكذلك من عاهد من أهل الذمة أنه لا يؤذي المسلمين ثم آذاهم لو أطلقوه للدغوا من جحر واحد مرتين و لمسح المشرك سبلاته و قال : سخرت بهم مرتين(3/175)
و أيضا فلأنه إذا لحق بدار الحرب و امتنع لم يضر المسلمين و إنما أبطل العقد الذي بينهم و بينه فصار كحربي أصلي أما إذا فعل ما يضر بالمسلمين ـ من مقاتلة أو زنا بمسلمة أو قطع طريق أو حبس أو نحو ذلك ـ فإنه يتعين قتله لأنه لو لم يقتل لخلت هذه المفاسد عن العقوبة عليها و تعطلت حدود هذه الجرائم و مثل هذه الجرائم لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق المسلم فلان لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق الذمي أولى و أحرى و لا يجوز أن يقام عليه حدها منفردا كما يقام على من بقيت ذمته الحد لأن صاحبها حربيا و الحربي لا يقام عليه إلا القتل فتعين قتله و صار هذا كالأسير اقتضت المصلحة قتله لعمنا أنه متى أفلت كانت فيه ضرر على المسلمين أكثر من ضرر قتله لا يجوز المن عليه و لا المفاداة به اتفاقا و لأن الواجب في مثل هذا إما القتل أو المن أو الاسترقاق أو الفداء فأما الاسترقاق فإنه أبقى له على ذمته بنحو مما كان فإنه تحت ذمتنا نأخذ منه الجزية بمنزلة العبد و لهذا قال بعض الصحابة لعمر في مسلم قتل ذميا : [ أتقيد عبدك من أخيك ؟ ] بل ربما كان استعباده أنفع له من جعله ذميا و استعباد مثل هذا لا تؤمن عاقبته و سوء مغبته و أما المن عليه و المفاداة به فأبلغ في المفسدة و إعادته إلى الذمة ترك لعقوبته بالكلية فتعين قتله
يوضح ذلك أنا على هذا التقدير لا نعاقبه إذا عاد إلى الذمة إلا بما يعاقب فيه المسلم أو الباقي على ذمته و هذا في الحقيقة يؤول إلى قول من يقول : [ إن العهد لا ينقض بهذه الأشياء ] فلا معنى لجعل هذه الأشياء ناقضة للعهد و إيجاب إعادة أصحابها إلى العهد و أن لا يعاقبوا إذا عادوا إلا بما يعاقب به المسلم(3/176)
يؤيد ذلك أن هذه الجرائم إذا رفعت العهد و فسخته فلأن يمنع ابتداء بطريق الأولى لأن الدوام أقوى من الابتداء ألا ترى أن العدة و الردة تمنع ابتداء عقد النكاح دون دوامه فأما إن كان وجود هذه المضرات يمنع دوام العقد فمنعه ابتداءه أولى و أحرى و إذا يجز ابتداء عقد الذمة فلأن لا يجوز المن أولى و لأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلا أن المشدود و ثاقه من المحاربين جعل لنا أن نعامله بما نرى و الخارج عن العهد ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه كما أن الخارج عن الدين ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه فإن الذي لم يدخل فيه باق على حاله و الذي خرج من الإيمان و الأمان قد أحدث فسادا فلا يلزم من احتمال الفساد الباقي المستصحب احتمال الفساد المحدث المتجدد لأن الدوام أقوى من الابتداء
يبين ذلك أن كل أسير كان يؤذي المسلمين مع كفره فإن النبي صلى الله عليه و سلم قتله مثل : النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط و مثل أبي عزة الجمحي في المرة الثانية
و أيضا فإنه إذا امتنع بطائفة أو بدار الحرب كان ما يتوقى من ضرره متعلقا بعزه و منتعه كالحربي الأصلي فإذا زالت المنعة بأسره لم يبق منه ما يبقى إلا من جهة كونه كافرا فقط فلا فرق بينه بين غيره أما إذا أضر المسلمين و آذاهم بين ظهرانيهم أو تمرد عليهم بالامتناع مما أوجبته الذمة عليه كان ضرره بنفسه من غير طائفه تمنعه و تنصره فيجب إزهاق نفسه التي لا عصمة لها و هي منشأ للضرر و ينبوع لأذى المسلمين ألا ترى أن الممتنع ليس فيما فعله إغراء للآحاد غير ذوي المنعة بخلاف الواحد فإن فيما يفعله فتح باب الشر فإن لم يعاقب فعل ذلك غيره و غيره و لا عقوبة لمن لا عهد له من الكفار إلا السيف(3/177)
و أيضا فإن الممتنع منهم قد أمرنا بقتاله إلى أن يعطي الجزية عن يد و هو صاغر و أمرنا بقتاله حتى إذا أثخناه فشدوا الوثاق فكل آية فيها ذكر القتال دخل فيها فينتظمه حكم غيره من الكفار الممتنعين و يجوز إنشاء عقد ثان لهم و استرقاقهم و نحو ذلك أما من فعل جناية انتقض بها عهده و هو في أيدينا فلم يدخل في هذه العمومات لأنه لا يقاتل و إنما يقتل إذ القتال للممتنع و إذا كان أخذ الجزية و المن و الفداء إنما هو لمن قوتل و هذا لم يقاتل فيبقى داخلا في قوله : { فاقتلوا المشركين } غير داخل في آية الجزية و الفداء
و أيضا فإن الممتنع يصير بمنزلة الحربي و الحربي يندرج جميع شأنه تحت الحراب بحيث لو أسلم لم يؤاخذ بضمان شيء من ذلك بخلاف الذي في أيدينا و ذلك أنه ما دام تحت أيدينا في ذمتنا فإنه لا تأويل له في ضرر المسلمين و إيذائهم و أما اللحاق بدار الحرب فقد يكون له معه شبهة في دينه يرى أنه إذا تمكن من الهرب هرب لا سيما و بعض فقهائنا يبيح له ذلك فإذا فعل ذلك بتأويل كان بمنزلة ما يتلفه أهل البغي و العدل حال القتال لا ضمان فيه و ما أتلفوه في غير حال الحرب ضمنته كل طائفة للأخرى فليس حال من تأول فيما فعله من النقض كحال من لم يتأول
و أيضا فإن ما يفعله بالمسلمين من الضرر الذي ينتفض به عهده لابد له من عقوبة لأنه لا يجوز إخلاء الجرائم التي تدعو إليها الطباع من عقوبة زاجرة و شرع الزواجر شاهد لذلك ثم لا يخلو إما أن تكون عقوبنه من جنس عقوبة من يفعل ذلك من مسلم أو ذمي بامرأة ذمية أو دون ذلك أو فوق ذلك و الأول باطل لأنه يلزم أن يكون عقوبة المعصوم و المباح سواء و لأن الذي نقض العهد يستحق العقوبة على كفره و على ما فعله من الضرر الذي نقض به العهد و إنما أخرت عقوبة الكفر لأجل العهد فإذا ارتفع العهد استحق العقوبة على الأمرين و بهذا يظهر الفرق بينه و بين من فعل ذلك و هو معصوم و بين مباح دمه لم يفعل ذلك(3/178)
لأن هذه المعاصي إذا فعلها المسلم فإنها منجبرة بما يلتزمه من نصر المسلمين و منفعهتهم و موالاتهم فلم يتمحض مضرا للمسلمين لأن فيه منفعة و مضرة و خيرا و شرا بخلاف الذمي فإنه إذا اضر المسلمين تمحض ضررا لزوال العهد الذي هو مظنة منفعته و وجود هذه الأمور المضرة و إذا لم يجز أن يعاقب بمثل ما يعاقب به لمسلم فأن لا يعاقب بما هو دونه أولى و أحرى فوجب أن يعاقب بما هو فوق عقوبة المسلم ثم المسلم يتحتم قتله إذا فعل مثل هذه الأشياء فتحتم عقوبة ناقض العهد أولى لكن يختلفان في جنس العقوبة فهذا عقوبته القتل فيجب أن يتحتم و ذلك عقوبته تارة القتل و تارة القطع و تارة الرجم أو الجلد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 290 ]
فإن قيل : يجوز أن يكون سبها للنبي صلى الله عليه و سلم بمنزلة قتالها و المرأة إذا قاتلت و كانت معاهدة انتقض عهدها كالرجل إذا فعل ذلك و يجوز أن تكون حينئذ بمنزلة المقاتلة إذا أسرت يتخير الإمام فيها بين أربعة أشياء كما يتخير في الرجل المقاتل إذا أسر
قلنا : الجواب من وجوه :(3/179)
أحدها : أن المرأة لم يصدر عنها إلا مجرد شتم النبي صلى الله عليه و سلم بحضرة سيدها المسلم و لم تحض أحدا من المشركين للقتال و لا أشارت على الكافر برأي تعين فيه على قتال المسلمين و معلوم أن من لم يقاتل بيده و لا أعان على القتال بلسانه لم يجز أن ينسب إليه القتال بوجه من الوجوه و نحن لا ننكر أن من لا يجوز قتله كالراهب و الأعمى و الشيخ الفاني و المقعد و نحوهم إذا كان لهم رأي في القتال و كلام يعنون به على قتال المسلمين كانوا بمنزلة المقاتلين لكن مجرد سب المرأة لرسول الله صلى الله عليه و سلم عند قوم مسلمين ليس من هذا القبيل و إنما هو أذى لله و لرسوله أبلغ من القتال من بعض الوجوه فلو لم يكن موجبا للقتل لكانت المرأة الكافرة قد قتلت لأنها مقاتلة و هي لم تقاتل و ذلك غير جائز فعلم أنه موجب للقتل و إن لم يكن قتالا و قد يكون قتالا إذا ذكر في معرض الحض على قتال المسلمين و إغراء الكافر بحربهم فأما في هذه الواقعة فلم يكن من القتال المعروف
الجواب الثاني : أنا مسلم أن سب النبي صلى الله عليه و سلم بمنزلة محاربة المسلمين و مقاتلتهم من بعض الوجوه كما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ـ يعني سب الأنبياء ـ من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر بل هو من أبلغ أنواع الحرب كما تقدم تقريره لكن الجواب نوعان :
أحدهما : ما ينقطع مفسدته بالقتل تارة و بالاستراق أخرى و بالمن أو الفداء أخرى و هو حراب الكافر بالقتال يدا و لسانا فإن الحربي و الحربية المقاتلة إذا أسرا فاسترقا انقطع عن المسلمين ضررهما كما يزول بالقتل و كذلك لو من عليهما رجاء أن يسلما إذا بدت مخائل الإسلام أو رجاء أن يكفا عن الإسلام شر من خلفهما أو فودي بهما فهنا مفسدة المحاربة قد تزول بهذه الأمور(3/180)
الثاني : ما لا تزول مفسدته إلا بإقامة الحد فيه مثل حراب المسلم أو المعاهد في دار الإسلام بقطع الطريق و نحوه فإن ذلك يتحتم إقامة الحد فيه باتفاق الفقهاء
فهذه الأمة التي كانت تسب النبي صلى الله عليه و سلم قد حاربت في دار الإسلام فإن قيل [ تعاقب بالاستراقاق ] فهي رقيقة لا تغير حالها و إن قيل [ يمن عليها أو يفادى بها ] لم يجز لوجهتين : أحدهما : أنها ملك مسلم و لا يجوز إخراجها عم ملكه مع حياتها
الثاني : أن ذلك إحسان إليها و إزالة للرق عنها فلا يجوز أن يكون جزاء لسبها و حرابها فتعين قتلها
الجواب الثالث : أن مفسدة السلب لا تزول إلا بالقتل لأنها متى استبقيت طمعت هي و غيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطريق سواء بخلاف المرأة المقاتلة إذا أسرت فإن مفسدة مقاتلتها قد زالت بأسرها و لا يمكنها مع استرقاتها أن تقاتل و يمكنها أن تظهر السب و الشتم فصار سبها من جنس الجنايات التي توجب العقوبات لا تزول مفسدتها إلا بإقامة الحد فيها و علم أن الذمية التي تسب ليست بمنزلة الحربية التي تقاتل إذا أسرت بل هي بمنزلة الذمية التي الطريق و تزني
الجواب الرابع : أن الحديث فيه حكم و هو القتل و سبب القتل هو السب فيجب إضافة الحكم إلى السبب و الأصل إيجاد الحكم فمن زعم أن السبب حكم آخر احتاج إلى دليل و قياسه على الأسيرة لا يصح لما سيأتي إن شاء الله تعالى
الجواب الخامس : أنها لو كانت بمنزلة الأسيرة لكان النظر فيها للإمام لا يجوز لآحاد الرعية تخير واحدة من الخصال الأربع فيها و من قتلها ضمنها بقيمتها للمسلمين إن كانت فيئا و للغانمين إن كانت مغنما فعلم أن القتل كان واجبا فيها عينا يبقى أن يقال : الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه و جوابه من و جوه :(3/181)
أحدها : أن السيد له أن يقيم الحد على عبده بدليل قوله صلى الله عليه و سلم : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] و قوله : [ إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ] و لا أعلم خلافا بين فقهاء الحديث أن له أن يقيم عليه الحد مثل حد الزنا و القذف و الشرب و لا خلاف بين المسلمين أن له أن يعززه و اختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلا أو قطعا مثل قتله لردته أو لسبه النبي صلى الله عليه و سلم و قطعه للسرقة ؟ و فيه عن الإمام أحمد روايتان : إحداهما : يجوز و هو المنصوص عن الشافعي و الأخرى : لا يجوز كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي و هو قول مالك و قد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق و صح عن حفصة أنها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر و كان ذلك برأى ابن عمر فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده بعلمه مطلقا و على هذا القول فالسيد له أن يقيم الحد على عبده بعلمه في المنصوص عن الإمام أحمد و هو إحدى الروايتين عن مالك و النبي صلى الله عليه و سلم لم يطلب من سيد الأمة بينة على سبه بل صدقه في قوله [ كانت تسبك و تشتمك ] ففي الحديث حجة لهذا القول أيضا
الوجه الثاني : : أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتئات على الإمام و الإمام له أن يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه
الوجه الثالث : أن هذا و إن كان حدا فهو قتل حربي أيضا فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله و هذا يجوز قتله لكل أحد و على هذا يحمل قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له أنه يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لو سمعته لقتلته ](3/182)
الوجه الرابع : أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه و سلم لما لم يرض بحكمه فنزل القرآن بإقراره و مثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل حتى سماه النبي صلى الله عليه و سلم ناصرا لله و رسوله و ذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين و يفسده ليس بمنزلة من قتل لأجل معصيته من زنا و نحوه
الجواب السادس : أن الفقهاء قد اختلفوا في المرأة المقاتلة إذا أسرت هل يجوز قتلها ؟ و مذهب الشافعي أنها لا تقتل فلو كانت هذه إنما قتلت لكونها قد قاتلت لم يجز أن تقتل بعد الأسر عنده فلا يصح أن يورد هذا السؤال على أصله
الدليل الثالث : أن الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوما بأمان يعقد له أو ذمة أو هدنة و معلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم و النفر الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى كعب بن الأشرف جاؤا إليه على أن يستلفوا منه و حادثوه و ماشوه و قد آمنهم على دمه و ماله و كان بينه و بينهم قبل ذلك عهد و هو يعتقد بقاءه ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى و هذا كله يثبت الأمان فلو لم يكن في السب إلا مجرد كونه كافرا حربيا لم يجز قتله بعد أمانه إليهم و بعد أن أظهروا له أنهم يؤمنون له و استئذانهم في إمساك يديه فعلم بذلك أن إيذاء الله و رسوله موجب للقتل لا يعصم منه و لا عهد و ذلك لا يكون إلا فيما أوجب القتل عينا من الحدود كحد الزنا وحد قطع الطريق وحد المرتد و نحو ذلك فإن عقد الأمان لهؤلاء لا يصح و لا يصيرون مستأمنين بل يجوز اغتيالهم و الفتك بهم لتعين قتلهم فعلم أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم كذلك(3/183)
يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إنه لو قر كما قر غيره ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف ] فإن ذلك دليل على أن لا جزاء إلا القتل
الدليل الرابع : قوله صلى الله عليه و سلم إن كان ثابتا [ من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] فأوجب القتل عينا على كل ساب و لم يخير بينه و بين غيره و هذا مما يعتمد في الدلالة إن كان محفوظا
الدليل الخامس : أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا الناس إلى قتل ابن الأشرف لأنه كان يؤذي الله و رسوله و كذلك كان يأمر بقتل من يسبه أو يهجوه إلا من عفا عنه بعد القدرة و أمره صلى الله عليه و سلم للايجاب فعلم وجوب قتل الساب و إن لم يجب قتل غيره من المحاربين و كذلك كانت سيرته لم يعلم أنه ترك قتل أحد من السابين بعد القدرة عليه إلا من تاب أو كان من المنافقين و هذا يصلح أن يكون امتثالا للأمر بالجهاد و إقامة الحدود فيكون على الإيجاب يؤيد أن في ترك قتله تركا لنصر الله و رسوله و ذلك غير جائز(3/184)
الدليل السادس : أقاويل الصحابة فإنها نصوص في تعين قتله مثل قول عمر رضي الله عنه [ من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه ] فأمر بقتله عينا و مثل قول ابن عباس رضي الله عنه [ أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه ] فأمر بقتل المعاهد إذا سب عينا و مثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه و سلم [ لولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد و معاهد فهو محارب غادر ] فبين أن الواجب كان قتلها عينا لولا فوات ذلك و لم يجعل فيه خيرة إلى الأمام و لا سيما و السابة امرأة و ذلك وحده دليل كما تقدم و مثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه أنه يسب النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو سمعته لقتلته ] و لو كان كالأسير الذي يخير فيه الإمام لم يجز لابن عمر اختيار قتله و هذا الدليل واضح(3/185)
الدليل السابع : أن ناقض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم و نحوه حاله أغلظ من حال الحربي الأصلي و خروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين و أذى الله و رسوله و مثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة تزجر أمثاله عن مثل حاله و الدليل عليه قوله سبحانه و تعالى : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون } [ الأنفال : 57 ] فأمر الله رسوله إذا صادف الناكثين للعهد في الحرب أن يشرد بهم غيرهم من الكفار بأن يفعل بهم ما يتفرق به أولئك و قال تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] فحض على قتال من نكث اليمين و هم بإخراج الرسول و بدأ بنقض العهد و معلوم أن من سب الرسول صلى الله عليه و سلم فقد فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول و بدأنا أول مرة ثم قال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديهم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم } [ التوبة : 15 ] فعلم أن تعذيب هؤلاء و إخزاءهم و نصر المؤمنين عليهم و شفاء صدورهم بالإنتقام منم و ذهاب غيظ قلوبهم مما أذوهم به أمر مقصود للشارع مطلوب في الدين و معلوم أن هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي صلى الله عليه و سلم و آذى الله تعالى و رسوله و عباده المؤمنين إلا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه و لا بالمن عليه و المفاداة به
و كذلك أيضا تنكيل غيره من الكفار الذين قد يريدون إظهار السب لا يحصل على سبيل التمام إلا بذلك و لا يعارض هذا من نقض العهد في طائفة ممتنعة إذا أسرنا واحدا منهم لأن قتال أولئك و الظهور عليهم يحصل هذا المقصود بخلاف من كان في أيدينا قبل السب و بعده فإن لم يحدث فيه قتلا لم يحصل هذا المقصود(3/186)
و جماع ذلك أن ناقض العهد لا بد له من قتال أو قتل إذ لا يحصل المقصود إلا بذلك و هذا الوجه و إن كان فيه عموم لكل من نقض العهد بالأذى لكن ذكرناه هنا لخصوص الدلالة أيضا فأنها تدل عموما و خصوصا الدليل الثامن : أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم فقد صدر منه فعل تضمن أمرين أحدهما : انتقاض العهد الذي بيننا و بينه الثاني : جنايته على عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتهاكه حرمته و إيذاء الله و رسوله و المؤمنين و طعنه في الدين و هذا معنى زائد على مجرد كونه كافرا قد نقض العهد
و نظير ذلك أن ينقضه بالزنا بمسلمة أو بقطع الطريق على المسلمين و قتلهم و أخذ أموالهم أو بقتل مسلم فإن فعله ـ مع كونه نقضا للعهد ـ قد تضمن جناية آخرى فإن الزنا و قطع الطريق و القتل من حيث هو هو جناية منفصلة عن نقض العهد له عقوبة تخصه في الدنيا و الآخرة زائدة على مجرد عقوبة التكذيب بنبوية و الدليل عليه قوله سبحانه و تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] فعلق اللعنة في الدنيا و الآخرة و العذاب المهين بنفس أذى الله و رسوله فعلم أنه موجب ذلك و كذلك قوله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ] و قد تقدم تقريره(3/187)
يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل مكة آمن الناس الذين كانوا يقاتلونه قبل ذلك و الذين نقضوا العهد الذي كان بينه و بينهم و خانوه إلا نفرا منهم القينتان اللتان كانتا تغنيان بهجائه و سارة مولاة بني عبد المطلب التي كانت تؤذيه بمكة فإذا كان قد أمر بقتل التي كانت تهجوه من النساء ـ مع أن قتل المرأة لا يجوز إلا إذا قاتلت و هو صلى الله عليه و سلم قد آمن جميع أهل مكة من كان قد قاتل و نقض العهد من الرجال و النساء ـ علم بذلك أن الهجاء جناية زائدة على مجرد القتال و الحراب لأن التفريق بين المتماثلين لا يقع من النبي صلى الله عليه و سلم كما أنه بقتل ابن خطل لأنه كان قد قتل مسلما و لأنه كان مرتدا و لأنه كان يأمر بهجائه و كل واحد من القتل و الردة و الأمر بهجائه جناية زائدة على مجرد الكفر و الحراب
و مما يبين ذلك أنه قد كان أمر بقتل من كان يؤذيه بعد فتح مكة ـ مثل ابن الزبعرى و كعب بن زهير و الحويرث بن نقيد و ابن خطل و غيرهم ـ مع أمانه لسائر أهل البلد و كذلك أهدر دم أبي سفيان بن الحارث و امتنع من إدخاله عليه و إدخال عبد الله بن أبي أمية لما كانا يقعان في عرضه ـ و قتل ابن أبي معيط و النضر بن الحارث دون غيرهما من الأسرى و سمى من يبذل نفسه في قتله ناصرا لله و رسوله و كان بندب إلى قتل من يؤذيه و يقول : [ من يكفني عدوي ]
و كذلك أصحابه يسارعون إلى قتل من آذاه بلسانه و إن كان أبا أو غيره و يندرون قتل من ظفروا به من هذا الضرب و قد تقدم من بيان ما فيه بلاغ(3/188)
و من المعلوم أن هؤلاء لو كانوا بمنزلة سائر الكفار لا عهد لهم لم يقتلهم و لم يأمر بقتلهم في مثل هذه الأوقات التي آمن فيها الناس و كف عمن هو مثلهم فعلم أن السب جناية زائدة على الكفر و قد تقدم تقرير ذلك في المسألة الأولى على وجه يقطع العاقل أن الرسول صلى الله عليه و سلم جناية لها موقع يزيد على سائر الجنايات بحيث يستحق صاحبها من العقوبة مالا يستحقه غيره و إن كان كافرا حربيا مبالغا في محاربة المسليمين و أن وجوب الانتصار ممن كان هذه حالة كان مؤكدا في الدين و السعي في إهدار دمه من أفضل الأعمال و أوجبها و أحقها بالمسارعة إليه و ابتغاء رضوان الله تعالى فيه و أبلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده و فرضه عليهم و من تأمل الذين أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دماؤهم يوم الفتح و اشتد غضبه عليهم حتى قتل بعضهم في نفس الحرم و أعرض عن بعضهم و انتظر قتل بعضهم وجد لهم جرائم زائدة على الكفر و الحراب من ردة و قتل و نحو ذلك و جرم أكثرهم إنما كان من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أذاه بألسنتهم فأي دليل أوضح من هذا على أن سبه و هجاءه جناية زائدة على الكفر و الحراب لا يدخل في ضمن الكفر كما يدخل سائر المعاصي في ضمن الكفر و على أن المعاهدين إذا نقضوا العهد و فيهم من سب النبي صلى الله عليه و سلم كان للسب عقوبة زائدة على عقوبة مجرد نقض العهد ؟
و مما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفرا و حرابا ـ و إن كان متضما لذلك ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه و قد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر و غيره و لو كان السب مجرد ردة لوجب قتله كالمزيد يجب قتله فعلم أنه قد تغلب في السب حق النبي صلى الله عليه و سلم بحيث يجوز له العفو عنه(3/189)
و مما يدل على أن السب جناية مفردة أن الذمي لو سب واحدا من المسليمين أو المعاهدين و نقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة ما لا يستحقه بمجرد نقض العهد فيكون سب رسول الله صلى الله عليه و سلم دون سب واحد من البشر
و مما يدل على ذلك أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم و شاتمه يؤذيه شتمه و هجاؤه كما يؤذيه التعرض لدمه و ماله قال الله تعالى لما ذكر الغيبة : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } [ الحجرات : 12 ] فجعل الغيبة التي هي كلام صحيح بمنزلة أكل لحم المغتاب ميتا فكيف بهتانه ؟ و سب النبي صلى الله عليه و سلم لا يكون إلا بهتانا
و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لعن المؤمن كقتله ] و كما يؤذي ذلك غير من البشر(3/190)
و أيضا فإن ذلك يؤذي جميع المؤمنين و يؤذي الله سبحانه و تعالى و مجرد الكفر و المحاربة لا يحصل بهما من أذاه بالويعة في العرض مع المحاربة فلو قيل [ إن الواقع في عرضه ممن انتقض عهده بمنزلة غيره ممن انتقض عهده ] لكانت الوقيعة في عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و أذاه بذلك جرما لا جزاء له من حيث خصوص النبي صلى الله عليه و سلم و خصوص أذاه كما لو قتل رجل نبيا من الأنبياء فإن لقتله من العقوبة ما لا يستحق على مجرد الكفر والمحاربة و هذا كله ظاهر لا خفاء به فإن دماء الأنبياء و أعراضهم أجل من دماء المؤمنين و أعراضهم فإذا كان دماء غيرهم و أعراضهم لا تندرج عقوبتها في عقوبة مجرد نقض العهد فأن لا تندرج عقوبة دمائهم و أعراضهم في عقوبة نقض العهد الأولى و مما يوضح ذلك أن سب النبي صلى الله عليه و سلم تعلق به عدة حقوق : حق الله سبحانه من حيث كفر برسول و عادى أوليائه و بارزه بالمحاربة و من حيث طعن في كتابه و دينه فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة و من حيث طعن في ألوهيته فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل و تكذيبه لله تبارك و تعالى و إنكار لكلامه و أمره و خبره و كثير من صفاته و تعلق حق جميع المؤمنين من هذه الأمة و من غيها من الأمم فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنيانهم و دينهم و آخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا و الآخرة بوساطته و سفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم و آبائهم و أبنائهم و سب جميعهم كما أنه أحب إليهم من أنفسهم و أولادهم و آبائهم و الناس أجمعين و تعلق به حق رسول الله صلى الله عليه و سلم من حيث خصوص نفسه فإن الإنسان تؤذي الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله أكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح و نحوه خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه و علو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا و الآخرة فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله لا(3/191)
يقدح عند الناس في نبوته و رسالته و علو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه و سوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم و يوجب لهم خسارة الدنيا و الآخرة فكيف يجوز أن يعتقد عاقل أن هذه الجناية بمنزلة ذمي كان في ديار المسلمين فلحق ببلاد الكفار مستوطنا لها مع أن ذلك اللحاق ليس في خصوصه حق لله و لا رسوله و لا لأحد من المسلمين ؟ أكثر ما فيه أن الرجل كان معتصما بحبلنا فخرق تلك العصمة فإنما أضر بنفسه لا بأحد من المؤمنين
فعلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله و لرسوله و لعباده المؤمنين ما ليس في الكفر و المحاربة وهذا ظاهر إن شاء الله
إذا ثبت فنقول : هذه الجناية السب موجبها القتل لما تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله فعلم أن من آذى الله و رسوله ] كان حقه أن يقتل و لما تقدم من إهدار النبي صلى الله عليه و سلم دم المرأة السابة مع أنها لا تقتل لمجرد نقض العهد و لما تقدم من أمره صلى الله عليه و سلم بقتل من كان يسبه مع إمساكه عمن هو بمنزلته في الدين و ندبه الناس في ذلك و الثناء على من سارع في ذلك و لما تقدم من الحديث المرفوع و من أقوال الصحابة رضي الله عنهم أن من سب نبيا قتل و من سب غير نبي جلد
و الذي يختص بهذا الموضع أن تقول : هذه الجناية إما أن يكون موجبها بخصوصها القتل أو الجلد أو لا عقوبة لها بل تدخل عقوبتها في ضمن عقوبة الكفر و الحراب
و قد أبطلنا القسم الثاني أيضا باطل لوجوه :(3/192)
أحدها : أنه لو كان الأمر كذلك لكان الذمي إذا نقض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم أن يجلد لسب النبي صلى الله عليه و سلم لأنه حق آدمي ثم يكون كالكافر الحربي يقتل للكفر و معلوم أن هذا خلاف ما دلت عليه السنة و إجماع الصحابة فإنهم اتفقوا على القتل فقط فعلم أن موجب كلا الجنايتين القتل و القتل لا يمكن تعدده و ذلك كان ينبغي أن يجلد المرتد لحق النبي صلى الله عليه و سلم ثم يقتل لردته كمرتد سب بعض المسليمين فإنه يستوفي منه حق الآدمي ثم يقتل ألا ترى أن السارق يقطع لسرقته التي هي حق الله و يرد المال المسروق إذا كان باقيا بالاتفاق و يغرم إن كان تالفا عند أكثر الفقهاء و لا يدخل حق الآدمي في حق الله مع اتحاد السبب ؟
الثاني : أنه لم يكن موجبه القتل و إنما القتل موجب كونه ردة لم يجز للنبي صلى الله عليه و سلم العفو عنه لأن إقامة الحد على المرتد واجبة بالاتفاق لا يجوز العفو عنه فلما عفا عنه النبي صلى الله عليه و سلم في حياته دل على أن السب نفسه يوجب القتل حقا للنبي صلى الله عليه و سلم و يدخل فيه حق الله تعالى و يكون سابه و قاذفه بمنزل الساب غيره و قاذفه قد اجتمع في سبه حقان : حق لله و حق لآدمي فلو أن المسبوب و المقذوف عفا عن حقه لم يعزر القازف و الساب على حق الله بل دخل في العفو كذلك النبي عليه الصلاة و السلام إذا عفا عمن سبه دخل في عفوه عنه حق الله فلم يقتل لكفره كما يعزر ساب غيره لمعصيته مع أن المعصية المجردة عن حق آدمي توجب التعزير(3/193)
يوضح ذلك أنه قد ثبت أنه كان له أن يقتل من سبه كما في حديث أبي بكر و حديث الذي أمر بقتله لما كذب عليه و حديث الشعبي في قتل الخارجي و كما دلت عليه أحاديث قد تقدم ذكرها و ثبت له أن يعفو عنه كما دل عليه حديث ابن مسعود و أبي سعيد و جابر و عندهم فعلم أن سبه يوجب القتل كما أن سب غيره يوجب الجلد و إن تضمن سبه الكفر بالله كما تضمن سب غيره المعصية لله و يكون الكفر و الحراب نوعين : أحدهما حق لله خالص و الثاني ما فيه حق لله و حق لآدمي كما أن قسمان : أحدهما حق خالص لله و الثاني حق لله و لآدمي فيكون هذا النوع من الكفر و الحراب بمنزلة غيره من الأنواع في استحقاق فاعله القتل و يفارقه في الاستيفاء فإنه إلى الآدمي كما أن المعصية بسب غير النبيين بمنزلة غيرها من المعاصي في استحقاق فاعلها الجلد و يفارق غيرها في أن الاستيفاء فيها إلى الآدمي
يوضح هذا أن الحق على الإنسان قد يكون حقا محصنا لله و هو ما إذا كفر أو عصى على وجه لا يؤذي أحدا من الخلق فهذا إذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال و قد يكون حقا محصنا لآدمي بمنزلة الديون التي تجب للانسان على غيره من ثمن مبيع أو بدل قرص و نحو ذلك من الديون التي تثبت بوجه مباح فهذا لا عقوبة فيه بوجه و إنما يعاقب على الدين إذا امتنع من وفائه و الامتناع معصية و قد يكون حقا لله و لآدمي ـ مثل حد القذف و القود و عقوبة السب نحو ذلك ـ فهذه الأمور فيها العقوبة من الحد و التعزير و الاستيفاء فيهما مفوض إلى اختيار الآدمي : إن أحب استوفى القود و حد القذف و إن شاء عفا فسب النبي صلى الله عليه و سلم لو كان من القسم الثاني لم يكن فيه عقوبة بحال فتعين أن يكون من القسم الثالث و ثبت أن عقوبته القتل فعلم أن السب النبي عليه الصلاة و السلام من حيث هو سب له و حق لآدمي عقوبته القتل كما أن سب غيره من حيث هو سب له و حق لآدمي عقوبته الجلد إما حدا أو تعزيزا و هذا معنى صحيح واضح(3/194)
و سر ذلك أنه إذا اجتمع الحقان فلا بد من عقوبة لأن معصية الله توجب العقوبة إما في الدنيا أو في الآخرة فإذا كان الاستيفاء جعل الله ذلك إلى المستحق من الآدميين لأن الله أغنى الشركاه عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه فهو كله للذي أشرك كذلك من عمل عملا لغيره عقوبة جعل عقوبته كلها الغير و كانت عقوبته على معصية الله تمكين ذلك الإيمان من عقوبته
و تمام هذا المعنى أن يقال : بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم يتعين القتل لأن المستحق لا يمكن منه المطالبة و العفو كما أن من سب أو شتم أحدا من أموات المسليمين عزر على ذلك الفعل لكونه معصية لله و إن كان في حياته لا يؤذي حتى يطلب إذا علم
الوجه الثالث : أن سب النبي صلى الله عليه و سلم لا يجوز أن يكون ـ من حيث هو سب ـ بمنزلة سب غيره من المؤمنين و لأنه عليه الصلاة و السلام يباين المؤمنين من أمته في عامة الحقوق فرضا و حظرا و غيرهما مثل وجوب طاعته و و جوب محبته و تقديمه المحبة على جميع الناس و وجوب تعزيره و توقيره على وجه لا يساويه فيه أحد و وجوب الصلاة عليه و التسليم إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تحصى ن و في سبه إيذاء لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده و أقل ما في ذلك أن سبه كفر و محاربة و سب غيره ذنب و معصية و معلوم أن العقوبات على قدر الجرائم فلو سوي بين سبه و سب غيره لكان تسوية بين السبين المتناينين و ذلك لا يجوز فإذا كان سب غيره مع كونه معصية يوجب الجلد و جب أن يكون سبه مع كونه كفرا يوجب القتل و يصير ذلك نوعا من أنواع الكفر من وجه نوعا من أنواع السب من وجه فمن حيث هو من جنس الكفر أوجب القتل و من حيث هو من جنس كان حقا لآدمي(3/195)
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعاقب أحدا منهم إلا بالقتل و لو كان هو بانفراده لا يوجب القتل و إنما يوجب ما دونه و هو صلى الله عليه و سلم قد عفا عن عقوبته فيما دونه و آمن فعل ذلك صاحب ذلك لا ينبغي قتله لأن دينه الذي يختصه لا يقتضي القتل فإن قيل فقتله بمجموع الأمرين
قلنا : و هذا المقصود لأن السب حيث كان فإنه مستلزم لكفر عهد معه
الدليل التاسع : أن سب رسول الله عليه الصلاة و السلام ـ مع كونه من جنس الكفر و الحراب ـ أعظم من مجرد الردة عن الإسلام فإنه من المسلم ردة و زيادة كما تقدم تقريره فإذا كان كفر المرتد قد تغلظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عينا فكفر الساب الذي آذى الله و رسوله و جميع المؤمنين من عباده أولى يتغلظ فيوجب القتل عينا لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة(3/196)
و قد اختلف الناس في قتل المرتدة و إن كان المختار قتلها و نحن قد قدمنا نصوصا عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه في قتل السابة الذمية و غير الذمية و المرتد يستتاب من الردة و رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه قتلوا الساب و لم يستتيبوه فعلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتله أولى الدليل العاشر : أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه و سلم واجب بحسب الإمكان لأنه من تمام ظهور دين الله و علو كلمة الله و كون الدين كله لله فبحيث ما ظهر سبه و لم ينتقم ممن ذلك فعل ذلك الدين ظاهرا و لا كلمة الله عالية و هذا كما يجب تطهيرها من الزناة و السراق و قطاع الطريق بحسب الإمكان بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب و جواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة ملتزمين جريان حكم الله و رسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين و علو الكلمة و إنما يجوز مهادنة الكافر و أمانه عند العجز أو المصلحة المرجوة في ذلك و كل جناية وجب تطهير الأرض منها بحسب القدرة بيعين فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع إذا لم يكن لها مستحق معين فوجب أن يتعين قتل هذا لأنه ليس لهذه الجناية مستحق معين لأنه تعين بها حق الله و رسوله و جميع المؤمنين و بهذا يظهر الفرق بين الساب و بين الكافر لجواز إقرار ذلك على كفره مستخفيا به ملتزما حكم الله و رسوله بخلاف المظهر للسب(3/197)
الدليل الحادي عشر : أن قتل الساب النبي عليه الصلاة و السلام و إن كان قتل كافر فهو حد من الحدود ليس قتلا على مجرد الكفر و الحراب لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر و المحاربة و من أن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه أمروا فيه بالقتل عينا و ليس هذا موجب الكفر و المحاربة و لما تقدم من قول الصديق رضي الله عنه في التي سبت النبي عليه الصلاة و السلام [ إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود ] و معلوم أن قتل الأسير الحربي و نحوه من الكفار و المحاربين لا يسمى حدا و لأن ظهور سبه في ديار المسلمين فساد عظيم أعظم من جرائم كثيرة فلا بد أن يشرع له حد يزجر عنه من يتعاطاه فإن الشارع لا يهمل مثل هذه المفاسدة و لا يخليها من الزواجر و قد ثبت أن حده القتل بالسنة و الإجماع و هو حد لغير معين حي لأن الحق فيه لله و لرسوله و هو ميت و لكل مؤن و كل حد يكون بهذه المثابة فإنه يتعين إقامته بالاتفاق
الدليل الثاني عشر : أن نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم و تعزيره و توقيره واجب و قتل سابه مشروع كما تقدم فلو جاز ترك قتله لم يكن نصرا و لا تعزيرا و لا توقيرا بل ذلك أقل نصره لأن الساب في أيدينا و نحن متمكنون منه فإن لم نقتله مع أن قتله جائز لكان غاية في الخذلان و ترك التعزير له و التوقير و هذا ظاهر(3/198)
و اعلم أن تقرير هذه المسألة له طرق متعددة غير ما ذكرناه و لم نطل الكلام هنا لأن عامة الدلائل المذكورة في المسألة الأولى تدل على وجوب قتله لمن تأملها فاكتفينا بما ذكرناه هناك و إن كان القصد في المسألة الأولى بيان جواز قتله مطلقا و هنا بيان وجوب قتله مطلقا و قد أجبنا هناك عمن ترك النبي صلى الله عليه و سلم قتله من أهل الكتاب و المشركين السابين و بينا أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين كان مأمورا بالعفو و الصفح قبل أن يؤمر بقتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية و يجاهد الكافر و المنافقين و أنه كان له أن يعفو عمن سبه لأن هذه الجريمة غلب فيها حقه و بعد موته لا عافي عنها و الله أعلم
قال الإمام أحمد في رواية حنبل : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم و تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب ]
و قال : [ كل من نقض العهد و أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة ]
و قال عبد الله : [ سألت أبي عمن شتم النبي عليه الصلاة و السلام يستتاب ؟
قال : قد وجب عليه القتل و لا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يستتبه ]
هذا مع نصه أنه مرتد إن كان مسلما و أنه قد نقض العهد إن كان ذميا و أطلق في سائر أجوبته أنه يقتل و لم يأمر فيه باستتابة هذا مع أنه لا يختلف نصه و مذهبه أن المرتد المجرد يستتاب ثلاثا إلا أن يكون ممن ولد على الفطرة فقد روى عنه استتابة جميع المرتدين و اتبع في استتابتة ما صح في ذلك عن عمر و عثمان و علي و ابن مسعود و أبي موسى و غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمروا باستتابة المرتد في قضايا متفرقة و قدرها عمر رضي الله عنه ثلاثا و فسر الإمام أحمد قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من بدل دينه فاقتلوه ] بأنه المقيم على التبديل الثابت عليه فإذا تاب لم يكن مبدلا و هو راجع يقول : قد أسلمت(3/199)
و هل استتابة المرتد واجبة أو مستحبة ؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان و كذلك الخرقي أطلق القول بأن من قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم قتل مسلما كان أو كافرا و أطلق أبو بكر أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه و سلم و كذلك غيرهما مع أنهم في المرتد يذكرون أنه لا يقتل حتى يستتاب فإن تاب من السب بأن يسلم أو يعود إلى الذمة إن كان كافرا أو يعود إلى الإسلام إن كان مسلما و يقلع عن السب فقال القاضي في المجرد و غيره من أصحابنا : [ و الردة تحصل بجحد الشهادتين و بالتعريض بسب الله تبارك و تعالى و بسب النبي صلى الله عليه و سلم إلا أن الإمام أحمد قال : [ لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه و سلم أن المعرة تلحق النبي عليه الصلاة و السلام بذلك ] و كذلك قال ابن عقيل : [ قال أصحابنا في سب النبي عليه الصلاة و السلام : إنه لا تقبل توبته من ذلك لما تدخل من المعرة من السب على النبي عليه الصلاة و السلام و هو حق آدمي لم يعلم إسقاطه ]
و قال القاضي في خلافه و ابنه أبو الحسين : [ إذا سب النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته مسلما كان أو كافرا و يجعله ناقضا للعهد نص عليه أحمد
و ذكر القاضي النصوص التي قدمناها عن الإمام أحمد في أنه يقتل و لا يستتاب و قد وجب عليه القتل قال القاضي : [ لأن حق النبي صلى الله عليه و سلم يتعلق به حقان : حق لله و حق لآدمي و العقوبة إذا تعلق بها حق لله و حق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه لو تاب قبل القدرة لم يسقط حق الآدمي من القصاص و سقط حق الله ]
و قال أبو المواهب العكبري : [ يجب لقذف النبي عليه الصلاة و السلام الحد المغلظ و هو القتل تاب أو لم يتب ذميا كان أو مسلما ](3/200)
و كذلك ذكر جماعات آخرون من أصحابنا أنه يقتل ساب النبي صلى الله عليه و سلم و لا تقبل توبته سواء كان مسلما أو كافرا و مرادهم بأنه لا تقبل توبته أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة و التوبة اسم جامع للرجوع عن السب بالإسلام و بغيره فلذلك أتوا بها و أرادوا أنه لو رجع عن السب بالإسلام أو بالإقلاع عن السب و العود إلى الذمة إن كان ذميا لم يسقط عنه القتل لأن عامة هؤلاء لما ذكروا هذه المسألة قالوا : خلافا لأبي حنيفة و الشافعي في قولهما : إن كان مسلما يستتاب فإن تاب و إلا قتل كالمرتد و إن كان ذميا فقال أبو حنيفة : [ لا ينتقض عهده ] و اختلف أصحاب الشافعي فيه فعلم أنهم أرادوا بالتوبة توبة المرتد و هي الإسلام و لأنهم قد حكموا بأنه مرتد و قد صرحوا بأن توبة المرتد أن يرجع إلى الإسلام و هذا ظاهر فيه فإن كل من ارتد بقول فتوبته أن يرجع إلى الإسلام و يتوب من ذلك القول و أما الذمي فإن توبته لها صورتان :
إحداهما : أن يقلع عن السب و يقول : لا أعود إليه و أنا أعود إليه و أنا أعود إلى الذمة و ألتزم موجب العهد
و الثانية : أن يسلم فإن إسلامه توبة من السب
و كلا الصورتين تدخل في كلام هؤلاء الذين قالوا : لا تقبل توبته مسلما كان أو كافرا و إن كانت الصورة الثانية أدخل في كلامهم من الأولى لكن إذا لم يسقط بتوبة هي العود إلى الذمة أولى و إنما كانت أدخل لأنه قد علم أن التوبة من المسلم إنما هي الإسلام فكذلك من الكافر لذكرهم توبة الاثنين بلفظ واحد و لأن تعليلهم بكونه حق آدمي و قياسه على المحارب دليل على أنه لا يسقط بالإسلام و لأنهم صرحوا في مواضع يأتي بعضها أن التوبة من الكافر هنا إسلامه(3/201)
و قد صرح بذلك جماعة غيرهم فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في الإرشاد و هو ممن يعتمد نقله : [ و من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم النبي صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب و من سبه صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة قتل و إن أسلم ]
و قال أبو علي ابن البناء في الخصال و الأقسام له : [ و من سب النبي عليه الصلاة و السلام وجب قتله و لا تقبل توبته و إن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يقتل أيضا و لا يستتاب ] قال : [ و مذهب مالك كمذهبنا ]
و عامة هؤلاء لم يذكروا خلافا في وجوب قتل المسلم و الكافر و أنه لا يسقط بالتوبة من الإسلام و غيره و هذه طريقة القاضي في كتبه المتأخرة من التعليق الجديد و طريقة من وافقه و كان القاضي في التعليق القديم و في الجامع الصغير يقول : [ إن المسلم يقتل و لا تقبل توبته و في الكافر إذا أسلم روايتان قال القاضي في الجامع الصغير الذي ضمنه مسائل التعليق القديم : [ و من سب أم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته فإن كان كافرا فأسلم ففيه روايتان إحداهما : يقتل أيضا و الثانية : لا يقتل و يستتاب قياسا على قوله في الساحر : إذا كان كافرا لم يقتل و إن كان مسلما قتل ] و كذلك ذكر من نقل من التعليق القديم مثل الشريف أبي جعفر قال : [ إذا سب أم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته و في الذمي إذا سب أم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته و في الذمي إذا سب أم النبي عليه الصلاة و السلام روايتان إحداهما : يقتل و الأخرى : لا يقتل ]
قال : [ و بهذا التفصيل قال : مالك و قال أكثرهم : تقبل توبته في الحالين ] و لنا أنه حد وجب كقذف أدمي فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي عليه الصلاة و السلام(3/202)
و كذلك قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل : [ إذا قذف أم النبي عليه الصلاة و السلام لا تقبل التوبة منه و في الكافر إذا سبها ثم أسلم روايتان و قال أبو حنيفة و الشافعي : تقبل توبته في الحالتين ]
و لنا أنه حد وجب كقذف آدمي فلا يسقط بالتوبة دليله قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم
و غنما ذكرت عبارة هؤلاء ليتبين أن مرادهم بالتوبة هنا من الكافر الإسلام و يظهر أن طريقتهم بعينها هي طريقة ابن البناء في أن المسلم إذا سب لم تقبل توبته و أن الذمي إذا سب ثم أسلم قتل أيضا في الصحيح من المذهب
فإن قيل : فقد قال القاضي في [ خلافه ] [ فإن قيل : أليس قد قلتم لو نقض العهد بغير سب النبي صلى الله عليه و سلم ـ مثل أن نقضه بمنع الجزية أو قتال المسلمين أو أذيتهم ـ ثم تاب قبلتم توبته و كان الإمام فيه بالخيار بين أربعة أشياء كالحربي إذا حصل أسيرا في أيدينا هلا قلتم في سب النبي صلى الله عليه و سلم إذا تاب منه كذلك قيل : لأن سب النبي صلى الله عليه و سلم قذف لميت فلا يسقط بالتوبة كما لو قذف ميتا ] و هذا من كلامه يدل على أن التوبة غير الإسلام لأنه لو نقض العهد بغير السب ثم أسلم يتخير الإمام فيه
قلنا : لا فرق في التخيير بين الأربعة قبل التوبة التي هي الإقلاع و بعده عند من يقول به إنما أراد المخالف أن يقيس على صورة تشبه صور النزاع و هي الحكم فيه بعد التوبة إذا كان قبل التوبة قد ثبت جواز قتله
على أن توبة الذمي الناقض للعهد لها صورتان :
إحداهما : أن يسلم فإن إسلامه توبة من الكفر وتوابعه
والثانية : أن يرجع إلى الذمة تائبا من الذنب الذي أحدثه حتى انتقض عهده فهذه توبة من نقض العهد فإذا تاب هذه التوبة وهو مقدور عليه جاز للإمام أن يقبل توبته حيث يكون حكمه حكم الأسير كما أن الأسير إذا طلب أن تعقد له الذمة جاز أن يجاب إلى ذلك(3/203)
فألزم المخالف [ القاضي ] على طريقته أن الناقض التائب من النقض يخير الإمام فيه فهلا خيرتموه في الساب إذا تاب توبة يمكن التخير بعدها بأن يقلع عن السب و يطلب عقد الذمة له ثانيا فلذلك قيل في هذه الصورة : هلا خير الإمام فيه بعد التوبة و إن كان في صورة أخرى لا يمكن التخيير بعد توبة هي الإسلام
و قد تقدم ذكر ذلك و قد قدمنا أيضا أن الصحيح أنه لا يخير فيمن نقض العهد بما يضر المسلمين بحال و قد ظهر أن الرواية الأخرى التي حكموها في الفرق بين المسلم و الكافر مخرجة من نصه على الفرق بين الساحر و الكافر و الساحر المسلم و ذلك أنه قد قال في الساحر الذمي : لا يقتل ما هو عليه من الكفر أعظم و استدل بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل لبيد بن أعصم لما سحره و الساحر المسلم يقتل عنده لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و عمر و عثمان و ابن عمر و حفصة رضي الله عنهم من الأحاديث و وجه الترجيح أن ما الكافر عليه من الشرك أعظم مما هو عليه من السب و السحر فنسبة السب و السحر إليه واحدة بخلاف المسلم فإذا قتل الساحر المسلم دون الذمي فكذلك الساب الذمي دون المسلم لكن السب ينقض العهد فيجوز قتله لأجل نقض العهد فإذا أسلم امتنع قتله لنقض العهد و هو لا يقتل لخصوص السب كما لا يقتل لخصوص السحر فيبقى دمه معصوما
و قد حكى هذه الرواية الخطابي عن الإمام أحمد نفسه فقال : قال مالك ابن أنس [ من شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى قتل إلا أن يسلم ] و كذلك قال أحمد بن حنبل و حكى آخرون من أصحابنا رواية عن الإمام أحمد أن المسلم تقبل توبته من السب بأن يسلم و يرجع عن السب كذلك ذكر أبو الخطاب في الهداية و من احتذى حذوه من متأخرى أصحابنا في ساب الله و رسوله من المسلمين : هل تقبل توبته أم يقتل بكل حال ؟ روايتان
فقد تلخص أن أصحابنا حكموا في الساب إذا تاب ثلاث روايات(3/204)
إحداهن : يقتل بكل حال و هي التي نصروها كلهم و دل عليها كلام الإمام أحمد في نفس هذه المسألة و أكثر محققيهم لم يذكروا سواها
و الثانية : تقبل توبته مطلقا
و الثالثة : تقبل توبة الكافر و لا تقبل توبة المسلم و توبة الذمي التي تقبل إذا قلنا أن يسلم فأما إذا أقلع و طلب عقد الذمة له ثانيا لم يعصم ذلك دمه رواية واحدة كما تقدم
و ذكر أبو عبد الله السامري أن من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المسلمين فهل تقبل توبته ؟ على روايتين قال : و من سبه من أهل الذمة قتل و إن أسلم ذكره ابن أبي موسى فعلى ظاهر كلامه يكون الخلاف في المسلم دون الذمي عكس الرواية التي حكاها جماعة من الأصحاب و ليس الأمر كذلك فإن ابن أبي موسى قال : [ و من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب و من سبه من أهل الذمة قتل و إن أسلم فلم يذكر خلافا في شيء من ذلك كما دل عليه المأثور عن الإمام أحمد و كتاب أبي عبد الله السامري تضمن نقل أبي الخطاب و نقل ابن أبي موسى كما اقتضى شرطه ان يضمنه عدة كتب صغار فلما ذكر ما حكاه أبو الخطاب من الروايتين في المسلم و ما ذكره ابن أبي موسى في الذمي إذا أسلم ظهر نوع خلل و إلا فلا ريب أنا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذمي بإسلامه أولى فإن كل ما يفرض في الكافر من غلظ السب فهو في المسلم و زيادة فإنهما يشتركان في أذى رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينفرد سب المسلم بأنه يدل على زندقته و أن سابه منافق ظهر نفاقه بخلاف الذمي فإنه سب مستندا إلى اعتقاد و ذلك الاعتقاد زال بلإسلام(3/205)
نعم قد يوجه ما ذكره السامري بأن يقال : [ السب قد يكون غلطا من المسلم لا اعتقادا ] فإذا تاب منه قبلت توبته إذ هو عثرة لسان و سوء أدب أو قلة علم و الذمي سبه أذى محض لا ريب فيه فإذا وجب الحد عليه لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود و قد ينزع هذا إلى قول من يقول : إن السب لا يكون كفرا في الباطن إلا أن يكون استحلالا و هو قول مرغوب عنه كما سيأتي إن شاء الله
و اعلم أن أصحابنا ذكروا أنه لا تقبل توبته لأن الإمام أحمد قال : لا يستتاب و من أصله أن كل من قبلت توبته فإنه يستتاب كالمرتد و لهذا لما اختلفت الرواية عنه في الزنديق و الساحر و الكاهن و العراف و من ارتد و كان مسلم الأصل هل يستتابون أم لا ؟ على روايتين فإن قلنا : [ لا يستتابون ] قتلوا بكل حال و إن تابوا
و قد صرح في رواية عبد الله بأن من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد وجب عليه القتل و لا يستتاب فتبين أن القتل قد وجب و ما وجب من القتل لم يسقط بحال
يؤيد هذا أنه قد قال في ذمي فجر بمسلمة : يقتل قيل له : فإن أسلم ؟ قال : [ يقتل ] هذا قد وجب عليه فتبين أن الإسلام لا يسقط القتل الواجب و قد ذكر في الساب أنه قد وجب عليه القتل(3/206)
و أيضا فإنه أوجب على الزاني بمسلمة بعد الإسلام القتل الذي وجب عقوبة على الزنا بمسلمة حتى إنه يقتله سواء كان حرا أو عبدا أو محصنا أو غير محصن كما قد نص عليه في مواضع و لم يسقط ذلك القتل بالإسلام و يوجب عليه مجرد حد الزنا لأنه أدخل على المسلمين من الضرر و المعرة ما أوجب قتله و نقض عهده فإذا أسلم لم تزل عقوبة ذلك الإضرار عنه كما لا تزول عنه عقوبة قطعة للطريق لو أسلم و لم يجز أن يقال : هو بعد الإسلام كمسلم فعل ذلك يفعل به ما يفعل بالمسلم لأن الإسلام يمنع ابتداء العقوبة و لا يمنع دوامها لأن الدوام أقوى كما لو قتل ذمي ذميا ثم أسلم قتل و لو قتله و هو مسلم لم يقتل و لهذا ينتقض عهد الذمي بأشياء : مثل الزنا بالمسلمة و إن لم يكن محصنا و قتل أي مسلم كان و التجسس للكفار و قتال المسلمين و اللحاق بدار الحرب و إن كان المسلم لا يقتل بهذه الأشياء على الإطلاق فإذا و جب قتل الذمي بها عينا ثم أسلم كان كما لو وجب قتله بذمي ثم أسلم إذ لا فرق بين أن يجب عليه حد لا يجب على المسلم فيسلم أو يجب عليه قصاص لا يجب على المسلم فيسلم فإن القصاص في اندرائه بالإسلام كالحدود و هو يسقط بالشبهة فكما يمنع الإسلام ابتداءه دون دوامه فكذلك العقوبات الواجبة على المعاهد و هذا ينبني على قولنا : يتعين قتل الذمي إذا فعل هذه الأشياء و أن لخصوص هذه الجنايات أثرا في قتله وراء كونه كافرا غير ذي عهد و يقتضي أن قتله حد من الحدود التي تجب على أهل دار الإسلام من مسلم و معاهد ليس بمنزلة رجل من أهل دار الحرب أخذ أسيرا إذ ذاك المقصود بقتله تطهير دار الإسلام من فساد هذه الجنايات و حسم مادة جناية المعاهدين و إذا كان قد نص على أن لا تزول عنه عقوبة ما أدخله على المسلمين من الضرر في زناه بالمسلمة فأن لا تزول عنه عقوبة إضراره بسب رسول الله عليه الصلاة و السلام أولى لأن ما يلحق المسلمين من المضرة في دينهم بسب رسول الله صلى الله عليه و(3/207)
سلم أكثر مما يلحق بالزنا بمسلمة إذا أقيم على الزاني الحد
و نصه هذا يدل على أن الذمي إذا قذف رسول الله صلى الله عليه و سلم أو سبه ثم أسلم قتل بذلك و لم يقم عليه مجرد حد قذف واحد من الناس و هو ثمانون أو سب واحد من الناس و هو تعزيز كما أنه لم يوجب على من زنى بمسلمة إذا أسلم حد الزنا و إنما أوجب القتل الذي كان واجبا و على الرواية الأخرى التي خرجها القاضي في كتبه القديمة و من اتبعه فإن الذمي يستتاب من السب فإن تاب و إلا قتل
و كذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكر أبو الخطاب و غيره كما يستتاب الزنديق و الساحر و لم أجد للاستتابة في كلام الإمام أحمد أصلا فأما استتابة المسلم فظاهرة كاستتابة من ارتد بكلام تكلم به و أما استتابة الذمي فأن يدعى إلى الإسلام فأما استتابته بالعود إلى الذمة فلا يكفي على المذهب لأن قتله متعين(3/208)
فوما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه [ إن الإمام يخير فيه ] فيشرع استتابته بالعود إلى الذمة لأن إقراره بها جائز بعد هذا لكن لا تجب هذه الاستتابة رواية واحدة و إن أوجبنا الاستتابة بالإسلام على إحدى الروايتين و أما على الرواية التي ذكرها الخطابي فإنه إذا أسلم الذمي سقط عنه القتل مع أنه لا يستتاب كالأسير الحربي و غيره من الكفار يقتلون قبل الاستتابة و لو أسلموا سقط عنهم القتل و هذا أوجه من قول من يقول بالاستتابة فإن الذمي إذا نقض العهد جاز قتله لكونه كافرا محاربا و هذا لا يجب استتابته بالاتفاق اللهم إلا أن يكون على قول من يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله فإذا أسلم جاز أن يقال : عصم دمه كالحربي الأصلي بخلاف المسلم فإنه إذا قبلت توبته فإنه يستتاب و مع هذا فمن تقبل توبته فقد يجوز استتابته كما يجوز استتابة الأسير لأنه من جنس دعاء الكافر إلى الإسلام قبل قتله لكن لا يجب لكن المنصوص عن أصحاب هذا القول أنه لا يقال له : أسلم و لا لا تسلم لكن إذا أسلم سقط عنه القتل فتلخص من ذلك أنهما لا يستتابان في المنصوص المشهور فإن تابا لم تقبل توبتهما في المشهور أيضا
و حكى عنه في الذمي أنه إذا أسلم سقط عنه القتل و إن لم يستتب
و حكى عنه أن المسلم يستتاب و تقبل توبته و خرج عنه في الذمي أنه يستتاب وهو بعيد واعلم أنه لا فرق بين سبه بالقذف و غيره كما نص عليه الإمام أحمد و عامة أصحابه و عامة العلماء
و فرق الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله بين القذف و السب فذكر الروايتين في المسلم و في الكافر في القذف ثم قال : و كذلك سبه بغير القذف إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالإسلام فسب النبي صلى الله عليه و سلم أولى و سيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك إذا ذكر بأنواع السب فهذا مذهب الإمام أحمد(3/209)
و أما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم و مطرف : [ من سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب ] قال ابن القاسم : [ من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق ] وقال أبو مصعب وابن أبي أويس : [ سمعنا مالكا يقول : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب ] وكذلك قال محمد ابن عبد الحكم : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من النبيين مسلما كان أو كافرا قتل و لم يستتب قال : و روى لنا مالك إلا أن يسلم الكافر قال أشهب عنه : من سب النبي صلى الله عليه و سلم من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب فهذه نصوصه نحو من نصوص الإمام أحمد و المشهور من مذهبه أنه لا تقبل توبة المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و حكمه حكم الزنديق عندهم و يقتل عندهم حدا لا كفرا إذا أظهر التوبة من السب
و روى الولبيد بن مسلم عن مالك أنه جعل سب النبي صلى الله عليه و سلم ردة قال أصحابه : فعلى هذا يستتاب فإن تاب نكل و إن أبى قتل و يحكم له بحكم المرتد
و أما الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم ثم أسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل ؟ على روايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب و غيره(3/210)
إحداهما : يسقط عنه قال مالك في رواية جماعة منهم ابن القاسم : [ من شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء قتل إلا أن يسلم ] و في رواية : لا يقال له أسلم و لا لا تسلم و لكن إن أسلم فذلك له توبة و في رواية مطرف عنه : [ من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين أو أحدا من الأنبياء أو انتقصه قتل و كذلك من فعل ذلك من اليهود و النصارى قتل و لا يستتاب إلا أن يسلم قبل القتل ] قال ابن حبيب : و سمعت ابن الماجشون يقوله و قال لي ابن عبد الحكم : و قال لي أصبغ عن ابن القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم : قال مالك : إن شتم النصراني النبي صلى الله عليه و سلم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم قاله مالك غير مرة و لم يقل : يستتاب قال ابن القاسم و محمد : قوله عندي إن أسلم طائعا و على هذا فإذا أسلم بعد أن يؤخذ و ثبت عليه السب و يعلم أنهم يريدون قتله إن لم يسقط عنه القتل لأنه مكره في هذه الحال
و الرواية الثانية : لا يدرأ عنه إسلامه القتل قال محمد بن سحنون : [ وحد القذف و شبهه من حقوق العباد لا يسقط عن الذمي بإسلامه و إنما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فأما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي أو غيره و أما مذهب الشافعي رضي الله عنه فلهم في ساب النبي صلى الله عليه و سلم و جهان :
أحدهما : هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل و هذا قول جماعة منهم و هو الذي يحكيه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي(3/211)
و الثاني : أن حد من سبه القتل فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه و سلم بالتوبة قالوا : ذكر ذلك أبو بكر الفارسي و ادعى فيه الإجماع و وافقه الشيخ أبو بكر القفال و قال الصيدلاني قولا ثالثا و هو أن الساب بالقذف مثلا يستوجب القتل للردة لا للسب فإن تاب زال القتل الذي هو موجب الردة و جلد ثمانين للقذف و على هذا الوجه لو كان السب غير قذب عزر بحسبه ثم منهم من ذكر هذا الخلاف في المسلم إذا سب ثم أسلم و لم يتعرض للكلام في الذمي إذا سب ثم أسلم و منهم من ذكر الخلاف في الذمي كالخلاف في المسلم إذا جدد اإسلام بعد السب و منهم من ذكر في الذمي إذا سب ثم أسلم أنه يسقط عنه القتل و هو الذي حكاه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي و عليه يدل عموم كلام الشافعي في موضع من الأم فإنه قال بعد أن ذكر نواقض العهد و ذكر فيها سب النبي صلى الله عليه و سلم : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلم أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ] و لكنه قال [ أتوب و أعطى الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو القود فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه و لا يقتل قال : [ فإن فعل أو قال مما وصفنا و شرط أنه يحلل دمه فظفرنا عليه فامتنع من أن يقول [ أسلم أو أعطى الجزية قتل و أخذ ماله فيئا ] فقد ذكر أن من نقض العهد فإنه تقبل توبته إما بأن يسلم أو بأن يعود إلى الذمة(3/212)
و ذكر الخطابي قال : [ قال مالك بن أنس : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى قتل إلا أن يسلم ] و كذلك قال أحمد بن حنبل و قال الشافعي : [ يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و تبرأ منه الذمة ] و احتج في ذلك بخبر كعب ابن الأشرف و ظاهر هذا القتل و الاستدلال يقتضي أن لا يكف عنه إذا أظهر التوبة لأنه لم يحك عنه شيئا و لأن ابن الأشرف كان مظهرا للذمة مجيبا إلى إظهار التوبة لو قبلت منه
و الكلام في فصلين : أحدهما : في استتابة المسلم و قبول توبة من سب النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكرنا أن المشهور عن مالك و أحمد أنه لا يستتاب و لا تسقط القتل عنه توبته و هو قول الليث بن سعد و ذكر القاضي عياض أنه المشهور من قول السلف و جمهور العلماء و هو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي و حكى مالك و أحمد أنه تقبل توبته و هو قول الإمام أبي حنيفة و أصحابه و هو المشهور من مذهب الإمام الشافعي بناء على قبول توبة المرتد فنتكلم أولا في قبول توبته و الذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة و التابعين أنه تقبل توبة المرتد في الجملة و روى عن الحسن البصري : أنه يقتل و إن أسلم جعله كالزاني و السارق و ذكر عن أهل الظاهر نحو ذلك أن توبته تنفعه عند الله و لكن لا يدرأ القتل عنه و روي عن أحمد أن من ولد في الإسلام قتل و من كان مشركا فأسلم استتيب و كذلك روي عن عطاء و هو قول إسحاق بن راهوية و المشهور عن عطاء و أحمد الاستتابة مطلقا و هو الصواب(3/213)
و وجه عدم قبول التوبة قوله صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و لم يستثن ما إذا تاب و قال صلى الله عليه و سلم [ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني و النفس بالنفس و التارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه فإذا كان القاتل و الزاني لا يسقط عنهما القتل بالتوبة فكذلك التارك لدينه المفارق للجماعة و عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا يقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه ] رواه الإمام أحمد و لأنه لا يقتل لمجرد الكف و المحاربة لأنه لو كان كذلك لما قتل المترهب و الشيخ الكبير و الأعمى و المقعد و المرأة و نحوهم فلما قتل هؤلاء علم أن الردة حد من الحدود و الحدود لا تسقط بالتوبة
و الصواب ما عليه الجماعة لأن الله سبحانه و تعالى قال في كتابه : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين } إلى قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم } [ آل عمران : 86 ـ 89 ] فأخبر أنه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة و ذلك يقتضي مغفرته له في الدنيا و الآخرة و من هذا حاله لم يعاقب بالقتل
يبين ذلك ما رواه الإمام أحمد قال : حدثنا علي بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام و لحق بالمشركين فأنزل الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا } إلى آخر الآية [ آل عمران : 86 ] فبعث بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منه و خلى عنه و رواه النسائي من حديث داود مثله(3/214)
و قال الإمام أحمد : ثنا على عن خالد عن عكرمة بمعناه و قال : و الله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله أصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منه و خلى عنه
و قال : ثنا حجاج عن ابن جريج حديثا عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق } [ آل عمران : 86 ] في أبي عامر بن النعمان و وحوح بن الأسلت و الحارث ابن سويد بن الصامت في أثنى عشر رجلا رجعوا عن الإسلام و لحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } [ آل عمران : 89 ] في الحارث بن سويد بن الصامت
و قال : ثنا عبد الرزاق أنا جعفر عن حميد عن مجاهد قال : جاء الحارث ابن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله غفور رحيم } [ آل عمران : 86 ] قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : و الله إنك ما علمت لصادق و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصدق منك و إن الله لأصدق الثلاثة قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه(3/215)
و كذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد و جماعة ارتدوا عن الإسلام و خرجوا من المدينة كهيئة البدء و لحقوا بمكة كفارا فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث و أرسل إلى قومه : أن سلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل لي توبة ؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم } [ آل عمران : 89 ] فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك و الله ما علمت لصدوق و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصدق منك و إن الله عز و جل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة و أسلم و حسن إسلامه
فهذا رجل قد ارتد و لم يقتله النبي عليه الصلاة و السلام بعد عوده إلى الإسلام و لأن الله تعالى قال في إخباره عن المنافقين { أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد يعفى عنه و قد يعذب و إنما يعفى عنه إذا تاب فعلم أن توبته مقبولة
و ذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة و أن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له [ مخشى بن حمير ] و قال بعضهم : كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع و لم يمالئهم عليه و جعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات برىء من نفاقه و قال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تفر عيني تقشعر منها الجلود و تجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك و ذكروا القصة
و في الاستدلال بهذا نظر و لأنه قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم ـ إلى قوله ـ يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و ما لهم في الأرض من ولي و لا نصير } [ التوبة : 74 ](3/216)
و ذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه و أنهم لا يعذبون في الدنيا و لا في الآخرة عذابا أليما : بمفهوم الشرط و من جهة التعليل و لسياق الكلام و القتل عذاب أليم فعلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل و لأن الله سبحانه قال : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة و أن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ النحل 106 ـ 110 ] فبين أن الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام و جاهدوا و صبروا فإن الله يغفر لهم و يرحمهم و من غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه في الدنيا و لا في الآخرة(3/217)
و قال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة : خرج ناس من المسلمين ـ يعني من المهاجرين ـ فأدركهم المشركون ففتنوهم فاعطوهم الفتنة فنزلت فيهم { و من الناس من يقول : آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } الآية [ العنكبوت : 10 ] و نزل فيهم { من كفر بالله من بعد إيمانه } الآية [ النحل : 106 ] ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } إلى آخر الآية [ النحل 110 ] و لأنه سبحانه قال : { و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة } [ البقرة : 217 ] فعلم أن من لم يمت و هو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار و ذلك دليل على قبول التوبة و صحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل و لعموم قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } إلى قوله : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك و تخلية سبيله إذا تاب من شركه و أقام الصلاة و آتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا
و أيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرج كان قد ارتد على عهد النبي صلى الله عليه و سلم و لحق بمكة و افترى على الله و رسوله ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي صلى الله عليه و سلم و حقن دمه و كذلك الحارث بن سويد و كذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم و قصص هؤلاء و غيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث و السيرة(3/218)
و أيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما توفى ارتد أكثر العرب إلا أهل مكة و المدينة و الطائف و اتبع قوم من تنبأ لهم مثل مسيلمة و العنسي و طليحة الأسدي فقاتلهم الصديق و سائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك و لم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام و من رؤوس من كان قد ارتد و رجع طليحة الأسدي المتنبي و الأشعث بن قيس و خلق كثير لا يحصون و العلم بذلك ظاهر لا خفاء به على أحد و هذه الرواية عن الحسن فيها نظر فإن مثل هذا لا يخفى عليه و لعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة و نحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما و نحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] فنقول بموجبه فإنما يكون مبدلا إذا دام على ذلك و استمر عليه فأما إذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل و كذلك إذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة بل هو متمسك بدينه ملازم للجماعة و هذا بخلاف القتل و الزنا فإنه فعل صدر عنه لا يمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال إنه ليس بزان و لا قاتل فمتى وجد منه ترتب حده عليه و إن عزم على أن لا يعود إليه لأن العزم على ترك العود لا يقطع مفسدة ما مضى من الفعل
على أن قوله : [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : : رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم و رجل خرج محاربا لله و رسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها ] فهذا المستثنى هو المذكور في قوله [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] و لهذا وصفه بفراق الجماعة و إنما يكون هذا بالمحاربة(3/219)
و يؤيد ذلك أن الحديثين تضمنا أنه لا يحل دم من يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و المرتد لم يدخل في هذا العموم فلا حاجة إلى استثنائه و على هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين و يفرق بين ترك الدين و تبديله أو يكون المراد به من ارتد و حارب كالعرنيين و مقيس ابن صبابة ممن ارتد و قتل و أخذ المال فإن هذا يقتل بكل حال إن تاب بعد القدرة عليه و لهذا و الله أعلم استثنى هؤلاء الثلاثة الذي يقتلون بكل حال و إن أظهروا التوبة بعد القدرة و لو كان أريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله [ المفارق للجماعة ] فإن مجرد الخروج من الدين يوجب القتل و إن لم يفارق جماعة الناس فهذا وجه يحتمله الحديث و هو ـ و الله أعلم ـ مقصود هذا الحديث(3/220)
و أما قوله [ لا يقبل الله توبة عبد أشرك بعد إسلامه ] فقد رواه ابن ماجة من هذا الوجه و لفظه [ لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد إسلامه عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين ] و هذا دليل على قبول إسلامه إذا رجع إلى المسلمين و بيان أن معنى الحديث أن توبته لا تقبل ما دام مقيما بين ظهراني المشركين مكثرا لسوادهم كحال الذين قتلوا ببدر و معناه أن من أظهر الإسلام ثم فتن عن دينه حتى ارتد فإنه لا تقبل توبته و عمله حتى يهاجر إلى المسلمين و في مثل هؤلاء نزل قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية [ النساء : 97 ] و أيضا فإن ترك الدين و تبديله و فراق الجماعة يدوم و يستمر لأنه تابع للاعتقاد و الاعتقاد دائم فمتى قطعه و تركه عاد كما كان و لم يبق لما مضى حكم أصلا و لا فيه فساد و لا يجوز أن يطلق عليه القول بأنه مبدل للدين و لا أنه تارك لدينه كما يطلق على الزاني و القاتل بأن هذا زان و قاتل فإن الكافر بعد إسلامه لا يجوز أن يسمى كافرا عند الإطلاق و لأن تبديل الدين و تركه في كونه موجبا للقتل بمنزلة الكفر الأصلي و الحراب في كونهما كذلك فإذا كان زوال الكفر بالإسلام أو زوال المحاربة بالعهد يقطع حكم الكفر فكذلك زوال تبديل الدين و تركه بالعود إلى الدين و أخذه يقطع حكم ذلك التبديل و الترك إذا تقرر ذلك فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب و مذهب مالك و أحمد أنه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام و هل ذلك واجب أو مستحب ؟ على روايتين عنهما أشهرهما عنهما : أن الاستتابة واجبة وهذا قول إسحاق بن راهويه و كذلك مذهب الشافعي هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب في الحال و إلا قتل و هو قول ابن المنذر و المزني و في القول الآخر يستتاب كمذهب مالك و أحمد
و قال الزهري و ابن القاسم في رواية [ يستتاب ثلاث مرات ](3/221)
و مذهب أبي حنيفة أنه يستتاب أيضا فإن لم يتب و إلا قتل و المشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة و ذكر الطحاوي عنهم : [ لا يقتل المرتد حتى يستتاب ] و عندهم يعرض عليه الإسلام فإن أسلم و إلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإنه يؤجل ثلاثة أيام
و قال الثوري : [ يؤجل ما رجيت توبته ] و كذلك معنى قول النخعي
و ذهب عبيد بن عمير و طاوس إلى أنه يقتل و لا يستتاب لأنه صلى الله عليه و سلم أمر بقتل المبدل دينه و التارك لدينه المفارق للجماعة و لم يأمر باستتابته كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم
يؤيد ذلك أن المرتد أغلظ كفرا من الكافر الأصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد أولى
و سر ذلك أنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه بأن يكون قد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز و المرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الأصلي الذي بلغته و هذا هو علة من رأى الاستتابة مستحبة فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب و إن كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد و لا يجب ذلك فيهما
نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فإن الاستتابة هنا لابد منها
و يدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر يوم فتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح و دم مقيس بن صبابة و دم عبد الله بن خطل و كانوا مرتدين و لم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان و توقف صلى الله عليه و سلم عن مبايعه ابن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم أن قتل المرتد جائز ما لم يسلم و أنه لا يستتاب(3/222)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم عاقب العرنييين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم و لم يستتبهم و لأنه فعل شيئا من الأسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابته كالكافر الأصلي و كالزاني و كقاطع الطريق و نحوهم فإن كل هؤلاء ـ من قبلت توبته و من لم تقبل ـ يقتل قبل الاستتابة و لأن المرتد لو امتنع ـ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ـ فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا
و حجة من رأى الاستتابة إما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه و تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] أمر الله رسوله أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما سلف و هذا معنى الاستتابة و المرتد من الذين كفروا و الأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد واجبة و لا يقال [ فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام ] لأن هذا الكفر أخص من ذلك الكفر فإنه يوجب قتل كل من فعله و لا يجوز استبقاؤه و هو لم يستتب من هذا الكفر
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد و من كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد أن كانت قد نزلت فيهم آية التوبة فيكون استتابته مشروعة ثم إن هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام و الإبلاغ لدينه فيكون واجبا
و عن جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لها [ أم مروان ] ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت و إلا قتلت
و عن عائشة رضي الله عنها قالت : ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يستتاب فإن تابت و إلا قتلت رواهما الدار قطني(3/223)
و هذا ـ إن صح ـ أمر بالاستتابة و الأمر للوجوب و العمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال : هل من مغربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد إسلامه قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه قال عمر : فهلا حبستموه ثلاثا و أطعمتوه كل يوم رغيفا و استتبتموه لعله يتوب و يرجع إلى أمر الله اللهم إني لم أحضر و لم آمر و لم أرض إذ بلغني رواه مالك و الشافعي و أحمد و قال : [ أذهب إلى حديث عمر ] و هذا يدل على أن الاستتابة واجبة و إلا لم يقل عمر : [ لم أرض إذ بلغني ] و عن أنس بن مالك قال : لما افتتحنا تستر بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال : ما فعل البكريون ؟ قال : فلما رأيته لا يقلع قلت : يا أمير المؤمنين ما فعلوا ؟ أنهم قتلوا و لحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام قاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال : فقال : لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إلي مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء و قال : فقلت : و ما كان سبيلهم لو أخذتم سلما ؟ قال : كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فإن أبو استودعتهم الحبس
و عن عبد الله بن عتبة قال : أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق قال : فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق و شهادة أن لا إله إلا الله فإن قبلوا فخل عنهم و إن لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه و لم يقبلها بعضهم فقتله رواهما الإمام أحمد بسند صحيح
و عن العلاء أبي محمد أن عليا رضي الله تعالى عنه أخذ رجلا من بني بكر ابن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فأبى فقدمه ليضرب عنقه فنادى : يا لبكر فقال علي : أما إنك واجده أمامك في النار رواه الخلال و صاحبه أبو بكر(3/224)
و عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أتى برجل قد ارتد عن الإسلام و دعاه عشرين ليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه رواه أبو داود
و روي من وجه آخر أن أبا موسى استتابه شهرا و ذكره الإمام أحمد
و عن رجل عن ابن عمر قال : يستتاب المرتد ثلاثا رواه الإمام أحمد
و عن أبي وائل عن معيز السعدي قال : مررت في السحر بمسجد بني حنيفة و هم يقولون : إن مسيلمة رسول الله فأتيت عبد الله فأخبرته فبعث الشرط فجاؤا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم و ضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا : أحدث قوم في أمر فقتلت بعضهم و تركت بعضهم فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قدم إليه هذا و ابن أثال فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ فقالا : أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ آمنت بالله و رسله و لو كنت قتلا وفدا لقتلتكما ] قال فلذلك قتلته رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح
فهذه أقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت إجماعا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 328 ]
إذا تقرر ذلك فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب و مذهب مالك و أحمد أنه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام و هل ذلك واجب أو مستحب ؟ على روايتين عنهما أشهرهما عنهما : أن الاستتابة واجبة وهذا قول إسحاق بن راهويه و كذلك مذهب الشافعي هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب في الحال و إلا قتل و هو قول ابن المنذر و المزني و في القول الآخر يستتاب كمذهب مالك و أحمد
و قال الزهري و ابن القاسم في رواية [ يستتاب ثلاث مرات ]
و مذهب أبي حنيفة أنه يستتاب أيضا فإن لم يتب و إلا قتل و المشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة و ذكر الطحاوي عنهم : [ لا يقتل المرتد حتى يستتاب ] و عندهم يعرض عليه الإسلام فإن أسلم و إلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإنه يؤجل ثلاثة أيام(3/225)
و قال الثوري : [ يؤجل ما رجيت توبته ] و كذلك معنى قول النخعي
و ذهب عبيد بن عمير و طاوس إلى أنه يقتل و لا يستتاب لأنه صلى الله عليه و سلم أمر بقتل المبدل دينه و التارك لدينه المفارق للجماعة و لم يأمر باستتابته كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم
يؤيد ذلك أن المرتد أغلظ كفرا من الكافر الأصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد أولى
و سر ذلك أنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه بأن يكون قد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز و المرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الأصلي الذي بلغته و هذا هو علة من رأى الاستتابة مستحبة فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب و إن كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد و لا يجب ذلك فيهما
نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فإن الاستتابة هنا لابد منها
و يدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر يوم فتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح و دم مقيس بن صبابة و دم عبد الله بن خطل و كانوا مرتدين و لم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان و توقف صلى الله عليه و سلم عن مبايعه ابن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم أن قتل المرتد جائز ما لم يسلم و أنه لا يستتاب
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم عاقب العرنييين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم و لم يستتبهم و لأنه فعل شيئا من الأسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابته كالكافر الأصلي و كالزاني و كقاطع الطريق و نحوهم فإن كل هؤلاء ـ من قبلت توبته و من لم تقبل ـ يقتل قبل الاستتابة و لأن المرتد لو امتنع ـ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ـ فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا(3/226)
و حجة من رأى الاستتابة إما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه و تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] أمر الله رسوله أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما سلف و هذا معنى الاستتابة و المرتد من الذين كفروا و الأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد واجبة و لا يقال [ فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام ] لأن هذا الكفر أخص من ذلك الكفر فإنه يوجب قتل كل من فعله و لا يجوز استبقاؤه و هو لم يستتب من هذا الكفر
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد و من كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد أن كانت قد نزلت فيهم آية التوبة فيكون استتابته مشروعة ثم إن هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام و الإبلاغ لدينه فيكون واجبا
و عن جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لها [ أم مروان ] ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت و إلا قتلت
و عن عائشة رضي الله عنها قالت : ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يستتاب فإن تابت و إلا قتلت رواهما الدار قطني(3/227)
و هذا ـ إن صح ـ أمر بالاستتابة و الأمر للوجوب و العمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال : هل من مغربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد إسلامه قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه قال عمر : فهلا حبستموه ثلاثا و أطعمتوه كل يوم رغيفا و استتبتموه لعله يتوب و يرجع إلى أمر الله اللهم إني لم أحضر و لم آمر و لم أرض إذ بلغني رواه مالك و الشافعي و أحمد و قال : [ أذهب إلى حديث عمر ] و هذا يدل على أن الاستتابة واجبة و إلا لم يقل عمر : [ لم أرض إذ بلغني ] و عن أنس بن مالك قال : لما افتتحنا تستر بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال : ما فعل البكريون ؟ قال : فلما رأيته لا يقلع قلت : يا أمير المؤمنين ما فعلوا ؟ أنهم قتلوا و لحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام قاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال : فقال : لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إلي مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء و قال : فقلت : و ما كان سبيلهم لو أخذتم سلما ؟ قال : كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فإن أبو استودعتهم الحبس
و عن عبد الله بن عتبة قال : أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق قال : فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق و شهادة أن لا إله إلا الله فإن قبلوا فخل عنهم و إن لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه و لم يقبلها بعضهم فقتله رواهما الإمام أحمد بسند صحيح
و عن العلاء أبي محمد أن عليا رضي الله تعالى عنه أخذ رجلا من بني بكر ابن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فأبى فقدمه ليضرب عنقه فنادى : يا لبكر فقال علي : أما إنك واجده أمامك في النار رواه الخلال و صاحبه أبو بكر(3/228)
و عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أتى برجل قد ارتد عن الإسلام و دعاه عشرين ليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه رواه أبو داود
و روي من وجه آخر أن أبا موسى استتابه شهرا و ذكره الإمام أحمد
و عن رجل عن ابن عمر قال : يستتاب المرتد ثلاثا رواه الإمام أحمد
و عن أبي وائل عن معيز السعدي قال : مررت في السحر بمسجد بني حنيفة و هم يقولون : إن مسيلمة رسول الله فأتيت عبد الله فأخبرته فبعث الشرط فجاؤا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم و ضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا : أحدث قوم في أمر فقتلت بعضهم و تركت بعضهم فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قدم إليه هذا و ابن أثال فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ فقالا : أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ آمنت بالله و رسله و لو كنت قتلا وفدا لقتلتكما ] قال فلذلك قتلته رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح
فهذه أقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت إجماعا
و الفرق بين هذا و بين الكافر الأصلي من وجوه :
أحدها : أن توبة هذا أقرب لأن المطلوب منه إعادة الإسلام و المطلوب من ذاك ابتداؤه و الإعادة أسهل من الابتداء فإذا أسقط عنا استتابة الكافر لصعوبتها لم يلزم سقوط استتابة المرتد
الثاني : أن هذا يجب قتله عينا و إن لم يكن من أهل القتال و ذاك لا يجوز أن يقتل إلا أن يكون من أهل القتال و يجوز استبقاؤه بالأمان و الهدنة و الذمة و الإرقاق و المن و الفداء فإذا كان حده أغلظ فلم يقدم عليه إلا بعد الإعذار إليه بالاستتابة بخلاف من يكون جزاؤه دون هذا
الثالث : أن الأصلي قد بلغته الدعوة و هي استتابة عامة من كل كفر و أما هذا فإنما نستتيبه من التبديل و ترك الدين الذي كان عليه و نحن لم نصرح له بالاستتابة من هذا و لا بالدعوة إلى الرجوع(3/229)
و أما ابن سرح و ابن خطل و مقيس بن صبابة فإنه كانت لهم جرائم زائدة على الردة و كذلك العرنيون فإن أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة و أخذوا الأموال فصاروا قطاع الطريق محاربين لله و رسوله و فيهم من كان يؤذي بلسانه أذى صار به من جنس المحاربين فلذلك لم يسستتابوا على أن الممتنع لا يستتاب و إنما يستتاب المقدور عليه و لعل بعض هؤلاء قد استتيب فنكل ذكرنا حكم المرتد استطرادا لأن الكلام في الساب متعلق به تعلقا شديدا فمن قال : [ إن ساب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين يستتاب ] قال : إنه نوع من الكفر فإن من سب الرسول أو جحد نبوته أو كذب بآية من كتاب الله أو تهود أو تنصر و نحو ذلك كل هؤلاء قد بدلوا و فارقوا الجماعة فيستتابون و تقبل توبته كغيرهم
يؤيد ذلك أن في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المهاجر في المرأة السابة [ أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر ]
و عن ابن عباس رضي الله عنه : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب منها فإن رجع و إلا قتل ]
و الأعمى الذي كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه و سلم كان ينهاها فلا تنتهي و يزجرها فلا تنزجر فقتلها بعد ذلك فإن كانت مسلمة فلم يقتلها حتى استتابها و إن كانت ذمية و قد استتابها فاستتابة المسلم أولى
و أيضا فإما أن يقتل الساب لكونه كفر بعد إسلامه أو لخصوص السب و الثاني لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس فيقتل بها ](3/230)
و قد صح ذلك عنه من وجوه متعددة و هذا الرجل لم يزن و لم يقتل فإن لم يكن قتله لأجل الكفر بعد الإسلام امتنع قتله فثبت أنه إنما يقتل لأنه كفر بعد إسلامه و كل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل لقوله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } الآية [ آل عمران : 89 ] و لما تقدم من الأدلة الدالة على قبول توبة المرتد
و أيضا فعموم قوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] و قوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ما كان قبله ] رواه مسلم يوجب أن من أسلم غفر له كل ما مضى
و أيضا فإن المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم ـ إلى قوله ـ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 61 ـ 66 ] و قد قيل فيهم : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] مع أن هؤلاء قد آذوه بألسنتهم و بأيديهم أيضا ثم العفو مرجو لهم و إنما يرجى العفو مع التوبة فعلم أن توبتهم مقبولة و من عفي عنه لم يعذب في الدنيا و لا في الآخرة
و أيضا فقوله سبحانه و تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين ـ إلى قوله ـ فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما } الآية [ التوبة 73 ـ 74 ] فإنها تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلامه ثم تاب لم يعذب عذابا أليما في الدنيا و لا في الآخرة و القتل عذاب أليم فعلم أنه لا يقتل(3/231)
و قد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رجال من المنافقين اطلع أحدهم على النبي عليه الصلاة و السلام فقال : علام تشتمني أنت و أصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا شيئا فأنزل الله هذه الآية و عن الضحاك قال : خرج المنافقون مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و طعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى النبي عليه الصلاة و السلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ ] فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله هذه الآية إكذابا لهم و أيضا فلا ريب أن توبتهم فيما بينهم و بين الله و إن تضمنت التوبة من حقوق الأدميين لأوجه :
أحدها : أنه قد قيل كفارة الغيبة الاستغفار لمن استغيبه و قد ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى مثل ذلك فجاز أن يكون [ ما ] قد أتى به من الإيمان برسول الله صلى الله عليه و سلم الموجب لأنواع الثناء عليه و التعظيم له موجبا لما ناله من عرضه
الثاني : أن حق الأنبياء تابع لحق الله و إنما عظمت الوقيعة في أعراضهم لما يتضمن ذلك من الكفر و الوقيعة في دين الله و كتابه و رسالته فإذا تبعت حق الله في الوجوب تبعته في السقوط لئلا ليكون أعظم منه و معلوم أن الكافر تصح توبته من حقوق الله فكذلك من حقوق الأنبياء المتعلقة بنبوتهم بخلاف التوبة من الحقوق التي تجب للناس بعضهم على بعض(3/232)
الثالث : أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم قد علم منه أنه يدعو للتأسي به و اتباعه و يخبرهم أن من فعل ذلك فقد غفر له كل ما أسلفه في كفره فيكون قد عفا لمن قد أسلم عما ناله من عرضه و بهذه الوجوه يظهر الفرق بين سب الرسول الله صلى الله عليه و سلم و بين سب واحد من الناس فإنه إذا سب واحدا من الناس لم يأت بعد سبه ما يناقض موجب السب و سبه حق آدمي مخص لم يعف عنه و المقتضى للسب هو موجود بعد التوبة و الإسلام كما كان موجدا قبلهما إن لم يزجر عنه بالحد و هنا كان الداعي إليه الكفر و قد زال بالإيمان و إذا ثبت أن توبته و إيمانه مقبول منه فيما بينه و بين الله فإذا أظهرها وجب أن يقبلها منه لما روى أبو سعيد في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه و سلم في القسمة فقال خالد ابن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : [ لا لعله أن يكون يصلي ] قال خالد : و كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ] رواه مسلم
و قال لأسامة في الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله [ كيف قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ] قال : إنما تعوذا قال : [ فهلا شققت عن قلبه ]
و كذلك في حديث المقداد نحو هذا و في ذلك نزل قوله تعالى : { و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا } [ النساء : 94 ] و لا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف و هو مطلق أو مقيد يصح إسلامه و تقبل توبته من الكفر و إن كانت دلالة الحال تقتضي أن باطنه خلاف ظاهره(3/233)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل من المنافقين علانيتهم و يكل سرائرهم إلى الله مع إخبار الله له أنهم اتخذوا أيمانهم جنة و أنهم { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا } [ التوبة : 74 ] فعلم أن من أظهر الإسلام و التوبة من الكفر قبل ذلك منه فهذا قول هؤلاء و سيأتي إن شاء الله تعالى الاستدلال على تعين قتله من غير استتابة و الجواب عن هذه الحجج و قد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما : يقتل بكل حال و هو المشهور من مذهب الإمام أحمد و مذهب الإمام مالك إذا تاب بعد أخذه و هو وجه لأصحاب الشافعي
الثان
ي : يقتل إلا أن يتوب بالإسلام و هو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك و أحمد
و الثالث : يقتل إلا أن يتوب بالإسلام أو العود إلى الذمة كما كان و عليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي إلا أن يتأول و على هذا فإنه يعاقب إذا عاد إلى الذمة و لا يقتل
فمن قال : [ إن القتل يسقط عنه بالإسلام ] فإنه يستدل بمثل ما ذكرنا في المسلم فإنه كله يدل على أن الكافر أيضا إذا أسلم سقط عنه موجب السب و يدل على ذلك أيضا أن الصحابة ذكروا أنه إذا فعل ذلك فهو فهو غادر محارب و أنه ناقض للعهد و معلوم أن من حارب و نقض العهد إذا أسلم عصم دمه و ماله و قد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعري و كعب بن زهير و أبي سفيان ابن الحارث و غيرهم يهجون النبي صلى الله عليه و سلم بأنواع الهجاء ثم أسلموا فعصم الإسلام دماءهم و أموالهم و هؤلاء و إن كانوا محاربين لم يكونوا من أهل العهد فهو دليل على أن حقوق الآدميين التي يستحلها الكافر إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط حقوق الله(3/234)
و لهذا أجمع المسلمون إجماعا مستندة كتاب الله و سنة نبيه الظاهرة أن الكافر الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض و الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه معتقد حل ذلك و عقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فإذا أسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم فإن عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه و إن كان يوجب علينا الكف عن سب دينهم و الطعن فيه فهذا أقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء و إن كان الاستدلال به خطأ
و أيضا فإن الذمي إما أن يقتل إذا سب لكفره أو حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية و قطع الطريق على ذمي و الثاني باطل فتعين الأول و ذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض و هذا القدر لا يوجب إلا الجلد بل لا يوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف و الإمساك فمتى أظهر السب زال العهد فصار حربيا و لأن كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل على ذلك و لا دليل على ذلك إذ أكثر ما يذكر من الأدلة إنما يفيد أنه يقتل و ذلك متردد بين كون القتل لكفره و حرابه أو لخصوص السب و لا يجوز إثبات الأحكام بمجرد الاستحسان و الاستصلاح فإن ذلك شرع للدين بالرأي و ذلك حرام لقوله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ]
و القياس في المسألة متعذر لوجهين(3/235)
أحدهما : أن كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الأسباب و الشروط و الموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة و قدرها و ذلك متعذر لأن ذلك يخرج السب عن أن يكون سبا و شرط القياس بقاء حكم الأصل و لأنه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن إلحاق السب بها لاختلافهما نوعا و قدرا و اشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الإلحاق بالاتفاق و كون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل و إلا شرعا بالرأي و وضعا للدين بالمعقول و ذلك انحلال عن معاقد الدين و انسلال عن روابط الشريعة و انخلاع من ربق الإسلام و سياسة للخلق بالآراء الملكية و الأنحاء العقلية و ذلك حرام بلا ريب فثبت أنه إنما يقتل لأجل كفره و حرابه و معلوم أن الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر و الحراب بالاتفاق(3/236)
و أيضا فالذمي لو كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فيما بينه و بين الله تعالى و يقول ما عسى أن يقول من القبائح ثم أسلم و اعتقد نبوته و رسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات و لا يجوز أن يقال : [ إن النبي صلى الله عليه و سلم يطالبه بموجب سبه في الدنيا و لا في الآخرة ] و من قال ذلك علم أنه مبطل في مقالته للعلم بأن الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات و أشنعها و قد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ببعضها مثل قولهم ساحر و كاهن و مجنون و مفتر و قول اليهود في مريم بهتانا عظيما و نسبتها إلى الفاحشة و أن المسيح لغير رشدة و هذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي و أقر بنبوة المسيح و أنه عبد الله و رسوله و أنه برئ مما رمته اليهود لم يبق للمسيح عليه تبعة و نحن نعتقد أن من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الأميين و منهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن إلف الدين و عادته و أغراض نبينا أخر تمنع الدخول في الإسلام و منهم المعرض عن ذلك الذي لا ينظر إليه و لا يتفكر فهؤلاء قد يسبونه و منهم من يعتقد فيه العقيدة الردية و يكف عن سبه و شتمه أو يسبه و يشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به و لا يظهر ذلك و منهم من يظهر ذلك عند المسلمين و منهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي صلى الله عليه و سلم و غير النبي كالقذف و نحوه و إذا أسلم الكافر غفر له جميع ذلك و لم يجىء في كتاب و لا سنة أن الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب و السنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا و إذا كان إثم السب مغفورا له لم يجز أن يعاقب عليه بعد الإسلام و أيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه تبارك و تعالى : [ شتمني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك و أما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا و أنا الأحد الصمد ] ثم لو تاب النصراني و نحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب(3/237)
على ذلك في الدنيا و لا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد و إن لم ينتهوا ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم } [ المائدة : 74 ] فسب النبي صلى الله عليه و سلم لا يكون أعظم من سب الله فإنه إنما عظم و صار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى بهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء و سب غيرهم من المؤمنين فإن سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام و ما بعده و الأذى و الغضاضة التي تحق المسبوب قبل إسلام الساب و بعده سواء بخلاف سب النبي صلى الله عليه و سلم فإنه قد زال موجبه بالإسلام و تبدل بالتعزير له و التوقير و الثناء عليه و المدحة له كما تبدل السب لله بالإيمان به و توحيد و تقديسه و تحميده و عبادته يوضح ذلك أن الرسول له نعت البشرية و نعت الرسالة كما قال : { سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [ الاسراء : 93 ] فمن حيث هو بشر له أحكام البشر و من حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه و فضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين و موجب العقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلا و سبه من حيث هو رسول حق الله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب و يبقى حق بشريته من هذا السب و حق البشرية إنما موجب جلد ثمانين
فمن قال : [ أنه يجلد لقذفه بعد إسلامه و يعزر لسبه لغير القذف ] قال : أن الإسلام يسقط حق الله و حق و حق الرسالة و يبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه(3/238)
و من قال : [ إنه لا يعاقب بشيء ] قال : هذا الحق اندرج في حق النبوة و انغمر في حق الرسالة فإن الجريمة الواحدة إذا أوجب القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء و لهذا اندرج حق المتعلق بالقتل و القذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمة كذلك اندرج هنا حق البشرية في حق الرسالة و في هذين الأصلين المقيس خلاف بين الفقهاء فإن مذهب مالك أن القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم
و عند أبي حنيفة إن حد القذف لا يسقط بالعفو و كذا تردد من قال : [ إن القتل يسقط بالإسلام ] هل يؤدي حدا أو تعزيرا القذف والسب ؟ و من قال هذا القول : قال : لا يستدل علينا بأن الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فإن الذمي إذ سبه لا يستتاب بلاد بلا تردد فإنه يقتل لكفره الأصلي كما يقتل الأسير الحربي و مثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو عصم دمه
كذلك يقول فيمن شتمه من أهل الذمة فإنه يقتل و لا يستتاب كأنه حربي آذى المسلمين و قد أسرنا فإنا نقتله فإن أسلم سقط عنه القتل
و كذلك أكثر نصوص مالك و أحمد نما هي أنه يقتل و لا يستتاب و هذا لا تردد فيه إذا سبه الذمي
و من قال : [ إن الذمي يستتاب ] فقد يقول : إنه قد لا يعلم أنه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد و أولى فإن قتل الكفار قبل الإعذار إليهم و تبليغهم رسالات الله غير جائز(3/239)
و من لم يستتاب قال : هذا هو مقياس لما جاء في الكتب في قتل كل كافر أصلي أسير و قد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه و سلم و خلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسى من غير عرض الإسلام عليهم و إن كانوا ناقضين للعهد و ذلك في قصة قريظة و خيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد و ضرب رقابهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام و قد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض الإسلام عليه و إنما قتله لأنه كان يؤذي الله و رسوله و قد نقض العهد
و من قال : [ إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه ] قال : أنه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد و هو صاغر فيجب الكف عنه و اعلم أن هنا معنى لا بد من التنبيه عليه و هو أن الأسير الحربي الأصل لو أسلم فإن إسلامه لا يزيل عنه حكم الأسير بل إما يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء و الصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي و أحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين(3/240)
و الدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من بني عقيل و أصابوا معه العضباء فأتى عليه صلى الله عليه و سلم و هو في الوثاق فقال : يا محمد فأتاه فقال : ما شأنك ؟ فقال : بم أخذتني و أخذت سابقة الحاج ؟ يعني العضباء فقال : أخذتك جزية حلفائك [ من ] ثقيف ثم انصرف عنه فناداه : يا محمد يا محمد و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم رحيما رقيقا فرجع إليه فقال : ما شأنك ؟ قال : إني مسلم قال : لو قلتها و أنت تملك أمرك كل الفلاح ثم انصرف فناده : يا محمد يا محمد فأتاه فقال : ما شأنك ؟ فقال : إني جائع فاطعمني و ظمآن فاسقني قال : [ هذه حاجتك ففدي بالرجلين ]
فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه إذا أسلم بعد الأسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الأسر و إن ذلك الإسلام لا يوجب إطلاقه
و كذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الأسر بل أخبر أنه قد أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي صلى الله عليه و سلم حتى فدى نفسه و القياس يقتضي ذلك فإنه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام أسره لأنه نوع رق و مجوز للاسترقاق كما أن إسلامه لا يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن أسر ممن هو حربي الأصل فهذا الناقض للعهد حاله أشد بلا ريب فإذا أسلم بعد أن نقض العهد و هو في أيدينا لم يجز أن يقال : إنه يطلق بل بحيث قلنا قد عصم دمه فإما أن يصير رقيقا و للإمام أن يبيعه بعد ذلك و ثمنه لبيت المال أو أنه يتخير فيه و هذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد و من لم يجوز استرقاقهم فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد و يقول : إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق و لم يقتل(3/241)
و معنى قوله عليه الصلاة و السلام : [ لو أسلمت و أنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح ] دليل على أن من أسلم و لا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم و هو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال و في هذا أيضا دليل على أن إذا بذل لم يجب إطلاقه فإنه إذا لم يجب إطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه و الدليل على أن المسلم يقتل من غير استتابة و إن أظهر التوبة بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ]
و قد تقدم أن هذا يقتضي قتله و يقتضي تحتم قتله و إن تاب بعد الأخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله و رسوله و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الأخذ فعقوبة هؤلاء أولى و أحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه
و أيضا فإنه قال { لئن لم ينته المنافقون } إلى قوله { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 60 ] وهو يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ و يقتل فعلم أن الانتهاء العاصم ما كان قبل الأخذ
و أيضا فإنه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن انتهى الأخذ و هذا ملعون فدخل في الآية(3/242)
يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } [ النور : 23 ] قال : هذه في شأن عائشة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة ليس فيها توبة ثم قرأ { و الذين يرمون المحصنات ثم يأتوا بأربعة شهداء } إلى قوله { إن الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ النور : 4 ، 5 ] فجعل لهؤلاء توبة لم يجعل لأولئك توبة قال : فهم رجل أن يقول فيقبل رأسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين أن من لعن هذه اللعنة لا توبة له و اللعنة الأخرى أبلغ منها
يقرره أن قازف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي صلى الله عليه و سلم فعلم أن مؤذيه لا توبة له
و أيضا قوله سبحانه { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } الآية [ المائدة : 33 ]
و هذا الساب محارب لله و رسوله كما تقدم تقريره من أنه محاد لله و رسوله و أن المحاد لله و رسوله مشاق لله و رسوله محارب لله و رسوله و لأن المحارب ضد المسالم و المسالم الذي تسلم منه و يسلم منك و من آذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب و قد تقدم من غير وجه أن النبي عليه الصلاة و السلام سماه عدوا له و من عاداه فقد حاربه و هو من أعظم الساعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين : { و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون و ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون } [ البقرة : 12 ]
و كل ما في القرآن من ذكر الفساد ـ كقوله : { و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الاعراف : 56 ] و قوله : { و إذا تولى يسعى في الأرض ليفسد فيها ـ إلى قوله ـ و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و غير ذلك ـ فإن السب داخل فيه فإنه أصل ـ كل فساد في الأرض إذا هو إفساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين و الدنيا و الآخرة(3/243)
و إذا كان هذا الساب محاربا لله و رسوله ساعيا في الأرض بفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه و قد قدمناه الأذلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل قطع الطريق فيجب أن يقام ذلك عليه إلا أن يتوب قبل القدرة و هذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه و لهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الأخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم للعقيلي [ لو قلتها و أنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ] بل يعاقب بالاسترقاق أو يجوز الاسترقاق و غيره لكن هذا مرتد محارب فلم يكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتال
و أيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة و قد ذكرنا أن ذلك يقتضي قتل الساب سواء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه و كذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة
و في حديث أبي بكر لما استأذنه أبو بزرة أن يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال : إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلم أنه كان له قتل من شتمه من غير استتابة و عمر رضي الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه صلى الله عليه و سلم من غير استتابة أصلا فنزل القرآن بإقراره على ذلك و هو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف بأعلاها ؟
و أيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه و افترى افتراء عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه و امتنع عن مبايعته و قد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل و إن أسلم و ذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل مجيء إليه كما رويناه عن غير واحد أو قد جاء يريد الإسلام و قد فيقتله(3/244)
و هذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله و إن جاء تائبا و إن تاب و قد قررنا هذا فيما مضى ـ و هنا ـ من وجوه أخرى أن الذي عصم دمه عفو رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه لا مجرد إسلامه و أن بالإسلام و التوبة انمحى الإثم و بعفو رسول الله صلى الله عليه و سلم احتقن الدم و العفو بطل بموته صلى الله عليه و سلم و ليس للأمة أن يعفوا عن حقه و امتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله و إن جاء تائبا
و أما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلا على أن نعصم دم من سب و تاب بعد أن قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله ذلك و تعذر عفو النبي صلى الله عليه و سلم عنه و قد ذكرنا أيضا حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد و كان يهجوه فقتل من غير استتابة
و أيضا فما تقدم من حديث المرفوع و أثر أبي بكر في قتل من آذاه في أزواجه و سراريه من غير استتابة و ما ذاك إلا لأجل أنه نوع الأذى و لذلك حرمه الله معلوم أن السب أشد أذى منه بدليل أن السب يحرم منه و من غيره و نكاح الأزواج لا يحرم إلا منه صلى الله عليه و سلم و إنما ذلك في تحريم ما يؤذيه و وجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة
و أيضا فإنه أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بألسنتهن بالهجاء مع أمانه لعامة أهل البلد و مع أن قتل المرأة لا يجوز إلا أن تفعل ما توجب القتل و لم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل و الكافرة الحربية من النساء لا تقتل أن لم يقاتل و المرتدة لا تقتل حتى تستتاب و هو هؤلاء النسوة قتلن من غير أن يقاتلن و لم يستتبن فعلم أن قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فإن صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية(3/245)
و قد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما أغنى عن إعادته هنا و ذكرنا أن السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر و هو من جنس المحاربة و التوبة التي تحقن دم المرتد إنما هي التربة عن الكفر فأما إن ارتد بمحاربة ـ مثل سفك الدم و أخذ المال كما فعل العرنيون و كما فعل مقيس ابن صبابة حيث قتل الأنصاري و استاق المال و رجع مرتدا ـ فهذا يتعين قتله كما قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم مقيس ابن صبابة و كما قيل له في مثل العرينيين إنما جزاؤهم أن يقتلوا الآية [ المائدة : 33 ] فلذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة و المحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط
و أيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقوا بين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة و استتابوا الثاني و أمروا باستتابته و ذلك أنه قد ثبت أنهم قتلوا سابه و قد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنه قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتبون المرتد و يأمرون باستتابته فثبت بذلك أنهم كانوا لا يقتلون توبة من يسبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هذا القول نوع من المرتدين و من خص المسلم بذلك قال : لا يدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فإن الحربي يقتل من غير استتابة مع أن إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا و لم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه باستتابة الساب إلا ما روي عن ابن عباس و في إسناد الحديث عنه مقال و لفظه : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن رجع و إلا قتل ](3/246)
و هذا ـ و الله أعلم ـ فيمن كذب بنبوة شخص من الأنباء و سبه بناء على أنه ليس بنبي ألا ترى إلى قوله [ فقد كذب برسول الله عليه الصلاة و السلام و لا ريب أن من كذب بنبوة بعض الأنبياء و سبه على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض آيات القرآن فإن هذا أظهر أمره فهو كالمرتد أما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسألتنا
يؤيد هذا أنا قد روينا عنه أنه كان يقول : [ ليس لقاذف أزواج النبي عليه الصلاة و السلام توبة و قاذف غيرهن له توبة ] و معلوم أن ذلك رعاية لحق رسول الله عليه الصلاة و السلام فعلم أن مذهبه أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام و قاذفه لا توبة له و أن وجه الرواية الأخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه
و أيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته على فساد اعتقاده و كفره به بل هو دليل على الاستهانة به و الاستخفاف بحرمته فإن من وقر الإيمان به في قلبه موجب لإكرامه و إجلاله لم يتصور منه ذمه و سبه و التنقص به و قد كان من أقبح المنافقين نفاقا : من يستخف بشتم النبي عليه الصلاة و السلام كما روى عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله عليه الصلاة و السلام جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال : سيأتيكم إنسانا ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي عليه الصلاة و السلام فقال : علام تشتمني أنت و فلان و فلان ؟ دعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم ن فحلفوا له و اعتذروا إليه ] فأنزل الله تبارك و تعالى : { يحلفون لكم لترضوا عنهم } الآية [ التوبة : 96 ](3/247)
رواه أبو مسعود ابن الفرات و رواه الحاكم في صحيحه و قال : فأنزل الله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له } الآية [ المجادلة : 18 ] و إذا ثبت أنه كافر به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال ذلك الكفر و الاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى الظاهر قد علم أن الباطن بخلافه
و لهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه و إن شهد عنده بذلك العدول و يجوز له أن يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها و ذلك أيضا لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه ـ مثل أن يقول لمن هو أكبر منه [ هذا ابني ] ـ لم يثبت نسبة و لا ميراثه باتفاق العلماء و كذلك الأدلة الشرعية ـ مثل خبر العدل الواحد مثل الأمر و النهي و العموم و القياس ـ يجب اتباعها إلا أن يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها و نظائر هذا كثيرة
فإذا علمت هذا فنقول : هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته و تكذيبه به و استهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الآن ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا و هذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه و هذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة و مالك و أصحابه و الليث بن سعد و هو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة و هو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه عنهما أنه يستتاب و هو المشهور عن الشافعي
و قال أبو يوسف آخرا : أقتله من غير استتابة لكن إن تاب قبل أن أقتله قبلت توبته و هذا أيضا الرواية الثالثة عن أحمد(3/248)
و على هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب و نحوه مما يدل على الكفر اعتضد السب بدلالات أخر من الاستخفاف بحرمات الله و الاستهانة بفرائض الله و نحو ذلك من دلالات النفاق و الزنديق كان ذلك أبلغ في ثبوت زندقته و كفره و في أن لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور و ما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا و في أن لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد أخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب ؟ نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال و الأعمال ما يدل على حسن الإسلام و كف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال و فيه خلاف بين أهل القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره
و على مثل هذا من هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل آيات التوبة من النفاق و على الأول تحمل آيات إقامة الحد
ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال : بهذا يظهر الفرق بينه و بين الكافر إذا أسلم فإنه كان يظهر لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره و توقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله و لم يعارضه ما يخالف فوجب العمل به و هذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام و هو من القياس الجلي و يدل على جواز قتل الزنديق و المنافق من غير استتابة قوله تعالى : { و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني ـ إلى قوله ـ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [ التوبة : 49 ـ 52 ](3/249)
قال أهل التفسير : أو بأيدينا بالقتل : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم و هو كما قالوا لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم و لو كان المنافق يجب قبول ما يظهر من التوبة بعد ما ظهر نفاقه و زندقته لم يمكن أن يتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة
و قال قتادة و غيره : قوله : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون ـ إلى قوله سنعذبهم مرتين } [ التوبة : 101 ] قالوا : في الدنيا القتل و في البرزخ عذاب القبر
و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] و قوله سبحانه : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم ـ إلى قوله ـ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } [ التوبة : 96 ] و كذلك قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] و قوله سبحانه : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون } [ المنافقون : 2 ] و قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم و لا منهم و يحلفون على الكذب و هم يعلمون ـ إلى قوله تعالى ـ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ـ إلى قوله تعالى ـ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } [ المجادلة : 14 ـ 18 ]
دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالإيمان الكاذبة و ينكرون أنهم كفروا و يحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر(3/250)
و ذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه :
أحدها : أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف و الإنكار و لكانوا يقولون : قلنا و قد تبنا فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة
الثاني : أنه قال تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة } [ المنافقون : 2 ] و اليمين إنما تكون جنة إذا لم نأت ببينة عادلة تكذبها فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى و تلك جنة مخروقة
الثالث : أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب و الإنكار و معلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم بينة بخلافه و لذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه و سلم و يدل على ذلك قوله سبحانه : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنم و بئس المصير يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر } الآية [ التوبة : 74 ] و قوله تعالى في موضع آخر : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التحريم : 3 ] قال الحسن و قتادة : بإقامة الحدود عليهم و قال ابن مسعود : [ بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] و عن ابن عباس و ابن جريح : [ باللسان و تغليظ الكلام و ترك الرفق ](3/251)
و وجه الدليل أن الله أمر رسول الله عليه الصلاة و السلام بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين و أن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة فإنه ما لم يظهر منه شيء البتة لم يكن لنا سبيل عليه فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل و ذلك يقتضي أن لا يسقط عنه بتجديد الإسلام له ظاهرا لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهره من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار و كان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون و الآية جهادهم لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ] و يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة فيجب أن يجاهد لأجل النفاق كما يجاهد الكافر لأجل الكفر و معلوم أن الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر و لا يعلم ما يخالفه
أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق و لأن المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض و هو الزاني إذا زنى لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد أخذه لإقامة الحد عليه كما قد عرف و لأنه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده
و يدل على ذلك قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل } [ الأحزاب : 62 ](3/252)
دلت هذه الآية على المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم و أنهم لا يجاورنه بعد الإغراء بهم إلا قليلا و أن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا و أصيبوا أسروا و قتلوا و إنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم
و كذلك قال الحسن : [ أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه و أسروه ] و قال قتادة : [ ذكرنا لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا ] و لو كان إظهار التوبة بعد اظهار النفاق مقبولا لم يكن أخذ المنافق و لا قتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة و هي مقبولة منه
يؤيد ذلك أن الله تبارك و تعالى جعل جزائهم أن يقتلوا و لم يجعل جزاءهم أن يقاتلوا و لم يستثن حال التوبة كما استثناه من قتل المحاربين و قتل المشركين فإنه قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث و وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] و قال في المحاربين : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ـ إلى قوله تعالى ـ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 33 ] فعلم أنهم يقتلون من غير استتابة و أنه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة(3/253)
و يوضح ذلك انه جعل انتهائهم النافع قبل الإغراء بهم و قبل الأخذ و التقتيل و هناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر و الأخذ و القتل فعلم أن الانتهاء بعد الإغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه و إن نفعت المشرك من مرتد وأصلي التوبة بعد القدرة عليه و قد أخبر سبحانه أن سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه أن يؤخذ و يقتل و أن هذه السنة لا تبديل لها و الانتهاء في الآية إما أن يعني به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة أو الانتهاء عن إظهاره عند شياطينه و عند بعض المؤمنين
و المعنى الثاني أظهر فإن من المنافقين من لم ينته عن إسرار النفاق حتى مات النبي صلى الله عليه و سلم و انتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحمد يجترئ على إظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن إظهاره فقط أو عن إسراره و إعلانه خرج من وعيد هذه الآية و من أظهر لحقه وعيدها
و مما يشبه ذلك قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر ـ إلى قوله تعالى ـ فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما قي الدنيا و الآخرة } [ التوبة : 74 ] فإنه دليل على أن المنافق إذا لم يتب عذبه الله في الدنيا و الأخرة و كذلك قوله تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون ـ إلى قوله ـ سنعذبهم مرتين } [ التوبة : 101 ]
و أما قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة } [ الأحزاب : 60 ] فقد قال أبو رزين : [ هذا شيء واحد هم المنافقون ] و كذلك قال مجاهد : [ كل هؤلاء منافقون ] فيكون من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى : { و جبريل و ميكال } [ البقرة : 98 ] و قال سلمة بن كهيل و عكرمة : [ الذين في قلوبهم مرض أصحاب الفواحش و الزناة ] و معلوم أن من أظهر الفاحشة لم يكن بد من إقامة الحد عليه فكذلك من أظهر النفاق(3/254)
و يدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين عن علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنه قد شهد بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على عمر استحلال ضرب عنق المنافق و لكن أجاب بأن هذا ليس بمنافق و لكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مباح الدم
و عن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام و هو على المنبر [ من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما عملت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال : يا رسول الله أنا و الله أعذرك منه : إن كان من الأوس ضربنا عنقه و إن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كانت أم حسان بنت عمه من فخذه و كان رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله و لا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر فلم يزل النبي صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا و سكت ] متفق عليه(3/255)
و في الصحيحين عن عمرو عن جابر بن عبد الله قال : غزونا مع رسول الله و قد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا و كان من المهاجرين رجل لعاب فكسع انصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا و قال الأنصاري : يا للأنصار و قال المهاجري : يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية ؟ ثم قال : ما شأنهم ؟ فأخبرهم بكسعة المهاجري الأنصاري قال : فقال النبي عليه الصلاة و السلام : دعوها فإنها خبيثة و قال عبد الله بن أبي ابن سلول : أقد تداعوا علينا ؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليحرجن الأعز منها الأذل قال عمر : ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي عليه الصلاة و السلام [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ](3/256)
و ذكر أهل التفسير و أصحاب السير أن هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق : [ اختصم رجل من المهاجرين و رجل من الأنصار حتى غضب عبد الله ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن و قال عبد الله ابن أبي : أفعلوها ؟ قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا و الله ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله عليه الصلاة و السلام ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أمواكم أما و الله لئن أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و مواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم : أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم بها إلى النبي عليه الصلاة و السلام و ذلك بعد فراغه من الغزوة و عنده عمر بن الخطاب فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال : [ إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب ] فقال عمر : فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام [ فكيف يا عمر ؟ إذا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا و لكن أذن بالرحيل ] و ذلك في ساعة لم يكن رسول الله عليه الصلاة و السلام يرتحل فيها وأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال : أنت صاحب هذا الكلام ؟ فقال عبد الله : و الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا و إن زيدا لكاذب فقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله شيخنا و كبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكونون هذا الغلام و هم في(3/257)
حديثه و لم يحفظ ما قال فغدره رسول الله صلى الله عليه و سلم و فشت الملامة في الأنصار لزيد و كذبوه قالوا : و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي و كان من فضلاء الصحابة ـ ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال له النبي عليه الصلاة و السلام : [ بل نرفق به و نحسن صحبته ما بقي معنا ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه و لكن بر أباك و أحسن صحبته ] و ذكروا القصة قالوا : و في ذلك نزلت سورة المنافقين ](3/258)
و قد أخرجا في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله و قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي عليه الصلاة و السلام بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد يا رسول الله قال : فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تصديقي { إذا جاءك المنافقون } [ سورة المنافقون ] قال : ثم دعاهم النبي صلى الله عليه و سلم ليستغفر لهم فلووا رؤسهم ففي هذه القصة بيان أن قتل المنافق جائز من غير استتابة و إن أظهر إنكار ذلك القول و تبرأ منه و أظهر الإسلام و إنما مع النبي صلى الله عليه و سلم من قتله ما ذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة و قد حلف أنه ما قال و لإنما علم بالوحي و خبر زيد بن أرقم و أيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله و غضب أقوام يخاف افتتانهم بقتلهفإن قيل : فلم لم يقتلهم النبي عليه الصلاة و السلام مع علمه بنفاق بعضهم و قبل علانيتهم ؟
قلنا : إنما ذاك لوجهين :
أحدهما : أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام و نفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون و تارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة و الجهاد و استثقالهم للزكاة و ظهور الكراهة منهم لكثير من أحكام الله و عامتهم يعرفون في لحن القول كما قال الله { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ؟ و لو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم و لتعرفنهم في لحن القول } [ محمد : 30 ](3/259)
فأخبر سبحانه أنه لو شاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال : { و لتعرفنهم في لحن القول } فأقسم أنه لابد أن يعرفهم في لحن القول و منهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القرآن يخبر أن صاحب ذلك القول و العمل منهم كما في سورة براءة و بينهم من كان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد و الدلالات و القرائن و الأمارات و منهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } [ التوبة : 101 ] ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام و يحلفون أنهم مسلمون و قد اتخذوا أيمانهم جنة و إذا كانت هذه حالهم فالنبي عليه الصلاة و السلام لم يكن يقيم الحدود بعلمه و لا بخبر الواحد و لا بمجرد الوحي و لا بالدلائل و الشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينه أو لإقرار ألا ترى كيف أخبر عن المرأة الملاعنة أنها إن جاءت بالولد على نعت كذا و كذا فهو للذي رميت به و جاءت به على النعت المكروه فقال : [ لولا الأيمان لكان لي و لها شأن ] و كان بالمدينة امرأة تعلن الشر فقال : [ لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها ] و قال للذين اختصموا إليه : [ إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ] فكان ترك قتلهم ـ مع كونهم كفارا ـ لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية
و يدل على هذا أنه لم يستتبهم على التعيين و من المعلوم أن أحسن حال من ثبت نفاقه و زندقته أن يستتاب كالمرتد فإن تاب و إلا قتل و لم يبلغنا أنه استتاب واحدا بعينه منهم فعلم أن الكفر و الردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب أن يقتل كالمرتد و لهذا تقبل علانيتهم و نكل سرائهم إلى الله(3/260)
فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه ؟ و لهذا قال عليه الصلاة و السلام : [ إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ] لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة و لما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال : [ أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ ] قيل : بلى قال [ أليس يصلي ؟ ] قيل : بلى قال : [ أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ]
فاخبر عليه الصلاة و السلام أنه نهي عن قتل من أظهر الإسلام من الشهادتين و الصلاة ـ و إن ذكر بالنفاق و رمي به و ظهرت عليه دلالته ـ إذا لم يثبت بحجة شرعية أنه أظهر الكفر
و كذلك قوله في الحديث الآخر : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ] معناه أني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام و أكل بواطنهم إلى الله و الزنديق و المنافق إنما يقتل إذا تكلم بكلمة الكفر و قامت عليه بذلك بينة و هذا حكم بالظاهر لا بالباطن و بهذا الجواب يظهر فقه المسألة
الوجه الثاني : أنه عليه الصلاة و السلام كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم و قد بين ذلك حين قال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] و قال : [ إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب ] فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظان أنه إنما قتلهم لأغراض و أحقاد و إنما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال : [ أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ] و أن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره(3/261)
و قد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلته و أناس آخرون فيكون ذلك سببا للفتنة و اعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له أناس صالحون و أخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد بين ذلك رسول الله عليه الصلاة و السلام لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال أصحابنا : و نحن الآن إذا خفنا مثل ذلك كففنا عن القتل
فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص و العام أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام و ارتداد آخرين عنه و إظهار قوم من الحرب و الفتنة ما يربي فساده على فساد ترك قتل منافق و هذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا إلا في شيء واحد و هو أنه صلى الله عليه و سلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم
و الذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كان بمكة مستضعفا هو و أصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم و الصبر على أذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة و صار له دار عزة و منعة أمرهم بالجهاد و بالكف عمن سالمهم و كف يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذا رأوا أن بعض من دخل فيه يقتل و في مثل هذه الحال نزل قوله تعالى { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم و توكل على الله و كفى بالله وكيلا } [ الأحزاب : 48 ](3/262)
و هذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين و المنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة و لم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة و دخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي عليه الصلاة و السلام في غزوة الروم و أنزل الله تبارك و تعالى سورة براءة و كمل شرائع الدين من الجهاد و الحج و الأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر و لما نزلت براءة أمره الله بنبذ العهود التي كانت للمشركين و قال فيها : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] و هذه ناسخة لقوله تعالى : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] و ذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد و لم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمدا يقتل أصحابه فأمره الله بجهادهم و الإغلاظ عليهم
و قد ذكر أهل العلم أن آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية و نحوها و قال في الأحزاب : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا } الآية [ الآحزاب : 61 ] فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه و نصر رسوله
فحيث ما كان للمنافق ظهور و تخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه علمنا بآية : { دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم و الصفح و حيث ما حصل القوة و العز خوطبنا بقوله : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ](3/263)
فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة و السلام إذا لا نسخ بعده و لم ندع أن الحكم تغير بعده لتغير المصلحة من غير وحي نزل فإن هذا تصرف في الشريعة و تحويل لها بالرأي و دعوى أن الحكم المطلق كان لمعنى و قد زال و هو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال : [ إن حكم المؤلفة انقطع و لم يأت على انقطاعه بكتاب و لا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة ]
و يدل على المسألة ما روى أبو إدريس قال : [ أتي علي رضي الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال : فقتلهم و لم يستتبهم قال و أتي برجل كان نصرانيا و أسلم ثم رجع عن الإسلام قال : فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له : كيف تستتيب هذا و لم تستتب أولئك ؟ قال : إن هذا أقر بما كان منه و إن أولئك لم يقروا و جحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم ] رواه الإمام أحمد
و روي عن أبي إدريس قال : أتي علي برجل قد تنصر فاستتابة فأبى أن يتوب فقتله و أتي برهط يصلون القبلة و هم زنادقة و قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا و قالوا : ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم و لم يستتبهم ثم قال : أتدرون لم استتبت هذا النصراني ؟ استتبته لأنه أظهر دينه و أما الزنادقة الذي قامت عليهم البينة و جحدوني فإنما قتلهم لأنهم جحدوا و قامت عليهم البينة
فهذا من أمير المؤمنين علي بيان أن كل زنديق كتم زندقته و جحدها حتى قامت عليه البينة قتل و لم يستتب و أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة(3/264)
و يدل على ذلك : قوله تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة ـ إلى قوله ـ و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا } [ التوبة : 102 ] فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين و لهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد : [ ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له ] قال القاضي أبو يعلي و غيره : [ و إذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته ]
لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر و لا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته و لهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا
و قد يستدل على المسألة بقوله تعالى : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات } الآية [ النساء : 18 ] و روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } [ النساء : 17 ] قال : هذه في أهل الإيمان { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن } [ النساء : 18 ]
قال : هذه في أهل النفاق : { و لا الذين يموتون و هم كفار } [ النساء : 18 ] قال : هذه في أهل الشرك هذا مع أنه الراوي عن أصحاب محمد عليه الصلاة و السلام فيما أظن أنهم قالوا : كل من أصاب ذنبا فهو جاهل بالله و كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب(3/265)
و يدل على ما قال أن المنافق إذا أخذ ليقتل و رأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة : 180 ] و قوله تعالى : { بينكم إذا حضر أحدكم الموت } [ المائدة : 106 ] و قد قال حين حضره الموت : { إني تبت الآن } فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم إن تاب توبة صحيحة فيما بينه و بين الله لم يكن ممن قال : { إني تبت الآن } بل يكون ممن تاب عن قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت و تاب بلسانه فقط و لهذا قال في الأول : { ثم يتوبون } و قال هنا : { إني تبت الآن } فمن قال : [ إني تبت ] قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحة بعد حضور أسباب الموت صحت توبته
و ربما استدل بعضهم بقوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } الآيتين [ غافر : 84 ، 85 ] و بقوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق } الآية [ يونس : 90 ] و قوله سبحانه : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها } الآية [ يونس : 98 ] فوجه الدلالة أن عقوبة الأمم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معانيه العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق و من قال هذا فرق بينه و بين الحربي بأنا لا نقاتله عقوبة له على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود و المنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فإنه لم يزل مسلما و العقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجيء البأس و هذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا
و فيه طريقة أخرى و هي أن سب النبي صلى الله عليه و سلم بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن كونه مجرد ردة فإنا قد بينا أن موجب القتل و بينا أنه جناية غير الكفر إذا لو كان ردة محضة و تبديلا للدين و تركا له لما جاز للنبي عليه الصلاة و السلام العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد و لما قتل الذين سبوه و قد عفا عمن قاتل و حارب(3/266)
و قد سذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم و لأن التنقص و السب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة و الرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول و توقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين و تركه و فارق الجماعة و إذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر الحدود غير عقوبة الكفر و تبديل الدين قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
فثبت بهذه الآية أن من تاب بعد أن قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة و كذلك قال سبحانه : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسب نكالا من الله و الله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } [ المائدة : 39 ]
فأمر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى و نكالا عن السرقة في المستقبل منهم و من غيرهم و أخبر أن الله يتوب على من تاب و لم يدرأ القطع بذلك لأن القطع له حكمتان : الجزاء و النكال و التوبة تسقط الجزاء و لا تسقط النكال فإن الجاني متى علم أنه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق و لم يزجرهم عن ركوب العظائم فإن إظهار التوبة و الإصلاح لمقصود حفظ النفس و المال سهل(3/267)
و لهذا لم نعلم خلافا نعتمده أن السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه و قد رجم النبي عليه الصلاة و السلام ماعزا و الغامدية و أخبر بحسن توبتهما و حسن مصيرهما و كذلك لو قيل : [ إن سب النبي صلى الله عليه و سلم يسقط التوبة و تجديد الإسلام ] لم يردع ذلك الألسن عن انتهاك عرضه و لم يزجر النفوس عن استحلال حرمته بل يؤذيه الإنسان بما يريد و يصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب و الأذى ثم يجدد إسلامه و يظهر إيمانه و قد ينال المرء من عرضه و يقع منه تنقض له و استهزاء ببعض أقواله أو أعماله و إن لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلأنه [ لا ] يصعب على من هذه سبيله كلما نال من عرضه و استخف بحرمته أن يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فإن سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة أو الانتقال عن الدين [ لأن الانتقال عن الدين ] لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهود قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد محرضا للنفوس على الردة و يكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فإنه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بأنه يجبر على العود إلى الإسلام و هنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة تمكن من انتقاص النبي صلى الله عليه و سلم و عيبه و الطعن عليه كلما شتم يجدد الإسلام و يظهر التوبة(3/268)
و بهذا يظهر أن السب و الشتم يظهر الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنا و قطع الطريق و السرقة و شرب الخمر فإن مريد هذه المعاصي إذا علم أنه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله صلى الله عليه و سلم إذا علم أن التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه و قد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فإن مقصوده لا يحصل إلا بالمقام عليها و ذلك لا يحصل له إذا قتل إن لم يرجع فيكون ذلك رادعا له و هذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة و لكن حقيقته أنه نوع من الردة يغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بأن ينضم إليها قتل و غيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في قتل من قطع الطريق لغلظ الجرم و إن لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة و يبقى خصوص السب و لابد من إقامة حده كما أن توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل و يبقى حق أولياء المقتول من القتل أو الدية أو العفو و هذه مناسبة ظاهرة و قد تقدم نص الشارع و تنبيهه على اعتبار هذا المعنى
فإن قيل : تلك المعاصي يدعو إلي الطيع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الطبع لا يدعو إليها إلا بخلل في الإعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم أن مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر و عقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة و إذا لم يكن إليه مجرد باعث طبعي لم يشرع ما يزجر عنه و إن كان حراما كالاستخفاف في الكتاب و الدين و نحو ذلك(3/269)
قلنا : بل قد يكون إليه باعث طبعي غير الخلل ففي الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله و أفعاله و الغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه و الشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره و غير ذلك
فهذه الأمور قد تدعو الإنسان إلى نوع من السب له و ضرب من الأذى و الانتقاص و إن لم يصدر إلا مع ضعف الإيمان به كما أن تلك المعاصي لا تصدر أيضا إلا مع ضعف الإيمان و إذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله على أمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا و الحرمة مخفورة بخلاف قبول التوبة ممن يريد انتقالا عن الدين إما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فإنه إذا علم أنه يستتاب على ذلك فإن تاب و إلا قتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم آمن به فإن علمه بأنه إذا أظهر السب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف يردعه عن هذا السب إلا أن يكون مريدا للإسلام و متى أراد الإسلام فلإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من الطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إ سلام من يظهر الإسلام
و أيضا فإن سب النبي صلى الله عليه و سلم حق آدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف و كسب غيره من البشر ثم من فرق بين المسلم و الذمي قال : المسلم قد التزم أن لا يسب و لا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك أقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر و كما يعزر على أكل لحم الميت و الخنزير و الكافر لم يلتزم تحريم ذلك و لا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لا تجب عليه إقامة حد الخمر و لا يعزر على الميت و الخنزير
نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا و بينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد بحرمته فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر و لا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله(3/270)
و حقيقة هذه الطريقة أن سب النبي عليه الصلاة و السلام لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته و تعزيرا له و توفيرا و نكالا عن التعرض له و الحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك و عوقب عليه كما إذا أظهر الخمر و الخنزير فإظهار السب إما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين و على التقديرين فلإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه و أيضا فإن الردة على قسمين : ردة مغلظة شرع القتل على خصوصها و كل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها و الأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني و قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه و لم يأت نص و لا إجماع لسقوط القتل عنه و القياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق
و الذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب و لا سنة و لا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه بل الكتاب و السنة و الإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره و إنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه و يقيس بعضها على بعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتد لم يبق إلا القياس و هو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصف له تأثير في الحكم و قد دل على تأثيره نص الشارع و تنبيهه و المناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة
و تقرير هذا من ثلاثة أوجه :(3/271)
أحدها : أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ آل عمران : 86 ] و قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه } [ النحل : 106 ] و نحوها ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد أذى و إضرار و كذلك سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط و كذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة و حارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره فمن زعم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ و حينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب و أنه مرتد و لم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض
الثاني : أن الله سبحانه قال : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و أولئك هم الضالون } [ آل عمران : 90 ] فأخبر سبحانه أن من ازداد كفرا بعد إيمانه لن تقبل توبته و فرق بين الكفر المزيد كفرا و الكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن
و هذه الآية إن كان قد قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت و إن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فلآية أعم من ذلك(3/272)
و قد رأينا سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم إنه أمر بقتل مقيس بن صبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم و أخذ المال و لم يتب قبل القدرة عليه و أمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحوا من ذلك و كذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب و قتل المسلم و أمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه و الافتراء
و إذا كان الكتاب و السنة قد حكما في المرتدين بحكمين و رأينا أن من ضر و آذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه و إن تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا و كان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح و لأن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فاعله و لأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي بإسلامه و هذا الساب أتى من الأذى لله و رسوله ـ بعد المعاهدة على ترك ذلك ـ بما أتى به و هو لا يقتل لمقامه عليه فإن ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد
و بالجملة فمن كانت ردته محاربة لله و رسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه(3/273)
الوجه الثالث : أن الردة قد تتجرد عن السب و الشتم فلا تتضمنه و لا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين و أخذ أموالهم إذ السب و الشتم إفراط في العداوة و إبلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر و حرصه على فساد الدين و إضرار أهله و لربما صدر عمن يعتقد النبوة و الرسالة لكن لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من التوقير و الانقياد فصار بمنزلة إبليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه بقوله قوله سبحانه [ رب ] و قد أيقن أن الله أمره بالسجود ثم لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من الاستلام و الانقياد بل استكبر و عاند معاندة معارض طاعن في حكمة الآمر
و لا فرق بين من يعتقد أن الله ربه و أن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول : إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب و لا سداد و بين من يعتقد أن محمدا رسول الله و أنه صادق واجب الاتباع في خبره و أمره ثم يسبه أو يعيب آمره أو شيئا من أحواله أو تنقصه انتقاصا لا يجوز أن يستحقه الرسول و ذلك أن الإيمان قول و عمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه و تعالى و الرسالة لعبده و رسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبة من الإجلال و الإكرام ـ الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف و التسفيه و الازدراء بالقول أو بالفعل ـ كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه و كان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد و مزيلا لما فيه من المنفعة و الصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس و تصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس و لا صلاحها فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب و لم تصر صفة و نعتا للنفس و لا صلاحا و إذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة له لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس و خواطر القلب و النجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب و لو أنه مثقال ذرة
هذا فيما بينه و بين الله و أما في الظاهر فيجري الأحكام على ما يظهره من القول و الفعل(3/274)
و الغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب و الانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده و الاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك
و الغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا و باطنا
هذا مذهب الفقهاء و غيرهم من أهل السنة و الجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية و المرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة و القول بلا عمل من أعمال القلب مع أنه إنما ينافيه في الظاهر و قد يجامعه في الباطن و ربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع
و الغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب كذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين و إرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية و إن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال : الكفر أن لا يقصد أن يكفر
و إذا كذلك فالشارع إذا أمر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق و غير اعتقاده و قوله فإنما ذاك لأن المقتضي للقتل الاعتقاد الطارئ و إعدام الاعتقاد الأول فإذا عاد ذلك الاعتقاد الإيماني و زال هذا الطارئ كان بمنزلة الماء و العصير : يتنجس بتغيره ثم يزول لتغير فيعود حلالا لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها و هذا الرجل لم يظهر مجرد تغير الاعتقاد حتى يعود معصوما بعوده إليه و ليس هذا القول من لوازم تغير الاعتقاد حتى يكون حكمه كحكمه إذ قد يتغير الاعتقاد كثيرا و لا يكون به أذى لله و رسوله و إضرار المسلمين يزيد على تغير الاعتقاد و يفعله من يظن سلامة الاعتقاد و هو كاذب عند الله و رسوله و المؤمنين في هذه الدعوى و الظن و معلوم أن المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرد تغير الاعتقاد من هذين الوجهين :(3/275)
من جهة كونه إضرارا زائدا و من جهة كونه قد يظن أو يقال إن الاعتقاد قد يكون سالما معه فيصدر عمن لا يريد الانتقال من دين إلى دين و يكون فساده أعظم من فساد الانتقال إذ الانتقال قد علم أنه كفر فنزع عنه ما نزع عن الكفر و هذا قد يظن أنه ليس بكفر إلا إذا صدر استحلالا بل هو معصية و هو من أعظم أنواع الكفر فإذا كان الداعي إليه غير الداعي إلى مجرد الردة و المفسدة فيه مخالفة لمفسدة الردة و هي أشد منها لم يجز أن يلحق التائب منه بالتاثب من الردة بالردة لأن من شرط القياس ـ قياس المعنى ـ استواء الفرع و الأصل في حكمة الحكم باستوائهما في دليل الحكمة إذا كانت خفية فإذا كان في الأصل معان مؤثرة يجوز أن تكون التوبة إنما قبلت لأجلها و هي معدومة في الفرع لم يجز إذ لا يلزم من قبول توبة من خففت مفسدة جنايته أو انتفت قبول توبة من تغلظت مفسدته أو بقيت(3/276)
و حاصل هذا الوجه أن عصمة دم هذا بالتوبة قياسا على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر فيكون المرتد المنتقل إلى دين آخر و من أتى من القول بما يضر المسلمين و يؤذي الله و رسوله و هو موجب للكفر على نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه و قد شرعت التوبة في حق الأول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني لوجود الفارق من حيث الإضرار و من حيث إن مفسدته لا تزول بقبول التوبة قد تضمن هذه الدلالة على وجوب قتل الساب من المسلمين و إن تاب و أسلم و يوجبه قول من فرق بينه و بين الذمي إذا أسلم و قد تضمن الدلالة على أن الذمي إذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الأولى فإن عود المسلم إلى الإسلام أحقن لدمه من عود الذمي إلى ذمته و لهذا عامة العلماء الذين حقنوا دم هذا و أمثاله بالعود إلى الإسلام لم يقولوا مثل ذلك في الذمي إذا عاد إلى الذمة و من تأمل سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام في قتله لبني قريظة و بعض أهل خبير و بعض بني النضير و إجلائه لبني النضير و بني قينقاع بعد أن نقض هؤلاء الذمة و حرصوا على أن يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيا فلم يفعل ثم سنة خلفائه و صحابته في مثل المؤذي و أمثاله مع العلم بأنه كان أحرص شيء على العود إلى الذمة لم يسترب في أن القول بوجوب إعادة مثل هذا إلى الذمة قول مخالف للسنة و لإجماع خير القرون و قد تقدم التنبيه على ذلك في حكم ناقض العهد مطلقا و لولا ظهوره لأشبعنا القول فيه و إنما أحلنا على سيرة رسول الله عليه الصلاة و السلام و سنته من له بها علم فإنهم لا يستريبون أنه لم يكن الذي بين النبي عليه الصلاة و السلام و هؤلاء اليهود هدنة مؤقتة و إنما كانت ذمة مؤبدة على أن الدار دار الإسلام و أنه يجري عليهم حكم الله و رسوله فيما يختلفون فيه إلا أنهم لم يضرب عليهم جزية و لم يلزموا بالصغار الذي ألزموه بعد نزول براءة لأن ذلك لم يكن شرع بعد وأما من قال [ إن الساب يقتل و إن تاب و أسلم و سواء كان(3/277)
كافرا أو مسلما ] فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة و أن الذمي يقتل و إن طلب العود إلى الذمة
و أما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب و إن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق و هي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي :
الطريقة الأولى : قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا من تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا و كل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه و حده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب
و الدليل مبني على مقدمتين : إحداهما : أنه داخل في هذه الآية
و الثانية : أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة(3/278)
أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم و إن تابوا بعد الأخذ و ذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك و غيره أحد هذه جزاؤه و جزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي ـ بل كان حدا من حدود الله ـ وجب استيفاؤه باتفاق المسلمين و قد قال تعالى في آية السرقة : { فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } [ المائدة : 38 ] فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم و أقوى منه و الجزاء اسم للفعل و اسم لما يجازى به و لهذا قرىء قوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل } [ المائدة : 95 ] بالتنوين و بالإضافة و كذلك الثواب و العقاب و غيرهما و القطع قد يسمى جزاء و نكالا و قد يقال فعل هذه ليجزيه و للجزاء
و لهذا قال الأكثرون : إنه نصب على المفعول له و المعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم و لينكل عن فعلهم
و قد قيل : إنه نصب على المصدر لأن معنى [ اقطعوا ] اجزوهم و نكلوا
و قيل إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم و غيرهم أو جازين منكلين
و بكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا و قد أخبر أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل و معنى المجزي به لأن القتل و القطع و الصلب هي أفعال و هي عين ما يجزي به و ليست أجساما بمنزلة المثل من النعم
يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير فيه بين فعله و تركه إذ ليس لله أحكام في أهل الذنوب يخير الإمام بين فعلها و ترك جميعها(3/279)
و أيضا فإنه قال : { ذلك لهم خزي في الدنيا } و الخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها و أيضا لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته و تركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين } [ النحل : 126 ] و قوله : { و الجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة } [ المائدة : 45 ] و قوله : { ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } [ النساء : 92 ]
و أيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة و الإجماع ظاهرة و لم نعلم مخالفا في وجوب إجراء المحاربين ببعض ما ذكره الله في كتابه و إنما اختلفوا في هذه الحدود : هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا ؟ كما هو المشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول : جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة و لا يخير الإمام فيه بين القطع و الإنفاء و إذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود ـ و قد أخذ قبل التوبة ـ وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد
فلنبين المقدمة الأولى و هي أن هذا من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا و ذلك من وجوه : أحدها : ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال : ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : و قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قال : [ كان القوم من أهل الكتاب بينهم و بين النبي صلى الله عليه و سلم عهد و ميثاق فنقضوا العهد و أفسدوا في الأرض ] فخير الله رسوله صلى الله عليه و سلم : إن شاء أن يقتل و إن شاء أن يصلب و إن شاء أن يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف
و أما النفي فهو أن يهرب في الأرض و فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه و لم يؤخذ بما سلف منه(3/280)
ثم قال في موضع آخر و ذكر هذه الآية : من شهر السلاح في قبة الإسلام و أخاف السبيل ثم ظفر به و قدر عليه فأقام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله و إن شاء صلبه و إن شاء قطع يده و رجله ثم قال : { أو ينفوا من الأرض } يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب { فإن تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
و كذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قال : [ كان ناس من أهل الكتاب بينهم و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد و ميثاق فقطعوا الكيثاق و أفسدوا في الأرض فخير الله و رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف ] [ و أما النفي فهو أن يهرب في الأرض و لا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه و لم يؤاخذ بما عمل ]
و قال الضحاك : [ أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه ]
ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قزم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد و أفسدوا في الأرض
و كذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ـ و إن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد ـ أنها نزلت في قوم موادعين و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وادع هلال بن عويمر ـ و هو أبو بردة الأسلمي ـ ألا يعينه و لا يعين عليه و من أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج و من أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج و من مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو آمن أن يهاج(3/281)
قال فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من [ أسلم ] من قوم هلال بن عويمر و لم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم و أخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ن فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم فقد ذكر أنها نزلت في قوم نعاهدين ن و لكن من غير أهل الكتاب
و روى عكرمة عن ابن عباس ـ و هو قول الحسن ـ أنها نزلت في المشركين و لعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية
و الذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل و صلب فكان أول مصلوب في الإسلام و قال : يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة و السلام و لا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له و قد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي و غيره كما تقدم و روى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال : مرت امرأة تسير على بغل فنخس علج فوقعت من البغل فبدا بعض عوراتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر : أن أصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون
و قد قال أبو عبد الله بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة : [ يقتل هذا نقض العهد و كذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد قيل له : ترى عليه الصلب مع القتل ؟ قال : إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه(3/282)
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : عمر و أبو عبيدة و عوف بن مالك و من كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا و صلبه و بين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد و أن العهد انتقض بذلك فعلم انهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله و صلبه و إلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابة
و قد قال آخرون ـ منهم ابن عمر و أنس بن مالك و مجاهد و سعيد بن جبير و عبد الرحمن بن و مكحول و قتادة و غيرهم رضي الله عنهم ـ إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام فقتلوا راعي النبي عليه الصلاة و السلام و استاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و حديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله و كذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم و المرتد و الناقض كما قال الوازعي في الآية : [ هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه و فيمن حارب من الذمة ]
و قد جاءت آثار صحيحة عن علي و أبي موسى و أبي هريرة و غيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق و نحوه مقيما على إسلامه و لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة و التابعين و من بعدهم على حد قطاع الطريق بهذه الآية
و المقصود هنا أن هذا الاناقض للعهد و المرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة و التبعين و إن كان يدخل فيها بعض من هو مقيم على الإسلام و هذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين و مرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية(3/283)
و مما يدل على أنه قد عني بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نفي بني قينقاع و النضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب و قتل بني قريظة و بعض أهل خيبر لما نقضوا العهد و الصحابة قتلوا و صلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم و خلفائه في أصناف ناقضي العهد كحكم الله في الآية ـ مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مزادون منها الوجه الثاني : أن ناقض العهد و المرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله و رسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين و محاربة المسلمين محاربة لله و رسوله و هو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق و نحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله و رسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله و رسوله ثم لا يخلو أما أن لا يكون محاربا لله و رسوله حتى يقاتلهم و يمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد و إن لم يقاتلهم و الأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد و صار من المحاربين و لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال [ أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر ]
و عمر و سائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل و الصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال و الأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية
فإن قيل : فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه
قيل : و كذلك نقول و عليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد و قد قيل فيها : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] علم أن التائب بعد القدرة مبقي على حكم الآية(3/284)
الوجه الثالث : أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله و رسوله لو لا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلو إما أن يقصر على ما نقض العهد ـ بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله و رسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية و إن كان الثاني فقد حارب و سعى في الأرض فسادا ـ مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغضب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله و رسوله و دينه أو يفتن مسلما عن دينه ـ فإن هذا قد حارب الله و رسوله بنقضه العهد ن و سعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم ن و هذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل و يصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده و رجله إن كان قد قطع الطريق و أخذ المال و لا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه و هو المطلوب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 393 ]
الوجه السادس : أن المحاربة خلاف المسالمة و المسالمة : أن يسلم كل من المتسالمين من أذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب
و معلوم أن محاربة الله و رسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله به و رسوله إذ المحاربة لذات الله و رسوله محال فمن سب الله و رسوله لم يسالم الله و رسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله مغالبة لله و رسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله و قد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية و قد تقدم في المسألة الأولى أن هذا الساب محاد لله و رسوله مشاق لله تعالى و رسوله و كل من شاق الله و رسوله فقد حارب الله و رسوله لأن المحاربة و المشاقة سواء فإن الحرب هو الشق و منه سمي المحراب محرابا و أما كونه مفسدا في الأرض فظاهر(3/285)
و اعلم أن كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دل على أنه محاربة لله و رسوله لأن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد و قد قدمنا في ذلك من الكلام ما لا يليق إعادته لما فيه من الإطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضع فبقي أنه سعى في الأرض فسادا و هذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن إظهار كلمة الكفر و الطعن في المرسلين و القدح في كتاب الله و دينه و رسوله و كل سب بينه و بين خلقه لا يكون [ شيء ] أشد منه فسادا و عامة الآي في كتاب الله التي تنهى عن الإفساد في الأرض فإن من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله و الذين آمنوا : { و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } قال تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 12 ] و إنما كان إفسادهم نفاقهم و كفرهم و قوله : { لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ] و قوله سبحانه : { و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و قوله : { و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف : 142 ] و إذا كان هذا محاربا لله و رسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية و شملته(3/286)
و مما يقرر الدلالة من الآية أن الناس فيها قسمان : منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد و ناقص عهد و نحوهما و منهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه و في غيره و لا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا إنها عامة قال كثير منهم قتادة و غيره : قوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] هذه لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين و هو لهم حرب فأخذ مالا أو أصاب دما ثم مات من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب أما المرتد و الناقض للعهد فمحاربته تارة باليد و باللسان أخرى و من زعم أن اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة ـ مع ما ذكرناه هنا ـ تدل على أنه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر أن السب محاربة و نقض للعهد
و اعلم أن هذه الآية آية جامعة لأنواع من المفسدين و الدلالة منها هنا ظاهرة قوية لمن تأملها لا أعلم شيئا يدفعها
فإن قيل : مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط أنه قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] و إنما يكون هذا فيمن كان ممتنعا و الشاتم ليس ممتنعا
قيل : الجواب من وجوه :
أحدها : أن المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجوز أن تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا و الممتنع إذا تاب بعد القدرة الثاني : أن كل من جاء تائبا قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه(3/287)
سئل عطاء عن الرجل يجيىء بالسرقة تائبا قال : ليس عليه قطع و قرأ { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] و كل من لم يؤخذ فهو ممتنع و لا سيما إذا لم يوجد و لم تقم عليه حجة و ذلك لأن الرجل و إن كان مقيما فيمكنه الاستخفاء و الهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل قد يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم إ ذا كان لا يواريه في الصحراء خمر و لا غابة بخلاف المقيم في المصر و قد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه و كل من تاب قبل أن يؤخذ و يرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه
و أيضا فإذا تاب قبل أن يعلم به و ثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة ـ و هو في أيدينا ـ قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة عليه قطعا
الثالث : ان المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا و قد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين و كما أن الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم و نحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل و إن الغالب ان القاطع بسيفه لإنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الذي يظهر الشتم و نحوه من الساب و نحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من أخذه و رفعه إلى السلطان و الشهادة عليه
و مما يقرر الاستدلال بالآية من وجهين آخرين :(3/288)
أحدهما : أنها قد نزلت في قوم ممن كفر و حارب بعد سلمة باتفاق الناس فيما علمناه و إن كانت نزلت أيضا فيمن حارب و هو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب ـ إما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها و نحو ذلك ـ يصير به محاربا و على هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه و إن كان هذا قد اختلف فيه فإن العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى و لا يجوز أن يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك و كذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا لأخذ مال و لو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة و كان قد قتله و له عهد كما لو قتله و هو مسلم(3/289)
و أيضا فقطع الطريق إما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فإن كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق و غيره من الأمور التي تضر المسلمين و حينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده ـ و هو القتل ـ إذا تاب بعد القدرة و إن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق و قد تقدم الدليل على فساده ثم إن الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم الثاني : أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة و بعدها لأن الحدود إذا رفعت إلى السلطان وجبت و لم يكن العفو عنها و لا الشفاعة بخلاف ما قبل الرفع و لأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار و التوبة بعد القدرة توبة إكراه و اضطرار بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق و توبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس و توبة من حضره الموت فقال : إني تبت الآن فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب و لأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقط الحد لتعطلت الحدود و انبثق سد الفساد فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فإنها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهد لها الشارع باعتبار في غير هذا الأصل فتكون أوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها و هي بعينها موجودة في الساب فيجب أن يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الأخذ لأن إسلامه توبة منه و كذلك توبة كل كافر قال سبحانه و تعالى : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة } [ التوبة : 5 ، 11 ] في موضعين و الحد قد وجب بالرفع و هذه توبة إكراه أو اضطرار و في قبولها تعطيل للحد و لا ينقض هذا علينا بتوبة الحربي الأصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية و لأنه إذا تاب بعد الأسر لم يخل سبيله بل يسترق و يستعبد و هو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام و الساب لم يكن عليه إلا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق و المرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية و لا يرد نقضا من جهة المعنى(3/290)
لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام و إنما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الإعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله و زال المحذور الذي يمكننا إزالته و إنما تعطيل هذا الحد أن يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام و لم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل مقصودنا و الساب و نحوه المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى و الضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الأخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده
و أما الأذى و الضرر فهو إفساد في الأرض قد مضى منه كالإفساد بقطع الطريق لم يزل إلا بتوبة اضطرار لم تطلب منه و لم يقتل ليفعل بل قوتل أولا ليبذل واحدا من الإسلام أو إعطاء الجزية طوعا أو كرها على أنه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق أن يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه و أسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه الطريقة الثانية : قوله سبحانه : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } الآيات [ التوبة : 12 ]
و قد قرأ ابن عامر و الحسن و عطاء و الضحاك و الأصمعي و غيرهم عن أبي عمرو : لا إيمان لهم بكسر الهمزة و هي قراءة مشهورة
و هذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان و لا يمين ثانية
أما على قراءة الأكثرين فإن قوله : { لا أيمان لهم } أي لا وفاء بالأيمان و معلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله : { و إن نكثوا أيمانهم } فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يعقد له عقد ثان أبدا(3/291)
و أما على قراءة ابن عامر فقد علم أن الإمام في الكفر ليس له إيمان و لم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } أبلغ في انتفاء الإيمان عنهم من قوله تعالى : { لا إيمان لهم } و أدل على علة الحكم و لكن يشبه ـ و الله أعلم ـ أن يكون المقصود أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الإيمان كما لم يوثق بما كان عقده من الأيمان لأن قوله تعالى : { لا إيمان } نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الإيمان عنهم مطلقا فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء و أنه يجب قتله و إن ظهر الإيمان
يؤيد ذلك أن كل كافر فإنه لا إيمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر ؟ فتخصيص هؤلاء بسلب الإيمان عنهم لا بد أن يكون له موجب و لا موجب له إلا نفيه مطلقا عنهم
و المعنى أن هؤلاء لا يرتجى إيمانهم فلا يستبقون و أنهم لو لم أظهروا إيمانا لم يكن صحيحا و هذا كما قال النبي عليه الصلاة و السلام : [ اقتلوا شيوخ المشركين و استبقوا شرخهم ] لأن الشيخ قد عسا في الكفر و كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصية لأمراء الأجناد شرحبيل بن حسنة و يزيد ابن أبي سفيان و عمرو بن العاص : ستلقون أقواما مجوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم و ذلك بأن الله تعالى قال : { قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون } و الله أصدق القائلين فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين أئمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه و لم يطعن في الدين أو طعن و لم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم إيمان(3/292)
يبين ذلك أنه قال : [ لعلهم ينتهون ] أي عن النقض و الطعن كما سنقرره و إنما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحيي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون
و مما يوضح ذلك أن ذلك أن هذه الآية قد قيل : إنها نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه و سلم و نكثوا ما كانوا أعطوا من العهود و الأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين و هموا بمعاونة الكفار و المنافقين على إخراج النبي عليه الصلاة و السلام من المدينة فأخبر أنهم بدأوا بالغدر و نكث العهد فأمر بقتالهم ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثلا مسألتنا سواء
و قد قيل : إنها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة
و قالت طائفة من العلماء : و براءة إنما بعد تبوك و بعد فتح مكة و لم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء و لم يبق قلة من الكفر إذا أظهروا النفاق
و يؤيد هذا قراءة مجاهد و الضحاك : [ نكثوا إيمانهم ] بكسر الهمزة فتكون دالة على أن من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام و طعن في الدين فإنه يقاتل و إنه يقاتل له قال : من نص هذه الآية قال : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ثم قال { و إن نكثوا إيمانهم } [ التوبة : 12 ] فعلم أن هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الإخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى : { لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة } [ اللتوبة : 10 ] و قوله تعالى : { كيف و إن يظهروا عليكم } الآية [ التوبة : 8 ] و قد تقدم أن الإيمان هي العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الإيمان و من نكث عهد الأيمان أنه إذا طعن في الدين قوتل و انه لا إيمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول و نحوه من المسلمين و أهل الذمة لا إيمان له و لا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك :(3/293)
فإن قيل : قد قيل قوله تعالى : { لا إيمان لهم } أي لا أمان لهم مصدر آمنت الرجل أو منه إيمانا ضد أخفته كما قال تعالى : { و آمنهم من خوف } [ قريش : 4 ]
قيل : إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بأنهم قد نقضوا العهد و إنما يقصد لا أمان لهم بحال في الزمان الحاضر و المستقبل و حينئذ فلا يجوز أن يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال
فإن قيل : إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل و قد قال بعدها : { و يتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ] فعلم أن اللتوبة منه مقبولة قبل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة و أخبر سبحانه أنه يعذبهم بأيدي المؤمنين و ينصر عليهم ثم من بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لأن ناقضي العهد إذا كانوا مممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود و لذلك قال : [ على من يشاء ] و إنما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم
يوضح ذلك أنه قال : { و يتوب الله } بالضم و هذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر و ذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم و لا هي حاصلة بقتالهم و إنما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث و الطعن و المضمون بقتالهم تعذيبهم و خزيهم و النصر عليهم و في ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل و يقاتل لأجلها
و يؤيد هذا أنه قال : { كيف يكون للمشركين عهد الله ـ إلى قوله ـ فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ـ ثم قال ـ { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] فذكر التوبة الموجبة للأخوة قبل أن يذكر نقض العهد و الطعن في الدين و جعل للمعاهد ثلاثة أحوال : أحدها : أن يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين(3/294)
الحالة الثانية : أن يتوب من الكفر و يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين و لهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب و توبته توجب تخليه سبيله و هنا الكلام في توبة المعاهد و قد كان سبيله مخلى و إنما توبته توجب أخوته في الدين قال سبحانه : { و نفصل الآيات لقوم يعلمون } [ التوبة : 11 ]
و ذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخليه سبيله إذا حاجته إنما هي إلى ذلك و جاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فأخوته الإيمانية تتوقف على ظهور دلائل الإيمان كما قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] و المعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلا التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة و لا يجوز إكراهه فتوبته دليل على أنه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا و المؤمنون إخوة فيكون أخا
الحالة الثالثة : أن ينكث يمينه بعد عهده و يطعن في ديننا فأمره بقتاله و بين أنه ليس له أيمان و لا إيمان و المقصود من قتاله أن ينهى عن النقض و الطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر و لم يكن قتاله جائزا فعلم أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله و إنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد و الطعن في الدين و ذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن و قتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به و يخذون و ينصر المؤمنين عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتافائها في الحال الأخرى(3/295)
و ذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة ـ بعد أن أمر بما يوجب تعذيبهم و خزيهم و شفاء الصدور منهم ـ دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام و للزم أن مثل هؤلاء لا يعذبون و لا يخزون و لاتشفي الصدور منهم و هو خلاف ما أمر به في الآية و قد صار هؤلاء الذين نقضوا العهد و طعنوا في الدين كمن ارتد و سفك الدماء فإن كان واحدا فلا بد من قتله و إن عاد إلى الإسلام و إن كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل و الله سبحانه أعلم
الطريقة الثالثة : قوله سبحانه : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن } [ النساء : 18 ] و قوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا : آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] و قوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل و أنا من المسلمين آلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين ؟ } [ يونس : 91 ] قوله تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس } [ يونس : 98 ]
و قد تقدم تقرير الدلالة من هذه الآيات في قتل المنافق و ذكرنا الفرق بين توبة الحربي و المرتد المجرد و توبة المانفق و المفسد من المعاهدين و نحوهما و فرقنا بين التوبة التي تدرأ العذاب و التوبة التي تنفع في المآب(3/296)
الطريقة الرابعة : قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } الآيات [ الأحزاب : 57 ] و قد قررنا فيما مضى أن هذه الآية تدل على قتل المؤذي من المسلمين مطلقا و هي تدل على قتل من أظهر الأذى من أهل الذمة لأن اللعنة المذكورة موجبة للقتل كما في تمام الكلام و قد تقدم تقرير هذا و قد ذكرنا ان قوله تعالى : { أولئك لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] نزلت في ابن الأشرف لما طعن في دين الإسلام و قد كان عاهد النبي صلى الله عليه و سلم فانتقض عهده بذلك و أخبر الله أنه ليس له نصير ليبين أن لا ذمة له إذ الذمي له نصر و النفاق له قسمان : نفاق المسلم استبطان الكفر و نفاق الذمي استبطان المحاربة و تكلم المسلم بالكفر كتكلم الذمي بالمحاربة فمن عاهدنا على أن لا يؤذي الله و رسوله ثم نافق بأذى الله و رسوله فهو من منافقي المعاهدين فمن لم ينته من هؤلاء المنافقين أغرى الله نبيه بهم فلا يجاورونه إلا قليلا { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } ففي الآية دلالتان
إحداهما : أن هذا ملعون و الملعون هو الذي يؤخذ أين وجد و يقتل فعلم أن قتله حتم لأنه لم يستثن حالا من الأحوال كما استثنى في سائر الصور و لأنه قال : { قتلوا } و هذا وعد من الله لنبيه يتضمن نصره و الله لا يخلف الميعاد فعلم أنه لا بد من تقتيلهم إذا أخذوا و لو سقط عنهم القتل بإظهار الإسلام لم يتحقق الوعد مطلقا
الثانية : أنه جعل انتهاءهم النافع قبل الأخذ و التقتيل كما جعل توبة المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم فعلم أنهم إن انتهوا عن إظهار النفاق من الأذى و نحوه النفاق في العهد و النفاق في العهد و النفاق في الدين و إلا أغراه الله بهم حتى لا يجارونه في البلد ملعونين يؤخذون و يقتلون و هذا الطاعن الساب لم ينته حتى أخذ فيجب قتله(3/297)
و فيها دلالة ثالثة و هو أن الذي يؤذي المؤمنين من مسلم أو معاهد إذا أخذ أقيم عليه حد ذلك الأذى و لم تدرأه عنه التوبة الآن فالذي يؤذي الله و رسوله بطريق الأولى لأن الآية تدل على أن حالة أقبح في الدنيا و الآخرة الطريقة الخامسة : أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام يقتل حدا من الحدود لا مجرد الكفر و كل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالإسلام
و هذا دليل مبني على مقدمتين :
إحداهما : أنه يقتل لخصوص سب رسول الله عليه الصلاة و السلام المستلزم للردة و نقض العهد و إن كان ذلك متضما للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة و مجرد نقض العهد في بعض المواضع و الدليل على ذلك أنه قد تقدم أن النبي عليه الصلاة و السلام أهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسبه عليه الصلاة و السلام عند الأعمى الذي كان يأوي إليها و لا يجوز ان يكون قتلها لمجرد نقض العهد لأن المرأة الذمية إذا انتقض عهدها فإنها تسترق و لا يجوز قتلها و لا يجوز قتل المرأة للكفر الأصلي إلا أن تقاتل و هذه المرأة لم تكن تقاتل و لم تكن معينة على قتال كما تقدم ثم إنها لو كانت تقاتل ثم أسرت صارت رقيقة و لم تقتل عند كثير من الفقهاء منهم الشافعي لا سيما إذا كانت رقيقة فإن قتلها يمتنع لكونها امرأة و لكونها رقيقة لمسلم فثبت أن قتلها كان لخصوص السب للنبي عليه الصلاة و السلام و أنه جناية من الجنايات الموجبة للقتل كما لو زنت المرأة الذمية أو قطعت الطريق على المسلمين أو قتلت مسلما أو كما لو بدلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرأة بل هذا أبلغ أنه ليس في قتل المرتدة من السنة المأثورة الخاصة في كتب السنن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابة الذمية(3/298)
يوضح ذلك أن بني قريظة نقضوا العهد و نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم و تسبى الذرية من النساء و الصبيان فقال النبي عليه الصلاة و السلام : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ]
ثم قتل النبي صلى الله عليه و سلم الرجال و استرق النساء و الذرية و لم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين ففرق رسول الله عليه الصلاة و السلام بين الذرية التي لم يثبت في حقهم إلا مجرد انتقاض العهد و بين الذرية الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين
و هذه المرأة الذمية لم ينقض عهدها بأنها لحقت بدار الحرب و امتنعت عن المسلمين و إنما نقضت العهد بأن ضرت المسلمين و آذت الله و رسوله و سعت في الأرض فسادا بالصد عن سبيل الله و الطعن في دين الله كما فعلت المرأة الملقية للرحى فعلم أنها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد و هي لم تكن مسلمة حتى يقال : إنها قتلت للردة و لا هي أيضا بمنزلة امرأة قاتلت ثم أسرت حتى يقال : تصير رقيقة بنفس السبى لا تقتل أو يقال : يجوز قتلها كما يجوز قتل الرجل فإذا أسلمت عصم الإسلام الدم و بقيت رقيقة لوجهين :
أحدهما : أن هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن [ تقوله ] للمشركين و لا لعموم المسلمين حتى يقال : هو بمنزلة إعانة الكفار على القتال من كل وجه
الثاني : أنها لم تكن ممتنعة حين السب بل هي حين السب ممكنة مقدور عليها و حالها قبله و بعده سواء(3/299)
فالسب و إن كان حرابا لكنه لم يصدر من ممتنعه أسرت بعد ذلك بل من امرأة ملتزمة للحكم بيننا و بينها العهد على الذمة و معلوم أن السب من الأمور المضرة بالمسلمين و أنه من أبلغ الفساد في الأرض لما فيه من ذل الإيمان و عز الكفر و إذا ثبت أنها لم يقتل للكفر و لا لنقض العهد و لا لحراب أصلي متقدم على القدرة عليها ثبت ان قتلها حد من الحدود و القتل الواجب حدا لا لمجرد الكفر لا يسقط بالإسلام كحد الزاني و القاطع و القاتل و غيرهم من المفسدين
و مما يقرر الأمر ان السب إما أن يكون حرابا أو جناية مفسدة ليست حرابا فإن كان حرابا فهو حراب من ذمي أو من مسلم و سعي في الأرض فسادا و الذمي إذا حارب و سعى في الأرض فسادا وجب قتله و إن أسلم بعد القدرة عليه حيث يكون حرابا موجبا للقتل و حراب هذه المرأة موجب للقتل كما جاءت به السنة و إن كانت جناية مفسدة ليست حرابا ـ و هي موجبة للقتل ـ قتلت أيضا بعد الأخذ بطريق الأولى كسائر الجنايات الموجبة للقتل و هذا كلام مقرر و مداره على حرف واحد و هو أن السب و إن كان من أعمال اللسان فقد دلت السنة بأنه بمنزلة الفساد و المحاربة بعمل الجوارح و أشد و لذلك قتلت هذه المرأة
و تمام ذلك ان قياس مذهب من يقول : [ إن الساب إذا قتل إنما يقتل لأنه نقض العهد ] أن لا يجوز قتل هذه بل لو كانت قد قاتلت باليد و اللسان ثم أخذت لم تقتل عنده فإذا دلت السنة على فساد هذا القول علم صحة القول الآخر إذ لا ثالث بينهما و لا ريب عند أحد أن من قتل لحدث أخذ به أوجب نقض عهده و لم يقتل لمجرد أن انتقض عهده فقط فإن قتله لا يسقط بالإسلام لأن فساد ذلك الحديث لا يزول بالإسلام(3/300)
ألا ترى أن الجنايات الناقضة للعهد ـ مثل قطع الطريق و قتل المسلم و التجسس على المسلمين و الزنا بمسلمة و استكراهها على الفجور و نحو ذلك ـ إذا صدر من ذمي فمن قتله لنقض العهد قال : [ متى أسلم لم آخذه إلا بما يوجب القتل إذا فعله المسلم باقيا على إسلامه مثل أن يكون قد قتل في قطع الطريق فأقتله أو زنى فأحده أو قتل مسلما فأقيده لأنه بالإسلام صار بمنزلة المسلمين فلا يقتل كفرا ]
و من قال : [ أقتله لمحاربة الله و رسوله و سعيه في الأرض فسادا ] قال : أقتله و إن أسلم و تاب بعد أخذه كما أقتل المسلم إذا حارب ثم تاب بعد القدرة لأن الإسلام الطارئ لا يسقط الحدود الواجبة قبله لآدمي بحال و إن منع ابتداء وجوبها كما لو قتل ذمي ذميا أو قذفه ثم أسلم فإن حده لا يسقط و لو قتله أو قذفه ابتداء
لم يجب عليه قود و لا حد و لا يسقط ما كان منها لله إذا تاب بعد القدرة كما لو قتل في قطع الطريق فإنه لا يسقط عنه بالإسلام وفاقا فيما أعلم
و كذلك لو زنى ثم أسلم فإن حده القتل الذي كان يجب عليه قبل الإسلام عند أحمد و عند الشافعي حده حد المسلم فحد السب إن كان حقا لآدمي لم يسقط بالإسلام و إن كان حقا لله فليس هو حدا على الكفر الطارئ و المحاربة الأصلية كما دلت عليه السنة و لا على مجرد الكفر الأصلي بالاتفاق فيكون حد الله على محاربة موجبة كقتل المرأة و كل قتل وجب حدا على محاربة ذمية لم يسقط بالإسلام بعد القدرة بالاتفاق فإن الذمية إذا لم تقتل في المحاربة لم يقتلها من يقول : [ قتل الذمي المحارب إنما هو لنقض العهد ] و من قتلها كما دلت عليه السنة فلا فرق عنده في هذا الباب بين أن تسلم بعد القدرة أو لا تسلم(3/301)
و اعلم أن من قال : [ إن هذه الذمية تقتل فإذا أسلمت سقط عنها القتل ] لم يجد هذا في الأصول نظير أن الذمية تقتل و هي في أيدينا و يسقط عنها القتل بالإسلام بعد الأخذ و لا أصلا يدل على المسألة و الحكم إذا لم يثبت بأصل و لا نظير كان تحكما من قال [ إنها تقتل بكل حال ] فله نظير نقيس به و هو المحاربة باليد و الزانية و نحوهما
الطريقة السادسة : الاستدلال من قتل بنت مروان و هو كالاستدلال من هذه القصة لأنا قد قدمنا أنها كانت من المهادنين الموادعين و إنما قتلت للسب خاصة و التقرير كما تقدم
الطريقة السابعة : أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : [ من لكعب بن الأشراف فإنه قد آذى الله و رسوله ] و قد كان معاهدا قبل ذلك ثم هجا رسول الله عليه الصلاة و السلام و قتله الصحابة غلية بأمر رسول الله عليه الصلاة و السلام مع كونه قد أمنهم على دمه و ماله باعتقاده بقاء العهد و لأنهم جاءوه مجيء من قد آمنه و لو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا آمنهم كما تقدم لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمانا و كذلك كل من يجوز أمانه فعلم أن هجاءه للنبي عليه الصلاة و السلام و أذاه لله تعالى و رسوله لا ينعقد معه أمان و لا عهد و ذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق إذ ذلك يقتل و إن أمن كما يقتل الزاني و المرتد و إن أومن و كل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقا
الطريقة الثامنة : أنه قد دل هذا الحديث على أن أذى الله و رسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد فيكون ذلك علة أخرى غير مجرد الكفر و الردة فإن ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على أنه علة و الأذى لله و رسوله يوجب القتل و يوجب نقض العهد و يوجب الردة(3/302)
يوضح ذلك أن أذى الله و رسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الأخص عديم التأثير فلما علل قتله بالوصف الأخص علم أنه مؤثر في الأمر بقتله لا سيما في كلام من أوتى جوامع الكلم و إذا كان المؤثر في قتله أذى الله و رسوله وجب قتله و إن تاب كما ذكرناه فيمن سب النبي عليه الصلاة و السلام من المسلمين فإن كليهما أوجب قتله أنه آذى الله و رسوله وهو مقر للمسلمين بأن لا يفعل ذلك فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط بالتوبة سقطت عنهما و لأنه قال سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ]
و قال في خصوص هذا المؤذي : { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] و قد أسلفنا أن هذه اللعنة توجب القتل إذا أخذ و لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله و رسوله ثم قال : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ]
و لا خلاف علمناه أن الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة فالذين يؤذون الله و رسوله أحق و أولى لأن القرآن قد بين أن هؤلاء أسوا حالا في الدنيا و الآخرة فلو اسقطنا عنهم العقوبة بالتوبة لكانوا أحسن حالا
و ليس للمنازع هنا إلا كلمة واحدة و هو أن يقول : [ هذا قد تغلظت عقوبته بالقتل لأنه نوع من المرتدين و ناقض العهد و الكافر تقبل توبته من الكفر و تسقط عنه العقوبة بخلاف المؤذي بالفسق ](3/303)
فيقال له : هذا لو كان الموجب لقتله إنما هو الكفر و قد دلت السنة على أن الموجب لقتله إنما هو أذى الله و رسوله و هذا أخص من عموم الكفر و كما أن الزنا و السرقة و الشرب و قطع الطريق أخص من عموم المعصية و الشارع رتب الأمر بالقتل على هذا الوصف الأخص الذي نسبته إلى سائر أنواع الكفر نسبه أذى المؤمنين إلى سائر أنواع المعاصي فإلحاق هذا النوع بسائر الأنواع جمع بين ما فرق الله و رسوله و هو من القياس الفاسد كقياس الذين قالوا : [ إنما البيع مثل الربا ] و إنما الواجب أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الأسماء و الصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها و تغليظ عقوبته ابتداء لا يوجب تخفيفها انتهاء بل يوجب تغلظ مطلقا إذا كان الجرم عظيما و سائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداء و الانتهاء مثل هذا فإنه يجوز إقرارهم بجزية و استرقاقهم في الجملة و يجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب و هذا بخلاف ذلك
و أيضا فإن الموجب لقتله إذا كان هو أذى الله و رسوله كان محاربا لله و رسوله و ساعيا في الأرض فسادا و قد أومأ النبي عليه الصلاة و السلام إلى ذلك في حديث ابن الأشرف كما تقدم و هذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة مالم يرتب على غيره من أنواع الكفر و حتمت عقوبة صاحبه إلا أن يتوب قبل القدرة(3/304)
الطريقة التاسعة : أنا قد قدمنا عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه أهدر عام الفتح دماء نسوة لأجل أنهن كن يؤذينه بألسنتهن منهن القينتان لابن خطل اللتان كانتا تغنيان بهجائه و مولاة لبني عبد المطلب كانت تؤذيه و بينا بيانا واضحا أنهن لم يقتلن لأجل حراب و لا قتال و إنما قتلن لمجرد السب و بينا أن سبهن لم يجري مجرى قتالهن بل كان أغلظ لأن النبي عليه الصلاة و السلام آمن عام الفتح المقاتلة كلهم إلا من له جرم خاص يوجب قتله و لأن سبهن كان متقدما على الفتح و لا يجوز قتل المرأة في بعض الغزوات لأجل قتال متقدم منها قد كفت عنه و أمسكت في هذه الغزوة و بينا بيانا و اضحا أن قتل هؤلاء النسوة أدل شيء على قتل المرأة السابة من مسلمة و معاهدة و هو دليل قوي على جواز قتل السابة و إن تابت من وجوه :
أحدها : ان هذه المرأة الكافرة لم تقتل لأجل أنها مرتدة و لا لأجل أنها مقاتلة كما تقدم فلم يبقى ما يوجب قتلها إلا أنها مفسدة في الأرض محاربة لله و رسوله و هذه يجوز قتلها بعد التوبة إذا كان قتلها جائزا قبلها بالكتاب و السنة و الاجماع
الثاني : أن سب أولئك النسوة إما أن يكون حرابا او جناية موجبة للقتل غير الحراب إذ قتلهن لمجرد الكفر غير جائز كما تقدم فإن كان حرابا فالذمي إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا يجب قتله في كل حال كما دل عليه القرآن و إن كان جناية أخرى مبيحة للدم فهو أولى و أحرى و قد قدمنا فيما مضى ما يبين أن هؤلاء النسوة لم يقتلن لحراب كان موجودا منهن في غزوة الفتح و إنما قتلن جزاء على الجرم الماضي نكالا عن مثله و هذا يبين أن قتلهن بمنزلة قتل أصحاب الحدود من المسلمين و المعاهدين(3/305)
الثالث : أن اثنتين منهن قتلتا و الثالثة أخفيت حتى استئمن لها النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك فآمنها لأنه كان له أن يعفو عمن سبه كما تقدم و له أن يقتله و لم يعصم دم أحد ممن أهدر دمه عام الفتح إلا آمانه فعلم أن مجرد الإسلام لم يعصم دم هذه المرأة و إنما عصم دمها عفوه
و بالجملة فقصة قتله لأولئك النسوة من أقوى ما يدل على جواز قتل السابة بكل حال فإن المرأة الحربية لا يبيح قتلها إلا قتالها و إذا قاتلت ثم تركت القتال في غزوة أخرى و استسلمت و انقادت لم يجز قتلها في هذه المرة الثانية و مع هذا فالنبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتلهن
و للحديث و جهان :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان عاهد أهل مكة و الظاهر أن عهده انتظم الكف عن الأذى باللسان فإن في كثير من الحديث ما يدل على ذلك و حينئذ فهؤلاء اللواتي هجونه نقضن العهد نقضا خاصا بهجائهن فكان للنبي عليه الصلاة و السلام قتلهن بذلك و إن تبن و هذه ترجمة المسألة
الثاني : أنه كان له أن يقتل من هجاه إذا لم يتب حتى قدر عليه و إن كان حربيا لكن سقط هذا كما يسقط بموته العفو عن المسلم و الذمي الساب و يكون قد كان أمر الساب هو مخير فيه مطلقا لكونه أعلم بالمصلحة فإذا مات تحتم قتل من التزم أن لا يسب و كان الحربي الساب كغيره من الحربيين إذا تاب
و هذا الوجه ضعيف فإنه إثبات حكم باحتمال و الأول جار على القياس و من تأمل قصة الذين أهدرت دماؤهم عام الفتح علم أنهم كلهم كانوا محاربين لله و رسوله ساعين في الأرض فسادا
الطريقة العاشرة : أنه صلى الله عليه و سلم أمر في حال و احدة بقتل جماعة مما كان يؤذيه بالسب و الهجاء مع عفوه عمن كان أشد منهم في الكفر و المحاربة بالنفس و المال فقتل عقبة بن أبي معيط صبرا بالصفراء و كذلك النضر بن الحارث لما كانا يؤذيانه و يفتريان عليه و يطعنان فيه مع استبقائه عامة الأسرى(3/306)
و قد تقدم أنه قال : يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بكفرك و افترائك على رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و معلوم أن مجرد الكفر يبيح القتل فعلم أن الافتراء على النبي صلى الله عليه و سلم سبب أخر أخص من عموم الكفر موجب للقتل فحيث ما وجد وجد معه وجوب القتل و أهدر عام الفتح دم الحويرث ابن نقيذ و دم أبي سفيان بن الحارث و دم ابن الزبعري و أهدر بعد ذلك دم كعب بن زهير و غيرهم لأنهم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و دم من ارتد و حارب و آذى الله و رسوله مع أمانه لجميع الذين حاربوا و نقضوا عهده فعلم أن أذاه سبب منفرد بإباحة القتل وراء الكفر و الحراب بالأنفس و الأموال كقطع الطريق و قتل النفس(3/307)
و قد تقدم ما كان يأمر به و يقر عليه إذا بلغه و ما كان يحرض عليه المسلمين من قتل الساب دون غيره من الكافرين حتى إنه لا يحقن دم الساب إلا عفوه بعد ذلك فعلم أنه كان يلحق الساب بذوي الأفعال الموجبة للقتل من قطع الطريق و نحوه و هذا ظاهر لمن تأمله فيما مضى من الأحاديث و ما لم نذكره هذا يوجب قتل فاعله من مسلم و معاهد و إن تاب بعد القدرة و إذا ضم هذا الوجه إلى الذي قبله و علم أن الأذى وحده سبب يوجب القتل لا لكونه من جنس القتال لأن النبي عليه الصلاة و السلام قد آمن الذين قاتلوه بالأنفس و الأموال من الرجال فأمان المرأة االتي أتت بما يشبه القتال أولى لو كان جرمها من جنس القتال و لأن المرأة إذا قاتلت في غزوة من الغزوات ثم غزا المسلمون غزوة و علموا أنها لم تقاتل فيها بيد و لا لسان لم يجز قتلها عند أحد من المسلمين علمناه و هؤلاء النسوة كان أذاهن متقدما على فتح مكة ن و لم يكن لهن في غزوة الفتح مكعرة بيد و لا لسان بل كن مستسلمات منقادات لو علمن أن إظهار الإسلام يعصم دماءهن لبادرن إلى إظهاره فهل يعتقد أحد أن هذه المرأة تقتل لكونها محاربة خصوصا عند الشافعي فإن منصوصه أن قتل المرأة و الصبي إذا قاتلا بمنزلة قتل الصائل من المسلمين يقصد به دفعهما و إن أفضصى إلى قتلهما فإذا انكفا بدون القتل كأسر أو ترك للقتال و نحو ذلك لم يجز قتلهما كما لا يجوز قتل الصائل
و إذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر بقتل من كان يؤذيه و يهجوه من النساء و قد تركن ذلك و استسلمنا و ربما كن يوددن أن يظهرن الإسلام إن كان عاصما و قد آمن المقاتلين كلهم و علم أن السب سبب مستقل موجب يحل دم كل أحد و إن تركه ذلة و عجز
يؤيد ذلك أن النبي عليه الصلاة و السلام آمن أهل مكة إلا من قاتل إلا هؤلاء النفر فإنه أمر بقتلهم قاتلوا أو لم يقاتلوا فعلم أن هؤلاء النسوة قتلن لأجل السب لا لأجل أنهن يقاتلن(3/308)
الطريقة الحادي عشرة : أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد و افترى على النبي صلى الله عليه و سلم أنه يلقنه الوحي و يكتب له ما يريد فأهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمه و نذر رجل من المسلمين ليقتلنه ثم حبسه عثمان أياما حتى اطمأن أهل مكة ثم جاء تائبا ليبايع عليه الصلاة و السلام و يؤمنه فصمت رسول الله عليه الصلاة و السلام طويلا رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله و يوفي بنذره
ففي هذا دلالة على أن المفتري على النبي عليه الصلاة و السلام الطاعن عليه قد كان له أن يقتله و أن دمه مباح و إن جاء تائبا من كفره و فريته لأن قتله لو كان حراما لم يقل النبي عليه الصلاة و السلام ما قال و لا قال للرجل : [ هلا وفيت نذرك بقتله ]
و لا خلاف بين المسلمين علمناه أن الكافر إذا جاء تائبا مريدا للاسلام مظهرا لذلك لم يجز قتله لذلك و لا فرق في ذلك بين الأصلي و المرتد إلا ما ذكرناه من الخلاف الشاذ في المرتد مع أن هذا الحديث يبطل ذلك الخلاف بل لو جاء الكافر طالبا لأن يعرض عليه الإسلام و يقرأعليه القرآن لوجب أمانه لذلك
قال الله تعالى : { و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } [ التوبة : 6 ]
و قال تعالى في المشركين : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و اتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ]
و عبد الله بن سعد إنما جاء تائبا ملتزما لإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة بل جاء بعد أن أسلم كما تقدم ذكر ذلك ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم بين أنه كان مريدا لقتله و قال للقوم : [ هلا قام بعضكم إليه ليقتله ] و [ و هلا وفيت بنذرك في قتله ] فعلم أنه قد كان جائزا له أن يقتل من يفتري عليه و يؤذيه من الكفار و إن جاء مظهرا للإسلام و التوبة بعد القدرة عليه و في ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه و أذاه يجوز له قتل فاعله و 'ن أظهر الإسلام و التوبة(3/309)
و مما يشبه هذا إعراضه عن أبي سفيان بن الحارث و ابن أبي أمية و قد جاءا مهاجرين يريدان الإسلام أو قد أسلما و علل ذلك بأنهما كانا يؤذيانه و يقعان في عرضه مع أنه لا خلاف علمناه أن الحربي إذا جاء يريد الإسلام و جبت المسرعة إلى قبوله منه و كان الاستئناء به حراما و قد عده بعض الناس كفرا
و قد كانت سيرته صلى الله عليه و سلم في المسرعة إلى قبول الإسلام من كل من أظهره و تأليف الناس عليه بالأموال و غيرها أشهر من أن يوصف فلما أبطأ عن هذين و أراد أن لا يلتفت إليهما البتة علم أنه كان له أن يعاقب من كان يؤذيه و يسبه و إن أسلم و هاجر و أن لا يقبل منه من الإسلام و التوبة ما يقبل من الكفر الذي لم يكن يؤذيه و في هذا دلالة على أن السب وحده موجب للعقوبة
يوضح ذلك ما ذكره أهل المغازي أن علي بن أبي طالب قال لأبي سفيان ابن الحارث : ائت رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : { تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين } [ يوسف : 91 ] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين } [ يوسف : 92 ]
ففي هذا دلالة على أن ماله من عرضه كان له أن يعاقب عليه و أن يعفو في الجب و بيعه للسيارة و لكن لكرمه عفا صلى الله عليه و سلم و لو كان الإسلام يسقط حقه بالكلية كما يسقط حقوق الله لم يتوجه شيء من هذا
و قد تقدم تقرير هذا الوجه في أول الكتاب و بينا أنه نص في جواز قتل المرتد الساب بعده إسلامه فلذلك قتل الساب المعاهد لأن المأخذ واحد(3/310)
و مما يوضحه أن المسلمين قد كان استقر عندهم أن الكفر الحربي إذا أظهر الإسلام حرم عليهم قتله لا سيما عند السابقين الأولين مثل عثمان بن عفان و نحوه و قد علموا قوله تعالى : { و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } [ النساء : 94 ] و قصة أسامة بن زيد و حديث المقداد فلما كان ألئك الذين أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمائهم : منهم من قتل و منهم من أخفى حتى اطمأن أهل مكة و طلب من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبايعه دل على أن عثمان رضي الله عنه و غيره من المسلمين علموا أن إظهار عبد الله بن سعد بن أبي سرح و نحوه الإسلام لا يحقن دماءهم دون أن يؤمنهم النبي صلى الله عليه و سلم و إلا فقد كان يمكنهم أن يأمروهم بإظهار الإسلام و الخروج من أول يوم
و الظاهر ـ و الله أعلم ـ أنهم قد كانوا أسلموا و إنما تأخرت بيعتهم للنبي عليه الصلاة و السلام و ذلك دليل على أنه قد كان للنبي عليه الصلاة و السلام قتلهم لأجل سبه مع إظهار التوبة
و قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة و كذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي عليه الصلاة و السلام بمر الظهران
و هذا الذي ذكروه نص في المسألة و هو أشبه بالحق فإن النبي عليه الصلاة و السلام لما نزل بمر الظهران شعرت به قريش حينئذ و ابن أبي سرح قد علم ذنبه فيكون قد أسلم حينئذ و لما بلغه أن النبي عليه الصلاة و السلام قد أهدر دمه تغيب حتى استؤمن له و الحديث لمن تأمله دليل على أن النبي عليه الصلاة و السلام كان له أن يقتله و أن يؤمنه و أن الإسلام وحده لم يعصم دمه حتى عفا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم(3/311)
فمن ذلك أن عثمان جاء ليشفع له إلى النبي صلى الله عليه و سلم فصمت عنه رسول الله عليه الصلاة و السلام طويلا و أعرض عنه مرة بعد مرة و كان عثمان يأتيه من كل وجهة و هو يعرض عنه رجاء أن يقوم بعضهم فيقتله و عثمان في ذلك يكب على النبي عليه الصلاة و السلام يقبل رأسه و يطلب منه أن يبايعه و يذكر أن لأمه عليه حقوقا حتى استحيى النبي عليه الصلاة و السلام من عثمان فقضى حاجته ببيعته مع أنه كان يود أن لا يفعل فعلم أن قتله كان حقا له أن يعفو عنه و يقبل فيه شفاعة شافع و له أن لا يفعل و لو كان ممن يعصم الإسلام دمه لم يحتج إلى شافع و لم يجز رد الشفاعة(3/312)
و منها : أن عثمان لما قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إنه يفر منك قال : [ ألم أبايعه و أومنه ] قال : بلى و لكنه يتذكر عظيم جرمه فقال : [ الإسلام يجب ما قبله ] و في هذا بيان لأن خوفه من النبي عليه الصلاة و السلام أن يقتله إنما زال بأمانه و بيعته لا لمجرد الإسلام فعلم أن الإسلام يمحو إثم السب و أما سقوط القتل فلا يحصل بمجرد الإسلام لأن النبي عليه الصلاة و السلام أزال خوفه من القتل بالأمان و أزال خوفه من الذنب بالإسلام و مما يدل على أن الأنبياء لهم أن يعاقبوا من آذاهم بالهلاك و أن أظهر التوبة و الندم ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل أن قارون كان يؤذي موسى ـ و كان ابن عمه ـ فبلغ من أذاه إياه أن قال لامرأة بغي : إذا اجتمع الناس عندي غدا فتعالي و قولي : 'ن موسى راودني عن نفسي فلما كان الغد و اجتمع الناس جاءت فسارت قارون ثم قالت للناس : إن قارون قال لي كذا و كذا و إن موسى لم يقل لي شيئا من هذا فبلغ موسى عليه الصلاة و السلام و هو قائم يصلي في المحراب فخر ساجدا فقال : أي رب إن قارون قد آذاني و فعل و فعل و بلغ من أذاه إياي أن قال ما قال فأوحى الله إلى موسى : أن يا موسى إني قد أمرت الأرض أن تعطيك و كان لقارون غرفة قد ضرب عليها صفائح الذهب فأتاه موسى و معه جلساؤه فقال لقارون : قد بلغ من أذاك أن قلت كذا و كذا يا أرض خذيهم فأخذتهم الأرض إلى أكعبهم فهتفوا : يا موسى ادع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك و نتبعك و نطيعك فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أنصاف سوقهم فهتفوا و قالوا : يا موسى آدع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك و نتبعك و نطيعك فقال : يا أرض خذيهم [ فأخذتهم ] إلى ركبهم فلم يقول : يا أرض خذيهم حتى تطابقت عليهم و هم يهتفون فأوحى الله يا موسى ما أفظك !
أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخصلتهم(3/313)
و رواه عبد الرزاق قال : ثنا جعفر بن سليمان ثنا علي بن زيد بن جدعان فذكره أبسط من هذا و فيه أن المرأة قالت : إن قارون بعث إلي فقال : هل لك إلى أن أمولك و أعطيك و أخطبك بنسائي على أن تأتيني و املأ من بني إسرائيل عندي تقولين : يا قارون ألا تنهى موسى عن أذاي
و إني لم أحد اليوم توبة أفضل من أن أكذب عدو الله و أبرئ رسول الله قال : فنكس قارون رأسه و عرف أنه قد هلك و فشا الحديث في الناس حتى بلغ موسى صلى الله عليه و سلم و كان موسى صلى الله عليه و سلم شديد الغضب فلما بلغه ذلك توضأ فسجد و بكى و قال : يا رب عدوك قارون كان لي مؤذيا فذكر أشياء ثم لم يتناه حتى أراد فضيحتي يا رب فسلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك قال : فجاء موسى يمشي إلى قارون فلما رآه قارون عرف الغضب في وجهه فقال : يا موسى ارحمني فقال موسى : يا أرض خذيهم فاضطربت داره و خسف به و بأصحابه إلى ركبهم و ساخت داره على قدر ذلك و جعل يقول : يا موسى ارحمني و يقول موسى : يا أرض خذيهم و ذكر القصة
فهذه القصة مع أن النبي عليه الصلاة و السلام قال لابن مسعود لما بلغه قول القائل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله : [ دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ]
فهذا ـ مع ما ذكرناه من أحوال النبي عليه الصلاة و السلام ـ دليل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم و سلامه لهم أن يعاقبوا من آذاهم و إن تاب و لهم أن يعفوا عنه كما ذلك لغيرهم من البشر لكن لهم أن يعاقبوا من يؤذيهم بالقتل و الإهلاك و ليس لغيرهم أن يعاقبه بمثل ذلك(3/314)
و ذلك دليل على أن عقوبة مؤذيهم حد من الحدود لا لمجرد الكفر فإن عقوبة الكافر تسقط بالتوبة بلا ريب و قارون قد كان تاب في وقت تنفع فيه التوبة و لهذا في الحديث : [ أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخصلتهم ] و في لفظ [ لرحمتهم النبي عليه الصلاة و السلام و إنما كان يرحمهم سبحانه و الله أعلم بأن يستطيب نفس موسى من أذاهم كما يستوهب المظالم لمن رحمه من عباده ممن هي له و يعوضه منها
الطريق الثانية عشرة : ما تقدم من حديث أنسبن زنيم الديلي الذي ذكر عنه أنه هجا النبي عليه الصلاة و السلام ثم جاءه و أنشده قصيدة تتضمن إسلامه و براءته مما قيل عنه و كان معاهدا فتوقف النبي عليه الصلاة و السلام فيه و جعل يسأل العفو عنه حتى عفا عنه فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد جائزة لما توقف النبي صلى الله عليه و سلم في حقن دمه و لا احتاج إلى العفو عنه و لولا أن للرسول الله صلى الله عليه و سلم حقا يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه كما لم يكن يعفو عمن أسلم و لا تبعة عليه و حديثه لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه و سلم من المعاهدين ثم أسلم(3/315)
كما أن حديث ابن أبي سرح دليل واضح على جواز قتل من سبه مرتدا ثم أسلم و ذلك أنه لما بلغه أنه هجاه و قد كان مهادنا موادعا و كان العهد الذي بينهم يتضمن الكف عن إظهار أذاه و كان على ما قيل عنه قد هجاه قبل أن يقتل بنو بكر خزاعة قبل أن ينقضوا العهد فلذلك ندر النبي صلى الله عليه و سلم دمه ثم أنشد قصيدة يتضمن أنه مسلم يقول فيها : [ تعلم رسول الله ] و : [ هبني رسول الله ] و ينكر فيها أن يكون هجاه و يدعو على نفسه بذهاب اليد إن كان هجاه و ينسب الذين شهدوا عليه إلى الكذب وبلغت رسول الله صلى الله عليه و سلم قصيدته و اعتذاره قبل أن يجيء إليه و شفع له كبير قبيلته نوفل بن معاوية و كان نوفل هذا هو الذي نقض العهد و قال : يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو و من منا لم يعادك و يؤذك و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع حتى هدانا الله بك و أنقذنا بك عن الهلك و قد كذب عليه الركب و كثروا عندك فقال : [ دع الركب عنك فإنا لم تجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب و لا بعيد كان أبر من خزاعة ] فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قد عفوت عنه ] قال نوفل : فداك أبي و أمي(3/316)
فلو كان الإسلام المتقدم قد عصم دمه لم يحتج إلى العفو كما لم يحتج إليه من أسلم و لا حد عليه و لكان قال : الإسلام يجب ما قبله كما قاله لغيره من الحربيين كما يقول له من يقول : ألا نقتل هذا بعد إسلامه ؟ فيقول : [ الإسلام يجب ما قبله ] و صاحب الشريعة بين أن ما أسقط قتله عفوه و ذلك أن قوله [ عفوت عنه ] إما أن يكون أفاده سقوط ما كان أهدره من دمه أو لم يفده ذلك فإن لم يفده فلا معنى لقوله [ عفوت عنه ] و إن كان قد أفاده سقط ذلك الإهدار فقبل ذلك لو قتله بعض المسلمين بعد أن أسلم و قبل أن عفا عنه النبي صلى الله عليه و سلم لكان جائزا لأنه متبع لأمر رسول الله عليه الصلاة و السلام بقتله أمرا مطلقا إلى حين عفا عنه كما أن أمره بقتل ابن أبي سرح كان باقيا حكمه إلى أن عفا عنه و لذلك عتبهم إذ لم يقتلوه قبل عفوه و هذا بين من هذه الأحاديث بيانا واضحا و لو كان عند المسلمين أن من هجاه من معاهد ثم أسلم عصم دمه لكان نوفل و غيره من المسلمين علموا ذلك و قالوا له كما قالوا لكعب بن زهير و نحوه ممن هجاه و هو حربي : إنه لا يقتل من جاءه مسلما ألا ترى أنهم لم يظهروه لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى عفا عنه كما لم يظهروا ابن أبي سرح حتى عفا عنه بخلاف كعب بن زهير و ابن الزبعرى فإنهما جاءا بأنفسهما لثقتهما بأنه لا يمكن قتل الحربي إذا جاء مسلما و إمكان أن يقتل الذمي الساب و إن جاءا مسلمين و إن كانا قد أسلما ثم إنه في قصيدته قال :
( فإني لا عرضا خرقت و لا دما ... هرقت ففكر عالم الحق و اقصد )
فجمع بين خرق العرض و سفك الدم فعلم أنه مما يؤخذ به و إن أسلم و لولا أن قتله كان ممكنا بعد إسلامه لم يحتج إلى هذا الإنكار و الاعتذار(3/317)
و يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يندر دم واحد بعينه من بني بكر الناقضي العهد إلا هذا مع أنهم فعلوا تلك الأفاعيل فعلم أن خرق عرضه كان أعظم من نقض العهد بالمقاتلة و المحاربة باليد و قد تقدم الحديث بدلالته و إنما نبهنا عليه هنا إحالة على ما مضى
الطريقة الثالثة عشرة : أنه قد تقدم أنه كان له عليه الصلاة و السلام أن يقتل من اغلظ له و آذاه و كان له أن يعفو عنه فلو كان المؤذي له إنما يقتل للردة لم يجز العفو عنه قبل التوبة و إذا كان هذا حقا له فلا فرق فيه بين المسلم و الذمي فإنه قد أهدر دم من آذاه من أهل الذمة و قد تقدم أن ذلك لم يكن لمجرد نقض العهد فعلم أنه كان لأذاه و إذا كان له أن يقتل من آذاه و سبه من مسلم و معاهد و له أن يعفو عنه علم أنه بمنزلة القصاص وحد القذف و تعزير السب كغير الأنبياء من البشر و إذا كان كذلك لم يسقط عن مسلم و لا معاهد بالتوبة كما لا تسقط هذه الحدود بالتوبة و هذه طريقة قوية و ذلك أنه إذا كان صلى الله عليه و سلم قد أباح الله له أن يعفو عنه كان المغلب في هذا الحد حقه بمنزلة سب غيره من البشر إلا أن حد سابه القتل وحد ساب غيره الجلد و إذا كان المغلب حقه و كان الأمر في حياته مفوضا إلى اختياره لينال بالعفو علي الدرجات تارة و يقيم بالعقوبة من الحدود ما ينال به أيضا علي الدرجات فإنه صلى الله عليه و سلم نبي الرحمة و نبي الملحمة و هو الضحوك القتال و الذمي قد عاهده على أن لا يخرق عرضه و هو لو أصاب لواحد من المسلمين أو المعاهدين حقا من دم أو مال أو عرض ثم أسلم لم يسقط عنه فأولى أن لا يسقط عنه هذا(3/318)
و إذ قد قدمنا أن قتله لم يكن لمجرد نقض العهد و إنما كان لخصوص السب و إذا كان يجوز له أن يقتل هذا الساب بعد مجيئه مسلما و له أن يعفو عنه فبعد موته تعذر العفو عنه و تمحضت العقوبة حقا لله سبحانه فوجب استيفاؤها على ما لا يخفى : إذ القول بجواز عفو أحد عن هذا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم يفضي إلى أن يكون الإمام مخيرا بين قتل هذا و استبقائه و هو قول لم نعلم له قائلا ثم إنه خلاف قواعد الشريعة و أصولها و قد تقدم فيما مضى الفرق بين حال حياته و حال مماته
الطريقة الرابعة عشرة : أنه قد تقدم الحديث المرفوع إن كان ثابتا [ من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] فأمر بالقتل مطلقا كما أمر بالجلد مطلقا فعلم أن السب للنبي عليه الصلاة و السلام موجب بنفسه للقتل كما أن سب غيره موجب للجلد و أن ذلك عقوبة شرعية على السب و كما لا يسقط هذا الجلد بالتوبة بعد القدرة فكذلك لا يسقط هذا القتل
الطريقة الخامسة عشرة : أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أفعالهم
فمن ذلك : أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي ربيعة في المرأة التي غنت بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم [ لو لا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر ] فأخبره أبو بكر أنه لولا الفوت لأمره بقتلها من غير استتابة و لا استيناء حال توبة مع أن غالب من تقدم ليقتل على مثل هذا يبادر إلى التوبة أو الإسلام إذا علم أنه يدرأعنه القتل و لم يستفصله الصديق عن السابة : هل هي مسلمة أو ذمية ؟ بل ذكر أن القتل حد من سب الأنبياء و أن حدهم ليس كحد غيرهم مع أنه فصل في المرأة التي غنت بهجاء المسلمين بين أن تكون مسلمة أو ذمية
و هذا ظاهر في أن عقوبة الساب حد للنبي واجب عليه له أن يعفو عنها في بعض الأحوال و أن يستوفيها في بعض الأحوال كما أن عقوبة ساب غيره حد له واجب على الساب(3/319)
و قوله : [ فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد ] ليس فيه دلالة على قبول توبته لأن الردة جنس تحتها أنواع : منها ما تقبل فيه التوبة و منها ما لا تقبل كما تقدم التنبيه على هذا و لعله أن تكون لنا إليه عودة و إنما غرضه أن يبين الأصل الذي يبيح دم هذا و كذلك قوله : [ فهو محارب غادر ] فإن المحارب الغادر جنس يباح دمه ثم منهم من يقتل و إن أسلم كما لو حارب بقطع الطريق أو باستكراه مسلمة على الزنا و نحو ذلك
قال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض كفسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } الأية [ المائدة : 33 ] ثم إنه لم يرفع العقوبة إلا إذا تابوا قبل القدرة عليهم و قد قدمنا أن هذا محارب مفسد فيدخل في هذه الآية
و عن مجاهد قال : أتي عمر برجل يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتله ثم قال عمر : [ من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه ]
هذا مع أن سيرته في المرتد أنه يستتاب ثلاثا و يطعم كل يوم رغيفا لعله يتوب فإذا أمر بقتل هذا من غير استتابة علم أن جرمه اغلظ عنده من جرم المرتد المجرد فيكون جرم سابه من أهل العهد أغلظ من جرم من اقتصر على نقض العهد لا سيما و قد أمر بقتله مطلقا من غير ثنيا
و كذلك المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها خالد بن الوليد و لم يستتبها دليل على أنها ليست كالمرتدة المجردة
و كذلك حديث محمد بن مسلمة لما حلف ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا و طلبه لقتله بعد ذلك مدة طويلة و لم ينكر المسلمون ذلك عليه مع أنه لو قتله لمجرد الردة لكان قد عاد إلى الإسلام بما أتى به بعد ذلك من الشهادتين و الصلوات و لم يقتل حتى يستتاب(3/320)
و كذلك قول ابن عباس في الذمي يرمي أمهات المؤمنين [ إنه لا توبة له ] نص في هذا المعنى و هذه القضايا قد اشتهرت و لم يبلغنا أن أحدا أنكر شيئا من ذلك ـ كما أنكر عمر رضي الله عنه قتل المرتد الذي لم يستتب و كما أنكر ابن عباس رضي الله عنهما تحريق الزنادقة و أخبر أن حدهم القتل ـ فعلم أنه كان مستفيضا بينهم أن حد الساب أن يقتل إلا ما روي عن ابن عباس : [ من سب نبيا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن تاب و إلا قتل ]
و هذا في سب يتضمن جحد نبوة نبي من الأنبياء فإنه يتضمن تكذيب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا ريب أن من قال عن بعض الأنبياء إنه ليس بنبي و سبه بناء على أنه ليس بنبي فهذه ردة محضة و يتعين حمل حديث ابن عباس على هذا أو نحوه إن كان محفوظا عنه لأنه أخبر أن قاذف أمهات المؤمنين لا توبة له فكيف تكون حرمتهن لأجل سب رسول الله صلى الله عليه و سلم أعظم من حرمة نبي معروف مذكور في القرآن ؟(3/321)
الطريقة السادسة عشرة : أن الله سبحانه و تعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه و سلم على القلب و اللسان و الجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب و اللسان و الجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه و حرم سبحانه لحرمة رسوله ـ مما يباح أن يفعل مع غيره ـ أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته فمن ذلك : أنه أمر بالصلاة عليه و التسليم بعد أن أخبر أن الله و ملائكته يصلون عليه و الصلاة تتضمن ثناء الله عليه و دعاء الخير له و قربته منه و رحمته له و السلام عليه يتضمن سلامته من كل آفة فقد جمعت الصلاة عليه و التسليم جميع الخيرات ثم إنه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة واحدة حضا للناس على الصلاة عليه ليسعدوا بذلك و ليرحمهم الله بها و من ذلك : أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن حقه أن يحب أن يؤثره العطشان بالماء و الجائع بالطعام و أنه يحب أن يوقى بالأنفس و الأموال كما قال سبحانه و تعالى : { ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } [ التوبة : 120 ]
فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المشقة معه حرام(3/322)
و قال تعالى مخاطبا للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر و الجهاد : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيرا } [ الأحزاب : 21 ] و من حقه : أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه و ولده و جميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه : { قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم ـ إلى قوله ـ أحب إليكم من الله و رسوله } الآية [ التوبة : 24 ] مع الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فأنت و الله يا رسول الله أحب إلي من نفسي قال : الآن يا عمر و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين ] متفق عليه
و من ذلك : أن الله أمر بتعزيره فقال : { و تعزروه و توقروه } [ الفتح : 9 ] و التعزير : اسم جامع لنصره و تأييده و منعه من كل ما يؤذيه و التوقير : اسم جامع لكل ما فيه سكينة و طمأنينة من الإجلال و الإكرام و أن يعامل من التشريف و التكريم و التعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار(3/323)
و من ذلك : أنه خصه في المخاطبة بما يليق به فقال : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } [ النور : 63 ] فنهى أن يقولوا : يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم و لكن يقولوا : يل رسول الله يا نبي الله و كيف لا يخاطبونه بذلك و الله سبحانه و تعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء فلم يدعه باسمه في القرآن قط بل يقول : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها } [ الأحزاب : 28 ] { يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين } [ الأحزاب : 59 ] { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } [ الأحزاب : 50 ] { يا أيها النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا } [ الأحزاب : 45 ] { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] { يا أيها المزمل قم الليل } [ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر قم فأنذر } [ المدثر : 1 ] { يا أيها النبي حسبك الله } [ الأنفال : 64 ] مع أنه سبحانه قد قال : { و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك } الآية [ البقرة : 25 ] { يا آدم أنبئهم بأسمائهم } [ البقرة : 33 ] { يا نوح إنه ليس من أهلك } [ هود : 46 ] { يا إبراهيم أعرض عن هذا } [ هود : 76 ] { يا موسى إني اصطفيتك على الناس } [ الأعراف : 144 ] { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } [ ص : 26 ] { يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك و على والدتك } [ المائدة : 110 ](3/324)
و من ذلك : أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن و حرم رفع الصوت فوق صوته و أن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل و أخبر أن ذلك سبب حبوط العمل فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر لأن العمل لا يحبط إلا به و أخبر أن الذين يغضون أصواتهم عنده هم الذين امتحنت قلوبهم للتقوى و أن الله يغفر لهم و يرحمهم و أخبر أن الذين ينادونه و هو في منزله لا يعقلون لكونهم رفعوا أصواتهم عليه و لكونهم لم يصبروا حتى يخرج و لكن أزعجوه إلى الخروج
و من ذلك : أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا تمييزا له مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما } [ الأحزاب : 53 ]
و أوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه و جعلهن أمهات في التحريم و الأحترام فقال سبحانه و تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ]
و أما ما أوجبه من طاعته و الانقياد لأمره و التأسي بفعله فهذا باب واسع لكن ذاك قد يقال : هو من لوازم الرسالة و إنما الغرض هنا أن ننبه على بعض ما أوجبه الله له من الحقوق الواجبة و المحرمة مما يزيد على لوازم الرسالة بحيث يجوز أن يبعث الله رسولا و لا يوجب له هذه الحقوق
و من كرامته المتعلقة بالقول : أنه فرق بين أذاه و أذى المؤمنين فقال تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ]
و قد تقدم أن في هذه الآية ما يدل على أن حد من سبه القتل كما أن حد من سب غيره الجلد(3/325)
و من ذلك : أن الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه و لا تصح للأمة خطبة و لا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده و رسوله و أوجب ذكره في كل خطبة و في الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام و في الأذان الذي هو شعار الإسلام و في الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع
هذا إلى خصائص له أخر يطول تعدادها
و إذا كان كذلك فمعلوم أن سابه و منتقصه قد ناقض الإيمان به و ناقض تعزيزه و توقيره و ناقض رفع ذكره و ناقض الصلاة عليه و التسليم و ناقض تشريفه في الدعاء و الخطاب بل قابل أفضل الخلق بما لا يقابل به أشر الخلق
و يوضح ذلك أن مجرد إعراضه عن الإيمان به يبيح الدم مع عدم العهد و إعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة فهذا بمجرد سكوته عن تشريفه و تكريمه و تعظيمه فإذا أتى بضد ذلك من الذم و السب و الانتقاص و الاستخفاف فلابد أن يوجب ذلك زيادة على الدم و العقاب فإن مقادير العقوبات على مقادير الجرائم ألا ترى أن الرجل لو قتل رجلا اعتباطا لكان عقوبته القود و هو التسليم إلى و لي المقتول فإن انضم إلى ذلك قتله لأخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل فإن انضم إلى ذلك أخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب و عوقب عند بعض العلماء أيضا بقطع اليد و الرجل حتما مع أن أخذ المال سرقة لا يوجب إلا قطع اليد فقط و كذلك لو قذف عبدا أو ذميا أو فاجرا لم يجب عليه إلا التعزيز فلو قذف حرا مسلما عفيفا لوجب عليه الحد التام فلو قيل : [ إنه لا يجب عليه مع ذلك إلا ما يجب على من ترك الإيمان به أو ترك العهد الذي بيننا و بينه ] لسوى بين الساكت عن ذمه و سبه و المبالغ في ذلك و هذا غير جائز كما أنه غير جائز التسوية بين الساكت عن مدحه و الصلاة عليه و المبالغ في ذلك و لزم في ذلك أن لا يكون لخصوص سبه و ذمه و أذاه عقوبة مع أنه من أعظم الجرائم و هذا باطل قطعا(3/326)
و معلوم أن لا عقوبة فوق القتل ثم [ ليس ] سوى الزيادة على ذلك إلا تعين قتله و تحتمه تاب أو لم يتب كحد قاطع الطريق إذ لا يعلم أحد وجب أن يجلد لخصوص السب ثم يقتل للكفر إذا كانت العقوبة لخصوص السب كانت حدا من الحدود و هذه مناسبة ظاهرة قد دل على صحتها دلالات النصوص السالفة من كون السب موجبا للقتل و العلة إذا ثبتت بالنص أو بالإيماء لم يحتج إلى أصل يقاس عليه الفرع و بهذا يظهر أنا لم نجعل خصوص السب موجبا للقتل إلا بما دل عليه من الكتاب و السنة و الأثر لا بمجرد الاستحسان و الاستصلاح كما زعمه من لم يحظ بمآخذ الأحكام على أن الأصل الذي يقاس به هذا الفرع ثابت و هو :(3/327)
الطريقة السابعة عشرة : و ذلك أنا وجدنا الأصول التي دل عليها الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة حكمت في المرتد و ناقض العهد حكمين فمن لم يصدر منه إلا مجرد الردة أو مجرد نقض العهد ثم عاد إلى الإسلام عصم دمه كما دل عليه كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد تقدم ذكر بعض ما يدل على ذلك في المرتد و هو ناقض العهد أيضا موجود بقوله في بعض من نقض العهد { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } [ التوبة : 27 ] و بأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل إسلام من أسلم من بني بكر و كانوا قد نقضوا العهد و عدوا على خزاعة فقتلوهم و قبل إسلام قريش الذين أعانوهم على قتال المسلمين حتى انتقض عهدهم في حصره لقريظة و النضير مذكور أنهم لو أسلموا لكف عنهم و قد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم و أموالهم منهم ثعلبة بن سعية و أسد بن سعية و أسد بن عبيد أسلموا في الليلة التي نزل فيها بنو قريظة على حكم رسول الله عليه الصلاة و السلام و خبره مشهور و من تغلظت ردته أو نقضه بما يضر المسلمين إذا عاد إلى الإسلام لم تسقط عنه العقوبة مطلقا بل يقتل إذا كان جنس ما فعله موجبا للقتل أو يعاقب بما دونه إن لم يكن كذلك كما دل عليه قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } الآية [ المائدة : 33 ] و كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في قصة ابن أبي سرح و ابن زينم و في قصة ابن خطل و قصة مقيس بن صبابة و قصة العرنييين و غيرهم و كما دل عليه الأصول المقررة(3/328)
فإن الرجل إذا اقترن بردته قطع طريق أو قتل مسلم أو زنا أو غير ذلك ثم رجع إلى الإسلام أخذت منه الحدود و كذلك لو اقترن بنقض عهده الإضرار بالمسلمين من قطع الطريق أو قتل مسلم أو زنا بمسلمة فإن الحدود تستوفى منه بعد الإسلام : إما الحد الذي يجب على المسلم لو فعل ذلك أو الحد الذي كان واجبا قبل الإسلام و هذا الرجل الساب قد وجد منه قدر زائد على مجرد نقض العهد كما قدمناه في الإضرار بالمسلم الذي صار به أغلظ جرما من مجرد ناقض العهد أو فعل ما هو أعظم من أكثر الأمور المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده أذى المسلمين في دم أو مال أو عرض و أشد إذا كان كذلك فإسلامه لا يزيل عنه عقوبة هذا الإضرار كما دلت عليه الأصول في مثله و عقوبة هذا الإضرار قد قد ثبت أنه القتل بالنص و الإسلام الطارئ لا يمنع ابتداء هذه العقوبة فإن المسلم لو ابتدأ بمثل هذا قتل قتلا يسقط بالتوبة كما تقدم
و إذا لم يمنع الإسلام ابتداءها فأن لا يمنع بقاءها و دوامها أولى و أحرى لأن الدوام و البقاء أقوى من الأبتداء و الحدوث في الحسيات و العقليات و الحكميات
ألا ترى أن العدة الإحرام و الردة تمنع ابتداء النكاح و لا تمنع دوامه و الإسلام يمنع ابتداء وجوب القود وحد القذف على المسلم إذا قتل أو قذف ذميا و لا يمنع دوامه عليه إذا أسلم بعد القتل و القذف
و لو فرض أن الإسلام يمنع ابتداء قتل هذا فلا يجب أن يسقط القتل بإسلامه لأن الدوام أقوى من الابتداء و جاز أن يكون بمنزلة القود و حد القذف فإن الإسلام يمنع ابتداءه دون دوامه لا سيما و السب فيه حق لآدمي ميت و فيه جناية متعلقة بعموم المسلمين فهو مثل القتل في المحاربة ليس حقا لمعين و إذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من المحاربين المفسدين(3/329)
يحقق ذلك أن الذمي إذا قطع الطريق و قتل مسلما فهو يعتقد في دينه جواز قتل المسلم و آخذ ماله و إنما حرمه عليه العهد الذي بيننا و بينه كما أنه يعتقد جواز السب في دينه و إنما حرمه عليه العهد و قطع الطريق قد يفعل استحلالا و قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض كما أن سب الرسول قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض فهو مثله من كل وجه إلا أن مفسدة ذلك في الدنيا و مفسدة هذا في الدين و هي أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله العالمين به و بأمره فإذا أسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه إظهار اعتقاد تحريم دم المسلم و ماله مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد و كذلك إذا أسلم الساب فقد تجدد إظهار اعتقاد تحريم عرض الرسول مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد فإذا كان هناك يجب قتله بعد إسلامه فكذلك يجب قتله هنا بعد إسلامه و يجب أن يقال : إذا كان ذلك لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة فكذلك هذا لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة
و من أمعن النظر لم يسترب في أن هذا محارب نفسد كما أن قاطع الطريق محارب مفسد(3/330)
و لا يرد على هذا سب الله تعالى : لأن أحدا من البشر لا يسبه اعتقادا إلا بما يراه تعظيما و إجلالا كزعم أهل التثليث أن له صاحبه و ولدا فإنهم يعتقدون أن هذا من تعظيمه و التقرب إليه و من سبه لا على هذا الوجه فالقول فيه كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين ـ و هو المختار كما سنقرره ـ و من فرق قال : إنه تعالى لا تلحقه غضاضة و لا انتقاص بذلك و لا يكاد أحد يفعل ذلك أصلا إلا أنم يكون وقت غضب و نحو ذلك بخلاف سب الرسول فإنه يسبه ـ انتقاصا له و استخفافا به ـ سبا يصدر عن اعتقاد و قصد إهانة و هو من جنس تلحقه الغضاضة و يقصد بذلك و قد يسب تشفيا و غيظا و ربما حل منه في النفوس خبائل و نفر عنه بذلك خلائق و لا تزول نفرتهم عنه بإظهار التوبة كما لا تزول مفسدة الزنا و قطع الطريق و نحو ذلك بإظهار التوبة و كما لا يزول العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه بخلاف سب الرسول
فإن قيل : قد تكون زيادة العقوبة على مجرد الناقض للعهد تحتم قتله ما دام كافرا بخلاف غيره من الكافرين فإن عقد الأمان و الهدنة و الذمة و استرقاقهم و المن عليهم و المفاداة بهم جائز في الجملة فإذا أتى مع حل دمه لنقض العهد أو لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه و هكذا الجواب عن المواضع التي قتل النبي عليه الصلاة و السلام فيها من سبه أو أمر بقتله أو أمر أصحابه بذلك فإنها تدل على أن الساب يقتل و إن لم يقتل من هو مثله من الكافرين
و كذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام ليهود في قصة ابن الأشرف : [ إنه لوقر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف ](3/331)
و إذا كان كذلك فيكون القتل وجب لأمرين : للكفر و لتغلظه بالسب كما يجب قتل المرتد للكفر و لتغلظه بترك الدين الحق و الخروج منه فمتى زال الكفر زال الموجب للذم فلم يستقل بقاء أثر السب بإحلال الدم و تبع الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول فإنه فرع للكفر و نوع منه فإذا زال الأصل زالت جميع فروعه و أنواعه
و هذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي الإسلام بناء على أن السب فرع للردة و نوع منها و قد لا يمكن : لأنه يتجدد من هذا بعد السب ما لم يكن موجودا حال السب بخلاف الكافر
قلنا : و هذا أيضا دليل علىأن قتل الساب حد من الحدود فإنه قد تقدم أنه يجب قتله إن كان معاهدا و لا يجوز استبقاؤه بعد السب بأمان و لا استرقاق و لو كان إنما يقتل لكونه كافرا محاربا لجاز أمانه و استرقاقه و المفاداة به فلما كان جزاؤه القتل علم أن قتله حد من الحدود و ليس بمنزلة قتل سائر الكفار
و من تأمل الأدلة الشرعية نصوصها و مقاييسها ـ مما ذكرناه و مما لم نذكره ـ ثم ظن بعد هذا أن قتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد كقتل الأسير فليس على بصيرة من أمره و لا ثقة من رأيه
و ليس هذا من المسالك المحتملة بل من مسالك القطع فإن من تأمل دلالات الكتاب و السنه و ما كان عليه سلف الأمة و ما توجبه الأصول الشرعية علم قطعا أن للسب تأثيرا في سفح الدم زائدا على تأثير مجرد الكفر الخالي عن عهد
نعم قد يقال : هو مقتول بمجموع الأمرين بناء على أن كفر الساب نوع مغلظ لا يحتمل الاستبقاء ككفر المرتد فيكون مقتولا لكفره و سبه و يكون القتل حدا بمعنى أنه يجب إقامته ثم يزول موجبه بالتوبة كقتل المرتد فهذا ليس بمساغ لكن فيما تقدم ما يضعف هذا الوجه و مع هذا فإنه لا يقدح في كون قتل الساب حدا من الحدود وجب لما في خصوص ظهور سب الرسول من المفسدة
و إنما يبقى أن يقال : هذا الحد هل يسقط بالإسلام أم لا ؟(3/332)
فنقول : جميع ما ذكرناه من الدلالات و إن دلت على وجوب قتله بعد إظهار التوبة فهي دالة على أن قتله حد من الحدود و ليس بمجرد الكفر و هي دالة على هذا بطريق القطع لما ذكرناه من تفريق الكتاب و السنة و الإجماع بين من اقتصر على الكفر الأصلي أو الطارئ أو نقض العهد و بين من سب الرسول من هؤلاء و إذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق إلا أن يكون حدا و إذا ثبت أنه يقتل لخصوص السب لكونه حدا من الحدود ـ لا لعموم كونه كافرا غير ذي عهد أو لعموم كونه مرتدا ـ فيجب أن لا يسقط بالتوبة و الإسلام لأن الإسلام و التوبة لا يسقطان شيئا من الحدود الواجبة قبل ذلك إذا كانت التوبة بعد الثبوت و الرفع إلى الإمام بالاتفاق
و قد دل القرآن على أن حد قاطع الطريق و الزاني و السارق و القاذف لا يسقط بالتوبة بعد التمكن من إقامة الحد
و دلت السنة على مثل ذلك في الزاني و غيره و لم يختلف المسلمون فيما علمناه أن المسلم إذا زنى أو سرق أو قطع الطريق أو شرب الخمر فرفع إلى السلطان و ثبت عليه الحد ببينة ثم تاب من ذلك أنه تجب إقامة الحد عليه إلا أن يظن أحد في ذلك خلافا شاذا لا يعتد به فهذه حدود الله و كذلك لو وجب عليه قصاص أو حد أو قذف أو عقوبة سب لمسلم أو معاهد ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة و كذلك أيضا لم يختلفوا فيما علمناه أمن الذمي لو وجب عليه حد قطع الطريق أو حد السرقة أو قصاص أو حد قذف أو تعزير ثم أسلم و تاب من ذلك لم يسقط عنه ذلك و كذلك أيضا لو زنى فإنه إذا وجب عليه حد الزنا ثم أسلم لم يسقط عنه بل يقام عليه حد الزنا عند من يقول بوجوبه قبل الإسلام و يقتل حتما عند الإمام أحمد إن كان زنا نقض عهده(3/333)
هذا مع [ أن ] الاسلام يجب ما قبله و التوبة تجب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه مع إقامة الحد عليه تطهيرا له و تنكيلا للناس عن مثل تلك الجريمة فتحصل بإقامة الحد المصلحة العامة ـ و هي زجر الملتزمين للاسلام أو الصغار عن مثل ذلك الفساد ـ فإنه لو لم يقم الحد عند إظهار التوبة لم يتأت إقامة حد في الغالب فإنه لا يشاء المفسد في الأرض إذا أخذ أن يظهر التوبة إلا أظهرها و أوشك كل من هم بعظيمة من العظائم من الأقوال أو الأفعال أن يرتكبها ثم إذ أحيط به قال : إني تائب
و معلوم أن ذلك لو درأ الحد الواجب لتعطلت الحدود و ظهر الفساد في البر و البحر و لم يكن في شرع العقوبات و الحدود كثير مصلحة و هذا ظاهر لا خفاء به
ثم الجاني لو تاب توبة نصوحا فتلك نافعة فيما بينه و بين الله يغفر له ما سلف و يكون الحد تطهيرا و تكفيرا لسيئته و هو من تمام التوبة كما قال ماعز ابن مالك للنبي صلى الله عليه و سلم : [ طهرني ] و قد جاء تائبا و قال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطأ : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله و كان الله عليما حكيما } [ النساء : 92 ] و قال تعالى في كفارة الظهار : { ذلكم توعظون به } [ المجادلة : 3 ]
فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين :
مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة و هي أهم المصلحتين فإن الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء و إنما كمال الجزاء في الآخرة و إنما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر و النكال و إن كان فيها مقاصد آخر كما أن غالب مقصود العدة براءة الرحم و إن كان فيها مقاصد أخر و لهذا كانت هذه المصلحة مقصودة في كل عقوبة مشروعة
و المصلحة الثانية : تطهير الجاني و تكفير خطيئته إن كان له عند الله خير أو عقوبة و الانتقام منه إن لم يكن كذلك و قد يكون زيادة في ثوابه و رفعة في درجاته(3/334)
و نظير ذلك المصائب المقدرة في النفس و الأهل و المال فإنها تارة تكون كفارة و طهورا و تارة تكون زيادة في الثواب و علوا في الدرجات و تارة تكون عقابا و انتقاما
لكن إذا تاب الإنسان سرا فإن الله يقبل توبته سرا و يغفر له من غير إحواج له إلى أن يظهر ذنبه حتى يقام حده عليه أما إذا أعلن الفساد بحيث يراه الناس و يسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان أو اعترف به هو عند السلطان فإنه لا يطهره ـ مع التوبة بعد القدرة ـ إلا إقامته منه عليه إلا أن في التوبة ـ إذا كان الحد لله و ثبت بإقراره ـ خلافا سنذكره إن شاء الله تعالى و لهذا قال عليه الصلاة و السلام : [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] و قال النبي عليه الصلاة و السلام لما شفع إليه في السارقة : [ تطهر خيرا لها ] و قال : [ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ] و قال : [ من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدو لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ]
إذا تبين ذلك فنقول : هذا الذي أظهر سب رسول الله عليه الصلاة و السلام من مسلم و معاهد قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت ـ مع الكفر ونقض العهد ـ أذى الله و رسوله و انتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين و الوقيعة في عرض لا يساوي غيره من الأعراض و الطعن في صفات الله و أفعاله و في دين الله و كتابه و جميع أنبيائه و المؤمنين من عباده فإن الطعن في واحد من الأنبياء طعن في جميع الأنبياء كما قال سبحانه و تعالى : { أولئك هم الكافرون حقا } [ النساء : 151 ] و طعن في من آمن بنبينا من الأنبياء و المؤمنين المتقدمين و المتأخرين و قد تقدم تقرير هذا
ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد إيمانه أو أمانه أنه لا يفعل ذلك فإذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما تقدم ـ امتنع أن يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم أيضا
ثم هنا مسلكان :(3/335)
المسلك الأول ـ و هو مسلك طائفة من أصحابنا و غيرهم ـ أن يقتل حدا لله كما يقتل لقطع الطريق و للردة و للكفر لأن السب للرسول عليه الصلاة و السلام قد تعلق به حق الله و حق كل مؤمن فإن أذاه ليس مقصورا على رسول الله عليه الصلاة و السلام فقط كمن يسب واحدا من عرض الناس بل هو أذى لكل مؤمن كان و يكون بل هو عندهم من أبلغ أنواع الأذى و يود كل مؤمن منهم أن يفتدى هذا العرض بنفسه و أهله و عرضه و ماله كما تقدم ذكره عن الصحابة من أنهم كانوا يبذولون دماءهم في صون عرضه و كان رسول الله عليه الصلاة و السلام يمدح من فعل ذلك سواء قتل أو غلب و يسميه ناصرا لله و رسوله و لو لم يكن السب أعظم من قتل بعض المسلمين لما جاز بذل الدم في درئه كما لا يجوز بذل الدم في صون عرض واحد من الناس و قد قال حسان بن ثابت يخاطب أبا سفيان بن الحارث :
( هجوت محمدا فأجبت عنه ... و عند الله في ذاك الجزاء )
( فإن أبي و والدتي و عرضي ... لعرض محمد منكم وقاء )
و ذلك أنه انتهاك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا و الآخرة و بها ينالها كل واحد سواهم و بها يقام دين الله و يرضى الله عن عباده و يحصل ما يحبه و ينتفي ما يبغضه كما أن قاطع الطريق و إن قتل واحدا فإن مفسدة قطع الطريق تعم جميع الناس فلم يفوض الأمر فيه إلى ولي المقتول(3/336)
نعم كان الأمر في حياة النبي عليه الصلاة و السلام مفوضا إليه فيمن سبه : إن أحب عفا عنه و إن أحب عاقبه و إن كان في سبه حق الله و لجميع المؤمنين لأن الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا لحق العبد كما ذكرناه في القصاص و حقوق الآدميين تابعة لحق الرسول فإنه أولى بهم من أنفسهم و لأن في ذلك تمكينه صلى الله عليه و سلم من أخذ العفو و الأمر بالعرف و الإعراض عن الجاهلين الذي أمره الله تعالى به في كتابه و تمكينه من العفو و الإصلاح الذي يستحق به أن يكون أجره على الله و تمكينه من أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة كما أمره الله و تمكينه من استعطاف النفوس و تأليف القلوب على الإيمان و إجتماع الخلق عليه و تمكينه من تركم التنفير عن الإيمان و ما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء الساب من المفسدة كما دل عليه قوله تعالى : { و لو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم و شاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ]
و قد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم نفس هذه الحكمة حيث قال : [ أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] و قال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة : [ رجوت أن يؤمن بذلك ألف من قومه ] فحقق الله رجاءه و لو عاقب كل من آذاه بالقتل لخامر القلوب ـ عقدا أو وسوسة ـ أن ذلك لما في النفس من حب الشرف و أنه من باب غضب الملوك و قتلهم على ذلك و لو يبح له عقوبته لا تنهك العرض و استبيحت الحرمة و انحل رباط الدين و ضعفت العقيدة في حرمة النبوة فجعل الله له الأمرين(3/337)
فلما انقلب إلى رضوان الله و كرامته و لم يبق واحد مخصوص من الخلق إليه استيفاء هذه العقوبة و العفو عنها و الحق فيها ثابت لله سبحانه و رسول الله عليه الصلاة و السلام و لعباده المؤمنين و علم كل ذي عقل أن المسلمين إنما يقتلونه لحفظ الدين و حفظ حمى الرسول و وقاية عرضه فقط ـ كما يقتلون قاطع الطريق لأمن الطرقات من المفسدين و كما يقطعون السارق لحفظ الأموال و كما يقتلون المرتد صونا للداخلين في الدين من الخروج عنه ـ و لم يبق هنا توهم مقصود جزوي كما قد كان في زمانه أن قتل الساب كذلك و تقرير ذلك بالساب له من المسلمين فإنه قد كان له أن يعفو عنه مع أنه لا يحل للأمة إلا إراقة دمه فحاصله أنه في حياته قد غلب في هذه الجناية حقه ليتمكن من الاستيفاء و العفو و بعد موته فهي جناية على الدين مطلقا ليس لها من يمكنه العفو عنها فوجب استيفاؤها و هذا مسلك خير لمن يدبر غوره
ثم هنا تقريران : أحدهما : أن يقال : الساب من جنس المحارب المفسد و قد تقدم في ذلك زيادة بيان و مما يؤيده أنه سبحانه و تعالى قال : { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } [ المائدة : 32 ] فعلم أن كل ما أوجب القتل حقا لله كان فسادا في الأرض و إلا لم يبح
و هذا السب قد أباح الدم فهو فساد في الأرض و هو أيضا محاربة لله و رسوله على ما لا يخفى لأن المحاربة هنا ـ و الله أعلم ـ إنما عني بها المحاربة بعد المسالمة لأن المحاربة الأصلية لم يدخل حكمها في هذه الآية و سبب نزولها إنما كان فعل مرتد وناقض عهد فعلم أنهما جميعا دخلا فيها و هذا قد حارب بعد المسالمة و أفسد في الأرض فتعين إقامة الحد عليه(3/338)
الثاني : أن يكون السب جناية من الجنايات الموجبة للقتل كالزنا و إن لم يكن حرابا كحراب قاطع الطريق فإن من الفساد ما يوجب القتل و إن لم يكن حرابا و هذا فساد قد أوجب القتل فلا يسقط بالتوبة كغيره من أنواع الفساد إذ لا يستثنى من ذلك إلا القتل للكفر الأصلي أو الطارىء و قد قدمنا أن هذا القتل ليس هو كقتل سائر الكفار
فإن قيل : فإذا كان السب حدا لله فيجب أن يسقط بالإسلام كما يسقط حد المرتد بالإسلام و كما يسقط قتل الكافر بالإسلام و ذلك أن مجرد تسميته حدا لا يمنع سقوطه بالتوبة أو بالإسلام فإن قتل المرتد حد فإن الفقهاء يقولون : [ باب حد المرتد ] ثم إنه يسقط بالإسلام ثم إن هذا أمر لفظي لا تناط به الأحكام و إنما تناط بالمعاني و كل عقوبة لمجرم فهي حد من حيث تزجره و تمنعه من تلك الجريمة و إن لم تسم حدا لكن لا ريب أنه إنما يقتل للكفر و السب و السب لا يمكن تجريده عن الكفر و المحاربة حتى يفرض ساب قد وجب قتله و هو مؤمن أو معاهد باق على عهده كما يفرض مثل ذلك في الزاني و السارق و القاذف فإن أولئك وجبت عقوباتهم لتلك الجرائم و هي قبل الإسلام و بعده سواء و هذا إنما وجب عقوبته بجرم هو من فروع الكفر و أنواعه فإذا زال الأصل تبعته فروعه فيكون الموجب للقتل أنه كافر محارب و أنه مؤذ لله و لرسوله كما قال النبي عليه الصلاة و السلام لعقبة بن أبي معيط لما قال [ مالي أقتل من بينكم صبرا ] ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ بكفرك و افترائك على رسول الله ] و العلة إذا كانت ذات وصفين زال الحكم بزوال أحدهما
و نحن قد نسلم أنه يتحتم قتله إذا كان ذميا كما يتحتم قتل المرتد لتغلظ كفر بأذى الله و رسوله كتغلظ كفر المرتد بترك الدين لكن الإسلام يسقط كل حد تعلق بالكفر كما يسقط حد المرتد فلم ألحقتم هذا الحد بقاطع الطريق و الزاني و السارق و لم تلحقوه بالمرتد ؟ فهذا نكتة هذا الموضع(3/339)
فنقول : لا يسقط شيء من الحدود بالإسلام و لا فرق بين المرتد و غيره في المعنى بل كل عقوبة وجبت لسبب ماض أو حاضر فإنها تجب لوجوب سبيها و تعدم لعدمه و الكافر الأصلي و المرتد لم يقتل لأجل ما مضى من كفره فقط و إنما يقتل للكفر الذي هو الآن موجود إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه فإذا تاب زال الكفر فزال المبيح للدم لأن الدم لا يباح بالكفر إلا حال وجود الكفر إذ المقصود بقتله أن تكون كلمة الله هي العليا و أن يكون الدين كله لله فإذا انقاد لكلمة الله و دان بدين الله حصل مقصود القتال و مطلوب الجهاد و كذلك المرتد إنما يقتل لأنه تارك للدين مبدل له فإذا هو عاد لم يبق مبدلا و لا تاركا و بذلك يحصل حفظ الدين فإنه لا يترك مبدلا له أما الزاني و السارق و قاطع الطريق فإنه سواء كان مسلما أو معاهدا لم يقتل لدوامه على الزنا و السب و قطع الطريق فإن هذا غير ممكن و لم يقتل لمجرد اعتقاده حل ذلك أو إرادته له فإن الذمي لا يباح دمه بهذا الاعتقاد و لا يباح دم مسلم و لا ذمي بمجرد الإرادة فعلم أن ذلك وجب جزاء على ما مضى و زجرا عما يستقبل منه و من غيره فمن أظهر سب الرسول من أهل الذمة أو سبه من المسلمين ثم ترك بالسب و انتهى عنه فليس هو مستديما للسب كما يستديم الكافر المرتد و غيره على كفره بل أفسد في الأرض كما أفسد غيره من الزناة و قطاع الطريق و نحن نخاف أن يتكرر مثل هذا الفساد منه و من غيره كما نخاف مثل ذلك في الزاني و قاطع الطريق لأن الداعي له إلى ما فعله من السب ممكن منه و من غيره من الناس فوجب أن يعاقب جزاء بما كسب نكالا من الله له و لغيره و هذا فرق ظاهر بين قتل المرتد و الكافر الأصلي و بين قتل الساب و القاطع و الزاني و بيانه أن الساب من جنس الجريمة الماضية لا من جنس الجريمة الدائمة لكن مبناه على أن يوجب الحد لخصوصه لا لكونه كفرا و قد تقدم بيان كذلك(3/340)
يوضح ذلك أن قتل المرتد و الكافر الأصلي ـ إلا أن يتوب ـ يزيل مفسدة الكفر لأن الهام بالردة متى علم أنه لا يترك حتى يقتل أو يتوب لم يأتها لأنه ليس غرض في أن يرتد ثم يعود إلى الإسلام و إنما غرضه في بقائه على الكفر و استدامته فأما الساب من المسلمين و المعاهدين فإن غرضه من السب يحصل بإظهاره و ينكأ المسلمين بأذاه كما يحصل غرض القاطع من القتل و الزاني من الزنا و تسقط حرمة الدين و الرسول بذلك كما تسقط حرمة النفوس و الأموال في قطع الطريق و السرقة و يؤذي عموم المسلمين أذى يخشى ضرره كما يؤذيهم مثل ذلك من فعل القاطع و السارق و نحوهما
ثم إنه إذا أخذ فقد يظهر الإسلام و التوقير مع استبطانه العود إلى مثل ذلك عند القدرة كما يظهر القاطع و السارق و الزاني العود إلى مثل هذه الجرائم عند إمكان الفرصة بل ربما يتمكن من هذا السب بعد إظهار الإسلام عند شياطينه ما لم يتمكنه قبل ذلك و يتنوع في أنواع التنقص و الطعن غيظا على ما فعل به من القهر و الضغط حتى أظهر الإسلام بخلاف من لم يظهر شيئا من ذلك حتى أسلم فإنه لا مفسدة ظهرت لنا منه و بخلاف المحارب الأصلي إذا قتل و فعل الأفاعيل فإنه لم يكن قد التزم الأمان على أنه لا يفعل شيئا من ذلك(3/341)
و هذا قد كان التزم لنا بعقد الذمة أن لا يؤذينا بشيء من ذلك ثم لم يف بعهده فلا يؤمن إليه أن يلتزم بعقد الأيمان بذلك و لا يفي بعهده و ذلك لأنه واجب عليه في دينه أن يفي بالعهد فلا يظهر الطعن علينا في ديننا و هو عالم أن ذلك من التزام الأمور التي عاهدناه على أن لا يؤذينا بها و هو خلاف من سيف الإسلام إن خالف كما واجب عليه في دين الإسلام أن لا يتعرض للرسول بسوء و هو خائف من سيف الإسلام إن هو خالف فلم يتجدد له بإظهار الإسلام جنس العاصم الزاجر بخلاف الحربي في ذلك و إن كان في ضمن ذلك زجر لغيره من الناس عن الردة ألا ترى أنه لا يشرع الستر عليه و لا يستحب التعريض للشهود بترك الشهادة عليه و تجب إقامة الشهادة عليه عند الحاكم و لا يستحب العفو عنه قبل الرفع إلى الحاكم و إن كان قد ارتد سرا لأنه متى رفع إلى الحاكم استتابه فنجاه من النار و إن لم يتب قبله فقصر عليه مدة الكفر فكان رفعه مصلحة له محضة بخلاف من استسر لقاذورة من القاذورات فإنه لا ينبغي التعرض إليه لأنه إذا رفع يقتل حتما و قد يتوب إذا لم يرفع فلم يكن له مصلحة محضة و إنما المصلحة للناس فإذا لم تظهر الفاحشة لم تضرهم(3/342)
و من سب الرسول فإنما يقتله لأذاه لله و لرسوله و للمؤمنين و لطعنه في دينهم فكان بمنزلة من أظهر قطع الطريق و الزنا و نحوه المغلب فيه جانب الردع و الزجر و إن تضمن مصلحة الجاني و كان قتله لأنه أظهر الفساد في الأرض و كذلك لو سب الذمي سرا لم يتعرض له و كذلك لا ينبغي الستر عليه لأن من أظهر الفساد لا يسنر عليه بحال و قوله [ السب مستلزم للكفر و الحراب بخلاف تلك الجرائم ] قلنا : ليس لنا سب خال عن الكفر حتى تجرد العقوبة له بل العقوبة على مجموع الأمرين و هذه الملازمة لا توهن أمر السب فإن كونه مستلزما للكفر يوجب تغلظ عقوبته فإذا انفصل الكفر عنه فيما بعد لم يلزم أن لا يكون موجبا للعقوبة إذا كان هو نفسه يتضمن من المفسدة ما يوجب العقوبة و الزجر كما دل عليه الكتاب و السنة و الأثر و القياس
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 460 ]
الطريقة السابعة و العشرون : أنه سبحانه و تعالى قال : { إن شانئك هو الأبتر } [ الكوثر : 3 ] فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر و البتر : القطع يقال : بتر يبتر بترا و سيف بتار إذا كان قاطعا ماضيا و منه في الاشتقاق الأكبر تبره تتبيرا إذا أهلكه و التبار : الهلاك و الخسران و بين سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر و التوكيد لأنهم قالوا : إن محمدا ينقطع ذكره لأنه لا ولد له فبين الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو [ صلى الله عليه و سلم ] و الشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر و منه ما يظهر على اللسان و هو أعظم الشنآن و أشده و كل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه و نقيم عليه حد الله
فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه و أبدى عداوته و إذا كان ذلك واجبا وجب قتله و إن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانىء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانىء أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل ذلك فإن ذلك سهل على من يخاف السيف(3/343)
تحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانبتار على شنآنه و الاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره و ذلك أخص مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد و الانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي انقطاع العين و الأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن لكان في ذلك إبقاء لعينه و أثره و إذا اقتضى الشنآن قطع عينه و أثره كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص
و ليس شيء يوجب قتل الذمي إلا و هو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الإطلاق و هذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه الصلاة و السلام فلا يذكر إلا ذكر معه و رفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى إنه يبقى ذكر من بلغ عنه و لو حديثا و إن كان غير فقيه أثر من شنأه من المنافقين و إخوانهم من أهل الكتاب و غيرهم فلا يبقى له ذكر حميد و إن بقيت أعيانهم وقتا لم يظهروا الشنآن فإذا أظهروه محقت أعيانهم و أثارهم تقديرا و تشريعا فلو استبقى من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه و محقه من جميع الجوانب و الجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا يوضح ذلك أن العقوبات التي شرعها الله نكالا مثل قطع السارق و نحوه لا تسقط بإظهار التوبة إذ النكال لا يحصل بذلك فما شرع لقطع صاحبه و بتره و محقه كيف يسقط بعد الأخذ فإن هذا اللفظ يشعر بأن المقصود اصطلام صاحبه و استئصاله و اجتياحه و قطع شنآنه و ما كان بهذه المثابة كان عما يسقط عقوبته أبعد من كل أحد و هذا بين لمن تأمله و الله أعلم(3/344)
و الجواب عن حججهم : أما قولهم [ هو مرتد فيستتاب كسائر المرتدين ] فالجواب أن هذا مرتد بمعنى أنه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز أن يكون مصدقا للرسول معترفا له بنبوته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فإذا انتقضه في كلامه ارتفع حكم التصديق و صار بمنزلة اعتراف إبليس لله بالربوبية فإنه موجب للخضوع له فلما استكبر عن أمره بطل حكم ذلك الاعتراف فالإيمان بالله و رسوله قول و عمل ـ أعني بالعمل ما ينبعث عن القول و الاعتقاد من التعظيم و الإجلال ـ فإذا عمل ضد ذلك من الاستكبار و الاستخفاف صار كافرا و كذلك كان قتل النبي باتفاق العلماء فالمرتد : كل من أتى بعد الإسلام من القول أو الفعل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه و إذا كان كذلك فليس كل من وقع عليه اسم المرتد يحقن دمه بالإسلام فإن ذلك لم يثبت بلفظ عام عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و إنما جاء عنه و عن أصحابه في ناس مخصوصين أنهم استتابوهم أو أمروا باستتابهم ثم إنهم أمروا بقتل الساب و قتلوه من غير استتابة
و قد ثبت عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قتل العرنيين من غير استتابة و أنه أهدر دم ابن خطل و مقيس بن صبابة و ابن أبي سرح من غير استتابة فقتل منهم اثنان و أراد من أصحابه أن يقتلوا الثالث بعد أن جاء تائبا(3/345)
فهذه سنة النبي عليه الصلاة و السلام و خلفائه الراشدين و سائر الصحابة تبين لك أن من المرتدين من يقتل و لا يستتاب و لا تقبل توبته و منهم من يستتاب و تقبل توبته فمن لم يوجد منه إلا مجرد تبديل الدين و تركه و هو مظهر لذلك فإذا تاب قبلت توبته كالحارث بن سويد و أصحابه و الذين ارتدوا في عهد الصديق رضي الله عنه و من كان مع ردته قد أصاب ما يبيح الدم ـ من قتل مسلم و قطع الطريق و سب الرسول و الافتراء عليه و نحو ذلك ـ و هو في دار الإسلام غير ممتنع بفئة فإنه إذا أسلم يؤخذ بذلك الموجب للدم فيقتل للسب و قطع الطريق مع قبول إسلامه
هذه طريقة من يقتله لخصوص السب و كونه حدا من الحدود أو حقا للرسول فإنه يقول : الردة نوعان : ردة مجردة و ردة مغلظة و التوبة إنما هي مشروعة في الردة المجردة فقط دون الردة المغلظة و هذه ردة مغلظة و قد تقدم تقرير ذلك في الأدلة ثم الكلمة الوجيزة في الجواب أن يقال : جعل الردة جنسا واحدا تقبل توبة أصحابه ممنوع فلا بد له من دليل و لا نص في المسألة و القياس متعذر لوجود الفرق
و من يقتله لدلالة السب على الزندقة فإنه يقول : هذا لم يثبت إذ لا دليل يدل على صحة التوبة كما تقدم(3/346)
و بهذا حصل الجواب عن احتجاجهم بقول الصديق و تقدم الجواب عن قول ابن عباس و أما استتابة الأعمى أم ولده فإنه لم يكن سلطانا و لم تكن إقامة الحدود واجبة عليه و إنما النظر في جواز إقامته للحد و مثل هذا لا ريب أنه يجوز له أن ينهى الساب و يستتيبه فإنه ليس عليه أن يقيم الحد و لا يمكنه أن يشهد به عند السلطان وحده فإنه لا ينفع و نظيره في ذلك من كان يسمع من المسلمين كلمات من المنافقين توجب الكفر فتارة ينقلها إلى النبي صلى الله عليه و سلم و تارة ينهى صاحبها و يخوفه و يستتيبه و هو بمثابة من ينهى من يعلم منه الزنا أو السرقة أو قطع الطريق عن فعله لعله يتوب قبل أن يرفع إلى السلطان و لو رفع قبل التوبة لم يسقط حده بالتوبة بعد ذلك
و أما الحجة الثانية فالجواب عنها من وجوه :
أحدها : أنه مقتول بالكفر بعد الإسلام و قولهم : [ كل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل ]
قلنا : هذا ممنوع و الآية إنما دلت على قبول توبة من كفر بعد إيمانه إذا لم يزدد كفرا أما من كفر و زاد على الكفر فلم تدل الآية على قبول توبته بل قوله : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } [ آل عمران : 90 ] قد يتمسك بها من خالف ذلك على أنه إنما استثنى من تاب و أصلح و هذا لا يكون فيمن تاب بعد أخذه و إنما استفدنا سقوط القتل عن التائب بمجرد توبته من السنة و هي إنما دلت على من جرد الردة مثل الحارث بن سويد و دلت على أن من غلظها كابن أبي سرح يجوز قتله بعد التوبة و الإسلام
الوجه الثاني : أنه مقتول لكونه كفر بعد إسلامه و لخصوص السب كما تقدم تقريره فاندرج في عموم الحديث مع كون السب مغلظا لجرمه و مؤكدا لقتله(3/347)
الوجه الثالث : أنه عام و أنه قد خص منه تارك الصلاة و غيرها من الفرائض عند من يقتله و لا يكفره و خص منه قتل الباغي و قتل الصائل بالسنة و الإجماع فلو قيل [ إن السب موجب للقتل بالأدلة التي ذكرناها و هي أخص من هذا الحديث ] لكان كلاما صحيحا و أما من يحتج بهذا الحديث في الذمي إذا سب ثم أسلم فيقال له : هذا وجب قتله قبل الإسلام و النبي صلى الله عليه و سلم إنما يريد إباحة الدم بعد حقنة بالإسلام و لم يتعرض لمن وجب قتله ثم أسلم أي شيء حكمه و لا يجوز أن يحمل الحديث عليه فإنه إذا حمل على حل الدم بالأسباب الموجودة قبل الإسلام و بعده لزم من ذلك أن يكون الحربي إذا قتل أو زنى ثم شهد شهادتي الحق أن يقتل بذلك القتل و الزنا لشمول الحديث على هذا التقدير له و هو باطل قطعا لا يجوز أن يحمل على أن كل من أسلم لا يحل دمه إلا بإحدى الثلاث إن صدر عنه بعد ذلك لأنه يلزمه أن لا يقتل الذمي بقتل أو صدر منه قبل الإسلام
فعلم أن المراد أن المسلم الذي تكلم بالشهادتين يعصم دمه لا يبيحه بعد هذا إلا إحدى الثلاث ثم لو اندرج هذا في العموم لكان مخصوصا بما ذكرناه من أن قتله حد من الحدود و ذلك أن كل من أسلم فإن الإسلام يعصم دمه قلا يباح بعد ذلك إلا بإحدى الثلاث و يتخلف الحكم عن هذا المقتضي لمانع من ثبوت حد قصاص أو زنا أو نقض عهد فيه ضرر و غير ذلك و مثل هذا كثير في العمومات(3/348)
و أما الآية على الوجهين الأولين فنقول : إنما تدل على [ أن ] من كفر بعد إيمانه ثم تاب و أصلح فإن الله غفور رحيم و نحن نقول بموجب ذلك أما من ضم إلى الكفر انتهاك عرض الرسول و الأفتراء عليه أو قتله أو قتل واحدا من المسلمين أو انتهك عرضه فلا تدل الآية على سقوط العقوبة عن هذا على ذلك و الدليل على ذلك قوله سبحانه : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ آل عمران : 89 ] فإن التوبة عائدة إلى الذنب المذكور و الذنب المذكور هو الكفر بعد الإيمان و هذا أتى بزيادة على الكفر توجب عقوبة بخصوصها كما تقدم و الآية لم تتعرض للتوبة من غير الكفر
و من قال : [ هو زنديق ] قال : أنا لا أعلم أن هذا تاب ثم إن الآية إنما استثنى فيها من تاب و أصلح و هذا الذي رفع إلي لم يصلح و أنا لا أؤخر العقوبة الواجبة عليه إلا أن يظهر صلاحه نعم الآية قد تعم من فعل ذلك ثم تاب و أصلح قبل أن يرفع إلى الإمام و هذا قد يقول كثير من الفقهاء بسقوط العقوبة على أن الآية التي بعدها قد تشعر بأن المرتد قسمان : قسم تقبل توبته و هو من كفر فقط و قسم لا تقبل توبته و هو من كفر ثم ازداد كفرا قال سبحانه و تعالى : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } [ آل عمران : 90 ](3/349)
و هذه الآية و إن كان قد تأولها أقوام على من ازداد كفرا إلى أن عاين الموت فقد يستدل بعمومها على هذه المسألة فقال : من كفر بعد إيمانه و ازداد كفرا بسب الرسول و نحوه لم تقبل توبته خصوصا من استمر به ازدياد الكفر إلى أن ثبت عليه الحد و أراد السلطان قتله فهذا قد يقال : إنه إزداد كفرا إلى أن رأى أسباب الموت و قد يقال فيه : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ـ إلى قوله ـ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] و أما قوله سبحانه و تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] فإنه يغفر لهم ما قد سلف من الآثام و أما من الحدود الواجبة على مسلم مرتد أو معاهد فإنه يجب استيفاؤها بلا تردد على أن سياق الكلام يدل أنها في الحربي
ثم نقول : الانتهاء إنما هو الترك قبل القدرة كما في قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ـ إلى قوله ـ أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 61 ] فمن لم يتب حتى أخذ فلم ينته
و يقال أيضا : إنما تدل الآية على أنه يغفر لهم و هذا مسلم و ليس كل من غفر له سقطت العقوبة عنه في الدنيا فإن الزاني أو السارق لو تاب توبة نصوحا غفر الله له و لا بد من إقامة الحدود عليه
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] كقوله : [ التوبة تجب ما قبلها ] ومعلوم أن التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد كما دل عليه القرآن و ذلك أن الحديث خرج جوابا لعمرو بن العاص لما قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي فقال : [ يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله و أن التوبة تهدم ما كان قبلها و أن الهجرة تهدم ما كان قبلها و أن الحج يهدم ما كان قبله ](3/350)
فعلم أنه عنى بذلك أنه يهدم الآثام و الذنوب التي سأل عمرو مغفرتها و لم يجر للحدود ذكر و هي لا تسقط بهذه الأشياء بالاتفاق و قد بين صلى الله عليه و سلم في حديث ابن أبي سرح أن ذنبه سقط بالإسلام و أن القتل إنما سقط عنه بعفو النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم و لو فرض أنه عام فلا خلاف أن الحدود لا تسقط عن الذمي بإسلامه و هذا منها كما تقدم
و أما قوله سبحانه و تعالى : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] فالجواب عنها من وجوه :
أحدها : أنه ليس في الآية دليل على أن هذه الآية نزلت فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم و شتمه و إنما فيها أنها نزلت في المنافقين و ليس كل منافق يسبه و يشتمه فإن الذي يشتمه من أعظم المنافقين و أقبحهم نفاقا و قد ينافق الرجل بأن لا يعتقد النبوة و هو لا يشتمه كحال كثير من الكفار و لو أن كل منافق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد شاتما و لاستحالت هذه المسألة و ليس الأمر كذلك فإن الشتم قدر زائد على النفاق و الكفر على ما لا يخفى و قد كان ممن هو كافر من يحبه صلى الله عليه و سلم و يوده و يصطنع إليه المعروف خلق كثير و كان ممن يكف عنه أذاه من الكفار خلق كثير أكثر من أولئك و كان ممن يحاربه و لا يشتمه خلق آخرون بالآية تدل على أنها نزلت في منافقين غير الذين يؤذونه فإنه سبحانه و تعالى قال : { و منهم الذين يؤذون النبي ـ إلى قوله ـ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزؤن ؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } [ التوبة : 66 ] فليس في هذا ذكر سب و إنما فيه ذكر استهزاء بالدين ما لا يتضمن سبا و لا شتما للرسول(3/351)
و في هذا الوجه نظر كما تقدم في سبب نزولها إلا أن يقال : تلك الكلمات ليست من السب المختلف فيه و هذا ليس بجيد
الوجه الثاني : أنهم قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم و لم يتكلم و هو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه و أما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم
يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب و إن لم يتب صاحبه كقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا و لقد عفا الله عنهم } [ آل عمران : 155 ]
و الكفر لا يعفى عنه : فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة ـ إما بسماع الكفر دون إنكاره و الجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله أو بكلام هو ذنب و ليس هو كفرا أو غير ذلك ـ و على هذا فتكون الآية دالة على أنه لابد من تعذيب أولئك المستهزئين و هو دليل على أنه لا توبة لهم لأنهم من أخبر الله بأنه يعذب و هو معين امتنع أن يتوب توبة تمنع العذاب فيصلح أن يجعل هذا دليلا في المسألة
الوجه الثالث : أنه سبحانه و تعالى أخبر أنه لابد أن تعذب طائفة من هؤلاء إن عفا عن طائفة و هذا يدل عل أن العذاب واقع بهم لا محالة و ليس فيه ما يدل على وقوع العفو لأن العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل و أما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل و أما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو و هو بتقدير عدمه أوقع فعلم أنه لابد من التعذيب : إما عاما أو خاصا لهم و لو كانت توبتهم كلهم مرجوة صحيحة لم يكن كذلك لأنهم إذا تابوا لم يعذبوا(3/352)
و إذا ثبت أنهم لا بد أن يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم و إنه يحرم تعذيبهم إذا أظهروها و سواء أراد بالتعذيب بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين لأنه سبحانه و تعالى أمر نبيه فيما بعد بجهاد الكفار و المنافقين فكان من أظهره عذب بأيدي المؤمنين و من كتمه عذبه الله بعذاب من عنده و في الجملة فليس في الآية دليل على أن العفو واقع و هذا كاف هنا
الوجه الرابع : أنه إن كان في هذه الآية دليل على قبول توبتهم فهو حق و تكون هذه التوبة إذا تابوا قبل أن يثبت النفاق عند السلطان كما بين ذلك قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 61 ] الآيتين فإنها دليل على أن من لم ينته حتى أخذ فإنه يقتل و على هذا فلعله و الله أعلم عنى : { إن نعف عن طائفة منكم } [ التوبة : 66 ] و هم الذين أسروا النفاق حتى تابوا منه { نعذب طائفة } و هم الذين أظهروه حتى أخذوا : فتكون دالة على وجوب تعذيب من أظهره
الوجه الخامس : أن هذه الآية تضمنت أن العفو عن المنافق إذا أظهر النفاق و تاب أو لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ] كما أسلفناه و بيناه
و يؤيده أنه قال : { إن نعف } و لم يبت و سبب النزول يؤيد أن النفاق ثبت عليهم و لم يعاقبهم النبي صلى الله عليه و سلم و ذلك كان في غزوة تبوك قبل أن تنزل براءة و في عقبها نزلت سورة براءة فأمر فيها بنبذ العهود إلى المشركين و جهاد الكفار و المنافقين
فالجواب عما احتج به منها من وجوه : أحدها : أنه سبحانه و تعالى إنما ذكر أنهم قالوا كلمة الكفر و هموا بما لم ينالوا و ليس في هذا ذكر للسب و للكفر أعم من السب و لا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص لكن فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على أنها نزلت فيمن سب فيبطل هذا(3/353)
الوجه الثاني : أنه سبحانه و تعالى إنما عرض التوبة على الذين يحلفون بالله ما قالوا و هذا حال من أنكر أن يكون تكلم بكفر و حلف على إنكاره فأعلم الله نبيه أنه كاذب في يمينه و هذا كان شأن كثير ممن يبلغ النبي صلى الله عليه و سلم عنه الكلمة من النفاق و لا تقوم عليه به بينة هذا لا يقام عليه حد إذ لم يثبت عليه في الظاهر شيء و النبي صلى الله عليه و سلم إنما يحكم في الحدود و نحوها بالظاهر و الذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كلها إنما فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر بما قالوه بخبر واحد إما حذيفة أو عامر بن قيس أو زيد بن أرقم أو غير هؤلاء أو أنه أوحى إليه وحي بحالهم(3/354)
و في بعض التفاسير أن المحكي عنه هذه الكلمة [ الجلاس بن سويد ] اعترف بأنه قالها و تاب من ذلك من غير بينة قامت عليه فقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك منه و هذا كله دلالة واضحة على أن التوبة من مثل هذا مقبولة و هو توبة من ثبت عليه نفاق و هذا لا خلاف فيه إذا تاب فيما بينه و بين الله سرا كما نافق سرا أنه تقبل توبته و لو جاء مظهرا لنفاقه المتقدم و لتوبته منه من غير أن تقوم عليه بينة بالنفاق قبلت توبته أيضا على القول المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا للتوبة من زنا أو سرقة عليه على الصحيح و أولى من ذلك و أما من ثبت نفاقه بالبينة فليس في الآية و لا فيما ذكر من سب نزولها ما يدل على قبول توبته بل و ليس في نفس الآية ما يدل على ظهور التوبة بل يجوز أن يحمل على توبته فيما بينه و بين الله فإن ذلك نافع وفاقا و إن أقيم عليه الحد كما قال تعالى : { و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم و من يغفر الذنوب إلا الله } [ آل عمران : 135 ] و قال تعالى : { و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } [ النساء : 110 ] و قال الله تعالى : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } [ الزمر : 53 ] و قال تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } [ التوبة : 104 ] و قال تعالى : { غافر الذنب و قابل التوب } [ غافر : 3 ] إلى غير ذلك من الآيات مع أن هذا لا يوجب أن يسقط الحد الواجب بالبينة عمن أتى بفاحشة موجبة للحد أو ظلم نفسه بشرب أو سرقة فلو قال من لم يسقط الحد عن المنافق سواء ثبت نفاقه ببينة أو إقرار : [ ليس في الآية ما يدل على سقوط الحد عنه ] لكان لقوله مساغ(3/355)
الوجه الثالث : أنه قال سبحانه و تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين و أغلظ عليهم ـ إلى قوله ـ يحلفون بالله ما قالوا } الآية [ التوبة : 73 ] و هذا تقرير لجهادهم و بيان لحكمته و إظهار لحاكم المقتضي لجهادهم فإن ذكر الوصف المناسب بعد الحكم يدل على أنه علة له و قوله : { يحلفون بالله ما قالوا } [ التوبة : 74 ] وصف لهم و هو مناسب لجهادهم فإن كونهم يكذبون في أيمانهم و يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر بموجب للإغلاظ عليهم بحيث لا يقبل منهم و لا يصدقون فيما يظهرونه من الإيمان بل ينتهرون و يرد ذلك عليهم
و هذا كله دليل على أنه لا يقبل ما يظهره من التوبة بعد أخذه إذا لا فرق بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي أنه لم يكفر و فيما يخبره من الحاضر أنه ليس بكافر فإذا بين سبحانه و تعالى من حالهم ما يوجب أن لا يصدقوا وجب أن لا يصدق في إخباره أنه ليس بكافر بعد ثبوت كفره بل يجري عليه حكم قوله تعالى { و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقين : 1 ] لكن بشرط أن يظهر كذبه فيها بدون ذلك فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس و لا نشق بطونهم و على هذا فقوله تعالى : { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } [ التوبة : 74 ] أي قبل ظهور النفاق و قيام البينة به عند الحاكم حتى يكون للجهاد موضع و للتوبة [ موضع ] و إلا فقبول التوبة الظاهرة في كل وقت يمنع الجهاد لهم بالكلية الوجه الرابع : أنه سبحانه و تعالى قال بعد ذلك : { و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة } [ التوبة : 74 ] و فسر ذلك في قوله تعالى : { و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [ التوبة : 52 ](3/356)
و هذا دليل على أن هذه التوبة قبل أن نتمكن من تعذيبهم بأيدينا لأن من تولى عن التوبة حتى أظهر النفاق و شهد عليه به و أخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله عليه فيجب أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا و القتل عذاب أليم فيصلح أن يعذب به لأن المتولي أبعد أحواله أن ترك التوبة إلى أن لا يتركه الناس لأنه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم يعذب في الدنيا لأن عذاب الدنيا قد فات فلا بد أن يكون التولي ترك التوبة و بينه و بين الموت مهل يعذبه الله فيه كما ذكره سبحانه فمن تاب بعد الأخذ ليعذب فهو ممن لم يتب قبل ذلك بل تولى فيستحق أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و من تأمل هذه الآية و التي قبلها و جدهما دالتين على أن التوبة بعد أخذه لا ترفع عذاب الله عنه
و أما كون هذه التوبة مقبولة فيما بينه و بين الله و إن تضمنت التوبة من عرض الرسول فنقول أولا ـ و إن كان حق هذا الجواب أن يؤخر إلى المقدمة الثانية ـ هذا القدر لا يمنع إقامة الحد عليه إذا رفع إلينا ثم أظهر التوبة بعد ذلك كما أن الزاني و الشارب و قاطع الطريق إذا تاب فيما بينه و بين الله قبل أن يرفع إلينا قبل الله توبته و إذا اطلعنا عليه ثم تاب قوله تعالى فلا بد من إقامة الحد عليه و يكون ذلك من تمام توبته و جميع الجرائم من هذا الباب
و قد يقال : إن المنتهك لأعراض الناس إذا استغفر لهم قبل أن يعلموا بذلك رجي أن يغفر الله له على ما في ذلك الخلاف المشهور و لو ثبت ذلك عند السلطان ثم أظهر التوبة لم يسقط عقوبته ذلك أن الله سبحانه لا بد أن يجعل للمذنب طريقا إلى التوبة فإذا كان عليه تبعات للخلق فعليه أن يخرج منها جهده و يعوضهم عنها ما يمكنه و رحمة الله من وراء ذلك ثم ذلك لا يمنع أن نقيم عليه الحد إذا ظهرنا عليه و نحن إنما نتكلم في التوبة المسقطة للحد و العقوبة لا في التوبة الماحية للذنب(3/357)
ثم نقول ثانيا : إن كان ما أتاه من السب قد صدر عن اعتقاد يوجبه فهو بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين و ناقضي العهد من سفك دماء المسلمين و أخذ أموالهم و انتهاك أعراضهم فإنهم يعتقدون في المسلمين اعتقادا يوجب إباحة ذلك ثم إذا تابوا توبة نصوحا من ذلك الاعتقاد غفر لهم موجبة المتعلق بحق الله و حق العباد كما يغفر للكافر الحربي موجب للكافر الحربي موجب اعتقاده إذا تاب منه مع أن المرتد أو الناقص متى فعل شيئا من ذلك قبل الإمتناع أقيم عليه حده و إن عاد إلى الإسلام سواء كان لله أو لآدمي فيحد على الزنا و الشرب و قطع الطريق و إن كان في زمن الردة و نقض العهد يعتقد حل ذلك الفرج لكونه وطئه بملك اليمين إذا قهر مسلمة على نفسها و يعتقد حل دماء المسلمين و أموالهم كما يؤخذ منه القود و حد القذف و إن كان يعتقد حلهما و يضمن ما أتلفه من الأموال و إن اعتقد حلها
و الحربي الأصل لا يؤخذ بشيء من ذلك بعد الإسلام فكان الفرق أن ذاك كان ملتزما بأيمانه و أمانه أن يفعل شيئا من ذلك فإذا فعله لم يعذر بفعله بخلاف الحربي الأصل و إن في إقامة هذه الحدود عليه زجرا له عن فعل هذه الموبقات كما فيها زجر للمسلم المقيم على إسلامه بخلاف الحربي الأصل فإن ذلك لا يزجره بل هو منفر له عن الإسلام و لأن الحربي الأصل ممتنع و هذان ممكنان(3/358)
و كذلك قد نص الإمام أحمد على أن الحربي إذا زنى بعد الأسر أقيم عليه الحد لأنه صار في أيدينا كما أن الصحيح عنه و عن أكثر أهل العلم أن المرتد إذا امتنع لم تقم عليه الحدود لأنه صار بمنزلة الحربي إذ الممتنع يفعل هذه الأشياء باعتقاده و قوة من غير زاجر له ففي إقامة الحدود عليهم بعد التوبة تنفير و إغلاق لباب التوبة عليهم و هو بمنزلة تضمين أهل الحرب سواء و ليس هذا موضع استقصاء هنا و إنما نبهنا عليه و إذا كان هذا هنا هكذا فالمرتد و الناقض إذا آذيا الله و رسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرة توبة نصوحا كانا بمنزلتهما إذا حربا باليد في قطع الطريق أو زنيا و تابا بعد أخذهما و ثبوت الحد عليهما و لا فرق بينهما و ذلك لأن الناقض للعهد قد كان عهده يحرم عليه هذه الأمور في دينه و إن كان دينه المجرد عن عهد يبيحها له
و كذلك المرتد قد كان يعتقد أن هذه الأمور محرمة فاعتقاده إباحتها إذا لم يتصل به قوة و منعة ليس عذرا له في أن يفعلها لما كان ملتزما له من الدين الحق و لما هو به من الضعف و لما في سقوط الحد عنه من الفساد و إن كان السب صادرا عن غير اعتقاد بل سبه مع اعتقاد نبوته أو سبه بأكبر مما يوجبه اعتقاده أو بغير ما يوجبه اعتقاده فهذا من أعظم الناس كفرا بمنزلة إبليس و هو من نوع العناد أو السفه و هو بمنزلة من شتم بعض المسلمين أو قتلهم و هو يعتقد أن دماءهم و أعراضهم حرام
و قد اختلف الناس في سقوط حق المشتوم بتوبة الشاتم قبل العلم به سواء كان نبيا أو غيره فمن اعتقد أن التوبة لا تسقط حق الآدمي له أن يمنع هنا أن توبة الشاتم في الباطن صحيحة على الإطلاق و له أن يقول : إن للنبي صلى الله عليه و سلم أن يطالب هذا بشتمه مع علمه بأن حرام كسائر المؤمنين لهم أن يطالبوا شاتمهم و سابهم بل ذلك أولى و هذا القول قوي في القياس و كثير من الظواهر يدل عليه(3/359)
و من قال : [ هذا من باب السب و الغيبة و نحوهما مما يتعلق بأعراض الناس و قد فات الاستحلال فليأت للمشتوم من الدعاء و الاستغفار بما يزن حق عرضه ليكون ما يأخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له و استغفر فيسلم له سائر عمله فكذلك من صدرت منه كلمة سب أو شتم فليكثر من الصلاة و التسليم و يقابلها بضدها ] فمن قال : [ إن ذلك يوجب قبول التوبة ظاهرا و باطنا ] أدخله في قوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] [ و أتبع السيئة الحسنة تمحها ]
و من قال لابد من القصاص قال : قد أعد له من الحسنات ما يقوم بالقصاص و ليس لنا غرض في تقرير واحد من القولين هنا و إنما الغرض أن الحد لا يسقط بالتوبة لأنه إن كان عن اعتقاد فالتوبة منه صحيحة مسقطة لحق الرسول في الآخرة و هي لا تسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم و إن كانت عن غير اعتقاد ففي سقوط حق الرسول بالتوبة خلاف
فإن قيل [ لا يسقط ] و إن قيل يسقط الحق و لم يسقط الحد كتوبة الأولي و أولى فحاصله أن الكلام في مقامين : أحدهما أن التوبة إذا كانت صحيحة نصوحا فيما بينه و بين الله هل يسقط معها حق المخلوق ؟ و فيه تفضيل و خلاف فإن قيل [ لم يسقط ] فلا كلام و إن قيل [ يسقط ] فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حق الله بالتوبة فتكون كالتوبة من سائر أنواع الفساد و تلك التوبة إذا كانت بعد القدرة لم تسقط شيئا من الحدود و إن كانت تجب الإثم في الباطن
و حقيقة هذا الكلام أن قتل الساب ليس لمجرد الردة و مجرد عدم العهد حتى تقبل توبته كغيره بل لردة مغلظ بالضرر و مثله لا يسقط موجبه بالتوبة لأنه من محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض فسادا و هو من جنس الزنا و السرقة أو هو من جنس القتل و القذف فهذه حقيقة الجواب و به يتبين الخلل فيما ذكر من الحجة(3/360)
ثم نبينه مفصلا فنقول : أما قولهم [ إن ما جاء به من الإيمان به ماح لما أتى به من هتك عرضه ] فنقول : إن كان السب مجرد موجب اعتقاد فالتوبة من الاعتقاد توبة من موجبه و أما من زاد على موجب الاعتقاد أو أتى بضده ـ و هم أكثر السابين ـ فقد لا يسلم أن ما يأتي به من التوبة ماح إلا بعد عفوه بل يقال : له المطالبة و إن سلم ذلك فهو كالقسم الأول و هذا القدر لا يسقط الحدود كما تقدم غير مرة
و أما قولهم [ حقوق الأنبياء من حيث النبوة تابعة لحق الله في الوجوب فتبعته في السقوط ] فنقول : هذا مسلم إن كان السب موجب اعتقاد و إلا ففيه الخلاف و أما حقوق الله فلا فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد أو غير اعتقاد فإن التائب من اعتقاد الكفر و موجباته و التائب من الزنا سواء و من لم يسو بينهما قال : ليست أعظم من حق الله إذا لم يسقط في الباطن بسقوطه و لكن الأمر إلى مستحقها : إن شاء جزى و إن شاء عفا و لم يعلم بعد ما يختاره الله سبحانه و قد أعلمنا أنه يغفر لكل من تاب(3/361)
و أيضا فإن مستحقها من جنس تلحقهم المضرة و المعرة بهذا و يتألمون به فجعل الأمر إليهم و الله سبحانه و تعالى إنما حقه راجع إلى مصلحة المكلف خاصة فإنه لا ينتفع بالطاعة و لا يستضر بالمعصية فإذا عاود المكلف الخير فقد حصل ما أراده ربه منه فلما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم نعت البشر و لهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حق الله و نعت حق سائر العباد و إنما يكون حقهم مندرجا في حق الله إذا صدر عن اعتقاد فإنهم لما وجب الإيمان بنبوتهم صار كالإيمان بوحدانية الله فإذا لم يعتقد معتقد نبوتهم كان كافرا كما إذا لم يقر بوحدانية الله و صار الكفر بذلك كفرا برسالات الله و دينه و غير ذلك فإذا كان السب موجبا بذا الاعتقاد فقط مثل نفي الرسالة أو النبوة أو نحو ذلك و تاب منه توبة نصوحا قبلت توبته كتوبة المثلث و إذا زاد على ذلك ـ مثل قدح في نسب أو وصف بمساوئ أخلاق أو فاحشة أو غير ذلك مما يعلم هو أنه باطل أو لا يعتقد صحته أو كان مخالفا للاعتقاد مثل أن يحسد أو يتكبر أو يغضب لفوات غرض أو حصول مكروه مع اعتقاد النبوة فيسب ـ فهنا إذا تاب لم يتجدد له اعتقاد أزال موجب السب إنما غير نيته و قصده و هو قد آذاه فهذا السب لم يتألم به البشر و لم يكن معذورا بعدم اعتقاد النبوة فهو لحق الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله و بين خلقه فوجب قتله و هو كحق البشر من حيث إنه آذى آدميا يعتقد أنه لا يحل أذاه فلذلك كان له أن يطالبه بحق أذاه و أن يأخذ من حسناته بقدر أذاه و ليست له حسنة تزن ذلك إلا ما يضاد السب من الصلاة و التسليم و نحوهما و بهذا يظهر أن التوبة من سب صدر من غير اعتقاد من الحقوق التي تجب للبشر ثم هو حق يتعلق بالنبوة لا محالة فهذا قول القائل و إن كنا لم نرجح واحدا من القولين(3/362)
ثم إذا كانت حقوقهم تابعة لحق الله فمن الذي يقول : إن حقوق الله تسقط عن المرتد و ناقض العهد بالتوبة ؟ فإنا قد بينا أن هؤلاء تقام عليهم حدود الله بعد التوبة و إنما تسقط بالتوبة عقوبة الردة المجردة و النقض المجرد و هذا ليس كذلك
و أما قوله : [ إن الرسول يدعو الناس إلى الإيمان به و يخبرهم أن الإيمان يمحو الكفر فيكون قد عفا لمن كفر عن حقه ] فنقول : هذا جيد إذا كان السب موجب الاعتقاد لأنه هو الذي اقتضاه و دعاه إلى الإيمان به فإنه من أزال اعتقاد الكفر به باعتقاد الإيمان به زال موجبه أما من زاد على ذلك و سبه بعد أن آمن به أو عاهده فلم يلتزم أن يعفو عنه و قد كان له أن يعفو و له أن لا يعفو(3/363)
و التقدير المذكور في السؤال إنما يدل على سب أوجبه الاعتقاد ثم زال باعتقاد الإيمان لأنه هو الذي كان يدعو إليه الكفر و قد زال بالإيمان و أما ما سوى ذلك فلا فرق بينه و بين سب الناس من هذه الجهة و ذلك أن الساب إن كان حربيا فلا فرق بين سبه للرسول أو لواحد من الناس من هذه الجهة و إن كان مسلما أو ذميا فإذا سب الرسول سبا لا يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس فإن تجدد الإسلام منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل و ينهاه عنه و إن لم يرفع موجبه فإنه موجب هذا السب لم يكن الكفر به إذ كلامنا في سب لا يوجبه الكفر به مثل فرية عليه يعلم أنها فرية و نحو ذلك لكن إذا أسلم الساب فقد عظم في قلبه عظيمة تمنعه أن يفتري عليه كما أنه إذا تاب من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظمة تمنعه من مواقعته و جاز أن لا يكون هذا الإسلام وازعا لكون موجب السب كان شيئا غير الكفر و قد يضعف هذا الإسلام عن دفعه كما يضعف هذه التوبة عن موجب الأذى و فرق بين ارتفاع الأمر بارتفاع سببه أو بوجوده ضده فإن ما أوجبه الاعتقاد إذا زال الاعتقاد زال سببه فلم يخش عوده إلا بعود السبب و ما لم يوجبه الاعتقاد من الفرية و نحوها على النبي عليه الصلاة و السلام و غيره يرفعها الإسلام و التوبة رفع الضد للضد إذ قبح هذا الأمر و سوء عاقبته و العزم الجازم على فعل ضده و تركه ينافي وقوعه لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب المقتضي عمل عمله فهذا يبين أنه لا فرق في الحقيقة بين أن يتوب من سب يوجبه مجرد الكفر بالإيمان به الموجب لعدم ذلك السب و بين أن يتوب من سب مسلم بالتوبة الموجبة لعدم ذلك السب(3/364)
و اعتبر هذا برجل له غرض في أمر فزجر عنه و قيل له : هذا قد حرمه النبي عليه الصلاة و السلام فلا سبيل إليه فحمله فرط الشهوة و قوة الغضب لفوات المطلوب على أن لعن و قبح فيما بينه و بين الله مع أنه لا يشك في النبوة ثم إنه جدد إسلامه و تاب و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم و لم يزل باكيا من كلمته و رجل أراد أن يأخذ مال المسلم بغير حق فمنعه منه فلعن و قبح سرا ثم إنه تاب من هذا و استغفر لذلك الرجل و لم يزل خائفا من كلمته أليست توبة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته ؟ و إن كانت توبة هذا يجب أن تكون أعظم لعظم كلمته لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه بخلاف من إنما يلعن و يقبح من يعتقده كذابا ثم تبين له أنه كان ضالا في ذلك الاعتقاد و كان في مهواة التلف فتاب و رجع من ذلك الاعتقاد توبة مثله فإنه يندرج فبه جميع ما أوجبه
و مما يقرر هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا بلغه سب مرتد أو معاهد سئل أن يعفو عنه بعد الإسلام و دلت سيرته على جواز قتله بعد إسلامه و توبته و لو كان مجرد التوبة يغفر لهم بها ما في ضمنها مغفرة تسقط الحد لم يجز ذلك فعلم أنه كان يملك العقوبة على من سبه بعد التوبة كما يملكها غيره من المؤمنين
فهذا الكلام في كون توبة الساب فيما بينه و بين الله هل تسقط حق الرسول أم لا ؟ و بكل حال ـ سواء أسقطت أم لم تسقط ـ لا يقتضي ذلك أن إظهارها مسقط للحد إلا أن يقال : هو مقتول لمحض الردة أو محض نقض العهد فإن توبة المرتد مقبولة و إسلام من جرد نقض العهد مقبول مسقط للقتل
و قد قدمنا فيما مضى بالأدلة القاطعة أن هذا مقتول لردة مغلظة و نقض مغلظ بمنزلة من حارب و سعى في الأرض فسادا
ثم من قال : [ يقتل حقا لآدمي ] قال : العقوبة إذا تعلق بها حقان حق لله و حق لآدمي ثم تاب سقط حق الله و بقي حق الآدمي من القود و هذا التائب إذا تاب سقط حق الله و بقي حق الآدمي(3/365)
و من قال [ يقتل حدا لله ] قال : هو بمنزلة المحارب و قد يسوى بين من سب الله و بين من سب الرسول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
و قولهم في المقدمة الثانية : [ إذا أظهر التوبة وجب أن نقبلها منه ] قلنا : هذا مبني على أن هذه التوبة مقبولة مطلقا و قد تقدم الكلام فيه
ثم الجواب هنا من وجهين : أحدهما : القول بموجب ذلك فإنا نقبل منه هذه التوبة و نحكم بصحة إسلامه كما نقبل توبة القاذف و نحكم بعدالته و نقبل توبة السارق و غيرهم لكن الكلام في سقوط القتل عنه و من تاب بعد القدرة لم يسقط عنه شيء من حقوق العباد إذا قبلنا توبته أن يطهر بإقامة الحد عليه كسائر هؤلاء و ذلك أنا نحن لا ننازع في صحة توبته و مغفرة الله له مطلقا فإن ذلك إلى الله و إنما الكلام في : هل هذه التوبة مسقطة للحد عنه و ليس في الحديث ما يدل على ذلك فإنا قد نقبل إسلامه و توبته و نقيم عليه الحد تطهيرا له و هذا جواب من يقتله حدا محضا مع الحكم بصحة إسلامه
الثاني : أن هذا الحديث في قبول الظاهر إذا لم يثبت خلافه بطريق شرعي و هنا قد ثبت خلافه و هذا جواب من يقتله لزندقته و قد يجيب به من يقتل الذمي أيضا بناء على أنه زنديق في حال العهد فلا يوثق بإسلامه
و أما إسلام الحربي و المرتد و نحوهما ـ عند معاينة القتل ـ فإنما جاز لأنا إنما نقاتلهم لآن يسلموا و لا طريق إلى الإسلام إلا ما يقولونه بألسنتهم فوجب قبول ذلك منهم و إن كانوا في الباطن كاذبين و إلا لوجب قتل كل كافر أسلم أو لم يسلم و لا تكون المقاتلة حتى يسلموا بل يكون القتال دائما و هذا باطل ثم إنه قد يسلم الآن كارها ثم إن الله يحبب إليه الإيمان و يزينه في قلبه كذلك أكثر من يسلم لرغبته في المال و نحوه أو لرهبته من السيف و نحوه و لا دليل يدل على فساد الإسلام إلا كونه مكرها عليه بحق و هذا لا يلتفت إليه(3/366)
أما هنا فإنما نقتله لما مضى من جرمه من السب كما نقتل الذمي لقتله النفس أو لزناه بمسلمة و كما نقتل المرتد لقتله مسلما و لقطعه الطريق كما تقدم تقريره فليس مقصودنا بإرادة قتله أن يسلم و لا تجب مقاتلته على أن يسلم بل نحن نقتله جزاء له على ما آذانا و نكالا لأمثاله عن مثل هذه الجريمة فإذا أسلم فإن صححنا إسلامه لم يمنع ذلك وجوب قتله كالمحارب المرتد أو الناقض إذا أسلم بعد القدرة و قد قتل فإنه يقتل وفاقا فيما علمناه و إن حكم بصحة إسلامه و إن لم يصحح إسلامه فالفرق بينه و بين الحربي و المرتد من وجهين :
أحدهما : أن الحربي و المرتد لم يتقدم منه ما دل على أن باطنه بخلاف ظاهره بل إظهاره للردة لما ارتد دليل على أن ما يظهره من الإسلام صحيح و هذا مازال مظهرا للإسلام و قد أظهر ما دل على فساد عقده فلم يوثق بما يظهره من الإسلام بعد ذلك و كذلك ناقض العهد قد عاهدنا على أن لا يسب و قد سب فثبتت جنايته و غدره فإذا أظهر الإسلام بعد أن أخذ ليقتل كان أولى أن يخوف و يغدر فإنه كان ممنوعا من إظهاره و إسراره ؟ و لم يكن له غدر فيما فعله من السب بل كان محرما عليه في دينه فإذا لم يف به صار من المنافقين في العهد
الثاني : أن الحربي أو المرتد نحن نطلب منه أن يسلم فإذا أعطانا ما أردناه بحسب قدرته وجب قبوله منه و الحكم بصحته و الساب لا نطلب منه إلا القتل عينا فإذا أسلم ظهر إنما أسلم ليدرأ عن نفسه القتل الواجب عليه كما إذا تاب المحارب بعد القدرة عليه أو سلم أو تاب سائر الحياة بعد أخذهم فلا يكون الظاهر صحة هذا الإسلام فلا يسقط ما وجب من الحد قبله(3/367)
و حقيقة الأمر أن الحربي أو المرتد يقتل لكفر حاضر و يقاتل ليسلم فلا يمكن أن يظهر و هو مقاتل أو مأخوذ الإسلام إلا مكرها فوجب قبوله منه إذ لا يمكن بذله إلا هكذا و هذا الساب و الناقض لم يقتل لمقامه على الكفر أو كونه بمنزلة سائر الكفار غير المعاهدين لما ذكرناه من الأدلة الدالة على أن السب مؤثر في قتله و يكون قد بذل التوبة التي لن تطلب منه في حال الأخذ للعقوبة فلا تقبل منه
و على هذين المأخذين ينبني الحكم بصحة إسلام هذا الساب في هذه الحال مع القول بوجوب قتله :
أحدهما : لا يحكم بصحة إسلامه و هو مقتضى قول ابن القاسم وغيره من المالكية
و الثاني : يحكم بصحة إسلامه و عليه يدل كلام الإمام أحمد و أصحابه في الذمي مع وجوب إقامة الحد و أما المسلم إذا سب ثم قتل بعد أن أسلم فمن قال [ يقتل عقوبة على السب لكونه حق آدمي أو حدا محضا لله ] قال بصحة هذا الإسلام و قبله و هذا قول كثير من أصحابنا و غيرهم و قول من قال يقتل من أصحاب الشافعي
و كذلك من قال : [ يقتل من سب الله ] و من قال [ يقتل لزندقته ] أجرى عليه ـ إذا قتل بعد إظهار الإسلام ـ أحكام الزنادقة و هو قول كثير من المالكية و عليه يدل كلام بعض أصحابنا و على ذلك ينبني الجواب عما احتج به من قبول النبي صلى الله عليه و سلم ظاهر الإسلام من المنافقين فإن الحجة إما أن تكون في قبول ظاهر الإسلام في الجملة فهذا لا حجة فيه من أربعة أوجه قد تقدم ذكرها
أحدها : أن الإسلام إنما قبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلافه و كانوا ينكرون أنهم تكلموا بخلافه فأما أن البينة تقوم عند رسول الله عليه الصلاة و السلام على كفر رجل بعينه فيكف عنه فهذا لم يقع قط إلا أن يكون في بادئ الأمر
و الثاني : أنه كان في أول الأمر مأمورا في مبادئ الأمر أن يدع أذاهم و يصبر عليهم لمصلحة التأليف و خشية التنفير إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ](3/368)
الثالث : أنا نقول بموجبه فنقبل من هذا الإسلام و نقيم عليه حد السب كما لو أتى حدا غيره و هذا جواب من يصحح إسلامه و يقتله حدا لفساد السب
الرابع : أن النبي عليه الصلاة و السلام لم يستتب أحدا منهم و يعرضه على السيف ليتوب من مقالة صدرت منه مع أن هذا مجمع على وجوبه فإن الرجل منهم إذا شهد عليه الكفر و الزندقة فإما أن يقتل عينا أو يستتاب فإن لم يتب و إلا قتل
و أما الاكتفاء منه بمجرد الجحود فما أعلم به قائلا بل أقل ما قيل فيه أنه يكتفى منهم بالنطق بالشهادتين و التبري من تلك المقالة فإذا لم تكن السيرة في المنافقين كانت هكذا علم أن ترك هذا الحكم لفوات شرطه ـ و هو إما ثبوت النفاق أو العجز عن إقامة الحد أو مصلحة التأليف في حال الضعف ـ حتى قوي الدين فنسخ ذلك
و إن كان الاحتجاج بقبول ظاهر الإسلام ممن سب فعنه جواب خامس و هو أنه صلى الله عليه و سلم كان له أن يعفو عمن شتمه في حياته و ليس هذا العفو لأحد من الناس بعده
و أما تسمية الصحابة الساب غادرا محاربا فهو بيان لحل دمه و ليس كل من نقض العهد و حارب سقط القتل عنه بإسلامه بدليل ما لو قتل مسلما أو قطع الطريق عليه أو زنى بمسلمة بل تسميته محاربا ـ مع كون السب فسادا ـ يوجب دخوله في حكم الآية كما تقدم
و أما الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبوه ثم عفا عنهم فالجواب عن ذلك كله قد تقدم في المسألة الأولى لما ذكرنا قصصهم و بينا أن السب غلب فيه حق الرسول إذا علم فله أن يعفو و أن ينتقم [ و ليس في ] هؤلاء ما يدل على أن العقوبة إنما سقطت عنهم مع عفوه و صفحه لمن تأمل أحوالهم معه و التفريق بينهم و بين من لم يهجه و لم يسبه(3/369)
و أيضا فهؤلاء كانوا محاربين و الحربي لا يؤخذ بما أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض و المسلم و المعاهد يؤخذ بذلك و قولهم : [ الذمي يعتقد حل السب كما يعتقده الحربي و إن لم يعتقد حل الدم و المال ] غلط فإن عقد الذمة منعهم من الطعن في ديننا و أوجب عليهم الكف عن أن يسبوا نبينا كما منعهم دماءنا و أموالنا و أبلغ فهو إن لم يعتقد تحريمه للدين فهو يعتقد تحريمه للعهد كاعتقادنا نحن في دمائهم و أموالهم و أعراضهم و نحن لم نعاهدهم على أن نكف عن سب دينهم الباطل و إظهار معائبهم بل عاهدناهم على أن يظهروا في دارنا ما شئنا و أن يلتزموا جريان أحكامنا عليهم و إلا فأين الصغار ؟
و أما قولهم : [ الذمي إذا سب فإما أن يقتل لكفره و حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود ] قلنا : هذا تقسيم منتشر بل يقتل لكفره و حرابه بعد الذمة و ليس من حارب بعد الذمة بمنزلة الحربي الأصل فإن الذمي إذا قتل مسلما اجتمع عليه أنه نقض العهد و أنه وجب عليه القود فلو عفا ولي الدم قتل لنقض العهد بهذا الفساد و كذلك سائر الأمور المضرة بالمسلمين يقتل بها الذمي إذا فعلها و ليس حكمه فيها كحكم الحربي الأصل إجماعا و إذا قتل لحرابه و فساده بعد العهد فهو حد من الحدود فلا تنافي بين الوصفين حتى يجعل أحدهما للآخر و قد بينا بالأدلة الواضحة أن قتله ليس لمجرد كونه كافرا غير ذي عهد بل حد أو عقوبة على سب نبينا الذي أوجبت عليه الذمة تركه و الإمساك عنه مع أن السب مستلزم لنقض العهد العاصم لدمه و أنه يصير بالسب محاربا غادرا و ليس هو كحد الزنا و نحوه مما لا مضرة علينا فيه و إنما أشبه الحدود به حد المحاربة
و أما قولهم : [ ليس في السب أكثر من انتهاك العرض و هذا القدر لا يوجب إلا الجلد ] ففي الكلام عنه ثلاثة أجوبة :(3/370)
أحدها : أن هذا كلام في رأس المسألة فإنه إذا لم يوجب إلا الجلد و الأمور الموجبة للجلد لا تنقض العهد ـ لم ينتقض العهد به كسب بعض المسلمين و قد قدمنا الدلالات التي لا تحل مخالفتها على وجوب قتل الذمي إذا فعل ذلك و أنه لا عهد له يعصم دمه مع ذلك و بينا أن انتهاك عرض عموم المسلمين يوجب الجلد و أما انتهاك عرض الرسول فإنه يوجب القتل و قد صولح على إمساك على العرضين فمتى انتهك عرض الرسول فقد أتى بما يوجب القتل مع التزامه أن لا يفعله فوجب أن يقتل كما لو قطع الطريق أو زنى و التسوية بين عرض الرسول و عرض غيره في مقدار العقوبة من أفسد القياس
و الكلام في الفرق بينهما يعد تكلفا فإنه عرض قد أوجب الله على جميع الخلق أن يقابلوه من الصلاة و السلام و الثناء و المدحة و المحبة و التعظيم و التعزيز و التوقير و التواضع في الكلام و الطاعة للأمر و رعاية الحرمة في أهل البيت و الأصحاب بما لا خفاء به على أحد من علماء المؤمنين عرض به قام دين الله و كتابه و عبادة المؤمنين به وجبت الجنة لقوم و النار لآخرين به كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس عرض قرن الله ذكره بذكره و جمع بينه و بينه في كتابة واحدة و جعل بيعته بيعة له و طاعته طاعة له و أذاه أذى له إلى خصائص لا تحصى و لا يقدر قدرها أفيليق ـ لو لم يكن سبه كفرا ـ أن تجعل عقوبة منتهك هذا العرض كعقوبة منتهك عرض غيره ؟
و لو فرضنا أن لله نبيا بعثه إلى أمة و لم يوجب على أمة أخرى أن يؤمنوا به عموما و لا خصوصا فسبه رجل و لعنه عالما بنبوته إلى أولئك أفيجوز أن يقال : إن عقوبته و عقوبة من سب واحدا من المؤمنين سواء ؟ هذا أفسد من قياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا(3/371)
قولهم : [ الذمي يعتقد حل ذلك ] قلنا : لا نسلم فإن العهد الذي بيننا و بينه حرم عليه في دينه السب كما حرم عليه دماءنا و أموالنا و أعراضنا فهو إذا أظهر السب يدري أنه قد فعل عظيمة من العظائم التي لم نصالحه عليها ثم إن كان يعلم أن عقوبة ذلك عندنا القتل فبها و إلا فلا يجب لآن مرتكب الحدود يكفيه العلم بالتحريم كمن زنى أو سرق أو شرب أو قذف أو قطع الطريق فإنه إذا علم تحريم ذلك عوقب العقوبة المشروعة و إن كان يظن أن لا عقوبة على ذلك و أن عقوبته دون ما هو مشروع 0000 ]
و أيضا فإن دينهم لا يبيح لهم السب و اللعنة للنبي و إن كان دينا باطلا أكثر ما يعتقدون أنه ليس بنبي أو ليس عليهم اتباعه أما أن يعتقدوا أن لعنته و سبه جائزة فكثير منهم أو أكثرهم لا يعتقدون ذلك على أن السب نوعان أحدهما : ما كفروا به و اعتقدوه و الثاني : ما لم يكفروا به فهذا الثاني لا ريب أنهم لا يعتقدون حله
و أما قولهم : [ صولح على ترك ذلك فإنه فعله انتقض العهد ] فإنه إذا فعله انتقض عهده و عوقب على نفس تلك الجريمة و إلا كان يستوي حال من ترك العهد و لحق بدار الحرب من غير أذى لنا و حال من قتل و سرق و قطع الطريق و شتم الرسول مع نقض العهد و هذا لا يجوز(3/372)
و أما قولهم : [ كون القتل حدا حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ] فصحيح و قد تقدمت الأدلة الشرعية من الكتاب و السنة و الأثر و النظر الدالة على أن نفس السب ـ من حيث خصوصيته ـ موجب للقتل و لم يثبت ذلك استحسانا صرفا و استصلاحا محضا بل أثبتاه بالنصوص و آثار الصحابة و ما دل عليه إيماء الشارع و تنبيهه و بما دل عليه الكتاب و السنة و إجماع الأمة من الخصوصية لهذا السب و الحرمة لهذا العرض التي يوجب أن لا يصونه إلا القتل لا سيما إذا قوي الداعي على انتهاكه و خفة حرمته بخفة عقابه و صغر في القلوب مقدار من هو أعظم العالمين قدرا إذا ساوى في قدر العرض زيدا و عمرا و تمضمض بذكره أعداء الدين من كافر غادر و منافق ماكر فهل يستريب من قلب الشريعة ظهرا لبطن أن محاسنها توجب حفظ هذه الحرمة التي هي أعظم حرمات المخلوقين و حرمتها متعلقة بحرمة رب العالمين بسفك دم واحد من الناس ؟ مع أعظم النظر عن الكفر و الارتداد فإنهما مفسدتان اتحادهما في معنى التعداد و لسنا الأن نتكلم في المصالح المرسلة فإنا لم نحتج إليها في هذه المسألة لما فيها من الأدلة الخاصة الشرعية و إنما ننبه على عظم المصلحة في ذلك بيانا لحكمة الشرع لأن القلوب إلى ما فهمت حكمته أسرع انقيادا و النفوس إلى ما تطلع على مصلحته أعطش أكبادا ثم لو لم يكن في المسألة نص و لا أثر لكان اجتهاد الرأي يقضي بأن يجعل القتل عقوبة هذا الجرم لخصوصه لا لعموم كونه كفرا أو ردة حتى لو فرض تجرده عن ذلك لكان موجبا للقتل أخذا له من قاعدة العقوبات في الشرع فإنه يجعل أعلى العقوبات في مقابلة أرفع الجنايات و أوسطها في مقابلة أوسطها و أدناها في مقابلة أدناها فهذه الجناية إذا انفردت تمتنع أن تجعل في مقابلة الأذى فتقابل بالجلد أو الحبس تسوية بينها و بين الجناية على عرض زيد و عمرو فإنه لا يخفى على من له أدنى نظر بأسباب الشرع أن هذا من أفسد أنواع الاجتهاد و مثله في الفساد خلوها عن(3/373)
العقوبة تخصها و أما جعله في الأوسط كما اعتقده المهاجر بن أبي أمية حتى قطع يد الجارية السابة و قلع ثنيتها فباطل أيضا كما أنكره عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الجناية جناية على أشرف الحرمات و لأنه لا مناسبة بينها و بين أوسط العقوبات من قطع عضو من الأعضاء فتعين أن تقابل بأعلى العقوبات و هو القتل
و لو نزلت بنا نازلة السب و ليس معنا فيها أثر يتبع ثم استراب مستريب في الواجب إلحاقها بأعلى الجنايات لما عد من بضراء الفقهاء و مثل هذه المصلحة ليست مرسلة بحيث أن لا يشهد لها الشرع بالاعتبار فإذا فرض أنه ليس لها أصل خاص تلحق به و لابد من الحكم فيها فيجب أن يحكم فيها بما هو أشبه بالأصول الكلية و إذا لم يعمل بالمصلحة لزم العمل بالمفسدة و الله لا يحب الفساد
و لا شك أن العلماء في الجملة ـ من أصحابنا و غيرهم ـ قد يختلفون في هذا الضرب من المصالح إذا لم يكن فيها أثر و لا قياس خاص و الإمام أحمد قد يتوقف في بعض أفرادها مثل قتل الجاسوس المسلم و نحوه إن جعلت من أفرادها و ربما عمل بها و ربما تركها إذا لم يكن معه فيها أثر أو قياس خاص و من تأمل تصاريف الفقهاء علم أنهم يضطرون إلى رعايتها إذا لم يخالف أصلا من الأصول و لم يحالف في اعتبارها الطوائف من أهل الجدل و الكلام من أصحابنا و غيرهم و لو أنهم مخاض الفقهاء لعلموا أنه لابد من اعتبارها و ذوق الفقه ممن لجج فيه شيء و الكلام على حواشيه من غير معرفة أعيان المسائل شيء آخر و أهل الكلام و الجدل إنما يتكلمون في القسم الثاني فيلتزمون غيرهم مالا يقدرون على التزامه و يتكلمون في الفقه كلام من لا يعرف إلا أمور كلية و عمومات إحاطية و للتفاصيل خصوص نظر و دلائل يدركها من عرف أعيان المسائل(3/374)
و أثبتناه أيضا بالقياس الخاص و هو القياس على كل من ارتد و نقض العهد على وجه يضر المسلمين مضرة فيها العقوبة بالقتل و بينا أن هذا أخص من مجرد الردة و مجرد نقض العهد و أن الأصول فرقت بينهما
و أثبتناه أيضا بالنافي لحقن دمه و بينا أن هذا حل دمه بما فعله و الأدلة العاصمة لمن أسلم من مرتد و ناقض لا تتناوله لفظا و لا معنى
و قولهم : [ القياس في الأسباب لا يصح ] خلاف ما عليه الفقهاء و هو قول باطل قطعا ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك
و قولهم : [ معرفة نوع الحكمة و قدرها متعذر ] قلنا لا نسلم هذا على الإطلاق بل قد يمكن و قد يتعذر بل ربما علم قطعا : لأن الفرع مشتمل على الحكمة الموجودة في الأصل و زيادة
قولهم : [ هو يخرج السبب عن أن يكون سببا ] ليس كذلك فإن سبب السبب لا يمنعه أن يكون سببا و الإضافة إلى السبب لا تقدح في الإضافة إلى سبب السبب و العلم بها ضروري(3/375)
وأما قولهم : [ ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يجوز إلحاق السب بها ] قلنا بل هو يلحق بالردة المقترنة بما يغلظها و النقض المقترن بما يغلظه و إن الفساد الحاصل في السب أبلغ من الفساد الحاصل بتلك الأمور المغلظة كما تقدم بيانه بشواهده من الأصول الشرعية على أن هذا الحكم مستغن عن أصل يقاس به بل هو أصل في نفسه كما تقدم ثم إن هذا الكلام مقابل بما هو أنور منه بيانا و أبهر منه برهانا و ذلك أن القول بوجوب الكف عن هذا الساب ـ بعد الاتفاق على حل دمه ـ قول لا دليل عليه إلا قياس له على بعض المرتدين و ناقضي العهد مع ظهور الفرق بينهما و من قاس الشيء على ما يخالفه و يفارقه كان قياسه فاسدا فإن جعل هذا سببا عاصما قياس لسبب على سبب مع تباينهما في نوع الحكمة و قدرها ثم إنه إخلاء للسب الذي هو أعظم الجناية على الأعراض من العقوبات و لا عهد لنا بهذا في الشرع فهو إثبات حكم خارج عن القياس و جعل لكونه موجبا للقتل موجبا لكونه أهون من أعراض الناس في باب السقوط و هذا تعليق على العلة ضد مقتضاها و خروج عن موجب الأصول فإن العقوبات لا يكون تغلظها في الوجوب سببا لتخفيفها في السقوط قط لكن إن كان جنسها مما يسقط سقطت خفيفة كانت أو غليظة كحقوق الله في بعض المواضع و لم تسقط خفيفة كانت أو غليظة كحقوق العباد
ثم إن القول باستتابة الساب قول يخالف كتاب الله و يخالف صريح سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سنة خلفائه و أصحابه و القول بأن لا حق للرسول على الساب إذا أسلم : الذمي أو المسلم و لا عقوبة له عليه قول يخالف المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و يخالف أصول الشريعة و يثبت حكما ليس له أصل و لا نظير إلا أن يلحق بما ليس مثلا له(3/376)
الجواب الثاني : أنا لم ندع أن مجرد السب موجب للقتل و إنما بينا أن كل سب فهو محاربة و نقض للعهد بما يضر المسلمين فيقتل بمجموع الأمرين السب و نقض العهد و لا يجوز أن يقال : خصوص السب عديم التأثير فإن فساد هذا معلوم قطعا بما ذكرناه من الأدلة القاطعة على تأثيره و إذا كان كذلك لم نثبته سببا خارجا عن الأسباب المعهودة و إنما هو مغلظ السبب المعروف و هو الكفر كما أن قتل النفوس موجب لحل دمه ثم إن كان قد قتله في المحاربة تغلظ بحتم القتل و إلا بقي الأمر فيه إلى الأولياء و معلوم أن المقتول من قطاع الطريق لا يقال فيه [ قتل قودا و لا قصاصا ] حتى يرتب عليه أحكام من يجب عليه القود و إنما يضاف القتل إلى خصوص جنايته و هو القتل في المحاربة كذلك هنا الموجب هو خصوص المحاربة
و قولهم : [ الأدلة مترددة بين كون القتل لمجرد المحاربة أو لخصوص السب ] قلنا : هي نصوص في أن السب مؤثر تأثير زائدا على مطلق تأثير الكفر الخالي عن عهد فلا يجوز إهمال خصوصه بعد اعتبار الشرع له و أن يقال : إنما المؤثر مجرد ما في ضمنه و طيه من زوال العهد و لذلك و جب قتل صاحبة عينا من غير تخيير كما قررنا دلالته فيما مضى و إذا كان كذلك فليس مع المخالف ما يدل على أن القتل المباح يسقط بالإسلام و إن كان هذا من فروع الكفر كما أن الذمي إذا استحل دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم فانتهكها لاعتقاده أنهم كفار و أن ذلك حلال لهم منهم ثم أسلم فإنه يعاقب على ذلك : إما بالقتل إن كان فيها ما يوجب القتل أو بغيره
و لذلك لو استحل ذلك ذمي من ذمي ـ مثل أن يقتل نصراني يهوديا أو يأخذ ماله لاعتقاده أن ذلك حلال له أو يقذفه أو يسبه ـ فإنه يعاقب على ذلك عقوبة مثله و إن أسلم(3/377)
و كذلك لو قطع الطريق على قافلة فيهم مسلمون و معاهدون فقتل بعض أولئك المسلمين أو المعاهدين قتل لأجل ذلك حتما و انتقض عهده و إن أسلم بعد ذلك و إن كان هذا من فروع الكفر فهذا رجل انتقض عهده بأمر يعتقد حله قبل العهد و لو فعله مسلم لم يقتل عند كثير من الفقهاء إذا كان المقتول ذميا و كل واحد من الكفر و من القتل مؤثر في قتله و إن كان عهده إنما زال بهذا القتل فهذا نظير السب ثم لو أسلم هذا لم يسقط عنه القتل بل يقتل إما حدا أو قصاصا سواء كان ذلك القتل مما يقتل به المسلم ـ بأن يكون المقتول مسلما ـ أو لا يقتل به بأن يكون المقتول ذميا و على التقديرين يقتل هذا الرجل بعد إسلامه لقطعه الطريق مثلا و قتله ذلك المعاهد من غير أهل دينه و إن كان إنما فعل هذا مستحلا له لكفره و هو قد تاب من ذلك الكفر فتكون التوبة منه توبة من فروعه و ذلك لأن هذا الفرع ليس من لوازم الكفر بل هو محرم عليه في دينه لأجل الذمة كما أن تلك الدماء و الأموال محرمة عليه لأجل الذمة و منشأ الغلط في هذه المسألة اعتقاد أن الذمي يستبيح هذا السب فإن هذا غلط إذ لا فرق ـ بالنسبة إليه ـ بين إظهار الطعن في المسلمين و بين سفك دمائهم و أخذ أموالهم إذ الجميع إنما حرمه عليهم العهد لا الدين المجرد فكيف لم يندرج أخذه لعرض بعض الأمة أو لعرض واحد من غير أهل دينه من أهل الذمة في ضمن التوبة من كفره مع أنه فرعه و اندرج أخذه لعرض نبينا عليه الصلاة و السلام في ضمن التوبة من كفره ؟(3/378)
الجواب الثالث : هب أنه إنما يقتل للكفر و الحراب فقوله : [ الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر و الحراب بالإتفاق ] غلط و ذلك أنا إنما اتفقنا على أنه يسقط القتل الثابت للكفر و الحراب الأصلي فإن ذلك إذا أسلم لم يؤخذ بما أصاب في الجاهلية من دم أو مال أو عرض للمسلمين أما الحراب الطارىء فمن الذي وافق على أن القتل الثابت بجميع أنواعه يسقط بالإسلام ؟ نعم نوافق على ما إذا نقض العهد بما لا ضرر على المسلمين فيه ثم أسلم أما إذا أسلم ثم حارب و أفسد بقطع طريق أو زنا بمسلمة أو قتل مسلم أو طعن في الدين فهذا يقتل بكل حال كما دل عليه الكتاب و السنة و هو يقتل في مواضع بالإجماع كما إذا قتل في المحاربة و حيث لم يكن مجمعا عليه فهو كمحل النزاع و القرآن يدل على أن يقتل لأنه إنما استثنى من تاب قبل القدرة في الجملة فهذه المقدمة ممنوعة و التميز بين أنواع الحراب يكشف اللبس
و أما ما ذكروه من أن الكافر و المسلم إذا سب فيما بينه و بين الله و قذف الأنبياء ثم تاب قبل الله توبته و لم يطالبه النبي بموجب قذفه في الدنيا و لا في الآخرة و أن الإسلام يجب قذف اليهود لمريم و ابنها و قولهم في الأنبياء و الرسل فهو كما قالوا و لا ينبغي أن يستراب في مثل هذا و قد صرح [ به ] بعض أصحابنا و غيرهم و قالوا : إنما الخلاف في سقوط القتل عنه أما توبته و إسلامه فيما بينه و بين الله فمقبولة فإن الله يقبل التوبة عن عباده من الذنوب كلها و عموم الحكم في توبة المسلم و الذمي
فأما توبة المسلم فقد تقدم القول فيها و أما توبة الذمي من ذلك فإن كان ذلك السب ليس ناقضا للعهد بأنة يقوله سرا فتوبته منه كتوبة الحربي من جميع ما يقوله و يفعله و توبة الذمي من جميع ما يقر عليه من الكفر فإن هذا لم يكن ممنوعا بعقد الذمة و ليس كلامنا فيه و به يخرج الجواب عما ذكروه(3/379)
فإن السب الذي قامت الأدلة على مغفرته بالإسلام ليس هو السب الذي ينتقض به عهد الذمي إذا فعله و إنما فرق بين الجهر بالسب و الإسرار به بخلاف المسلم لأن ما يسره من السب لا يمنعه منه إيمان و لا أمان ألا ترى أنه لو قذف واحدا من المسلمين سرا مستحلا لذلك ثم أسلم كان كما لو قذفه و هو حربي ثم أسلم و معلوم أن الكافر الذي لا عهد معه يمنعه من شيء متى أسلم سقط عنه جميع الذنوب تبعا للكفر نعم لو أتى من السب بما يعتقده حراما في دينه ثم أسلم ففي سقوط حق المسبوب هنا نظر و نظيره أن يسب الأنبياء بما يعتقده محرما في دينه و أما إن كان السب ناقضا للعهد فإظهاره له مستحلا له في الأصل و غير مستحل كقتله المسلم مستحلا أو غير مستحل فالتوبة هنا تسقط حق الله في الباطن و أما إسقاطها لحق الآدمي ففيه نظر
و الذي يقضيه القياس أنه كتوبة المسلم : إن كان قد بلغ المشتوم فلا بد من استحلاله و إن لم يبلغه ففيه خلاف مشهور و ذلك لأنه حق آدمي يعتقده محرما عليه و قد انتهكه فهو كما لو قتل المعاهد مسلما سرا ثم أسلم وتاب أو أخذ له مالا سرا ثم أسلم فإن إسلامه لا يسقط عنه حق الآدمي الذي كان يعتقده محرما لا عهد لا ظاهرا و لا باطنا و هذا معنى قول من قال من أصحابنا : [ إن توبته فيما بينه و بين الله مقبولة ] فإن الله يقبل التوبة من الذنوب كلها و إن الله يقبل التوبة من حقوقه مطلقا أما من حقوق العباد فإن التوبة لا تبطل حقوقهم بل إما أن يستوفيها صاحبها ممن ظلمه أو يعوضه الله عنها من فضله العظيم
و جماع هذا الأمر أن التوبة من كل شيء كان يستحله في كفره تسقط حقوق الله و حقوق العباد ظاهرا و باطنا لكن السب الذي نتكلم فيه هو السب الذي يظهره الذمي و ليس هذا مما كان يستحله كما لم يكن يستحل دماءنا و أموالنا و إن كان ذلك مما يستحله لولا العهد(3/380)
و قد تقدم ذكر هذا و بينا أن العهد يحرم عليه في دينه كثيرا مما كان يعتقده حلالا لولا العهد و نظير هذا التوبة المرتد من السب الذي يعتقد صحته و أما ما لم يكن يستحله و هو إظهار السب ففيه حقان : حق لله و حق الآدمي فتوبته تسقط فيما بينه و بين الله حقه لكن لا يلزم أن تسقط حق الآدمي في الباطن فهذا الكلام على قبول التوبة فيما بينه و بين الله و حينئذ فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن الموضع الذي ثبت فيه قبول توبته فيما بينه و بين الله من حق الله و حق عباده ليس هو الموضع الذي ينتقض فيه عهده و يقتل و إن تاب فإن ادعى أنه يسقط حق العباد في جميع الصور فهذا محل منع لما فيه من الخلاف فلابد من إقامة الدلالة على ذلك و الأدلة المذكورة لم تتناول السب الظاهر الذي ينتقض به العهد
الوجه الثاني : أن صحة التوبة فيما بينه و بين الله لا تسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا فإن من تاب من قتل أو قذف أو قطع طريق أو غير ذلك فيما بينه و بين الله فإن ذلك لا يسقط حقوق العباد من القود و حد القذف و ضمان المال و هذا السب فيه حق لآدمي فإن كانت التوبة يغفر له بها ذنبه المتعلق بحق الله و حق عباده فإن ذلك لا يوجب سقوط حقوق العباد من العقوبة
الوجه الثالث : أن من يقول بقبول التوبة من ذلك في الباطن بكل حال يقول : [ إن توبة العبد فيما بينه و بين الله ممكنة من جميع الذنوب حتى إنه لو سب سرا آحادا من الناس موتى ثم تاب و استغفر لهم بذل سبهم لرجي أن يغفر الله له و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فكذلك ساب الأنبياء و الرسل لو لم تقبل توبته و تغفر زلته لانسد باب التوبة و قطع طريق المغفرة و الرحمة و قد قال الله تعالى لما نهى عن الغيبة : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه و اتقوا الله إن الله تواب رحيم } [ الحجرات : 12 ](3/381)
فعلم أن المغتاب له سبيل إلى التوبة بكل حال و إن كان الذي اغتيب ميتا أو غائبا بل أصح الروايتين ليس عليه أن يستحله في الدنيا إذا لم يكن علم فإن فساد ذلك أكثر من صلاحه و في الأثر : [ كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ] و قد قال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ]
أما إذا كان الرسول حيا و قد بلغه السب فقد يقول هنا : إن التوبة لا تصح حتى يستحل الرسول و يعفو عنه كما فعل أنس بن زنيم و أبو سفيان ابن الحارث و عبد الله بن أبي أمية و عبد الله بن سعد بن أبي سرح و ابن الزبعرى و إحدى القينتين و كعب بن زهير و غيرهم كما دلت عليه السيرة لمن تدبرها و قد قال كعب بن زهير :
( نبئت أن رسول الله أوعدني ... و العفو عند رسول الله مأمول )
و إنما بطلب العفو في شيء يجوز فيه العفو و الانتقام و إنما يقال [ أوعده ] إذا حكم الإيعاد باقيا بعد الإسلام و إلا فلو كان الإيعاد معلقا ببقائه على الكفر لم يبق إيعاد
إذا تقرر هذا فصحة التوبة فيما بينه و بين الله و سقوط حق الرسول بما أبدله من الإيمان به الموجب لحقوقه لا يمنع أن يقيم عليه حد الرسول إذا ثبت عند السلطان و إن أظهر التوبة بعد ذلك كالتوبة من جميع الكبائر الموجبة للعقوبات المشروعة سواء كانت حقا لله أو حقا لآدمي فإن توبة العبد فيما بينه و بين الله ـ بحسب الإمكان ـ صحيحة مع أنه إذا ظهر عليه أقيم عليه الحد و قد أسلفنا أن حق الرسول فيه حق لله و حق لآدمي و أنه من كلا الوجهين يجب استيفاؤه إذا رفع إلى السلطان و إن أظهر الجاني التوبة بعد الشهادة
و أما ما ذكروه من كون سب الرسول ليس بأعظم من سب الله و أن ما فيه من الشرف فلأجله ففي الجواب عنه طريقتان :(3/382)
أحدهما : أنه لا فرق بين البابين فإن ساب الله أيضا يقتل و لا تسقط التوبة القتل عنه إما لكونه دليلا على الزندقة في الإيمان و الأمان أو لكونه ليس مجرد ردة و نقض و إنما هو من باب الاستخفاف بالله و الاستهانة و مثل هذا لا يسقط القتل عنه إذا تاب بعد الشهادة عليه كما لا يسقط القتل عنه إذا انتهك محارمه فإن انتهاك حرمته أعظم من انتهاك محارمه و سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك و من قاله من أصحابنا و غيرهم و من أجاب بهذا لم يورد عليه صحة إسلام النصراني و نحوه و قبول توبتهم لأنه لا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله و في قبول التوبة مطلقا إذا لم يظهروا السب و إنما الخلاف فيما إذا أظهر النصراني ما هو سب و طعن و دعاؤهم إلى التوبة لا يمنع إقامة الحدود عليهم إذا كانوا معاهدين كقوله سبحانه و تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثم لم يتوبوا } [ البروج : 10 ] و كانت فتنتهم أنهم ألقوهم في النار حتى كفروا و لو فعل هذا معاهد بمسلم فإنه يقتل و إن أسلم بالاتفاق و إن كانت توبته فيما بينه و بين الله مقبولة
و أيضا فإن مقالات الكفار التي يعتقدونها ليست من السب المذكور فإنهم يعتقدون هذا تعظيما لله و دينا له و إنما الكلام في السب الذي هو سب عند الساب و غيره من الناس و فرق بين من يتكلم في حقه بكلام يعتقده تعظيما له و بين من يتكلم بكلام يعلم أنه استهزاء به و استخفاف به و لهذا فرق في القتل و الزنا و السرقة و الشرب و القذف و نحوهن بين المستحل لذلك المعذور و بين من يعلم التحريم
و كذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ]
و قوله فيما يروي عن ربه عز و جل : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر و أنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل و النهار ](3/383)
فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه و إنما قصد أن يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لأنه هو الفاعل في الحقيقة سواء قلنا إن الدهر اسم من أسماء الله تعالى كما قال [ نعيم بن حماد ] أو قلنا إنه ليس باسم و إنما قوله : [ أنا الدهر ] أي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر و يوقعون السب عليه كما قال أبو عبيدة و الأكثرون
و لهذا يكفر من سب الدهر و لا يقتل لكن يؤدب و يعزر لسوء منطقه و السب المذكور في قوله تعالى : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام : 108 ]
قد قيل : إن المسلمين كانوا إذا سبوا آلهة الكفار من يأمرهم بذلك و إلههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم و إلههم فيقع سبهم على الله لأنه إلهنا و معبودنا فيكونوا سابين لمصوف و هو الله سبحانه و لهذا قال سبحانه : { عدوا بغير علم } و هو شبيه الدهر من بعض الوجوه
و قيل : كانوا يصرحون بسب الله عدوا و غلوا في الكفر قال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار الله بغير علم فأنزل الله : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
و قال أيضا : كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون عليهم فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله و ذلك أنه في اللجاجة أن يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا كما قال بعض الحمقى :
( سبوا عليا كما سبوا عتيقكم ... كفرا بكفر و إيمانا بإيمان )
و كما يقول بعض الجهال : مقابلة الفاسد بمثله و كما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول الله عليه الصلاة و السلام و هذا من الموجبات للقتل
الطريقة الثانية : طريقة من فرق بين سب الله و سب رسوله و ذلك من وجوه :(3/384)
أحدها : أن سب الله حق محض لله و ذلك يسقط بالتوبة كالزنا و السرقة و شرب الخمر و سب النبي عليه الصلاة و السلام فيه حقان : لله و للعبد و لا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلافه
الوجه الثاني : أن النبي عليه الصلاة و السلام تلحقه المعرة بالسب لأنه مخلوق و هو جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة و الغضاضة بالسب و الشتم و كذلك يثابون على سبهم و يعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضا على ما أصابهم من المعصية بالشتم فمن سبه فقد انتقص حرمته و الخالق سبحانه لا تلحقه معرة و لا غضاضة بذلك فإنه منزه عن لحوق المنافع و المضار كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله عليه الصلاة و السلام : [ يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ]
و إذا كان سب النبي صلى الله عليه و سلم قد يؤثر انتقاصه في النفوس و تلحقه بذلك معرة و ضيم و ربما كان سببا للتنفير عنه و قلة هيبته و سقوط حرمته شرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبه بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم و أما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر و المرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يقتل
و هذا الفرق ذكره طوائف من المالكية و الشافعية و الحنبلية منهم القاضي عبد الوهاب بن نصر و القاضي أبو يعلى في : المجرد و أبو علي ابن البناء و ابن عقيل و غيرهم و هو يتوجه مع قولنا : [ إن سب النبي عليه الصلاة و السلام حد الله كالزنا و السرقة ](3/385)
يؤيد ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنا ثم لم يشرع عليه حد مقدر كما شرع على الرمي بالزنا و ذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحق العار الذي يلحقه بالرمي بالزنا لأنه بما يظهر من الإيمان يعلم كذب القاذف و بما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرة بخلاف الزنا فإنه يستسر به و لا يمكنه إظهار البراءة منه و لا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة فلذلك ساب الرسول يلحق بالذين و أهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسب الله ظاهرا معلوما لكل أحد يشترك فيه كل الناس
الوجه الثالث : إن النبي عليه الصلاة و السلام إنما يسب على وجه الاستخفاف به و الاستهانة و للنفوس الكافرة و المنافقة إلى ذلك داع : من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضله و من جهة المخالفة في دينه و من جهة المراغمة لأمته و كل مفسدة يكون إليها داع فلا بد من شرع العقوبة عليها حدا و كل ما شرعت العقوبة عليه يسقط بالتوبة كسائر الجرائم و أما سب الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافا و استهانة و إنما يقع تدينا و اعتقادا و ليس للنفوس في الغالب داع إلى إلقاء السب إلا عن اعتقاد يرونه تعظيما و تمجيدا و إذا كان كذلك لم يحتج خصوص السب إلى شرع زاجر بل هو نوع من الكفر فيقتل الإنسان عليه كردته و كفره إلا أن يتوب
و هذا الوجه من نمط الذي قبله و الفرق بينهما أن ذلك بيان لن مفسدة السب لا تزول بإظهار التوبة بخلاف مفسدة سب الله تعالى و الثاني بيان لأن سب الرسول إليه داع طبعي فيشرع الزجر عليه لخصوصه كشرب الخمر و سب الله تعالى ليس إليه داع طبعي فلا يحتاج خصوصه إلى زجر آخر كشرب البول و أكل الميتة و الدم(3/386)
و الوجه الرابع : أن سب النبي عليه الصلاة و السلام حد وجب لسب آدمي ميت لم يعلم أنه عفا عنه و ذلك لا يسقط بالتوبة بخلاف سب الله تعالى فإنه قد علم أنه قد عفا عمن سبه إذا تاب و ذلك أن سب الرسول متردد في سقوط حده بالتوبة بين سب الله و سب سائر الآدميين فيجب إلحاقه بأشبه الأصليين به و معلوم أن سب الآدمي إنما لا يسقط عقوبته بالتوبة لأن حقوق الآدميين لا يسقط بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم و لا ينتفعون بتوبة التائب فإذا تاب من للآدمي عليه حق قصاص أو قذف فإن له أن يأخذه منه لينتفع به تشفيا و درك ثأر و صيانة عرض و حق الله قد علم سقوطه بالتوبة لأنه سبحانه إنما أوجب الحقوق لينتفع بها العباد فإذا رجعوا إلى ما ينفعهم حصل مقصود الإيجاب و حينئذ فلا ريب أن حرمة الرسول ألحقت بحرمة الله من جهة التغليظ لأن الطعن فيه طعن في دين الله و كتابه و هو من الخلق الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة لأنهم ينتفعون باستفاء الحقوق ممن هي عليه
و قد ذكرنا ما دل على ذلك من أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان له أن يعاقب من آذاه و إن جاءه تائبا و هو عليه الصلاة و السلام كما أنه بلغ الرسالة لينتفع بها العباد فإذا تابوا و رجعوا إلى ما أمرهم به فقد حصل مقصودة فهو أيضا يتألم بأذاهم له فله أن يعاقب من آذاه تحصيلا لمصلحة نفسه كما أنه يأكل و يشرب فإن تمكين البشر من استيفاء حقه ممن بغى عليه من جملة مصالح الإنسان و لو لا ذلك لماتت النفوس غما ثم إليه الخيرة في العفو و الانتقام فقد تترجح عنده مصلحة الانتقام فيكون فاعلا لأمر مباح و حظ جائز كما له أن يتزوج النساء و قد يترجح العفو(3/387)
و الأنبياء عليهم السلام منهم من كان قد يترجح عنده أحيانا الانتقام و يشدد الله قلوبهم فيه حتى تكون أشد من الصخر كنوح و موسى و منهم من كان يترجح عنده العفو فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكون ألين من اللين كإبراهيم و عيسى فإذا تعذر عفوه عن حقه تعين استفاؤه و إلا لزم إهدار حقه بالكلية
قولهم : [ إذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى ]
قلنا : هو تابع من حيث تغلظت عقوبته لا من حيث إن له حقا في الاستيفاء لا ينجبر بالتوبة
قولهم : [ ساب الواحد من الناس لا يختلف حاله بين ما قبل الإسلام و بعده و بخلاف ساب الرسول ]
عنه جوابان :
أحدهما المنع فإن سب الذمي للمسلم جائز عنده لأنه يعتقد كفره و ضلاله و إنما يحرمه عنده العهد الذي بيننا و بينه فلا فرق بينهما و إن فرض الكلام في سب خارج عن الدين مثل الرمي بالزنا و الافتراء عليه و نحو ذلك فلا فرق ذلك بين سب الرسول و سب الواحد من أهل الذمة و لا ريب أن الكافر إذا أسلم صار أخا للمسلم يؤذيه ما يؤذيهم و صار معتقدا لحرمة أعراضهم و زال المبيح لانتهاك أعراضهم و مع ذلك لا يسقط حق المشتوم بإسلامه و قد تقدم هذا الوجه غير مرة
الثاني : أن شاتم الواحد من الناس لو تاب و أظهر براءة المشتوم و أثنى عليه و دعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له أن يستوفى حده مع ذلك فلا فرق بينه و بين شاتم الرسول إذا أظهر اعتقاد رسالته و علو منزلته و سبب ذلك أن إظهار مثل هذه التوبة لا يزيل ما لحق المشتوم من الغضاضة و المعرة بل قد يحمل ذلك على خوف العقوبة و تبقى آثار السب الأول جارحة فإن لم يمكن المشتوم من أخذ حقه بكل حال لم يندمل جرحه
قولهم : [ القتل حق الرسالة و أما البشرية فإنما لها حقوق البشرية و التوبة تقطع حق الرسالة ](3/388)
قلنا : لا نسلم ذلك بل هو من حيث هو بشر مفصل في بشريته على الآدميين تفضيلا يوجب قتل سابه و لو كان القتل إنما وجب لكونه قدحا في النبوة لكان مثل غيره من أنواع الكفر و لم يكن خصوص السب موجبا للقتل و قد قدمنا من الأدلة ما يدل على أن خصوص السب موجب للقتل و انه ليس بمنزلة سائر أنواع الكفر و من سوى بين الساب و بين المعرض عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب و السنة الظاهرة و الإجماع الماضي و خالف المعقول و سوى بين الشيئين المتباينين كون القاذف له لم يجب عليه مع القتل جلد ثمانين أوضح دليل على أن القتل عقوبة لخصوص السب و إلا كان قد اجتمع حقان : حق لله ـ و هو تكذيب رسوله فيوجب القتل ـ و حق لرسوله ـ و هو سبه فيوجب الجلد على هذا الرأي ـ فكان ينبغي قبل التوبة على هذا أن يجتمع عليه الحدان كما لو ارتد و قذف مسلما و بعد التوبة يستوفي منه حد القذف فكان إنما للنبي عليه الصلاة و السلام أن يعاقب من سبه و جاء تائبا بالجلد فقط كما أنه ليس لإمام أن يعاقب قاطع الطريق إذا جاء تائبا إلا بالقود و نحوه مما هو خالص حق الآدمي و لو سلمنا أن القتل حق الرسالة فقط فهو ردة مغلظة بما فيه ضرر أو نقض مغلظ بما فيه ضرر كما لو اقترن بالنقض حراب و فساد بالفعل من قطع طريق و زنا بمسلمة و غير ذلك فإن القتل هنا حق لله و مع هذا لم يسقط بالتوبة و الإسلام و هذا المأخذ متحقق سواء قلنا إن ساب الله يقتل بعد التوبة أو لا يقتل كما تقدم تقريره
قولهم : [ إذا أسلم سقط القتل المتعلق بالرسالة ](3/389)
قلنا : هذا ممنوع أما إذا سوينا بينه و بين سب الله فظاهر و إن فرقنا فإن هذا شبه من باب فعل المحارب لله و رسوله الساعي في الأرض فسادا و الحاجة داعية إلى ردع أمثاله كما تقدم و إن سلمنا سقوط الحق المتعلق بالكفر بالرسالة لكن لم يسقط الحق المتعلق بشتم الرسول و سبه فإن هذه جناية زائدة على نفس الرسول مع إلتزام تركها فإن الذمي يلتزم لنا أن لا يظهر السب و ليس ملتزما لنا أن لا يكفر به فكيف يجعل ما التزم تركه من جنس ما أقررناه عليه ؟ و جماع الأمر أن هذه الجناية على الرسالة له نقض يتضمن حرابا و فسادا أو ردة تضمنت فسادا و حرابا و سقوط القتل عن مثل هذا ممنوع كما تقدم
قولهم : [ حق البشرية انغمر في حق الرسالة و حق الأدمي انغمر في حق الله ]
قلنا : هذه دعوى محضة و لو كان كذلك لما جاز للنبي عليه الصلاة و السلام العفو عمن سبه و لا جاز عقوبته بعد مجيئه تائبا و لا احتيج خصوص السب أن يفرد بذكر العقوبة لعلم كل أحد أن سب الرسول أغلظ من الكفر به فلما جاءت الأحاديث و الآثار في خصوص سب الرسول بالقتل علم أن ذلك لخاصة في السب و إن اندرج في عموم الكفر(3/390)
و أيضا فحق العبد لا ينغمر في حق الله قط نعم العكس موجود كما تندرج عقوبة القاتل و القاذف على عصيانه في القود و حد القذف و أما أن يندرج حق العبد في حق الله فباطل فإن من جنى جناية واحدة تعلق بها حقان لله و لآدمي ثم سقط حق الله لم يسقط حق الآدمي سواء كان من جنس أو جنسين كما لو جنى جنايات متفرقة كمن قتل في قطع الطريق فإنه إذا سقط عنه تحتم القتل لم يسقط عنه القتل و لو سرق سرقة ثم سقط عنه القطع لم يسقط عنه الغرم بإجماع المسلمين حتى عند من قال : [ إن القطع و الغرم لا يجتمعان نعم إذا جنى جناية واحدة فيها حقان لله و لآدمي : فإن كان موجب الحقين من جنس واحد تداخلا و إن كانا من جنسين ففي التداخل خلاف معروف مثال الأول قتل المحارب فإنه يوجب القتل حقا لله و للآدمي و القتل لا يتعدد فمتى قتل لم يبق للآدمي حق في تركته من الدية و إن كان له أن يأخذ الدية إذا قتل عدة مقتولين فيقتل بعضهم عند الشافعي و أحمد و غيرهما
أما إن قلنا : [ إن موجب العمد القود عينا ] فظاهر و إن قلنا : [ إن موجبه أحد شيئين ] فإنما ذاك حيث يمكن العفو و هنا لا يمكن العفو و صار موجبه القود عينا و ولي استيفائه الإمام لأن ولايته أعم و مثال الثاني : أخذ المال سرقة و إتلافه فإنه موجب للقطع حدا لله و موجب للغرم حقا لآدمي و لهذا قال الكوفيون : [ إن حق الآدمي يدخل في القطع فلا يجب ] و قال الأكثرون : [ بل يغرم للآدمي ماله و إن قطعت يده ](3/391)
و إما إذا جنى جنايات متفرقة لكل جناية حد فإن كانت لله و هي من جنس واحد تداخلت بالاتفاق و إن كانت من أجناس و فيها القتل تداخلت عند الجمهور و لم تتداخل عند الشافعي و إن كانت لآدمي لم تتداخل عند الجمهور و عند مالك تتداخل في القتل إلا حد القذف فهنا هذا الشاتم الساب لا ريب أنه يتعلق بسبه حق لآدمي و نحن نقول : [ إن موجب كل منهما القتل ] و من ينازعنا إما أن يقول : [ اندرج حق الآدمي في حق الله أو موجبه الجلد ] فإذا قتل فلا كلام إلا عند من يقول : إن موجبه الجلد فإنه يجب أن يخرج على الخلاف و أما إذا أسقط حق الله بالتوبة فكيف يسقط حق العبد ؟ فإنا لا نحفظ لهذا نظيرا بل النظائر تخالفه كما ذكرناه و السنة تدل على خلافه و إثبات حكم بلا أصل و لا نظير غير جائز بل مخالفته للآصول دليل على بطلانه
و أيضا فهب أن هذا حد محض لله لكن لم يقال : [ أنه يسقط بالتوبة ] ؟ و قد قدمنا أن الردة و نقض العهد نوعان : مجرد و مغلظ فما تغلظ منه بما يضر المسلمين يجب قتل صاحبه بكل حال و إن تاب و بينا أن السب من هذا النوع
و أيضا فأقصى ما يقال أن يلحق هذا السب بسب الله و فيه من الخلاف ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى(3/392)
و أما ما ذكر من الفرق بين سب المسلم و سب الكافر فهو ـ و إن كان له توجه كما للتسوية بينهما في سقوط توجه أيضا ـ فإنه معارض بما يدل على أن الكافر أولى بالقتل بكل حال من المسلم و كذلك أن الكافر قد ثبت المبيح لدمه و هو الكفر و إنما عصمه العهد و إظهاره السب لا ريب أنه محاربة لله و رسوله و إفساد في الأرض و نكاية في المسلمين فقد تحقق الفساد من جهته و إظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يوثق بها كتوبة غيره من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا بخلاف من علم منه الإسلام و صدرت منه الكلمة من السب مع إمكان أنها لم تصدر عن اعتقاد بل خرجت سفها أو غلظا فإذا عاد إلى الإسلام ـ مع أنه لم يزل يتدين به لم يعلم منه خلافه ـ كان أولى لقبول توبته لأن ذنبه أصغر و توبته أقرب إلى الصحة
ثم إنه يجاب عنه بأن إظهار المسلم تجديد الإسلام بمنزلة إظهار الذمي الإسلام لأن الذمي كان يزعه عن إظهار سبه ما أظهره من الأمان كما يزع المسلم ما أظهره من عقد الإيمان فإذا كان المسلم الآن إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فكلك الذمي إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فإن من يتهم في أمانه يتهم في إيمانه و يكون منافقا في الإيمان كما كان منافقا في الأمان بل ربما كان حال هذا الذي تاب بعد معاينة السيف أشد على المسلمين من حاله قبل التوبة فإنه كان في ذلة الكفر و الآن فإنه قد يشرك المسلمين في ظاهر العز مع ما ظهر من نفاقه و خبثه الذي لم يظهر ما يدل على زواله على أن في تعليل سبه بالزندقة نظرا فإن السب أمر ظاهر أظهره و لم يظهر منه ما يدل على استبطانه إياه قبل ذلك و من الجائز أن يكون قد حدث له ما أوجب الردة(3/393)
نعم إن كان ممن تكرر ذلك منه أو له دلالات على سوء العقيدة فهنا الزندقة ظاهرة لكن يقال نحن نقتله للأمرين لكونه زنديقا و لكونه سابا كما نقتل الذمي لكونه كافرا غير ذي عهد و لكونه سابا فإن الفرق بين المسلم و الذمي في الزندقة لا يمنع اجتماعهما في علة أخرى تقتضي كون السب موجبا للقتل و إن أحدث الساب اعتقادا صحيحا بعد ذلك بل قد يقال : إن السب إذا كان موجبا للقتل قتل صاحبه و إن كان صحيح الاعتقاد في الباطن في حال سبه كسبه لله تعالى و كالقذف في إيجايه للجلد و كسب جميع البشر
و أما الفرق الثاني الذي مبناه على أن السب يوجب قتل المسلم حدا لأن مفسدته لا تزول بسقوطه تجديد الإسلام بخلاف سب الكافر فمضمونه أنا ترخص لأهل الذمة في إظهار السب إذا أظهروا بعده الإسلام و نأذن لهم أنم يشتموا ثم بعد ذلك يسلمون و ما هذا إلا بمثابة أن يقال : علم الذمي بأنه إذا زنى بمسلمة أو قطع الطريق أخذ فقتل إلا أن يسلم يزعه عن هذه المفاسد إلا أن يكون ممن يريد الإسلام و إذا أسلم فالإسلام يجب ما كان قبله و معلوم أن معنى هذا أن الذمي يحتمل منه ما يقوله و يفعله من أنواع المحاربة و الفساد إذ قصد أن يسلم و معلوم من أن هذا غير جائز
فإن الكلمة الواحدة من سب النبي صلى الله عليه و سلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار و لأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله و رسوله أن يدخل فيه أقوام و هو منتهك مستهان(3/394)
و كثير ممن يسب الأنبياء من أهل الذمة قد يكون زنديقا لا يبالي إلى أي دين انتسب فلا يبالي أن ينال غرضه من السب ثم يظهر الإسلام كالمنافق سواء ثم هذا يوجب الطمع منهم في عرضه فإنه ما دام العدو يرجو أن يستبقى و لو بوجه لم يزعه ذلك عن إظهار مقصودة في وقت ما ثم إن ثبت ذلك عليه و رفع إلى السلطان و آمر بقتله أظهر الإسلام و إلا فقد حصل غرضه و كل فساد قصد إزالته بالكلية لم يجعل لفاعله سبيل إلى استبقائه بعد الأخذ كالزنا و السرقة و قطع الطريق فإن كان مقصود الشارع من تطهير الدار من ظهور كلمة الكفر و الطعن في الدين أبلغ من مقصوده من تطهيرها من وجوه هذه القبائح ابتغى أن يكون تحتم عقوبة من فعل ذلك أبلغ من تحتم عقوبة هؤلاء
و فقه هذا الجواب أن تعلم أن ظهور الطعن في الدين من سب الرسول و نحوه فساد عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ماحيا لذلك الفساد(3/395)
و اما الفرق الثالث قولهم : [ إن الكافر لم يلتزم تحريم السب ] فباطل فإنه لا فرق بين إظهار لسب النبي صلى الله عليه و سلم و بين إظهاره لسب آحاد من المسلمين و بين سفك دمائهم و أخذ أموالهم فإنه لولا العهد لم يكن فرق عنده بيننا و بين سائر من يخالفه في دينه من المحاربين و معلوم انه يستحل ذلك كله منهم ثم إنه بالعهد صار ذلك محرما عليه في دينه منا لأجل العهد فإذا فعل شيئا من ذلك أقيم عليه حده و إن أسلم سواء انتقض عهده بما يفعله أو لم ينتقض فتارة يجب عليه الحد مع بقاءه العهد كما لو سرق أو قذف مسلما و تارة ينتقض عهده و لا حد عليه فيصير بمنزلة المحاربين و تارة يجب عليه الحد و ينتقض عهده كما إذا سب الرسول أو زنى بمسلمة أو قطع الطريق على المسلمين فهذا يقتل و إن أسلم و عقوبة هذا النوع من الجنايات القتل حتما كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاء له على ما فعل من فساد الذي التزم بعقد الإيمان أن لا يفعله مع كونه مثل ذلك الفساد موجبا للقتل و نكالا لأمثاله عن فعل مثل هذا إذا علموا أنه لا يترك صاحبه حتى يقتل فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف مع أن فيما تقدم من كلامنا ما يغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ و الله سبحانه و تعالى أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 513 ]
و ذلك أن نقول : إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا و باطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء و سائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول و عمل
و قد قام الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهوية ـ و هو أحد الأئمة يعدل بالشافعي و أحمد ـ : [ و قد أجمع المسلمون أن من سب نبيا من أنبياء الله أو سب رسول الله عليه الصلاة و السلام أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله أنه كافرا بذلك و إن كان مقرا بما أنزل الله ](3/396)
و كذلك قال محمد بن سحنون ـ و هو أحد الأئمة من أصحاب مالك و زمنه قريب من هذه الطبقة ـ : [ أجمع العلماء أن شاتم النبي عليه الصلاة و السلام المنتقض له كافر و الوعيد جار عليه بعذاب الله و حكمه عند الأمة القتل و من شك في كفره و عذابه كفر ]
و قد نص على مثل هذا غير واحد من الأئمة قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا و كذا ـ أعنى أنت و من خلقك ـ : هذا مرتد عن الإسلام نضرب عنقه و قال في رواية عبد الله و أبي طالب : [ من شتم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و ذلك أنه إذا شتم فقد ارتد عن الإسلام و لا يشتم مسلم النبي عليه الصلاة و السلام ] فبين أن هذا مرتد و أن المسلم لا يتصور أن يشتم و هو مسلم
و كذلك نقل عن الشافعي أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى أنه قال : هو كافر و استدل بقول الله تعالى : { قل : أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون ؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ]
و كذلك قال أصحابنا و غيرها : من سب الله كفر سواء كان مازحا أو جادا لهذه الآية و هذا هو الصواب المقطوع به
و قال القاضي أبو يعلى في المعتمد : من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله فإن قال : [ و لم أستحل ذلك ] لم يقبل منه ظاهر الحكم رواية واحدة و كان مرتدا لأن الظاهر خلاف ما أخبر لأنه لا غرض له في سب الله و سب رسوله إلا أنه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي عليه الصلاة و السلام و يفارق الشارب و القاتل و السارق إذا قال : [ أنا غير مستحل لذلك ] أنه يصدق في الحكم لأن له غرضا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاده تحريمها و هو ما يتعجل من اللذة قال : و إذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر من الحكم فأما في الباطن فإن كان صادقا فيما قال فهو مسلم قلنا في الزنديق : [ لا تقبل توبته في الظاهر الحكم ](3/397)
و ذكر القاضي عن الفقهاء أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام إن كان مستحلا كفر و لم يكن مستحلا فسق و لم يكفر كساب الصحابة و هذا نظير ما يحكى أنه بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارون أمير المؤمنين فيمن سب النبي عليه الصلاة و السلام أن يجلده حتى أنكر ذلك مالك ورد هذه الفتيا مالك و هو نظير ما حكاه أبو محمد بن حزم أن بعض الناس لم يكفر المستخف به
و قد ذكر القاضي عياض بعد أن رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد و حمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به أو أن الفتوى كانت في كلمة اختلف في كونها سبا أو كانت فيمن تاب و ذكر أن الساب إذا أقر بالسب و لم يتب منه قتل كفرا لأن قوله إما صريح كفر كالتكذيب و نحوه أو هو من كلمات الاستهزاء أو الذم فاعترافه بها و ترك توبته منها دليل على استحلاله لذلك و هو كفر أيضا قال : فهذا كافر بلا خلاف و قال في موضع آخر : [ إن من قتله بلا استتابة فهو لم يره ردة و إنما يوجب القتل فيه حدا و إنما نقول ذلك مع انكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الإقلاع عنه و التوبة و نقتله حدا كالزنديق إذا تاب ] قال : [ و نحن و إن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد و إنكاره ما شهد به عليه أو زعمه أن ذلك كان منه ذهولا و معصية و أنه مقلع عن ذلك نادم عليه ] قال و أما من علم أنه سبه معتقدا لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك و كذلك إن كان سبه في نفسه كفرا كتكذيبه أو تكفيره و نحوه فهذا ما لا إشكال فيه و كذلك من لم يظهر التوبة و اعتراف بما شهد به و صمم عليه فهو كافر بقوله و استحلاله هتك حرمة الله أو حرمة نبيه و هذا أيضا تثبيت منه بأن السب يكفر به لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيبا صريحا(3/398)
و هذا موضع لابد من تحريره و يجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة و هفوة عظيمة و يرحم الله القاضي أبا يعلى قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا و إنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين ـ و هم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب و إن لم يقترن به قول اللسان و لم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح ـ و صرح القاضي أبو يعلى هنا قال عقب أن ذكر ما حكيناه عنه : [ و على هذا لو قال الكافر : أنا معتقد بقلبي معرفة الله و توحيده لكني لا آتي بالشهادتين كما لا آتي غيرها من العبادات كسلا ] لم يحكم بإسلامه في الظاهر و يحكم به باطنا قال : و قول الإمام أحمد [ من قال إن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يتلفظ بها فهو جهمي ] محمول على أحد وجهين أحدهما : أنه جهمي في ظاهر الحكم و الثاني : على أن يمتنع من الشهادتين عنادا لأنه احتج أحمد في ذلك بأن إبليس عرف ربه بقلبه و لم يكن مؤمنا
و معلوم أن إبليس اعتقد أن لا يلزم امتثال أمره تعالى [ بالسجود ] لآدم و قد ذكر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق بلسانه مع القدرة و بقلبه و أن الإيمان قول و عمل كما هو مذهب الأئمة كلهم : مالك و سفيان و الأوزاعي و الليث و الشافعي و أحمد و إسحاق و من قبلهم و بعدهم من أعيان الأمة(3/399)
و ليس الغرض هنا استيفاء الكلام في الأصل و إنما الغرض البينة على ما يختص هذه المسألة و ذلك من وجوه : أحدها : أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه كان مستحلا كفر و إلا فلا ليس لها أصل و إنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء هؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا على أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولا و قد حكينا نصوص أئمة الفقهاء و حكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم فلا يظن ظان أن في المسألة خلافا يجعل المسألة من مسائل الخلاف و الاجتهاد و إنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة
الوجه الثاني : أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال فإنه لما اعتقد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر و لا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أنها حلال كفر لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي و بين قذف المؤمنين و الكذب عليه و الغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي علم أن الله حرمها فإنه من فعل شيئا من ذلك مستحلا كفر مع أنه لا يجوز أن يقال : من قذف مسلما أو اغتابه كفر و يعني بذلك إذا استحله
الوجه الثالث : أن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن فإذا لا أثر للسب في التكفير وجودا و عدما و إنما المؤثر هو الاعتقاد و هو خلاف ما أجمع عليه العلماء
الوجه الرابع : أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل فيجب أن لا يكفر لا سيما إذا قال [ أنا أعتقد أن هذا حرام و إنما أقول غيظا و سفها أو عبثا أو لعبا ] كما قال المنافقون : { إنما كنا نخوض و نلعب } [ التوبة : 65 ](3/400)
و كما إذا قال : إنما قذفت هذا و كذبت عليه لعبا و عبثا فإن قيل لا يكونون كفارا فهو خلاف نص القرآن و إن قيل يكونون كفارا فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرا و قول القائل : أنا لا أصدقه في هذا لا يستقيم فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل فإذا كان قد قال : [ أنا أعتقد أن ذلك ذنب و معصية و أنا أفعله ] فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرا ؟ و لهذا قال سبحانه و تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ] و لم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض و نلعب فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض و اللعب
و إذا تبين أن مذهب سلف الأمة و من اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] و قوله تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } [ الأحزاب : 57 ] و قوله تعالى { لا تعتذروا قد كفرتهم بعد إيمانكم }
و ما ذكرناه من الأحاديث و الأثار فإنما هو أدلة بينة في أن نفس أذى الله و رسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودا و عدما : فلا حاجة إلى أن نعيد الكلام هنا بل في الحقيقة كل ما دل على أن الساب كافر و أنه حلال الدم لكفره فقد دل على هذه المسألة إذ لو كان الكفر المبيح هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفيره و قتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورا تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 526 ]
ثم نعود إلى مقصود المسألة فنقول :
قد ثبت أن كل سب و شتم يبيح الدم فهو كفر و إن لم يكن كل كفر سبا و نحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة :(3/401)
قال الإمام أحمد : [ كل من شتم النبي عليه الصلاة و السلام أو تنقصه ـ مسلما كان أو كافرا ـ فعليه القتل و رأى أن يقتل و لا يستتاب ]
و قال في موضع آخر : [ كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه و تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا و هذا مذهب أهل المدينة ]
و قال أصحابنا : التعريض بسب الله و سب رسوله صلى الله عليه و سلم ردة و هو موجب للقتل كالتصريح و لا يختلف أصحابنا أن قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم من جملة سبه الموجب للقتل و أغلظ لأن ذلك يقضي إلى القدح في نسبه و في عبارة بعضهم إطلاق القول بأن من سب أم النبي عليه الصلاة و السلام يقتل مسلما كان أو كافرا و ينبغي أن يكون مرادهم بالسب هنا القذف كما صرح به الجمهور لما فيه من سب النبي صلى الله عليه و سلم
و قال القاضي عياض : [ جميع من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به شبهة بشيء على طريق السب له و الإزراء عليه أو البغض منه و العيب له فهو سابله و الحكم فيه حكم الساب : يقتل و لا تستثن فضلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد و لا تمتر فيه تصريحا كان أو تلويحا و كذلك من لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب لإليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام و هجر و منكر منن القول وزور أو عيره بشيء مما يجري من البلاء و المحنة عليه أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة و المعهود لديه ] قال : [ و هذا كله إجماع من العلماء و أئمة الفتوى من لدن أصحابه و هلم جرا ]
وقال ابن القاسم عن مالك : من سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب قال ابن القاسم : أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق و قد فرض الله توقيره(3/402)
و كذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه : [ من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا و لا يستتاب ]
و روى ابن وهب عن مالك أنه قال [ من قال إن رداء النبي صلى الله عليه و سلم ـ و روي برده ـ [ وسخ ] و أراد عيبه قتل ]
و روى بعض المالكية [ إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة ]
و ذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم :
منها : رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه و اللحية فقال : تريدون تعرفون صفته ؟ هذا المار في خلقه و لحيته ]
و منها : رجل قال : [ النبي صلى الله عليه و سلم أسود ]
و منها : رجل قيل له : [ لا و حق رسول الله ] فقال : فعل الله برسول الله كذا و كذا ثم قيل له : ما تقول يا عدو الله فقال أشد من كلامه الأول ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب قالوا : لأن ادعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل لأنه امتهان و هو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لا موقر له فوجبت إباحة دمه
و منها عشار قال : أدوا شك [ ؟ ] إلى النبي أو قال : إن سألت أوجهلت فقد سأل النبي و جهل
و منها : متفقة كان يستخف بالنبي صلى الله عليه و سلم و يسميه في أثناء مناظرته [ اليتيم و ختن حيدرة ] و يزعم أنه زهده لم يكن قصدا و لو قدر على الطيبات لأكلها و أشباه هذا
قال : فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا و تنقصا يجب قتل قائله و لم يختلف في ذلك متقدمهم و متأخرهم و إن اختلفوا في سبب حكم قتله(3/403)
و كذلك قال أبو حنيفة و أصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه : [ إنه مرتد ] و كذلك قال أصحاب الشافعي : [ كل من تعرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح فإن الاستهانة بالنبي كفر و هل يتحتم قتله أو يسقط بالتوبة ؟ على الوجهين و قد نص الشافعي على هذا المعنى
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفر مبيح للدم و هم في استتابته على ما تقدم من الخلاف و لا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له أو لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل و يمزح أو يفعل غير ذلك
فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سبا فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب و من قال ما هو سب و تنقص له فقد آذى الله و رسوله و هو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى و إن لم يقصد أذاهم ألم تسمع إلى الذين قالوا : إنما كنا نخوض و نلعب فقال الله تعالى : { أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون ؟ لا تتعذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ]
و هذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي عليه الصلاة و السلام أو حكم من حكمه أو يدعى إلى سنته فيعلن و يقبح و نحو ذلك و قد قال تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتىيحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما } [ النساء : 65 ]
فأقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه ثم لا يجدوا في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في حكم و حرج لذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أفحش فيه منطقه فهو كافر بنص التنزيل و لا يعذر بأن مقصوده رد الخصم فإن الرجل لا يؤمن حتى يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و حتى يكون الرسول أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين(3/404)
و من هذا الباب قول القائل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله و قول الآخر : إعدل فإنك لم تعدل و قول ذلك الأنصاري : أن كان ابن عمتك فإن هذا كفر محض حيثزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما حكم للزبير لأنه ابن عمته و لذلك أنزل الله تعالى هذه الآية و أقسم أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه و إنما عفا عنه النبي عليه الصلاة و السلام كما عفا عن الذي قال : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله و عن الذي قال : إعدل فإنك لم تعدل و قد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنه قتل رجلا لم يرض بحكم النبي عليه الصلاة و السلام فنزل القرآن بموافقته فكيف بمن طعن في حكمه ؟
و قد ذكر طائفة من الفقهاء ـ منهم ابن عقيل و بعض أصحاب الشافعي ـ أن هذا كان عقوبته التعزير ثم منهم من قال : لم يعزره النبي صلى الله عليه و سلم لأن التعزير [ غير ] واجب و منهم من قال : عفا عنه لأن الحق له و منهم من قال : عاقبه بأن أمر الزبير أن يسقى ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر و هذه أقوال ردية و لا يستريب من تأمل في أن هذا كان يستحق القتل بعد نص القرآن أن من هو بمثل حاله ليس بمؤمن
فإن قيل : ففي رواية صحيحة أنه كان من أهل بدر و في الصحيحين عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] و لو كان هذا القول كفرا للزم أن يغفر الكفر و الكفر لا يغفر و لا يقال عن بدري : إنه كفر
فيقال : هذه الزيادة ذكرها أبو اليمان عن شعيب و لم يذكرها أكثر الرواة فيمكن أنها و هم كما وقع في حديث كعب و هلال بن أمية أنهما لم يشهدا بدرا و كذلك لم يذكره ابن إسحاق في روايته عن الزهري و لكن الظاهر صحتها
فنقول : ليس في الحديث أن هذه القصة كانت بعد بدر فلعلها كانت قبل بدر و سمي الرجل بدريا لأن عبد الله بن الزبير حدث بالقصة بعد أن صار الرجل بدريا(3/405)
فعن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير : [ اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ] فغضب الأنصاري ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال للزبير : [ اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار ] فقال الزبير : و الله لأني أحسب هذه الآية نزلت في ذلك { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] متفق عليه
و في رواية البخاري من حديث عروة قال : فاستوعى رسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ حقه و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له و للأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه و سلم استوعى رسول الله عليه الصلاة و السلام للزبير حقه في صريح الحكم و هذا يقوي أن القصة نتقدمة قبل بدر لأن النبي عليه الصلاة و السلام قضي في سيل مهزور أن الأعلى يسقي ثم حتى يبلغ الماء إلى الكعبين فلو كانت قصة الزبير بعد هذا القضاء لكان قد علم وجه الحكم فيه و هذا القضاء ظاهر أنه متقدم من حين قدم النبي صلى الله عليه و سلم لأن الحاجة إلى الحكم فيه من حين قدم و لعل قصة الزبير أوجبت هذا القضاء(3/406)
و أيضا فإن هؤلاء الآيات قد ذكر غير واحد أن أولها نزل لما أراد بعض المنافقين أن يحاكم يهوديا إلى ابن الأشرف و هذا إنما كان قبل بدر لأن ابن الأشرف ذهب عقب بدر إلى مكة فلما رجع قتل فلم يستقر بعد بدر بالمدينة استقرار يتحاكم إليه فيه و إن كانت القصة بعد بدر فإن القائل لهذه الكلمة يكون قد تاب و استقر و قد عفا له النبي صلى الله عليه و سلم عن حقه فغفر له و المضمون لأهل بدر إنما هو المغفرة : إما بأن يستغفروا إن كان الذنب مما لا يغفر إلا بالاستغفار أو لم يكن كذلك إما بدون أن يستغفروا
ألا ترى قدامة بن مظعون ـ و كان بدريا ـ تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا } [ المائدة : 93 ] الآية حتى أجمع رأى عمر و أهل الشورى أن يستتاب هو و أصحابه فإن أقروا بالتحريم جلدوا و إن لم يقروا به كفروا ثم إنه تاب و كاد ييأس لعظم ذنبه في نفسه حتى أرسل إليه عمر رضي الله عنه بأول سورة غافر فعلم أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسنة و أنهم مغفور لهم و إن جاز أن يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى أن يصدر فإن التوبة تجب ما قبلها
و إذا ثبت أن كل سب ـ تصريحا أو تعريضا ـ موجب للقتل فالذي يجب أن يعتني به الفرق بين السب الذي لا يقبل منه التوبة و الكفر الذي تقبل منه التوبة فنقول :(3/407)
هذا الحكم قد نيط في الكتاب و السنة باسم أذى الله و رسوله و في بعض الأحاديث ذكر الشتم و السب و كذلك جاء في ألفاظ الصحابة و الفقهاء ذكر السب و الشتم و الاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض و السماء و البحر و الشمس و القمر و لا في الشرع كاسم الصلاة و الزكاة و الحج و الإيمان و الكفر فإنه يرجع في حده إلى العرف كالقبض و الحرز و البيع و الرهن و الكري و نحوها فيجب أن يرجع الأذى و السب إلى العرف فما عده أهل العرف سبا و انتقاصا أو عيبا أو طعنا و نحو ذلك فهو من السب و ما لم يكن كذلك فهو كفر به فيكون ليس يسب حكم صاحبه حكم المرتد إن كان مظهرا له و إلا فهو زندقة و المعتبر أن يكون سبا و أذى للنبي عليه الصلاة و السلام و إن لم يكن سبا و أذى لغيره
فعلى هذا كل ما لو قيل لغير النبي عليه الصلاة و السلام أوجب تعزيرا أو حدا بوجه من الوجوه فإنه من باب النبي عليه الصلاة و السلام كالقذف و اللعن و غيرهما من الصور التي تقدم التنبيه عليها و أما ما يختض بالقدح في النبوة فإن لم يتضمن إلا بمجرد عدم التصديق بنبوته كفر محض و إن كان فيه استخفاف و استهانة مع عدم التصديق فهو من السب و هنا مسائل اجتهادية يتردد الفقهاء هل هي من السب أو من الردة المحضة ثم ما ثبت أنه ليس بسب فإن استسر به صاحبه فهو زنديق حكمه الزنديق و إلا فهو مرتد محض و استقصاء الأنواع بينها ليس هذا موضعه أما الذمي فيجب التفريق بين مجرد كفره به و بين سبه فإن كفره به لا ينقض العهد و لا يبيح دم المعاهد بالاتفاق لأنا صالحناهم على هذا و أما سبه له فإنه ينقض العهد و يوجب القتل كما تقدم(3/408)
قال القاضي أبو يعلى : [ عقد الأمان يوجب إقرارهم على تكذيب النبي عليه الصلاة و السلام لا على شتمهم و سبهم له ] و قد تقدم أن هذا الفرق أيضا معتبر في المسلم حيث قتلناه بخصوص السب و كونه موجبا للقتل حدا من الحدود بحيث لا يسقط بالتوبة و إن صحت و أما حيث قتلناه لدلالته على الزندقة أو لمجرد كونه مرتدا فلا فرق حينئذ بين مجرد الكفر و بين ما يضمنه من الأنواع فنقول : الآثار عن الصحابة و التابعين و الفقهاء ـ مثل مالك و احمد و سائر الفقهاء القائلين بذلك ـ كلها مطلقة في شتم النبي عليه الصلاة و السلام من مسلم أو معاهد فإنه يقتل و لم يفصلوا بين شتم و شتم ولا بين ان يكرر الشتم أو لا يكرره أو يظهره و أعنيس بقولي لا يظهره : أن لا يتكلم به في ملأ من المسلمين و إلا فالحد لا يقام عليه حتى يشهد مسلمان أنهما سمعاه يشتمه أو حتى يقر بالشتم و كونه يشتمه بحيث يسمعه المسلمون إظهار له اللهم إلا أن يفرض أنه شتمه في بيته خاليا فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرق السمع منهم
قال مالك و أحمد : [ كل من شتم النبي عليه الصلاة و السلام أو تنقصه مسلما أو كافرا فإنه يقتل و لا يستتاب ] فنصا على أن الكافر يجب قتله بتنقصه له كما يقتل بشتمه و كما يقتل المسلم بذلك و كذلك أطلق سائر أصحابنا أن سب النبي عليه الصلاة و السلام من الذمي يوجب القتل
و ذكر القاضي و ابن عقيل و غيرهما أن ما أبطل الإيمان فإنه يبطل الأمان إذا أظهروه فإن كان من الكلام ما يبطل حقن الإسلام فأن يبطل حقن الذمة أولى مع الفرق بينهما من وجه آخر فإن المسلم إذا سب الرسول دل على سوء اعتقاده في رسول الله صلى الله عليه و سلم فلذلك كفر و الذمي قد علم أن اعتقاده و إنما أخذ عليه كتمه و أن لا يظهره فبقي تفاوت ما بين الإظهار و الإضمار
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 544 ](3/409)
و إذ قد ذكرنا حكم الساب للرسول عليه الصلاة و السلام فنردفه بما هو من جنسه مما قد تقدم في الأدل المذكورة بأصل حكمه فإن ذلك من تمام الكلام في هذه المسألة على ما يخفي و نفصله فصولا فإن كان مسلما وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد و أسوأ من الكافر يعظم الرب و يعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل باستهزاء بالله و لا مسبة له ثم اختلف أصحابنا و غيرهم في قبول توبته بمعنى أنه أهل يستتاب كالمرتد و يسقط عنه القتل إذا أظهر التوبة من ذلك بعد رفعه إلى السلطان و ثبوت الحد عليه ؟ على قولين : أحدهما بمنزلة ساب الرسول و فيه الروايتان في ساب الرسول هذه طريقة أبي الخطاب و أكثر من احتذى حذوه من المتأخرين و هو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد حيث قال : [ كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك و تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا و هذا مذهب أهل المدينة ] فأطلق وجوب القتل عليه و لم يذكر استتابة و ذكر أنه قول أهل المدينة و من وجب عليه القتل يسقط بالتوبة قول أهل المدينة المشهور أنه لا يسقط القتل بتوبته و لو لم يرد هذا لم يخصه بأهل المدينة فإن الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يقتل و إنما اختلفوا في توبته فلما أخذ يقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي على أنه قصد محل الخلاف بإظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول
و أما الرواية الثانية فإن عبد الله قال : [ سئل أبي عن رجل قال يا ابن كذا و كذا أنت و من خلقك ] قال أبي : هذا مرتد عن الإسلام قلت لأبي : تضرب عنقه ؟ قال : نعم نضرب عنقه ] فجعله من المرتدين
و الرواية الأولى قول الليث بن سعد و قول مالك و روى ابن القاسم قال : [ من سب الله تعالى من المسلمين قتل و لم يستتب إلا أن يكون افترى على اللهب ارتداده إلى دين دان به و أظهره فيستتاب و إن لم يظهره لم يستتب ] و هذا قول ابن القاسم و مطرف و عبد الملك و جماهير المالكية(3/410)
و الثاني : أنه يستتاب و تقبل توبته بمنزلة المرتد المحض و هذا قول القاضي أبويعلى و الشريف أبي جعفر و أبي علي بن البناء و ابن عقيل مع قولهم : إن من سب الرسول لا يستتاب و هذا قول طائفة من المدنيين : منهم محمد بن مسلمة و المخزومي و ابن أبي حازم قالوا : لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب و كذلك اليهودي و النصراني فإن تابوا قبل منهم و إن لم يتوبوا قتلوا و لا بد من الاستتابة و ذلك كله كالردة و هو الذي ذكره العراقيون من المالكية
و كذلك ذكر أصحاب الشافعي رضي الله عنه قالوا : سب الله ردة فإذا تاب قبل توبته و فرقوا بينه و بين سب الرسول على أحد الوجهين و هذا مذهب الإمام أبو حنيفة أيضا
و أما من استتاب الساب لله و لرسوله فمأخذه أن ذلك من أنواع الردة و من فرق بين سب الله و سب الرسول قالوا : سب الله كفر محض و هو حق لله و توبة من لم يصدر منه إلا مجرد الكفر الأصلي أو الطارىء مقبولة مسقطة للقتل بالإجماع و يدل على ذلك أن النصارى يسبون الله بقولهم : هو ثالث ثلاثة و بقولهم : إن له ولدا كما أخبر النبي عليه الصلاة و السلام عن الله عز و جل أنه قال شتمني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك و كذبني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله : إن لي ولدا و أنا الأحد الصمد و قال سبحانه : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ـ إلى قوله ـ أفلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه } [ المائدة : 74 ]
و هو سبحانه قد علم منه أنه يسقط حقه عن التائب فإن الرجل لو أتى من الكفر و المعاصي بملء الأرض ثم تاب الله عليه و هو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضة و لا معرة و إنما يعود ضرر السب على قائله و حرمته في قلوب العباد أعظم من أن يهتكها جرأة الساب(3/411)
و بهذا يظهر الفرق بينه و بين الرسول فإن السب هناك قد تعلق به حق آدمي و العقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة و الرسول تلحقه المعرة و الغضاضة بالسب فلا تقوم حرمته و لا تثبت في القلوب مكانته إلا باططلام سابه لما أن هجوه و شتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس و يقدح في مكانه في قلوب كثيرة فإن لم يحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك و إلا أقضى الأمر إلى الفساد
و هذا الفرق يتوجه بالنظر إلى أن حد سب الرسول حق لآدمي كما يذكره كثير من الأصحاب و بالنظر إلى أنه حق لله أيضا فإن ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد فأشبه الزاني و السارق و الشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم
و أيضا فإن سب الله ليس له داع عقلي في الغالب و أكثر ما هو سب في نفس الأمر إنما يصدر عن اعتقاد و تدين يراد به التعظيم لا السب و لا يقصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثر بخلاف سب الرسول فإنه في الغالب إنما يقصد به الإهانة و الاستخفاف و الدواعي إلى ذلك متوفرة من كل كافر و منافق فصار من جنس الجرائم التي تدعو إليها الطباع فإن حدودها لا تسقط بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها
و نكتة هذا الفرق أن خصوص سب الله تعالى ليس إليه داع غالب الأوقات فيندرج في عموم الكفر بخلاف سب الرسول فإن لخصوصه دواعي متوفرة فناسب أن يشرع لخصوصه حد و الحد المشروع لا يسقط بالتوبة كسائر الحدود فلما اشتمل سب الرسول على خصائص ـ من جهة توفر الدواعي إليه و حرص أعداء الله عليه و أن الحرمة تنتهك به انتهاك الحرمات بانتهاكها و أن فيه حقا لمخلوق ـ تحتمت عقوبته لا لأنه أغلظ إثما من سب الله بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل(3/412)
ألا ترى أنه لا ريب أن الكفر و الردة أعظم إثما من الزنا و السرقة و قطع الطريق و شرب الخمر ثم الكافر و المرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما و لو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم مع أن الكفر أعظم من الفسق و لم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم إثما من الكافر ؟ فمن أخذ تحتم العقوبة و سقوطها من كبر الذنب و صغره فقد نأى عن مسالك الفقه و الحكمة
و يوضح ذلك أنا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب و لا نقر واحدا منهم و لا من غيرهم على زنا و لا سرقة و لا كبير من المعاصي الموجبة للحدود و قد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة و الأرض مملوءة من المشركين و عم في عافية و قد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم مرات و الأرض تلفظه في كل ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الأرض لتقبل شر منه و لكن الله أراكم هذا لتعتبروا ] و لهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر و الإعراض و الجلد و غير ذلك حالا عند الله و عندنا من الكافر(3/413)
فقد رأيت العقوبات المقدورة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبة ما هو أشد منها و سبب ذلك أن الدنيا في الأصل ليست دار الجداء و إنما الجزاء يوم الدين يجزي الله العباد بأعمالهم : إن خيرا فخير و إن شرا فشر لكن ينزل الله سبحانه من العقاب و يشرع من الحدود ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يحض فاعله أو ما يطهر الفاعل من خطيئته أو لتغلظ الجرم أو لما يشاء سبحانه فالخطيئة إذا خيف أن يتعدى ضررها فاعلها لم تنحسم مادتها إلا بعقوبة فاعلها فلما كان الكفر و الردة إذا قبلت التوبة من بعد القدرة لم تترب على ذلك مفسدة تتعدى التائب وجب قبول التوبة لأن أحدا لا يريد أن يكفر أو يرتد ثم إذا أخذ أظهر التوبة لعلمه أن ذلك لا يحصل مقصوده بخلاف أهل الفسوق فإنه إذا سقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحا لباب الفسوق فإن الرجل يعمل ما اشتهى ثم إذا أخذ قال : إني تائب و قد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها
فكذلك سب الله هو أعظم من سب الرسول لكن لا يخاف أن النفوس تتسرع إلى ذلك إذا استتيب فاعله و عرض على السيف فإنه لا يصدر غالبا إلا عن اعتقاد و ليس للخلق اعتقاد يبعثهم على إظهار السب لله تعالى و أكثر ما يكون ضجرا و برما و سفها و روعة السيف و الاستتابة تكف عن ذلك بخلاف إظهار سب الرسول فإن هناك دواعي متعددة تبعث عليه متى علم صاحبها أنه إذا أظهر التوبة كف عنه لم يزعه ذلك عن مقصوده(3/414)
و مما يدل على الفرق من جهة السنة أن المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب ثم لم يتوقف النبي صلى الله عليه و سلم في قبول إسلام أحد منهم و لا عهد بقتل واحد منهم بعينه و قد توقف في قبول توبة من سبه مثل أبي سفيان و ابن أبي أمية و عد بقتل من كان يسبه من الرجال و النساء ـ مثل الحويرث بن نقيذ و القينتين و جارية لبني عبد المطلب و مثل الجال و النساء الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة ـ و قد تقدم الكلام على تحقيق الفرق عند من يقول به بما هو أبسط من هذا في المسألة الثالثة
و أما من قال : [ لا تقبل توبة من سب الله سبحانه و تعالى كما لا تقبل توبة من سب الرسول ] فوجهه ما تقدم عن عمر رضي الله تعالى عنه من التسوية بين سب الله و سب الأنبياء في إيجاب القتل و لم يأمر بالاستتابة مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد لكن قد ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه لا يستتاب لأنه كذب النبي عليه الصلاة و السلام فيحمل ذلك على السب الذي يتدين به
و أيضا فإن السب ذنب منفرد عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد فإن الكافر يتدين بكفره و يقول : إنه حق و يدعو إليه و له عليه موافقون و ليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافا و استهزاء و سبا لله و إن كان في الحقيقة سبا كما أنهم يقولون : إنهم ضلال جهال معذبون أعداء الله و إن كانوا كذلك و أما الساب فإنه مظهر للتنقص و الاستخفاف و الاستهانة بالله منتهك لحرمته انتهاكا يعلم هو من نفسه أنه منتهك مستخف مستهزىء و يعلم من نفسه أنه قد قال عظيما و أن السموات و الأرض تكاد تنفطر من مقالته و تخر الجبال و أن ذلك أعظم من كل كفر و هو يعلم أن ذلك كذلك(3/415)
و لو قال بلسانه : إني كنت لا اعتقد وجود الصانع و لا عظمته و الآن قد رجعت عن ذلك علمنا أنه كاذب فإن فطرة الخلائق كلها مجبولة على الاعتراف بوجود الصانع و تعظيمه فلا شبهة تدعوه إلى هذا السب و لا شهوة له في ذلك بل هو مجرد سخرية و استهزاء و استهانة و تمرد على رب العالمين تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب أو من سفيه لا وقار لله عنده كصدور قطع الطريق و الزنا عن الغضب و الشهوة و إذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبة تخصه حدا من الحدود و حينئذ فلا تسقط تلك العقوبة بإظهار التوبة كسائر الحدود
و مما بين أن السب قدر زائد على الكفر قوله تعالى : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام : 108 ]
و من المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله ثم نهي المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم لله أعظم عنده من يشرك به و يكذب رسوله و يعادى فلا بد له من عقوبة تختصه لما انتهكه من حرمة الله كسائر الحرمات التي تنتهكها بالفعل و أولى فلا يجوز أن يعاقب على ذلك بدون القتل لأن ذلك أعظم الجرائم فلا يقابل إلا بأبلغ العقوبات
و يدل على ذلك قوله سبحانه و تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } [ الأحزاب : 57 ] إلى آخرها فإنها تدل على قتل من يؤذي الله كما تدل على قتل من يؤذي رسوله و الآذى المطلق إنما هو باللسان و قد تقدم تقرير هذا
و أيضا فإن إسقاط القتل عنه بإظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله تعالى فإنه لا يشاء أن يفعل ذلك ثم إذا أخذ أظهر التوبة إلا فعل كما في سائر الجرائم الفعلية
و أيضا فإنه لم ينتقل إلى دين يريد المقام [ عليه ] حتى يكون الانتقال عنه تركا له و إنما فعل جريمة لا تستدام بل هي مثل الأفعال الموجبة للعقوبات فتكون العقوبة على نفس تلك الجريمة الماضية و مثل هذا لا يستتاب عند من عاقب على ذنب مستمر من كفر أو ردة(3/416)
و أيضا فإن استتابة هذا توجب أن لا يقام فإنا نعلم أن ليس أحد من الناس مصرا على السب لله الذي يرى أنه سب فإن ذلك لا يدعو إليه عقل و لا طبع و كل ما أفضى إلى تعطيل الحدود بالكلية كان باطلا و لما استتابة الفساق بالأفعال يفضي إ إلى تعطيل الحدود لم يشرع مع أن أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه و كذلك المستتاب من سب الرسول قد لا يتوب لما يستحله من سبه فاستتابة السلب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كل أحد أولى أن لا يشرع إذا تضمن تعطيل الحد و أوجب أن تمضمض الأفواه بهتك حرمة اسم الله و الاستهزاء به و هذا كلام فقيه لكن يعارضه أن ما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى تحقيق إقامة الحد و يكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب
و لمن ينصر الأول أن يقول : تحقيق إقامة الحد على الساب لله ليس لمجرد زجر الطباع عما تهواه بل تعظيما لله و إجلالا لذكره و إعلاء لكلمته و ضبطا للنفوس أن تتسرع إلى الاستهانة بجناية و تقيدا للألسن أن تتفوه بالانتقاص لحقه
و أيضا فإن حد سب المخلوق و قذفه لا يسقط بإظهار التوبة فحد سب الخالق أولى و أيضا حدثنا فحد الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة فكذلك حد الأقوال و تأثيرها أعظم
و جماع الأمر أن كل عقوبة وجبت جزاء و نكالا على فعل أو قول ماض فإنها لا تسقط إذا أظهرت التوبة بعد الرفع إلى السلطان فسب الله أولى بذلك و لا ينتقض هذا بتوبة الكافر و المرتد لأن العقوبة هنا إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي فلا يحصل نقضا لوجهين :
أحدهما : أن عقوبة الساب لله ليست كذنب استصحبه و استدامه فإنه بعد انقضاء السب لم يستصحبه و لم يستدمه و عقوبة الكافر و المرتد إنما هي الكفر الذي هو مصر عليه مقيم على اعتقاده(3/417)
الثاني : أن الكافر إنما يعاقب على اعتقاد هو الآن في قلبه و قوله و عمله دليل على الاعتقاد حتى لو فرض أنا علمنا أن كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقاد لموجبها لم نكفره ـ بأن يكون جاهلا بمعناها أو مخطئا قد غلط و سبق لسانه إليها مع قصد خلافها و نحو ذلك ـ و الساب إنما يعاقب على انتهاكه لحرمة الله و استخفافه بحقه فيقتل و إنما علمنا أنه لا يستحسن السب لله و لا يعتقده دينا إذ ليس أحد من البشر يدين بذلك و لا ينتقض هذا أيضا بتارك الصلاة و الزكاة و نحوهما فإنهم إنما يعاقبون على دوام الترك لهذه الفرائض فإذا فعلوها زال الترك و إن شئت أن تقول : إن الكافر و المرتد ن و تاركي الفرائض يعاقبون على عدم الإيمان و الفرائض أعني على دوام هذا العدم و هؤلاء يعاقبون على وجود الأقوال و الأفعال الكثيرة لا على دوام وجودها فإذا وجدت مرة لم يرتفع ذلك بالترك بعد ذلك
و بالجملة فهذا القول له توجه و قوة و قد تقدم أن الردة نوعان : مجردة و مغلظة و بسطنا هذا القول فيما تقدم في المسألة الثالثة و لا خلاف في قبول التوبة فيما بينه و بين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح
و من الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكا آخر و هو أنه جعله من باب الزنديق كأحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب الرسول لأن وجود السب منه ـ مع إظهاره للإسلام ـ دليل على خبث سريرته لكن هذا ضعيف فإن الكلام هنا إنما هو في سب لا يتدين به فأما السب الذي يتدين به ـ كالتثليث و دعوى الصاحبة و الولد ـ فحكمه حكم أنواع الكفر و كذلك المقالات المكفرة ـ مثل مقالة الجهمية و القدرية و غيرهم من صنوف البدع ـ و إذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه يؤدب أدبا و جيعا حتى يردعه عن العود إلى مثل ذلك هكذا ذكره بعض أصحاب مالك في كل مرتد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 570 ](3/418)
و كذلك قال أبو بكر بن هاني : لا تؤكل ذبيحة الروافض و القدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد و أهل الذمة يقرون على دينهم و تؤخذ منهم الجزية
و كذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة : ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم
و قال فضيل بن مرزوق : سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة : و الله إن قتلك لقربة إلى الله و ما أمتنع من ذلك إلا بالجواز و في رواية قال : رحمك الله قذفت إنما تقول هذا تمزح قال : لا و الله ما هو بالمزاح و لكنه الجد قال : و سمعته يقول : لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم و أرجلكم
و صرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي و عثمان و بكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة و فسقوهم و سبوهم
و قال أبو بكر عبد العزيز في المقنع : فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج
و لفظ بعضهم و هو الذي نصره القاضي أبو يعلى أنه إن سبهم سبا يقدح في دينهم و عدالتهم كفر بذلك و إن سبهم سبا لا يقدح ـ مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سبا يقصد به غيظه و نحو ذلك ـ لم يكفر
قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان : هذا زندقة و قال في رواية المروزي : [ من شتم أبا بكر و عمر و عائشة ما أراه على الإسلام ]
قال القاضي أبو يعلى : فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة و توقف في رواية عبد الله و أبي طالب عن قتله و كمال الحد و إيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره
قال : فيحتمل أن يحمل قوله : [ ما أراه على الإسلام ] إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف و يحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي(3/419)
قال : و يحتمل قوله : [ ما أراه على الإسلام ] على سب يطعن في عالتهم نحو قوله : ظلموا و فسقوا بعد النبي صلى الله عليه و سلم و أخذوا الأمر بغير حق و يحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله : كان فيهم قلة علم و قلة معرفة بالسياسة و الشجاعة و كان فيهم شح و محبة للدنيا و نحو ذلك قال : و يحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان : إحداهما يكفر و الثانية يفسق و على هذا استقر قول القاضي و غيره حكوا في تكفيرهم روايتن
قال القاضي : و من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها منه كفر بلا خلاف
و نحن نرتب الكلام في فصلين أحدهما : في سبهم مطلقا و الثاني : في تفصيل أحكام الساب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 581 ]
و أما من قال : [ يقتل الساب ] أو قال : [ يكفر ] فلهم دلالات احتجوا بها منها : قوله تعالى : { محمد رسول الله و الذين معه أشداد على الكفار رحماء بينهم ـ إلى قوله تعالى ـ : ليغلظ بهم الكفار } [ الفتح : 29 ] فلا بد أن يغيظ بهما لكفار و إذا كان الكفار يغاظون بهم فمن غيظ بهم فقد شارك الكفار فيما أذلهم الله به و أخزاهم و كتبهم على كفرهم و لا يشارك الكفار في غيظهم الذي كتبوا به جزاء لكفرهم إلا كافر لأن المؤمن لا يكتب جزاء للكفر
يوضح ذلك أن قوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } [ الفتح : 29 ] تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب لأن الكفر مناسب لأن يغاظ صاحبه فإذا كان هو الموجب لأن يغيظ الله صاحبه بأصحاب محمد فمن غاظه الله بأصحاب محمد فقد وجد في حقه ذلك و هو الكفر
قال عبد الله بن إدريس الأودي الإمام : ما آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار ـ يعني الرافضة ـ لأن الله تعالى يقول : { ليغيظ بهم الكفار } و هذا معنى قول الإمام أحمد : ما أراه على الإسلام(3/420)
و من ذلك : ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أبغضهم فقد أبغضني و من آذاهم فقد أذاني و من آذني فقد أذى الله ] و قال : [ فمن سبهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين و لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا ] و أذى الله و رسوله كفر موجب للقتل كما تقدم و بهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة و أذى سائر المسلمين و بين أذاهم بعد صحبتهم له فإنه على عهد قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقا و يمكن أن يكون مرتدا فأما إذا مات مقيما على الصحبة النبي صلى الله عليه و سلم و هو غير مزنون بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود : اعتبروا الناس بأخدانهم و قالوا :
( عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي )
و قال مالك رضي الله عنه : إنما هؤلاء أقوم أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة و السلام فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء و لو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين أو كما قال و ذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله و رسوله و يذب عن رسول الله بنفسه و ماله و يعينه على إظهار دين الله و إعلاء كلمة الله و تبليغ رسالات الله وقت الحاجة و هو حينئذ لم يستقر أمره و لم تنتشر دعوته و لم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه و معلوم أن رجلا لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه و عد ذلك أذى له و إلى هذا أشار ابن عمر قال نسير بن ذعلوق : سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول : [ لا تسبوا أصحاب محمد فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله ] رواه اللالكائي و كأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لو اتفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدكم أو نصيفه ] و هذا تفاوت عظيم جدا
و من ذلك : ما روي عن علي رضي الله عنه قال : [ و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق ] رواه مسلم(3/421)
و من ذلك : ما خرجاه في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ آية الإيمان حب الأنصار و أية النفاق بغض الأنصار ] و في لفظه قال في الأنصار : [ لا يحبهم إلا مؤمن و لا يبغضهم إلا منافق ]
و في الصحيحين أيضا عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الأنصار [ لا يحبهم إلا مؤمن و لا يبغضهم إلا منا فق من أحبهم أحبه الله و من أبغضهم أبغضه الله ]
و لمسلم عن أبي هريرة النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله و اليوم الآخر ]
و روى مسلم في صحيحه أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله و اليوم الآخر ]
فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله و لا باليوم الآخر و إنما خص الأنصار ـ و الله أعلم ـ لأنهم هم الذين تبوؤوا الدار و الإيمان من قبل المهاجرين و آووا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نصروه و منعوه و بذلوا في إقامة الدين النفوس و الأموال و عادوا الأحمر و الأسود من أجله و آووا المهاجرين و واسوهم في الأموال و كان المهاجرين إذ ذاك قليلا غرباء فقراء مستضعفين و من عرف السيرة و أيام رسول الله عليه الصلاة و السلام و ما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنا يحب الله و رسوله لم يملك أن لا يحبهم كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم و أراد بذلك ـ و الله أعلم ـ أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون و الأنصار يقلون و أن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله و رسوله بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } [ الصف : 14 ] فبغض من نصر الله و رسوله من أصحابه نفاق
و من هذا : ما رواه طلحة بن مصرف قال : [ كان يقال : بغض بني هاشم نفاق و بغض أبي بكر و عمر نفاق و الشاك في أبي بكر كالشاك في السنة ](3/422)
و من ذلك : ما رواه كثير النواء [ عن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قال رسول الله عليه الصلاة و السلام : يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام ] هكذا رواه عبد الرحمن بن أحمد في مسند أبيه
و في السنة من وجوه صحيحة عن يحيى بن عقيل : ثنا كثير و رواه أيضا من حديث أبي شهاب عبد ربه بن نافع الحناط عن كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده يرفعه قال : [ يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام ] و كثير النواء [ و يضعفونه ]
و روى أبو يحيى الحماني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني ـ أو النخعي ـ عن عمه عن علي قال : قال النبي عليه الصلاة و السلام : [ يا علي أنت و شيعك في الجنة و إن قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون ] قال علي : ينتحلون حبنا أهل البيت و ليسوا كذلك و آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر و عمر رضي الله عنهما
و رواه عبد الله بن أحمد : [ حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا أبو يحيى و رواه أبو بكر الأثرم في سننه : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي جناب عن أبي سليمان الهمداني عن رجل من قومه قال : قال علي : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أدلك على عمل إن عملته كنت من أهل الجنة ؟ و أنك من أهل الجنة إنه سيكون بعدنا قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون ] قال : و قال علي رضي الله عنه : سيكون بعدنا قوم سيكون ينتحلون مودتنا يكذبون علينا مارقة آية ذلك أنهم يسبون أبا بكر و عمر رضي الله عنهما(3/423)
و رواه أبو القاسم البغوي : حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن حازم عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي رضي الله عنه قال : [ يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة يعرفون به و ينتحلون شيعتنا و ليسوا من شيعتنا و آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر و عمر و أينما أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون ]
و قال سويد : حدثنا مروان بن معاوية عن حماد بن كيسان عن أبيه و كانت أخته سرية لعلي رضي الله عنه قال : سمعت عليا يقول : [ يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون ] فهذا الموقوف على علي رضي الله عنه شاهد في المعنى لذلك المرفوع
و روي هذا المعنى مرفوعا من حديث أم سلمة و في إسناده سوار بن مصعب و هو متروك
و روى ابن بطة بإسناده عن أنس قال : رسول الله عليه الصلاة و السلام [ [ إن الله ] اختارني و اختار أصحابي فجعلهم أنصاري و جعلهم أصهاري و إنه سيجيء في آخر الزمان قوم يبغضوهم ألا فلا تواكلوهم و لا تشاربوهم ألا فلا تناكحوهم ألا فلا تصلوا معهم و لا تصلوا عليهم عليهم حلت اللعنة ] و في هذا الحديث نظر
و روى ما هو أغرب من هذا و أضعف رواه ابن البناء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و لا تسبوا أصحابي فإن كفارتهم القتل ]
و أيضا فإن هذا مأثور عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فروى أبو الأحوص عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال : بلغ علي بن أبي طالب أن عبد الله بن سوداء يبغض أبا بكر و عمر فهم يقتله فقيل له : تقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت ؟ فقال : لا يساكنني في دار أبدا(3/424)
و في رواية عن شباك قال : بلغ عليا أن ابن السوداء يبغض أبا بكر و عمر قال : فدعاه و دعا بالسيف أو قال : فهم بقتله فكلم فيه فقال : لا يساكنني ببلد أنا فيه فنفاه إلى المدائن و هذا محفوظ عن أبي الأحوص و قد رواه النجاد و ابن بطة و اللالكائي و غيرهم و مراسيل إبراهيم جياد و لا يظهر عن علي رضي الله عنه أنه يريد قتل رجل إلا و قتله حلال عنده و يشبه ـ و الله أعلم ـ أن يكون إنما تركه خوف الفتنة بقتله كما كان النبي عليه الصلاة و السلام يمسك عن قتل بعض المنافقين فإن الناس تشتتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه و صار في عسكره من أهل الفتنة أقوام لهم عشائر لو أراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم و بسبب هذا و شبهه كانت فتنة الجمل
و عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قال : قلت لأبي : يا أبت لو كنت سمعت رجلا يسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكفر أكنت تضرب عنقه ؟ قال : نعم رواه الإمام أحمد و غيره و رواه ابن عيينة عن خلف ابن خوشب عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال : قلت لأبي : لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعا ؟ قال : أضرب عنقه قلت : فعمر ؟ قال : أضرب عنقه و عبد الرحمن بن أبزى من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أدركه و صلى خلفه و أقره عمر رضي الله عنه عاملآ على مكة و قال : هو ممن رفعه الله بالقرآن بعد أن قيل له : إنه عالم بالفرائض قارئ لكتاب الله و استعمله علي رضي الله عنه على خراسان(3/425)
و روى قيس بن الربيع عن وائل عن البهي قال : وقع بين عبد الله بن عمر و بين المقداد كلام فشتم عبيد الله المقداد فقال عمر : [ علي بالحداد أقطع لسانه لا يجترئ أحد بعده يشتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ] و في رواية : [ فهم عمر بقطع لسانه فكلمه فيه أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فقال : ذروني أقطع لسان ابني لا يجترئ أحد بعده يسب أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم رواه حنبل و ابن بطة و اللالكائي و غيرهم و لعل عمر إنما كف عنه لما شفع فيه أصحاب الحق و هم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و لعل المقداد كان فيهم ]
و عن عمر بن الخطاب أنه أتي بأعرابي يهجو الأنصار فقال : [ لولا أن له صحبة لكفيتكموه ] رواه أبو ذر الهروي
و يؤيد ذلك ما روى الحكم بن حجل قال : [ سمعت عليا يقول لا يفضلني أحد على أبي بكر و عمر رضي الله عنهما إلا جلدته حد المفتري ] و عن علمقة بن قيس قال : خطبنا علي رضي الله عنه فقال : [ إنه بلغني أن قوما يفضلونني على أبي بكر عمر و لو كنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه و لكني أكره العقوبة قبل التقدم و من قال شيئا من ذلك فهو مفتر عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ] رواهما عبد الله ابن أحمد و روى ذلك ابن بطة و اللالكائي من حديث سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها
و روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن أبي ليلى قال : [ تداروا في أبي بكر و عمر فقال رجل من عطارد : عمر أفضل من أبي بكر فقال الجارود : بل أبو بكر أفضل منه قال : فبلغ ذلك عمر قال : فجعل يضربه ضربا بالدرة حتى شغر برجله ثم أقبل إلى الجارود فقال : إليك عنى ثم قال عمر : أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله عليه الصلاة و السلام في كذا و كذا ثم قال عمر : من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري ](3/426)
فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر و علي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل عليا على أبي بكر و عمر أو من يفضل عمر على أبي بكر ـ مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب و لا عيب ـ علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير
أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي و إنما غلط جبرئيل في الرسالة فهذا لا شك في كفره بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره
و كذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات و كتمت أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة و نحو ذلك و هؤلاء يسمون القرامطة و الباطنية و منهم التناسخية و هؤلاء لا خلاف في كفرهم
و أما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم و لا في دينهم ـ مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد و نحو ذلك ـ فهذا هو الذي يستحق التأديب و التعزير و لا نحكم بكفره بمجرد ذلك و على هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم
و أما من لعن و قبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ و لعن الاعتقاد
و أما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة و السلام إلا نفرا قليلا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع : من الرضى عنهم و الثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب و السنة كفار أو فساق و أن هذه الآية التي هي { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] و خيرها هو القرآن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم و أن سابقي هذه الأمة هم شرارهم و كفر هذا مما يعلم باضطرار من دين الإسلام(3/427)
و لهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق و عامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم و قد ظهرت لله فيهم مثلات و تواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا و الممات و جمع العلماء ما بلغهم في ذلك ممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب و ما جاء فيه من الإثم و العقاب
و بالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره و منهم من لا يحكم بكفره و منهم من تردد فيه و ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك و إنما ذكرنا هذه المسائل لأنها من تمام الكلام في المسألة التي قصدنا لها
فهذا ما تيسر من الكلام في هذا الباب ذكرنا ما يسره الله و اقتضاه الوقت و الله سبحانه يجعله لوجهه خالصا و ينفع به و يستعملنا فيما يرضاه من القول و العمل
و الحمد لله رب العالمين و صلى الله عل سيدنا و مولانا محمد و آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا كثيرا
* * *
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و الصلاة و السلام على رسوله المؤيد بباهر المعجزات و على آله و صحبه ذوي المروءات و على علماء أمته الذين اهتدوا بهداه و وفقهم الله لما يحبه و يرضاه
********
********
********
********
********
********
********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
*********
**********(3/428)