أحكام المرتد عند شيخ الإسلام ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
واشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليه خير نبي مرسل وأكرم شافع مفضل ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البدور الكمل صلاة دائمة إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن الردة قد نجم قرنها في هذه الأيام اعتقادا وقولا وعملا وسلوكا
وقد خاض الناس في أحكامها خوضا كثيرا
فمنهم من أنكر حد الردة وخاصة الذين انبهروا بحضارة الغرب العفنة وأكاذيبه
ومنهم من لم يكفر المسلم مهما ارتكب من أمور تخرجه من الدين حتى يعتقد ذلك بقلبه وهم مرجئة العصر
ومنهم من يكفر المسلم لأدنى معصية أو لخلاف معه في الرأي !!!
ومنهم 0000
ومنهم 0000
*************
وحسما لهذه الفوضى في هذه القضية الخطيرة فقد قمت بجمع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول أحكام الردة
وقد استفاض في الحديث عنها بما لم يسبق إليه
فجمعتها من كتبه التالية :
أولا - مجموع الفتاوى حيث تعرض لهذا الموضوع كثيرا من حيث أسباب الردة وكيفيتها وأحكامها
والثاني - منهاج السنة النبوية ليرد على الرافضة الذين كفروا الصحابة رضي الله عنهم دون برهان ولا دليل
والثالث - الصارم المسلول على شاتم الرسول (صلى الله عليه وسلم ) حيث فصل فيه حكم هذه المسألة وبين حكم سب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم بكلام نفيس
***************
قال تعالى مبينا لنا حرص الكفار على ارتدادنا عن ديننا :
{(1/1)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة
إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ; ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل , ويرهبه كل باغ , ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج , ومن منهج قويم , ومن نظام سليم . .
إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون .ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه , ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة . ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم , وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين , وتتبع هذا المنهج , وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته , ولكن الهدف يظل ثابتا . .
أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره , وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . .
والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام , وينبهها إلى الخطر ; ويدعوها إلى الصبر على الكيد , والصبر على الحرب , وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ; والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر:(1/2)
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر , فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت . .
والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل , فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . .
يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره , وهلاكه في النهاية وبواره . .
مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ !
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . .
حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلودا .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه , لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا . إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر , مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي , وفي الارتداد الحقيقي , بحيث يموت وهو كافر . .
والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . .
ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه , ويرتد عن إيمانه وإسلامه , ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . .
وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به , ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيرا :
إحدى الحسنيين:
النصر أو الشهادة .
*****
وبين تعالى أن ظهور الكفار علينا سيجعلنا أمام خيارين أحلاهما مر :
{ إ ِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (20) سورة الكهف
******(1/3)
وقال تعالى مبينا صفات المؤمنين الصادقين الذين لا يتركون دينهم مهما كانت الظروف والأسباب :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة
***********
وقال تعالى عن المنافقين :
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( 64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ( 65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( 66) التوبة
****************
وفي البخاري :
3017 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا - رضى الله عنه - حَرَّقَ قَوْمًا ، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ، لأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ » . وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ » . طرفه 6922 - تحفة 5987
وفي الترمذي :(1/4)
1530 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّىُّ الْبَصْرِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِىُّ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». وَلَمْ أَكُنْ لأُحَرِّقَهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ». فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى الْمُرْتَدِّ. وَاخْتَلَفُوا فِى الْمَرْأَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ تُحْبَسُ وَلاَ تُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
**************
وقد ذكرت خلاصة أحكام الردة في الفقه الإسلامي حتى يكون الموضوع شاملا وتاما ومرجعا لكل من أراد أن يعرف التفصيل في هذه المسألة الجلل
**************
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق وأن يهدينا سواء السبيل
قال تعالى :
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (8) سورة آل عمران
3 جمادى الأولى 1426 هـ
****************
وفي الموسوعة الفقهية(1/5)
إحْصَانُ الْقَذْفِ : 14 - لِصِيَانَةِ أَعْرَاضِ ذَوِي الْعِفَّةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ حَرَّمَ اللَّهُ قَذْفَ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً دُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةً . شُرُوطُ إحْصَانِ الْقَذْفِ : 15 - الْمُحْصَنُ الَّذِي يُحَدُّ قَاذِفُهُ هُوَ مَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا , أَمَّا فِي حَالَةِ نَفْيِ النَّسَبِ فَيَشْتَرِطُ أَبُو حَنِيفَةَ فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ مُسْلِمَةً وَأَنْ تَكُونَ حُرَّةً . أ - الْحُرِّيَّةُ : فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ . ب - الْإِسْلَامُ : فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مُرْتَدٍّ أَوْ كَافِرٍ أَصْلِيٍّ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ . وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْكَافِرُ مُحْصَنًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حَدِّ الزِّنَا دُونَ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ حَدَّهُ فِي الزِّنَا بِالرَّجْمِ إهَانَةٌ لَهُ , وَحَدُّ قَاذِفِ الْكَافِرِ إكْرَامٌ لَهُ , وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِكْرَامِ . ج , د - الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ : خَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا الزِّنَا , أَوْ هُوَ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ , وَالْحُرْمَةُ بِالتَّكْلِيفِ , وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ يَشْتَرِطَانِ الْبُلُوغَ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَقْذُوفُ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى , وَلَا يَشْتَرِطُ مَالِكٌ الْبُلُوغَ فِي الْأُنْثَى , وَلَكِنَّهُ يَشْتَرِطُهُ فِي الْغُلَامِ , وَيَعْتَبِرُ الصَّبِيَّةَ مُحْصَنَةً إذَا كَانَتْ تُطِيقُ الْوَطْءَ , أَوْ كَانَ مِثْلُهَا يُوطَأُ وَلَوْ لَمْ تَبْلُغْ , لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصَّبِيَّةِ يَلْحَقُهَا الْعَارُ .(1/6)
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَحْمَدَ فِي اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ , فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ يَجِبُ تَوَفُّرُهُ فِي الْمَقْذُوفِ ; لِأَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيْ التَّكْلِيفِ , فَأَشْبَهَ الْعَقْلَ ; وَلِأَنَّ زِنَى الصَّبِيِّ لَا يُوجِبُ حَدًّا , فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْقَذْفِ بِهِ , كَزِنَى الْمَجْنُونِ . وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ أَنَّ الْبُلُوغَ لَيْسَ شَرْطًا , لِأَنَّهُ حُرٌّ عَاقِلٌ عَفِيفٌ يَتَعَيَّرُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُمْكِنِ صِدْقُهُ , فَأَشْبَهَ الْكَبِيرَ . وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجِمَاعُ . وَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى اخْتِلَافِ الْبِلَادِ . هـ - الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَى : مَعْنَى الْعِفَّةِ عَنْ الزِّنَى أَلَّا يَكُونَ الْمَقْذُوفُ وَطِئَ فِي عُمْرِهِ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا , وَلَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَسَادًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ , فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ , سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ زِنًى مُوجِبًا لِلْحَدِّ أَمْ لَا , فَالْعِفَّةُ الْفِعْلِيَّةُ يَشْتَرِطُهَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ , وَأَحْمَدُ يَكْتَفِي بِالْعِفَّةِ الظَّاهِرَةِ عَنْ الزِّنَى , فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ , وَمَنْ لَمْ يُحَدَّ لِلزِّنَا فَهُوَ عَفِيفٌ . ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ النَّسَبِ حُدَّ اتِّفَاقًا , وَإِنْ كَانَ بِالزِّنَى فِيمَنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْوَطْءُ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ .(1/7)
وَقَالُوا : لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ , وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ , وَقَالَ الْحَسَنُ : لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ , لِأَنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنْ هَؤُلَاءِ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ , وَالْحَدُّ إنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ . وَعِنْدَ أَحْمَدَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ لِعُمُومِ قوله تعالى { : وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } . وَالرَّتْقَاءُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ هَذَا , وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَقَاذِفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ ; وَلِأَنَّ إمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ , فَيَجِبُ كَقَذْفِ الْمَرِيضِ .(1/8)
ح - الْعَقْلُ ( حَمْلُ الدِّيَةِ ) : 11 - اخْتِلَافُ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ يَمْنَعُ الْعَقْلَ , فَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ , بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , حَتَّى لَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يَعْقِلُ عَنْ الْمُسْلِمِ إنْ عَجَزَتْ عَاقِلَتُهُ , وَلَا يَعْقِلُ عَنْ كَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ , أَوْ مُرْتَدٍّ ; لِاخْتِلَافِ الدِّينِ . ثُمَّ قَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ يَهُودِيٌّ عَنْ نَصْرَانِيٍّ , وَلَا نَصْرَانِيٌّ عَنْ يَهُودِيٍّ . وَخَالَفَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ , فَالْكُفَّارُ عِنْدَهُمْ يَتَعَاقَلُونَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ . قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ : لِأَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ , وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الدَّارِ .(1/9)
مَا يَكُونُ بِهِ الِاسْتِخْفَافُ : يَكُونُ الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَقْوَالِ أَوْ الْأَفْعَالِ أَوْ الِاعْتِقَادَاتِ . أ - الِاسْتِخْفَافُ بِاَللَّهِ تَعَالَى : 3 - قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ , مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِانْتِقَاصُ وَالِاسْتِخْفَافُ فِي مَفْهُومِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ , كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ , سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الِاسْتِخْفَافُ الْقَوْلِيُّ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ أَمْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى , مُنْتَهِكًا لِحُرْمَتِهِ انْتِهَاكًا يَعْلَمُ هُوَ نَفْسُهُ أَنَّهُ مُنْتَهِكٌ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ . مِثْلُ وَصْفِ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ , أَوْ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ , أَوْ وَعْدٍ مِنْ وَعِيدِهِ , أَوْ قَدْرِهِ . وَقَدْ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ , وَذَلِكَ بِكُلِّ عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِهَانَةَ , أَوْ الِانْتِقَاصَ , أَوْ تَشْبِيهَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ , مِثْلُ رَسْمِ صُورَةٍ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ , أَوْ تَصْوِيرِهِ فِي مُجَسَّمٍ كَتِمْثَالٍ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ , مِثْلُ اعْتِقَادِ حَاجَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الشَّرِيكِ حُكْمُ الِاسْتِخْفَافِ بِاَللَّهِ تَعَالَى : 4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ , أَوْ الْفِعْلِ , أَوْ الِاعْتِقَادِ حَرَامٌ , فَاعِلُهُ مُرْتَدٌّ عَنْ الْإِسْلَامِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ , سَوَاءٌ أَكَانَ مَازِحًا أَمْ جَادًّا . قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } .(1/10)
الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَنْبِيَاءِ : 5 - الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَانْتِقَاصُهُمْ وَالِاسْتِهَانَةُ بِهِمْ , كَسَبِّهِمْ , أَوْ تَسْمِيَتِهِمْ بِأَسْمَاءٍ شَائِنَةٍ , أَوْ وَصْفِهِمْ بِصِفَاتٍ مُهِينَةٍ , مِثْلُ وَصْفِ النَّبِيِّ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ , أَوْ خَادِعٌ , أَوْ مُحْتَالٌ , وَأَنَّهُ يَضُرُّ مَنْ اتَّبَعَهُ , وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ زُورٌ وَبَاطِلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَإِنَّ نَظْمَ ذَلِكَ شَعْرًا كَانَ أَبْلَغَ فِي الشَّتْمِ ; لِأَنَّ الشِّعْرَ يُحْفَظُ وَيُرْوَى , وَيُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ كَثِيرًا - مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهِ - أَكْثَرَ مِنْ تَأْثِيرِ الْبَرَاهِينِ , وَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْغِنَاءِ أَوْ الْإِنْشَادِ . حُكْمُ الِاسْتِخْفَافِ بِالْأَنْبِيَاءِ : 6 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِالْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ , وَأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِهِمْ مُرْتَدٌّ , وَهَذَا فِيمَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ , لقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ } , وقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } . وقوله تعالى : { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَخِفُّ هَازِلًا أَمْ كَانَ جَادًّا , لقوله تعالى , { قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } .(1/11)
إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ الْقَتْلِ , فَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ , وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , أَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِالرَّسُولِ وَالْأَنْبِيَاءِ لَا يُسْتَتَابُ بَلْ يُقْتَلُ , وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِي الدُّنْيَا ; لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ , وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ : يُسْتَتَابُ مِثْلَ الْمُرْتَدِّ , وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إنْ تَابَ وَرَجَعَ , لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَلِخَبَرِ : { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } 7 - وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الِاسْتِخْفَافِ بِالسَّلَفِ , وَبَيْنَ الِاسْتِخْفَافِ بِغَيْرِهِمْ , وَأَرَادُوا بِالسَّلَفِ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ . فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَابِّ الصَّحَابَةِ وَسَابِّ السَّلَفِ : إنَّهُ يُفَسَّقُ وَيُضَلَّلُ , وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ .(1/12)
وَلَكِنْ مَنْ سَبَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ - بِالْإِفْكِ الَّذِي بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ - أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الَّتِي ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ يَكْفُرُ ; لِإِنْكَارِهِ تِلْكَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى بَرَاءَتِهَا وَصُحْبَةِ أَبِيهَا , وَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قَالَ : هَذَا فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً , وَلَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ . وَأَمَّا الِاسْتِخْفَافُ بِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانَ مَسْتُورَ الْحَالِ , فَقَدْ قَالَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ : إنَّهُ ذَنْبٌ يُوجِبُ الْعِقَابَ وَالزَّجْرَ عَلَى مَا يَرَاهُ السُّلْطَانُ , مَعَ مُرَاعَاةِ قَدْرِ الْقَائِلِ وَسَفَاهَتِهِ , وَقَدْرِ الْمَقُولِ فِيهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِخْفَافَ وَالسُّخْرِيَةَ مِنْ الْمُسْلِمِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , لقوله تعالى : { لَا يَسْخَرُ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ . بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } .(1/13)
الرُّكْنُ الثَّانِي : إقَامُ الصَّلَاةِ . 21 - الصَّلَاةُ لُغَةً بِمَعْنَى الدُّعَاءِ , وَقَدْ أَضَافَ الشَّرْعُ إلَى الدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُمِّيَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الصَّلَاةَ , أَوْ هِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ الصِّلَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ , فَهِيَ بِذَلِكَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ , وَفُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ . وَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . فَمَنْ جَحَدَهَا كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ . أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا , فَقِيلَ : فَاسِقٌ يُقْتَلُ حَدًّا إنْ تَمَادَى عَلَى الِامْتِنَاعِ , وَقِيلَ : مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ مُفَرِّطًا فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ كُفْرًا . وَقَدْ جَاءَتْ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ مِنْ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ , مِنْهَا قوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وقوله تعالى : { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } , وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ . أَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَمِنْهَا { سُئِلَ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتِهَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . ر : ( صَلَاةٌ ) .(1/14)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ : إيتَاءُ الزَّكَاةِ . 22 - الزَّكَاةُ لُغَةً : النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ . يُقَالُ : زَكَا الشَّيْءُ إذَا نَمَا وَكَثُرَ , إمَّا حِسًّا كَالنَّبَاتِ وَالْمَالِ , أَوْ مَعْنًى كَنُمُوِّ الْإِنْسَانِ بِالْفَضَائِلِ وَالصَّلَاحِ . وَشَرْعًا : إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ , وَسُمِّيَتْ صَدَقَةُ الْمَالِ زَكَاةً , لِأَنَّهَا تَعُودُ بِالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ وَتُنَمِّيهِ . وَرُكْنِيَّتُهَا وَوُجُوبُهَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا مُرْتَدٌّ , لِإِنْكَارِهِ مَا قَامَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً . وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ كَرْهًا , بِأَنْ يُقَاتَلَ وَيُؤَدَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا . وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً . وَفُرِضَتْ فِي مَكَّةَ مُطْلَقَةً أَوَّلًا , وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ حُدِّدَتْ الْأَنْوَاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا , وَمِقْدَارُ النِّصَابِ فِي كُلٍّ ر : ( زَكَاةٌ ) .(1/15)
ثَالِثًا : الْإِسْلَامُ بِالدَّلَالَةِ : 27 - قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ : الْأَصْلُ أَنَّ الْكَافِرَ مَتَى فَعَلَ عِبَادَةً فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ لَا يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا , كَالصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا , وَالصَّوْمِ , وَالْحَجِّ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ , وَالصَّدَقَةُ , وَمَتَى فَعَلَ مَا اخْتَصَّ بِشَرْعِنَا , وَلَوْ مِنْ الْوَسَائِلِ كَالتَّيَمُّمِ . وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ الْمَقَاصِدِ أَوْ مِنْ الشَّعَائِرِ , كَالصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ وَالْحَجِّ الْكَامِلِ وَالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , يَكُونُ بِهِ مُسْلِمًا , وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنْ الْأَفْعَالِ تَقُومُ دَلَالَةً عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْلِمًا , وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . أ - ( الصَّلَاةُ ) 28 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ . لَكِنْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ : يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِالصَّلَاةِ سَوَاءٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فَرْدًا , فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَإِلَّا فَهُوَ مُرْتَدٌّ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ .(1/16)
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُسْلِمٌ , يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَافِرِينَ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } وَقَوْلِهِ : { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا , وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا , وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ , فَلَا تَخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ } . فَجَعَلَهَا حَدًّا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ , فَمَنْ صَلَّى فَقَدْ دَخَلَ فِي حَدِّ الْإِسْلَامِ , وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ فَالْإِتْيَانُ بِهَا إسْلَامٌ , كَالشَّهَادَتَيْنِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِالصَّلَاةِ إلَّا إنْ صَلَّاهَا كَامِلَةً فِي الْوَقْتِ مَأْمُومًا فِي جَمَاعَةٍ , إلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ يَرَى أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ بِمُجَرَّدِ صَلَاتِهِ , لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ , فَلَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا , كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ , وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .(1/17)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ , لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الِاسْتِتَارَ بِالصَّلَاةِ وَإِخْفَاءَ دِينِهِ , وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُسْلِمٌ , لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقَّةِ . وَالدَّلِيلُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا , وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا , وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تَخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ } . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ } فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ } . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : مَنْ صَلَّى حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا , أَمَّا صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ فَأَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .(1/18)
فَالرَّجُلُ يَتَعَهَّدُ الْمَسَاجِدَ وَيَرْتَادُهَا لِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَالْإِنْصَاتِ فِيهَا لِمَا يُتْلَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ , وَمَا يُلْقَى فِيهَا مِنْ الْعِبَرِ وَالْعِظَاتِ , وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا يَرْتَادُهَا إلَّا الْمُؤْمِنُونَ الطَّائِعُونَ وَالْمُخْلِصُونَ فِي إيمَانِهِمْ لِلَّهِ , فَلَا جَرَمَ إنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الِارْتِيَادَ هُوَ أَمَارَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ , يَشْهَدُ لَهُ قوله تعالى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } . الْآيَةَ . ب - ( الْأَذَانُ ) : 29 - وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ بِالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْوَقْتِ , لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ دِينِنَا وَشِعَارِ شَرْعِنَا , وَلَيْسَ لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ , بَلْ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْلَامِ بِالْفِعْلِ . ج - ( سُجُودُ التِّلَاوَةِ ) : 30 - وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ , لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِنَا , فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ الْكُفَّارِ فِي قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } . د - ( الْحَجُّ ) : 31 - وَكَذَلِكَ لَوْ حَجَّ , وَتَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ . وَلَبَّى وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ . وَإِنْ لَبَّى وَلَمْ يَشْهَدْ الْمَنَاسِكَ , أَوْ شَهِدَهَا وَلَمْ يُلَبِّ , فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ .
((1/19)
الثَّانِي ) مِنْ أَحْكَامِ الْخَمْرِ : أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا : 22 - لَقَدْ ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْخَمْرِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ , وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ , كَمَا سَبَقَ . فَمَنْ اسْتَحَلَّهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ حَلَالُ الدَّمِ وَالْمَالِ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ اُنْظُرْ مُصْطَلَح : ( رِدَّةٌ ) . هَذَا , وَإِنَّ الْخَمْرَ الَّتِي يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا هِيَ مَا اُتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ , أَمَّا مَا أَسْكَرَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ , وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , لِأَنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ الثَّابِتَةِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ , وَهَذِهِ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآثَارِ الصَّحَابَةِ .(1/20)
أَثَرُ الِاعْتِقَادِ فِي التَّصَرُّفَاتِ : 7 - مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُكَلَّفُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا فَإِذَا هُوَ بِخِلَافِهِ , كَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا وَهُوَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , وَكَالْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ حَقًّا بِنَاءً عَلَى الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ , أَوْ كَمَنْ يُصَلِّي عَلَى مُرْتَدٍّ يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمًا , فَهَذَا خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ , يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَى قَصْدِهِ , دُونَ فِعْلِهِ , وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى . أَمَّا إذَا قَصَدَ إغَاثَةَ الْجَائِعِ , فَأَعْطَاهُ طَعَامًا فَاسِدًا , مُعْتَقِدًا أَنَّهُ صَحِيحٌ , فَمَاتَ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْثَمُ , وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ , وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَطْءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ . وَتَخْتَلِفُ الْأُجُورُ بِاخْتِلَافِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ , فَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْأَسْبَابُ وَالشَّرَائِطُ وَالْأَرْكَانُ فِي الْبَاطِنِ , فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّاهِرِ - يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ , وَإِنْ ثَبَتَ فِي الظَّاهِرِ مَا يُخَالِفُ الْبَاطِنَ أُثِيبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ الْحَقِّ , وَلَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ , لِأَنَّهُ خَطَأٌ , وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْخَطَأِ , وَلِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْمَفَاسِدِ . الْهَزْلُ وَالِاعْتِقَادُ : 8 - الْهَازِلُ لَا يَدْخُلُ فِي اعْتِقَادٍ بِهَزْلِهِ , وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِهَذَا الْهَزْلِ .(1/21)
إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ يَكْفُرُ بِالْهَزْلِ بِالْكُفْرِ , لَا لِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادَاتِ , بَلْ لِأَنَّ الْهَزْلَ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ , لقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إلَى مُصْطَلَحِ ( اسْتِخْفَافٌ ) ( وَرِدَّةٌ ) .(1/22)
تَعْلِيقُ الْكُفْرِ : 76 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّ تَعْلِيقَ الْكُفْرِ عَلَى مَا لَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ بِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْمَنْعِ مِنْهُ أَوْ الْحَثِّ عَلَى نَقِيضِهِ أَوْ الْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ يُعْتَبَرُ يَمِينًا شَرْعِيَّةً مُلْحَقَةً بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ , وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه . حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي , وَحَكَاهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , وَهِيَ الرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ . وَوَافَقَهُمْ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ , وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَجُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ . وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُخَالِفُ حِكَايَةَ صَاحِبِ الْمُغْنِي عَنْ عَطَاءٍ فَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ , وَكَذَا حِكَايَتُهُ عَنْ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ تَخْتَلِفُ عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .(1/23)
أَمْثِلَةُ الْكُفْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّرْطِ : 77 - مِنْهَا : أَنْ يُخْبِرَ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ كَذَا , أَوْ إنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا أَوْ إنْ حَصَلَ كَذَا , أَوْ إنْ لَمْ يَحْصُلْ كَذَا , أَوْ إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَا , فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ , أَوْ كَافِرٌ أَوْ شَرِيكُ الْكُفَّارِ أَوْ مُرْتَدٌّ , أَوْ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ أَوْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ الْقِبْلَةِ , أَوْ بَرِيءٌ مِمَّا فِي الْمُصْحَفِ , أَوْ بَرِيءٌ مِمَّا فِي هَذَا الدَّفْتَرِ إذَا كَانَ فِي الدَّفْتَرِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَوْ الْبَسْمَلَةَ , أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ . وَمِنْهَا : أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ , أَوْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ أَوْ الزِّنَى إنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا . وَيُسْتَدَلُّ لِمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ يَمِينًا بِأَنَّهُ لَيْسَ حَلِفًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا صِفَتِهِ , فَلَا يَكُونُ يَمِينًا , كَمَا لَوْ قَالَ : عَصَيْت اللَّهَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَنِي إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا , وَكَمَا لَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِأَبِيهِ . 78 - وَيُسْتَدَلُّ لِمَنْ قَالَ إنَّهُ يَمِينٌ بِمَا يَأْتِي : أ - رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الْيَمِينِ يَحْلِفُ بِهَا فَيَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .(1/24)
ب - إنَّ الْحَالِفَ بِذَلِكَ لَمَّا رَبَطَ مَالًا يُرِيدُهُ بِالْكُفْرِ كَانَ رَابِطًا لِنَقِيضِهِ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ , فَكَانَ مِثْلَ الْحَالِفِ بِاَللَّهِ ; لِأَنَّهُ يَرْبِطُ الشَّيْءَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا سَبَّ اللَّهَ يُقْتَلُ , لِأَنَّهُ بِذَلِكَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ , وَأَسْوَأُ مِنْ الْكَافِرِ , فَإِنَّ الْكَافِرَ يُعَظِّمُ الرَّبَّ , وَيَعْتَقِدُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ الْبَاطِلِ لَيْسَ بِاسْتِهْزَاءٍ بِاَللَّهِ وَلَا مَسَبَّةٍ لَهُ . وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ , وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهَا . وَكَذَا مَنْ سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ بِأَمْرِهِ , أَوْ بِوَعْدِهِ , أَوْ وَعِيدِهِ كَفَرَ . وَأَمَّا الذِّمِّيُّ , فَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ ( أَيْ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ) وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إقْرَارُ نُصُوصِ أَحْمَدَ عَلَى حَالِهَا وَهُوَ قَدْ نَصَّ فِي مَسَائِلِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى انْتِقَاضِ الْعَهْدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ , وَعَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ ( سَبٌّ ) .(1/25)
د - التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ بَعْدَ وَفَاتِهِ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِنَبِيِّك أَوْ بِجَاهِ نَبِيَّك أَوْ بِحَقِّ نَبِيَّك , عَلَى أَقْوَالٍ : الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : 11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ) إلَى جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّوَسُّلِ سَوَاءٌ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ . قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْعَبَّاسِيُّ - ثَانِي خُلَفَاء بَنِي الْعَبَّاسِ - يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَأَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو ؟ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : وَلِمَ تَصْرِفْ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عليه السلام إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ بَلْ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ . وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فِهْرٍ فِي كِتَابِهِ " فَضَائِلِ مَالِكٍ " بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَأَخْرَجَهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ شُيُوخٍ عِدَّةٍ مِنْ ثِقَاتِ مَشَايِخِهِ .(1/26)
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَيَانِ آدَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّائِرُ إلَى مَوْقِفٍ قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتَوَسَّلُ بِهِ وَيَسْتَشْفِعُ بِهِ إلَى رَبِّهِ , وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُولُ ( الزَّائِرُ ) مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْعُتْبِيِّ مُسْتَحْسِنِينَ لَهُ قَالَ : كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ . سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي . ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ وَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٌ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرْمُ وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : يَنْبَغِي كَوْنُ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ , وَأَنْ لَا يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ الْأَوْلِيَاءِ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي دَرَجَتِهِ , وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا خُصَّ بِهِ تَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ رُتْبَتِهِ . وَقَالَ السُّبْكِيّ : وَيَحْسُنُ التَّوَسُّلُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالتَّشَفُّعُ بِالنَّبِيِّ إلَى رَبِّهِ . وَفِي إعَانَةِ الطَّالِبِينَ : . . . وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي .(1/27)
مَا تَقَدَّمَ أَقْوَالُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ أَنْ نَقَلَ قِصَّةَ الْعُتْبِيِّ مَعَ الْأَعْرَابِيِّ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى . . . إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ تَأْتِيَ الْقَبْرَ فَتَقُولَ . . . وَقَدْ أَتَيْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي . . . " . وَمِثْلُهُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ . وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ مُتَأَخِّرُوهُمْ أَيْضًا بِجَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ : ثُمَّ يَقُولُ فِي مَوْقِفِهِ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ . . . وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ مُتَوَسِّلًا إلَى اللَّهِ بِحَضْرَةِ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام . وَقَالَ صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ زِيَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . . . جِئْنَاك مِنْ بِلَادٍ شَاسِعَةٍ . . . وَالِاسْتِشْفَاعُ بِك إلَى رَبِّنَا . . . ثُمَّ يَقُول : مُسْتَشْفِعِينَ بِنَبِيِّك إلَيْك . وَمِثْلُهُ فِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ وَالطَّحَاوِيُّ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ . وَنَصُّ هَؤُلَاءِ : عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ . . . وَقَدْ جِئْنَاك سَامِعِينَ قَوْلَك طَائِعِينَ أَمْرَك مُسْتَشْفِعِينَ بِنَبِيِّك إلَيْك . وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ : وَيَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ بِأَنْبِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِمَا يَأْتِي : أ - قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } .(1/28)
ب - حَدِيثُ الْأَعْمَى الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ . فَقَدْ تَوَجَّهَ الْأَعْمَى فِي دُعَائِهِ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَيْ بِذَاتِهِ . ج - { قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّعَاءِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ : اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّك وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي فَإِنَّك أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } . د - تَوَسُّلُ آدَمَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عليهما الصلاة والسلام : رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَمَّا اقْتَرَفَ آدَم الْخَطِيئَةَ قَالَ : يَا رَبِّ أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْت لِي فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا آدَم كَيْفَ عَرَفْت مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ ؟ قَالَ : يَا رَبِّ إنَّك لَمَّا خَلَقْتنِي رَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْت أَنَّك لَمْ تُضِفْ إلَى اسْمِك إلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيْك , فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : صَدَقْت يَا آدَم , إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ , وَإِذْ سَأَلْتنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْت لَك , وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُك } .(1/29)
هـ - حَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه : رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ , فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فِي حَاجَتِهِ , فَشَكَا ذَلِكَ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ , فَقَالَ لَهُ : ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأَ , ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ , ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّك فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي , وَتَذْكُرُ حَاجَتَك , فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه , فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ , فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ وَقَالَ لَهُ : اُذْكُرْ حَاجَتَك , فَذَكَرَ حَاجَتَهُ فَقَضَاهَا لَهُ , ثُمَّ قَالَ : مَا لَك مِنْ حَاجَةٍ فَاذْكُرْهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ لَهُ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ لِحَاجَتِي حَتَّى كَلَّمْته لِي , فَقَالَ ابْنُ حُنَيْفٍ , وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْته وَلَكِنْ { شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ } . إلَى آخِرِ حَدِيثِ الْأَعْمَى الْمُتَقَدِّمِ .(1/30)
قَالَ المباركفوري : قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي إنْجَاحِ الْحَاجَةِ : ذَكَرَ شَيْخُنَا عَابِدٌ السِّنْدِيُّ فِي رِسَالَتِهِ وَالْحَدِيثُ - حَدِيثُ الْأَعْمَى - يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِذَاتِهِ الْمُكَرَّمِ فِي حَيَاتِهِ , وَأَمَّا بَعْدَ مَمَاتِهِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى عُثْمَانَ . . إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ . وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي تُحْفَةِ الذَّاكِرِينَ : وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . الْقَوْلِ الثَّانِي فِي التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ : 12 - جَاءَ فِي التتارخانية مَعْزِيًّا لِلْمُنْتَقَى : رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ ( أَيْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ) وَالدُّعَاءُ الْمَأْذُونُ فِيهِ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ قوله تعالى { : وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } . وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ , وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ لِلْأَثَرِ . وَفِي الدُّرِّ : وَالْأَحْوَطُ الِامْتِنَاعُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيمَا يُخَالِفُ الْقَطْعِيَّ , إذْ الْمُتَشَابِهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَطْعِيِّ .(1/31)
أَمَّا التَّوَسُّلُ بِمِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ : بِحَقِّ رُسُلِك وَأَنْبِيَائِك وَأَوْلِيَائِك , أَوْ بِحَقِّ الْبَيْتِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى كَرَاهَتِهِ . قَالَ الْحَصْكَفِيُّ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَخُصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ وُجُوبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ حَقًّا مِنْ فَضْلِهِ , أَوْ يُرَادُ بِالْحَقِّ الْحُرْمَةُ وَالْعَظَمَةُ , فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسِيلَةِ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وَقَدْ عُدَّ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ التَّوَسُّلُ عَلَى مَا فِي " الْحِصْنِ , وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك , وَبِحَقِّ مَمْشَايَ إلَيْك , فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلَا بَطَرًا } الْحَدِيثَ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِحَقِّهِمْ عَلَيْنَا وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ . وَفِي " الْيَعْقُوبِيَّةِ " : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَصْدَرًا لَا صِفَةً مُشَبَّهَةً , فَالْمَعْنَى بِحَقِّيَّةِ رُسُلِك , فَلْيُتَأَمَّلْ . ا هـ . أَيْ : الْمَعْنَى بِكَوْنِهِمْ حَقًّا لَا بِكَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ . أَقُولُ ( أَيْ ابْنُ عَابِدِينَ ) : لَكِنْ هَذِهِ كُلُّهَا احْتِمَالَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ , وَمُجَرَّدُ إيهَامِ اللَّفْظِ مَا لَا يَجُوزُ كَافٍ فِي الْمَنْعِ . . .(1/32)
فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَطْلَقَ أَئِمَّتُنَا الْمَنْعَ , عَلَى أَنَّ إرَادَةَ هَذِهِ الْمَعَانِي مَعَ هَذَا الْإِيهَامِ فِيهَا الْإِقْسَامُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَانِعٌ آخَرُ , تَأَمَّلْ . هَذَا وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي التَّوَسُّلِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ كَلِمَةِ " بِحَقِّ " وَذَلِكَ كَالتَّوَسُّلِ بِقَوْلِهِ : بِنَبِيِّك " , أَوْ " بِجَاهِ نَبِيِّك " أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . إلَّا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - قَوْلُهُ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ " . الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ : 13 - ذَهَبَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ بِذَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَجُوزُ , وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِغَيْرِ الذَّاتِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَلَفْظُ التَّوَسُّلِ قَدْ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ . أَمْرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : أَحَدُهُمَا : هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ , وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِطَاعَتِهِ . وَالثَّانِي : دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم ( أَيْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ) وَهَذَا أَيْضًا نَافِعٌ يَتَوَسَّلُ بِهِ مَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ أَنْكَرَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا .(1/33)
وَلَكِنْ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ , وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ , فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ . وَأَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَانْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ أَيْضًا , لَكِنْ هَذَا أَخْفَى مِنْ الْأَوَّلِ , فَمَنْ أَنْكَرَهُ عَنْ جَهْلٍ عَرَفَ ذَلِكَ , فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ . أَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ , وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ لَهُ شَفَاعَاتٍ خَاصَّةً وَعَامَّةً . وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ , كَمَا يَقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّلَاحَ . وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ .(1/34)
وَمِنْ الْمَعْنَى الْجَائِزِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " أَيْ : بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وقوله تعالى { : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أَيْ : الْقُرْبَةَ إلَيْهِ بِطَاعَتِهِ , وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ . قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ , وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - كَمَا قَالَ عُمَرُ فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ ; وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ ( أَيْ بَعْدَ وَفَاتِهِ ) إلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ , وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ , فَلَمَّا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ , عُلِمَ أَنَّ مَا يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ . بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ , وَالطَّاعَةُ لَهُ , فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا .(1/35)
وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ : التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ , وَالسُّؤَالُ بِذَاتِهِ , فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ , لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ , لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ , وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ , وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ , أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً . ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَقَدْ حُكِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . فَالْإِقْسَامُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى اللَّهِ - وَالسُّؤَالُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ - هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ .(1/36)
وَيَذْهَبُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ بِلَفْظِ " أَسْأَلُك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ " يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ , فَيَقُولُ فِي ذَلِكَ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : تَارَةً يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إلَى ثَوَابِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ ( وَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ ) وَتَارَةً يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ - كَمَا ذَكَرْتُمْ نَظَائِرَهُ - فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ : أَسْأَلُك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ : إنِّي أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ , وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ . قِيلَ : مَنْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ , وَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِكَلَامِ مَنْ تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنْ السَّلَفِ , كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , كَانَ هَذَا حَسَنًا , وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ , وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَّامِ يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ , وَلَا يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى , فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَنْكَرَ , وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّوَسُّلِ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ .(1/37)
ثُمَّ يَقُولُ : وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ - مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ - يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ : أَحَدَهُمَا : الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ , وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ , كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَالثَّانِيَ : السُّؤَالَ بِهِ فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ , وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ , وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ , لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ , وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ : { أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ } وَحَدِيثُ الْأَعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَفَاعَتِهِ , وَهُوَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدُّعَاءَ , وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِي " وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَلَوْ تَوَسَّلَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُمْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالسُّؤَالِ بِهِ لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ كَحَالِهِ .(1/38)
وَسَاغَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَالِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ الْإِقْسَامِ بِهِمْ ; لِأَنَّ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْإِقْسَامِ فَرْقًا , فَإِنَّ السَّائِلَ مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَلُ بِسَبَبٍ يُنَاسِبُ الْإِجَابَةَ , وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا , فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ , وَالْمُقْسِمُ لَا يُقْسِمُ إلَّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَبَرُّ قَسَمَهُ , فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ , وَأَمَّا إجَابَةُ السَّائِلِينَ فَعَامٌّ , فَإِنَّ اللَّهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ , وَإِنْ كَانَ كَافِرًا , وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ , وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلَهَا , وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا : إذًا نُكْثِرُ , قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ } . وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِمْ - وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ - لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ , فَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ . ثُمَّ يَقُولُ : وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّهُ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَا بِنَبِيٍّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ .(1/39)
وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - غَيْرِ مَالِكٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ يُقَرِّرُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ وَأَنَّ التَّكْفِيرَ فِيهَا حَرَامٌ وَإِثْمٌ . وَيَقُولُ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ : وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ كَفَرَ , وَلَا وَجْهَ لِتَكْفِيرِهِ , فَإِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَفِيَّةٌ لَيْسَتْ أَدِلَّتُهَا جَلِيَّةً ظَاهِرَةً , وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَكُونُ بِإِنْكَارِ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ , أَوْ بِإِنْكَارِ الْأَحْكَامِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . بَلْ الْمُكَفَّرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَسْتَحِقُّ مِنْ غَلِيظِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ مِنْ الْمُفْتَرِينَ عَلَى الدِّينِ , لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا } . رَابِعًا : التَّوَسُّلُ بِالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ : 14 - لَا يَخْرُجُ حُكْمُ التَّوَسُّلِ بِالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ عَمَّا سَبَقَ مِنْ الْخِلَافِ فِي التَّوَسُّلِ بِهِ صلى الله عليه وسلم .
((1/40)
الْمَجُوسُ ) : 28 - وَالْمَجُوسُ هُمْ عَبَدَةُ النَّارِ الْقَائِلُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ أَصْلَيْنِ اثْنَيْنِ مُدَبِّرَيْنِ , يَقْتَسِمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ , وَالنَّفْعَ وَالضَّرَّ , وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ , أَحَدُهُمَا النُّورُ , وَالْآخَرُ الظُّلْمَةُ . وَفِي الْفَارِسِيَّةِ " يزدان " " وَأَهْرَمَن " . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا . 29 - وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ أَوْ الْبَحْرَيْنِ . رَوَى ابْنُ زَنْجُوَيْهِ - بِسَنَدِهِ - إلَى الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ , وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَأَنْ لَا يُؤْكَلَ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ , وَلَا تُنْكَحَ لَهُمْ امْرَأَةٌ } . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ : مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَشْهَدُ أَنِّي لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } .(1/41)
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ , أَيْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسٍ , وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ الْبَرْبَرِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ , وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالِفٍ . وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ : مِنْهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ قُدَامَةَ . وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَلَا تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ , لقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ . فَإِنَّ مَفْهُومَهَا أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي حُكْمِ الْآيَةِ . وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ إلَّا وَجَمِيعُهُمْ أَسْلَمَ , فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ . وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ أَيْضًا إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مَجُوسٌ ) .(1/42)
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ : 31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا , أَيْ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْعَجَمِ , وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } . { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَالْآيَةُ تَقْضِي بِجَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً , وَلَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } .(1/43)
فَالْحَدِيثُ عَامٌّ يَقْتَضِي عَدَمَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ , وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ إلَّا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسَ فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ , فَلَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ عَبَدَةٍ الْأَوْثَانِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدِّمَةٌ ( سَابِقَةٌ ) مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ , فَلَا حُرْمَةَ لِمُعْتَقَدِهِمْ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ , وَأَخَذَ بِهَا هُوَ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ وَكَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ , ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . } فَهُوَ خَاصٌّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ , لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى قوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ . } وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي كَانَ الْعَرَبُ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهَا . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْ الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ . رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْجِزْيَةِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ الْعَرَبِ .(1/44)
} وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : " أَجْمَعُوا عَلَى { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَى أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ , وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ } . وَاسْتَدَلُّوا مِنْ الْمَعْقُولِ : بِأَنَّ كُفْرَهُمْ قَدْ تَغَلَّظَ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ , وَالْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ , فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِيهِ وَوُجُوهِ الْفَصَاحَةِ فِيهِ . وَكُلُّ مَنْ تَغَلَّظَ كُفْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ , أَوْ السَّيْفُ لقوله تعالى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أَيْ تُقَاتِلُونَهُمْ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا . وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَوْزَاعِيِّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ , وَمِنْهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ , سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ , أَمْ مِنْ الْعَجَمِ , وَسَوَاءٌ أَكَانُوا قُرَشِيِّينَ أَمْ غَيْرَ قُرَشِيِّينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ , أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ . . . وَقَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ . وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ . فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } وَذَكَرَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الْجِزْيَةَ .(1/45)
فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ; لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ بِغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , وَإِذَا كَانَ عَامًّا فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَاسْتَدَلُّوا لِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس . وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ . وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا النَّقْلِ كُلٌّ مِنْ ابْنِ رُشْدٍ صَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ , وَابْنُ الْجَهْمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ : فَعَلَّلَهُ ابْنُ الْجَهْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ إكْرَامٌ لَهُمْ , لِمَكَانِهِمْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَعَلَّلَهُ الْقَرَوِيُّونَ بِأَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ قَبْلَ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ , فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى الشِّرْكِ , فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الشِّرْكِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ , فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ .(1/46)
د - ( الْحَبْسُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ ) : 58 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جُحُودًا وَاسْتِخْفَافًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ , يُحْبَسُ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلَّا يُقْتَلُ . وَقَدْ ذَكَرُوا : أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يَحْصُلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ وَقْتُهَا دُونَ أَدَائِهَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ . وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا يُدْعَى إلَيْهَا , فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا فَفِي عُقُوبَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلَّا قُتِلَ حَدًّا لَا كُفْرًا , وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَوَكِيعٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . الْقَوْلُ الثَّانِي : يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلَّا قُتِلَ كُفْرًا وَرِدَّةً , حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ مَنْ جَحَدَهَا وَأَنْكَرَهَا لِعُمُومِ حَدِيثِ : { بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . الْقَوْلُ الثَّالِثُ : يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ , وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .(1/47)
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : النَّفْسِ بِالنَّفْسِ , وَالثَّيِّبِ الزَّانِي , وَالْمَارِقِ مِنْ الدِّينِ التَّارِكِ الْجَمَاعَةَ } وَتَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا لَيْسَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ , فَلَا يَحِلُّ دَمُهُ بَلْ يُحْبَسُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا .
هـ - الْحَبْسُ لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ : 59 - مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ جُحُودًا وَاسْتِهْزَاءً حُبِسَ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلَّا قُتِلَ ; لِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ . وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ وَصْفُ الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بَلْ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ , وَيُمْنَعُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا لِيَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الصِّيَامِ , وَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ حِينَئِذٍ حَقِيقَتُهُ . وَنَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْبَسُ مُدَّةَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ يُضْرَبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً , ثُمَّ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ عِشْرِينَ جَلْدَةً تَعْزِيرًا لِحَقِّ رَمَضَانَ . وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه .(1/48)
ثَانِيًا : الْفَيْءُ : 13 - الْفَيْءُ مَصْدَرُ فَاءَ إذَا رَجَعَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرٍ اللَّهِ } أَيْ تَرْجِعَ . وَالْفَيْءُ فِي الِاصْطِلَاحِ : الْمَالُ - وَنَحْوُهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ - الْحَاصِلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّا هُوَ لَهُمْ بِلَا قِتَالٍ وَلَا إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ . وَيَشْمَلُ الْفَيْءُ : مَا جَلَا عَنْهُ الْكُفَّارُ , وَمَا أَخَذَهُ الْعَاشِرُ مِنْهُمْ , وَالْجِزْيَةَ , وَالْخَرَاجَ , وَتَرِكَةَ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ , وَتَرِكَةَ مُرْتَدٍّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ - عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ - وَمَا أُخِذَ مِنْ مَالِ تَغْلِبِيٍّ وَتَغْلِبِيَّةٍ , وَهَدِيَّةَ الْكُفَّارِ لِلْإِمَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْفَيْءِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْقَاضِي مِنْ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ , وَمَحَلُّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيَصْرِفُهُ الْإِمَامُ بِاجْتِهَادِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ , وَكِفَايَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ , وَرِزْقِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يَبْدَأُ بِآلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَدْبًا . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْخِرَقِيُّ مِنْ رِوَايَتَيْ أَحْمَدَ : يُخَمَّسُ الْفَيْءُ , وَخُمُسُهُ لِأَصْحَابِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ - وَالْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ لِلْمُرْتَزِقَةِ , وَهُمْ الْأَجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ . .(1/49)
فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْخِرَقِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ . وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا الْمُرْتَزِقَةُ . وَلِمَزِيدٍ مِنْ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ : ( فَيْءٌ ) .(1/50)
دَهْرِيٌّ التَّعْرِيفُ : 1 - الدَّهْرِيُّ فِي اللُّغَةِ : مَنْسُوبٌ إلَى الدَّهْرِ , وَالدَّهْرُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَبَدِ وَالزَّمَانِ , وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقُولُ بِقِدَمِ الدَّهْرِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ : دَهْرِيٌّ , بِالْفَتْحِ عَلَى الْقِيَاسِ . وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمُسِنُّ إذَا نُسِبَ إلَى الدَّهْرِ يُقَالُ لَهُ : ( دُهْرِيٌّ ) بِالضَّمِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ . وَالدَّهْرِيُّونَ فِي الْإِصْلَاحِ فِرْقَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ ذَهَبُوا إلَى قِدَمِ الدَّهْرِ وَإِسْنَادِ الْحَوَادِثِ إلَيْهِ , مُنْكَرِينَ وُجُودَ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ , كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { إنْ هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ } . يَقُولُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ : يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ تَأْثِيرَاتُ الطَّبَائِعِ , وَلَا حَاجَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَى إثْبَاتِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ . وَهَذَا إنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْآخِرَةِ وَتَكْذِيبٌ لِلْبَعْثِ وَإِبْطَالٌ لِلْجَزَاءِ , كَمَا يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الزِّنْدِيقُ : 2 - عَرَّفَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الزِّنْدِيقَ بِأَنَّهُ هُوَ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ . وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ الْمُنَافِقِ . وَقِيلَ هُوَ مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا , أَيْ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ . ب - الْمُلْحِدُ : 3 - الْمُلْحِدُ : هُوَ مَنْ يَطْعَنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الْإِسْلَامِ أَوْ التَّأْوِيلِ فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ ; لِإِجْرَاءِ الْأَهْوَاءِ .(1/51)
وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ مَنْ مَالَ عَنْ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ . ج - الْمُنَافِقُ : 4 - الْمُنَافِقُ : هُوَ مَنْ يُضْمِرُ الْكُفْرَ اعْتِقَادًا , وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ قَوْلًا . أَوْ الَّذِي أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَهْلِهِ , وَأَضْمَرَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ . وَمَحَلُّ النِّفَاقِ الْقَلْبُ . د - الْمُرْتَدُّ : 5 - الْمُرْتَدُّ : هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ , أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ , فَالِارْتِدَادُ كُفْرٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ يَشْتَرِكُونَ مَعَ الدَّهْرِيِّ فِي الْكُفْرِ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) : 6 - الدَّهْرِيُّ إذَا كَانَ كَافِرَ الْأَصْلِ , أَيْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ اعْتَنَقَ الْإِسْلَامَ , فَإِمَّا أَنْ يَعِيشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَهُوَ حَرْبِيٌّ يُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلُ الْحَرْبِ ) . أَوْ يَعِيشُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ مُؤَقَّتٍ فَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ , حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( أَمَانٌ وَمُسْتَأْمَنٌ ) . أَوْ يَعِيشُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ , أَيْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَهُوَ ذِمِّيٌّ , وَحُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) . أَمَّا إذَا كَانَ مُسْلِمًا , ثُمَّ كَفَرَ بِقَوْلِهِ بِقِدَمِ الدَّهْرِ وَإِنْكَارِ إسْنَادِ الْحَوَادِثِ إلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ مُرْتَدٌّ . وَحُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( رِدَّةٌ ) .(1/52)
سُقُوطُ دَيْنِ اللَّهِ 11 - الْأَصْلُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ وَلَا تَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ إلَّا بِالْقَضَاءِ , لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْقَضَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ : 1 - ( الْحَرَجُ ) : 12 - أ - فَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِلْحَرَجِ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ , وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ . ب - الْمُغْمَى عَلَيْهِ , إنْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْحَرَجِ , وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ . وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ حَالَ إغْمَائِهِ . وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إغْمَاءٌ ) .(1/53)
ج - يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ : الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِيمَاءِ فِي الصَّلَاةِ إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرِئَ , فَإِنْ كَانَ مَا فَاتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ قَضَاهُ , وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ , وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَبِمِثْلِ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ . 2 - ( الْعَجْزُ عَنْ الْقَضَاءِ ) : 13 - أ - مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ ثُمَّ مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ , وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ إمْكَانِ فِعْلِهِ فَسَقَطَ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْحَجِّ . ب - مَنْ عَجَزَ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الَّتِي وَجَبَتْ بِجِمَاعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ , عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ , سَقَطَتْ عَنْهُ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ أَنْ يُطْعِمَ أَهْلَهُ } , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى وَلَا بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ .(1/54)
3 - هَلَاكُ مَالِ الزَّكَاةِ : 14 - هَلَاكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِحَوَلَانِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلَاكُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَمْ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ , وَتَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يَضْمَنُ . وَيَقُولُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَعَزَلَهَا وَأَخْرَجَهَا فَتَلِفَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ إلَّا إنْ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ بِلَا تَقْصِيرٍ , أَمَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ فَتَلَفُ الْمَالِ يُوجِبُ الضَّمَانَ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : الزَّكَاةُ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ , هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ , وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ , وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ لَمْ تَسْقُطْ , وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ , ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْأَدَاءِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَالِ وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( زَكَاةٌ ) .(1/55)
4 - ( الرِّدَّةُ ) 15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , سَوَاءٌ أَكَانَ بَدَنِيًّا أَمْ مَالِيًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَا كَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُ بِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُسْقِطُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَالِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا . وَقَدْ فَصَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْقَوْلَ بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ فِي الزَّكَاةِ : مَنْ ارْتَدَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ , نَصَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ , وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا , أَمَّا إنْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَسْقُطُ أَيْضًا لَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ , فَإِذَا عَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا , وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( رِدَّةٌ , زَكَاةٌ ) .(1/56)
5 - ( الْمَوْتُ ) : 16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى كَدُيُونِ الْآدَمِيِّ . وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَجُّ فَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ . أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَهُمَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا مَا قَالَهُ الْبُوَيْطِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْإِطْعَامِ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ , وَمِثْلُ ذَلِكَ قِيلَ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ . وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُفْدَى عَنْهُ , وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُصَامُ عَنْهُ , قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَالْقَدِيمُ أَظْهَرُ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَذْرُ الْعِبَادَةِ يُفْعَلُ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ , أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةُ فَيُطْعِمُ عَنْهُ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِعَدَمِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالَتْ امْرَأَةٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَصَوْمِي عَنْ أُمِّك } .(1/57)
وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكَنَّتْ قَاضِيَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } , كَمَا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِصِيَامِ الْوَلِيِّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يُوصِ بِهِ , فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا , وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ مِنْ التَّرِكَةِ ; لِأَنَّ دَيْنَ اللَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلِهِ فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ . لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْعُشْرِ إذَا كَانَ قَائِمًا , فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الْعُشْرُ , فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ , وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ , أَمَّا لَوْ كَانَ الْخَارِجُ مُسْتَهْلَكًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ . وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ يُسْقِطُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا فِي أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ : أ - ( إذَا أَوْصَى بِهَا ) .(1/58)
ب - إذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا . ج - إذَا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( حَجٌّ , وَصَوْمٌ ) .
شُرُوطُ الرَّجْعَةِ : وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ مَا يَلِي : 5 - الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ سَوَاءٌ صَدَرَ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْقَاضِي ; لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قُطِعَتْ بِالطَّلَاقِ , فَلَوْلَا وُقُوعُهُ لَمَا كَانَ لِلرَّجْعَةِ فَائِدَةٌ , فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا , إذْ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَيْنُونَةً كُبْرَى وَلَا يَحِلُّ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ آخَرَ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ . 6 - الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَحْصُلَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ , فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } .(1/59)
إلَّا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ الرَّجْعَةِ ; لِأَنَّ الْخَلْوَةَ تُرَتِّبُ أَحْكَامًا مِثْلَ أَحْكَامِ الدُّخُولِ , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الدُّخُولِ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ , وَلَا تَكْفِي الْخَلْوَةُ . 7 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْعِدَّةِ , فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا يَصِحُّ ارْتِجَاعُهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , لقوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أَيْ فِي الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ ; وَلِأَنَّ فِي ارْتِجَاعِ الْمُطَلَّقَةِ فِي فَتْرَةِ الْعِدَّةِ اسْتِدَامَةً وَاسْتِمْرَارًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ , فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الِاسْتِدَامَةُ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ : مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ قِيَامُ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ , وَالْمِلْكُ يَزُولُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , فَلَا تُتَصَوَّرُ الِاسْتِدَامَةُ , إذْ الِاسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الزَّوَالِ وَأَمَّا مَا تَنْتَهِي بِهِ الْعِدَّةُ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( عِدَّةٌ ) . 8 - ( الشَّرْطُ الرَّابِعُ ) : أَلَّا تَكُونَ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ نَاشِئَةً عَنْ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( فَسْخٌ ) .(1/60)
9 - ( الشَّرْطُ الْخَامِسُ ) : أَلَّا يَكُونَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ , فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ حِينَئِذٍ بَائِنٌ لِافْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِمَا قَدَّمَتْهُ لَهُ مِنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ يُنْهِي هَذِهِ الْعَلَاقَةَ مِثْلَ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ . 10 - ( الشَّرْطُ السَّادِسُ ) : أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ مُنَجَّزَةً فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ أَوْ إضَافَتُهَا إلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ , وَصُورَةُ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ أَنْ يَقُولَ : إنْ جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ رَاجَعْتُك , أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَقَدْ رَاجَعْتُك , وَصُورَةُ الْإِضَافَةِ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنْ يَقُولَ : أَنْتِ رَاجِعَةٌ غَدًا أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ وَهَكَذَا , وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَعْلِيقٌ ف 46 ) الْمَوْسُوعَةِ ج 12 ص 31 . اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ إعَادَةٌ لَهُ , وَالنِّكَاحُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ , وَالرَّجْعَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ النِّكَاحِ . 11 - ( الشَّرْطُ السَّابِعُ ) : أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَجِعُ أَهْلًا لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ .(1/61)
وَهَذَا الشَّرْطُ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إنْشَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ارْتِجَاعِ مُطَلَّقَتِهِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الرَّجْعَةِ , وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ رَجْعَةَ نَاقِصِي الْأَهْلِيَّةِ , وَهُمْ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ , وَالسَّفِيهُ , وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ , وَالْمُفْلِسُ , وَقَدْ بَنَوْا إجَازَةَ الرَّجْعَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَسَاسِ عَدَمِ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ , وَعَلَى حَسَبِ حَالَةِ كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى حِدَةٍ , فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ إلَّا أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ , فَكَمَا صَحَّ عَقْدُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ , وَأَمَّا السَّفِيهُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ فِي حُدُودِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَصَحَّتْ رَجْعَتُهُ لِاسْتِمْرَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةٍ ; وَكَذَا لِعَدَمِ وُجُودِ الْإِسْرَافِ مِنْهُ , وَأَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَ فِيهَا إدْخَالُ غَيْرِ وَارِثٍ مَعَ الْوَرَثَةِ , وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَصَحَّتْ الرَّجْعَةُ مِنْهُ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَطَلَّبُ مَهْرًا جَدِيدًا فَلَا تَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِالْتِزَامَاتٍ مَالِيَّةٍ وَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنِ الدَّائِنِينَ , كَمَا أَجَازُوا الرَّجْعَةَ مِنْ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ نِكَاحِهِ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِمْرَارٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ إنْشَاءً جَدِيدًا لَهُ .(1/62)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُرْتَجِعِ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا مُخْتَارًا غَيْرَ مُرْتَدٍّ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ كَإِنْشَاءِ النِّكَاحِ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ فِي الرِّدَّةِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَلَا مِنْ مُكْرَهٍ , كَمَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ فِيهَا . فَالرَّجْعَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ بَالِغٍ , عَاقِلٍ مُخْتَارٍ . وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ السَّفِيهَ فَكَمَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ . . . وَالسَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَهْلٌ لِإِبْرَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَلَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , كَمَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجْعَةُ السَّكْرَانِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ , لِأَنَّ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا لَاغِيَةٌ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ مِنْ الْمُحْرِمِ ; لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْمُحْرِمِ لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ . هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَا الْمَرْأَةِ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } . يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
رِدَّةٌ التَّعْرِيفُ :(1/63)
1 - الرِّدَّةُ لُغَةً : الرُّجُوعُ عَنْ الشَّيْءِ , وَمِنْهُ الرِّدَّةُ عَنْ الْإِسْلَامِ . يُقَالُ : ارْتَدَّ عَنْهُ ارْتِدَادًا أَيْ تَحَوَّلَ . وَالِاسْمُ الرِّدَّةُ , وَالرِّدَّةُ عَنْ الْإِسْلَامِ : الرُّجُوعُ عَنْهُ . وَارْتَدَّ فُلَانٌ عَنْ دِينِهِ إذَا كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : ( الرِّدَّةُ : كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ ) . شَرَائِطُ الرِّدَّةِ : 2 - لَا تَقَعُ الرِّدَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِ إلَّا إذَا تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالِاخْتِيَارِ .
رِدَّةُ الصَّبِيِّ : 3
- رِدَّةُ الصَّبِيِّ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ , وَقَوْلٌ لِأَحْمَدَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمُحَمَّدٌ : يُحْكَمُ بِرِدَّةِ الصَّبِيِّ اسْتِحْسَانًا , وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ .
الْمُرْتَدُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ :
4 - ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ قَبْلَ بُلُوغِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ الصَّبِيَّ إذَا ارْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى بَعْدَ بُلُوغِهِ , قَالَ فِي الْأُمِّ : ( فَمَنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا , ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ , ثُمَّ لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الْبُلُوغِ , فَلَا يُقْتَلُ ; لِأَنَّ إيمَانَهُ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ بَالِغٌ , وَيُؤْمَرُ بِالْإِيمَانِ , وَيُجْهَدُ عَلَيْهِ بِلَا قَتْلٍ ) .
رِدَّةُ الْمَجْنُونِ :(1/64)
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِإِسْلَامِ مَجْنُونٍ وَلَا لِرِدَّتِهِ . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ تَبْقَى سَائِرَةً عَلَيْهِ . لَكِنْ إنْ كَانَ يُجَنُّ سَاعَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى , فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ فِي إفَاقَتِهِ وَقَعَتْ , وَإِنْ كَانَتْ فِي جُنُونِهِ لَا تَقَعُ , كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ .
رِدَّةُ السَّكْرَانِ :
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ : إلَى أَنَّ رِدَّةَ السَّكْرَانِ لَا تُعْتَبَرُ , وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْنَى عَلَى الِاعْتِقَادِ , وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إلَى وُقُوعِ رِدَّةِ السَّكْرَانِ , وَحُجَّتُهُمْ : أَنَّ الصَّحَابَةَ أَقَامُوا حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى السَّكْرَانِ , وَأَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ , فَتَقَعُ رِدَّتُهُ , وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ , وَأَنَّ عَقْلَهُ لَا يَزُولُ كُلِّيًّا , فَهُوَ أَشْبَهُ بِالنَّاعِسِ مِنْهُ بِالنَّائِمِ أَوْ الْمَجْنُونِ .
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ :(1/65)
7 - الْإِكْرَاهُ : اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ , فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ , أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ , مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ أَهْلِيَّتُهُ , أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ . وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا , كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ أَوْ الضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ , قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ . وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا . وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ , وَهُوَ الْحَبْسُ أَوْ الْقَيْدُ أَوْ الضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ , وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا . 8 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ } . وَمَا نُقِلَ مِنْ { أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رضي الله عنهما - حَمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا يَكْرَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ : إنْ عَادُوا فَعُدْ } , وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ .(1/66)
9 - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا , مِثْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ , فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ - وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ - فَلَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلَا إجْبَارُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِعَدَمِ صِحَّةِ إسْلَامِهِ ابْتِدَاءً . أَمَّا إنْ كَانَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا بِرُجُوعِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ , وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ .
مَا تَقَعُ بِهِ الرِّدَّةُ : 10(1/67)
- تَنْقَسِمُ الْأُمُورُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الرِّدَّةُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أ - رِدَّةٌ فِي الِاعْتِقَادِ . ب - رِدَّةٌ فِي الْأَقْوَالِ . ج - رِدَّةٌ فِي الْأَفْعَالِ . د - رِدَّةٌ فِي التَّرْكِ . إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ تَتَدَاخَلُ , فَمَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلٍ , أَوْ فِعْلٍ , أَوْ تَرْكٍ . مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الِاعْتِقَادِ : 11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ , أَوْ جَحَدَهُ , أَوْ نَفَى صِفَةً ثَابِتَةً مِنْ صِفَاتِهِ , أَوْ أَثْبَتَ لِلَّهِ الْوَلَدَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ , أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ . وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } . وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : ( لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ , بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ , فَيَكْفُرُ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ ) . 12 - وَيَكْفُرُ مَنْ جَحَدَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ , وَلَوْ كَلِمَةً . وَقَالَ الْبَعْضُ : بَلْ يَحْصُلُ الْكُفْرُ بِجَحْدِ حَرْفٍ وَاحِدٍ . كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِاعْتِقَادِ تَنَاقُضِهِ وَاخْتِلَافِهِ , أَوْ الشَّكِّ بِإِعْجَازِهِ , وَالْقُدْرَةِ عَلَى مِثْلِهِ , أَوْ إسْقَاطِ حُرْمَتِهِ , أَوْ الزِّيَادَةِ فِيهِ . أَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ , فَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ , وَلَا رَادُّهُ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ . وَقَدْ نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ دِمَاءِ الْمَعْصُومِينَ وَأَمْوَالِهِمْ , إنْ جَرَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ - كَمَا فَعَلَ الْخَوَارِجُ - لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ .(1/68)
وَلَعَلَّ السَّبَبَ أَنَّ الِاسْتِحْلَالَ جَرَى بِاجْتِهَادٍ خَاطِئٍ , فَلَا يَكْفُرُ صَاحِبُهُ . 13 - وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا مَنْ اعْتَقَدَ كَذِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ , وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ , كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ , أَوْ أَنْكَرَ أَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
( حُكْمُ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى ) :
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَرَ , سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا أَوْ مُسْتَهْزِئًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلَتْهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى قَبُولِهَا , وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الرِّدَّةِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ بِغَيْرِهِ .
حُكْمُ سَبِّ الرَّسُولِ :(1/69)
15 - السَّبُّ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِانْتِقَادُ وَالِاسْتِخْفَافُ , وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبُّ فِي عُقُولِ النَّاسِ , عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ , كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ . وَحُكْمُ سَابِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مُرْتَدٌّ بِلَا خِلَافٍ . وَيُعْتَبَرُ سَابًّا لَهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَنْ أَلْحَقَ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَيْبًا أَوْ نَقْصًا , فِي نَفْسِهِ , أَوْ نَسَبِهِ , أَوْ دِينِهِ , أَوْ خُصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ , أَوْ ازْدَرَاهُ , أَوْ عَرَّضَ بِهِ , أَوْ لَعَنَهُ , أَوْ شَتَمَهُ , أَوْ عَابَهُ , أَوْ قَذَفَهُ , أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ .
هَلْ يُقْتَلُ السَّابُّ رِدَّةً أَمْ حَدًّا ؟
16 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , كَأَيِّ مُرْتَدٍّ ; لِأَنَّهُ بَدَّلَ دِينَهُ فَيُسْتَتَابُ , وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ - فِيمَا يَنْقُلُهُ السُّبْكِيّ - فَيَرَوْنَ أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِدَّةٌ وَزِيَادَةٌ , وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ السَّابَّ كَفَرَ أَوَّلًا , فَهُوَ مُرْتَدٌّ , وَأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ قَتْلَهُ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُسْتَتَابُ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُسْلِمَ .
حُكْمُ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام :(1/70)
17 - مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هُمْ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ , فَمَنْ سَبَّهُمْ فَكَأَنَّمَا سَبَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم وَسَابُّهُ كَافِرٌ , فَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ , وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ . وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ , فَمَنْ سَبَّهُ زُجِرَ , وَأُدِّبَ وَنُكِلَ بِهِ , لَكِنْ لَا يُقْتَلُ , صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ .
حُكْمُ سَبِّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :(1/71)
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رضي الله عنها , فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِحَقِّهَا , وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . فَمَنْ عَادَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ . وَهَلْ تُعْتَبَرُ مِثْلُهَا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّهُنَّ مِثْلُهَا فِي ذَلِكَ . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . وَالطَّعْنُ بِهِنَّ يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّعْنُ بِالرَّسُولِ وَالْعَارُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ : إنَّهُنَّ - سِوَى عَائِشَةَ - كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ , وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ , لِأَنَّهُ قَاذِفٌ . أَمَّا سَابُّ الْخُلَفَاءِ فَهُوَ لَا يَكْفُرُ , وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ .
حُكْمُ مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ :(1/72)
19 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ , فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَمَا قَالَ , وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ } وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِفِسْقِ الْقَائِلِ . قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ : وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ , بِأَنْ قَالَ : يَا كَافِرُ , أَوْ يَا فَاسِقُ , أَوْ يَا فَاجِرُ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ مَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ كُفْرَهُ , مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم } . فَهَذَا كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ تَشْدِيدٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا وَلَوْ لِذَنْبِهِ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا , وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ } . أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا إنْ كَفَّرَهُ بِلَا تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلَّا فَلَا يَكْفُرُ , وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْأَصْلُ عَنْ الْمُتَوَلِّي , وَأَقَرَّهُ , وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ فَلَا يَكْفُرُ غَيْرُهُ , وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي أَذْكَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا .
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الْأَفْعَالِ :(1/73)
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إلْقَاءَ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ فِي مَحَلٍّ قَذِرٍ يُوجِبُ الرِّدَّةَ ; لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى , فَهُوَ أَمَارَةُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : وَكَذَا إلْقَاءُ بَعْضِهِ . وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ , أَوْ لِلشَّمْسِ , أَوْ لِلْقَمَرِ فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِالْإِسْلَامِ , فَقَدْ كَفَرَ . قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلَتْهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } .
الرِّدَّةُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ :(1/74)
21 - لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاحِدًا لَهَا يَكُونُ مُرْتَدًّا , وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ ; لِأَنَّهَا مِنْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ . وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا فَفِي حُكْمِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : يُقْتَلُ رِدَّةً , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَأَبِي عَمْرٍو , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ , وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ , وَحَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا يَكُونُ فَاسِقًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ :(1/75)
22 - جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ عَلَى غَيْرِهِ لَا تَخْلُو : إمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً , وَكُلٌّ مِنْهَا , إمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ , أَوْ مُسْتَأْمَنٍ , أَوْ مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ . وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّفْسِ بِالْقَتْلِ , أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا , كَالْقَطْعِ وَالْجُرْحِ , أَوْ عَلَى الْعِرْضِ كَالزِّنَى وَالْقَذْفِ , أَوْ عَلَى الْمَالِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ . وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ قَدْ تَقَعُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , ثُمَّ يَهْرُبُ الْمُرْتَدُّ إلَى بِلَادِ الْحَرْبِ , أَوْ لَا يَهْرُبُ , أَوْ تَقَعُ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ , ثُمَّ يَنْتَقِلُ الْمُرْتَدُّ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ هَذِهِ كُلُّهَا فِي إسْلَامِهِ , أَوْ رِدَّتِهِ , وَقَدْ يَسْتَمِرُّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يَعُودُ مُسْلِمًا , وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ مُنْفَرِدًا , أَوْ فِي جَمَاعَةٍ , أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ . وَمِثْلُ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ . جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى النَّفْسِ : 23 - إذَا قَتَلَ مُرْتَدٌّ مُسْلِمًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ , اتِّفَاقًا . أَمَّا إذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا فَيُقْتَلُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الذِّمِّيِّ , إذْ الْمُرْتَدُّ مُهْدَرُ الدَّمِ وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ , وَلَا مُنَاكَحَتُهُ , وَلَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ . وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ .(1/76)
وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا خَطَأً وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ , وَلَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَالدِّيَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا عِصْمَةُ الدَّمِ لَا الْإِسْلَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ دَمُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مِمَّنْ جَنَى فَكَمَا يَأْخُذُ مَالَهُ يَغْرَمُ عَنْهُ . وَهَذَا إنْ لَمْ يَتُبْ . فَإِنْ تَابَ فَقِيلَ : فِي مَالِهِ , وَقِيلَ : عَلَى عَاقِلَتِهِ , وَقِيلَ : عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَقِيلَ : عَلَى مَنْ ارْتَدَّ إلَيْهِمْ .
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ : 24(1/77)
- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لَا فَرْقَ فِي جِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا , وَلَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْإِسْلَامِ الْحُكْمِيِّ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ . وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ ; لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَلَنَا : أَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ كَالْأَصْلِيِّ . وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : الْأَظْهَرُ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ بِالذِّمِّيِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ . بَلْ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فَأَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ .
زِنَى الْمُرْتَدِّ :
25 - إذَا زَنَى مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَدَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ . وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَفِي زَوَالِ الْإِحْصَانِ بِرِدَّتِهِ خِلَافٌ . أَسَاسُهُ الْخِلَافُ فِي شُرُوطِ الْإِحْصَانِ , هَلْ مِنْ بَيْنِهَا الْإِسْلَامُ أَمْ لَا ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : مَنْ ارْتَدَّ بَطَلَ إحْصَانُهُ , إلَّا أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ : إنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِحْصَانِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ .(1/78)
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ :
26 - إذَا قَذَفَ الْمُرْتَدُّ غَيْرَهُ , وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ , إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , حَيْثُ لَا سُلْطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ . وَالْقَضِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرَائِطِ الْقَذْفِ , وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا إسْلَامُ الْقَاذِفِ .
( إتْلَافُ الْمُرْتَدِّ الْمَالَ ) :
27 - إذَا اعْتَدَى مُرْتَدٌّ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ - فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ - فَهُوَ ضَامِنٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ جِنَايَةٌ , وَهِيَ لَا تَمْنَحُ صَاحِبَهَا حَقَّ الِاعْتِدَاءِ .
( السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ ) :
28 - إذَا سَرَقَ الْمُرْتَدُّ مَالًا , أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ , فَهُوَ كَغَيْرِهِ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْإِسْلَامُ . لِذَا فَالْمُسْلِمُ وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
مَسْئُولِيَّةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ جِنَايَاتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ :
29 - إذَا جَنَى مُسْلِمٌ عَلَى غَيْرِهِ , ثُمَّ ارْتَدَّ الْجَانِي يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُلِّ مَا فَعَلَ سَوَاءٌ اسْتَمَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ تَابَ عَنْهَا .
الِارْتِدَادُ الْجَمَاعِيُّ :(1/79)
30 - الْمَقْصُودُ بِالِارْتِدَادِ الْجَمَاعِيِّ : هُوَ أَنْ تُفَارِقَ الْإِسْلَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ , أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ . كَمَا حَدَثَ عَلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه . فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ , فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَصِيرِ دَارِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلِ لِلْجُمْهُورِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ) : إذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا , فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ ; لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا , أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ . فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ فَهُوَ دَارُ حَرْبٍ , وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ , فَهُوَ دَارُ إسْلَامٍ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه إنَّمَا تَصِيرُ دَارُ الْمُرْتَدِّينَ دَارَ حَرْبٍ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : أَوَّلًا : أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ الشِّرْكِ , لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ . ثَانِيًا : أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ , وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ . ثَالِثًا : أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا . ( فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , مُحْرَزَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ , إلَّا بِتَمَامِ الْقَهْرِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ ) .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ :(1/80)
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ فَقَدْ أُهْدِرَ دَمُهُ , لَكِنْ قَتْلُهُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ , وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ افْتَاتَ عَلَى حَقِّ الْإِمَامِ ; لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ لَهُ . وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ , فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ ) إلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الذِّمِّيِّ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ الذِّمِّيِّ .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ :
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ ; لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ . أَمَّا إذَا وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا , أَوْ وَقَعَتْ عَلَى مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا فَفِيهَا أَقْوَالٌ تُنْظَرُ فِي بَابِ " الْقِصَاصِ " مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ .
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ :
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ الْمُرْتَدِّ , لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( قَذْفٌ )
ثُبُوتُ الرِّدَّةِ :(1/81)
34 - تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ . وَتَثْبُتُ الرِّدَّةُ عَنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ , بِشَرْطَيْنِ : أ - شَرْطِ الْعَدَدِ : اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِشَاهِدَيْنِ فِي ثُبُوتِ الرِّدَّةِ , وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلَّا الْحَسَنُ , فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ . ب - تَفْصِيلِ الشَّهَادَةِ : يَجِبُ التَّفْصِيلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرِّدَّةِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الشُّهُودُ وَجْهَ كُفْرِهِ , نَظَرًا لِلْخِلَافِ فِي مُوجِبَاتِهَا , وَحِفَاظًا عَلَى الْأَرْوَاحِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إثْبَاتٌ , وَشَهَادَةٌ ) . وَإِذَا ثَبَتَتْ الرِّدَّةُ بِالْإِقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُرْتَدُّ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ اُعْتُبِرَ إنْكَارُهُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ الْقَتْلُ فِي حَقِّهِ . وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ : يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ , بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا .
اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ حُكْمُهَا :(1/82)
35 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ - فِي قَوْلٍ - وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ غَيْرُ وَاجِبَةٍ . بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا يُسْتَحَبُّ الْإِمْهَالُ , إنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ , فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . وَعِنْدَ مَالِكٍ تَجِبُ الِاسْتِتَابَةُ وَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ يَجِبُ الِاسْتِتَابَةُ وَتَكُونُ فِي الْحَالِ فَلَا يُمْهَلُ . وَثَبَتَتْ الِاسْتِتَابَةُ بِمَا وَرَدَ { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَلِأَثَرٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ اسْتَتَابَ الْمُرْتَدَّ ثَلَاثًا .
كَيْفِيَّةُ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ :(1/83)
36 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : تَوِيَةُ الْمُرْتَدِّ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ سِوَى الْإِسْلَامِ , أَوْ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ بَعْدَ نُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ أَوْ بِدُونِ التَّبَرِّي لَمْ يَنْفَعْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا قَالَ إذْ لَا يَرْتَفِعُ بِهِمَا كُفْرُهُ . قَالُوا : إنْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ لَا لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ , بَلْ لِأَنَّ إنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ , فَيَمْتَنِعُ الْقَتْلُ فَقَطْ وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَإِذَا نَطَقَ الْمُرْتَدُّ بِالشَّهَادَتَيْنِ : صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَمَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَحَيْثُ إنَّ الشَّهَادَةَ يَثْبُتُ بِهَا إسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ . فَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَدُّ الْإِسْلَامَ , وَرَفَضَ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ , لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إنْ مَاتَ , فَأَقَامَ وَارِثُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الرِّدَّةِ : حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ . وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَحْصُلُ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ بِصَلَاتِهِ .(1/84)
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا بُدَّ فِي إسْلَامِ الْمُرْتَدِّ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ لِإِنْكَارِ شَيْءٍ آخَرَ , كَمَنْ خَصَّصَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِ أَوْ جَحَدَ فَرْضًا أَوْ تَحْرِيمًا فَيَلْزَمُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ الْإِقْرَارُ بِمَا أَنْكَرَ . قَالَ الْحَنَابِلَةُ : وَلَوْ صَلَّى الْمُرْتَدُّ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ , أَوْ كِتَابٍ , أَوْ نَبِيٍّ , أَوْ مَلَكٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمُجَرَّدِ صَلَاتِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ . وَأَمَّا لَوْ زَكَّى أَوْ صَامَ فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ , لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَتَصَدَّقُونَ , وَالصَّوْمُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ , وَتَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ , وَتَوْبَةُ السَّاحِرِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ : ( تَوْبَةٌ ) .
تَوْبَةُ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم :(1/85)
37 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ , مَعَ ضَرُورَةِ تَأْدِيبِ السَّابِّ وَعَدَمِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلَاثًا . وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ خِلَافٌ , الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ قَبُولُ تَوْبَتِهِ , وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ . أَمَّا سَابُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ إلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : تُقْبَلُ تَوْبَةُ قَاذِفِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَصَحِّ , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ : يُقْتَلُ حَدًّا وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ , وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ : يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ بِإِسْلَامِهِ وَبَقِيَ جَلْدُهُ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ بِقُرْآنٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ; لِأَنَّ كُفْرَهُ يُشْبِهُ كُفْرَ الزِّنْدِيقِ , وَيُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا إنْ قُتِلَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ حِينَئِذٍ لِأَجْلِ ازْدِرَائِهِ لَا لِأَجْلِ كُفْرِهِ .
تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ :(1/86)
38 - مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ وَتَوْبَتُهُ قَالَ الْأَحْنَافُ وَالشَّافِعِيَّةُ : تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ , فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ لَا تُقْبَلُ . وَحُجَّتُهُمْ قوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ , دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ , وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ .
تَوْبَةُ السَّاحِرِ :
39 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ السَّاحِرِ , وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ( وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيْ : تَوْبَةٌ , وَسِحْرٌ ) .
قَتْلُ الْمُرْتَدِّ :(1/87)
40 - إذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ , وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشَرَائِطِ الرِّدَّةِ , أُهْدِرَ دَمُهُ , وَقَتْلُهُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ . فَلَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ فَقَاتِلُهُ مُسِيءٌ , وَلَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ غَيْرَ التَّعْزِيرُ , إلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِلْكُفَّارِ فَلَا يُقْتَلُ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتُلْ رُسُلَ مُسَيْلِمَةَ } . فَإِذَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ , فَلَا يُغَسَّلُ , وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَلَا يُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ . وَدَلِيلُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَحَدِيثُ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : النَّفْسِ بِالنَّفْسِ , وَالثَّيِّبِ الزَّانِي وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ } . أَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَالْمُرْتَدِّ , لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ , بَلْ تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ , { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ الْكَافِرَةِ الَّتِي لَا تُقَاتِلُ أَوْ تُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ } , فَتُقَاسُ الْمُرْتَدَّةُ عَلَيْهِمَا .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى مَالِ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ : دُيُونُ الْمُرْتَدِّ :(1/88)
41 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ اُبْتُدِئَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِتَسْدِيدِ دُيُونِهِ . لَكِنْ هَلْ يُسَدَّدُ مِنْ كَسْبِهِ فِي الْإِسْلَامِ ؟ أَمْ مِنْ كَسْبِهِ فِي الرِّدَّةِ ؟ أَمْ مِنْهُمَا مَعًا ؟ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مَصِيرِ أَمْوَالِ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ , وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ : اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ , فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنْ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ , فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ وَرَثَتِهِ , وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ , بَلْ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ , فَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا إذَا قُتِلَ , فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى , وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ , فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَدْيُونِ . . فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ , فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ , إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ .(1/89)
وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دُيُونَ إسْلَامِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ , وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ , وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ , فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ; لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ , وَبِهِ قَالَ زُفَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ , كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ , كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ . 42 - وَإِذَا أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنْ أَسْلَمَ جَازَ , أَمَّا إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ , فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ إلَّا عَلَى مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ . أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى أَنَّ إقْرَارَهُ كُلَّهُ جَائِزٌ إنْ قُتِلَ مُرْتَدًّا , أَوْ تَابَ , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ , فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ , يُبْتَدَأُ أَوَّلًا بِدَيْنِ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِأَصْحَابِ دُيُونِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أُهْدِرَ دَمُهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ .(1/90)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمُرْتَدِّ عَمَّا قَبْلَ الرِّدَّةِ وَخِلَالِهَا , مَا لَمْ يُوقَفْ تَصَرُّفُهُ , فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِأَحَدٍ , قَالَ : وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ , وَلَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٍ لِلرِّدَّةِ , وَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ فِي الرِّدَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَمَا دَانَ فِي الرِّدَّةِ , قَبْلَ وَقْفِ مَالِهِ لَزِمَهُ , وَمَا دَانَ بَعْدَ وَقْفِ مَالِهِ , فَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ رُدَّ الْبَيْعُ , وَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَفٍ وُقِفَ , فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَ , وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ .
أَمْوَالُ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتُهُ :(1/91)
43 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ , وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ , وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَالِهِ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ زَالَ مِلْكُهُ وَصَارَ فَيْئًا , وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَادَ إلَيْهِ مَالُهُ ; لِأَنَّ زَوَالَ الْعِصْمَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَالُ الْمِلْكِ ; وَلِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ , وَلَوْ تَصَرَّفَ تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ مَوْقُوفَةً فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ تَصَرُّفُهُ , وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا : إنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ كَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ , أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَكُونُ مُنَجَّزَةً وَلَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ وَقْفِ الْعُقُودِ , وَهَذَا فِي الْجَدِيدِ , وَفِي الْقَدِيمِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً أَيْضًا كَغَيْرِهَا .(1/92)
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ , وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , وَبِنَاءً عَلَى هَذَا تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ جَائِزَةً كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ , أَوْ دَبَّرَ , أَوْ كَاتَبَ , أَوْ بَاعَ , أَوْ اشْتَرَى , أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ , إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الصَّحِيحِ , أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَالَ : يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُشْرِفٌ عَلَى التَّلَفِ ; لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ . وَقَدْ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ اسْتِيلَادَ الْمُرْتَدِّ وَطَلَاقَهُ وَتَسْلِيمَهُ الشُّفْعَةَ صَحِيحٌ وَنَافِذٌ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَصَحَّحَهُ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِرِدَّتِهِ لِزَوَالِ الْعِصْمَةِ بِرِدَّتِهِ فَمَا لَهُ أَوْلَى , وَلِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِوَفْدِ بِزَاخَّةِ وَغَطَفَانَ : نَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ إلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا ; وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا دَمَهُ بِالرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا مَالَهُ . وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ .(1/93)
وَمَا سَبَقَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّ الذَّكَرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدَّةِ الْأُنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدَّةِ الْأُنْثَى عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا ; لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ :(1/94)
44 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حِيلَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَقْرَبُهَا بِخَلْوَةٍ وَلَا جِمَاعٍ وَلَا نَحْوِهِمَا . ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً , دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي النِّكَاحَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا عَاجِلًا لَا طَلَاقًا وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ . ثُمَّ إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الزَّوْجَ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى أَوْ الْمُتْعَةُ , وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلَا شَيْءَ لَهَا . وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَدُّ الزَّوْجَ أَوْ الزَّوْجَةَ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ كَانَ ذَلِكَ طَلْقَةً بَائِنَةً , فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ تَرْجِعْ لَهُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ , مَا لَمْ تَقْصِدْ الْمَرْأَةُ بِرِدَّتِهَا فَسْخَ النِّكَاحِ , فَلَا يَنْفَسِخُ ; مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا . وَقِيلَ : إنَّ الرِّدَّةَ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الزَّوْجَةِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِذَا انْقَضَتْ بَانَتْ مِنْهُ , وَبَيْنُونَتُهَا مِنْهُ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ , وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ .(1/95)
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فَوْرًا وَتَنَصَّفَ مَهْرُهَا إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدَّ , وَسَقَطَ مَهْرُهَا إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ . وَلَوْ كَانَتْ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِي رِوَايَةٍ تُنَجَّزُ الْفُرْقَةُ . وَفِي أُخْرَى تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
حُكْمُ زَوَاجِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الرِّدَّةِ :
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ تَزَوَّجَ فَلَا يَصِحُّ زَوَاجُهُ ; لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً , وَلَا كَافِرَةً , وَلَا مُرْتَدَّةً .
مَصِيرُ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّ :(1/96)
46 - مَنْ حُمِلَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ , وَكَذَا مَنْ حُمِلَ بِهِ فِي حَالِ رِدَّةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَالْآخَرُ مُسْلِمٌ , قَالَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ; لِأَنَّ بِدَايَةَ الْحَمْلِ كَانَ لِمُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَإِنْ وُلِدَ خِلَالَ الرِّدَّةِ . لَكِنْ مَنْ كَانَ حَمْلُهُ خِلَالَ رِدَّةِ أَبَوَيْهِ كِلَيْهِمَا , فَفِيهِ خِلَافٌ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , إلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ فَيُسْتَتَابُ إذَا بَلَغَ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ كَانَ فِي أُصُولِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ , وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مَا لَوْ أَدْرَكَ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ .
إرْثُ الْمُرْتَدِّ :(1/97)
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ إذَا قُتِلَ , أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أ - أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ , وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . ب - أَنَّهُ يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ أَوْ رِدَّتِهِ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . ج - أَنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ لِانْقِطَاعِ الصِّلَةِ بِالرِّدَّةِ . كَمَا لَا يَرِثُ كَافِرًا ; لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ . وَلَا يَرِثُ مُرْتَدٌّ مِثْلَهُ . وَوَصِيَّةُ الْمُرْتَدِّ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرَبِ وَهِيَ تَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ .
أَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إحْبَاطِ الْعَمَلِ :(1/98)
48 - قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قَالَ الْأَلُوسِيُّ تَبَعًا لِلرَّازِيِّ : إنَّ مَعْنَى الْحُبُوطِ هُوَ الْفَسَادُ . وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ : إنَّهُ أَتَى بِعَمَلٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ , بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ , أَوْ أَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَهُ السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا شَرْعًا . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : بِأَنَّ الْحُبُوطَ يَكُونُ بِإِبْطَالِ الثَّوَابِ , دُونَ الْفِعْلِ . وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرِّدَّةِ يُوجِبُ الْحَبْطَ , مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ . . . } أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا : بِأَنَّ الْوَفَاةَ عَلَى الرِّدَّةِ شَرْطٌ فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ , أَخْذًا مِنْ قوله تعالى : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُحْبَطُ ثَوَابُ الْعَمَلِ فَقَطْ , وَلَا يُطَالَبُ الْإِعَادَةُ إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَاتَ عَلَيْهِ .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْحَجِّ :
49 - يَجِبُ عَلَى مَنْ ارْتَدَّ وَتَابَ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ , بَلْ يُجْزِئُ الْحَجُّ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ .(1/99)
تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ :
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَرَكَهَا أَثْنَاءَ رِدَّتِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا , وَإِيمَانُهُ يَجُبُّهَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ . وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَضَاءُ وَعَدَمُهُ . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ . فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُرْتَدِّ الَّذِي تَابَ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ , قَبْلَ رِدَّتِهِ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ ; لِأَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ مَعْصِيَةٌ , وَالْمَعْصِيَةُ تَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ . وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ , وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ , وَهُوَ بِتَوْبَتِهِ أَسْقَطَ مَا قَبْلَ الرِّدَّةِ .
51 - تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ :
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ بِالرِّدَّةِ , وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا الشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ بَيْنِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ .
ذَبَائِحُ الْمُرْتَدِّ :
52 - ذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ لَا يَجُوزُ أَكْلُهَا ; لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ , وَلَا يُقَرُّ عَلَى دِينٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ , حَتَّى وَلَوْ كَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ . إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ , وَإِسْحَاقَ , مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ .
***************(1/100)
سَبُّ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ : 19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ دِينَ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ كَافِرًا , أَمَّا مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ : يَنْبَغِي أَنْ يَكْفُرَ مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ , وَلَكِنْ يُمْكِنُ التَّأْوِيلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْلَاقُهُ الرَّدِيئَةُ وَمُعَامَلَتُهُ الْقَبِيحَةُ لَا حَقِيقَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفُرَ حِينَئِذٍ . قَالَ الْعَلَّامَةُ عُلَيْشٌ : يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ بَعْضِ شِغْلَةِ الْعَوَّام كَالْحَمَّارَةِ وَالْجَمَّالَةِ وَالْخَدَّامِينَ سَبُّ الْمِلَّةِ أَوْ الدِّينِ , وَرُبَّمَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِهِمْ , وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ , وَالْأَحْكَامَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا , ثُمَّ إنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ . فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنْ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ سَبِّ اللَّهِ أَوْ النَّبِيِّ , ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . نُقِلَ عَنْ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ الْيَهُودِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَعِيبُ الْإِسْلَامَ , وَتُؤْذِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتُحَرِّضُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهَا عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ الْخِطْمِيُّ . قَالُوا : فَاجْتَمَعَ فِيهَا مُوجِبَاتُ الْقَتْلِ إجْمَاعًا . وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا : يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُنْقَضُ عَهْدُهُ إنْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ طَعْنًا ظَاهِرًا .
((1/101)
حُكْمُ تَارِكِ الصَّلَاةِ ) : 5 - لِتَارِكِ الصَّلَاةِ حَالَتَانِ : إمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا جُحُودًا لِفَرْضِيَّتِهَا , أَوْ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا لَا جُحُودًا . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى : فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ جُحُودًا لِفَرْضِيَّتِهَا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كُفْرًا كَجَاحِدِ كُلِّ مَعْلُومٍ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ , وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ جَحَدَ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ . وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَهَا جَاهِلًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَيْسَ مُرْتَدًّا , بَلْ يَعْرِفُ الْوُجُوبَ , فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ مُرْتَدًّا .(1/102)
وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا - وَهِيَ : تَرْكُ الصَّلَاةِ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا لَا جُحُودًا - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا أَيْ أَنَّ حُكْمَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمُ الْمُسْلِمِ فَيُغَسَّلُ , وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَيُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ , فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ } فَلَوْ كَفَرَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ تَكَاسُلًا عَمْدًا فَاسِقٌ لَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ .(1/103)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ : إلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ تَكَاسُلًا يُدْعَى إلَى فِعْلِهَا وَيُقَالُ لَهُ : إنْ صَلَّيْت وَإِلَّا قَتَلْنَاك , فَإِنْ صَلَّى وَإِلَّا وَجَبَ قَتْلُهُ وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يُحْبَسَ ثَلَاثًا وَيُدْعَى فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ , فَإِنْ صَلَّى وَإِلَّا قُتِلَ حَدًّا , وَقِيلَ كُفْرًا , أَيْ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ . لَكِنْ لَا يُرَقُّ وَلَا يُسْبَى لَهُ أَهْلٌ وَلَا وَلَدٌ كَسَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ . لِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَرَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } وَرَوَى عُبَادَةُ مَرْفُوعًا { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْمِلَّةِ } وَكُلُّ شَيْءٍ ذَهَبَ آخِرُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ . وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ بِفِعْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ , فَيَخْرُجُ بِتَرْكِهَا مِنْهُ كَالشَّهَادَتَيْنِ . وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : " لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ , وَكَذَا عِنْدَهُمْ لَوْ تَرَكَ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ , وَلَا يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ فَائِتَةٍ . كَمَا اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْقَتْلِ فِي مَحَلِّهِ . فَمَحَلُّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ بَقَاءُ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ إنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَاحِدٌ فَقَطْ .(1/104)
قَالَ مَالِكٌ : إنْ قَالَ : أُصَلِّي وَلَمْ يَفْعَلْ قُتِلَ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصُّبْحِ , وَغُرُوبِهَا لِلْعَصْرِ , وَطُلُوعِ الْفَجْرِ لِلْعِشَاءِ , فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضَانِ مُشْتَرَكَانِ أُخِّرَ لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الظُّهْرَيْنِ , وَلِأَرْبَعٍ فِي الْعِشَاءَيْنِ . وَهَذَا فِي الْحَضَرِ , أَمَّا فِي السَّفَرِ فَيُؤَخَّرُ لِثَلَاثٍ فِي الظُّهْرَيْنِ وَأَرْبَعٍ فِي الْعِشَاءَيْنِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ مَحَلَّ الْقَتْلِ هُوَ إخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا الضَّرُورِيِّ فِيمَا لَهُ وَقْتُ ضَرُورَةٍ - بِأَنْ يَجْمَعَ مَعَ الثَّانِيَةِ فِي وَقْتِهَا - فَلَا يُقْتَلُ بِتَرْكِ الظُّهْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ , وَلَا بِتَرْكِ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ , وَيُقْتَلُ فِي الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ , وَفِي الْعَصْرِ بِغُرُوبِهَا , وَفِي الْعِشَاءِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ , فَيُطَالَبُ بِأَدَائِهَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَيُتَوَعَّدُ بِالْقَتْلِ إنْ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ , فَإِنْ أَخَّرَ وَخَرَجَ الْوَقْتُ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ , وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمُرْتَدِّ . وَالِاسْتِتَابَةُ تَكُونُ فِي الْحَالِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا يُفَوِّتُ صَلَوَاتٍ , وَقِيلَ : يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . وَالْقَوْلَانِ فِي النَّدْبِ , وَقِيلَ فِي الْوُجُوبِ .(1/105)
الْهَرَبُ مِنْ الصَّائِلِ : 8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْهَرَبِ مِنْ الصَّائِلِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إلَى أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَهْرُبَ أَوْ يَلْتَجِئَ إلَى حِصْنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ حَاكِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِتَالُ , لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْأَشَدِّ مَعَ إمْكَانِ الْأَسْهَلِ وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ إضْرَارِ غَيْرِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ . وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْهَرَبِ أَنْ يَكُونَ بِلَا مَشَقَّةٍ , فَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ فَلَا يَجِبُ . وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الصَّائِلُ مَعْصُومَ الدَّمِ , فَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ مُرْتَدٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ لَمْ يَجِبْ الْهَرَبُ وَنَحْوُهُ , بَلْ يَحْرُم عَلَيْهِ . فَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ - حَيْثُ وَجَبَ الْهَرَبُ - فَقَاتَلَ وَقَتَلَ الصَّائِلَ , لَزِمَهُ الْقِصَاصُ , فِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ الْأَوْجَهُ , وَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَهُمْ أَيْضًا . وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْهَرَبِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ إقَامَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزَةٌ , فَلَا يُكَلَّفُ الِانْصِرَافُ . وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ إنْ تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِالْهَرَبِ وَجَبَ عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ .
((1/106)
تَطْهِيرُ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ ) : 18 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلًا - كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ - فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ , وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ , لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَنْجَاسِ , وَالْمَسْحُ لَيْسَ غَسْلًا . قَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : لَوْ قُطِعَ بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ مَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ , لِمُلَاقَاةِ الْبَلَلِ لِلنَّجَاسَةِ , فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لَا بَلَلَ فِيهِ كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ , كَمَا لَوْ قُطِعَ بِهِ يَابِسًا لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إلَيْهِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : لَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ مَاءً نَجِسًا , ثُمَّ غَسَلَهَا طَهُرَ ظَاهِرُهَا , وَهَلْ يَطْهُرُ بَاطِنُهَا بِمُجَرَّدِ الْغَسْلِ أَمْ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَسْقِيَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَاءٍ طَهُورٍ ؟ وَجْهَانِ : قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يَجِبُ سَقْيُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغَسْلِ , وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ , كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا , إنْ أَصَابَهُ نَجِسٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالْمَسْحِ بِحَيْثُ يَزُولُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ , لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَحْمِلُونَهَا , وَلِأَنَّهُ لَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ , وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُولُ بِالْمَسْحِ .(1/107)
قَالَ الْكَمَالُ : وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى ظُفْرِهِ نَجَاسَةٌ فَمَسَحَهَا طَهُرَتْ . فَإِنْ كَانَ بِالصَّقِيلِ صَدَأٌ يَتَشَرَّبُ مَعَهُ النَّجَاسَةَ , أَوْ كَانَ ذَا مَسَامَّ تَتَشَرَّبُهَا , فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْمَاءِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ مَا كَانَ صُلْبًا صَقِيلًا , وَكَانَ يُخْشَى فَسَادُهُ بِالْغَسْلِ كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ , فَإِنَّهُ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ مِنْ الدَّمِ الْمُبَاحِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا , خَوْفًا مِنْ إفْسَادِ الْغَسْلِ لَهُ . قَالَ الدَّرْدِيرُ : وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنْ الدَّمِ أَمْ لَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ , أَيْ خِلَافًا لِمَنْ عَلَّلَهُ بِانْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ بِالْمَسْحِ . قَالَ الدُّسُوقِيُّ : فَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ السَّيْفَ وَنَحْوَهُ مِنْ الدَّمِ الْمُبَاحِ إلَّا إذَا مُسِحَ , وَإِلَّا فَلَا , وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الظُّفْرَ وَالْجَسَدَ مِنْ الدَّمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ فَسَادِهِمَا بِالْغَسْلِ , وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهَا مِنْهُ إذَا مُسِحَ . وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُبَاحًا , أَمَّا الدَّمُ الْعُدْوَانُ فَيَجِبُ الْغَسْلُ مِنْهُ . قَالَ الدُّسُوقِيُّ : قَالَ الْعَدَوِيُّ : وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاحِ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ , فَيَدْخُلُ فِيهِ دَمٌ مَكْرُوهُ الْأَكْلِ إذَا ذَكَّاهُ بِالسَّيْفِ , وَالْمُرَادُ : الْمُبَاحُ أَصَالَةً , فَلَا يَضُرُّ حُرْمَتُهُ لِعَارِضٍ كَقَتْلِ مُرْتَدٍّ بِهِ , وَقَتْلِ زَانٍ أَحْصَنَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ . كَمَا قَيَّدُوا الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ مَصْقُولًا لَا خَرْبَشَةَ فِيهِ , وَإِلَّا فَلَا عَفْوَ .(1/108)
أَثَرُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ : 12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ ظُلْمًا مِنْ الْكَبَائِرِ , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ ظُلْمًا عُدْوَانًا مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ , وَخَرَجَ بِقَيْدِ الظُّلْمِ : الْقَتْلُ بِحَقٍّ أَوْ بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ . وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا مَحْقُونَ الدَّمِ لِيَتَحَقَّقَ الظُّلْمُ , لقوله تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا } أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْقَتْلَ , وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا شُرِعَ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ وَزَجْرًا عَنْ إتْلَافِ الْبُنْيَةِ الْمَطْلُوبِ بَقَاؤُهَا , فَلَا يَجِبُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ بِقَتْلِ حَرْبِيٍّ , وَلَا مُرْتَدٍّ قَبْلَ التَّوْبَةِ , وَلَا بِقَتْلِ زَانٍ مُحْصَنٍ , وَلَا مُحَارِبٍ قَاطِعِ طَرِيقٍ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ وَلَا تَارِكُ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَمْرِ الْإِمَامِ لَهُ بِهَا . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( قِصَاصٌ ) .(1/109)
ج - ( الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ ) : 13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْمُكَافَأَةَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا , فَلَا يُقْتَلُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى , وَلَكِنْ يُقْتَلُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى وَبِالْمُسَاوِي . وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ , وَقَالُوا : لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ , إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَهُمْ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ , لَا لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ . إلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ . فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ . أَوْ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ أَزْيَدَ مِنْ الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ , فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ أَزْيَدَ مِنْ الْقَتِيلِ فِيهِمَا فَلَا قِصَاصَ , فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ مِنْ الْآخَرِ فِي أَحَدِهِمَا , كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا , وَلَا حُرٌّ بِرَقِيقٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ زَائِدَ إسْلَامٍ , فَيُقْتَلُ حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ .(1/110)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يُقْتَلُ الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ , كَمَا لَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْكَافِرِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا , فَإِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ , وَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ . وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ , وَيُقْتَلُ الْمُكَاتَبُ بِهِ , وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ - وَالْعَكْسُ - لِأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ . وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا . وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ , قَالَ الدُّسُوقِيُّ : لَا بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنْ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ : حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الْإِصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ , وَمَتَى فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ , وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إذَا زَالَتْ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ , أَوْ عُدِمَتْ قَبْلَ السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ , كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ , وَهُوَ وَقْتُ الْإِصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي الْمَوْتِ , وَلَا يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ , وَرَجَعَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلَافًا لِأَشْهَبَ .(1/111)
إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْلَ غِيلَةً , وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ , قَالَ الدَّرْدِيرُ : إلَّا الْغِيلَةُ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ , وَهِيَ الْقَتْلُ لِأَخْذِ الْمَالِ - فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ , بَلْ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ هُوَ وَقْتُ الْقَتْلِ , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ . . . فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يُقْتَصُّ مِنْهُ . . . لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ , وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ . وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلُ غِيلَةً وَغَيْرَهُ , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ , وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْأَمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ , فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ : { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } . وَلِأَنَّهُ لَا يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ , فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى . . .(1/112)
وَيُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِهِ أَيْ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ , وَيُقْتَلُ أَيْضًا بِذِمِّيٍّ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا , وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ وَعَكْسُهُ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّسْخَ شَمِلَ الْجَمِيعَ . وَالْأَظْهَرُ : قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إلَى الْإِسْلَامِ أَمْ لَا ; لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ , بَلْ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ . وَالثَّانِي : لَا يُقْتَلُ بِهِ لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ , وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا : قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا , كَمَا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا , وَالثَّانِي : لَا ; لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مُبَاحُ الدَّمِ , لَا ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الْأَظْهَرِ , وَالثَّانِي يُقْتَلُ بِهِ أَيْضًا , وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ , وَلَا يُقْتَلُ زَانٍ مُحْصَنٌ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ , وَلِخَبَرِ : { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } , وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَإِنْ قَلَّ , لقوله تعالى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } , وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ . وَيُقْتَلُ قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِكَافِرٍ وَالْقَاتِلُ لِمُسْلِمٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ , وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ .(1/113)
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا , سَوَاءٌ ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ أَمْ لَا , لَا قِصَاصَ , وَقِيلَ : إنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ وَجَبَ الْقِصَاصُ , سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ , أَمَّا إنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا ; لِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ . وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لَا تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ , فَلَا قِصَاصَ وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ , وَالْحُرُّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ , وَلَا تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي وَصْفَيْ الْأَصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ . وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْلِ , وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ سَبَبِ الْقِصَاصِ , وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ , الَّذِي قَتَلَ كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا حَالَةَ الْجِنَايَةِ ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ , وَلَا نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا , وَلِذَلِكَ لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ , ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الْأَصَحِّ , لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْجَرْحِ .
**************
الإكراه على الكفر :(1/114)
7 - من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً لقول اللّه تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَب مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } .
وورد أنّ عمّاراً رضي الله عنه أخذه المشركون فلم يتركوه حتّى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثمّ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له النّبي : « إنّ عادوا فعد » .
قال ابن قدامة : وروي أنّ الكفّار كانوا يعذّبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد إلا أجابهم إلا بلالاً فإنّه كان يقول : أحد أحد , وقال النّبي صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » , ولأنّه قول أكره عليه بغير حقٍّ فلم يثبت حكمه , كما لو أكره على الإقرار .
وهذا أصل متّفق عليه , إلا أنّ للفقهاء تفصيلاتٍ وقيوداً تختلف من مذهبٍ إلى مذهبٍ وبيانها كما يأتي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّ الإكراه على الكفر لا بدّ أن يكون إكراهاً تامّاً , جاء في الهداية وشروحها : إن أكره على الكفر باللّه تعالى - والعياذ باللّه - أو سبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقيد أو حبسٍ أو ضربٍ لم يكن ذلك إكراهاً حتّى يكره بأمر يخاف منه على نفسه , أو على عضوٍ من أعضائه , فإذا خاف على ذلك وسعه أنّ يظهر ما أمر به .
وجاء في الدرّ المختار وحاشية ابن عابدين عليه : ويورّي وقلبه مطمئن بالإيمان , ثمّ إن ورّى لا يكفر كما إذا أكره على السجود للصّليب , أو سبّ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ففعل وقال : نويت به الصّلاة للّه تعالى ومحمّداً آخر غير النّبيّ , وبانت منه امرأته قضاءً لا ديانةً .(1/115)
وإن خطر بباله التّورية ولم يورّ كفر وبانت منه زوجته ديانةً وقضاءً , لأنّه أمكنه دفع ما أكره عليه عن نفسه ووجد مخرجاً عمّا أبتلي به ثمّ لمّا ترك ما خطر على باله وشتم محمّداً صلى الله عليه وسلم كان كافراً , وإن وافق المكره فيما أكرهه , لأنّه وافقه بعدما وجد مخرجاً عمّا أبتلي به , فكان غير مضطرٍّ .
وإنّ لم يخطر بباله شيء وفعل ما يكفر به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر ولم تبن زوجته لا قضاءً ولا ديانةً , لأنّه تعيّن ما أكره عليه ولم يمكنه دفعه عن نفسه إذ لم يخطر بباله غيره .
ويقول الحنفيّة : إنّ الكفر محرّم في نفسه مع ثبوت الرخصة به فأثر الرخصة في تغير حكم الفعل وهو المؤاخذة , لا في تغير وصفه وهو الحرمة , لأنّ كلمة الكفر ممّا لا يحتمل الإباحة بحال فكانت الحرمة قائمةً , إلا أنّه سقطت المؤاخذة لعذر الإكراه لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَب مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } .
وقال المالكيّة : لا يجوز للمكره الإقدام على الكفر إلا إذا كان الإكراه بالقتل فقط , فمن خاف على نفسه أنّ يقتل جاز له الإقدام على الكفر ما دام قلبه مطمئنّاً بالإيمان .
أمّا الإكراه بغير القتل كالضّرب وقتل الولد ونهب المال وقطع عضوٍ فلا يجوز معه الإقدام على الكفر , ولو فعل ذلك كان مرتدّاً .
وقال الشّافعيّة : يباح بالإكراه التّكلم بكلمة الكفر ما دام قلبه مطمئنّاً بالإيمان لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ } .
وقال الأذرعي يظهر القول بالوجوب في بعض الأحوال على بعض الأشخاص إذا كان فيه صيانة للحرم والذرّيّة وعلم منه أنّ الصّبر يؤدّي إلى استباحتهم أو استئصالهم , وقس على هذا ما في معناه أو أعظم منه .(1/116)
وعند الحنابلة قال ابن قدامة : من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ } , ثمّ قال : من كان محبوساً عند الكفّار ومقيّداً عندهم في حالة خوفٍ , وقامت عليه بيّنة أنّه نطق بكلمة الكفر لم يحكم بردّته , لأنّ ذلك ظاهر في الإكراه وإن شهدت البيّنة أنّه كان آمناً حال نطقه حكم بردّته .
ومن نطق بكلمة الكفر لإكراه وقع عليه , ثمّ زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه , فإن أظهره فهو باقٍ على إسلامه , وإن أظهر الكفر حكم أنّه كفر من حين نطق به , لأنّنا تبيّنّا بذلك أنّه كان منشرح الصّدر بالكفر من حين نطق به مختاراً له .
8 - ويتّفق الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأصح عند الشّافعيّة على أنّ الصّبر والثّبات على الإيمان مع الإكراه ولو كان بالقتل أفضل من الإقدام على الكفر حتّى لو قتل كان مأجوراً , لما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشّط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه » .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أوجه :
أحدها : الأفضل الإتيان بكلمة الكفر صيانةً لنفسه .
والثّاني : إن كان من العلماء المقتدى بهم فالأفضل الثبوت .
والثّالث : إن كان يتوقّع منه الإنكاء والقيام بأحكام الشّرع فالأفضل أن ينطق بها لمصلحة بقائه , وإلا فالأفضل الثبوت .
مخاطبة الكفّار بفروع الشّريعة :
11 - قال الزّركشي : حصول الشّرط العقليّ من التّمكن والفهم ونحوهما شرط في صحّة التّكليف , أمّا حصول الشّرط الشّرعيّ فلا يشترط في صحّة التّكليف بالمشروط خلافاً للحنفيّة وهي - المسألة - مفروضة في تكليف الكفّار بالفروع وإن كانت أعمّ منه .
والجمهور على جواز خطاب الكفّار بالفروع عقلاً .(1/117)
أمّا خطاب الكفّار بالفروع شرعاً ففيه - كما قال الزّركشي - مذاهب :
القول الأوّل : أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة مطلقاً في الأوامر والنّواهي بشرط تقديم الإيمان بالمرسل كما يخاطب المحدث بالصّلاة بشرط تقديم الوضوء .
والدّليل على ذلك قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } , فأخبر سبحانه وتعالى أنّه عذّبهم بترك الصّلاة وحذّر المسلمين به , وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ ََلا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَََلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إََِلا بِالْحَقِّ وَََلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
فالآية نصّ في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزّنا , لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب .
وكذلك ذمّ اللّه تعالى قوم شعيبٍ بالكفر ونقص المكيال , وذمّ قوم لوطٍ بالكفر وإتيان الذكور . كما استدلوا بانعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرّسول صلى الله عليه وسلم كما يعذّب على الكفر باللّه تعالى .
وقد ذهب إلى هذا القول الشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح , وهو مقتضى قول مالكٍ وأكثر أصحابه , وهو قول المشايخ العراقيّين من الحنفيّة .
القول الثّاني : إنّ الكفّار غير مخاطبين بالفروع وهو قول الفقهاء البخاريّين من الحنفيّة , وبهذا قال عبد الجبّار من المعتزلة والشّيخ أبو حامدٍ الإسفراييني من الشّافعيّة , وقال الإبياري : إنّه ظاهر مذهب مالكٍ , وقال الزّركشي : اختاره ابن خويزمنداد المالكي .
قال السّرخسي : لا خلاف أنّهم مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة , وأمّا في العبادات فبالنّسبة إلى الآخرة كذلك .
أمّا في حقّ الأداء في الدنيا فهو موضع الخلاف .(1/118)
واستدلّ القائلون بعدم مخاطبتهم بالفروع بأنّ العبادة لا تتصوّر مع الكفر , فكيف يؤمر بها فلا معنى لوجوب الزّكاة وقضاء الصّلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم , فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله ؟ .
القول الثّالث : إنّ الكفّار مخاطبون بالنّواهي دون الأوامر , لأنّ الانتهاء ممكن في حالة الكفر , ولا يشترط فيه التّقرب فجاز التّكليف بها دون الأوامر , فإنّ شرط الأوامر العزيمة , وفعل التّقريب مع الجهل بالمقرّب إليه محال فامتنع التّكليف بها .
وقد حكى النّووي في التّحقيق أوجهاً , وقال الزّركشي : ذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا خلاف في تكليف الكفّار بالنّواهي وإنّما الخلاف في تكليفهم بالأوامر .
ونقل ذلك القول صاحب اللباب من الحنفيّة عن أبي حنيفة وعامّة أصحابه .
وقيل : إنّهم مخاطبون بالأوامر فقط .
وقيل : إنّ المرتدّ مكلّف دون الكافر الأصليّ .
وقيل : إنّهم مكلّفون بما عدا الجهاد .
وقيل : بالتّوقف .
واجب المسلمين تجاه الكفّار :
12 - يجب على المسلمين دعوة الكفّار إلى الإسلام لقول اللّه تبارك وتعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } , ولا يقاتلون قبل الدّعوة إلى الإسلام لأنّ قتال الكفّار لم يفرض لعين القتال بل للدّعوة إلى الإسلام .
والدّعوة دعوتان : دعوة بالبنان وهي القتال ودعوة بالبيان وهو اللّسان , وذلك بالتّبليغ , والدّعوة بالبيان أهون من الدّعوة بالقتال لأنّ في القتال مخاطرة الروح والنّفس والمال , وليس في دعوة التّبليغ شيء من ذلك , فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدّعوتين لزم الافتتاح بها , وقد روي : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتّى يدعوهم إلى الإسلام » .(1/119)
ثمّ إذا دعاهم المسلمون إلى الإسلام فإن أسلموا كفوا عنهم القتال لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل النّاس حتي يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على اللّه » , فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذّمّة إن كانوا ممّن تقبل منهم الجزية , فإن أجابوا كفوا عنهم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم » وإن أبوا استعانوا باللّه سبحانه وتعالى على قتالهم ووثقوا بنصر اللّه سبحانه وتعالى لهم بعد أن بذلوا جهدهم واستفرغوا وسعهم .
وينظر تفصيل ذلك في : ( جزية ف 25 - 30 , وجهاد ف 24 ) .
ما يلزم الكافر إذا أسلم :
13 - قال القرافي : أحوال الكافر مختلفة إذا أسلم , فيلزمه ثمن البياعات وأجر الإجارات ودفع الديون الّتي اقترضها ونحو ذلك .
ولا يلزمه من حقوق الآدميّين القصاص ولا الغصب ولا النّهب إن كان حربياً , وأمّا الذّمّي فيلزمه جميع المظالم وردها لأنّه عقد الذّمّة وهو راضٍ بمقتضى عقد الذّمّة , وأمّا الحربي فلم يرض بشيء , فلذلك أسقطنا عنه الغصوب والنهوب والغارات ونحوها .
وأمّا حقوق اللّه تعالى فلا يلزمه - ولو كان ذمّياً - ممّا تقدّم في كفره لا ظهار ولا نذر ولا يمين من الأيمان ولا قضاء الصّلوات ولا الزّكوات ولا شيء فرّط فيه من حقوق اللّه تعالى لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الإسلام يهدم ما كان قبله » .
وحقوق العباد قسمان : قسم منها رضي به حال كفره واطمأنّت نفسه بدفعه لمستحقّه , فهذا لا يسقط بالإسلام , لأنّ إلزامه إيّاه ليس منفّراً له عن الإسلام لرضاه .(1/120)
أمّا ما لم يرض بدفعه لمستحقّه كالقتل والغصب ونحوه فإنّ هذه الأمور إنّما دخل عليها معتمداً على أنّه لا يوفّيها أهلها , فهذا كله يسقط , لأنّ في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيراً له عن الإسلام فقدّمت مصلحة الإسلام على مصلحة ذوي الحقوق .
وأمّا حقوق اللّه تعالى فتسقط مطلقاً رضي بها أم لم يرض , والفرق بينها وبين حقوق الآدميّين من وجهين :
أحدهما : أنّ الإسلام حقّ للّه تعالى , والعبادات ونحوها حقّ للّه تعالى كذلك , ولمّا كان الحقّان لجهة واحدةٍ ناسب أن يقدّم أحدهما على الآخر , ويسقط أحدهما الآخر لحصول الحقّ الثّاني لجهة الحقّ السّاقط .
وأمّا حق الآدميّين فلجهة الآدميّين والإسلام ليس حقّاً لهم , بل لجهة اللّه تعالى فناسب أن لا يسقط حقهم بتحصيل حقّ غيرهم .
وثانيهما : أنّ اللّه تعالى كريم جواد تناسب رحمته المسامحة , والعبد بخيل ضعيف فناسب ذلك التّمسك بحقّه , فسقطت حقوق اللّه تعالى مطلقاً وإن رضي بها كالنذور والأيمان , أو لم يرض بها كالصّلوات والصّيام , ولا يسقط من حقوق العباد ما تقدّم الرّضا به .
أنكحة الكفّار :
20 - أنكحة الكفّار صحيحة ويقرون عليها إن أسلموا , أو تحاكموا إلينا إذا كانت المرأة ممّن يجوز ابتداء نكاحها في الحال , ولا ينظر صفة عقدهم وكيفيّته , ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الوليّ والشهود وصيغة الإيجاب والقبول وأشباه ذلك .(1/121)
قال ابن عبد البرّ : أجمع العلماء على أنّ الزّوجين إذا أسلما في الحال معاً أنّ لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع , وقد أسلم خلق كثير في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم , فأقرّهم على أنكحتهم ولم يسألهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن شروط النّكاح ولا كيفيّته , وهذا أمر عرف بالتّواتر والضّرورة فكان يقيناً , ولكن ينظر في الحال فإن كانت المرأة على صفةٍ يجوز له ابتداء نكاحها أقرّ , وإن كانت ممّا لا يجوز ابتداء نكاحها كإحدى المحرّمات بالنّسب أو السّبب أو المعتدّة والمرتدّة والوثنيّة والمجوسيّة والمطلّقة ثلاثاً لم يقرّ .
وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع نسوةٍ وأسلمن معه لزمه أن يختار أربعاً منهنّ ويفارق ما زاد على ذلك لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغيلان لمّا أسلم على تسع نسوةٍ : « أن يختار منهنّ أربعاً » .
وللفقهاء تفصيل في ذلك وفيما إذا أسلم أحد الزّوجين ولم يسلم الآخر أو أسلم أحدهما ثمّ أسلم الآخر في العدّة أو بعدها , وينظر تفصيل ذلك في : ( نكاح وإسلام ف 5 ) .
دفع الضّرر عن الكلب :
28 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يجب دفع الضّرر عن الكلب غير العقور وحفظ حياته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « بينا رجل يمشي ، فاشتدّ عليه العطش ، فنزل بئراً فشرب منها ثمّ خرج ، فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثّرى من العطش ، فقال : لقد بلغ هذا مثل الّذي بلغ بي ، فملأ خفّه ثمّ أمسكه بفيه ، ثمّ رقا فسقى الكلب ، فشكر اللّه له فغفر له ، قالوا : يا رسول اللّه إنّ لنا في البهائم أجراً ؟ قال : في كلّ كبدٍ رطبةٍ أجر » .
وقال جمهور الفقهاء : يجب التّيمم على من معه ماء وخاف - باستعماله - مرضاً , أو زيادته , أو تأخر برءٍ , أو عطش محترمٍ معه أي محرّم قتله , آدمياً كان أو بهيمياً , ومنه كلب الصّيد والحراسة , أي فيجب سقيه , ولو دعاه ذلك إلى التّيمم .(1/122)
وقال النّووي : كما يجب بذل المال لإبقاء الآدميّ المعصوم يجب بذله لإبقاء البهيمة المحترمة , وإن كانت ملكاً للغير , ولا يجب البذل للحربيّ , والمرتدّ , والكلب العقور .
ولو كان لرجلٍ كلب - غير عقورٍ - جائع , وشاة , لزمه ذبح الشّاة لإطعام الكلب
حكم الكاهن من حيث الرّدّة وعدمها :
4 - قال الفقهاء : الكاهن يكفر بادّعاء علم الغيب , لأنّه يتعارض مع نصّ القرآن , قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَََلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ، إََِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } أي عالم الغيب هو اللّه وحده فلا يطلع عليه أحداً من خلقه إلا من ارتضاه للرّسالة , فإنّه يطلعه على ما يشاء في غيبه , وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ » .
قال ابن عابدين نقلاً عن التتارخانية : يكفر بقوله أنا أعلم المسروقات , أو أنا أخبر عن إخبار الجنّ إيّاي , وقال : كل مسلمٍ ارتدّ فإنّه يقتل إن لم يتب ولا تقبل توبة أحد عشر , وذكر منهم الكاهن .
وقال القرطبي : ليس المنجّم ومن ضاهاه ممّن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطّير ممّن ارتضاه اللّه تعالى من رسولٍ فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر باللّه مفترٍ عليه بحدسه وتخمينه وكذبه .(1/123)
وقال القرافي : وأمّا ما يخبر به المنجّم من الغيب من نزول الأمطار وغيره فقيل ذلك كفر يقتل بغير استتابةٍ لقوله عليه السّلام : « قال اللّه عزّ وجلّ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأمّا من قال : مطرنا بفضل اللّه ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأمّا من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » , وقيل : يستتاب فإن تاب وإلا قتل قاله أشهب , وقيل يزجر عن ذلك ويؤدّب وليس اختلافاً في قولٍ بل اختلاف في حالٍ , فإن قال إنّ الكواكب مستقلّة بالتّأثير قتل ولم يستتب إن كان يسره لأنّه زنديق وإن أظهره فهو مرتد يستتاب , وإن اعتقد أنّ اللّه تعالى هو الفاعل عندها زجر عن الاعتقاد الكاذب , لأنّه بدعة تسقط العدالة .
وعن أحمد روايتان : يقول في إحداهما : يستتاب , قيل له أيقتل ؟ قال : لا ، يحبس لعلّه يرجع , وفي روايةٍ عنه : السّاحر , والكاهن حكمهما : القتل , أو الحبس حتّى يتوبا , لأنّهما يلبسان أمرهما , وحديث عمر رضي الله عنه :" أقتلوا كلّ ساحرٍ وكاهنٍ وليس هو من أمر الإسلام " .
وجاء في الفروع : الكاهن والمنجّم كالسّاحر عند أصحابنا وإنّ ابن عقيلٍ فسّقه فقط إن قال أصبت بحدسي وفراهتي , فإن أوهم قوماً بطريقته أنّه يعلم الغيب , فللإمام قتله لسعيه بالفساد .
لحاق ولد المرتدّ :
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ولد المرتدّ إذا حمل به في الإسلام يكون مسلماً , وكذا من حمل به في حال ردّة أحد أبويه والآخر مسلم , أما إذا كان حمله خلال ردّة أبويه كليهما ففيه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( ردّةٍ ف 46 ) .
لُحُوق *
التّعريف :
1 - اللحوق في اللغة : الإدراك , من لحق به لحقاً ولحاقاً : أدركه , وكل شيءٍ أدرك شيئاً فهو لاحق به .(1/124)
أمّا في الاصطلاح فيختلف معناه باختلاف الأبواب الّتي يستعمل فيها , ويستعمل الفقهاء مادّة لحق ومشتقّاتها في مسائل ثبوت النّسب , والتحاق الذّمّيّ والمرتدّ بدار الحرب , وإلحاق جنين المذكّاة بأمّه في الحلّ , وإلحاق صغار السّائمة في الزّكاة , ولحوق توابع المبيع به في البيع , كما استعمله الأصوليون بمعنى القياس وهو إلحاق الفرع بالأصل في الحكم لعلّة مشتركةٍ بينهما .
لحوق المرتدّ بدار الحرب وأثره في تصرفاته :
12 - قال الحنفيّة : إذا لحق المرتد بدار الحرب في مدّة الخيار في البيع , وقضى القاضي بلحاقه صار البيع لازماً , وإن ارتدّ في المضاربة رب المال ولحق بدار الحرب بطلت المضاربة , لأنّ اللحوق بدار الحرب بمنزلة الموت , وإن كان المضارب هو المرتدّ اللاحق بدار الحرب فالمضاربة على حالها , لأنّ له عبارة صحيحة ولا يوقف ملك ربّ المال فبقيت المضاربة .
وإن ارتدّ أحد الشّريكين ولحق بدار الحرب بطلت الشّركة , لأنّ الشّركة تتضمّن الوكالة , ولا بدّ منها لتحقق الشّركة , واللحوق بدار الحرب بمنزلة الموت .
وتبطل الوكالة بلحوق الوكيل بدار الحرب مرتداً لأنّ الوكالة تصرف غير لازمٍ فيكون لدوامه حكم ابتدائه , فلا بدّ من بقاء الأمر فبطل بعارض الرّدّة , لأنّ تصرفات المرتدّ موقوفة , فكذا وكالته , فإن أسلم نفذت , وإن قتل أو لحق بدار الحرب بطلت الوكالة عند أبي حنيفة , وعند صاحبيه : تصرفاته نافذة فلا تبطل وكالته إلا أن يقتل بالرّدّة أو يحكم بلحاقه .
الخامس : التّزوج بالمرتدّة :(1/125)
22 - المرتدّة : من رجعت عن دين الإسلام اختياراً دون إكراهٍ على تركه , ولا تقر على الدّين الّذي اعتنقته , ولو كان ديناً سماوياً , ويرى الحنفيّة أنّه لا يجوز نكاح المرتدّة لا بمسلم ولا بكافر غير مرتدٍّ ومرتدٍّ مثله , لأنّ المرتدّة تركت الإسلام , وتضرب وتحبس حتّى تعود إلى الإسلام أو تموت , فكانت الرّدّة في معنى الموت , والميّت لا يكون محلاً للنّكاح ولأنّ ملك النّكاح ملك معصوم , ولا عصمة للمرتدّة .
وأمّا المرتد فيمهل ليتوب , وتزال شبهته إن كانت له شبهة فيرجع إلى الإسلام , فإنّ أبى قتل بعد مضيّ مدّة الإمهال .
والمرأة المرتدّة مأمورة بالعودة إلى الإسلام , وبردّتها صارت محرّمةً , والنّكاح مختص بمحلّ الحلّ ابتداءً , فلهذا لا يجوز نكاحها لأحد .
ويرى المالكيّة عدم جواز نكاح المرتدّة , كما قالوا بفسخ النّكاح إذا ارتدّ أحد الزّوجين ويكون الفسخ بطلقة بائنةٍ وإن رجعت المرتدّة إلى الإسلام .
وأمّا الشّافعيّة فقالوا : إنّ المرتدّة لا تحل لأحد , لا لمسلم لأنّها كافرة لا تقر , ولا لكافر أصليٍّ لبقاء علقة الإسلام , ولا لمرتدّ لأنّ القصد من النّكاح الدّوام والمرتد لا دوام له .
ذهب الحنابلة إلى أنّ المرتدّة لا يحل نكاحها حتّى تعود إلى الإسلام , لأنّ النّكاح ينفسخ بالرّدّة ويمتنع استمراره , فأولى أن يمتنع ابتداءً .
أمّا أهل الكتاب - وهم اليهود والنّصارى - فللمسلم أن يتزوّج من نسائهم , لقوله تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } .
الرّدّة بإهانة المصحف :
33 - إذا أهان المسلم مصحفاً متعمّداً مختاراً يكون مرتداً ويقام عليه حد الرّدّة .(1/126)
وقد اتّفق الفقهاء على ذلك , فمن صور ذلك ما قال الحنفيّة : لو وطئ برجله المصحف استخفافاً وإهانةً يكون كافراً , وكذا من أمر بوطئه يكون كافراً .
ولو ألقى مصحفاً في قاذورةٍ متعمّداً قاصداً الإهانة فقد ارتدّ عند الجميع , قال الشّافعيّة : وكذا لو مسّه بالقاذورة ولو كانت طاهرةً كالبصاق والمخاط .
فإن كان ذلك عن سهوٍ أو غفلةٍ أو في نومٍ لم يكفر .
وكذا إن كان مكرهاً أو مضطراً ففعله لا يكفر .
سادساً : ردّة ربّ المال أو المضارب :(1/127)
77 - قال الحنفيّة : لو ارتدّ رب المال فباع المضارب واشترى بالمال بعد الرّدّة فذلك كله موقوف في قول أبي حنيفة : إن رجع إلى الإسلام بعد ذلك نفذ كله والتحقت ردّته بالعدم في جميع أحكام المضاربة وكأنّه لم يرتدّ أصلاً , وكذلك إن لحق بدار الحرب ثمّ عاد مسلماً قبل أن يحكم بلحاقه بدار الحرب - على الرّواية الّتي تشترط حكم الحاكم بلحاقه للحكم بموته وصيرورة أمواله ميراثاً لورثته - فإن مات أو قتل على الرّدّة أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه بطلت المضاربة من يوم ارتدّ , على أصل أبي حنيفة أنّ ملك المرتدّ موقوف إن مات أو قتل أو لحق فحكم باللّحاق يزول ملكه من وقت الرّدّة إلى ورثته , ويصير كأنّه مات في ذلك الوقت فيبطل تصرف المضارب بأمره لبطلان أهليّة الآمر , ويصير كأنّه تصرّف في ملك الورثة , فإن كان رأس المال يومئذٍ قائماً في يده لم يتصرّف فيه , ثمّ اشترى بعد ذلك فالمشترى وربحه يكون له لأنّه زال ملك ربّ المال عن المال فينعزل المضارب عن المضاربة , فصار متصرّفاً في ملك الورثة بغير أمرهم , وإن كان صار رأس المال متاعاً فبيع المضارب فيه وشراؤه جائز حتّى ينضّ رأس المال , لأنّه في هذه الحالة لا ينعزل بالعزل والنّهي ولا بموت ربّ المال فكذلك ردّته , فإن حصل في يد المضارب دنانير ورأس المال دراهم أو العكس فالقياس أن لا يجوز له التّصرف , لأنّ الّذي حصل في يده من جنس رأس المال معنىً , لاتّحادهما في الثّمنيّة فيصير كأنّ عين المال قائم في يده إلا أنّهم استحسنوا فقالوا : إن باعه بجنس رأس المال جاز , لأنّ على المضارب أن يردّ مثل رأس المال فكان له أن يبيع ما في يده كالعروض .(1/128)
وأمّا على أصل أبي يوسف ومحمّدٍ فالرّدّة لا تقدح في ملك المرتدّ فيجوز تصرف المضارب بعد ردّة ربّ المال كما يجوز تصرف ربّ المال بنفسه عندهما , فإن مات رب المال أو قتل كان موته كموت المسلم في بطلان عقد المضاربة , وكذلك إن لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه , لأنّ ذلك بمنزلة الموت بدليل أنّ ماله يصير ميراثاً لورثته فبطل أمره في المال . وإن لم يرتدّ رب المال ولكنّ المضارب ارتدّ , فالمضاربة على حالها في قولهم جميعاً , لأنّ وقوف تصرف ربّ المال بنفسه لوقوف ملكه ولا ملك للمضارب فيما يتصرّف فيه بل الملك لربّ المال ولم توجد منه الرّدّة فبقيت المضاربة , إلا أنّه لا عهدة على المضارب وإنّما العهدة على ربّ المال ، في قياس قول أبي حنيفة ، لأنّ العهدة تلزم بسبب المال فتكون على ربّ المال , فأمّا على قولهما فالعهدة عليه , لأنّ تصرفه كتصرف المسلم .
وإن مات المضارب أو قتل على الرّدّة بطلت المضاربة لأنّ موته في الرّدّة كموته قبل الرّدّة , وكذا إذا لحق بدار الحرب وقضي بلحاقه , لأنّ ردّته مع اللّحاق والحكم به بمنزلة موته في بطلان تصرفه , فإن لحق بدار الحرب بعد ردّته فباع واشترى هناك ثمّ رجع مسلماً فجميع ما اشترى وباع في دار الحرب يكون له ولا ضمان عليه في شيءٍ , لأنّه لمّا لحق بدار الحرب صار كالحربيّ إذا استولى على مال إنسانٍ ولحق بدار الحرب : أنّه يملكه فكذا المرتد .
وارتداد المرأة وعدم ارتدادها سواء في قولهم جميعاً , كان المال لها أو كانت هي مضاربةً , لأنّ ردّتها لا تؤثّر في ملكها إلا أن تموت فتبطل المضاربة كما لو ماتت قبل الرّدّة أو لحقت بدار الحرب وحكم بلحاقها لأنّ ذلك بمنزلة الموت .
اعتقاد الكنيسة بيت اللّه واعتقاد زيارتها قربةً :(1/129)
19 - نصّ الشّيخ تقي الدّين من الحنابلة على أنّ من اعتقد أنّ الكنائس بيوت اللّه أو أنّه يعبد فيها , أو أنّه يحب ذلك ويرضاه فهو كافر لأنّه يتضمّن اعتقاد صحّة دينهم , وذلك كفر , أو أعانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم , واعتقد ذلك قربةً أو طاعةً , وكذلك من اعتقد أنّ زيارة أهل الذّمّة كنائسهم قربةً إلى اللّه فهو مرتد .
الوقف على المعصية :
18 - يشترط الفقهاء لصحّة الوقف كون الموقوف عليه جهة برٍّ فلا يجوز الوقف على معصيةٍ لأنّ الوقف طاعة تنافي المعصية فمن ذلك أن يقفها على الزناة أو السرّاق , أو شرّاب الخمر , أو المرتدّين عن الإسلام فيكون الوقف في هذه الجهات باطلاً لأنّها معاصٍ يجب الكف عنها فلم يجز أن يعان عليها .
3 - أمّا الأسير , الّذي لا يدرى أحي هو أم ميّت فإنّه يعتبر مفقوداً في قول الزهريّ , والحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وأمّا المالكيّة , فلم يجعلوا الأسير مفقوداً ولو لم يعرف موضعه ولا موقعه بعد الأسر , إلا في قول ابن عبد البرّ بأنّ الأسير الّذي تعرف حياته في وقتٍ من الأوقات , ثمّ ينقطع خبره , ولا يعرف له موت ولا حياة يعتبر مفقوداً من النّوع الثّاني عندهم .
وقد اعتبر الحنفيّة المرتدّ الّذي لم يعد ألحق بدار الحرب أم لا مفقوداً .
ولم يعتبر المالكيّة المحبوس الّذي لا يستطاع الكشف عنه مفقوداً .
مقاصّة دين الزّوج بنفقة زوجته ومهرها :
16 - نصّ الحنفيّة على أنّه إذا كان للزّوج على الزّوجة دين لا يقع قصاصاً بدين النّفقة للزّوجة إلا بالتّراضي , بخلاف سائر الديون , لأنّ دين النّفقة أدنى , ولكن لو قال الزّوج احسبوا لها نفقتها منه كان له ذلك لأنّ أكثر ما في الباب أن تكون النّفقة لها ديناً عليه , فإذا التقى الدّينان تساويا قصاصاً ألا ترى أنّ له أن يقاصّ بمهرها , فالنّفقة أولى .(1/130)
وأمّا مقاصّة المهرين فجائز في الجملة كما نصّ عليه الشّافعيّة بقولهم : لو جاءت الكفّار امرأة منّا مرتدّة , وهاجرت إلينا امرأة منهم مسلمة , وطلبها زوجها , فلا نغرم له المهر , بل نقول هذه بهذه , ونجعل المهرين قصاصاً , ويدفع الإمام المهر إلى زوج المرتدّة , ويكتب إلى زعيمهم ليدفع مهرها إلى زوج المهاجرة , هذا إن تساوى القدران , وأمّا إن كان مهر المهاجرة أكثر , صرفنا مقدار مهر المرتدّة منه إلى زوجها , والباقي إلى المهاجرة , وإن كان مهر المرتدّة أكثر , صرفنا مقدار مهر المهاجرة إلى زوجها , والباقي إلى زوج المرتدّة , وبهذه المقاصّة فسّر المفسّرون قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا } .
وذهب الحنابلة إلى أنّ من وجبت عليه نفقة امرأته وكان له عليها دين فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها , فإن كانت موسرةً فللزّوج ذلك , لأنّ من عليه حق فله أن يقضيه من أيّ أمواله شاء , وهذا من ماله .
وإن كانت معسرةً لم يكن له ذلك , لأنّ قضاء الدّين إنّما يجب في الفاضل من قوّته , وهذا لا يفضل عنها .
الحكم بإسلام المنبوذ أو كفره :
6 - لا يخلو المنبوذ من أن يوجد في دار الإسلام أو في دار الكفر .
فأمّا دار الإسلام فضربان :
أحدهما : دار اختطّها المسلمون فلقيط هذه محكوم بإسلامه - وإن كان فيها معهم أهل ذمّة أو معاهدون - تغليباً للإسلام ولظاهر الدّار ، ولأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه .
الثّاني : دار فتحها المسلمون فهذه إن كان فيها مسلم واحد حكم بإسلام لقيطها ، لأنّه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام .
وإن لم يكن فيها مسلم ، بل كل أهلها أهل ذمّة حكم بكفره ، لأنّ تغليب حكم الإسلام إنّما يكون مع الاحتمال ، ولا احتمال هنا .(1/131)
أمّا بلد الكفّار : فإن كان بلداً للمسلمين فغلب الكفّار عليه فهو كالأوّل : إن كان فيه مسلم واحد حكم بإسلامه ، وإن لم يكن فيه فهو كافر .
وإن وجد في دار لم تكن للمسلمين أصلاً فإن لم يكن فيها مسلم فمنبوذه كافر .
والتّفصيل في مصطلح ( لقيطٌ ف / 10 ) .
وإن وجد المنبوذ ببرّيّة فمسلم إذا كانت برّيّة دارنا ، أو كانت برّيّةً لا يد لأحد عليها .
أمّا برّيّة دار الحرب الّتي لا يطرقها مسلم فلا يحكم بإسلام منبوذها .
ومن حكم بإسلامه بالدّار كان مسلماً باطناً أيضاً إن لم يكن ثمّ ذمّيّ ، فإذا بلغ وأفصح بالكفر كان مرتداً .
وإن كان ثَمّ ذمّيّ كان مسلماً ظاهراً ، فإن بلغ وأفصح كفراً فهو كافر أصليّ لضعف الدّار . وإن أقام ذمّيّ أو حربيّ بيّنةً على نسب المنبوذ لحقه ، لأنّه كالمسلم في النّسب ، وتبعه بالكفر ، وارتفع ما ظننّاه من إسلامه ، لأنّ الدّار حكم باليد ، والبيّنة أقوى من مجرّد يد . وتصور علوقه من مسلمة وطئت بشبهة نادر لا يعوّل عليه مع البيّنة ، وتشمل البيّنة محض النّسوة .
وإن ألحقه قائف قال ابن حجر الهيتمي : الّذي يتّجه اعتبار إلحاقه ، لأنّه حكم فهو كالبيّنة بل أقوى .
وفي النّسوة : أنّه إن ثبت بهنّ النّسب تبعه بالكفر ، وإلّا فلا .
وإن اقتصر على الدّعوى بأنّه ابنه ولا حجّة له ، فالمذهب عند الشّافعيّة : أنّه لا يتبعه بالكفر وإن لحقه نسبه ، لأنّ الحكم بإسلامه لا يغيّر بمجرّد دعوى كافر مع إمكان تلك الشّبهة النّادرة ، ومحل هذا الخلاف إن لم يصدر منه نحو صلاة ، وإلّا - بأن يصدر منه ما يدل على أنّه مسلم كالصّلاة والصّوم - لم يغيّر ادّعاء الكافر نسبه شيئاً عن حكم الإسلام بالدّار ، وتقوى بالصّلاة ونحوها قطعاً ، ويحال بينهما وجوباً .
ومقتضى حكمهم بإسلام المنبوذ تارةً وكفره تارةً أخرى : أنّ لقاض رفع إليه أمر منبوذٍ الحكم بكفره فيما نصوا على كفره فيه .(1/132)
وقال ابن حجر الهيتمي : ولا معنى لما قال بعضهم من أنّه لا يجوز لقاض أن يحكم بكفر أحد، لأنّ الحكم بالكفر رضاً به ، والرّضا بالكفر كفر .
مُنْتَقِل *
التّعريف :
1 - المنتقل في اللغة : اسم فاعل من الفعل " انتقل " ، والانتقال : التّحول .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
ويختص البحث هنا بتحول الكافر من دين إلى دين ، أمّا الانتقال من مكان إلى مكان فينظر في مصطلح ( تحول ف / 7 - 9 ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
المرتد :
2 - من معاني المرتدّ في اللغة الرّاجع عن الشّيء ، والرّدّة الرجوع عن الشّيء إلى غيره. والمرتد شرعاً : هو الرّاجع عن دين الإسلام .
والعلاقة بين المنتقل والمرتدّ أنّ كلاً منهما خرج عن دينه ، إلّا أنّ المرتدّ خرج من دين الحقّ إلى الباطل ، والمنتقل خرج من الباطل إلى الباطل .
الأحكام المتعلّقة بالمنتقل :
الدّين الّذي يُقَرّ عليه المنتقل :
3 - اختلف الفقهاء في الدّين الّذي يقر عليه المنتقل إلى عدّة آراء :
ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه تقبل الجزية من كتابي ومجوسي ، ووثني عجمي .
كما ذهبوا إلى أنّه إذا انتقل واحد منهم من دينه إلى دين آخر غير الإسلام ، فإنّه لا يجبر على العود للدّين الّذي كان عليه ، لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة .
وحكى القاضي أبو بكر المالكي روايةً : أنّ المنتقل يقتل لخروجه عن العهد الّذي انعقد له إلّا أن يسلم .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في إحدى الرّوايتين - اقتصر عليها البهوتيّ - إلى أنّه إذا انتقل كتابيّ إلى دين آخر من أهل الكتاب كاليهوديّ يتنصّر أو النّصرانيّ يتهوّد لم يقرّ بالجزية لقوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } ، وقد أحدث ديناً باطلاً بعد اعترافه ببطلانه فلا يقر عليه .(1/133)
قال الخطيب من الشّافعيّة : محل عدم قبول غير الإسلام فيما بعد عقد الجزية كما بحثه الزّركشي ، أمّا لو تهوّد نصرانيّ بدار الحرب ثمّ جاءنا وقبل الجزية فإنّه يقر لمصلحة قبولها.
ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية للحنابلة - نصّ عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقيّ واختيار الخلّال - أنّه يقر على الدّين الّذي انتقل إليه لأنّه لم يخرج عن دين أهل الكتاب ، ولتساويهما في التّقرير بالجزية وكل منهما خلاف الحقّ .
وفي قول عند الشّافعيّة : يقبل منه الإسلام أو دينه الأوّل لأنّه كان مقراً عليه .
وصرّح الحنابلة والشّافعيّة بأنّه إذا انتقل الكتابي إلى غير دين أهل الكتاب كما لو توثّن يهوديّ أو نصرانيّ لم يقرّ بالجزية قطعاً .
وفيما يقبل منه قولان عند الشّافعيّة : أظهرهما الإسلام . والثّاني : هو أو دينه الأوّل . وانفرد المحلّي - في شرح المنهاج - بإضافة قول ثالث في هذه المسألة وهو أنّه يقر على مساويه .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لو تهوّد وثنيّ أو تنصّر لم يقرّ بالجزية ويتعيّن الإسلام في حقّه لانتقاله عمّا لا يقر عليه إلى باطل والباطل لا يفيد الإقرار .
وقال الحنابلة : إذا انتقل مجوسيّ إلى دين لا يقر أهله عليه لم يقرّ كأهل ذلك الدّين . وإنّ انتقل إلى دين أهل الكتاب ، خرج فيه الرّوايتان :
إحداهما : لا يقر .
والثّانية : يقر عليه .
نكاح المنتقل :
اختلف الفقهاء في حكم نكاح اليهوديّة إذا تنصّرت والنصرانية إذا تهوّدت والمجوسيّة إذا تهوّدت أو تنصّرت .
وتوضيح ذلك فيما يلي :
أ - نكاح المسلم للمنتقلة :
4 - اختلف الفقهاء في حكم نكاح المسلم للمنتقلة :
فذهب الجمهور إلى أنّه يجوز للمسلم نكاح المنتقلة إلى اليهوديّة أو النّصرانيّة دون المجوسيّة ، لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة ، ولأنّ المنتقلة تقر على ما انتقلت إليه ، ولعموم قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } .(1/134)
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّه لا يجوز للمسلم نكاح المنتقلة من اليهوديّة إلى النّصرانيّة أو العكس وإن كانت منكوحة مسلم فإنَّ تهودها أو تنصرها كردّة مسلمة تحته فتنجّز الفرقة في الحال ولا مهر لها لأنّ الفسخ من قبلها وذلك إذا كان قبل الدخول ، وإن كان بعد الدخول وقف نكاحها على انقضاء العدّة فإن أسلمت قبل انقضاء العدّة أو عادت إلى دينها الأوّل عند الشّافعيّة في قول دام النّكاح ، وإلّا بان حصول الفرقة من وقت الانتقال ، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وفي رواية أخرى ينفسخ في الحال .
ب - انتقال أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى غير دين الإسلام :
5 - إذا انتقل أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى دين كفر آخر فيرى الحنفيّة أنّهما على نكاحهما . قال ابن عابدين : النّصرانيّة إذا تهوّدت أو عكسه لا يلتفت إليهم لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة وكذا لو تمجّست زوجة النّصرانيّ فهما على نكاحهما كما لو كانت مجوسيّةً في الابتداء ، والمراد بالمجوسيّ من ليس له كتاب سماويّ فيشمل الوثنيّ والدّهريّ .
وهذا ما تقتضيه عبارات فقهاء المالكيّة حيث يصرّحون بفساد أنكحة الكفّار .
ويرى الشّافعيّة أنّ المنتقلة إن كانت منكوحة كافر لا يرى حلّ المنتقلة فهي كالمرتدّة فتتنجّز الفرقة قبل الوطء وكذا بعده إن لم تعد إلى دينها قبل انقضاء العدّة .
أمّا إن كان الزّوج الكافر يرى نكاحها فتقر .
وصرّح الحنابلة بأنّه إذا انتقل أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى دين لا يقر عليه كاليهوديّ يتنصّر أو النّصرانيّ يتهوّد ، أو تمجّس أحد الزّوجين الكتابيّين فكالرّدّة فينفسخ النّكاح قبل الدخول ويتوقّف بعده على انقضاء العدّة ، لأنّه انتقال إلى دين باطل قد أقرّ ببطلانه فلم يقرّ عليه كالمرتدّ .
ج - انتقال أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى الإسلام :(1/135)
6 - للفقهاء في الآثار المترتّبة على انتقال أحد الزّوجين الكافرين إلى الإسلام خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( إسلام ف / 5 ) .
ذبيحة المنتقل :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ من انتقل من الكتابيّين إلى غير دين أهل الكتاب لا تؤكل ذبيحته . انظر : ( ذبائح ف / 27 ) .
واختلف الفقهاء في ذبيحة الكتابيّ إذا انتقل من دينه إلى دين أهل كتاب آخرين كيهوديّ تنصّر أو العكس .
فذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في قول والحنابلة في الجملة إلى حلّ ذبيحته ، وعلّل الحنفيّة ذلك بأنّه يقر على ما انتقل إليه فيعتبر ذلك عند الذّبح حتّى لو تمجّس يهوديّ لا تحل ذبيحته .
وعلّل الشّافعيّة ذلك بأنّه يقر لتساويهما في التّقرير بالجزية .
والأظهر عند الشّافعيّة أنّه لا تحل ذبيحته ، لأنّه لا يقر على ما انتقل إليه .
واشترط المالكيّة لحلّ ذبيحة الكتابيّ أصالةً أو انتقالاً شروطاً ثلاثةً وهي :
أ - أن يكون المذبوح مملوكاً للكتابيّ .
ب - أن يكون المذبوح ممّا يحل له بشرعنا لا إن ذبح اليهودي ذا الظفر فلا يحل أكله .
ج - أن لا يذبحه على صنم .
وقال صاحب الرّعاية الكبرى من الحنابلة : إن انتقل كتابيّ أو غيره إلى دين يقر أهله بكتاب وجزية وأقرّ عليه حلّت ذكاته وإلّا فلا .
وأمّا الشّافعيّة فإنّهم يشترطون لحلّ الذّبح أن يكون الذّابح ممّن يحل نكاحنا لأهل ملّته ، فلا تحل عندهم ذبيحة الكتابيّ إذا انتقل من دين إلى دين أهل كتاب آخرين ، وسبق أن ذكرنا أنّه لا يجوز عند الشّافعيّة نكاح المسلم للمنتقلة من اليهوديّة إلى النّصرانيّة أو العكس .
عقوبة المنتقل :
8 - على ضوء ما أوضحناه من اختلاف الفقهاء في الدّين الّذي يقر عليه المنتقل فقد اختلفوا في إيقاع العقوبة عليه إلى رأيين :(1/136)
الرّأي الأوّل : ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والمالكيّة وهو القول المقابل للأظهر عند الشّافعيّة والحنابلة في قول إلى أنّ المنتقل تقبل منه الجزية ويظل ذمّيّاً ولا عقوبة عليه لأنّ أهل الكفر كلهم ملّة واحدة .
الرّأي الثّاني : يفرّق بين ما إذا انتقل إلى دين يقر أهله عليه ، أو انتقل إلى دين لا يقر أهله عليه وهم الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في رواية ، والمالكيّة في رواية حكاها القاضي أبو بكر ، فإن انتقل إلى دين يقر أهله عليه تقبل منه الجزية .
أمّا إذا انتقل إلى دين لا يقر أهله عليه كما لو انتقل من اليهوديّة أو النّصرانيّة إلى المجوسيّة أو الوثنيّة أو انتقل من اليهوديّة إلى النّصرانيّة أو من النّصرانيّة إلى اليهوديّة فهو كمسلم ارتدّ فيتعيّن عليه الإسلام فقط ، أو يتعيّن عليه الإسلام أو الرجوع إلى دينه الأوّل عند بعضهم ، أو إلى دين مساوٍ لدينه الأوّل عند البعض الآخر ، فإن أبى فقد نصّ الشّافعيّة في أحد القولين على أنّه يقتل في الحال كالمرتدّ المسلم ، والثّاني وهو الأصح أنّه يلحق بمأمنه إن كان له مأمن كمن نبذ العهد ثمّ بعد ذلك هو حربيّ إن ظفرنا به قتلناه ، وإن لم يكن له أمان قتلناه .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يجبر على ترك ما انتقل إليه ، وفي صفة إجباره عندهم روايتان : إحداهما : أنّه يقتل إن لم يرجع رجلاً كان أو امرأةً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « من بدّل دينه فاقتلوه » ، ولأنّه ذمّيّ نقض العهد فأشبه ما لو نقضه بترك التزام الذّمّة وهل يستتاب ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : يستتاب ، لأنّه يسترجع عن دين باطل انتقل إليه فيستتاب كالمرتدّ .
والوجه الثّاني : لا يستتاب ، لأنّه كافر أصليّ أبيح قتله فأشبه الحربيّ ، فعلى هذا إن بادر وأسلم أو رجع إلى ما يقر عليه عصم دمه وإلّا قتل .(1/137)
والرّواية الثّانية : عن أحمد قال : إذا دخل اليهودي في النّصرانيّة رددته إلى اليهوديّة ولم أدعه فيما انتقل إليه فقيل له : أتقتله ؟ قال : لا ولكن يضرب ويحبس ، قال : وإن كان نصرانيّاً أو يهوديّاً فدخل في المجوسيّة كان أغلظ ، لأنّه لا تؤكل ذبيحته ، ولا تنكح له امرأة ولا يترك حتّى يردّ إليها فقيل له : تقتله إذا لم يرجع ؟ قال : إنّه لأهل ذلك ، قال ابن قدامة : وهذا نص في أنّ الكتابيّ المنتقل إلى دين آخر من دين أهل الكتاب لا يقتل بل يكره بالضّرب والحبس .
إرث المنتقل :
9 - إنّ الفقهاء الّذين يجيزون للذّمّيّ أن ينتقل من دينه إلى دين كفر آخر ، قد اختلفوا في إرث المنتقل فذهب الحنفيّة إلى أنّ الكفر كلّه ملّة واحدة ، وحينئذٍ فيرث بعضهم البعض مطلقاً .
ويرى البعض أنّ الكفر ثلاث ملل : اليهوديّة ، والنصرانية ، ودين سائرهم ، وهو رأي المالكيّة والحنابلة ، وحينئذٍ يرون أنّ أهل كلّ ملّة يتوارثون فيما بينهم .
وأمّا الفقهاء الّذين لا يرون جواز الانتقال من دين كفر إلى آخر ولا يقبل من المنتقل إلّا الإسلام ، وهم الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في رواية فإنّهم لا يجيزون أن يرث المنتقل أحداً أو يرثه آخر .
وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ المنتقل من دين إلى دين آخر كيهوديّ تنصّر أو نصراني تهوّد أو نحو ذلك لا يرث أحداً ولا يرثه أحد بمعنى لا يرثه أهل الدّين الّذي انتقل عنه ولا يرثهم ، ولا يرثه أهل الدّين الّذي انتقل إليه ولا يرثهم ، لأنّه لا يقر على واحد منهما كالمسلم إذا ارتدّ ، ومال المنتقل يكون فيئاً لبيت مال المسلمين إذا مات كما هو شأن مال المرتدّ إذا مات .
د - إمهال المرتدّ :(1/138)
7 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ المرتدّ يمهل ثلاثة أيّام لاستتابته على الخلاف بين وجوب الاستتابة أو استحبابها ، غير أنّ الحنفيّة نصوا على أنّه يستتاب ، فإن أبى الإسلام نظر الإمام في ذلك ، فإن طمع في توبته أو سأل هو التّأجيل أجّله ثلاثة أيّام ، وإن لم يطمع في توبته ولم يسأل هو التّأجيل قتله من ساعته ، وهذا في ظاهر الرّواية ، وفي النّوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنّه يستحب للإمام أن يؤجّله ثلاثة أيّام طلب ذلك أو لم يطلب .
وفي الأظهر عند الشّافعيّة لا يمهل وتجب الاستتابة في الحال .
وتفصيل ذلك في ( ردّة ف / 35 ) .
أقسام الموت :
9 - الموت عند الفقهاء على ثلاثة أقسام : حقيقيّ , وحكميّ , وتقديريّ .
فأمّا الموت الحقيقي : فهو مفارقة الروح للجسد على وجه الحقيقة واليقين , ويعرف بالمشاهدة , ويثبت بإقامة البيّنة عليه أمام القضاء .
وأمّا الموت الحكمي : فهو حكم يصدر من قبل القاضي بموت شخصٍ من الأشخاص - وإن كان لا يزال حيّاً - لسبب شرعي يقتضي ذلك .
ومن أمثلته عند الحنفيّة : المرتد إذا لحق بدار الحرب , وصدر حكم القاضي بلحوقه بها مرتداً , فإنّه يعتبر ميّتاً من حين صدور الحكم , وإن كان حيّاً يرزق بدار الحرب , فيقسم ماله بين ورثته , وقد علّل ذلك السّرخسي بقوله : لأنّ الإمام لو ظفر به موّته حقيقةً , بأنّ يقتله , فإذا عجز عن ذلك بدخوله بدار الحرب موّته حكماً , فقسم ماله .
ومن أمثلته عند المالكيّة : المفقود " وهو الّذي يعمى خبره , وينقطع أثره , ولا يُعلم موضعه , ولا تدرى حياته ولا موته " إذا حكم القاضي بموته بناءً على ما ترجّح لديه من الظروف وقرائن الأحوال , فإنّه يعتبر ميّتاً من حيث الحكم , قال الدسوقيّ : لأنّ هذا تمويت, أي حكم بالموت , لا موت حقيقةً , وعلى ذلك فإنّه يرثه من ورثته من كان حيّاً في ذلك الوقت , دون من مات قبل ذلك .(1/139)
وأمّا الموت التّقديري : فهو للجنين الّذي أسقط ميّتاً بجناية على أمّه . كما إذا ضرب إنسان امرأةً , فأسقطت جنيناً ميّتاً فإنّه يجب على الجاني أو عاقلته الغرّة " دية الجنين " وهذه الدّية تكون لورثة الجنين على فرائض اللّه تعالى , حيث يقدّر حيّاً في بطن أمّه قبل الجناية ثمّ موته منها .
16 - وتنحصر التّصرفات الموقوفة عند الشّافعيّة في ستّة أنواع :
وضبط الإمام الوقف الباطل في العقود بتوقف العقد على وجود شرط قد يتخلّف عنه , كبيع الفضوليّ .
وهذه الأنواع السّتّة هي :
الأوّل : ما يتوقّف على حصول شرط بعده فهو باطل في القول الجديد للإمام الشّافعيّ لأنّه يتوقّف على إجازة المالك .
الثّاني : ما يتوقّف على تبيين وانكشاف سابق على العقد فهو صحيح كبيع مال أبيه ظاناً حياته .
وألحق به الرّافعي : ما إذا باع العبد على ظنّ أنّه آبق أو مكاتب وكان قد عجّز نفسه , أو فسخ الكتابة , وكذلك لو اشترى لغيره على ظنّ أنّه فضوليّ فبان أنّه قد وكّله في ذلك يصح في الأصحّ , بناءً على القول : أنّ الوكالة لا تتوقّف على القبول وأنّه يكون وكيلاً قبل بلوغ الخبر إليه .
الثّالث : ما توقّف على انقطاع تعد فقولان : الأصح الإبطال كبيع المفلس ماله ثمّ يفك الحجر عنه وهو باق على ملكه .
والقول الثّاني : أنّه موقوف على الفكّ إن وجد نفذ وإلّا فلا , وعلى هذا القول : فهو وقف تبيين .
والرّابع : ما توقّف على ارتفاع حجر حكمي خاصّ كأن يقيم العبد شاهدين على عتقه ولم يعدلا , فإنّ الحاكم يحجر على السّيّد في التّصرف فيه إلى التّعديل , فلو باعه السّيّد في هذه الحالة ثمّ تبيّن عدم عدالتهم فعلى قول الوقف في صورة المفلس كما سبق , بل أولى لأنّها أخص منها لوجود الحجر هنا على العين خاصّةً , وهناك على العموم .
الخامس : ما توقّف لأجل حجر شرعي من غير الحاكم وفيه صورتان :(1/140)
إحداهما : تصرف المريض بالمحاباة فيما يزيد على قدر الثلث فيها , وفيها قولان , أحدهما: أنّها باطلة وأصحهما أنّها موقوفة بإجازة الورثة , فإن أجازها الوارث صحّت وإلّا بطلت . ثانيتها : إذا أوصى بعين حاضرة هي ثلث ماله وباقي المال غائب فتصرّف الورثة في ثلثي الحاضر ثمّ بان تلف الغائب فألحقها الرّافعي ببيع الفضوليّ , وخالفه النّووي فألحقها ببيع مال مورّثه يظن حياته , وقال الزّركشي : وهذا أشبه , لأنّ التّصرف هنا صادف ملكه فهي ببيع الابن أشبه منه بالفضوليّ .
السّادس : ما توقّف لأجل حجر وضعي أي باختيار المكلّف كالرّاهن يبيع المرهون بغير إذن المرتهن فهو باطل على الجديد , وعلى القديم الّذي يجيز وقف التّصرفات يكون موقوفاً على الانفكاك وعدمه , وألحقه الإمام ببيع المفلس ماله .
هذا وأنّ الوقف الممتنع عند الشّافعيّة إنّما هو في الابتداء دون الاستدامة , لهذا قالوا : لو ارتدّت المرأة كان استدامة النّكاح موقوفاً , فإن أسلمت في العدّة دام النّكاح , وإلّا بانت , ولا يجوز ابتداء نكاح مرتدّة .
وقد يصح العقد ويبقى الملك موقوفاً في ملك المبيع في زمن الخيار إذا كان الخيار لهما على الأصحّ .
وملك الموصى له الوصيّة بعد الموت وقبل القبول الأصح أنّه موقوف , إن قبل تبيّنّا أنّه ملك من حين الموت , وإلّا تبيّنّا أنّه على ملك الوارث .
وكذلك ملك المرتدّ ماله , فإن تاب تبيّن أنّ ملكه لم يزل وإن قتل حداً أو مات حتف أنفه تبيّنّا أنّ ملكه زال من حين الارتداد .
حرمة أكل الميتة :
10 - أجمع الفقهاء على حرمة أكل الميتة في حالة السّعة والاختيار لقوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(1/141)
وقد عبّر الإمام الرّازيّ عن حكمة تحريم أكل الميتة الّتي نفقت حتف أنفها بقوله : واعلم أنّ تحريم الميتة موافق لما في العقول , لأنّ الدّم جوهر لطيف جداً , فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدّم في عروقه وتعفَّن وفسد , وحصل من أكله مضار عظيمة .
وأمّا حكمة تحريم أكل الميتة الّتي قتلت على هيئة غير مشروعة " أي بدون تذكية " فقد أوضحها الإمام ابن القيّم بقوله : فلأنّ اللّه سبحانه حرَّم علينا الخبائث , والخبثُ الموجب للتّحريم قد يظهر لنا وقد يخفى , فما كان ظاهراً لم ينصب عليه الشّارع علامةً غير وصفه , وما كان خفيّاً نصب عليه علامةً تدلُّ على خبثه .
فاحتقان الدّم في الميتة سبب ظاهر , وأمّا ذبيحة المجوسيّ والمرتدّ وتارك التّسمية ومن أهلّ بذبيحته لغير اللّه , فنفس ذبيحة هؤلاء أكسبت المذبوح خبثاً أوجب تحريمه , ولا ينكر أن يكون ذكر اسم الأوثان والكواكب والجنّ على الذّبيحة يُكسبها خبثاً , وذِكْرُ اسم اللّه وحده يُكسبها طيباً إلّا من قلّ نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشّريعة .
***************
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى :
فصل
ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور . يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين :
أحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته .
والثاني : دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضًا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين . ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا . ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة .
وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضًا كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عُرِّف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد .(1/142)
أما دعاؤه وشفاعته فى الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة .
وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة ـ وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم ـ أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر . ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون، دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محبًا له معظمًا له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يُقِرُّوا بالتوحيد الذى جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها .
وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة أنه قال : قلت : يا رسول الله، أى الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : ( أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصًا من قلبه ) . وعنه فى صحيح مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لكل نبى دعوة مستجابة، فَتَعَجَّل كل نبى دعوته، وإنى اختَبَأْتُ دعوتى شفاعة يوم القيامة، فهى نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا ) ، وفى السنن عن عوف ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتانى آت من عند ربى فخيرنى بين أن يُدْخِل نصف أمتى الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهى لمن مات لا يشرك بالله شيئًا ) ، وفى لفظ قال : ( ومن لقى الله لا يشرك به شيئًا فهو فى شفاعتى ) .(1/143)
وهذا الأصل ـ وهو التوحيد ـ هو أصل الدين الذى لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى : {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [ النحل : 36 ] ، وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [ المؤمنون : 32 ] .
/وفى المسند عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت بالسَّيف بين يَدَى الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رُمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .(1/144)
فحقه تبارك وتعالى أن يعبدوه لا يشركوا به، كما تقدم فى حديث معاذ، ومن عبادته تعالى أن يخلصوا له الدين، ويتوكلوا عليه، ويرغبوا إليه، ولا يجعلوا لله ندًا : لا فى محبته ولا خشيته ولا دعائه ولا الاستعانة به، كما فى الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو ندا من دون الله دخل النار ) وسئل : أى الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ) . وقيل له : ما شاء الله وشئت . فقال : ( أجعلتنى لله ندًا ! بل ما شاء الله وحده ) . /وقد قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [ النساء : 48، 116 ] ، وقال تعالى : {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [ البقرة : 22 ] ، {وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [ النحل : 51 ] ، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [ العنكبوت : 56 ] ، وقال تعالى : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [ الشرح : 7، 8 ] ، وقال تعالى فى فاتحة الكتاب التى هى أم القرآن : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ] ، وقال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [ البقرة : 165 ] ، وقال تعالى : {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [ المائدة : 44 ] ، وقال تعالى : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [ الأحزاب : 39 ] .(1/145)
ولهذا لما كان المشركون يخوفون إبراهيم الخليل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال تعالى : {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [ الأنعام : 80 : 82 ] .
وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنما ذاك الشرك، كما قال العبد الصالح : {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [ لقمان : 13 ] .
وقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [ النور : 52 ] /فجعل الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله . وجعل الخشية والتقوى لله وحده، فلا يخشى إلا الله، ولا يتقى إلا الله ،وقال تعالى : {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [ المائدة : 44 ] ، وقال تعالى : {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ آل عمران : 175 ] .(1/146)
وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [ التوبة : 59 ] . فجعل سبحانه الإيتاء لله والرسول فى أول الكلام وآخره، كقوله تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [ الحشر : 7 ] مع جعله الفضل لله وحده، والرغبة إلى الله وحده .
وهو تعالى وحده حسبهم لا شريك له فى ذلك . وروى البخارى عن ابن عباس فى قوله : {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، قال : قالها إبراهيم حين ألقى فى النار، وقالها محمد حين {لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران : 173 ] . وقال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [ الأنفال : 64 ] .
ومعنى ذلك عند جماهير السلف والخلف : أن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، كما بسط ذلك بالأدلة، وذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسائط بيننا وبين الله فى أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله .(1/147)
/فعلينا أن نحب الله ورسوله ونطيع الله ورسوله ونرضى الله ورسوله، قال تعالى : {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [ التوبة : 62 ] ، وقال تعالى : {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [ النساء : 59 ] ،وقال تعالى : {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [ النساء : 80 ] ، وقال تعالى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} [ التوبة : 24 ] .
وفى الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار ( . وقد قال تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [ الفتح : 8، 9 ] .
فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره نصره ومنعه، والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله، والعبادة هى لله وحده : فلا يصلى إلا لله ولا يصام إلا لله، ولا يحج إلا إلى بيت الله، ولا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة؛ لكون هذه المساجد بناها أنبياء الله بإذن الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله .(1/148)
وأما ما خلقه الله سبحانه من الحيوان، والنبات، والمطر، والسحاب، وسائر المخلوقات فلم يجعل غيره من العباد واسطة فى ذلك الخلق، كما جعل الرسل واسطة فى التبليغ، بل يخلق ما يشاء بما يشاء من الأسباب، وليس فى المخلوقات شىء يستقل بإبداع شىء، بل لابد للسبب من أسباب أخر تعاونه، ولابد من دفع المعارض عنه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بخلاف الرسالة فإن الرسول وحده كان واسطة فى تبليغ رسالته إلى عباده .
وأما جعل الهدى فى قلوب العباد فهو إلى الله تعالى لا إلى الرسول كما قال الله تعالى : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [ القصص : 56 ] ، وقال تعالى : {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [ النحل : 37 ] . وكذلك دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع إذا جعل الله تعالى المحل قابلا له، وإلا فلو استغفر النبى للكفار والمنافقين لم يغفر لهم، قال الله تعالى : {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [ المنافقون : 6 ] .
وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل فى أمره ونهيه ووعده ووعيده وخبره، فعلينا أن نصدقهم فى كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سب واحدًا منهم كان كافرا مرتدًا مباح الدم .(1/149)
وإذا تكلمنا فيما يستحقه الله تبارك وتعالى من التوحيد بَيّنَّا أن الأنبياء وغيرهم من المخلوقين لا يستحقون ما يستحقه الله تبارك وتعالى من خصائص : فلا يشرك بهم ولا يتوكل عليهم، ولا يستغاث بهم كما يستغاث بالله، ولا يقسم على الله بهم، ولا يتوسل بذواتهم، وإنما يتوسل بالإيمان بهم، وبمحبتهم، وطاعتهم، وموالاتهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا، وتصديقهم فيما أخبروا، وتحليل ما حللوه، وتحريم ما حرموه .
والتوسل بذلك على وجهين :
أحدهما : أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال، كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم، ويفرج كربتهم، وقد تقدم بيان ذلك .
والثانى : التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التى أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هى الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ومثل هذا كقول المؤمنين : {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [ آل عمران : 193 ] ، فإنهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء، ومثل ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين فى قوله تعالى : {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [ المؤمنون : 109 ] وأمثال ذلك كثير .
فصل(1/150)
وأما الذي يدعي النبوة، وأنه يبيح الفاحشة اللوطية، ويحرم النكاح، وما ذكر من ذلك : فهذا أمر أظهر من أن يقال عنه، فإنه من الكافرين، وأخبث المرتدين، وقتل هذا ومن اتبعه واجب بإجماع المسلمين، والواحد من هؤلاء إما أن يخاطب بالحجة لعل الله أن يتوب عليه ويهديه، وإما أن يقام عليه الحد فيقتل . فمن كان قادرًا على أحد الأمرين لزمه ذلك، ومن عجز عن هذا وهذا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكن عليه أن يعرف المعروف، ويحبه، وينكر المنكر، ويبغضه، ويفعل ما يقدر عليه من الأمرين ـ من الأمر والنهي ـ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال ذرة ) . والله سبحانه وتعالى أعلم .
/المسؤول من إحسان شيخ الإسلام مفتى الأنام تقي الدين ـ أثابه الله الجنة ـ أن يفتينا في رجلين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين، وهما قول القائل :
الرب حق والعبد حق ** ياليت شعري من المكلف ؟
إن قلت عبد فذاك ميت ** أو قلت رب إني يكلف ؟ !
فقال أحد الرجلين : هذا القول كفر، فإن القائل جعل الرب والعبد حقًا واحدًا ليس بينهما فرق، وأبطل التكليف . فقال له الرجل الثاني : ما فهمت المعني، ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده، فإن القائل قال : الرب حق، والعبد حق، أي الرب حق في ربوبيته، والعبد حق في عبوديته، فلا الرب عبدًا، ولا العبد ربًا كما زعمت .
ثم قال :
ياليت شعري من المكلف ؟ ** مع علمه أن التكليف حق .(1/151)
فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال : إن قلت : عبد فذاك ميت، والميت : ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء، وكذلك العبد ـ وإن كان/ حيًا ـ فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله؛ لأنه سبحانه لو لم يقوِّ العبد على القيام بالتكليف، لما قدر على ذلك . فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازا، ودليل ذلك قول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، أي لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله .
وقد علم أن الرب ليس عليه تكليف؛ لأنه لا مكلف له، والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله، والتكليف حق .
فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال ! وحار في ذلك مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير، فمع أيهما الحق ؟
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه ـ فقال :
الحمد لله، كلام هذا الثاني كلام باطل، وخوض فيما لم يحط بعلمه، ولم يعرف حقيقته، ولا هو عارف بحقيقة قول ابن عربي وأصله، الذي تفرع منه هذا الشعر وغيره، ولا هو أخذ بمقتضى هذا اللفظ ومدلوله .
فأما أصل ابن عربي فهو أن الوجود واحد . وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، والقول بأن المعدوم شيء وأعيان المعدومات ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .(1/152)
/ولهذا قال : ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] أي : وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، وأقروا له بذلك . فقالوا له : { فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ طه : 72 ] ، والدولة لك، فصح قول فرعون : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } . وإن كان عين الحق .
قال : ومن أسمائه الحسنى العلى؛ على من : وما ثم إلا هو ؟ وعن ماذا؛ وما هو إلا هو ؟ إلى قوله : ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، فالآمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق هو الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة .
وقال : ألا ترى أن الحق يظهر بصفات الخلق ؟ فكل صفات الحق حق له، كما أن صفات المحدثات حق للخالق ونحو ذلك، مما يكثر في كلامه، وهذا الرجل له ترتيب في سلوكه، من جنس ترتيب الملاحدة، القرامطة . فأول ما يظهر اعتقاد معتزلة الكلابية، الذين ينفون الصفات الخبرية، ويثبتون الصفات السبعة أو الثمانية، ثم بعد ذلك اعتقاد الفلاسفة، الذين ينفون الصفات ويثبتون وجودًا واجبا مجردًا، صدرت عنه الممكنات .
/ ثم بعد هذا يجعل هذا الوجود هو وجود كل موجود، فليس عنده وجودان : أحدهما واجب، والآخر ممكن . ولا أحدهما خالق، والآخر مخلوق، بل عين الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، مع تعدد المراتب، والمراتب عنده هي الأعيان الثابتة في العدم، على زعم من يقول : إن المعدوم شيء، ولا ريب أن من جعل المعدوم شيئا ثابتا في الخارج عن الذهن فقوله باطل .(1/153)
لكن أولئك يقولون : إن الخالق جعل لهذه الأعيان وجودًا مخلوقًا، وابن عربي يقول : بل نفس وجوده فاض عليها، فهي مفتقرة إليه في وجوده، وهو مفتقر إلى ثبوتها، ولهذا قال : فيعبدني وأعبده، ويحمدني وأحمده، ولهذا امتنع التكليف عنده، فإن التكليف يكون من مكلِّف لمكلَّف، أحدهما آمرًا والآخر مأمورًا، فامتنع التكليف .
ولهذا مثل ما يوجد من الكلام والسمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به ) . فلما كان المحدث هنا هو المحدث، جعل هذا مثلا لوجود الرب، فعنده كل كلام في الوجود كلامه وهو المتكلم عنده، وهو المستمع .
ولهذا يقول :
إن قلت عبد فذاك ميت **
وفي موضع آخر رأيته بخطه :
/إن قلت عبد فذاك نفى **
لأن العبد ليس له عنده وجود مخلوق، بل وجوده هو الوجود الواجب القديم عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
فإن كلام الرجل يفسر بعضه بعضا، وهذا الأصل ـ وهو القول بوحدة الوجود ـ قوله وقول ابن سبعين، وصاحبه الششتري، والتلمساني، والصدر القونوي، وسعيد الفرغاني، وعبد الله البلياني، وابن الفارض صاحب نظم السلوك، وغير هؤلاء من أهل الإلحاد، القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد .
وأما مدلول هذا الشعر : فإن قوله :
ياليت شعري من المكلف ؟ **
استفهام إنكار للمكلف . ثم قال :
إن قلت عبد فذاك ميت **
وفي موضع آخر قال : فذاك نفى . وكلاهما باطل، فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم منتف، ولكن الله هو الذي جعله موجودًا ثابتا، وهذا هو دين المسلمين، أن كل ما سوى الله مخلوق لله موجود، يجعل الله له وجودًا، فليس لشيء من الأشياء وجود إلا بإيجاد الله له، وهو باعتبار نفسه لا يستحق إلا العدم . . .
موجودًا حيًا ناطقًا فاعلا مريدًا قادرًا، بل هذا كله . . . لا يمنع ثبوت ذواتها، وصفاتها، وأفعالها .(1/154)
/ فهو ـ سبحانه ـ هو الذي جعل الحي حيًا، بل هو الذي جعل المسلم مسلما، والمصلى مصليا، كما قال الخليل : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] ، وقال : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } [ إبراهيم : 40 ] .
وهذه مسألة خلق أفعال العبيد، وهي مذهب أهل السنة والجماعة، مع اتفاقهم على أن العبد مأمور منهي، مثاب معاقب، موعود متوعد، وهو ـ سبحانه ـ الذي جعل الأبيض أبيض، والأسود أسود، والطويل طويلا، والقصير قصيرًا، والمتحرك متحركا، والساكن ساكنًا، والرطب رطبا، واليابس يابسًا، والذكر ذكرًا، والأنثي أنثى، والحلو حلوا، والمر مرًا .
ومع هذا، فالأعيان تتصف بهذه الصفات، والله تعالى خالق الذوات وصفاتها، فأي عجب من اتصاف الذات المخلوقة بصفاتها ؟ ومن أين يكون الله خالق ذلك كله بالحق ؟ فإذا قال القائل : الرب حق والعبد حق : فإن أراد به أن هذا الحق هو عين هذا، فهذا هو الاتحاد والإلحاد، وهذا هو الذي ينافي التكليف . وإن أراد أن العبد حق مخلوق، خلقه الخالق، فهذا مذهب المسلمين، وذلك لا ينافي أن يكون الخالق مُمكنًا للمخلوق، كما أنه خالق له .
وقوله :
إن قلت عبد فذاك ميت . كذب، فإن العبد ليس بميت، بل هو حي أحياه الله تعالى، كما قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، والله لا يكلف الميت، وإنما يكلف الحي، وإذا قيل : إنه أراد بقوله : [ ميت ] أنه باعتبار نفسه لا حياة له . قيل : تفسير مراده بهذا فاسد لفظًا ومعنى، أما اللفظ فلأن كلامه لا يقتضي ذلك، وأما المعنى فلأنه إذا فسر ذلك لم يناف التكليف .
/فإذا كان ميتًا ـ لولا إحياء الله ـ وقد أحياه الله، فقد صار حيًا بإحياء الله له، وحينئذ فالله إنما كلف حيًا لم يكلف ميتًا، وأما أقوال إخوان الملاحدة والمحامين عنهم أنه قال :(1/155)
ليت شعري من المكلف ؟ **
مع علمه بأن التكليف حق فحار لمن ينسبه في القيام به . فقال :
إن قلت عبد فذاك ميت **
والميت، ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء .
وكذلك العبد ـ وإن كان حيًا ـ فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل، ليس له من نفسه فعل بغير الله . فيقال لهم : هذا العذر باطل من وجوه :
أحدها : لأنه لا حيرة هنا، بل المكلف هو العبد بلا امتراء ولا حيرة، فإن الله يمتنع أن يكون هو المكلف بالصيام، والطواف، ورمي الجمار، بل هو الآمر بذلك، والعبد هو المأمور بذلك، ومن حار : هل المأمور بذلك الله أو العبد ؟ فهو إما يكون فاسد العقل مجنونًا، وإما فاسد الدين ملحدًا زنديقا .
وكون الله خالقًا للعبد ولفعله، لا يمنع أن يكون العبد هو المأمور المنهي، فإنه لم يقل أحد قط : إن الله هو الذي يركع، ويسجد، ويطوف، ويرمي الجمار، ويصوم شهر رمضان، بل جميع الأمة متفقون على أن العبد هو الراكع، الساجد، الصائم، العابد، لا نزاع في ذلك بين أهل السنة والقدرية .
الثاني : أن قوله : إن العبد ـ وإن كان حيًا ـ فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس بصحيح، فإن الميت ليس له إحساس، ولا إرادة، لما يقوم/ به من الحركة، ولا قدرة على ذلك، ولا يوصف بأنه يحب الفعل، أو يبغضه، أو يريده، أو يكرهه، ولا أنه يركع ويسجد، ويصوم ويحج، ويجاهد العدو
وقول من قال بهذا : لا يحمد الميت على فعل الغاسل، ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب، وأما العبد فإن الله جعله حيًا مريدًا، قادرًا فاعلا، وهو يصوم ويصلي، ويحج ويقتل، ويزني باختياره ومشيئته، والله خالق ذاته وصفاته وأفعاله، فله مشيئة والله خالق مشيئته، كما قال تعالى : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 28، 29 ] .
وله قدرة، والله خالق قدرته، وهو مصل صائم، حاج معتمر، والله خالقه وخالق أفعاله، فتمثيله بالميت تمثيل باطل .(1/156)
الثالث : أن يقال : إن كان كالميت مع الغاسل، فيكون الغاسل هو المكلف، فيكون الله هو المكلف، فيلزم أن يكون الرب هو المكلف .
الرابع : أن عقلاء بني آدم متفقون على ما فطرهم الله عليه، من أن العبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، متفقون على أن من احتج بالقدر على ظلمه وفواحشه، لم يقبل ذلك منه، فلو ظلم ظالم لغيره، لم يقبل أحد منه أن يدفع عن نفسه الملام بالقدر . وأما الميت فليس في العقلاء من يذمه، ولا يأمره ولا ينهاه، فكيف يقاس هذا بهذا ؟
وأما قول القائل : فإن الله لو لم يُقَوِّ العبد على التكليف لما قدر على ذلك : / فكلام صحيح، لكن ليس فيه ما ينافي أن يكون مكلفًا، مأمورًا منهيًا، مصليا صائما، قاتلا زانيا .
وأما قوله : فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازًا، فهذا كلام باطل، بل العبد هو المصلي الصائم، الحاج المعتمر المؤمن، وهو الكافر الفاجر، القاتل الزاني، السارق حقيقة، والله تعالى لا يوصف بشيء من هذه الصفات، بل هو منزه عن ذلك، لكنه هو الذي جعل العبد فاعلا لهذه الأفعال، فهذه مخلوقاته ومفعولاته حقيقة، وهي فعل العبد أيضا حقيقة .
ولكن طائفة من أهل الكلام ـ المثبتين للقدر ـ ظنوا أن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله، قالوا : فهي فعله . فقيل لهم مع ذلك : أهي فعل العبد ؟ فاضطربوا، فمنهم من قال : هي كسبه لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق . ومنهم من قال : بل هي فعل بين فاعلين . ومنهم من قال : بل الرب فعل ذات الفعل، والعبد فعل صفاته .(1/157)
والتحقيق ما عليه أئمة السنة، وجمهور الأمة، من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة، مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة، مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، /وإنما يتصف بخلقه وفعله، كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعولة للرب .
لكن هذه الصفات لم يخلقها الله بتوسط قدرة العبد، ومشيئته، بخلاف أفعاله الاختيارية، فإنه خلقها بتوسط خلقه لمشيئة العبد وقدرته، كما خلق غير ذلك من المسببات بواسطة أسباب أخر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن هذا قدر ما وسعته هذه الورقة، والله أعلم .
وقال شيخ الإسلام : أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الحق المبين . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى سائر إخوانه المرسلين .
أما بعد :
فقد وصل كتابك، تلتمس فيه بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه، وإنك كنت قد سمعت مني بعض البيان لفساد قولهم، وضاق الوقت بك عن استتمام بقية البيان، وأعجلك السفر، حتى رأيت عندكم بعض من ينصر قولهم، ممن ينتسب إلى الطريقة والحقيقة، وصادف مني كتابك موقعًا، ووجدت محلا قابلا .(1/158)
وقد كتبت بما أرجو أن ينفع الله به المؤمنين، ويدفع به بأس هؤلاء/ الملاحدة المنافقين، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته المخلوقات والمنزلات في كتابه المبين، ويبين الفرق بين ما عليه أهل التحقيق واليقين، من أهل العلم والمعرفة المهتدين، وبين ما عليه هؤلاء الزنادقة المتشبهين بالعارفين، كما تشبه بالأنبياء من تشبه من المتنبئين، كما شبهوا بكلام الله ما شبهوه به من الشعر المفتعل وأحاديث المفترين؛ ليتبين أن هؤلاء من جنس الكفار المنافقين المرتدين، أتباع فرعون والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسى ونحوهما من المفترين، وأن أهل العلم والإيمان من الصديقين والشهداء والصالحين، سواء كانوا من المقربين السابقين، أو من المقتصدين أصحاب اليمين، هم من أتباع إبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ومحمد المبعوث إلى الناس أجمعين .(1/159)
قد فرق الله في كتابه المبين الذي جعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والمؤمنين والكافرين، وقال تعالى : { أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 12 ] ، وقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 82 ] ، وقال : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35، 36 ] وقد بين حال من تشبه بالأنبياء وبأهل العلم والإيمان، من أهل الكذب والفجور الملبوس عليهم اللابسين، وأخبر أن لهم تنزلًا ووحيا ولكن من الشياطين، فقال : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وقال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] .
وأخبر أن كل من ارتد عن دين الله فلابد أن يأتي الله بَدَلَه بمن يقيم دينه المبين، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَل ِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [ المائدة : 54 ] .(1/160)
وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام، وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى، وشعر مفتعل، وإليهما أشار أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به : يا خليفة رسول الله، تألف الناس . فأخذ بلحيته وقال : يا بن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام ؟ علام أتألفهم ؟ أعلى حديث مفترى أم شعر مفتعل ؟ يقول : إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي .
وهذان النوعان، هما اللذان يعارض بهما القرآن أهل الفجور والإفك المبين، قال تعالى : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ الحاقة :38 : 43 ] ، وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } [الشعراء: 192 ،193]، إلى قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ } إلى آخر السورة .
فذكر في هذه السورة علامة الكهان الكاذبين، والشعراء الغاوين، ونزهه عن هذين الصنفين، كما في سورة الحاقة . وقال تعالى : { إنَّهٍ لّقّوًلٍ رّسٍولُ كّرٌيمُ . ذٌي قٍوَّةُ عٌندّ ذٌي بًعّرًشٌ مّكٌينُ َ } إلى آخر السورة . فالرسول هنا جبريل، وفي الآية الأولى محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نزه محمدًا هناك عن أن يكون شاعرًا أو كاهنا، ونزه هنا الرسول إليه أن يكون من الشياطين .
الوجه الحادي عشر : قول القائل : بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله .(1/161)
فيقال : من الذي قال هذا الحق من الأولين والأخرين ؟ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، الذي هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله، ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشائخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيرًا من التتار من هذا الوجه .
وأما محققوهم وجمهورهم، فيجوز عندهم التهود والتنصر، والإسلام/ والإشراك، لا يحرمون شيئا من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء، ولا يجب عليه شيء .
ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق قاتل المرتدين بمنعهم الزكاة، فقتال هؤلاء أولى .
وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق، العالم الرباني، الغوث السابع [ في الشمعة ] من أنه قال : اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله، التي لا تنام . . . إلخ . فالكلام عليه من وجوه :
أحدها : أن تسمية قائل مثل هذا المقال : محققًا، وعالمًا، وربانيًا، عين الضلالة والغواية، بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود، ولا النصارى، ولا عباد الأوثان .(1/162)
فإن كان الذي قاله مسلوب العقل، كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم، وإن كان عاقلا فجرأة على الله الذي يقول : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } إلى آخر الآيات [ مريم : 88 : 90 ] ، وقال : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } إلى قوله : { الظالمين } [ الأنبياء : 26، 27 ] ، وقال : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } إلى قوله : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ المائدة : 17، 18 ] .
/فإذا كان هذا قوله فيمن يقول : إنهم أبناؤه وأحباؤه، فكيف قوله فيمن يقول : إنهم أهداب جفنه ؟ ! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
الوجه الثاني : أن هذا الشيخ الضال ـ الذي قال هذا الكفر والضلال ـ قد نقض آخر كلامه بأوله، فإن لفظ العين : مشترك بين نفس الشيء، وبين العضو المبصر، وبين مسميات أخر، وإذا قال بعين الشيء، فهو من العين التي بمعنى النفس، أي تميز بنفسه عن غيره، فإذا قال : إن العالم بمجموعه حدقة عين الله ـ التي لا تنام ـ فالعين هنا بمعنى البصر .
ثم قال في آخر كلامه : ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه، فهذا من العين بمعنى النفس، وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان، وإنما هذا بمنزلة من قال : نبعت العين وفاضت، وشربنا منها واغتسلنا، ووزنتها في الميزان، فوجدتها عشرة مثاقيل، وذهبها خالص .
وسبب هذا : أنه كان كثيرا ما كان يتصرف في حروف بلا معان .(1/163)
الوجه الثالث : أنه تناقض من وجه آخر، فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين، فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين، فإذا قال في آخر كلامه : والله هو نور العين، كان الله جزءًا من العين، أو صفة له، فقد جعل ـ في أول كلامه ـ العالم جزءًا من الله، وفي آخر كلامه جعل الله جزءًا من العالم، وكل من القولين كفر، بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ } [ الزخرف : 15، 16 ] ، فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءًا، فكيف من جعل عباده تارة جزءًا منه، وتارة جعله هو جزءًا منهم ؟ !
فلعن الله أرباب هذه المقالات، وانتصر لنفسه، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده المؤمنين منهم .
الوجه الرابع : أنه تناقض من جهة أخرى، فإنه إذا قال : العين ما يتعين الله فيه، والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام، فقد جعله متعينًا في جميع العالم، فإذا قال بعدها : وهو نور العين، بقيت سائر أجزاء العين، من الأجفان، والأهداب والسواد، والبياض، لم يتعين فيها، فقد جعله متعينًا فيها، غير متعين فيها .
الوجه الخامس : أن نور العين مفتقر إلى العين، محتاج إليها لقيامه بها، فإذا كان الله في العالم كالنور في العين، وجب أن يكون محتاجًا إلى العالم .
واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية، الذين يقولون : هو في العالم كالماء في الصوفة، وكالحياة في الجسم ونحو ذلك، ويقولون : هو بذاته في كل مكان، وهذا قول قدماء الجهمية، الذين كفرهم أئمة الإسلام، وحكي عن الجهم أنه كان يقول : هو مثل هذا الهواء، أو قال : هو هذا الهواء .(1/164)
وقوله أولا : هو حدقة عين الله، يشبه قول الاتحادية، فإن الاتحادية يقولون : هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة، فهو عندهم الوجود، واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة .
/ولهذا كان صاحب هذه المقالات، متخبطا لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين، ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين .
فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية، والإسماعيلية، مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك، وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة، وفيهم المتخلى عنها، وهؤلاء كذلك، لكن أولئك أحذق في الزندقة، وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون، وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
الوجه السادس : قوله : إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى : بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا، وهذا كلام مجمل، ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين، بين الكافرين والمؤمنين، لا هو من المؤمنين، ولا من الاتحادية المحضة، لكنه قد لبس الحق بالباطل، وذلك أن الاتحادية يقولون : إن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله، وهذا اللفظ يصرح به بعضهم، وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة، وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين، فإن هؤلاء من جنس القرامطة، والباطنية، وأولئك إنما يصلون إلى البلاغ الأكبر، الذي هو آخر مراتب خواصهم .
ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة، أنه كان يقول : ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف . فقلت له : هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد، وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه، مثل/ قوله : إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء .(1/165)
فيقال له : إذا ارتفعت العلويات والسفليات : فما تعني بانبساطه ؟ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان ؟ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود ؟ وما الذي ينبسط حينئذ ؟ أهو نفس الله، أم صفة من صفاته ؟ وعلى أي شيء ينبسط ؟ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر ؟
فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك، لأنك قلت : وإنما قلنا : إن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان، لتفرق نور عينه وانتشر، بحيث لا يرى شيئا أصلا، فكذلك العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا .
وقد قلت : إن الله هو نور العين، والروح الأعظم بياضها، والنفس الكلية سوادها .
ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان، فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط، فيكون العالم عندك شرطا في وجود الله، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه، وإن أثبت له ذاتا غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية .
فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها، / وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، وهذا تعطيل محض للصانع وهو قول القونوي والتلمساني، وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه، وتارة يجعلون له وجودًا قائما بنفسه، ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضا وجود المخلوقات، بمعنى أنه فاض عليها، وهذا أقل كفرًا من الأول، وإن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه .
وفي كلام صاحب الفصوص وغيره ـ في بعض المواضع ـ ما يوافق هذا القول، وكذلك كلام هذا، فإنه قد يشير إلى هذا المعنى .
ثم مع ذلك : هل يجعلون وجوده مشروطا بوجود العالم، فيكون محتاجا إلى العالم، أو لا يجعلون ؟ قد يقولون هذا، وقد يقولون هذا .(1/166)
السابع : أنهم يمدحون الضلال والحيرة، والظلم والخطأ، والعذاب الذي عذب الله به الأمم، ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلبا يعلم فساده بضرورات العقول مثل قول صاحب الفصوص : لو أن نوحا ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارًا، ثم دعاهم إسرارًا . إلى أن قال : وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته . فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه، من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان . ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان، وإن كان فيه .
فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه، ونهى عنه، ويأتون من الإفك/ والفرية على الله والإلحاد في أسماء الله وآياته، بما : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } [ مريم : 90 ] ، كقول صاحب الفصوص في فص نوح :
{ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [ نوح : 25 ] ، فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة .
{(1/167)
فَأُدْخِلُوا نَارًا } [ نوح : 25 ] في عين الماء في المحمدتين، فـ { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [ التكوير : 6 ] سجرت التنور : إذا أوقدته، { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا } [ نوح : 25 ] : فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة، لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله، وبالله، بل هو الله .(1/168)
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ نوح : 26 ] الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم، طلبًا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر الستر، { دَيَّارًا } أحدًا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة، { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ } أي : تدعهم وتتركهم { يُضِلُّوا عِبَادَكَ } أي : يحيروهم ويخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظروا أنفسهم أربابا، بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدًا، فهم العبيد الأرباب { وَلَا يَلِدُوا } أي ما ينتجون ولا يظهرون { إِلَّا فَاجِرًا } [ نوح : 27 ] أي مظهرًا ما ستر { كَفَّارًا } أي : ساترا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد، { رَبِّ اغْفِرْ لِي } أي : استرني، واستر مراحلي، فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك : / { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الزمر : 67 ] ، { وَلِوَالِدَيَّ } أي : من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ } أي : قلبي { مُؤْمِنًا } مصدقا بما يكون فيه من الأخبار الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها، { وَالْمُؤْمِنَاتِ } من العقول { وَالْمُؤْمِنَاتِ } من النفوس { وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ } من الظلمات أهل الغيب المكتنفين داخل الحجب الظلمانية { إِلَّا تَبَارًا } [ نوح : 28 ] أي : هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم .
وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه، ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا، فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وأنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون : هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .(1/169)
وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف، وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم، وزعموا أنها من عند الله .
تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي، فيكونون فوق النبي بدرجة .
وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله، فيكون أحدهم في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به؛ لأن الأخذ من معدن واحد .
وتارة يزعم أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في منامه هذا النفاق / العظيم، والإلحاد البليغ، وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه، كما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان، وكان جماعة من الفضلاء ـ حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له ـ يرى أنه كان يستحل الكذب، ويختارون أن يقال : كان يتعمد الكذب وأن ذلك هو أهون من الكفر، ثم صرحوا بأن مقالته كفر، وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب، غير واحد من عقلاء الناس، وفضلائهم، من المشايخ والعلماء .
ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله، وأنه من أحق الناس بقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام : 93 ] ، وكثير من المتنبئين الكذابين ـ كالمختار بن أبي عبيد وأمثاله ـ لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد .
بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد، وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويقر له بالرسالة، لكن كان يدعى أنه رسول آخر، ولا ينكر وجود الرب، ولا ينكر القرآن في الظاهر، وهؤلاء جحدوا الرب، وأشركوا به كل شيء، وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن، ويفضلون نفوسهم على النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولىاء .
وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول : القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، و إنما التوحيد في كلامنا .(1/170)
/وأما الضلال والحيرة، فما مدح الله ذلك قط، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم : زدني فيك تحيرًا ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله، وكذلك احتجاجه بقوله : { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ } [ البقرة : 20 ] .
وإنما هذا حال المنافقين المرتدين، فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن، قال الله تعالى في القرآن : { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } الآية [ الأنعام : 71 ] .(1/171)
وهكذا يريد هؤلاء الضالون، المتحيرون، أن يفعلوا بالمؤمنين، يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضرهم، ولا ينفعهم، وهي المخلوقات والأوثان، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم، يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى، ائتنا، وقال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } إلى قوله : { يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] أي : يحارون، وقال تعالى : { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [ التوبة : 45 ] ، وقال تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] . فأمر بأن/ نسأله هداية الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين . وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم، ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة مخالفة لكتب الله ورسله، ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب .
سئل شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
ما تقول أئمة الإسلام في الحلاج ؟ وفيمن قال : أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج : ماذا يجب عليه ؟ ويقول : إنه قتل ظلمًا كما قتل بعض الأنبياء، ويقول : الحلاج من أولياء الله . فماذا يجب عليه بهذا الكلام، وهل قتل بسيف الشريعة ؟
فأجاب :
الحمد للّه، من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله : أنا الله، وقوله : إله في السماء وإله في الأرض .(1/172)
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا إله إلا الله، وأن الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق و { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } [ مريم : 93 ] ، وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } [ النساء : 171 ] الآيات، وقال تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } الآيتين [ المائدة : 72 ] . فالنصارى الذين كفرهم الله/ ورسوله، واتفق المسلمون على كفرهم بالله ورسوله، كان من أعظم دعواهم الحلول والاتحاد بالمسيح ابن مريم، فمن قال بالحلول والاتحاد في غير المسيح ـ كما تقوله الغالية في على، وكما تقوله الحلاجية في الحلاج، والحاكمية في الحاكم، وأمثال هؤلاء ـ فقولهم شر من قول النصارى؛ لأن المسيح ابن مريم أفضل من هؤلاء كلهم . وهؤلاء من جنس أتباع الدجال، الذي يدعى الإلهية ليتبع، مع أن الدجال يقول للسماء : أمطري فتمطر، وللأرض : أنبتي فتنبت، وللخربة : أخرجي كنوزك، فتخرج معه كنوز الذهب والفضة، ويقتل رجلا مؤمنا ثم يأمر به فيقوم، ومع هذا فهو الأعور الكذاب الدجال، فمن ادعى الإلهية بدون هذه الخوارق، كان دون هذا الدجال . والحلاج كانت له مخاريق وأنواع من السحر، وله كتب منسوبة إليه في السحر . وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلها، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج .(1/173)
ومن قال : إن الله نطق على لسان الحلاج، وإن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسانه : أنا الله، فهو كافر باتفاق المسلمين، فإن الله لا يَحِل في البشر، ولا تكلم على لسان بشر، ولكن يرسل الرسل بكلامه، فيقولون عليه ما أمرهم ببلاغه، فيقول على ألسنة الرسل ما أمرهم / بقوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما إن الله قال على لسان نبيه : سمع الله لمن حمده ) .
فإن كل واحد من المرسل والرسول قد يقال : إنه يقول على لسان الآخر كما قال الإمام أحمد بن حنبل للمروذي : قل على لساني ما شئت، وكما يقال : هذا يقول على لسان السلطان كيت وكيت، فمثل هذا معناه مفهوم .
وأما أن الله هو المتكلم على لسان البشر كما يتكلم الجني على لسان المصروع، فهذا كفر صريح، وأما إذا ظهر مثل هذا القول عن غائب العقل قد رفع عنه القلم، لكونه مصطلما في حال من أحوال الفنا والسكر، فهذا تكلم به في حال رفع عنه فيهما القلم، فالقول وإن كان باطلا لكن القائل غير مؤاخذ .
ومثل هذا يعرض لمن استولى عليه سلطان الحب مع ضعف العقل، كما يقال : إن محبوبًا ألقى نفسه في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال : أنا وقعت فلم وقعت خلفي ؟ قال : غبت بك عني فظننت أنك أني .
وقد ينتهي بعض الناس إلى مقام يغيب فيه بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته .
فإذا ذهب تمييز هذا وصار غائب العقل ـ بحيث يرفع عنه القلم ـ لم يكن معاقبا على ما تكلم به في هذه الحال، مع العلم بأنه خطأ وضلال، وأنه حال ناقص لا يكون لأولياء الله .(1/174)
/ وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض : الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب . فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء ـ وقد شهد مقتله ـ وكما ذكر إسماعيل بن على الخطبي في تاريخ بغداد ـ وقد شهد قتله ـ وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبوبكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبوالفرج بن الجوزي، فيما جمعا من أخباره .
وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من المشايخ الذين عدهم من مشايخ الطريق . وما نعلم أحدًا من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ، ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره، وأبلغ من يحسن به الظن يقول : إنه وجب قتله في الظاهر، فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد، وهذا أيضا خطأ .
وقول القائل : إنه قتل ظلمًا، قول باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه، صار زنديقًا، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق، فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل / المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر تقبل توبته .
وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال : قتل ظلمًا .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=55 - TOP#TOPقال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة :(1/175)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وآله وسلم تسليما أما بعد :(1/176)
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والأيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى { الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 1 : 4 ] . فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] .(1/177)
وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] ، وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد 31 ]
وأخبر ـ سبحانه ـ أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 45 ] .(1/178)
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 144-148 ] .
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له . إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فَصَبر كان خيرًا له ) . والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه .
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان .(1/179)
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين .
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور . وشأن هذه [ القضية ] وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت : هذه [ القضية ] ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين . ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان .
نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له : الضرر في هذه [ القضية ] ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم .
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال : يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا ؟ فقلت : وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح .
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف ـ إن شاء الله ـ ينكشف الأمر .(1/180)
قلت له : وإلا فأنا على أي شيء أخاف ! إن قتلت كنت من أفضل الشهداء ! وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة ! وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة ! ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه ! لا أقطاعي ! ولا مدرستي ! ولا مالي ! ولا رياستي وجاهي .
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة .
وقلت : هؤلاء الذين بمصر من الأمراء ، والقضاة، والمشائخ ، إخواني وأصحابي ، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسنًا إليهم، فأي شيء بيني وبينهم ؟ ! ولكن لَبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام . وأنا أقول لكم - لكن لم يتفق أني قلت هذا له : إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين ويطيعهم، وإن لم يكن منافقًا، كما قال تعالى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 74 ] ، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ إذاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ]
والنفاق له شعب ودعائم، كما أن للإيمان شعبًا ودعائم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ) . وفيهما أيضا أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، وإذا اؤتمن خان ) .(1/181)
وقلت له : هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتر . فقال : إلى بلاد التتر ؟ فقلت : نعم . هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم إلى أمور أخرى لا يصلح أن إذكرها لك .
وكان قد قال لي : فأنت تخالف المذاهب الأربعة، وذكر حكم القضاة الأربعة، فقلت له : بل الذي قلته عليه الأئمة الأربعة المذاهب، وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتابًا، من كتب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأهل الحديث . والمتكلمين، والصوفية، كلها توافق ما قلته بألفاظه، وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها .
ولم يستطع المنازعون ـ مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه ـ أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه، وكان لما أعطاني الدرج . فتأملته فقلت له : هذا كله كذب؛ إلا كلمة واحدة، وهي أنه استوى على العرش حقيقة، لكن بلا تكييف، ولا تشبيه . قلت : وهذا هو في [ العقيدة ] بهذا اللفظ : بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل . فقال : فاكتب خطك بهذا . قلت : هذا مكتوب قبل ذلك في [ العقيدة ] ولم أقل بما يناقضه فأي فائدة في تجديد الخط ؟ ! .
وقلت : هذا اللفظ قد حكى إجماع أهل السنة والجماعة عليه غير واحد من العلماء، المالكية، والشافعية، وأهل الحديث، وغيرهم، وما في علماء الإسلام من ينكر ذلك، إلا هؤلاء الخصوم .
قلت : فإن هؤلاء يقولون : ما فوق العرش رب يُدْعى، ولا فوق السماء إله يُعْبَد، وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، ولكن صعد إلى السماء، ونزل . وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله . ومنهم من يقول : إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة ! ويقول : إن الله حالٌّ في ذلك .(1/182)
فاستعظم ذلك، وهاله أن أحدًا يقول هذا . فقال : هؤلاء يعني ؟ ابن مخلوف وذويه . ففلت : هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم .
وجعل الرجل في أثناء الكلام يصغى لما أقوله، ويعيه، لما رأى غضبي؛ ولهذا بلغني من غير وجه أنه خرج فرحًا مسرورًا بما سمعه مني . وقال : هذا على الحق، وهؤلاء قد ضيعوا الله، وإلا فأين هو الله ؟ ! وهكذا يقول كل ذي فطرة سليمة . كما قاله جمال الدين الأخرم للملك الكامل لما خاطبه الملك الكامل في أمر هؤلاء ، فقال له الأخرم : هؤلاء قد ضيعوا إلهك، فاطلب لك إلهًا تعبده .
وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب [ الإبانة ] . له : [ وأئمتنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبدالله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش؛ وأن علمه بكل مكان؛ وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش؛ وأنه ينزل إلى سماء الدنيا؛ وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء؛ فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم برىء وهم منه براء ] .(1/183)
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب [ التمهيد ] . في شرح الموطأ وهو أجل ما صنف فيه فنه لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت من جهة النقل؛ صحيح الإسناد؛ لا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو حديث منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان وليس على العرش، قال في الدليل على صحة ما قاله أهل الحق قول الله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] . وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] . وقال : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [ المعارج 4 ] . وقال لعيسى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ ال عمران : 55 ] . ، وذكر آيات إلى أن قال : وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم، وبسط الكلام في ذلك إلى أن قال : وأما احتجاجهم بقوله تعالى { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [ المجادلة : 7 ] . فلا حجة لهم في ظاهر الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل هذه الآية هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .
وذكر عن الضحاك بن زاحم أنه قال في قوله : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ } [ المجادلة : 7 ] . قال : هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا، وعن سفيان الثوري مثل ذلك، وعن ابن مسعود قال : الله فوق العرش ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم .(1/184)
قال أبو عمر بن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيها ما قال القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة، وقال أبو عمر : الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك وترك التحديد والكيفية في شيء منه .
وقال الشيخ العارف أبو محمد عبدالقادر بن أبي صالح الكيلاني في كتاب [ الغنية ] . له : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد واحد . . إلى أن قال : وهو بجهة العلو؛ مستو على العرش؛ محتو على الملك؛ محيط علمه بالأشياء . قال : ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال إنه في السماء على العرش كما قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] . وذكر الآيات والأحاديث . . إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش . قال : وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل بلا كيف وذكر كلامًا طويلاً .
وقال الإمام أبو الحسن الكرخي الشافعي في مقدمته المشهورة في اعتقاد أهل السنة وهي منقولة من خط الشيخ أبي عمرو بن الصلاح :
عقيدتهم أن الإله بذاته ** على عرشه مع علمه بالغوائب(1/185)
وهذه الآثار لم أذكرها كلها للرسول لكن هي مما أشرت إليه بقولي : إني لم أقل شيئًا من نفسي وإنما قلت ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وهذا الموضع يضيق بما في ذلك من كلام الأمة فقال لي : نعم هو مستو على العرش حقيقة بذاته بلا تكييف ولا تشبيه، قلت : نعم وهذا هو في العقيدة، فقال : فاكتب هذه الساعة أو قال اكتب هذا أو نحو هذا، فقلت : هذا هو مكتوب بهذا اللفظ في العقيدة التي عندكم التي بحثت بدمشق واتفق عليها المسلمون فأي شيء هو الذي أريده ؟ وقلت له : أنا قد أحضرت أكثر من خمسين كتابا من كتب أهل الحديث والتصوف والمتكلين والفقهاء الأربعة الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية وتوافق ما قلت؛ وقلت أنا أمهل من خالفني ثلاث سنين أن يجيء بحرف واحد عن أئمة الإسلام يخالف ما قلته فما الذي أصنعه .
فلما خرج الطيبرسي والفتاح عاد الفتاح بعد ساعة فقال : يسلم عليك نائب السلطان؛ وقال : فاكتب لنا الآن عقيدة بخطك، فقلت : سلم على نائب السلطان؛ وقل له : لو كتبت الساعة شيئًا لقال القائل قد زاد ونقص أو غير الاعتقاد، وهكذا بدمشق لما طلبوا الاعتقاد لم اتهم إلا بشيء قد كتب متقدمًا .
قلت : وهذا الاعتقاد هو الذي قرىء بالشام في المجالس الثلاثة، وقد أرسله إليكم نائبكم مع البريد، والجميع عندكم، ثم أرسل لكم مع العمري ثانيا لما جاء الكتاب الثاني ما قاله القضاة والعلماء والمحضر وكتاب البخاري الذي قرأه المزي، والاعتقاد ليس هو شيئًا ابتدئه من عندي حتى يكون كل يوم لي اعتقاد، وهو ذلك الاعتقاد بعينه؛ والنسخة بعينها، فانظروا فيها فراح .(1/186)
ثم عاد وطلب أن أكتب بخطي أي شيء كان . فقلت : فما الذي أكتبه ؟ قال : مثل العفو، وألا تتعرض لأحد . فقلت : نعم هذا أنا مجيب إليه، ليس غرضي في إيذاء أحد ولا الانتقام منه ولا مؤاخذته، وأنا عاف عمن ظلمني . وأردت أن أكتب هذا ثم قلت : مثل هذا ما جرت العادة بكتابته؛ فإن عفو الإنسان عن حقه لا يحتاج إلى هذا .
وتعلم أن الأمر لما جرى على هذا الوجه كاد بعض القلوب يتغير على الشيخ، وظنوا أن هذا الدرج قد أقر به؛ وأن ذلك يناقض ما كان يقوله ويرسل به . فجعلت أنا وأخي ندفع ذلك ونقول : هذا من فعل ابن مخلوف؛ وقد تحققت أنا أن ذلك من عمل ابن مخلوف .
ويعرف الشيخ أن مثل هذه القضية التي قد اشتهرت وانتشرت لا تندفع على هذا الوجه فأنا أبذل غاية ما وسعني من الإحسان، وترك الانتقام، وتأليف القلوب؛ لكن هو يعرف خلقا كثيرا ممن بالديار المصرية؛ وأن الإنسان لا ينجو من شرهم وظلمهم إلا بأخذ طريقين :
أحدهما مستقر، والآخر متقلب .
الأول : أن يكون له من الله تأييد وسلطان، والتجاء إليه، واستعانة به، وتوكل عليه، واستغفار له، وطاعة له، يدفع به عنه شر شياطين الإنس والجن . وهذه الطريقة هي الثابتة الباقية .
والطريق الثاني : إن جاء من ذي جاه، فإنهم يراعون ذا الجاه ما دام جاهه قائما؛ فإذا انقلب جاهه كانوا من أعظم الناس قياما عليه هم بأعيانهم؛ حتى أنهم قد يضربون القاضي بالمقارع ونحو ذلك مما لا يكاد يعرف لغيرهم، أعداءه ومبغضون كثيرون، وقد دخل في إثباتات وأملاك وغير ذلك تعلقة بالدولة وغير الدولة .(1/187)
فلو حصل من ذوي الجاه من له غرض في نقض أحكامه ونقل الأملاك كان ذلك من أيسر الأمور عليه : إما أن يكتب ردته؛ وأحكام المرتد لا تنفذ، لأنه قد علم منه الخاص والعام أنه جعل ما فعل في هذه القضية شرع محمد بن عبدالله، والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه؛ أو حرم الحلال المجمع عليه؛ أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء . وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] . أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله .
ولفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معان :
[ الشرع المنزل ] . وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يجب اتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته .
والثاني [ الشرع المؤول ] . وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه فهذا يسوغ اتباعه، ولا يجب ولا يحرم وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به، ولا يمنع عموم الناس منه .
والثالث [ الشرع المبدل ] . وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها؛ والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع، كمن قال إن الدم والميتة حلال ـ ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك .
فلو كان الذي حكم به ابن مخلوف هو مذهب مالك أو الأشعري لم يكن له أن يلزم جميع الناس به، ويعاقب من لم يوافقه عليه باتفاق الأمة، فكيف والقول الذي يقوله ويلزم به هو خلاف نص مالك وأئمة أصحابه؛ وخلاف نص الأشعري وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي الحسن الطبري وأبي بكر بن فورك وأبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي ؟ وغير هؤلاء كلهم مصرحون بمثل ما قلناه وبنقيض ما قاله .(1/188)
ولهذا اصطلحت الحنبلية والأشعرية واتفق الناس كلهم . ولما رأى الحنبلية كلام أبي الحسن الأشعري قالوا : هذا خير من كلام الشيخ الموفق، وزال ما كان في القلوب من الأضغان، وصار الفقهاء من الشافعية وغيرهم يقولون : الحمد لله على اتفاق كلمة المسلمين .
ثم لو فرض أن هذا الذي حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد : لم يكن له أن ينقض حكم غيره فكيف إذا نقض حكم حكام الشام جميعهم بلا شبهة ؟ بل بما يخالف دين المسلمين بإجماع المسلمين . ولو زعم زاعم أن حكام الشام مكرهون ففيهم من يصرح بعدم الإكراه غير واحد، وهؤلاء بمصر كانوا أظهر إكراها لما اشتهر عند الناس أنه فعل ذلك لأجل غرض الدولة المتعلق بالملك، وأنه لولا ذلك لتكلم الحكام بأشياء، وهذا ثابت عن حكام مصر .
فكيف وهذا الحكم الذي حكم به مخالف لشريعة الإسلام من بضعة وعشرين وجها ؟ وعامتها بإجماع المسلمين . والوجوه مكتوبة مع الشرف محمد فينبغي أن يعرف الشيخ [ نصر ] . بحقيقة الأمر وباطن القضية ليطبها بتدبيره .
فأنا ليس مرادي إلا في طاعة الله ورسوله وما يخاف على المصريين إلا من بعضهم في بعض كما جرت به العادة . وقد سمعتم ما جرى بدمشق ـ مع أن أولئك أقرب إلى الاتفاق من تجديد القاضي المذكور إسلامه عند القاضي الآخر وأنا لما كنت هناك كان هذا الآذن [ يحيى الحنفي ] . فذهب إلى القاضي تقي الدين الحنبلي وجدد إسلامه وحكم بحقن دمه لما قام عليه بعض أصحابهم في أشياء .
وكان من مدة لما كان القاضي حسام الدين الحنفي مباشرا لقضاء الشام أراد أن يحلق لحية هذا الأذرعي، وأحضر الموسى، والحمار ليركبه ويطوف به، فجاء أخوه عرفني ذلك، فقمت إليه ولم أزل به حتى كف عن ذلك، وجرت أمور لم أزل فيها محسنا إليهم؛ وهذه الأمور ليست من فعلي ولا فعل أمثالي نحن إنما ندخل فيما يحبه الله ورسوله والمؤمنون ليس لنا غرض مع أحد، بل نجزي بالسيئة الحسنة، ونعفو ونغفر .(1/189)
وهذه القضية قد انتشرت، وظهر ما فعل فيها وعلمه الخاص والعام، فلو تغيرت الأحوال حتى جاء أمير أو وزير له في نقل ملك قد أثبته أو حكم به لكان هذا عند المصريين من أسهل ما يكون فيثبتون ردته والمرتد أحكامه مردودة باتفاق العلماء، ويعود ضرره على الذين أعانوه ونصروه بالباطل من أهل الدولة وغيرهم، وهذا أمر كبير لا ينبغي إهماله فالشيخ خبير يعرف عواقب الأمور . وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله .
هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين، ولو كنت خارجا لكنت أعلم بماذا أعاونه؛ لكن هذه مسألة قد فعلوها زورا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم .
ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله؛ والاستغفار؛ والتوبة؛ وصدق الالتجاء فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وأما ما ذكرت عن الشيخ [ نصر ] . أنه قال : كنت أوثر أن لا يحسوا به، إلا وقد خرج خشية أن يعلم فلان وفلان فيطلعوا ويتكلموا فتكثر الغوغاء والكلام ! فعرفه : أن كل من قال حقا فأنا أحق من سمع الحق والتزمه وقبله، سواء كان حلوا أو مرا، وأنا أحق أن يتوب من ذنوبه التي صدرت منه، بل وأحق بالعقوبة إذا كنت أضل المسلمين عن دينهم .
وقد قلت فيما مضى : ما ينبغي لأحد أن يحمله تحننه لشخص وموالاته له على أن يتعصب معه بالباطل ،أو يعطل لأجله حدود الله تعالى، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ) .(1/190)
وهذا الذي يخافه من قيام العدو ونحوه في المحضر الذي قدم به من الشام إلى ابن مخلوف فيما يتعلق بالاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إن أظهروه وكان وباله عليهم، ودل على أنهم مشركون، لا يفرقون بين دين المسلمين ودين النصارى .
فإن المسلمين متفقون على ما علموه بالاضطرار من دين الإسلام أن العبد لا يجوز له أن يعبد، ولا يدعو ولا يستغيث، ولا يتوكل إلا على الله، وأن من عبد ملكا مقربا أو نبيا مرسلا أو دعاه أو استغاث به فهو مشرك، فلا يجوز عند أحد من المسلمين أن يقول القائل يا جبرائيل أو يا ميكائيل أو يا إبراهيم أو يا موسى أو يا رسول الله اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو انصرني أو أغثني أو أجرني من عدوي أو نحو ذلك، بل هذا كله من خصائص الإلهية، وهذه مسائل شريفة معروفة قد بينها العلماء وذكروا الفرق بين حقوق الله التي يختص بها الرسل والحقوق التي له ولرسله كما يميز سبحانه بين ذلك في مثل قوله : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [ الفتح : 9 ] . فالتعزير والتوقير للرسول والتسبيح بكرة وأصيلا لله .(1/191)
وكما قال : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] . فالطاعة لله ولرسوله، والخشية والتقوى لله وحده . وكما يقول المرسلون : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } [ نوح : 3 ] . فيجعلون العبادة والتقوى لله وحده، ويجعلون لهم الطاعة قال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [ الجن : 18 ـ22 ] . وقال تعالى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 213 ] . ، وقال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] . وقال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] . وقال تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56، 57 ] .(1/192)
وقال تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] . وقال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 79، 80 ] . فمن اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فقد كفر بعد إسلامه باتفاق المسلمين .
ويجب على أهل القدرة من المسلمين أن يأمروا بالصلاة كل أحد من الرجال والنساء حتى الصبيان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
والرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . فمن العلماء من يقول : يكون مرتدًا كافرًا لا يصلي عليه ولا يدفن بين المسلمين، ومنهم من يقول : يكون كقاطع الطريق وقاتل النفس، والزاني المحصن .(1/193)
وأمر الصلاة عظيم شأنها أن تذكر هاهنا، فإنها قوام الدين وعماده، وتعظيمه تعالى لها في كتابه فوق جميع العبادات؛ فإنه ـ سبحانه ـ يخصها بالذكر تارة، ويقرنها بالزكاة تارة، وبالصبر تارة، وبالنسك تارة، كقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } [ البقرة : 43، 83، 110 ] ، وقوله : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } [ البقرة : 45 ] ، وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] ، وقوله : { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162، 163 ] . وتارة يفتتح بها أعمال البر ويختمها بها؛ كما ذكره في سورة : [ سأل سائل ] وفي أول سورة [ المؤمنون ] . قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 1-11 ] .
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .(1/194)
ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء، كانوا أعظم اختلافًا، و الخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا ـ أيضًا ـ أبعد عن السنة والحديث، كانوا أعظم افتراقًا في هذه، لاسيما الرافضة، فإنه يقال : إنهم أعظم الطوائف اختلافًا؛ وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة، بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم .
وأبو محمد بن قتيبة ـ في أول كتاب مختلف الحديث ـ لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم، وأهل الكلام وأئمتهم، قفى بذكر أئمة هؤلاء ووصف أقوالهم وأعمالهم، ووصف أئمة هؤلاء، وأقوالهم وأفعالهم بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم أهل الحق والهدى، وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحشو والباطل .
وأيضًا، المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجبات، واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب، ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم، وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه .
ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع، والرجل لا يصدر عنه فساد العمل إلا لشيئين؛ إما الحاجة، وإما الجهل، فأما العالم بقبح الشيء الغني عنه فلا يفعله، اللهم إلا من غلب هواه عقله واستولت عليه المعاصي، فذاك لون آخر وضرب ثان .
وأيضاً، فإنه لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه، وفي التعميم ما يغني عن التعيين، فأي فريق أحق بالحشو والضلال من هؤلاء ؟ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم، كما يوجد النفاق فيهم كثيرًا .(1/195)
وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال : إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك .
ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، فقد حكى عن الجهم بن صفوان : أنه ترك الصلاة أربعين يومًا لا يرى وجوبها، كرؤساء العشائر مثل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ودخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك .
أو يقال : هم لما فيهم من العلم يشبهون بعبد الله بن أبي سرح، الذي كان كاتب الوحي، فارتد ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عام الفتح، ثم أتى به عثمان إليه فبايعه على الإسلام .(1/196)
فمن صنف في مذهب المشركين ونحوهم، أحسن أحواله : أن يكون مسلمًا، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة، وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفًا في أول [ مختلف الحديث ] ، وقد حكى أهل المقالات لبعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو عيسى الوراق والنوبختي وأبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبوعبد الله الشهرستاني، وغيرهم، ممن يذكر مقالات أهل الكلام .
وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام .
ومن العجب، أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل . وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم .
فيقال لهم : ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ [ النظر والاستدلال ] ولفظ [ الكلام ] ، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال .(1/197)
وقد قررنا في قاعدة [ السنة والبدعة ] : أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه / الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك . وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، فما فعل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته .
ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله . ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا .
فسنة خلفائه الراشدين هي : مما أمر الله به ورسوله، وعليه أدلة شرعية مفصلة ليس هذا موضعها .
فكما أن الله بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب، وإقامة الحجة عليهم بما بينه من أعلام رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما في كتبهم من ذلك، وما حرفوه وبدلوه من دينهم، وصدق بما جاءت به الرسل قبله، حتى إذا سمع ذلك الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان .(1/198)
/والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف، وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه، وهو المسفسط والمقرمط، أو يمتنع عن الاستماع والنظر في طريق العلم، وهو المعرض عن النظر والاستدلال . فكما أن الإحساس الظاهر لا يحصل للمعرض ولا يقوم للجاحد، فكذلك الشهود الباطن لا يحصل للمعرض عن النظر والبحث، بل طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه؛ ولهذا سمى مجتهدًا، كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهدًا، كما قال بعض السلف : ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيهم، وقال أبي ابن كعب وابن مسعود : اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) ، وقال معاذ بن جبل، ويروى مرفوعًا، وهو محفوظ عن معاذ : عليكم بالعلم، فإن تعليمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة . فجعل الباحث عن العلم مجاهدًا في سبيل الله .
ولما كانت المحاجة لا تنفع إلا مع العدل، قال تعالى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] ، فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن .
/ وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت، حين يسأله الملكان، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم [ محمد] ؟ فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن : اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيى، ويقول : هو محمد رسول اللّه، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا به واتبعناه . فينتهرانه انتهارة شديدة ـ وهي آخر فتنة التي يفتن بها المؤمن ـ فيقولان له كما قالا أولا .(1/199)
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم ـ رضى اللّه عنهم ـ وهي عامة للمكلفين، إلا النبيين فقد اختلف فيهم . وكذلك اختلف في غير المكلفين، كالصبيان والمجانين، فقيل : لا يفتنون؛ لأن المحنة إنما تكون للمكلفين، وهذا قول القاضي وابن عَقِيل .
وعلى هذا فلا يُلَقَّنون بعد الموت . وقيل : يلقنون ويفتنون أيضًا، و هذا قول أبي حكيم، وأبي الحسن بن عبدوس، ونقله عن أصحابه، وهو مطابق لقول من يقول : إنهم يكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم، وأهل السنة، من أهل الحديث والكلام . وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ عن أهل السنة، واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد .
وأما الردة عن الإسلام بأن يصير الرجل كافرًا مشركًا، أو كتابيًا ،/فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، كقوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [ البقرة : 217 ] ، وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ، وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
ولكن تنازعوا فيما إذا ارتد، ثم عاد إلى الإسلام هل تحبط الأعمال التي عملها قبل الردة أم لا تحبط إلا إذا مات مرتدًا ؟ على قولين مشهورين، هما قولان في مذهب الإمام أحمد، والحبوط : مذهب أبي حنيفة ومالك . والوقوف : مذهب الشافعي .(1/200)
وتنازع الناس ـ أيضًا ـ في المرتد . هل يقال : كان له إيمان صحيح يحبط بالردة ؟ أم يقال : بل بالردة تبيَّنا أن إيمانه كان فاسدا ؟ وأن الإيمان الصحيح لا يزول البتة ؟ على قولين لطوائف الناس، وعلى ذلك يبنى قول المستثنى : أنا مؤمن ـ إن شاء اللّه . هل يعود الاستثناء إلى كمال الإيمان ؟ أو يعود إلى الموافاة في المآل، واللّه أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=74 - TOP#TOPوَسُئلَ شَيْخُ الإسْلام أبو العبَّاسِ تَقي الدين ابن تَيمية ـ قَدَّسَ اللَّه روحه ـ عن العبد المؤمن : هل يَكْفُر بالمعصية أم لا ؟
فأَجَابَ :
لا يكفر بمجرد الذنب , فإنه ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الزاني غير المحْصَن يُجْلَد ولا يقتل , والشارب يجلد , والقاذف يجلد , والسارق يقطع .
ولو كانوا كفارًا لكانوا مرتدين , ووجب قتلهم , وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف .
*******
والنصوص التي في كتاب اللّّه وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام، وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق، أكثر من أن تذكر هنا، بل عن/ النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه، وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين على، وذاك كان أمرًا عارضًا؛ ولهذا لما ذهب عليٌّ ظهر منهم من الفتن، والنفاق، والردة، والبدع، ما يعلم به أن أولئك كانوا أرجح .
وكذلك ـ أيضًا ـ لا ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام، كما كان على وابن مسعود وعمار وحذيفة ونحوهم، أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة، لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح .(1/201)
والنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر اللّه دائمًا إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض الإسلام، فإن الحجاز ـ التي هي أصل الإيمان ـ نقص في آخر الزمان منها : العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق .
وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومن يقاتل عليه منصوراً مؤيداً في كل وقت، فهذا هذا، واللّه أعلم .
وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن علياً كان أولى / بالحق ممن فارقه، ومع أن عمارًا قتلته الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند اللّه، ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة . فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف .
ولهذا لما اعتقدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي، جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على الإمام بتأويل سائغ وهي عنده، راسلهم الإمام، فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم، وإن ذكروا شبهة بَيَّنَها، فإن رجعوا وإلا وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين .
ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة و قتال علي للخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك، ثم يجعلون المقاتلين له بغاة، لا يفرقون بين قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله، كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم؛ كاقتتال الأمين والمأمون وغيرهما، وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة، والمنافقين؛ كالمزدكية ونحوهم .(1/202)
وهذا تجده في الأصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم، ثم الشافعي وأصحابه، ثم كثير من أصحاب أحمد الذين صنفوا : باب قتال أهل البغي، نسجوا على منوال أولئك، تجدهم هكذا، فإن الخَرْقِيّ نسج على منوال/ المُزَنِي، والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن، وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب .
والمصنفون في الأحكام : يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعاً، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتال البغاة حديث، إلا حديث كَوْثَر بن حكيم عن نافع، وهو موضوع .
وأما كتب الحديث المصنفة ـ مثل : صحيح البخاري، والسنن ـ فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج، وهم أهل الأهواء، وكذلك كتب السنة المنصوصة عن الإمام أحمد ونحوه .
وكذلك ـ فيما أظن ـ كتب مالك و أصحابه، ليس فيها باب قتال البغاة، وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الأهواء وهذا هو الأصل الثابت بكتاب اللّه وسنة رسوله، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين، فليس في النصوص أمر بذلك، فارتكب الأولون ثلاثة محاذير :
الأول : قتال من خرج عن طاعة ملك معين، وإن كان قريبًا منه ومثله ـ في السنة والشريعة ـ لوجود الافتراق، والافتراق هو الفتنة .
/والثاني : التسوية بين هؤلاء وبين المرتدين عن بعض شرائع الإسلام .(1/203)
والثالث : التسوية بين هؤلاء، وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية؛ ولهذا تجد تلك الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور، ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم، بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة، وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم، أو أئمة الكلام، أو أئمة المشيخة على نظرائهم، مدعين أن الحق معهم، أو أنهم أرجح، بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير، لا بالاجتهاد، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها . فنسأل اللّه العدل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به .
ولهذا كان أعدل الطوائف : أهل السنة أصحاب الحديث .
وتجد هؤلاء إذا أمروا بقتال من مرق من الإسلام، أو ارتد عن بعض شرائعه، يأمرون أن يسار فيه بسيرة عليّ في قتال طلحة والزبير، لا يُسْبَي لهم ذرية ولا يُغْنَمُ لهم مال، ولا يُجْهَزُ لهم على جريح، ولا يقتل لهم أسير، ويتركون ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسار به عليّ في قتال الخوارج وما أمر اللّه به رسوله، وسار به الصديق في قتال مانعي الزكاة، فلا يجمعون بين ما فرق اللّه بينه من المرتدين والمارقين، وبين المسلمين المسيئين، ويفرقون بين ما جمع اللّه بينه من الملوك والأئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل . واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .
********
فَصْل
إذا تبين هذا، فمن المعلوم أن الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة، هي الطريق التي بها يعلم إيمان نظرائه، والطريق التي تعلم بها صحبته، هي الطريق التي يعلم بها صحبة أمثاله .
فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل : معاوية، وأخيه يزيد، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وقد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت .(1/204)
ومعاوية أظهر إسلامًا من غيره، فإنه تولى أربعين سنة؛ عشرين سنة نائبًا لعمر وعثمان، مع ما كان في خلافة على ـ رضي اللّه عنه ـ وعشرين سنة مستوليًا، وأنه تولى سنة ستين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة، وسلم إليه الحسن بن علي ـ رضي اللّه عنهما ـ الأمر عام أربعين، الذي يقال له : عام الجماعة؛ لاجتماع الكلمة وزوال الفتنة بين المسلمين .
وهذا الذي فعله الحسن ـ رضي اللّه عنه ـ مما أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي / صلى الله عليه وسلم قال : ( إن ابني هذا سيد، وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مما أثنى به على ابنه الحسن ومدحه على أن أصلح اللّه تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وذلك حين سلم الأمر إلى معاوية، وكان قد سار كل منهما إلى الآخر بعساكر عظيمة .
فلما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بالإصلاح وترك القتال، دل على أن الإصلاح بين تلك الطائفتين كان أحب إلى اللّه ـ تعالى ـ من فعله، فدل على أن الاقتتال لم يكن مأمورًا به، ولو كان معاوية كافرًا لم تكن تولية كافر وتسليم الأمر إليه مما يحبه اللّه ورسوله، بل دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين، كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين، وأن الذي فعله الحسن كان محمودًا عند اللّه ـ تعالى ـ محبوبًا مرضيًا له ولرسوله .
وهذا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال : ( تَمرُقُ مارقة على حين فُرْقَةٍ من الناس، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) وفي لفظ : ( فتقتلهم أدناهم إلى الحق ) . فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلا الطائفتين المقتتلتين - على وأصحابه، ومعاوية وأصحابه ـ على حق، وأن عليًا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه .(1/205)
فإن على بن أبي طالب هو الذي قاتل المارقين، وهم الخوارج الحرورية، الذين كانوا من شيعة علي ثم خرجوا عليه، وكفروه، وكفروا من والاه، ونصبوا له العداوة، وقاتلوه ومن معه . وهم الذين أخبر عنهم النبي / صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة، حيث قال فيهم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه يوم القيامة، آيتهم أن فيهم رجلًا مُخدَج اليدين، له عَضَل عليها شَعرات تدردر ) [وتدَرْدَر : أي تَرَجْرَج، تجيء وتذهب] .
وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه، وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافرًا، وقتله أحد رؤوسهم ـ عبد الرحمن بن مِلْجَم المرَادي ـ فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا : إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارًا مرتدين، فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة، وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة من مدح اللّه ـ تعالى ـ لهم، وثناء اللّه عليهم، ورضاه عنهم، وإخباره بأنهم من أهل الجنة، ونحو ذلك من النصوص . ومن لم يقبل هذه الحجج لم يمكنه أن يثبت إيمان علي بن أبي طالب وأمثاله .
فإنه لو قال هذا الناصبي للرافضي : إن عليا كان كافرًا، أو فاسقًا ظالمًا، وأنه قاتل على الملك لطلب الرياسة لا للدين، وأنه قتل من أهل الملة ـ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالجمل، وصفين، وحروراء، ألوفًا مؤلفة، ولم يقاتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كافرًا، ولا فتح مدينة، بل قاتل أهل القبلة، ونحو هذا الكلام الذي تقوله النواصب المبغضون لعلي رضي اللّه /عنه ـ لم يمكن أن يجيب هؤلاء النواصب إلا أهل السنة والجماعة، الذين يحبون السابقين الأولين كلهم، ويوالونهم .(1/206)
فيقولون لهم : أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، ونحوهم، ثبت بالتواتر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، وثبت في القرآن ثناء اللّه عليهم، والرضى عنهم، وثبت بالأحاديث الصحيحة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم خصوصًا وعمومًا ، كقوله في الحديث المستفيض عنه : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ) ، وقوله : ( إنه قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ) ، وقوله عن عثمان : ( ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة ؟ ) وقوله لعلي : ( لأعطين الراية رجلًا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، يفتح اللّه على يديه ) ، وقوله : ( لكل نبي حواريون، وحواريي الزبير ) وأمثال ذلك .
وأما الرافضي فلا يمكنه إقامة الحجة على من يبغض عليًا من النواصب، كما يمكن ذلك أهل السنة الذين يحبون الجميع، فإنه إن قال : إسلام عليّ معلوم بالتواتر . قال له : وكذلك إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وغيرهم، وأنت تطعن في هؤلاء، إما في إسلامهم، وإما في عدالتهم .
فإن قال : إيمان عليٍّ ثبت بثناء النبي صلى الله عليه وسلم . قلنا له : هذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تطعن أنت فيهم، ورواة فضائلهم : سعد بن أبي /وقاص، وعائشة، وسهل بن سعد الساعدي، وأمثالهم، والرافضة تقدح في هؤلاء، فإن كانت رواية هؤلاء وأمثالهم ضعيفة، بطل كل فضيلة تروى لعليّ، ولم يكن للرافضة حجة، وإن كانت روايتهم صحيحة، ثبتت فضائل على وغيره، ممن روى هؤلاء فضائله؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم .
فإن قال الرافضي : فضائل عليٍّ متواترة عند الشيعة ـ كما يقولون : إن النص عليه بالإمامة متواتر ـ قيل له : أما [ الشيعة ] الذين ليسوا من الصحابة : فإنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سمعوا كلامه، ونقلهم نقل مرسل منقطع، إن لم يسنده إلى الصحابة لم يكن صحيحًا .(1/207)
والصحابة الذين تواليهم الرافضة نفر قليل ـ بضعة عشر وإما نحو ذلك ـ وهؤلاء لا يثبت التواتر بنقلهم لجواز التواطؤ على مثل هذا العدد القليل، والجمهور الأعظم من الصحابة، الذين نقلوا فضائلهم، تقدح الرافضة فيهم، ثم إذا جوزوا على الجمهور الذين أثنى عليهم القرآن الكذب والكتمان، فتجويز ذلك على نفر قليل أولى وأجوز .
وأيضًا، فإذا قال الرافضي : إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، كان قصدهم الرياسة والملك، فظلموا غيرهم بالولاية . قال لهم : هؤلاء لم يقاتلوا مسلمًا على الولاية، وإنما قاتلوا المرتدين والكفار، وهم الذين كسروا كسرى وقيصر، وفتحوا بلاد فارس، وأقاموا الإسلام وأعزوا الإيمان وأهله، وأذلوا الكفر وأهله .
/وعثمان هو دون أبي بكر وعمر في المنزلة، ومع ذلك فقد طلبوا قتله وهو في ولايته، فلم يقاتل المسلمين، ولا قتل مسلمًا على ولايته . فإن جوزت على هؤلاء أنهم كانوا ظالمين في ولايتهم، أعداء الرسول، كانت حجة الناصبي عليك أظهر .
وإذا أسأت القول في هؤلاء، ونسبتهم إلى الظلم والمعاداة للرسول وطائفته، كان ذلك حجة للخوارج والنواصب المارقين عليك، فإنهم يقولون : أيما أولى أن ينسب إلى طلب الرياسة : من قاتل المسلمين على ولايته ـ ولم يقاتل الكفارـ وابتدأهم بالقتال ليطيعوه، وهم لا يطيعونه، وقتل من أهل القبلة الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون البيت العتيق، ويصومون شهر رمضان، ويقرؤون القرآن ـ ألوفًا مؤلفة، ومن لم يقاتل مسلمًا، بل أعزوا أهل الصلاة والزكاة، ونصروهم وآووهم، أو من قتل وهو في ولايته، لم يقاتل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل في داره وبين أهله ـ رضي اللّه عنه ؟ فإن جوزت على مثل هذا أن يكون ظالمًا للملك ظالمًا للمسلمين بولايته، فتجويزك هذا على من قاتل على الولاية وقتل المسلمين عليها أولى وأحرى .(1/208)
وبهذا وأمثاله، يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبًا وجهلًا ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد، كما دخل فيهم النصيرية، / والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء اللّه من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه، فهم كما قال فيهم الشعبي- وكان من أعلم الناس بهم ـ : لو كانوا من البهائم لكانوا حمرًا، ولو كانوا من الطير لكانوا رَخَمًا .
ولهذا كانوا أبْهَت الناس وأشدهم فِريَة، مثل ما يذكرون عن معاوية، فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمَّر غيره، وجاهد معه، وكان أمينًا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي . وولاه عمر بن الخطاب : الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب اللّه الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته .
وقد ولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أباه أبا سفيان إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ولايته . فمعاوية خير من أبيه وأحسن إسلامًا من أبيه باتفاق المسلمين، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولى أباه فلأن تجوز ولايته بطريق الأولى والأحرى، ولم يكن من أهل الردة قط، ولا نسبه أحد من أهل العلم إلى الردة، فالذين ينسبون هؤلاء إلى الردة هم الذين ينسبون أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعامة أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان إلى ما لا يليق بهم .(1/209)
/والذين نسبوا هؤلاء إلى الردة يقول بعضهم : إنه مات ووجهه إلى الشرق والصليب على وجهه، وهذا مما يعلم كل عاقل أنه من أعظم الكذب والفرية عليه . ولو قال قائل هذا فيمن هو دون معاوية من ملوك بني أمية وبني العباس؛ كعبد الملك بن مروان وأولاده، وأبى جعفر المنصور وولديه ـ الملقبين بالمهدي، والهادي والرشيد، وأمثالهم من الذين تولوا الخلافة وأمر المؤمنين، فمن نسب واحدًا من هؤلاء إلى الردة، وإلى أنه مات على دين النصارى، لَعَلِم كل عاقل أنه من أعظم الناس فرية، فكيف يقال مثل هذا في معاوية وأمثاله من الصحابة .
بل يزيد ابنه، مع ما أحدث من الأحداث، من قال فيه : إنه كافر مرتد، فقد افترى عليه، بل كان ملكًا من ملوك المسلمين كسائر ملوك المسلمين، وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات، وحسناتهم عظيمة، وسيئاتهم عظيمة، فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل، وإما ظالم .
وهؤلاء لهم ما لسائر المسلمين، منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته، ومنهم من قد تاب من سيئاته، ومنهم من كفر اللّه عنه، ومنهم من قد يدخله الجنة، ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته، ومنهم من قد يتقبل اللّه فيه شفاعة نبي أو غيره من الشفعاء، فالشهادة لواحد من هؤلاء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلال .(1/210)
/وكذلك قصد لعنة أحد منهم بعينه، ليس هو من أعمال الصالحين والأبرار . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لعن اللّه الخمرة، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، وساقيها، وشاربها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها ) . وصح عنه أنه كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجل يكثر شربها يدعى [حمارًا ] ، وكان كلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم جلده، فأتى به إليه ليجلده، فقال رجل : لعنه اللّه ! ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه، فإنه يحب اللّه ورسوله ) . وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر عمومًا، ونهى عن لعنة المؤمن المعين .
كما أنا نقول ما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] فلا ينبغي لأحد أن يشهد لواحد بعينه أنه في النار، لإمكان أن يتوب أو يغفر له اللّه بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو يعفو اللّه عنه، أو غير ذلك .
فهكذا الواحد من الملوك أو غير الملوك، وإن كان صدر منه ما هو ظلم، فإن ذلك لا يوجب أن نلعنه ونشهد له بالنار . ومن دخل في ذلك كان من أهل البدع والضلال، فكيف إذا كان للرجل حسنات عظيمة يرجى له بها المغفرة مع ظلمه، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه /قال : ( أول جيش يغزو قسطنطينية مغفور له ) ، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه في الغُزَاة أبو أيوب الأنصاري، وتوفى هناك، وقبره هناك إلى الآن ) .(1/211)
ولهذا كان المقتصدون من أئمة السلف يقولون في يزيد وأمثاله : إنا لا نسبهم ولا نحبهم، أي : لا نحب ما صدر منهم من ظلم . والشخص الواحد يجتمع فيه حسنات وسيئات، وطاعات ومعاصي، وبر وفجور وشر، فيثيبه اللّه على حسناته، ويعاقبه على سيئاته إن شاء أو يغفر له، ويحب ما فعله من الخير، ويبغض ما فعله من الشر .
فأما من كانت سيئاته صغائر، فقد وافقت المعتزلة على أن اللّه يغفرها .
وأما صاحب الكبيرة، فسلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة لا يشهدون له بالنار، بل يجوزون أن اللّه يغفر له، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] ، فهذه في حق من لم يشرك، فإنه قيدها بالمشيئة، وأما قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [الزمر : 35 ] ، فهذا في حق من تاب، ولذلك أطلق وعم .
والخوارج والمعتزلة يقولون : إن صاحب الكبيرة يُخَلَّد في النار، ثم إنهم / قد يتوهمون في بعض الأخيار أنه من أهل الكبائر، كما تتوهم الخوارج في عثمان وعلى وأتباعهما أنهم مخلدون في النار، كما يتوهم بعض ذلك في مثل معاوية وعمرو بن العاص، وأمثالهما، ويبنون مذاهبهم على مقدمتين باطلتين :
إحداهما : أن فلانًا من أهل الكبائر .
والثانية : أن كل صاحب كبيرة يخلد في النار .
وكلا القولين باطل . وأما الثاني فباطل على الإطلاق، وأما الأول فقد يعلم بطلانه، وقد يتوقف فيه .(1/212)
ومن قال عن معاوية وأمثاله، ممن ظهر إسلامه وصلاته، وحجه وصيامه ـ أنه لم يسلم، وأنه كان مقيمًا على الكفر : فهو بمنزلة من يقول ذلك في غيره، كما لو ادعى مدع ذلك في العباس، وجعفر، وعقيل، وفي أبي بكر، وعمر، وعثمان . وكما لو ادعى أن الحسن والحسين ليسا ولدي عليّ بن أبي طالب، إنما هما أولاد سلمان الفارسي، ولو ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج ابْنَتَيْ أبي بكر وعمر، ولم يزوج بنتيه عثمان، بل إنكار إسلام معاوية أقبح من إنكار هذه الأمور، فإن منها ما لا يعرفه إلا العلماء .
وأما إسلام معاوية وولايته على المسلمين والإمارة والخلافة، فأمر يعرفه جماهير الخلق، ولو أنكر منكر إسلام عليّ أو ادعى بقاءه على الكفر، لم يحتج /عليه إلا بمثل ما يحتج به على من أنكر إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان ومعاوية وغيرهم، وإن كان بعضهم أفضل من بعض، فتفاضلهم لا يمنع اشتراكهم في ظهور إسلامهم .
وأما قول القائل : إيمان معاوية كان نفاقًا فهو ـ أيضا ـ من الكذب المختلق، فإنه ليس في علماء المسلمين من اتهم معاوية بالنفاق، بل العلماء متفقون على حسن إسلامه، وقد توقف بعضهم في حسن إسلام أبي سفيان ـ أبيه ـ وأما معاوية، وأخوه يزيد، فلم يتنازعوا في حسن إسلامهما، كما لم يتنازعوا في حسن إسلام عكرمة بن أبي جهل، وسُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأمثالهم من مسلمة الفتح، وكيف يكون رجلًا متوليًا على المسلمين أربعين سنة نائبًا، ومستقلًا يصلي بهم الصلوات الخمس ويخطب ويعظهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيم فيهم الحدود، ويقسم بينهم فيْأهم ومغانمهم وصدقاتهم، ويحج بهم، ومع هذا يخفى نفاقه عليهم كلهم وفيهم من أعيان الصحابة جماعة كثيرة !(1/213)
بل أبلغ من هذا أنه ـ وللّه الحمد ـ لم يكن من الخلفاء الذين لهم ولاية عامة ـ من خلفاء بني أمية، وبني العباس ـ أحد يتهم بالزندقة والنفاق، وبنو أمية لم ينسب أحد منهم إلى الزندقة والنفاق ـ وإن كان قد ينسب الرجل منهم إلى نوع من البدعة، أو نوع من الظلم، لكن لم ينسب أحد منهم من أهل العلم إلى زندقة ونفاق .
/وإنما كان المعروفون بالزندقة والنفاق بني عبيد القداح، الذين كانوا بمصر والمغرب، وكانوا يدعون أنهم علويون، وإنما كانوا من ذرية الكفار، فهؤلاء قد اتفق أهل العلم على رميهم بالزندقة والنفاق، وكذلك رمي بالزندقة والنفاق قوم من ملوك النواحي الخلفاء من بني بويه وغير بني بويه، فأما خليفة عام الولاية في الإسلام، فقد طهر اللّه المسلمين أن يكون ولي أمرهم زنديقًا منافقًا، فهذا مما ينبغي أن يعلم ويعرف، فإنه نافع في هذا الباب .
واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة، كما جاء في الحديث : ( يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عَضُوض ) [ وملك عَضُوض أي : يصيب الرَّعية فيه عسف وظلم ] وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيرًا من ملك غيره .
وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكًا ) . وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ـ رضي اللّه عنهم ـ هم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء/ الراشدين من بعدي، تَمَسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة ) .(1/214)
وقد تنازع كثير من الناس في خلافة عليّ، وقالوا : زمانه زمان فتنة، لم يكن في زمانه جماعة، وقالت طائفة : يصح أن يولي خليفتان، فهو خليفة، ومعاوية خليفة، لأن الأمة لم تتفق عليه، ولم تنتظم في خلافته .
والصحيح الذي عليه الأئمة : أن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ من الخلفاء الراشدين، بهذا الحديث، فزمان علي كان يسمى نفسه أمير المؤمنين، والصحابة تسميه بذلك، قال الإمام أحمد بن حنبل : من لم يُرَبِّع بعليّ ـ رضي اللّه عنه ـ في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، ومع هذا فلكل خليفة مرتبة .
فأبو بكر وعمر لا يوازنهما أحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر ) ، ولم يكن نزاع بين شيعة علي الذين صحبوه في تقديم أبي بكر وعمر، وثبت عن علي من وجوه كثيرة أنه قال : لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلاجلدته حد المفترى .
وإنما كانوا يتنازعون في عثمان وعلي ـ رضي اللّه عنهما ـ لكن ثبت تقديم عثمان على عليٍّ، باتفاق السابقين على مبايعة عثمان طوعًا بلا كره، بعد أن جعل عمر الشورى في ستة : عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، /وعبد الرحمن بن عوف . وتركها ثلاثة وهم : طلحة، والزبير، وسعد، فبقيت في ثلاثة : عثمان، وعليّ، وعبد الرحمن فولى أحدهما، فبقى عبد الرحمن يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثلاثة أيام، ثم أخبر أنهم لم يعدلوا بعثمان .
ونقل وفاته وولايته حديث طويل، فمن أراده فعليه بأحاديث الثقات، واللّه أعلم . وصلى اللّه على نبينا محمد وسلم .
********(1/215)
من هذا الباب لفظ [ الصلاح ] و [ الفساد ] : فإذا أطلق الصلاح تناول جميع الخير وكذلك الفساد يتناول جميع الشر كما تقدم في اسم الصالح وكذلك اسم المصلح والمفسد قال تعالى في قصة موسى : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } [ القصص : 19 ] { وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 142 ] .
وقال تعالى : { وَإذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 12 ] . والضمير عائد على المنافقين في قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] وهذا مطلق يتناول من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيكون بعدهم، ولهذا قال سلمان الفارسي : إنه عنى بهذه الآية قوما لم يكونوا خلقوا حين نزولها وكذا قال السدي عن أشياخه : الفساد الكفر والمعاصي .
وعن مجاهد : ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي . والقولان معناهما واحد . وعن ابن عباس : الكفر . وهذا معنى قول من قال : النفاق الذي صافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين . وعن أبي العالية ومقاتل : العمل بالمعاصي .(1/216)
وهذا أيضًا عام كالأولين . وقولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] فسر بإنكار ما أقروا به أي : إنا إنما نفعل ما أمرنا به الرسول . وفسر : بأن الذي نفعله صلاح ونقصد به الصلاح وكلا القولين يروى عن ابن عباس وكلاهما حق فإنهم يقولون هذا وهذا , يقولون : الأول لمن لم يطلع على بواطنهم . ويقولون : الثاني لأنفسهم ولمن اطلع على بواطنهم . لكن الثاني يتناول الأول، فإن من جملة أفعالهم إسرار خلاف ما يظهرون وهم يرون هذا صلاحًا قال مجاهد : أرادوا أن مصافاة الكفار صلاح لا فساد .
وعن السدي : إن فعلنا هذا هو الصلاح وتصديق محمد فساد , وقيل : أرادوا أن هذا صلاح في الدنيا فإن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمنوا بمتابعته وإن كانت للكفار، فقد أمنوهم بمصافاتهم . ولأجل القولين قيل في قوله : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 12 ] أي لا يشعرون أن ما فعلوه فساد لا صلاح . وقيل : لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم . والقول الأول يتناول الثاني، فهو المراد كما يدل عليه لفظ الآية . وقال تعالى : { إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [ الأعراف : 196 ] وقال : { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 81 ] وقول يوسف { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] .(1/217)
وقد يقرن أحدهما بما هو أخص منه كقوله : { وَإذا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] قيل : بالكفر وقيل : بالظلم، وكلاهما صحيح وقال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } [ القصص : 83 ] وقد تقدم قوله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 4 ] .
وقال تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } [ المائدة : 32 ] وقتل النفس الأول من جملة الفساد لكن الحق في القتل لولي المقتول وفي الردة والمحاربة والزنا، الحق فيها لعموم الناس، ولهذا يقال : هو حق لله ولهذا لا يعفي عن هذا كما يعفي عن الأول لأن فساده عام قال تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أو يُصَلَّبُواْ أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } [ المائدة : 33 ] الآية . قيل : سبب نزول هذه الآية العرنيون الذين ارتدوا وقتلوا وأخذوا المال . وقيل : سببه ناس معاهدون نقضوا العهد وحاربوا . وقيل : المشركون، فقد قرن بالمرتدين المحاربين وناقضي العهد المحاربين وبالمشركين المحاربين .
وجمهور السلف والخلف على أنها تتناول قطاع الطريق من المسلمين والآية تتناول ذلك كله، ولهذا كان من تاب قبل القدرة عليه من جميع هؤلاء فإنه يسقط عنه حق الله تعالى .(1/218)
وكذلك قرن [ الصلاح والإصلاح بالإيمان ] في مواضع كثيرة كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 107 ] . { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأنعام : 48 ] .
ومعلوم أن الإيمان أفضل الإصلاح وأفضل العمل الصالح كما جاء في الحديث الصحيح أنه ( قيل : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله ) . وقال تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه : 82 ] . وقال : { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا } [ مريم : 60 ] . وقال : { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] . وقال في القذف : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 5 ] . وقال في السارق : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } [ المائدة : 39 ] . وقال : { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } [ النساء : 16 ] .
ولهذا شرط الفقهاء في أحد قوليهم في قبول شهادة القاذف أن يصلح وقدروا ذلك بسنة كما فعل عمر بصبيغ بن عسل لما أجله سنة , وبذلك أخذ أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغ بن عسل .
********(1/219)
وليس في الكتاب والسنة المظهرون للإسلام إلا قسمان : مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الاسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان، وهذا يأتي الكلام عليه ـ إن شاء اللّه ـ في مسألة الإسلام والإيمان، وأسماء الفساق من أهل الملة، لكن المقصود هنا أنه لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا ببدعة ابتدعها ـ ولو دعا الناس إليها ـ كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً . فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا/فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع .
وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً، بل كان مؤمنا باللّه ورسوله في الباطن، لم يكن كافراً في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار . ومن قال : إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة،فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ـ رضوان اللّه عليهم أجمعين ـ بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع .(1/220)
وإنما قال الأئمة بكفر هذا؛ لأن هذا فرض ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئًا مما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة، ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه؛ ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة يكفرون أنواعاً ممن يقول كذا وكذا؛ لما فيه من الاستخفاف، ويجعلونه مرتداً ببعض هذه الأنواع مع النزاع اللفظي الذي بين أصحابه وبين الجمهور في العمل : هل هو داخل في اسم الإيمان/ أم لا ؟ ولهذا فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها وهي : أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة فدعى إليها وامتنع، واستتيب ثلاثا مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قتل، هل يموت كافراً أو فاسقًا ؟ على قولين .
وهذا الفرض باطل، فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن اللّه فرضها عليه، وأنه يعاقبه على تركها ويصبر على القتل، ولا يسجد للّه سجدة من غير عذر له في ذلك، هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يضرب أحد ممن يقر بوجوب الصلاة إلا صلى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك : أن القتل ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك فيصبر عليه حتى يقتل، وسواء كان الدين حقاً أو باطلاً، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطناً وظاهراً، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط .
********(1/221)
واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر، هي أعظم من هذا كله،/ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان اللّه ورسوله، فإنه شافٍ كافٍ، بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان، علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة اللّه ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئًا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر؛ وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم : أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم ألاّ يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم : أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك .(1/222)
وكذلك كل مسلم يعلم أن شارب الخمر والزاني والقاذف والسارق، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجعلهم مرتدين يجب قتلهم، بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام،/كما ذكر اللّه في القرآن جلد القاذف والزاني، وقطع السارق، وهذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم،ولو كانوا مرتدين لقتلهم . فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل؛ لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها، إما في دلالة الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة . ولا يتأملون بيان اللّه ورسوله، وكل مقدمات تخالف بيان اللّه ورسوله، فإنها تكون ضلالا؛ ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول والصحابة والتابعين، وكذلك ذكر في رسالته إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة، وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين، لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على اللّه ورسوله ما لا يعلم، أو غير الحق، وهذا مما حرمه اللّه ورسوله، وقال تعالى في الشيطان : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 16 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } [ الأعراف : 169 ] وهذا من تفسير القرآن بالرأي الذي جاء فيه الحديث : ( من قال في القرآن برأيه فلْيَتَبَوَّأْ مقعده من النار ) .(1/223)
مثال ذلك أن المرجئة لما عدلوا عن معرفة كلام اللّه ورسوله، أخذوا يتكلمون في مسمى الإيمان والإسلام وغيرهما بطرق ابتدعوها، مثل أن/ يقولوا : الإيمان في اللغة : هو التصديق . والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق؛ ثم قالوا : والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال ليست من الإيمان، ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا } [ يوسف : 17 ] أي : بمصدِّق لنا .
فيقال لهم : اسم الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالي ومن يعادي، والدين كله تابع لهذا،وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك، أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله، ووكله إلى هاتين المقدمتين ؟ ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن . ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من تواتر لفظ الكلمة، فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة . فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة، فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنياً على مثل هذه المقدمات؛ ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط اللّه المستقيم، وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، فهذا كلام عام مطلق .(1/224)
ثم يقال : هاتان المقدمتان كلاهما ممنوعة، فمن الذي قال : إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق ؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم/ قلت : إنه يوجب الترادف ؟ ولو قلت : ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا، صح المعنى، لكن لم قلت : إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن ؟ وإذا قال اللّه : { أَقيمُوا الصَّلاةَ } ، ولو قال القائل : أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة، كان المعنى صحيحاً، لكن لا يدل هذا على معنى : أقيموا، فكون اللفظ يرادف اللفظ، يراد دلالته على ذلك .
ثم يقال : ليس هو مرادفاً له، وذلك من وجوه :
أحدها : أن يقال للمخبر إذا صدقته : صدقه، ولا يقال : آمنه وآمن به . بل يقال : آمن له، كما قال : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] وقال : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } [ يونس : 83 ] ، وقال فرعون : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] ، وقالوا لنوح { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] ، { فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 47 ] وقال : { وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [ الدخان : 21 ](1/225)
فإن قيل : فقد يقال : ما أنت بمصدق لنا . قيل : اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعف عمله، إما بتأخيره أو بكونه اسم فاعل أو مصدراً، أو باجتماعهما، فيقال : فلان يعبد اللّه ويخافه ويتقيه، ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل : هو عابد لربه متق لربه، خائف لربه، وكذلك تقول فلان يَرْهَب الله، ثم تقول : هو راهب لربه، وإذا ذكرت الفعل وأخرته، تقويه باللام، كقوله : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ الأعراف : 154 ] ، وقد قال : { فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ النحل : 51 ] فعداه /بنفسه، وهناك ذكر اللام، فإن هنا قوله : { فَإيَّايَ } من قوله : [ فلى ] . وقوله هنالك : { لِرَبِّهِمْ } أتم من قوله : [ ربهم ] ، فإن الضمير المنفصل المنصوب، أكمل من ضمير الجر بالياء، وهناك اسم ظاهر، فتقويته باللام أولى وأتم من تجريده، ومن هذا قوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، ويقال : عبرت رؤياه، وكذلك قوله : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [ الشعراء : 55 ] ، وإنما يقال : غظته، لا يقال : غظت له، ومثله كثير، فيقول القائل : ما أنت بمصدق لنا، أدخل فيه اللام، لكونه اسم فاعل، وإلا فإنما يقال : صدقته، لا يقال : صدقت له، ولو ذكروا الفعل، لقالوا : ما صدقتنا، وهذا بخلاف لفظ الإيمان، فإنه تعدى إلى الضمير باللام دائماً، لا يقال : آمنته قط، وإنما يقال : آمنت له، كما يقال : أقررت له . فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقاً .(1/226)
الثاني : أنه ليس مرادفاً للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة : صدقت، كما يقال : كذبت . فمن قال : السماء فوقنا، قيل له : صدق، كما يقال : كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة، كقوله : طلعت الشمس، وغربت، أنه يقال : آمناه . كما يقال : صدقناه؛ ولهذا المحدثون والشهود ونحوهم، يقال : صدقناهم، وما يقال : آمنا لهم، فإن الإيمان مشتق من الأمن . فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر؛ كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ [ آمن له ] ، إلا في هذا النوع؛ والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء،/ يقال : صدق أحدهما صاحبه،ولا يقال : آمن له، لأنه لم يكن غائباً عنه ائتمنه عليه؛ولهذا قال : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 47 ] ، { آمَنتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ] ، { يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبه : 61 ] ، فيصدقهم فيما أخبروا به . مما غاب عنه وهو مأمون عنده على ذلك، فاللفظ متضمن معنى التصديق ومعنى الائتمان والأمانة، كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا } [ يوسف : 17 ] أي : لا تقر بخبرنا ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك . فلو صدقوا لم يأمن لهم .(1/227)
الثالث : أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له : صدقت أو كذبت، ويقال : صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر : آمنا له أو كذبناه، ولا يقال : أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر . يقال : هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً بلا تكذيب، فلا بد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلماً منقاداً للأمر، وهذا هو العمل .
/فإن قيل : فالرسول صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بما يؤمن به .
قيل : فالرسول ذكر ما يؤمن به لم يذكر ما يؤمن له، وهو نفسه يجب أن يؤمن به ويؤمن له، فالإيمان به من حيث ثبوته غيب عنا أخبرنا به، وليس كل غيب آمنا به علينا أن نطيعه، وأما ما يجب من الإيمان له فهو الذي يوجب طاعته، والرسول يجب الإيمان به وله، فينبغي أن يعرف هذا، وأيضاً فإن طاعته طاعة للّه، وطاعة اللّه من تمام الإيمان به .
الرابع : أن من الناس من يقول : الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف فآمن أي : صار داخلاً في الأمن وأنشدوا . . .
وأما المقدمة الثانية، فيقال : إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق فقولهم : إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان؛ عنه جوابان :(1/228)
أحدهما : المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي،والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف . قال الجوهري : والصدّيق مثال الفسّيق : الدائم التصديق . ويكون الذي يصدق قوله بالعمل . وقال الحسن البصري : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وهذا / مشهور عن الحسن يروى عنه من غير وجه، كما رواه عباس الدوري : حدثنا حجاج، حدثنا أبو عبيدة الناجي عن الحسن قال : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال . من قال حسناً وعمل غير صالح رد اللّه عليه قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل؛ ذلك بأن اللّه يقول : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ورواه ابن بطة من الوجهين .
وقوله : ( ليس الإيمان بالتمني ) يعني : الكلام، وقوله : [ بالتحلي ] يعني : أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه، ومعناه : ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً وإذا لم يكن عمل، كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر . وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم .(1/229)
وقد روى محمد بن نصر المروزي بإسناده، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل . فأجابه عنها : سألت عن الإيمان، فالإيمان هو التصديق، أن يصدق العبد باللّه وملائكته وما أنزل اللّه من كتاب، وما أرسل من رسول، وباليوم الآخر . وسألت عن التصديق، والتصديق : أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه عرف أنه ذنب، واستغفر اللّه وتاب منه ولم يصر عليه، فذلك/ هو التصديق . وتسأل عن الدين، فالدين هو العبادة، فإنك لن تجد رجلاً من أهل الدين ترك عبادة أهل دين، ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له . وتسأل عن العبادة، والعبادة هي الطاعة، ذلك أنه من أطاع اللّه فيما أمره به وفيما نهاه عنه، فقد آثر عبادة اللّه، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله، فقد عبد الشيطان، ألا ترى أن اللّه قال للذين فرطوا : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } [ يس : 60 ] ، وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم .
وقال أسد بن موسى : حدثنا الوليد بن مسلم الأوزاعي،حدثنا حسان بن عطية قال : الإيمان في كتاب اللّه صار إلى العمل،قال اللّه تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية [ الأنفال : 2 ] . ثم صيرهم إلى العمل فقال : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ الأنفال : 3 ] . قال : وسمعت الأوزاعي يقول : قال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] ، والإيمان باللّه باللسان، والتصديق به العمل .(1/230)
وقال مَعْمَر عن الزهري : كنا نقول : الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، والإيمان قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر، وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله؛ فإن كان عمله أوزن من قوله صعد إلى اللّه؛ وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى اللّه، ورواه أبو عمرو الطلمنكي بإسناده/ المعروف . وقال معاوية بن عمرو : عن أبي إسحاق الفَزَارِيّ، عن الأوزاعي قال : لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة .
وكان من مضى من سلفنا، لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل . فمن آمن بلسانه،وعرف بقلبه، وصدق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها . ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله كان في الآخرة من الخاسرين . وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف، أنهم يجعلون العمل مصدقاً للقول، ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه معاذ بن أسد : حدثنا الفضيل بن عياض، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد : أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان . فقال : ( الإيمان : الإقرار والتصديق بالعمل ) ، ثم تلا { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله :
{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] .
قلت : حديث أبي ذر هذا مروي من غير وجه، فإن كان هذا اللفظ هو لفظ الرسول، فلا كلام، وإن كانوا رووه بالمعنى، دل على أنه من المعروف في لغتهم أنه يقال : صدق قوله بعمله، وكذلك قال شيخ الإسلام الهروي : الإيمان تصديق كله .(1/231)
وكذلك الجواب الثاني : أنه إذا كان أصله التصديق، فهو تصديق/مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والحج قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص، وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، ويبقى النزاع لفظيًا : هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم ؟
ومما ينبغي أن يعرف : أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء ـ كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم ـ متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا : إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون : إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات، يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة . ويقولون ـ أيضًا ـ بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة، والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار . فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول، وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر اللّه ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج، والمعتزلة . وقول غلاة المرجئة الذين يقولون : ما نعلم أن أحداً منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله . وحكى عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام .(1/232)
/ويقال للخوارج : الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان، هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع، ولم يقتل أحداً إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد، فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة، فدل ذلك على أنه وإن نفي عنهم الإيمان، فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر .
وبسبب الكلام في [ مسألة الإيمان ] تنازع الناس، هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة، لكن الشارع زاد في أحكامها لا في معنى الأسماء ؟ ، وهكذا قالوا في اسم [ الصلاة ] و [ الزكاة ] و [ الصيام ] و [ الحج ] إنها باقية في كلام الشارع على معناها اللغوي، لكن زاد في أحكامها . ومقصودهم أن الإيمان هو مجرد التصديق وذلك يحصل بالقلب واللسان . وذهبت طائفة ثالثة إلى أن الشارع تصرف فيها تصرف أهل العرف . فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة .
والتحقيق أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة، كما يستعمل نظائرها، كقوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ، فذكر حجا خاصاً، وهو حج البيت،وكذلك قوله : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } [ البقرة : 158 ] فلم يكن/لفظ الحج متناولاً لكل قصد،بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه من غير تغيير اللغة، والشاعر إذا قال :
وأشهد من عوف حلولاً كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا(1/233)
كان متكلماً باللغة، وقد قيد لفظه بحج سب الزبرقان المزعفرا، ومعلوم أن ذلك الحج المخصوص دلت عليه الإضافة، فكذلك الحج المخصوص الذي أمر اللّه به دلت عليه الإضافة أو التعريف باللام؛ فإذا قيل : الحج فرض عليك، كانت لام العهد تبين أنه حج البيت . وكذلك [ الزكاة ] هي اسم لما تزكو به النفس، وزكاة النفس زيادة خيرها وذهاب شرها والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكو به النفس، كما قال تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } [ التوبة : 103 ] . وكذلك ترك الفواحش مما تزكو به، قال تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [ النور : 21 ] وأصل زكاتها بالتوحيد وإخلاص الدين للّه، قال تعالى : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] وهي عند المفسرين التوحيد .(1/234)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب، وسماها الزكاة المفروضة، فصار لفظ الزكاة إذا عرف باللام ينصرف إليها لأجل العهد، ومن الأسماء ما يكون أهل العرف نقلوه وينسبون ذلك إلى الشارع، مثل لفظ [ التيمم ] ، فإن اللّه تعالى قال : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] ، فلفظ [ التيمم ] استعمل في معناه المعروف في اللغة، فإنه أمر بتيمم الصعيد، ثم أمر بمسح الوجوه والأيدي منه، فصار لفظ التيمم في عرف الفقهاء يدخل فيه هذا المسح، وليس /هو لغة الشارع، بل الشارع فرق بين تيمم الصعيد وبين المسح الذي يكون بعده، ولفظ [ الإيمان ] أمر به مقيداً بالإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله،وكذلك لفظ [ الإسلام ] بالاستسلام للّه رب العالمين، وكذلك لفظ [ الكفر ] مقيداً، ولكن لفظ [ النفاق ] قد قيل : إنه لم تكن العرب تكلمت به، لكنه مأخوذ من كلامهم، فإن نفق يشبه خرج، ومنه : نفقت الدابة إذا ماتت، ومنه : نَافِقَاءُ اليِرْبُوع، والنفق في الأرض قال تعالى : { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ } [ الأنعام : 35 ] ، فالمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطناً بعد دخوله فيه ظاهراً، وقيد النفاق بأنه نفاق من الإيمان . ومن الناس من يسمى من خرج عن طاعة الملك منافقاً عليه، لكن النفاق الذي في القرآن هو النفاق على الرسول . فخطاب اللّه ورسوله للناس بهذه الأسماء كخطاب الناس بغيرها، وهو خطاب مقيد خاص لا مطلق يحتمل أنواعاً .(1/235)
وقد بين الرسول تلك الخصائص، والاسم دل عليها، فلا يقال : إنها منقولة، ولا أنه زيد في الحكم دون الاسم، بل الاسم إنما استعمل على وجه يختص بمراد الشارع، لم يستعمل مطلقاً، وهو إنما قال : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [ البقرة : 110 ] ، بعد أن عرَّفهم الصلاة المأمور بها، فكان التعريف منصرفاً إلى الصلاة التي يعرفونها لم يرد لفظ الصلاة وهم لا يعرفون معناه؛ ولهذا كل من قال في لفظ الصلاة : إنه عام للمعني اللغوي، أو إنه مجمل لتردده بين المعنى اللغوي والشرعي ونحو ذلك؛ فأقوالهم ضعيفة، فإن هذا اللفظ إنما ورد خبراً أو أمراً، فالخبر كقوله : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى } [ العلق : 9، 10 ] وسورة [ اقْرأ ] من أول ما نزل من القرآن، وكان/ بعض الكفار ـ إما أبو جهل أو غيره ـ قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقال : لئن رأيته يصلي لأطأن عنقه . فلما رآه ساجداً رأى من الهول ما أوجب نكوصه على عقبيه، فإذا قيل : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى } فقد علمت تلك الصلاة الواقعة بلا إجمال في اللفظ ولا عموم .
ثم إنه لما فرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج أقام النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات بمواقيتها صبيحة ذلك اليوم، وكان جبرائيل يؤم النبي صلى الله عليه وسلم . والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم . فإذا قيل لهم : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } عرفوا أنها تلك الصلاة، وقيل : إنه قبل ذلك كانت له صلاتان طرفي النهار، فكانت أيضاً معروفة، فلم يخاطبوا باسم من هذه الأسماء إلا ومسماه معلوم عندهم . فلا إجمال في ذلك،ولا يتناول كل ما يسمى حجاً ودعاءً وصوماً، فإن هذا إنما يكون إذا كان اللفظ مطلقاً، وذلك لم يرد .(1/236)
وكذلك [ الإيمان ] و [ الإسلام ] وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور، وإنما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهم يسمعون وقال : ( هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ) ؛ ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها، وهذا كما في الحديث الصحيح أنه قال : ( ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافاً ) . فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج، وكان ذلك/ مشهوراً عندهم فيمن يظهر حاجته بالسؤال، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه، تزول مسكنته بإعطاء الناس له، والسؤال له بمنزلة الحرفة، وهو وإن كان مسكيناً يستحق من الزكاة إذا لم يعط من غيرها كفايته، فهو إذا وجد من يعطيه كفايته لم يبق مسكيناً، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يعرف فيعطى . فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء، فإنه مسكين قطعاً، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله، وكذلك قوله : [ الإسلام هو الخمس ] ، يريد أن هذا كله واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل، لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل؛ ولهذا وصف الإسلام بهذا .(1/237)
وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا : أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور . وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدي الروايات عنه : أنه يكفر من ترك واحدة منها، وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك ـ كابن حبيب . وعنه رواية ثانية : لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط، ورواية ثالثة : لا يكفر إلا بترك الصلاة، والزكاة إذا قاتل الإمام عليها . ورابعة : لا يكفر إلا بترك الصلاة . وخامسة : لا يكفر بترك شيء منهن، وهذه أقوال معروفة للسلف . قال الحكم بن عتيبة : من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر . ومن ترك الحج متعمداً فقد كفر . ومن ترك صوم/ رمضان متعمداً فقد كفر . وقال سعيد بن جُبَيْر : من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر باللّه . ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر باللّه . ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر باللّه . وقال الضحاك : لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة، وقال عبد اللّه بن مسعود : من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له . رواهن أسد بن موسى .
وقال عبد اللّه بن عمرو : من شرب الخمر ممسياً أصبح مشركاً، ومن شربه مصبحاً أمسى مشركاً . فقيل لإبراهيم النَّخَعِي : كيف ذلك ؟ قال : لأنه يترك الصلاة . قال أبو عبد اللّه الأخنس في كتابه : من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان . ومما يوضح ذلك أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، كان في آخر الأمر بعد فرض الحج، والحج إنما فرض سنة تسع أو عشر .(1/238)
وقد اتفق الناس على أنه لم يفرض قبل ست من الهجرة، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بالإيمان . ولم يبين لهم معناه إلى ذلك الوقت، بل كانوا يعرفون أصل معناه وهذه المسائل لبسطها موضع آخر .
********
وجماع الأمر : أن الاسم الواحد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به،فلا يجب إذا أثبت أو نفى في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام،وهذا في/كلام العرب وسائر الأمم؛ لأن المعنى مفهوم . مثال ذلك : المنافقون قد يجعلون من المؤمنين في موضع، وفي موضع آخر يقال : ما هم منهم، قال الله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [ الأحزاب : 18، 19 ] ، فهنالك جعل هؤلاء المنافقين ـ الخائفين من العدو، الناكلين عن الجهاد، الناهين لغيرهم، الذامين للمؤمنين ـ منهم، وقال في آية أخرى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ التوبة : 56، 57 ] ، وهؤلاء ذنبهم أخف، فإنهم لم يؤذوا المؤمنين لا بنهي ولا سلق بألسنة حداد، ولكن حلفوا بالله أنهم من المؤمنين في الباطن بقلوبهم، وإلا فقد علم المؤمنون أنهم منهم في الظاهر، فكذبهم الله وقال : { وَمَا هُم مِّنكُمْ } وهناك قال : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } .(1/239)
فالخطاب لمن كان في الظاهر مسلمًا مؤمنًا وليس مؤمنًا، بأن منكم من هو بهذه الصفة، وليس مؤمنًا بل أحبط الله عمله، فهو منكم في الظاهر لا الباطن .
ولهذا لما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل بعض المنافقين قال : ( لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ) ؛ فإنهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق/ كالذين علموا سنته الناس وبلغوها إليهم وقاتلوا المرتدين بعد موته، والذين بايعوه تحت الشجرة وأهل بدر وغيرهم، بل الذين كانوا منافقين غمرتهم الناس .
وكذلك الأنساب، مثل كون الإنسان أبًا لآخر أو أخاه، يثبت في بعض الأحكام دون بعض،فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه لما اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زَمْعَة بن الأسود، في ابن وليدة زمعة، وكان عتبة بن أبي وقاص قد فجر بها في الجاهلية وولدت منه ولدًا، فقال عتبة لأخيه سعد : إذا قدمت مكة فانظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني،فاختصم فيه هو وعبد بن زمعة إلى النبي صلىالله عليه وسلم فقال سعد : يا رسول الله، ابن أخي عتبة عهد إلىَّ أخي عتبة فيه إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه ابني، ألا ترى يا رسول الله شبهه بعتبة ؟ فقال عبد : يا رسول الله، أخي وابن وليدة أبي؛ ولد على فراش أبي، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم شبهًا بينًا بعتبة فقال : ( هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة ) لما رأى من شبهه البين بعتبة .(1/240)
فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم ابن زمعة لأنه ولد على فراشه، وجعله أخًا لولده بقوله : ( فهو لك يا عبد بن زمعة ) ، وقد صارت سودة أخته يرثها وترثه؛ لأنه ابن أبيها زمعة ولد على فراشه، ومع هذا فأمرها النبي/ صلى الله عليه وسلم أن تحتجب منه لما رأى من شبهه البين بعتبة، فإنه قام فيه دليلان متعارضان : الفراش والشبه، والنسب في الظاهر لصاحب الفراش أقوى، ولأنها أمر ظاهر مباح والفجور أمر باطن لا يعلم ويجب ستره لا إظهاره، كما قال : ( للعاهر الحجر ) كما يقال : بِفيِكَ الكَثْكَث وبفيك الأثْلَب، أي : عليك أن تسكت عن إظهار الفجور، فإن الله يبغض ذلك، ولما كان احتجابها منه ممكنًا من غير ضرر، أمَرها بالاحتجاب لما ظهر من الدلالة على أنه ليس أخاها في الباطن .
********
والمقصود هنا أن الاستثناء في الإيمان لما علل بمثل تلك العلة، طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين، بناء على أن الأشياء الموجودة الآن إذا كانت في علم الله تتبدل أحوالها؛ فيستثنى في صفاتها الموجودة في الحال،ويقال : هذا صغير إن شاء الله؛ لأن الله قد يجعله كبيرًا ويقال : هذا مجنون إن شاء الله؛ لأن الله قد يجعله عاقلاً، ويقال للمرتد : / هذا كافر إن شاء الله لإمكان أن يتوب، وهؤلاء الذين استثنوا في الإيمان بناء على هذا المأخذ، ظنوا هذا قول السلف .(1/241)
وهؤلاء وأمثالهم من أهل الكلام، ينصرون ما ظهر من دين الإسلام، كما ينصر ذلك المعتزلة والجهمية وغيرهم من المتكلمين، فينصرون إثبات الصانع والنبوة والمعاد ونحو ذلك . وينصرون مع ذلك ما ظهر من مذاهب أهل السنة والجماعة، كما ينصر ذلك الكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم، ينصرون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة وأن أهل القبلة لا يكفرون بالذنب ولا يخلدون في النار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم له شفاعة في أهل الكبائر وأن فتنة القبر حق وعذاب القبر حق، وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة حق، وأمثال ذلك من الأقوال التي شاع أنها من أصول أهل السنة والجماعة، كما ينصرون خلافة الخلفاء الأربعة، وفضيلة أبي بكر وعمر ونحو ذلك .
وكثير من أهل الكلام في كثير مما ينصره لا يكون عارفًا بحقيقة دين الإسلام في ذلك، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف . فينصر ما ظهر من قولهم، بغير المآخذ التي كانت مآخذهم في الحقيقة بل بمآخذ أخر قد تلقوها عن غيرهم من أهل البدع، فيقع في كلام هؤلاء من التناقض والاضطراب والخطأ ما ذم به السلف مثل هذا الكلام وأهله، فإن كلامهم في ذم مثل هذا الكلام كثير . والكلام المذموم هو المخالف للكتاب والسنة، وكل ما خالف/ الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فهو مخالف للشرع والعقل، { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] .(1/242)
فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلاّ على هذا الأصل، وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان، هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث . ومثل هذا يوجد كثيرًا في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار، وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف، فيقول ـ من عرف حجة هؤلاء دون السلف، أو من يعظمهم، لما يراه من تميزهم عليه : هذا قول المحققين . وقال المحققون : ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع، وهذا كثيرًا ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين، ومن آتاه الله علمًا وإيمانًا، علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق، إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات، وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائمًا أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله .
كتاب الإيمان الأوسط
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
/وقال الشيخ العالم العامل الورع الناسك، شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الشامي ـ رحمه الله :
فصل
تضمن حديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن [ الإسلام ] و [ الإيمان ] و [ الإحسان ] وجوابه عن ذلك، وقوله في آخر الحديث : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) .
فجعل هذا كله من الدين .(1/243)
وللناس في [ الإسلام ] ، و [ الإيمان ] من الكلام الكثير، مختلفين تارة، ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك، وهذا يكون بأن تبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها .
فنقول : ما علم من الكتاب، والسنة، والإجماع، وهو من المنقول نقلاً متواترًا /عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ـ دين النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن الناس كانوا على عهده بالمدينة ثلاثة أصناف : مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق ظاهره الإسلام وهو في الباطن كافر .
ولهذا التقسيم أنزل الله في أول سورة البقرة ذكر الأصناف الثلاثة، فأنزل أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين . فقوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 2 : 5 ] في صفة المؤمنين .
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآيتين [ البقرة : 6، 7 ] في صفة الكفار الذين يموتون كفارًا .
وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } الآيات [ البقرة : 8 : 20 ] في صفة المنافقين،إلى أن ضرب لهم مثلين : أحدهما بالنار،والآخر بالماء، كما ضرب المثل بهذين للمؤمنين في قوله تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الآية [ الرعد : 17 ](1/244)
/وأما قبل الهجرة فلم يكن الناس إلا مؤمن أو كافر، لم يكن هناك منافق فإن المسلمين كانوا مستضعفين، فكان من آمن آمن باطنًا وظاهرًا، ومن لم يؤمن فهو كافر . فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وصار للمؤمنين بها عز وأنصار، ودخل جمهور أهلها في الإسلام طوعًا واختيارًا، كان بينهم من أقاربهم ومن غير أقاربهم من أظهر الإسلام موافقة، ورهبة أو رغبة وهو في الباطن كافر . وكان رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول، وقد نزل فيه وفي أمثاله من المنافقين آيات .
والقرآن يذكر المؤمنين والمنافقين في غير موضع، كما ذكرهم في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وسورة العنكبوت،والأحزاب . وكان هؤلاء في أهل المدينة والبادية، كما قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] . وكان في المنافقين من هو في الأصل من المشركين، وفيهم من هو في الأصل من أهل الكتاب .(1/245)
وسورة الفتح، والقتال، والحديد، والمجادلة، والحشر، والمنافقين، بل عامة السور المدنية يذكر فيها المنافقين . قال تعالى في سورة آل عمران : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } إلى قوله : { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ } الآيات [ آل عمران : 165 : 167 ] ، وقال فيها أيضًا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } إلى قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ آل عمران : 118 : 120 ] .(1/246)
وقال تعالى في سورة النساء : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } إلى قوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 60 : 65 ] ، وقال : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } الآيات [ النساء : 88 : 90 ] وقال : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا } إلى قوله : / { إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ(1/247)
نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ } إلى قوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } إلى قوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 138 : 146 ] .(1/248)
وقال تعالى في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } [ المائدة : 41 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إلى قوله : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } : [ المائدة : 51 : 53 ] .(1/249)
/وقال تعالى : { وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 61، 62 ] ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } إلى قوله : { تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 77 : 81 ] .(1/250)
وأما سورة براءة، فأكثرها في وصف المنافقين وذمهم؛ ولهذا سميت : الفاضحة، والمبعثرة، وهي نزلت عام تبوك، وكانت تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت غزوة تبوك آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، التي غزاها بنفسه، وتميز فيها من المنافقين من تميز، فذكر الله من صفاتهم ما ذكره في هذه السورة، وقد قال تعالى في سورة النور : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } إلى قوله : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الآيات [ النور : 47،5 ] وقال تعالى في سورة العنكبوت : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 10، 11 ] .(1/251)
وقال تعالى في سورة الأحزاب : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ الأحزاب : 1 ] وذكر فيه شأنهم في الأحزاب، وذكر من أقوال المنافقين وجبنهم وهلعهم، كما قال تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } إلى قوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 12 : 20 ] ، وقال تعالى : { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } إلى قوله : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ الأحزاب : 60 : 73 ] .(1/252)
وقال تعالى في سورة القتال : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 29، 30 ] إلى ما في السورة من نحو ذلك .(1/253)
/وقال تعالى في سورة الفتح : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [ الفتح : 4، 6 ] ،وقال تعالى في سورة الحديد : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ } [ الحديد : 12 : 15 ] .(1/254)
وقال في سورة المجادلة : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } إلى قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } إلى آخر السورة [ المجادلة : 7 : 16 ] ، وقوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ } كقوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] ،وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المنافق كمثل الشاة العَائِرَة بين الغَنَمَيْن، تَعِيرُ إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ) .(1/255)
وقال تعالى : { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ } الآية [ الحشر : 11 : 13 ] ، وقد ذكر في سورة المنافقين في قوله : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } إلى آخر السورة [ المنافقون : 1 : 11 ] .(1/256)
والمقصود بيان كثرة ما في القرآن من ذكر المنافقين وأوصافهم . والمنافقون : هم في الظاهر مسلمون، وقد كان المنافقون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمون أحكام الإسلام الظاهرة ـ لاسيما في آخر الأمر ـ ما لم يلتزمه كثير من المنافقين الذين من بعدهم؛ لعز الإسلام وظهوره إذ ذاك بالحجة والسيف، تحقيقًا لقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ الصف : 9 ] ، ولهذا قال حذيفة بن اليمان ـ وكان من أعلم الصحابة بصفات المنافقين وأعيانهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إليه عام تبوك أسماء جماعة من المنافقين بأعيانهم، فلهذا كان يقال : هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره . ويروى أن عمر ابن الخطاب لم يكن يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة؛لئلا يكون من المنافقين الذين نهى عن الصلاة عليهم، قال حذيفة رضي الله عنه : النفاق اليوم أكثر منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية : كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسرونه، واليوم يظهرونه . وذكر البخاري في صحيحه عن ابن أبي مُلَيْكَة قال : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقد أخبر الله عن المنافقين أنهم يصلون ويزكون وأنه لا يقبل ذلك منهم .(1/257)
وقال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 53،54 ] ، وقد كانوا يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم مغازيه كما شهد عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من المنافقين الغزوة التي قال فيها عبد الله بن أبي : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] وأخبر بذلك زيد بن أرقم النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبه قوم، حتى أنزل الله القرآن بتصديقه .
والمقصود أن الناس ينقسمون في الحقيقة إلى : مؤمن، ومنافق كافر في الباطن مع كونه مسلمًا في الظاهر، وإلى كافر باطنًا وظاهرًا .
ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ الزنديق، وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق : هل تقبل توبته ؟ في الظاهر : إذا عرف بالزندقة، ودفع إلى ولي الأمر قبل توبته، فمذهب مالك وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة : أن توبته لا تقبل . والمشهور من مذهب الشافعي : قبولها، كالرواية الأخرى عن أحمد، وهو القول الآخر في مذهب أبي حنيفة، ومنهم من فصل .(1/258)
والمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينًا من الأديان ـ كدين اليهود والنصارى أو غيرهم أو كان معطلاً جاحدًا للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة .
ومن الناس من يقول : الزنديق : هو الجاحد المعطل . وهذا يسمى/الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس، ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه : هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره، وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان، بقوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [ التوبة : 37 ] وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله : { الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } [ النحل : 88 ] .
فهذا أصل ينبغي معرفته، فإنه مهم في هذا الباب . فإن كثيرًا ممن تكلم في مسائل الإيمان والكفر ـ لتكفير أهل الأهواء ـ لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن تدبر هذا، علم أن كثيرًا من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنًا مخطئًا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منافقًا زنديقًا يظهر خلاف ما يبطن .(1/259)
وهنا أصل آخر، وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان، فقال تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 14 ] ، وقال تعالى في قصة قوم لوط : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } [ الذاريات : 35، 36 ] وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، وعارضوا بين الآيتين، وليس كذلك، بل هذه الآية توافق الآية الأولى؛ لأن الله أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمنًا، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين .
وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا؛ بل كانت من الغابرين، الباقين في العذاب، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، وفي الباطن مع قومها علي دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه، كما قال الله تعالى فيها : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] . وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش فإنه ما بغت امرأة نبي قط؛ إذ نكاح الكافرة قد يجوز في بعض الشرائع، ويجوز في شريعتنا نكاح بعض الأنواع وهن الكتابيات، وأما نكاح البغي فهو دِيَاثَة، وقد صان الله النبي عن أن يكون دَيُّوثًا؛ ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء بتحريم نكاح البغي حتى تتوب .(1/260)
/والمقصود أن امرأة لوط لم تكن مؤمنة، ولم تكن من الناجين المخرجين، فلم تدخل في قوله : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 35 ] ، وكانت من أهل البيت المسلمين وممن وجد فيه؛ ولهذا قال تعالى : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } [ الذاريات : 36 ] ، وبهذا تظهر حكمة القرآن؛ حيث ذكر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر بالوجود . وأيضًا فقد قال تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ الأحزاب : 35 ] . ففرق بين هذا وهذا . فهذه ثلاثة مواضع في القرآن .
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا، ولم يعط رجلا . فقلت : يا رسول الله أعطيت فلانًا وتركت فلانًا، وهو مؤمن فقال : ( أو مسلم ؟ ) قال : ثم غلبني ما أجد، فقلت : يا رسول الله أعطيت فلانًا وفلانًا، وتركت فلانًا وهو مؤمن . فقال ( أو مسلم ؟ ) مرتين أو ثلاثًا،وذكر في تمام الحديث أنه يعطي رجالا،ويدع من هو أحب إليه منهم؛خشية أن يكبهم الله في النار على مناخرهم .
قال الزهري : فكانوا يرون أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، فأجاب سعدًا بجوابين، أحدهما : أن هذا الذي شهدت له بالإيمان قد يكون مسلمًا لا مؤمنًا . الثاني : إن كان مؤمنًا، وهو أفضل من أولئك فأنا قد أعطى من هو أضعف إيمانًا؛ لئلا يحمله الحرمان على الردة، فيكبه الله في/ النار على وجهه . وهذا من إعطاء المؤلفة قلوبهم .(1/261)
وحينئذ، فهؤلاء الذين أثبت لهم القرآن والسنة الإسلام دون الإيمان هل هم المنافقون الكفار في الباطن ؟ أم يدخل فيهم قوم فيهم بعض الإيمان ؟ هذا مما تنازع فيه أهل العلم على اختلاف أصنافهم . فقالت طائفة من أهل الحديث والكلام وغيرهم : بل هم المنافقون الذين استسلموا، وانقادوا في الظاهر ولم يدخل إلى قلوبهم شيء من الإيمان .
وأصحاب هذا القول قد يقولون : الإسلام المقبول هو الإيمان، ولكن هؤلاء أسلموا ظاهرًا لا باطنًا فلم يكونوا مسلمين في الباطن ولم يكونوا مؤمنين . وقالوا : إن الله ـ سبحانه ـ يقول : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] بيانه : كل مسلم مؤمن، فما ليس من الإسلام، فليس مقبولاً يوجب أن يكون الإيمان منه، وهؤلاء يقولون : كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، إذا كان مسلمًا في الباطن . وأما الكافر المنافق في الباطن، فإنه خارج عن المؤمنين المستحقين للثواب باتفاق المسلمين .
ولا يسمون بمؤمنين عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا عند أحد من طوائف المسلمين، إلا عند طائفة من المرجئة، وهم الكَرّامية الذين قالوا : إن الإيمان هو مجرد التصديق في الظاهر، فإذا فعل ذلك كان مؤمنًا وإن كان مكذبًا في الباطن، وسلموا أنه معذب مخلد في الآخرة، فنازعوا في اسمه لا في/ حكمه، ومن الناس من يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة، وهو غلط عليهم . ومع هذا فتسميتهم له مؤمنًا بدعة ابتدعوها، مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية، دون سائر مقالاتهم .(1/262)
قال الجمهور من السلف والخلف : بل هؤلاء الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان، قد لا يكونون كفارًا في الباطن، بل معهم بعض الإسلام المقبول . وهؤلاء يقولون : الإسلام أوسع من الإيمان؛ فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا . ويقولون : في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) ؛ أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام . ودوروا للإسلام دارة، ودوروا للإيمان دارة أصغر منها في جوفها، وقالوا : إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر .
ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 14 : 17 ] .(1/263)
فقد قال تعالى : { لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وهذا الحرف ـ أي [ لما ] ، ينفي به ما قرب وجوده، وانتظر وجوده، ولم يوجد بعد . فيقول لمن ينتظر غائبًا أي : [ لما ] ، ويقول : قد جاء لما يجيء بعد . فلما قالوا : { آمنا } قيل : { لَّمْ تُؤْمِنُوا } بعد، بل الإيمان مرجو منتظر منهم . ثم قال : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم } أي : لا ينقصكم من أعمالكم المثبتة { شّيًئْا } ، أي : في هذه الحال؛ فإنه لو أرادوا طاعة الله ورسوله بعد دخول الإيمان في قلوبهم لم يكن في ذلك فائدة لهم ولا لغيرهم؛ إذ كان من المعلوم أن المؤمنين يثابون على طاعة الله ورسوله وهم كانوا مقرين به . فإذا قيل لهم : المطاع يثاب، والمراد به المؤمن الذي يعرف أنه مؤمن، لم يكن فيه فائدة جديدة .(1/264)
و أيضًا، فالخطاب لهؤلاء المخاطبين قد أخبر عنهم لما يدخل في قلوبهم وقيل لهم : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } فلو لم يكونوا في هذه الحال مثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب، فبين ذلك أنه وصف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ، وهذا نعت محقق الإيمان، لا نعت من معه مثقال ذرة من إيمان، كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2 : 4 ] ،وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ النور : 62 ] ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) . وأمثال ذلك .
فدل البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب،هو هذا الإيمان الذي نفى عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار،بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفى هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار .(1/265)
وبتحقق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع،ويعلم أن في المسلمين قسمًا ليس هو منافقًا محضًا في الدرك الأسفل من النار،وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ولامن الذين قيل فيهم { أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فلاهم منافقون،ولا هم/ من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقًا، ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب . بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات . ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار، وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار . وهذا القسم قد يسميه بعض الناس : الفاسق الملِّي، وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه . والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين .
فنقول : لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وسار علي بن أبي طالب إلى العراق، وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل، ثم يوم صِفِّين ما هو مشهور، خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم وذكر حكمهم، قال الإمام أحمد : صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وهذه العشرة أخرجها مسلم في صحيحه موافقة لأحمد، وروى البخاري منها عدة أوجه، وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر .(1/266)
ومن أصح حديثهم حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب أنه قال : إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض، أحب إلى من أن أكذب عليه، وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خِدْعَة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيخرج قوم في آخر الزمان /أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية،لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن بذُهَيْبَة في آدَمٍ مقروض، لم تُحَصَّلْ من ترابها فقال : فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه : كنا أحق بهذا من هؤلاء، قال : فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً ) قال : فقام رجل غَائِر العينين، مُشْرِف الوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزَ الجبهة، كَثَّ اللحية، محلوق الرأس، مُشَمِّر الإزار، فقال : يا رسول الله اتق الله، فقال : ( ويلك ! أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ ! ) . قال : ثم ولى الرجل،فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله،ألا أضرب عنقه ؟ فقال : ( لا،لعله أن يكون يصلي ) قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس؛ولا أشق بطونهم ) ،قال : ثم نظر إليه وهو مقف فقال : ( إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا،لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة ) قال : أظنه قال : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) . اللفظ لمسلم .(1/267)
/ولمسلم في بعض الطرق عن أبي سعيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قومًا يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق، ثم قال : ( شر الخلق ـ أو من شر الخلق ـ يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ) . قال أبو سعيد : أنتم قتلتموهم يا أهل العراق، وفي لفظ له : ( تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق ) ، وهذا الحديث مع ما ثبت في الصحيح عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي : ( إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين ) ، فبين أن كلا الطائفتين كانت مؤمنة، وأن اصطلاح الطائفتين كما فعله الحسن، كان أحب إلى الله ـ سبحانه ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم من اقتتالهما، وأن اقتتالهما وإن لم يكن مأمورًا به، فعلي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وإن قتال الخوارج مما أمر به صلى الله عليه وسلم؛ولذلك اتفق على قتالهم الصحابة والأئمة .
وهؤلاء الخوارج لهم أسماء، يقال لهم : الحَرُورِيَّة لأنهم خرجوا بمكان يقال له : حَرُوراء،ويقال لهم : أهل النَّهْرَوَان؛ لأن عليًا قاتلهم هناك . ومن أصنافهم : الأبَاضِيَّة أتباع عبد الله بن أباض،والأزارقة أتباع نافع بن الأزرق،والنَّجَدَات أصحاب نَجْدَة الحروري .(1/268)
وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك، فكانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم : / ( يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان ) ، وكفروا علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان ومن والاهما، وقتلوا علي ابن أبي طالب مستحلين لقتله، قتله عبد الرحمن بن مِلْجَم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة، لكن كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة، فقال هؤلاء : ما الناس إلا مؤمن أو كافر، والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر، مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك، فقالوا : إن عثمان وعليًا ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفارًا .
ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإن الله ـ سبحانه ـ أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرًا مرتدًا لوجب قتله؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من بَدَّل دينه فاقتلوه ) . وقال : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كُفْرٌ بعد إسلام،وزِنًا بعد إحصان،أو قتل نفس يقتل بها ) وأمر ـ سبحانه ـ بأن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما،وأمر ـ سبحانه ـ بأن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة،ولو كان كافرًا لأمر بقتله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله، بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره، أن رجلاً كان يشرب الخمر، وكان اسمه عبد الله حمارًا، وكان يُضْحِك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتى به إليه جلده،فأتى به إليه مرة فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : / ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) ، فنهى عن لعنه بعينه وشهد له بحب الله ورسوله، مع أنه قد لعن شارب الخمر عمومًا .(1/269)
وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب في الثالثة والرابعة منسوخ؛ لأن هذا أتى به ثلاث مرات، وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، فيجوز أن يقال : يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حدًا مقدرًا في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ترجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة،كغيرها من أنواع التعزير، وكذلك صفة الضرب، فإنه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، بخلاف الزاني والقاذف فيجوز أن يقال : قتله في الرابعة من هذا الباب .
وأيضًا فإن الله ـ سبحانه ـ قال : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 9، 10 ] فقد وصفهم بالإيمان والأخوة، وأمرنا بالإصلاح بينهم .(1/270)
فلما شاع في الأمة أمر الخوارج، تكلمت الصحابة فيهم، ورووا عن/ النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم، وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم، وظهرت بدعتهم في العامة، فجاءت بعدهم المعتزلة ـ الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري وهم : عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء الغزال، وأتباعهما ـ فقالوا : أهل الكبائر مخلدون في النار، كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفارًا، بل فساق، ننزلهم منزلة بين منزلتين، وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج من النار بعد أن يدخلها . قالوا : ما الناس إلا رجلان : سعيد لا يعذب، أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان : كافر، وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارًا .
وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما ردوا به على الخوارج . فيقال لهم : كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له،وكافر لا حسنة له، قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له،فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة وهو مخلد في النار، لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق، كما يستحقها المرتد، فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق . وقد قال تعالى في كتابه : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] ، فجعل ما دون ذلك الشرك معلقًا بمشيئته .
ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب فإن التائب لا فرق في حقه بين/ الشرك وغيره، كما قال ـ سبحانه ـ في الآية الأخرى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق .(1/271)
وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 32 : 35 ]
فقد قسم ـ سبحانه ـ الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها ثلاثة أصناف : ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل : [ الإسلام ] و [ الإيمان ] و [ الإحسان ] ، كما سنذكره إن شاء الله .(1/272)
ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصدًا، أو سابقًا، كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، فلابد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر : أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزي به، ويكفر عنه خطاياه، كما في الصحيحين /عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزَن، ولا غَمٍّ، ولا أذًى، حتى الشوكة يُشَاكُهَا، إلا كَفَّر الله بها من خطاياه ) ،وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] قال أبو بكر : يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا، فقال : ( يا أبا بكر، ألست تَنْصَب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فذلك مما تجزون به ) .
وأيضًا، فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار . وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين : [ الوعيدية ] الذين يقولون : من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى [ المرجئة الواقفة ] الذين يقولون : لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد، أم لا ؟ ! كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره . وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا : لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد، فلا نعرف قائلاً مشهورًا من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول .(1/273)
وأيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنته، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك . وأيضًا، فإن الذين قذفوا عائشة أم/ المؤمنين كان فيهم مُسْطَح بن أثاثَة، وكان من أهل بدر، وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر ألا يصله : { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [ النور : 22 ] . وإن قيل : إن مسطحًا وأمثاله تابوا، لكن الله لم يشرط في الأمر بالعفو عنهم، والصفح والإحسان إليهم التوبة . وكذلك حَاطِبُ بن أبي بَلْتَعَةَ كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد عمر قتله، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله قد اطَّلَعَ على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم ) .
وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : ( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ) وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات ولم يشترط مع ذلك توبة، وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل . وإذا قيل : إن هذا لأن أحدًا من أولئك لم يكن له إلا صغائر، لم يكن ذلك من خصائصه أيضًا . وأن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم، وأيضًا قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب :(1/274)
أحدها : التوبة،وهذا متفق عليه بين المسلمين، قال تعالى : / { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة : 104 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } [ الشورى : 25 ] . وأمثال ذلك .
السبب الثاني : الاستغفار، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أذنب عبد ذنبًا فقال : أي رب، أذنبت ذنبًا فاغفرلي . فقال : علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي . ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال : أي رب، أذنبت ذنبًا آخر فاغفره لي، فقال ربه : علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء ) ، قال ذلك في الثالثة، أو الرابعة، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال : ( لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولَجَاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون فيغفر لهم ) .(1/275)
وقد يقال على هذا الوجه : الاستغفار هو مع التوبة، كما جاء في حديث : ( ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم مائة مرة ) ،وقد يقال : بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب، وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين، الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب، كما في حديث البطاقة بأن قول : لا إله/ إلا الله ثقلت بتلك السيئات؛ لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقى الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير .
السبب الثالث : الحسنات الماحية، كما قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفِّرَاتٌ لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر ) ، وقال : ( من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، وقال : ( من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، وقال : ( من حج هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ،وقال : ( فتنة الرجل في أهله وماله وولده، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) . وقال : ( من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار حتى فرجه بفرجه ) . وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح . وقال : ( الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) .
وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا : الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث : ( ما اجتنبت الكبائر ) ،فيجاب عن هذا بوجوه :(1/276)
/أحدها : أن هذا الشرط جاء في الفرائض، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصيام شهر رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله ـ سبحانه ـ يقول : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7، 8 ] .
الثاني : أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( غفر له وإن كان فَرَّ من الزَّحْفِ ) . وفي السنن : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب . فقال : ( اعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار ) . وفي الصحيحين في حديث أبي ذر : ( وإن زنا، وإن سرق ) .
الثالث : أن قوله لأهل بدر ونحوهم : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) إن حمل على الصغائر، أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم . فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر، لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر .(1/277)
الرابع : أنه قد جاء في غير حديث : ( أن أول ما يحاسب عليه العبد من/ عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل : انظروا، هل له من تَطَوُّع، فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر أعماله كذلك ) . ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب، فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جُبْرَان، ولأنه ـ حينئذ ـ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات . وهذا لا ينافي من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، مع أن هذا لو كان معارضًا للأول لوجب تقديم الأول لأنه أثبت وأشهر، وهذا غريب رفعه، وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر لعمر، وقد ذكره أحمد في [ رسالته في الصلاة ] .
وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها . ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبرًا لها وإكمالا لها . فلم يكن فيها ثواب نافلة، ولهذا قال بعض السلف : النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج إلى المغفرة، وتأول على هذا قوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] . وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقًا، بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة .
********(1/278)
وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ; ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما ; لأنهما عبادتان ; بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد ; فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم، وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وأما الصلاة والزكاة، فأمر ظاهر لا يمكن الإنسان بين المؤمنين أن يمتنع من ذلك . وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإسلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل عليها الناس، ويصيرون مسلمين بفعلها ; فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان الصوم واجبا، كما في آيتي براءة، فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس .
وكذلك ( لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له : إنك تأتي قوما أهل كتاب ; فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك ; فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ; فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) أخرجاه في الصحيحين .
ومعاذ أرسله إلى اليمن في آخر الأمر بعد فرض الصيام ; بل بعد فتح مكة بل بعد تبوك وبعد فرض الحج والجزية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات ومعاذ باليمن وإنما قدم المدينة بعد موته ; ولم يذكر في هذا الحديث الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج ; لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة .(1/279)
ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه الفرائض الأربع بعد الاقرار بوجوبها؛ فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهوكافر بإتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وائمتها، وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة : كجهم والصالحى وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن؛ وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة . وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الايمان الباطن تصديقا وحبا وإنقيادا بدون الإقرار الظاهر ممتنع .
وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الاسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل . وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد :
أحدها : أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد إختارها أبو بكر
والثاني : أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الاقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره .(1/280)
والثالث : لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من
السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعى، وطائفة من أصحاب أحمد .
والرابع : يكفر بتركها وترك الزكاة فقط .
والخامس : بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج وهذه المسألة لها طرفان :
أحدهما : في إثبات الكفر الظاهر .
والثاني : في إثبات الكفر الباطن .
فأما الطرف الثاني : فهو مبنى على مسألة كون الايمان قولا وعملا؛ كما تقدم ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } [ القلم : 42، 43 ] . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما،(1/281)
في الحديث الطويل، حديث التجلي ( أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود ) فإذا كان هذا حال من سجد رياء، فكيف حال من لم يسجد قط؛ وثبت أيضا في الصحيح ( أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء الا موضع السجود فان الله حرم على النار أن تأكله ) فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله؛ وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فدل على أن من لم يكن غرا محجلا لم يعرفه النبى صلى الله عليه وسلم، فلا يكون من أمته وقوله تعالى : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 46 : 49 ](1/282)
وقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } [ الإنشقاق : 21 : 23 ] وكذلك قوله تعالى : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ القيامة : 31، 32 ] وكذلك قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 42 : 47 ] فوصفه بترك الصلاة،كما وصفه بترك التصديق، ووصفه بالتكذيب والتولي و [ المتولي ] هو العاصي الممتنع من الطاعة . كما قال تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 16 ] وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين، وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 9 : 16 ]
وأيضا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فاذا انتفي ذلك انتفت الأخوة وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) وفي المسند ( من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة ) .(1/283)
وأيضا فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها فيقال : اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين .
وفي الصحيح ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا ) وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة .
وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك؛ مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله : ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه . . . أدخله الله الجنة ) ونحو ذلك من النصوص .
وأجود ما إعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ) .
قالوا : فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا؛ فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها، وعلى غيرها من الصلوات، وقد قال تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] فقيل لابن مسعود وغيره : ما إضاعتها ؟ فقال : تأخيرها عن وقتها . فقالوا : ما كنا نظن(1/284)
ذلك إلا تركها . فقال : لو تركوها لكانوا كفارا . وكذلك قوله : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4، 5 ] ذمهم مع أنهم يصلون، لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة،من فعلها في الوقت، وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) فجعل هذه صلاة المنافقين لكونه أخرها عن الوقت، ونقرها؛ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر؛ وقالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال : ( لا ما صلوا ) وثبت عنه أنه قال : ( سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ) فنهى عن قتالهم إذا صلوا، وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبى صلى الله عليه وسلم، إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها ولا يتناول من لم يحافظ، فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارا مرتدين بلا ريب، ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزما لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن قط لا يكون إلا كافرا، ولو قال : أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول : أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول : أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال : أنا مؤمن(1/285)
بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول؛ فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في [ مسألة الإيمان ] وأن الأعمال ليست من الإيمان وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم ايمان القلب،وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه .
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات، ويترك بعضها، كان معه من الايمان بحسب ما فعله، والإيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) . وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرا من الناس؛ بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا، ويدعون أحيانا، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الأسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإن هذه الاحكام إذا جرت على المنافق المحض ـ كابن أبي وأمثاله من المنافقين ـ فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى .(1/286)
وبيان [ هذا الموضع ] مما يزيل الشبهة، فإن كثيرا من الققهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف : مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر . وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه ـ كابن أبي وأمثاله ـ ومع هذا، فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته .
ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم : إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء، فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم، قاتلهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛/حيث قال : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،،وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) .(1/287)
فكانت الْحَرُورِيَّة قد ثبت قتالهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتفاق أصحابه، ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أنه قال للحسن ابنه : ( إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) ، وقال في الحديث الصحيح : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ) ،فدل بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال إما واجبًا أو مستحبًا، لم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم على ترك واجب أو مستحب، ودل الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج وهم علي وأصحابه، كان أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن قتال الخوارج أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين، الذي ليس فيه أمر من النبي .
والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه، لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدؤوهم بالقتال . والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار،وما من الأئمة إلا من حكى عنه في ذلك قولان،/كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد .(1/288)
والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا : إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف : من قال : القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال : إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول . فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته ـ كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ـ ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال : إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين . وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع .
/فإن قيل : فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن، فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر،فكيف يمكن مجاهدته ؟(1/289)
قيل : ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق، لابد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وقد قال تعالى في حق المنافقين : { وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] . فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات، وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة، عوقب على الظاهر، ولا يعاقب على ما يعلم من باطنه، بلا حجة ظاهرة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من المنافقين، من عرفه الله بهم، وكانوا يحلفون له وهم كاذبون، وكان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله . وأساس النفاق الذي بني عليه وأن المنافق لابد أن تختلف سريرته وعلانيته وظاهره وباطنه؛ ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] ، وقال : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] وأمثال هذا كثير، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] .
وبالجملة فأصل هذه المسائل : أن تعلم أن الكفر نوعان : كفر ظاهر،/وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة، كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا، فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين .(1/290)
وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد .
ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازمًا له، أو جزءًا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئًا خطأ بينًا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=162 - TOP#TOPفصل
وأما قول القائل : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ؟ واحتجاجه بالحديث المذكور .(1/291)
فيقال له : لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] ، وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [ النساء : 29، 30 ] ، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وبهذا، لا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فهؤلاء المشركون أرادوا أن يصدقوا بالوعد، ويكذبوا بالوعيد .
والحرورية والمعتزلة : أرادوا أن يصدقوا بالوعيد دون الوعد، وكلاهما أخطأ، والذي عليه أهل السنة والجماعة، الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد بين ـ سبحانه ـ أنه بشروط : بألا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وبألا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فإن الحسنات يذهبن/ السيئات وبألا يشاء الله أن يغفر له فـ { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] ، فهكذا الوعد له تفسير وبيان، فمن قال بلسانه : لا إله إلا الله، وكذب الرسول، فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئًا مما أنزل الله .(1/292)
فلابد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول، ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدًا، كان في النار، فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة، ومن كان له حسنات وسيئات، فإن الله لا يظلمه، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، والله ـ تعالى ـ قد يتفضل عليه، ويحسن إليه بمغفرته ورحمته .
ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار، فالزاني والسارق لا يخلد في النار، بل لابد أن يدخل الجنة، فإن النار يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهؤلاء المسؤول عنهم يسمون : القدرية المباحية المشركين، وقد جاء في ذمهم من الآثار ما يضيق عنه هذا المكان، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=163 - TOP#TOPفصل
إذا عرف هذا، فنقول : الصواب في قصة آدم وموسى، أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص؛ ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ لم يقل : لماذا خالفت الأمر ؟ ولماذا عصيت ؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . قال ابن مسعود أو غيره : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على/ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/293)
فأمره بالحرص على ما ينفعه وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة مقدرة ألا ينظر إلى القدر ولا يتحسر بتقدير لا يفيد، ويقول : قدر الله وما شاء فعل، ولا يقول : لو أني فعلت لكان كذا، فيقدر ما لم يقع، يتمني أن لو كان وقع؛ فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنًا لا يفيد، والتسليم للقدر هو الذي ينفعه، كما قال بعضهم : الأمر أمران : أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه .
ومازال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي .
فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي حتى مات، ولم يخلف لولده مالا، أو ظلم الناس بظلم صاروا لأجله يبغضون أولاده، ويحرمونهم ما يعطونه لأمثالهم، لكان هذا مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب فعل الأب، فإذا قال أحدهم لأبيه : أنت فعلت بنا هذا، قيل للابن : هذا كان مقدورًا /عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعله من الظلم والتبذير، ملوم علي ذلك، لا يرتفع عنه ذم الله وعقابه بالقدر السابق، فإن كان الأب قد تاب توبة نصوحًا وتاب الله عليه وغفر له، لم يجز ذمه ولا لومه بحال، لا من جهة حق الله، فإن الله قد غفر له، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله؛ إذ لم يكن هو ظالمًا لأولئك، فإن تلك كانت مقدرة عليهم .(1/294)
وهذا مثال قصة آدم : فإن آدم لم يظلم أولاده، بل إنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وإنما هبط آدم وحواء، ولم يكن معهما ولد حتى يقال : إن ذنبهما تعدي إلى ولدهما، ثم بعد هبوطهما إلى الأرض جاءت الأولاد، فلم يكن آدم قد ظلم أولاده ظلمًا يستحقون به ملامه، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر كان مقدرًا عليهم لا يستحقون به لوم آدم، وذنب آدم كان قد تاب منه، قال الله تعالى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ طه : 121، 122 ] ، وقال : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ، فلم يبق مستحقًا لذم ولا عقاب .
وموسى كان أعلم من أن يلومه لحق الله على ذنب قد علم أنه تاب منه، فموسى أيضًا فد تاب من ذنب عمله، وقد قال موسى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ الأعراف : 155 ] ، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن المذنب لا ملام عليه، فكيف وقد علم أن إبليس لعنه الله بسبب/ذنبه وهو ـ أيضًا ـ كان مقدرًا عليه،وآدم قد تاب من الذنب واستغفر، فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له عند ربه لاحتج ولم يتب ويستغفر .
وقد روى في الإسرائيليات أنه احتج به، وهذا مما لا يصدق به لو كان محتملا،فكيف إذا خالف أصول الإسلام، بل أصول الشرع والعقل، نعم إن كان ذكر القدر مع التوبة فهذا ممكن، لكن ليس فيما أخبر الله به عن آدم شيء من هذا، ولا يجوز الاحتجاج في الدين بالإسرائيليات إلا ما ثبت نقله بكتاب الله أو سنة رسوله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم ) .
وأيضًا فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له فلماذا أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض ؟ !
فإن قيل : وهو قد تاب، فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض ؟(1/295)
قيل : التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته، قال الله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ آل عمران : 89 ] في التائب من الردة، وقال في كاتم العلم : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 160 ] ، وقال : { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] ، وقال في القذف : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النور : 5 ] ، وقال : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [ الفرقان : 70، 71 ] ، وقال : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه : 82 ] .
ولما تاب كعب بن مالك وصاحباه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم حتى نسائهم ثمانين ليلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما رجمها : ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ) . وقد أخبر الله عن توبته على بني إسرائيل حيث قال لهم موسى : { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] .(1/296)
وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد يبتلى العبد من الحسنات والسيئات، والسراء والضراء بما يحصل معه شكره وصبره، أم كفره وجزعه وطاعته أم معصيته فالتائب أحق بالابتلاء، فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له، ووفقه الله في هبوطه لطاعته فكان حاله بعد الهبوط،خيرًا من حاله قبل الهبوط، وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له، فإنه لا يكون عليه ملام البتة ولا هناك توبة تقتضي أن يبتلى صاحبها ببلاء .
وأيضًا فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار : مثل قوم/ نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع ألا حجة لأحد في القدر، وأيضًا فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما يبين ذلك .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=163 - TOP#TOPفصل
فقد تبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببًا في مصيبتهم، وبهذا جاء الكتاب والسنة، قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] .(1/297)
وسواء في ذلك المصائب السمائية، والمصائب التي تحصل بأفعال الآدميين، قال تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } [ المزمل : 10 ] ، { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 34 ] ، وقال في سورة الطور بعد قوله : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ . أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ . قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ } إلى قوله : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ } وإلى قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ، { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [ الطور : 29-48 ] ، وقال تعالى : في سورة ن : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ . فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 46-48 ] .
وقد قيل في معناه : اصبر لما يحكم به عليك، وقيل : اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت، والأول أصح .
وحكم الله نوعان : خلق، وأمر .
فالأول : ما يقدره من المصائب .
والثاني : ما يأمر به وينهى عنه، والعبد مأمور بالصبر على هذا وعلى هذا، فعليه أن يصبر لما أمر به، ولما نهى عنه، فيفعل المأمور، ويترك المحظور، وعليه أن يصبر لما قدره الله عليه .(1/298)
وبعض المفسرين يقول : هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهذا يتوجه إن كان في الآية النهى عن القتال، فيكون هذا النهي منسوخًا، ليس جميع أنواع الصبر منسوخة، كيف والآية لم تتعرض لذلك هنا لا بنفي ولا إثبات ؟ ! بل الصبر واجب لحكم الله ما زال واجبًا، وإذا أمر بالجهاد فعليه أيضًا أن يصبر لحكم الله، فإنه يبتلى من قتالهم بما هو أعظم من، كلامهم، كما ابتلى به يوم أحد والخندق، وعليه حينئذ أن يصبر ويفعل ما أمر به من الجهاد .
/والمقصود هنا قوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ الطور : 48 ] ، فإن ما فعلوه من الأذى هو مما حكم به عليك قدرًا، فاصبر لحكمه وإن كانوا ظالمين في ذلك، وهذا الصبر أعظم من الصبرعلى ما جرى وفعل بالأنبياء، وقوله : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] ، وقال : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ } [ الأنبياء : 87 ] وسواء كان مغاضبًا لقومه أو لربه،فكانت مغاضبته من أمر قدر عليه،وبصبره صبر لحكم ربه الذى قدره وقضاه،وإن كان إنما تأذى من تكذيب الناس له .
وقالت الرسل لقومهم : {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ] ، وقال موسى لقومه لما قال فرعون : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ . قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 127، 128 ] ، وقال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] .(1/299)
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 41، 42 ] ، فهؤلاء ظلموا فصبروا على ظلم الظالم لهم، وسبب نزولها المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عامة في كل ما اتصف بهذه الصفة .
/و أصل المهاجر،من هجر ما نهى الله عنه كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من هجر السوء فظلمه الناس على ترك الكفر والفسوق والعصيان حتى أخرجوه ـ لا هجر بعض أمور في الدنيا ـ فصبر على ظلمهم،فإن الله يبوئه في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر، كيوسف الصديق فإنه هجر الفاحشة حتي ألجأه ذلك هجر منزله . واللبث في السجن بعد ما ظلم، فمكنه الله حتى تبوأ من الأرض حيث يشاء .(1/300)
وقال الذين لقوا الكفار : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } [ البقرة : 250، الأعراف : 126 ] ، وقال : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ . الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 65، 66 ] ، وقال : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] ، فهذا كله صبر على ما قدر من أفعال الخلق، والله سبحانه مدح في كتابه الصبار الشكور، قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5، لقمان : 31، سبأ : 19، الشورى : 33 ] في غير موضع .
فالصبر والشكر على ما يقدره الرب على عبده من السراء والضراء، من النعم والمصائب، من الحسنات التي يبلوه بها والسيئات، فعليه أن يتلقى المصائب بالصبر، والنعم بالشكر، ومن النعم ما ييسره له من أفعال الخير، ومنها ما هي خارجة عن أفعاله، فيشهد القدر عند فعله للطاعات، وعند إنعام الله عليه فيشكره /ويشهده عند المصائب فيصبر، وأما عند ذنوبه فيكون مستغفرا تائبًا، كما قال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] .
وأما من عكس هذا فشهد القدر عند ذنوبه، وشهد فعله عند الحسنات فهو من أعظم المجرمين، ومن شهد فعله فيهما فهو قدري، ومن شهد القدر فيهما ولم يعترف بالذنب ويستغفره فهو من جنس المشركين .(1/301)
وأما المؤمن فيقول : أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، كما في الحديث الصحيح الإلهي : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم متبعًا ما أمر به من الصبر على أذى الخلق، ففي الصحيحين عن عائشة قالت : ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له، ولا دابة، ولا شيء قط؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ) وقال أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لا فعلته ؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول : ( دعوه، دعوه، فلو قضى شيء لكان ) ، وفي السنن عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه ذكر للنبي/صلى الله عليه وسلم قول بعض من آذاه فقال : ( دعنا منك، فقد أوذي موسي بأكثر من هذا فصبر ) ، فكان يصبر على أذى الناس له من الكفار والمنافقين وأذى بعض المؤمنين، كما قال تعالى : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ } [ الأحزاب : 53 ] وكان يذكر : أن هذا مقدر .
والمؤمن مأمور بأن يصبر على المقدور، ولذلك قال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، فالتقوى فعل المأمور وترك المحظور، والصبر على أذاهم، ثم إنه حيث أباح المعاقبة قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ . وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 126، 127 ] .(1/302)
فأخبر أن صبره بالله، فالله هو الذي يعينه عليه، فإن الصبر على المكاره بترك الانتقام من الظالم ثقيل على الأنفس، لكن صبره بالله كما أمره أن يكون لله في قوله : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ المدثر : 7 ] ، لكن هناك ذكره في الجملة الطلبية الأمرية؛ لأنه مأمور أن يصبر لله لا لغيره، وهنا ذكره في الخبرية فقال : { وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } [ النحل : 127 ] ، فإن الصبر وسائر الحوادث لا تقع إلا بالله، ثم قد يكون ذلك وقد لا يكون، فمالا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، ولا يقال : واصبر بالله فإن الصبر لا يكون إلا بالله، لكن يقال : استعينوا بالله واصبروا فنستعين بالله على الصبر .
/وكما أن الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب، فهو مأمور بذلك عند ما ينعم الله عليه من فعل الطاعات، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له، وتحقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .
ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له علي فعل الطاعات، كقوله : ( أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) . وقوله : ( يامقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ويا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك ) ، وقوله : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] ، وقوله : { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } [ الكهف : 10 ] ، ومثل قوله : ( اللهم ألهمني رشدي واكفني شر نفسي ) .(1/303)
ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ، فهذا الدعاء أفضل الأدعية وأوجبها على الخلق، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة، وكذلك الدعاء، بالتوبة فإنه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة، وكذلك دعاء الاستخارة ، فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له، وكذلك الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به إذا قام من الليل وهو في الصحيح : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه /من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .
وكذلك الدعاء الذي فيه : ( اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا ) ، وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر، وكذلك قوله : ( اللهم أصلح لي قلبي ونيتي ) ، ومثل قول الخليل وإسماعيل : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً } [ البقرة : 128 ] .
وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء، شهد إنعام الله فيه، وكان في مقام الشكر والعبودية لله، وإن هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته .(1/304)
فشهود القدر في الطاعات من أنفع الأمور للعبد، وغيبته عن ذلك من أضر الأمور به، فإنه يكون قدريا منكرًا لنعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، وإن لم يكن قدري الاعتقاد كان قدري الحال، وذلك يورث العجب والكبر، ودعوى القوة والمنة بعمله، واعتقاد استحقاق الجزاء على الله به، فيكون من يشهد العبودية مع الذنوب والاعتراف بهاـ لا مع الاحتجاج بالقدر ـ عليها خيرًا من هذا الذي يشهد الطاعة منه، لا من إحسان الله إليه، ويكون أولئك المذنبون بما معهم من الإيمان، أفضل من طاعة بدون هذا الإيمان .
/وأما من أذنب وشهد ألا ذنب له أصلا لكون الله هو الفاعل، وعند الطاعة يشهد أنه الفاعل، فهذا شر الخلق، وأما الذي يشهد نفسه فاعلا للأمرين، والذي يشهد ربه فاعلاً للأمرين، ولا يرى له ذنبًا؛ فهذا أسوأ عاقبة من القدري، والقدري أسوأ بداية منه، كما هو مبسوط في موضع آخر .
والناس في هذا المقام أربعة أقسام : من يغضب لربه لا لنفسه، وعكسه، ومن يغضب لهما، ومن لا يغضب لهما، كما أنهم في شهود القدر أربعة أقسام : من يشهد الحسنة من فعل الله والسيئة من فعل نفسه، وعكسه، ومن يشهد الثنتين من فعل ربه، ومن يشهد الثنتين من فعل نفسه، فهذه الأقسام الأربعة في شهود الربوبية، نظير تلك الأقسام الأربعة في شهود الإلهية، فهذا تقسيم العباد فيما لله ولهم، وذاك تقسيمهم فيما هو بالله وبهم، والقسم المحض أن يعمل لله بالله، فلا يعمل لنفسه ولا بنفسه .(1/305)
والمقصود هنا، تقسيمهم فيما لله، فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه : أن يصبروا على أذى الناس لهم باليد واللسان، ويجاهدون في سبيل الله، فيعاقبون ويغضبون وينتقمون لله لا لنفوسهم يعاقبون؛ لأن الله يأمر بعقوبة ذلك الشخص، ويحب الانتقام منه، كما في جهاد الكفار وإقامة الحدود، وأدناهم عكس هؤلاء يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، لا لربهم، فإذا أوذى أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه؛ لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين .
/وبين هذين وهذين قسمان : قسم يغضبون لربهم ولنفوسهم، وقسم يميلون إلى العفو في حق الله وحقوقهم، فموسى في غضبه علي قومه لما عبدوا العجل كان غضبه لله، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم في حقوق الله أبا بكر وعمر بإبراهيم وعيسى ونوح وموسى، فقال : ( إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجر، ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وعيسى، ومثلك يا عمر كمثل نوح وموسى ) .
وأما عفو الإنسان عن حقوقه، فهذا أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وكذلك غضبه لنفسه، تركه أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وأما ما كان من باب المصائب الحاصلة بقدر الله ولم يبق فيها مذنب يعاقب، فليس فيها إلا الصبر والتسليم للقدر .
وقصة آدم وموسى كانت من هذا الباب، فإن موسى لامه لأجل ما أصابه والذرية، وآدم كان قد تاب من الذنب وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فحج آدم موسى .
وهكذا قد يصيب الناس مصائب بفعل أقوام مذنبين تابوا، مثل كافر يقتل مسلمًا ثم يسلم ويتوب الله عليه، أو يكون متأولاً لبدعة ثم يتوب من المبدعة، أو يكون مجتهدًا، أو مقلدًا مخطئًا، فهؤلاء إذا أصاب العبد أذى بفعلهم، فهو من جنس المصائب السماوية التي لا يطلب فيها قصاص من آدمي .(1/306)
/ومن هذا الباب : القتال في الفتنة . قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، وكذلك، قتال البغاة المتأولين، حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوسًا وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء : كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد .
وكذلك المرتدون إذا صار لهم شوكة فقتلوا المسلمين، وأصابوا من دمائهم وأموالهم، كما اتفق الصحابة في قتال أهل الردة : أنهم لا يضمنون بعد إسلامهم ما أتلفوه من النفوس والأموال، فإنهم كانوا متأولين، وإن كان تأويلهم باطلاً، كما أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه مضت بأن الكفار إذا قتلوا بعض المسلمين وأتلفوا أموالهم ثم أسلموا، لم يضمنوا ما أصابوه من النفوس والأموال، وأصحاب تلك النفوس والأموال كانوا يجاهدون، قد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فعوض ما أخذ منهم على الله لا على أولئك الظالمين الذين قاتلهم المؤمنون .(1/307)
وإذا كان هذا في الدماء والأموال فهو في الأعراض أولى، فمن كان مجاهدًا في سبيل الله باللسان : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الدين وتبليغ مافي الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير، وبيان الأقوال المخالفة لذلك، والرد على من خالف الكتاب والسنة، أو باليد كقتال الكفار، فإذا/ أوذي على جهاده بيد غيره أو لسانه فأجره في ذلك على الله لا يطلب من هذا الظالم عوض مظلمته، بل هذا الظالم إن تاب وقبل الحق الذي جوهد عليه فالتوبة تجب ما قبلها { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، وإن لم يتب بل أصر على مخالفة الكتاب والسنة، فهو مخالف لله ورسوله، والحق في ذنوبه لله ولرسوله، وإن كان أيضًا للمؤمنين حق تبعًا لحق الله، وهذا إذا عوقب عوقب لحق الله ولتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله لا لأجل القصاص فقط .
والكفار إذا اعتدوا على المسلمين مثل أن يمثلوا بهم، فللمسلمين أن يمثلوا بهم كما مثلوا، والصبر أفضل، وإذا مثلوا كان ذلك من تمام الجهاد، والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين، والدعاء على الكافرين .(1/308)
وأما الدعاء على معينين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلعن فلانًا وفلانًا، فهذا قد روى أنه منسوخ بقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، فيما كتبته في قلعة مصر؛ وذلك لأن المعين لا يعلم أن رضى الله عنه أن يهلك، بل قد يكون ممن يتوب الله عليه، بخلاف الجنس، فإنه إذا دعى عليهم بما فيه عز الدين وذل عدوه وقمعهم كان هذا دعاء بما يحبه الله ويرضاه، فإن الله يحب الإيمان وأهل الإيمان وعلو أهل الإيمان وذل الكفار، فهذا دعاء بما يحب الله، وأما الدعاء على المعين بما لا يعلم أن الله/ يرضاه فغير مأمور به، وقد كان يفعل ثم نهى عنه؛ لأن الله قد يتوب عليه أو يعذبه .
ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك، كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومع هذا فقد ثبت في حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول : ( إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها ) ، فإنه وإن لم ينه عنها فلم يؤمر بها، فكان الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به واجب أو مستحب، فإن الدعاء من العبادات، فلا يعبد الله إلا بمأمور به واجب أو مستحب، وهذا لو كان مأمورًا به لكان شرعًا لنوح، ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا ؟
وكذلك دعاء موسى بقوله : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ يونس : 88 ] إذا كان دعاء مأمورًا به، بقى النظر في موافقة شرعنا له، والقاعدة الكلية في شرعنا : أن الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا فهو حسن يثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا كالعدوان في الدماء فهو ذنب ومعصية، وإن كان مكروها فهو ينقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوى الطرفين فلا له ولا عليه، فهذا هذا، والله سبحانه أعلم .
فصل
) الله خالق كل شيء )(1/309)
ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ـ مع إيمانهم بالقضاء والقدر ـ أن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم أن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله تعالى : { كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } الآية [ المدثر : 54 ـ 56 ] . وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ الإنسان : 29، 30 ] وقال : { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ . لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 27-29 ] .
والقرآن قد أخبر بأن العباد يؤمنون، ويكفرون، ويفعلون، ويعملون، ويكسبون، ويطيعون، ويعصون، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون، ويعتمرون، ويقتلون، ويزنون، ويسرقون ، ويصدقون، ويكذبون، ويأكلون، ويشربون، ويقاتلون، ويحاربون، فلم يكن من السلف والأئمة من يقول : إن العبد ليس بفاعل ولا مختار، ولا مريد ولا قادر . ولا قال أحد منهم : إنه فاعل / مجازًا بل من تكلم منهم بلفظ الحقيقة والمجاز متفقون على أن العبد فاعل حقيقة، والله ـ تعالى ـ خالق ذاته وصفاته وأفعاله .(1/310)
وأول من ظهر عنه إنكار ذلك هو الجهم بن صفوان وأتباعه، فحكى عنهم أنهم قالوا : إن العبد مجبور، وأنه لا فعل له أصلا وليس بقادر أصلا، وكان الجهم غاليًا في تعطيل الصفات، فكان ينفي أن يسمى الله ـ تعالى ـ باسم يسمى به العبد، فلا يسمى شيئًا ولا حيًا ولا عالمًا ولا سميعًا ولا بصيرًا . إلا على وجه المجاز . وحكي عنه أنه كان يسمى الله ـ تعالى ـ قادرًا؛ لأن العبد عنده ليس بقادر، فلا تشبيه بهذا الاسم على قوله .
وكان هو وأتباعه ينكرون أن يكون لله حكمة في خلقه وأمره، وأن يكون له رحمة، ويقولون : إنما فعل بمحض مشيئة، لا رحمة معها، وحكي عنه أنه كان ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين، وإنه كان يخرج إلى الجذمى فينظر إليهم ويقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا بهؤلاء ؟ ! وكان يقول : العباد مجبورون على أفعالهم ليس لهم فعل ولا اختيار .
وكان ظهور جهم ومقالته في تعطيل الصفات وفي الجبر والإرجاء في أواخر دولة بني أمية، بعد حدوث القدرية والمعتزلة وغيرهم، فإن القدرية حدثوا قبل ذلك في أواخر عصر الصحابة، فلما حدثت مقالته المقابلة لمقالة القدرية أنكرها السلف والأئمة، كما أنكروا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم، وبدعوا الطائفتين، / حتى في لفظ الجبر أنكروا على من قال : جبر، وعلى من قال : لم يجبر .(1/311)
والآثار بذلك معروفة عن الأوزاعي، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من سلف الأمة وأئمتها، كما ذكر طرفًا من ذلك أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " هو وغيره ممن يجمع أقوال السلف، وقال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر، وإنما في السنة لفظ جبل كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس لما قدم عليه وفد عبد القيس من البحرين، فقالوا : يارسول الله، بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به، ونأمر به من وراءنا، فقال : ( آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم ) . ونهاهم عن الانتباذ في الأوعية التي يسرع إليها السكر . حتى قد يشرب الرجل ولا يدري أنه شرب مسكرًا، بخلاف الظروف التي توكأ فإنها إذا اشتد الشراب انشقت، ونهى عن الدباء وهو القرع والحنتم وهو ما يصنع من المدر كالجرار والمزفت ـ وهي الظروف المزفتة ـ والنقير وهو الخشب المنقور ثم قد قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أباح ذلك بعد هذا النهي .
ولهذا تنازع العلماء في هذا النهي، هل هو منسوخ أم لا ؟ على قولين / مشهورين للعلماء، هما روايتان عند أحمد، والقول بالنسخ مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بأن هذا كان لم ينسخ مذهب مالك، لكن مالك لا ينهى إلا عن صنفين فإنه ثبت في صحيح البخاري أنه حرم ذينك الصنفين، وأباح الآخرين بعد النهي .
وأما مسلم ، فروى في صحيحه النسخ في الجميع؛ فلهذا اختلف قول أحمد؛ لأن الأحاديث بالنهي متواترة، وحديث النسخ ليس مثلها؛ فلهذا صار للناس فيها ثلاثة أقوال، وهؤلاء وفد عبد القيس كانوا بالبحرين أسلموا طوعًا، كما أسلم أهل المدينة، وأول جمعة جمعت في الإسلام في قرية عندهم من قري البحرين .(1/312)
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لأشج عبد القيس : ( إن فيك لخلقين يحبهما الله، الحلم والأناة ) ، فقال : أخلقين تخلقت بهما ؟ أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : ( بل خلقين جبلت عليهما ) . فقال : الحمد لله الذي جبلني على ما يحب، فقال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما من السلف لفظ الجبل جاءت به السنة، فيقال : جبل الله فلانا على كذا، وأما لفظ الجبر فلم يرد، وأنكر الأوزاعي والزبيدي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم لفظ الجبر في النفي والإثبات .
وذلك ؛لأن لفظ الجبر مجمل، فإنه يقال : جبر الأب ابنته على النكاح، وجبر / الحاكم الرجل على بيع ما له لوفاء دينه، ومعنى ذلك أكرهه، ليس معناه أنه جعله مريدا لذلك مختارًا محبا له راضيًا به . قالوا : ومن قال : إن الله ـ تعالى ـ جبر العباد بهذا المعنى فهو مبطل، فإن الله أعلي وأجل قدرًا من أن يجبر أحدًا، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله مريدا للفعل مختارًا له محباً له راضياً به والله سبحانه قادر على ذلك، فهو الذي جعل المريد للفعل، المحب له، الراضي به، مريدًا له، محبًا له، راضيًا به، فكيف يقال أجبره وأكرهه كما يجبر المخلوق المخلوق، مثل ما يجبر السلطان والحاكم والأب وغيرهم من يجبرونه، إما بحق وإما بباطل، وإجبارهم هو إكراههم لغيرهم على الفعل، والإكراه قد يكون إكراهًا بحق، وقد يكون إكراها بباطل .
فالأول : كإكراه من امتنع من الواجبات على فعلها، مثل إكراه الكافر الحربي على الإسلام، أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون، وإكراه المرتد على العود إلى الإسلام، وإكراه من أسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وعلى قضاء الديون التي يقدر على قضائها، وعلى أداء الأمانة التي يقدر على أدائها، وإعطاء النفقة الواجبة عليه التي يقدر على إعطائها .(1/313)
وأما الإكراه بغير حق، فمثل إكراه الإنسان على الكفر والمعاصي، وهذا الإجبار الذي هو الإكراه يفعله العباد بعضهم مع بعض؛ لأنهم لا يقدرون على إحداث الإرادة والاختيار في قلوبهم وعلي جعلهم فاعلين / لأفعالهم، والله ـ تعالى ـ قادر على إحداث إرادة للعبد ولاختياره، وجعله فاعلا بقدرته و مشيئته، فهو أعلا وأقدر من أن يجبر غيره ويكرهه على أمر شاءه منه، بل إذا شاء جعله فاعلاً له بمشيئته، كما أنه قادرعلى أن يجعله فاعلا للشيء مع كراهته له، فيكون مريدًا له حتى يفعله مع بغضه له، كما قد يشرب المريض الدواء مع كراهته له، قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [ الرعد : 15 ] ، وقال : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [ آل عمران : 83 ] .
فكل ما يقع من العباد بإرادتهم ومشيئتهم، فهو الذي جعلهم فاعلين له بمشيئتهم، سواء كانوا مع ذلك فعلوه طوعًا، أو كانوا كارهين له فعلوه كرهاً، وهو سبحانه لا يكرههم على ما لا يريدونه، كما يكره المخلوق المخلوق حيث يكرهه على أمر وإن لم يرده، وليس هو قادرًا أن يجعله مريدًا له فاعلاً له، لا مع الكراهة، ولا مع عدمها، فلهذا يقال للعبد : إنه جبر غيره على الفعل، والله أعلى وأجل وأقدر من أن يقال بأنه جبر بهذا المعنى .
وقد يستعمل لفظ الجبر في أعم من ذلك، بحيث يتناول كل من قهر غيره وقدر عليه فجعله فاعلاً لما يشاء منه، وإن كان هو المحدث لإرادته وقدرته عليه .(1/314)
قال محمد بن كعب القرظي ـ في اسم الله الجبار قال ـ : هو الذي جبر/ العباد على ما أراد، وكذلك ينقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال في الدعاء المأثور : اللهم داحي المدحوات، وباري المسموكات، جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها . والجبر من الله بهذا الاعتبار معناه القهر والقدرة، وأنه يقدر أن يفعل ما يشاء، ويجبر علي ذلك، ويقهرهم عليه، فليس كالمخلوق العاجز الذي يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، ومن جبره وقهره وقدرته، أن يجعل العباد مريدين لما يشاء منهم، إما مختارين له طوعًا، وإما مريدين له مع كراهتهم له، ويجعلهم فاعلين له، وهذا الجبر الذي هو قهره بقدرته لا يقدرعليه غيره، وليس هو كإجبار غيره، وإكراهه من وجوه :
منها : أن ما سواه عاجز لا يقدر أن يجعل العباد مريدين لما يشاؤه، ولا فاعلين له .
ومنها : أن غيره قد يجبر الغير ويكرهه إكراهًا يكون ظالمًا به، والله تعالى عادل لا يظلم مثقال ذرة .
ومنها : أن غيره قد يكون جاهلا، أو سفيها لا يعلم ما يفعله، وما يجبر عليه، لا يقصد حكمة تكون غير ذلك، والله عليم حكيم، ما خلقه وأمر به له فيه حكمة بالغة صادرة من علمه وحكمته وقدرته .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=173 - TOP#TOPسُئل شيخ الإسلام : أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه :
ما تقولون في [ المنطق ] ، وهل من قال : إنه فرض كفاية، مصيب أم مخطئ ؟
فأجاب :
الحمد للّه، أما المنطق : فمن قال : إنه فرض كفاية، وأن من ليس له به خبرة فليس له ثقة بشىء من علومه، فهذا القول في غاية الفساد من وجوه / كثيرة التعداد، مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوى باطلة كثيرة، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها .
بل الواقع ـ قديمًا وحديثًا ـ : أنك لا تجد من يلزم نفسه أن ينظر في علومه به، ويناظر به إلا وهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علمه وبيانه .(1/315)
فأحسن ما يحمل عليه كلام المتكلم في هذا، أن يكون قد كان هو وأمثاله في غاية الجهالة والضلالة، وقد فقدوا أسباب الهدى كلها، فلم يجدوا ما يردهم عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من الأمور التي هي صحيحة، فإنه بسبب بعض ذلك رجع كثير من هؤلاء عن بعض باطلهم، وإن لم يحصل لهم حق ينفعهم، وإن وقعوا في باطل آخر . ومع هذا، فلا يصح نسبة وجوبه إلى شريعة الإسلام بوجه من الوجوه؛ إذ من هذه حاله فإنما أتى من نفسه بترك ما أمر اللّه به من الحق، حتى احتاج إلى الباطل .
ومن المعلوم أن القول بوجوبه قول غلاته وجهال أصحابه . ونفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم، بل يعرضون عنها . إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما لفسادها، وإما لعدم تميزها وما فيها من الإجمال والاشتباه . فإن فيه مواضع كثيرة هي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل .
/ولهذا مازال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله، حتى إن من الحكايات المشهورة التى بلغتنا : أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال : أخذها منه أفضل من أخذ عكا، مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرًا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما، وأمثلهم اعتقادًا .(1/316)
ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة - سواء كانت حقا أو باطلًا، إيمانًا أو كفرًا ـ لا تعلم إلا بذكاء وفطنة، فكذلك أهله قد يستجهلون من لم يشركهم في علمهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان فيه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ّ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ . فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ . هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 29-36 ] .
فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطريق القياسية فليس يعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم من هذه الطريق القياسية ما يستفيد / به الإيمان الواجب، فيكون كافرا زنديقًا منافقًا جاهلًا ضالًا مضلا، ظلوما كفورا، ويكون من أكابر أعداء الرسل، الذين قال اللّه فيهم : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا . وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا . وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 31-33 ] .(1/317)
وربما حصل لبعضهم إيمان، إما من هذه الطريق أو من غيرها . ويحصل له ـ أيضا ـ منها نفاق، فيكون فيه إيمان ونفاق، ويكون في حال مؤمنًا وفي حال منافقا، ويكون مرتدًا، إما عن أصل الدين، أو عن بعض شرائعه، إما ردة نفاق، وإما ردة كفر . وهذا كثير غالب، لاسيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق .
فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقام .
ولهذا لما تفطن كثير منهم لما في هذا النفي من الجهل والضلال، صاروا يقولون : النفوس القدسية ـ كنفوس الأنبياء والأولياء ـ تفيض عليها المعارف بدون الطريق القياسية .
وهم متفقون جميعهم على أن من النفوس من تستغني عن وزن علومها / بالموازين الصناعية في المنطق، لكن قد يقولون : هو حكيم بالطبع .
والقياس ينعقد في نفسه بدون تعلم هذه الصناعة، كما ينطق العربي بالعربية بدون النحو، وكما يقرض الشاعر الشعر بدون معرفة العروض . لكن استغناء بعض الناس عن هذه الموازين لا يوجب استغناء الآخرين، فاستغناء كثير من النفوس عن هذه الصناعة لا ينازع فيه أحد منهم .
والكلام هنا : هل تستغني النفوس في علومها بالكلية عن نفس القياس المذكور، ومواده المعينة ؟ فالاستغناء عن جنس هذا القياس شيء، وعن الصناعة القانونية التي يوزن بها القياس شيء آخر، فإنهم يزعمون أنه آلة قانونية تمنع مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وفساد هذا مبسوط مذكور في موضع غير هذا .(1/318)
ونحن بعد أن تبينا عدم فائدته، وإن كان قد يتضمن من العلم ما يحصل بدونه، ثم تبينا أنا لو قدرنا أنه قد يفيد بعض الناس من العلم ما يفيده هو، فلا يجوز أن يقال : ليس إلى ذلك العلم لذلك الشخص، ولسائر بني آدم طريق إلا بمثل القياس المنطقي؛ فإن هذا قول بلا علم، وهو كذب محقق؛ ولهذا مازال متكلمو المسلمين ـ وإن كان فيهم نوع من البدعة ـ لهم من الرد عليه وعلى أهله وبيان الاستغناء عنه، وحصول الضرر والجهل به والكفر، ما / ليس هذا موضعه؛ دع غيرهم من طوائف المسلمين وعلمائهم وأئمتهم، كما ذكره القاضي أبو بكر ابن الباقلاني في كتاب ] الدقائق [ .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=201 - TOP#TOPوقال الشيخ : (عموم الرسالة المحمدية )
الحمد للّه رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد :
اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من الإنس والجن، أن يشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله وكفى باللّه شهيدًا . أرسله إلى جميع الخلق، إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وفرسهم وهندهم، وبربرهم ورومهم، وسائر أصناف العجم أسودهم، وأبيضهم، والمراد بالعجم من ليس بعربي على اختلاف ألسنتهم .
فمحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل أحد، من الإنس والجن كتابيهم وغير كتابيهم، في كل ما يتعلق بدينه من الأمور الباطنة والظاهرة، في عقائده وحقائقه، وطرائقه وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يصل أحد من الخلق إلى اللّه، وإلى رضوانه وجنته وكرامته / وولايته، إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا في الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان وأعمال الجوارح .(1/319)
وليس للّه ولي إلا من اتبعه باطنًا، وظاهرًا، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات . فمن لم يكن له مصدقًا فيما أخبر ملتزمًا طاعته فيما أوجب، وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمنا فضلا عن أن يكون وليًا للّه ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها إلا من أهل الأحوال الشيطانية، المبعدة لصاحبها عن اللّه، والمقربة إلى سخطه وعذابه .
لكن من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم، فلا يعاقبون وليس لهم من الإيمان باللّه وتقواه باطنًا وظاهرًا ما يكونون به من أولياء اللّه المتقين، وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعًا لآبائهم، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] .
/وهم مع عدم العقل لا يكونون ممن في قلوبهم حقائق الإيمان، ومعارف أهل ولاية اللّه وأحوال خواص اللّه؛ لأن هذه الأمور كلها مشروطة بالعقل، فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفة واليقين والهدى والثناء، وإنما يرفع اللّه الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، فالمجنون وإن كان اللّه لا يعاقبه ويرحمه في الآخرة فإنه لا يكون من أولياء اللّه المقربين والمقتصدين الذين يرفع اللّه درجاتهم .(1/320)
ومن ظن أن أحدًا من هؤلاء الذين لا يؤدون الواجبات ولا يتركون المحرمات، سواء كان عاقلًا، أو مجنونًا، أو مولها، أو متولهًا، فمن اعتقد أن أحدًا من هؤلاء من أولياء اللّه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين وجنده الغالبين، السابقين، المقربين والمقتصدين الذين يرفع اللّه درجاتهم بالعلم والإيمان، مع كونه لا يؤدي الواجبات ولا يترك المحرمات، كان المعتقد لولاية مثل هذا كافرًا مرتدًا عن دين الإسلام، غير شاهد أن محمدًا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بل هو مكذب لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما شهد به؛ لأن محمدًا أخبر عن اللّه، أن أولياء اللّه هم المتقون المؤمنون، قال تعالى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] ، وقال تعالي : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] .
/والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة اللّه، على نور من اللّه، يرجو رحمة اللّه، وأن يترك معصية اللّه، على نور من اللّه، يخاف عذاب اللّه، ولا يتقرب ولي اللّه إلا بأداء فرائضه، ثم بأداء نوافله . قال تعالى : ( وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ) كما جاء في الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه البخاري .
فَصْل
( أعظم الفرائض الصلوات الخمس)(1/321)
ومن أحب الأعمال إلى اللّه، وأعظم الفرائض عنده : الصلوات الخمس في مواقيتها، وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة، وهي التي فرضها اللّه ـ تعالى ـ بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة، وهي عمود الإسلام الذي لا يقوم إلا به، وهي أهم أمر الدين، كما كان ـ أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله : إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ) وقال : ( العهد الذي بيننا وبينهم / الصلاة، فمن تركها فقد كفر ) . فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء، فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن اللّه يحبها ويثيب عليها، وصلى مع ذلك وقام الليل، وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ، فهو أيضًا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل .
ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين، أو أن للّه خواصًا لا تجب عليهم الصلاة، بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس، أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى، أو أن المقصود حضور القلب مع الرب، أو أن الصلاة فيها تفرقة، فإذا كان العبد في جمعيته مع اللّه فلا يحتاج إلى الصلاة، بل المقصود من الصلاة هي المعرفة، فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة، فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، أو ملء الأوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز، وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية . فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك .(1/322)
أو أن للّه رجالًا خواصًا لا يحتاجون إلى متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى، أو أن كل / من كاشف وطار في الهواء، أو مشى على الماء، فهو ولي سواء صلى أو لم يصل .
أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة، أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والحانات والقمامين، وغير ذلك من البقاع، وهم لا يتوضؤون ولا يصلون الصلوات المفروضات، فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء اللّه فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام، ولو كان في نفسه زاهدًا عابدًا، فالرهبان أزهد وأعبد، وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول، وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ماجاء به، بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 150-152 ] .(1/323)
ومن كان مسلوب العقل أو مجنونًا، فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه، فليس عليه عقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل . فمن لا عقل / له لا يصح شيء من عبادته لا فرائضه ولا نوافله، ومن لا فريضة له ولا نافلة، ليس من أولياء اللّه؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى } [ طه : 54 ] أي العقول، وقال تعالى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } [ الفجْر : 5 ] أي لذي عقل . وقال تعالى : { وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ البقرة : 197 ] وقال : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 22 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 2 ] .
فإنما مدح اللّه وأثنى على من كان له عقل . فأما من لا يعقل فإن اللّه لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط، بل قال ـ تعالى ـ عن أهل النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] وقال : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [ الفرقان : 44 ] .(1/324)
فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله، ومن كان يهوديًا أو نصرانيًا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه لا باطنًا ولا ظاهرًا . ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار . ومن كان مؤمنًا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في / حال عقله، ومن ولد مجنونًا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر . وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلمًا تبعًا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد .
وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعًا لآبائهم، وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرًا تبعًا لأبويه أو لأهل الدار، كما يحكم بذلك للأطفال . لا لأجل إيمان قام به، فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم، وهذا الإسلام لا يوجب له مزية على غيره، ولا أن يصير به من أولياء اللّه المتقين الذين يتقربون إليه بالفرائض والنوافل . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [ النساء : 43 ] فنهى اللّه عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون .(1/325)
وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالآية التي أنزلها اللّه في " سورة المائدة " . وقد روى أنه كان سبب نزولها : أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة، فأنزل اللّه هذه الآية؛ فإذا كان قد حرم اللّه الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون، علم أن ذلك يوجب ألا يصلي /أحد حتى يعلم ما يقول . فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة، وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال، فكيف بالمجنون ؟ ! .
وقد قال بعض المفسرين ـ وهو يروي عن الضحاك ـ : لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم . وهذا إذا قيل : إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب نزول الآية كان السكر من الخمر . واللفظ صريح في ذلك؛ والمعنى الآخر صحيح أيضًا . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد، فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ـ وفي لفظ ـ إذا قام يصلي فنعس فليرقد ) .
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس . وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة، أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما علل ذلك بقوله : ( فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ) فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس . وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( لا يصلي / أحدكم، وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام ) لما في ذلك من شغل القلب . وقال أبو الدرداء : من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ .(1/326)
فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون، وإن سمي مولها أو متولها، أولى ألا تجوز صلاته .
ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات، كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى اللّه ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( بر الوالدين ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد ) . قال : حدثني بهن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني . وثبت أيضًا في الصحيحين عنه : أنه جعل أفضل الأعمال إيمان باللّه، وجهاد في سبيله، ثم الحج المبرور . ولا منافاة بينهما؛ فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان باللّه، كما دخلت في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] . قال البراء بن عازب وغيره من السلف : أي صلاتكم إلى بيت المقدس .
ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال، فلا يصلي أحد عن أحد الفرض، لا لعذر ولا لغير عذر . كما لا يؤمن أحد عنه، ولا / تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان، بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرًا، وهو متمكن من فعل بعض أفعالها . فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال، فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه ؟ فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع .(1/327)
فإذا كان كذلك، تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى اللّه من فرض ونفل، و [ الولاية ] هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل، فقد حرم ما به يتقرب أولياء اللّه إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب، كما لا يعاقب الأطفال والبهائم؛ إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال . ثم إن كان مؤمنًا قبل حدوث الجنون به، وله أعمال صالحة، وكان يتقرب إلى اللّه بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم، وكان له من ولاية اللّه تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى، كما لا يسقط ذلك بالموت، بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام؛ فإن الردة تحبط الأعمال، وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته، كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالأعمال المسكرة والنوم؛ لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح، ولكن في الحديث / الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك : ( إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم ) قالوا : وهم بالمدينة ؟ ! قال : ( وهم بالمدينة حبسهم العذر ) ، فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلًا، بخلاف أولئك فإن لهم قصدًا صحيحًا يكتب لهم به الثواب .(1/328)
وأما إن كان قبل جنونه كافرًا أو فاسقًا أو مذنبًا، لم يكن حدوث الجنون به مزيلًا؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورًا معهم، وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين . وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولهًا أو متولهًا، لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، ولا يكون زوال عقله سببًا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب زوال العقل، فيبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده ولا ينقصه، لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر .
/وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم، كشرب الخمر، وأكل الحشيشة، أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله، أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله، أو يأكل بنجا يزيل عقله، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول . وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصًا عظيمًا حتى يغيب عقله، أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني، وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولهًا . فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم .
واختلف العلماء : هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم ؟ والأصل " مسألة السكران " والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله . وقال كثير من العلماء ليس مكلفًا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أحمد : أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين . ولم يقل أحد من العلماء : إن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء اللّه الموحدين المقربين وحزبه المفلحين . ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير، فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم .(1/329)
ومن علامة هؤلاء : أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو / تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، لا بالكفر والبهتان، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك، ويهذي في زوال عقله بالكفر، فهذا إنما يكون كافرًا لا مسلمًا، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية، وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع، ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل ـ أو بغير العربية ـ فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع .
ومن قال : إن هؤلاء أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب .
قيل : قولك وهب اللّه لهم أحوالًا، كلام مجمل، فإن الأحوال تنقسم إلى : حال رحماني، وحال شيطاني، وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب، [ فتارة ] يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان، وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان؛ فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية، وكانوا من المؤمنين المتقين، فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول، وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية ـ كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون ـ فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق، كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان / والتقوى، كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل، غايته أن يسقط التكليف .(1/330)
ورفع القلم لا يوجب حمدًا ولامدحًا ولا ثوابًا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء اللّه، ولا كرامة من كرامات الصالحين، بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم، بل النائم أحسن حالًا من هؤلاء، ولهذا كان الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله، والنبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه النوم والإغماء، ولا يجوز عليه الجنون، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد أغمى عليه في مرضه .
وأما الجنون فقد نزه اللّه أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص الإنسان؛ إذ كمال الإنسان بالعقل؛ ولهذا حرم اللّه إزالة العقل بكل طريق، وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل، كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل، فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببًا أو شرطًا أو مقربًا إلى ولاية اللّه كما يظنه كثير من أهل الضلال ؟ ! حتى قال قائلهم في هؤلاء :
/هم معشر حلوا النظام وخرقوا ** السياج فلا فرض لديهم ولا نفل
مجانين إلا أن سر جنونهم ** عزيز على أبوابه يسجد العقل(1/331)
فهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للمجنون سرًا يسجد العقل على بابه، وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا للّه ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى؛ فإن كثيرًا من الكفار والمشركين فضلًا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء؛ لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لابد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان . ولابد في أعمالهم من فجور وطغيان، كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان، قال اللّه تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] .(1/332)
فكل من تنزلت عليه الشياطين لابد أن يكون فيه كذب / وفجور، من أي قسم كان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أولياء اللّه هم الذين يتقربون إليه بالفرائض، وحزبه المفلحون، وجنده الغالبون، وعباده الصالحون . فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء اللّه المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك، فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء اللّه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين، وإذا قال : أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا رسول اللّه كان من الكاذبين الذين قيل فيهم : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 1-3 ] .(1/333)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع اللّه على قلبه ) ، فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر، فكيف بمن لا يصلي ظهرًا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة، ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى ؟ ! فهذا لو كان قبل مؤمنًا، وكان قد طبع على قلبه كان كافرًا مرتدًا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض، وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرًا مرتدًا، فكيف يعتقد أنه من أولياء / اللّه المتقين، وقد قال تعالى في صفة المنافقين : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [ المجادلة : 19 ] أي : استولى، يقال : حاذ الإبل حوذًا : إذا استاقها، فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر اللّه به ورسوله قال تعالى : { أَلَمْ تَرَى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم : 83 ] أي تزعجهم إزعاجًا، فهؤلاء { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ } [ المجادلة : 19 ] .(1/334)
وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من ثلاثة في قرية، لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان ) ، فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان الذين استحوذ عليهم، لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا عبادًا زهادًا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات، كأهل جبل لبنان، وأهل جبل الفتح الذي بآسون، وجبل ليسون، ومغارة الدم بجبل قاسيون، وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلال، ويفعلون فيها خلوات ورياضات من غير أن يؤذن، وتقام فيهم الصلاة الخمس، بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها اللّه ورسوله، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة، / ولا قصد المتابعة لرسول اللّه الذي قال اللّه فيه : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } الآية [ آل عمران : 31 ] فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن، فمن شهد لهم بولاية اللّه فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب .
ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول، وشهد مع ذلك أنهم من أولياء اللّه، فهو مرتد عن دين الإسلام وإما مكذب للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتاب، وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه، وكل من هؤلاء كافر .(1/335)
وأما إن كان جاهلًا بما جاء به الرسول، وهو معتقد مع ذلك أنه رسول اللّه إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة، وأنه لا طريق إلى اللّه إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم، لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان، لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته، لا لقصد مخالفته، ولا يرجو الهدى في غير متابعته ـ فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب، فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي قبله وكان كافرًا مرتدًا، ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب اللّه، كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان، مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية، ومكاشفات شيطانية قال / تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 103، 104 ] .
قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات . وقد روى عن علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات . وقال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال : { لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ . نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 15، 16 ] .(1/336)
ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا وإن كان لا يتعمد الكذب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قالت له سبيعة الأسلمية، وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع، فكانت حاملًا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك : ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذب أبو السنابل، بل حللت فانكحى ) ، وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع أنهم يقولون : إن عامرًا قتل نفسه وحبط عمله فقال : ( كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد ) ، وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب، فإنه كان رجلًا صالحًا، وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير، لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي صلى الله عليه وسلم .
/وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ـ : إن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه . فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين ؟ فهذا خطؤه أيضًا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كاذب آثم في ذلك، وإن كانت له حسنات في غير ذلك، فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له، ويطرد بحسب إخلاصه للّه وطاعته له قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] .(1/337)
وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات، وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن . قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ . وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60-62 ] .
والذين يعبدون الشيطان أكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم / ويسجدون لهم فهم في الحقيقة، إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد اللّه الصالحين . قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40، 41 ] .
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غربها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له، وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان، وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبًا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور والتبركات ما يناسبه، كما ذكره صاحب [ السر المكتوم ] المشرقي، وصاحب [ الشعلة النورانية ] البوني المغربي وغيرهما؛ فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك روحانية الكواكب .(1/338)
ومنه من يظن أنها ملائكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم، قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال اللّه فيهما : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة : 231 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ الجمعة : 2 ] ، وهو الذكر الذي قال اللّه فيه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه .(1/339)
وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من الإيمان وولاية اللّه بحسب ما والى فيه الرحمن، وكان فيه من عداوة اللّه والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان، كما قال حذيفة بن اليمان : القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن . وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ـ والأغلف : الذي يلف عليه غلاف . كما قال تعالى عن اليهود : { ٍوَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك ثلاث جمع طبع اللّه على قلبه ) ـ وقلب منكوس فذلك قلب المنافق . وقلب فيه مادتان : مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، فأيهما غلب كان الحكم له . وقد روى هذا في [ مسند الإمام أحمد ] مرفوعًا .
وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم / أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن القلب يكون فيه شعبة نفاق، وشعبة إيمان، فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة من ولايته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه باللّه وتقواه تكون من كرامات الأولياء، وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا اللّه تعالى : أن نقول كل صلاة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .
و ( المغضوب عليهم ) هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، و ( الضالون ) الذين يعبدون اللّه بغير علم . فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو من ( المغضوب عليهم ) وإن كان لا يعلم ذلك فهو من ( الضالين ) .(1/340)
نسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا .
والحمد للّه رب العالمين . والعاقبة للمتقين . وصلى اللّه على محمد .
/وَقَالَ شَيخُ الإِسْلام أحمَد بن تيمية ـ رَحِمَهُ اللَّهُ :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=209 - TOP#TOPفَصْل
في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات، قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، و { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] .
قال قتادة وابن عيينة وغيرهما : قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه، وصالح الأعمال . وقال الفراء والزجاج : قد أفلحت نفس زكاها اللّه، وقد خابت نفس دساها اللّه . وكذلك ذكره الوالبي، عن ابن عباس وهو منقطع . وليس هو مراد من الآية؛ بل المراد بها الأول قطعًا لفظًا ومعنى .
أما اللفظ فقوله : من زكاها اسم موصول ولابد فيه من عائد/ على { مّن } فإذا قيل : قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان ضمير الشخص في زكاها يعود على { مّن } ، هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال : قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه .
وأما إذا كان المعنى : قد أفلح من زكاه اللّه، لم يبق في الجملة ضمير يعود على { مّن } فإن الضميرعلى هذا يعود على اللّه، وليس هو { مّن } وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على { مّن } لا ضمير الفاعل، ولا المفعول . فتخلوا الصلة من عائد وهذا لا يجوز .
نعم، لو قيل : قد أفلح من زكى اللّه نفسه، أو من زكاها اللّه له، ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب . وهو لم يقل : قد أفلحت نفس زكاها . فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة، بل قال : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، فالجملة صلة لـ { مّن } لا صفة لها .(1/341)
ولا قال أيضًا : قد أفلحت النفس التي زكاها، فإنه لو قيل ذلك، وجعل في { زّكَّاهّا } ضمير يعود على اسم اللّه صح، فإذا تكلفوا، وقالوا : التقدير { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } هي النفس التي زكاها، وقالوا : في زكى ضمير المفعول يعود على { مَنْ } وهي تصلح للمذكر والمؤنث / والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي؛ ولهذا قيل : { قّدً أّفًلّح } ولم يقل : قد أفلحت، قيل لهم : هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة، فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن . . . على أن المراد لنا، وكذا قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، ونحو ذلك .
وأما هنا فليس في لفظ { مَنْ } ، وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة، فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته، فإن مثل هذا مما يصان كلام اللّه عز وجل عنه، فلو قدر احتمال عود ضمير { زَكَّاهَا } إلى نفس وإلى { مَنْ } ، مع أن لفظ { مَنْ } لا دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر، لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومن تكلف غير ذلك، فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزه عن ذلك، والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى مالا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني ؟ ! فقد أخبر اللّه أنه يلهم التقوى والفجور . ولبسط هذا موضع آخر .(1/342)
/والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى اللّه نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي، ولا ترغيب ولا ترهيب . والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول : من جعله اللّه مؤمنًا، بل يقول : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] ، { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام اللّه ؟ ! ألا ترى أنه في مقام الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد، والوعيد، والمدح، والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم، إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان، والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم . كقوله : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى } الآية [ النور : 21 ] ، فهذا مناسب . وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى .
والمقصود ذكر التزكية قال تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الآية [ النور : 30 ] ، وقال : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [ النور : 28 ] ، وقال : { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 7 ] ، وقال : { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } [ عبس : 7 ] .(1/343)
وأصل الزكاة الزيادة في الخير . ومنه يقال : زكا الزرع، وزكا /المال إذا نما . ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها . قال الزجاج : { دّسَّاهّا } جعلها ذليلة حقيرة خسيسة، وقال الفراء : دساها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله، قال ابن قتيبة : أي أخفاها بالفجور والمعصية، فالفاجر دس نفسه، أي قمعها وخباها، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها، واللئام تنزل الأطراف والوديان .
فالبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه اللّه وشرح صدره، والفجور، والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح، فقال : ( مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما . فجعل المتصدق كلما هم بصدقة اتسعت وانبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت، وأخذت كل حلقة بمكانها، وأنا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه، فلو رأيتها يوسعها فلا تتسع ) أخرجاه .(1/344)
/وإخفاء المنزل وإظهاره تبعًا لذلك، قال تعالى : { يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } الآية [ النحل : 59 ] . فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل، والنفس البرة التقية النقية، التي قد زكاها صاحبها فارتفعت، واتسعت، ومجدت، ونبلت فوقت الموت تخرج من البدن تسيل، كالقطرة من في السقاء، وكالشعرة من العجين . قال ابن عباس : إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق . وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق . قال تعالى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الآية [ الأعراف : 58 ] . وهذا مثل البخيل والمنفق . قال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الآية [ الأنعام : 521 ] . وقال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الآية [ البقرة : 257 ] .
وقال له في سياق الرمي بالفاحشة، وذم من أحب إظهارها في المؤمنين، والمتكلم بما لا يعلم : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } الآية [ النور : 21 ] . فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية [ النور : 30 ] . وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس، فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ومكروه فعلها، ويجاهد نفسه إذا دعته إليها، إن كان مصدقًا لكتاب / ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا التصديق والإيمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة ، فتزكو بذلك أيضًا، بخلاف ما إذا عملت السيئات فإنها تتدنس وتندس، وتنقمع، كالزرع إذا نبت معه الدغل .(1/345)
والثواب إنما يكون على عمل موجود، وكذلك العقاب . فأما العدم المحض، فلا ثواب فيه ولا عقاب، لكن فيه عدم الثواب والعقاب، واللّه سبحانه أمر بالخير، ونهى عن الشر، واتفق الناس على أن المطلوب بالأمر فعل موجود، واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي، أم عدمي ؟ فقيل : وجودي، وهو الترك، وهذا قول الأكثر . وقيل : المطلوب عدم الشر، وهو ألا يفعله .
والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر، فلا بد ألا يقربه ويعزم على تركه، ويكره فعله، وهذا أمر وجودي بلا ريب، فلايتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه . . . وجودي، لكن قد لا يكون مريدًا له كما يكره أكل الميتة طبعًا، ومع ذلك، فلابد له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع، وهذا قدر زائد على كراهة الطبع، وهو أمر وجودي يثاب عليه، ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب / المحرم، ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان . وقد غمر إيمانه حكم طبعه، فهذا أعلى الأقسام الثلاثة، وهذا صاحب النفس المطمئنة، وهو أرفع من صاحب اللوامة التي تفعل الذنب، وتلوم صاحبها عليه، وتتلوم وتتردد، هل تفعله أم لا ؟ !
وأما من لم يخطر بباله أن اللّه حرمه، ولا هو مريد له، بل لم يفعله، فهذا لايعاقب ولا يثاب، إذ لم يحصل منه أمر وجودي يثاب عليه، أو يعاقب فمن قال : المطلوب ألا يفعل، إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب، فقد صدق، وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم، فليس كذلك، والكافر إذا لم يؤمن باللّه ورسوله، فلا بد لنفسه من أعمال يشتغل بها عن الإيمان، وترك الأعمال كفر يعاقب عليها .(1/346)
ولهذا لما ذكر اللّه عقوبة الكفار في النار، ذكر أمورًا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد والإيمان أعظم ما تزكو به النفس، وكان الشرك أعظم ما يدسيها، وتتزكى بالأعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف . قالوا : في { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، تطهر من الشرك، ومن المعصية بالتوبة، وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة : صدقة الفطر . ولم يريدوا أن الآية لم تتناول إلا هي، بل مقصودهم : أن من أعطى صدقة الفطر، وصلى صلاة العيد فقد تناولته وما بعدها، ولهذا / كان يزيد بن حبيب، كلما خرج إلى الصلاة خرج بصدقة، ويتصدق بها، قبل الصلاة، ولو لم يجد إلا بصلًا . قال الحسن : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } من كان عمله زاكيًا، وقال أبو الأحوص : زكاة الأمور كلها، وقال الزجاج : تزكى بطاعة اللّه عز وجل، ومعنى الزاكي : النامي الكثير .
وكذلك قالوا في قوله : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] قال ابن عباس : لايشهدون أن لا إله إلا اللّه، وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم أي ليست زاكية، وقيل لا يطهرونها بالإخلاص، كأنه أراد ـ واللّه أعلم ـ أهل الرياء، فإنه شرك . وعن الحسن : لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها . وعن الضحاك : لا يتصدقون، ولا ينفقون في الطاعة، وعن ابن السائب : لا يعطون زكاة أموالهم . قال : كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون .
والتحقيق أن الآية تتناول كل ما يتزكى به الإنسان من التوحيد والأعمال الصالحة . كقوله : { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } [ النازعات : 18 ] ، وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها .
فإن قيل : { يؤتي } فعل متعد .(1/347)
قيل : هذا كقوله : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا } [ الأحزاب : 14 ] ، وتقدم قبلها أن / الرسول دعاهم، وهو طلب منه، فكان هذا اللفظ متضمنًا قيام الحجة عليهم بالرسل، والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم .
ومما يليق : أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لأن معناها معنى الطهارة . قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } من الشر { وَتُزَكِّيهِمْ } [ التوبة : 103 ] بالخير قال صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهم طهرني بالماء والبرد والثلج ) كان يدعو به في الاستفتاح وفي الاعتدال من الركوع، والغسل .
فهذه الأمور توجب تبريد المغسول بها، و [ البرد ] يعطي قوة وصلابة، ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان دمع السرور باردًا، ودمع الحزن حارًا؛ لأن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها، وما يسرها يوجب فرحها وسرورها وذلك مما يبرد الباطن .
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب .
وقوله : بالثلج والبرد والماء البارد : تمثيل بما فيه من هذا الجنس، وإلا فنفس الذنوب لا تغسل بذلك، كما يقال : أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك . ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى الله عليه وسلم : ( الآن / برّدت جلدته ) ، ويقال : برد اليقين، وحرارة الشك، ويقال : هذا الأمر يثلج له الصدر، إذا كان حقًا يعرفه القلب ويفرح به، حتى يصير في مثل برد الثلج، ومرض النفس : إما شبهة وإما شهوة أو غضب، والثلاثة توجب السخونة، ويقال لمن نال مطلوبه : برد قلبه، فإن الطالب فيه حرارة الطلب .(1/348)
وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } : دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة، فإنه قاله بعد قوله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا } الآية [ التوبة : 102 ] . فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الآيات [ النور : 30 ] { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } الآية [ النور : 31 ] . فأمرهم جميعًا بالتوبة في سياق ما ذكره؛ لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس . كما في الصحيح : ( إن اللّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا ) الحديث . وكذلك في الصحيح : إن قوله : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع، ثم ندم فنزلت .
ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف اللّه، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة للّه، وعملًا صالحًا، وثبت عنه أنه قال : ( المجاهد من جاهد نفسه في ذات اللّه ) ، فيؤمر بجهادها / كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلي جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد . كما قال : ( والمهاجر من هجر السيئات ) .
ثم هذا لا يكون محمودًا فيه، إلا إذا غلب، بخلاف الأول فإنه من { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 74 ] ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة . . . ) إلخ؛ وذلك لأن اللّه أمر الإنسان أن ينهي النفس عن الهوى، وأن يخاف مقام ربه، فحصل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد، فإذا غلب كان لضعف إيمانه، فيكون مفرطًا بترك المأمور، بخلاف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى .(1/349)
فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به، ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور، فإنهما ضدان . قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الآية [ يوسف : 24 ] . وقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42، الإسراء : 65 ] فعباد اللّه المخلصون لا يغويهم الشيطان، والغي خلاف الرشد، وهو اتباع الهوى، فمن مالت نفسه إلى محرم، فليأت بعبادة اللّه كما أمر اللّه مخلصًا له الدين، فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء . . . . خشية ومحبة، والعبادة له / وحده، وهذا يمنع من السيئات .
فإذا كان تائبًا، فإن كان ناقصًا، فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع، فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم، ويرفعه بعد حصوله، وكالغذاء من الطعام والشراب، وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع النفس عن طلب الحرام، فإذا حصل له طلب إزالته، وكالعلم الذي يمنع من الشك، ويرفعه بعد وقوعه، وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع المرض، وكذلك ما في القلب من الإيمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به .(1/350)
وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه، ولا يحصل المرض إلا لنقص أسباب الصحة، كذلك القلب لا يمرض إلا لنقص إيمانه . وكذلك الإيمان والكفران متضادان، فكل ضدين : فأحدهما يمنع الآخر تارة، ويرفعه أخرى، كالسواد والبياض . . . حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاصلًا، كذلك الحسنات والسيئات والإحباط . . . والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى الإيمان، وإن من مات عليها لم يكن . . . الجبائي وابنه بالموازنة . لكن قالوا : من رجحت سيئاته خلد في النار، والموازنة بلا تخليد قول . . . الإحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر كما قال : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الآية [ البقرة : 217 ] ، وقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الآية [ المائدة : 5 ] ، وقال : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ، وقال : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية [ الزمر : 65 ] .
وما ادعته المعتزلة مخالف لأقوال السلف، فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره، ولم يجعلهم كفارًا حابطي الأعمال، ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين، والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم . والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الغال، وعلى قاتل نفسه، ولو كانوا كفارًا ومنافقين لم تجز الصلاة عليهم . فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله . وقال عمن شرب الخمر : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله ) وذلك الحب من أعظم شعب الإيمان . فعلم أن إدمانه لا يذهب الشعب كلها، وثبت من وجوه كثيرة : ( يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ولو حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه . وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الآية [ فاطر : 32 ] . فجعل من المصطفين .(1/351)
فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر ؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة . منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص، مثل قوله : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } الآية [ البقرة : 264 ] . دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي، وقالت عائشة : ابلغي زيدًا أن جهاده بطل . الحديث .
/وأما قوله : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [ الحجرات : 2 ] ، وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع . وقال تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] قال الحسن : بالمعاصي والكبائر، وعن عطاء : بالشرك والنفاق، وعن ابن السائب : بالرياء والسمعة، وعن مقاتل : بالمن . وذلك أن قومًا منوا بإسلامهم، فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط الأعمال .
فإن قيل : لم يرد إلا إبطالها بالكفر .
قيل : ذلك منهي عنه في نفسه، وموجب للخلود الدائم، فالنهي عنه لا يعبر عنه بهذا، بل يذكره على وجه التغليظ . كقوله : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] ونحوها . واللّه سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطالا، ولم يسمه إحباطًا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الآية [ محمد : 34 ] .
فإن قيل : المراد إذا دخلتم فيها فأتموها، وبها احتج من قال : يلزم التطوع بالشروع فيه .
قيل : لو قدر أن الآية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل، فإبطاله كله أولى، بدخوله فيها فكيف وذلك قبل فراغه لا يسمى صلاة ولا صومًا ؟ !(1/352)
ثم يقال : الإبطال يوجد قبل الفراغ أو بعده، وما ذكروه أمر بالإتمام، والإبطال هو إبطال الثواب، ولا نسلم أن من لم يتم العبادة يبطل جميع ثوابه، بل يقال : إنه يثاب على ما فعل من ذلك . وفي الصحيح حديث المفلس ( الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال ) .
(سقوط التكليف )
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=231 - TOP#TOPسئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن قوم داوموا على [ الرياضة ] مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا : لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام، فندخل في حجر التكليف؛ لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة فهل هذا القول كفر من قائله ؟ أم يبدع من غير تكفير ؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم ؟
فأجاب :
لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه . وهو شر من قول اليهود والنصارى، فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وأولئك هم الكافرون حقا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا، وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت . هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة .
وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم ـ كما هو الغالب على متكلمهم /ومتفلسفهم ـ كانوا شرًا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق، فهم شر ممن يظهر إيمانًا ويبطن نفاقًا .(1/353)
والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل : كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق، بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي .
فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه،وهم مع هذا لا بد أن يلتزموا بشيء يعيشون به، إذ لا يمكن النوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمر ونهي، فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته، ففرعون هو الذي قال لموسى : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] ثم كانت له آلهة يعبدها . كما قال له قومه : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] .(1/354)
/ولكن كثيرا من هؤلاء لا يطلقون السلب العام، ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقًا . بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أو حل بعض المحرمات لهم، فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه، لأن الكعبة تطوف به،أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي زعمًا منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعمًا منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة .
وهذه [ الشبهة ] كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ المائدة : 93 ] ، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا .
وقال عمر /لقدامة : أخطأت استك الحفرة . أما أنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب : أن الله سبحانه لما حرم الخمر ـ وكان تحريمها بعد وقعة أحد ـ قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين .(1/355)
وهذا كما أنه لما صرف القبلة وأمرهم باستقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، فقال الله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم إلى بيت المقدس . فبين سبحانه أن من عمل بطاعة الله أثابه الله على ذلك، وإن نهى عن ذلك في وقت آخر، ومن استحل ما لم يحرمه لم يكن عليه جناح، إذا كان من المؤمنين المتقين وإن حرم الله ذلك في وقت آخر، فأما بعد أن حرم الخمر فاستحلالها بمنزلة الصلاة إلى الصخرة بعد تحريم ذلك، وبمنزلة التعبد بالسبت واستحلال الزنا، وغير ذلك مما استقرت الشريعة على خلاف ما كان، وإلا فليس لأحد أن يستمسك من شرع منسوخ بأمر . ومن فعل ذلك كان بمنزلة المستمسك بما نسخ من الشرائع؛ فلهذا اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا، وعلموا أنهم أخطؤوا وأيسوا من التوبة . فكتب /عمر إلى قدامة يقول له : { حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [ غافر : 1-3 ] ، ما أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك المحرم أولًا ؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيًا ؟
وهذا الذي اتفق عليه الصحابة،هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة : كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة : كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة : كالخبز واللحم والنكاح ـ فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا ،لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة، إذا ظهر ذلك منه .(1/356)
ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش : كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعمًا منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرمًا في الشريعة . وكذلك من يستحل ذلك من المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول : إن التلوط مباح بملك اليمين . فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين، وهم /بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات، التي يعلم أنها من المحرمات تحريمًا ظاهرًا متواترًا .
لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [ الإسراء : 15 ] ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية، بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة ثم علم . هل يجب عليه قضاء ما تركه في حال الجهل ؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره :
أحدهما : لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة .(1/357)
والثاني : يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي، بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجبًا قبل بلوغ الحجة : مثل ترك الصلاة عند عدم الماء يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم، أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويحسب أن ذلك هو المراد بالآية، كما جرى ذلك /لبعض الصحابة، أو مس ذكره، أو أكل لحم الإبل ولم يتوضأ، ثم تبين له وجوب ذلك، وأمثال هذه المسائل هل يجب عليه القضاء ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره . وأصل ذلك هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه ؟ على [ ثلاثة أقوال ] في مذهب أحمد وغيره :
قيل : يثبت مطلقًا، وقيل : لا يثبت مطلقًا، وقيل : يفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة . والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية : أن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير .
وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث : ( يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا /صومًا ولا حجًا إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقول : أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا، فقال : ولا صوم ينجيهم من النار ) .(1/358)
وقد دل على هذا الأصل ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال رجل ـ لم يعجل حسنة قط ـ لأهله إذا مات فحرقوه، ثم أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبنه أحدًا من العالمين . فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه،ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يارب، وأنت أعلم؛ فغفر الله له ) ، وفي لفظ آخر : ( أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال : إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في البحر . فوالله لئن قدر على ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا . قال : ففعلوا ذلك به . فقال للأرض : أدّ ما أخذت، فإذا هو قائم . فقال له : ما حملك على ما صنعت . قال : خشيتك يارب . أو قال : مخافتك، فغفر له بذلك ) ، وفي طريق آخر : ( قال الله لكل شيء أخذ منه شيئًا : أد ما أخذت منه ) .
وقد أخرج البخاري هذه القصة من حديث حذيفة وعقبة بن عمرو أيضًا عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان /رجل فيمن كان قبلكم كان يسىء الظن بعمله، فقال لأهله : إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا، فجمعه الله . ثم قال : ما حملك على الذي فعلت ؟ فقال : ما حملني إلا مخافتك، فغفر له ) .
وفي طريق آخر : ( إن رجلا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي، ووصلت إلى عظمي، فامتحشت، فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا فذروني في اليم . فجمعه الله فقال له : لم فعلت ذلك ؟ قال : من خشيتك . فغفر الله له ) قال عقبة بن عمرو : أنا سمعته ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ يقول ذلك : ( وكان نباشًا ) .(1/359)
فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر . لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك، ضالًا في هذا الظن مخطئًا . فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد، وذلك كفر ـ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره ـ هو بين في عدم إيمانه /بالله تعالى ومن تأول قوله : لئن قدر الله على بمعنى قضى، أو بمعنى ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد . وقال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا .
فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، وإنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا، لأن يقدر الرب . قال : فوالله، لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء، ولأنه لو كان مراده ذلك لقال : فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابًا، كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك، ولأن لفظ : [ قدر ] بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة .(1/360)
ومن استشهد علي ذلك بقوله : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [ سبأ : 11 ] ، وقوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] قد استشهد بما لا يشهد له . فإن اللفظ كان بقوله : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } ، أي أجعل ذلك بقدر، ولا تزد ولا تنقص . وقوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ، أي جعل رزقه قدر ما يغنيه /من غير فضل، إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش .
وأما [ قدر ] بمعنى قَدَّرَ أي أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل : إن قدر علي ربي العذاب، بل قال : لئن قدر علي ربي، والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال : لئن قضى الله علي؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره، ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فعله مانعًا من ذلك في ظنه،ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها،فغاية ما في هذا أنه كان رجلا لم يكن عالمًا بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرًا .(1/361)
ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : بلى، قالت : لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، واضطجع فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت، فأخذ رداءه رويدًا، وانتقل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه /ثلاث مرات،ثم انحرف فانحرفت وأسرع فأسرعت فهرول وهرولت وأحضر وأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فقال : ( ما لك يا عائشة حَشْيَاءَ رابية ؟ ) قالت : لاشيء . قال : ( لتخبريني،أو ليخبرني اللطيف الخبير ) . قالت : قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته . قال : ( فأنت السواد الذي رأيت أمامي ؟ ) قلت : نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني . ثم قال : ( أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ ! ) قالت : قلت : مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال : ( نعم ) . قال : ( فإن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاني حين رأيت فناداني، فأخفاه منك فأجبته وأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننتُ أنك رقدت، وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي ـ فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم ) قلت : كيف أقول يا رسول الله ؟ قال قولي : ( السلام على أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) .(1/362)
فهذه عائشة أم المؤمنين، سألت النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم الله كل ما يكتم الناس ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعم ) ، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك /بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، و لهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ ! ) وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع .
فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام : أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت .
وأما قول القائل : هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
فيقال : هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا، بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين؛ لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لايصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له، ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه .
/وأما قولهم : إنهم قد تجوهروا، فقالوا : لا نبالي الآن ماعملنا ؟(1/363)
فيقال لهم : ماذا تعنون بقولكم ؟ فإن أرادوا أن النفس بقيت صافية طاهرة، لا تنازع إلى الشهوات والأهواء المردية، فهذا لو كان حقًا لكان معناه : أن النفس قد صارت مطيعة ليس فيها دواعي المعصية فتكون منقادة إلى فعل المأمور، ولا تميل إلى المحظور، وهذا غايته أن تكون معصومة لا تطلب فعل القبيح، وهذا ما يخرجها أن تكون مأمورة منهية كالملائكة .
وإذا قال مثل هؤلاء : لا ينافى ما عملنا، قيل لهم : الذي تعملونه إن كان من جنس الأهواء المردية فقد تناقضتم في زعمكم أن نفوسكم لم يبق لها هوى، وإن كان من جنس الأعمال الصالحة فهذا جنس لا ينكر، فعلم أنهم متناقضون في هذا الكلام إذا أرادوا بتجوهر النفس صفاءها وطهارتها عن الأكدار البشرية، مع أن هذا الكمال ممتنع في حق البشر ما دامت الأرواح في الأجسام، ولهذا أنكر المشائخ ذلك على من ادعاه، كالآثار المعروفة في ذلك عن الشيخ أبي علي الروذباري [ أبو علي الروذباري هو : أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور، وقيل : اسمه حسن بن هارون شيخ الصوفية، سكن مصر، وصحب الجنيد، وأبا الحسين النووي حدَّث عن مسعود الرملي وغيره وقال : أستاذي في الفقه ابن سريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحربي . قال أبو علي الكاتب : ما رأيت أحدًا أجمع لعلم الشريعة والحقيقة من أبي علي . توفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة . سير أعلام النبلاء 41/535، 536 ] ، وغيرهم وأعظم الناس درجة الأنبياء عليهم السلام، وقد أمرهم الله بالتوبة والاستغفار، حتى خاتم الرسل أمره الله في أواخر ما أنزل عليه من القرآن ما أمره به بقوله : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] .(1/364)
/ولهذا كان الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الأنبياء إنما هم معصومون من الإقرار على الذنوب،وإن الله يستدركهم بالتوبة التي يحبها الله ـ { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } [ البقرة : 222 ] ـ وإن كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين . وإن ما صدر منهم من ذلك إنما كان لكمال النهاية بالتوبة لا لنقص البداية بالذنب . و أما غيرهم فلا تجب له العصمة، وإنما يدعي العصمة المطلقة لغير الأنبياء الجهال من الرافضة وغالية النساك، وهذا مبسوط في موضعه .
وأما قولهم : حاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، فلا ريب أن الله يبعث الأنبياء لما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ولا ريب أن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، ولا ريب أن الحكمة هي العلم والعمل بها، كما فسرها بذلك مالك بن أنس وغيره من الأئمة، لكن أي شيء في هذا مما يوجب سقوطها عن بعض العباد ؟ وإنما يخرج عن الحكمة والمصلحة من يكون سفيها مفسدًا { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] .
وأما قولهم : المراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام .
فالكلمة الأولى : زندقة ونفاق،والثانية كذب واختلاق، فإنه ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام، بل المراد منها الصلاح باطنًا /وظاهرًا، للخاصة والعامة في المعاش والمعاد، ولكن في بعض فوائد العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط العوام . كما قال عثمان ابن عفان ـ رضي الله عنه : ( إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ) فإن من يكون من المنافقين والفجار فإنه ينزجر بما يشاهده من العقوبات، وينضبط عن انتهاك المحرمات، فهذا بعض فوائد العقوبات السلطانية المشروعة .
وأما فوائد الأمر والنهي : فأعظم من أن يحصيها خطاب أو كتاب، بل هي الجامعة لكل خير يطلب ويراد، وفي الخروج عنها كل شر وفساد .(1/365)
ودعوى هؤلاء أنهم من الخواص، يوجب أنهم من حثالة منافقي العامة، وهم داخلون فيما نعت الله به المنافقين في قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 8- 18 ] ، وفي مثل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ(1/366)
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 60 : 65 ] . ولبسط الكلام على أمثال هؤلاء موضع غير هذا .
ومن هؤلاء من يحتج بقوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، ويقول معناها : اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة . وربما قال بعضهم : اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض، وارتكاب المحارم، وهذا كفر، كما تقدم .
ومنهم من يظن استغناءه عن النوافل حينئذ، وهذا مغبون منقوص جاهل ضال خاسر باعتقاد الاستغناء عن النوافل واستخفافه بها حينئذ، /بخلاف من تركها معتقدًا كمال من فعلها حينئذ معظمًا لحاله، فإن هذا ليس مذمومًا، وإن كان الفاعل لها مع ذلك أفضل منه، أو يكون هذا من المقربين السابقين، وهذا من المقتصدين ،أصحاب اليمين .(1/367)
ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة ـ أمرًا ونهيًا ـ إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصًا عاجزًا محرومًا، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقًا، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدًا منافقًا، أو كافرًا ملعنًا . وهؤلاء كثيرون جدًا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر .(1/368)
فأما استدلالهم بقوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري : إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلا دون الموت، وقرأ قوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين وهؤلاء من المستيقنين . وذلك مثل قوله : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } إلى قوله : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَع الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين } ُ [ المدثر : 42 : 47 ] . فهذا قالوه وهم في جهنم . وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين . ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم : { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] ، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما توفى عثمان بن مظعون ـ وشهدت له بعض النسوة بالجنة . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( وما يدريك ؟ إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي ) وقال : ( أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه ) أي أتاه وعده وهو اليقين .
فصل(1/369)
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر [ ذلك الشيخ ] لمسجد الجامع . وكان قد كتب إلى كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل .
فقلت لهم : الجواب يكون بالخطاب . فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، /وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] ، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع : أهل الأهواء .(1/370)
فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب . فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله . فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو ـ على ما ذكر لي ـ وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة، فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردي، وإظهار التوله /الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال .
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له : هم مشتكون، فقال : ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليَّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم : فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : بل يقوله عن الله و رسوله صلى الله عليه وسلم، قال : فأي شىء يقال له ؟ قالوا : نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال : فنسمع كلامه، فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا : نريد أن تشد منا، قال : لا، ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا : ولا بد من حضوره ؟ قال : نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلى بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء .(1/371)
فلما علمت ذلك ألقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة /الحال، وإني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وإن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان، فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة . وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض؛ كبلاد الترك ومصر وغيرها : أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله . وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق .
ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لابد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقى في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء .
وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية /كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى . ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد .(1/372)
فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب . وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالًا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وإن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء، وإن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وإنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر، وأن لهم طريقًا وله طريق، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى ذات الزخرف والتزويق .
وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، /وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لايزول بقول قائل .
قال المخبر : فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلىَّ مرة ثانية، فبلغه أني في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في حضورهم . فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ماذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء . وقال : إنهم قالوا : إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت : هذا من البهتان .(1/373)
وها أنا ذا أصف ما كان، قلت للأمير : نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار . وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم . وذكرت /تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري [ هو أيدمر بن عبد الله التركي، المكنى بعلم الدين المحيوي، شاعر،له قصائد وموشحات جيدة السبك، تركي الأصل، له اشتغال بالحديث، توفي سنة 674هـ . [ الأعلام للزركلي 2/34 ] . ، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم . فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالًا وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض وأخذوا منه مالا كثيرا ثم انكشف له أمرهم .(1/374)
قلت للأمير : وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلًا في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا : إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق : الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، /فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي : إنه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابا وهو نائب السلطنة بحماة يخبره بصورة ما جرى .
وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره .
قلت للأمير : أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالًا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا : هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه ـ سواء وافق الشرع أو خالفه ـ وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار .(1/375)
فقال الأمير : ولم ذاك ؟ قلت : لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق وغير ذلك /من الحيل المعروفة لهم، و أنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال : أتفعل ذلك ؟ فقلت له : نعم ! قد استخرت الله في ذلك وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لابد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا،فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات .
وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة؛ لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم . فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير، الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط، بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال : اليوم ترى حربًا عظيمًا، ولعل ذلك كان /جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل .(1/376)
وحضر شيوخهم الأكابر، فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير : إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وإن لهم فيهم ظنًا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال، فإنه ذكر لي ذلك .
وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وأكرمه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، الطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } [ لقمان : 19 ] .
فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكى، وشيخ آخر /يسمى نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه : عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك . وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني ،فبقى في نفسي أن هذا خفي على تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفي على تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقى ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه .(1/377)
فلما حضروا، تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع، ومتبعون للشريعة . فقلت : أما التوبة فمقبولة . قال الله تعالى : { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [ غافر : 3 ] ، هذه إلى جنب هذه . وقال تعالى : { ن نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [ الحجر : 49، 50 ] .
فأخذ شيخهم المشتكى ينتصرللبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه روى أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقًا، في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت .
/فقلت لهم : ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال : ( أمتهوكون يابن الخطاب ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ) ، وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال : ( كفي بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم ) ، وأنزل الله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] .
فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا، كما قال تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ(1/378)
عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] ، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها ؟ ! وما علينا من عباد بني إسرائيل ؟ ! { لْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ البقرة : 134 ] ، هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح؛ كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية .
/فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير : نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية .
فقلت له : هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني [ هو محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، كمال الدين، المعروف بابن الزملكاني فقيه، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، ولد وتعلم بدمشق وتوفي في بلبيس ودفن بالقاهرة، له رسالة في الرد على ابن تيمية في مسألتي [ الطلاق والزيارة ] وله كتاب في التاريخ، وكتب أخرى، وكان شكله حسنًا ومنظره رائعًا، وعقيدته صحيحة متمكنة أشعرية . [ فوات الوفيات 4/7-11 ( 488 ) ] ، مفتى الشافعية ودعوته وقلت : ياكمال الدين ما تقول في هذا ؟ فقال : هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، أو كما قال . وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك .
وقلت : ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فإني تكلمت بكلام بَعُد عهدي به .(1/379)
فانتدب ذلك الشيخ [ عبد الله ] ورفع صوته . وقال : نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه : مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وإن لنا أمرًا لا يقف عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا .
/فقلت له ـ ورفعت صوتي وغضبت ـ : الباطن والظاهر والجالس والمدارس، والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولامن الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وذكرت هذا ونحوه .
فقال ـ ورفع صوته ـ : نحن لنا الأحوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة؛ كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها .
فقلت ـ ورفعت صوتي وغضبت ـ : أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت : فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك ؟ فقلت : لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء : من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق . فضج الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال : أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت . فقلت : فقم، /وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص فقلت : لا ! حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم، فقال : من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال : حزمة حطب . فقلت : هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود بل قنديل يوقد وأدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت : فهو مغلوب . فلما قلت ذلك تغير وذل . وذكر لي أن وجهه اصفرّ .(1/380)
ثم قلت لهم : ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك مايدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء : أمطري فتمطر، وللأرض : أنبتى فتنبت، وللخربة : أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلا ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له : قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب .
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي : لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي : أتدري /ما قال صاحبنا، يعني الليث بن سعد ؟ قال : لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به . فقال الشافعي : لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به، وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به . ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها .
فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا مامضمونه : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 118، 119 ] ،وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهما، فقلت : ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة . وأنه دخل إلى الروم واستحوذ عليهم .(1/381)
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون رجعوا، وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى /داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما تطلب منهم فقلت : متابعة الكتاب والسنة مثل ألا يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه .
فقالوا : نحن ملتزمون الكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق ؟ نحن نخلعها . فقلت : الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئًا معينًا،وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال الأمير : فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة ؟ فقلت : حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزامًا عامًا، ومن خرج عنه ضربت عنقه ـ وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان ـ وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة، وأهل الديوان، والعلماء والعباد، وهؤلاء وولاة الأمور ـ أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه .(1/382)
/قلت : ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته، حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا على في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة : يا سيدي أحمد، شيء لله . وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة . وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة .
فقال : هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس .
فقلت : العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه،وأما هذا الصياح فهو من الشيطان،وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى : مثل قول أحدهم : أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين ليسوا / مغلوبين على ذلك، كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها .(1/383)
فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم قلت له : أهذا موافق للكتاب والسنة ؟ فقال : هذا من الله حال يرد عليهم، فقلت : هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال : مافي السموات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له : هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل مافي العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن .
فقال : فبأي شيء تبطل هذه الأحوال . فقلت : بهذه السياط الشرعية . فأعجب الأمير وضحك، وقال : أي والله، بالسياط الشرعية تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت : هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير / هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول : فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن ؟ فقلت : اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته . فأفحموا لذلك .
و [ حقيقة الأمر ] أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لم يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًا فهو إما مرتد وإما مشرك وإما زنديق ظاهر الزندقة .(1/384)
وذكرت ذم [ المبتدعة ] فقلت : روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : ( إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) .
وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين / من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) وفي رواية : ( وكل ضلالة في النار ) .
فقال لي : البدعة مثل الزنا، وروى حديثًا في ذم الزنا، فقلت : هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، وكان قد قال بعضهم : نحن نتوب الناس، فقلت : مماذا تتوبونهم ؟ قال : من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك . فقلت : حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي .(1/385)
قلت مخاطبًا للأمير والحاضرين : أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة . وقال : / لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) . قلت : فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه .
وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) وفي رواية : ( لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ) وفي رواية : ( شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه ) .(1/386)
قلت : فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، /وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي : لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء . فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر . أخذ شيخهم عبد الله يقول : يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز ـ يعني أتباع أحمد بن الرفاعي ـ فقلت منكرًا بكلام غليظ : ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز ياذو الزرجنة ،تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال : يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت : مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم : إن لهم سرًا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم . وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل .
وقلت لهم : يا شبه الرافضة يا بيت الكذب ـ فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ماقد يقاربون به الرافضة في ذلك،أو يساوونهم، / أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم : لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا : أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم : أنا كافر بكم وبأحوالكم، فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون .
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده(1/387)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=235 - TOP#TOPسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه
عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ وتعلق كل منهم بسبب؛ واستند إلى قول قيل . فمنهم من هو مكب على حضور السماعات المحرمة التي تعمل بالدفوف التي بالجلاجل والشبابات المعروفة في هذا الزمان . ويحضرها المردان والنسوان ويستند في ذلك إلى دعوى جواز حضور السماع عند الشافعي وغيره من الأئمة .
فأجاب : أما السماعات المشتملة على الغناء والصفارات والدفوف المصلصلات : فقد اتفق أئمة الدين أنها ليست من جنس القرب والطاعات بل ولو لم يكن على ذلك كالغناء والتصفيق باليد والضرب بالقضيب والرقص ونحو ذلك فهذا وإن كان فيه ما هو مباح وفيه ما هو مكروه وفيه ما هو محظور أو مباح للنساء دون الرجال .
فلا نزاع بين أئمة الدين أنه ليس من جنس القرب والطاعات والعبادات ولم يكن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وغيرهم من مشايخ الدين يحضرون مثل هذا السماع لا بالحجاز ولا مصر ولا الشام ولا العراق ولا خراسان . لا في زمن الصحابة والتابعين ولا تابعيهم . لكن حدث بعد ذلك : فكان طائفة يجتمعون على ذلك ويسمون الضرب بالقضيب على جلاجل ونحوه [ التغبير ] .(1/388)
قال الحسن بن عبد العزيز الحراني : سمعت الشافعي يقول : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذ بها حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) وقد فسره الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما بأنه من الصوت فيحسنه بصوته ويترنم به بدون التلحين المكروه وفسره ابن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بأنه الاستغناء به وهذا وإن كان له معنى صحيح فالأول هو الذي دل عليه الحديث فإنه قال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به ) وفي الأثر : ( إن العبد إذا ركب الدابة أتاه الشيطان وقال له : تغن فإن لم يتغن . قال له : تمن ) فإن النفس لا بد لها من شيء في الغالب تترنم به . فمن لم يترنم بالقرآن ترنم بالشعر . وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعارفين والعالمين . قال الله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } الآية [ مريم : 58 ] . وقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } الآية [ المائدة : 83 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الآيتين [ الإسراء : 107 ] وقال : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية [ الزمر : 23 ] . وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية [ الأنفال : 2 ] . وهذا [ السماع ] هو الذي شرعه الله للمؤمنين في الصلاة وخارج الصلاة وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والناس يستمعون .(1/389)
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى وهو يقرأ . فجعل يستمع لقراءته . وقال : ( مررت بك البارحة وأنت تقرأ . فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ) أي : لحسنته تحسينا . وكان عمر يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون لقراءته . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : ( اقرأ علي القرآن . فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل قال : إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } ؟ [ النساء : 41 ] فقال : حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان بالدمع ) فهذا هو السماع الذي يسمعه سلف الأمة وقرونها المفضلة . وخيار الشيوخ إنما يقولون بهذا السماع . وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها . فأكابر الشيوخ لم يحضروا هذا السماع كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم من المتأخرين : كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان وأمثال هؤلاء المشايخ : فإنهم لم يكونوا يحضرون هذا السماع وقد حضره طائفة من الشيوخ وأكابرهم ثم تابوا منه ورجعوا عنه . وكان الجنيد - رحمه الله تعالى - لا يحضره في آخر عمره . ويقول : من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به أي من قصد السماع صار مفتونا وأما من سمع بيتا يناسب حاله بلا اقتصاد فهذا يستريح به . والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع مردان ونسوان ولا مع مصلصلات وشبابات وكانت أشعارهم مزهدات مرققات . فأما [ السماع ] المشتمل على منكرات الدين فمن عده من القربات استتيب فإن تاب وإلا قتل . وإن كان متأولا جاهلا بين له خطأ تأويله وبين له العلم الذي يزيل الجهل . هذا من كونه طريقا إلى الله .(1/390)
وأما كونه محرمًا على من يفعله على وجه اللهو واللعب لا على وجه القربة إلى الله فهذا فيه تفصيل فأما المشتمل على الشبابات والدفوف المصلصلة فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه . وذكر أبو عمرو بن الصلاح أن هذا ليس فيه خلاف في مذهب الشافعي فإن الخلاف إنما حكي في اليراع المجرد مع أن العراقيين من أصحاب الشافعي لم يذكروا في ذلك نزاعا ولا متقدمة الخراسانيين وإنما ذكره متأخرو الخراسانيين . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف على وجه الذم لهم وأن الله معاقبهم . فدل هذا الحديث على تحريم المعازف . والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها . ولهذا قال الفقهاء : أن من أتلفها فلا ضمان عليه إذا أزال التالف المحرم وإن أتلف المالية ففيه نزاع ومذهب أحمد المشهور عنه . ومالك أنه لا ضمان في هذه الصور أيضًا وكذلك إذا أتلف دنان الخمر وشق ظروفه وأتلف الأصنام المتخذة من الذهب كما أتلف موسى عليه السلام العجل المصنوع من الذهب وأمثال ذلك . وسئل عمن يؤاخي النسوان ويظهر شيئا من جنس الشعبذة؛ كنقش شيء من القطن أو الخرقة باللاذن أو بغير ذلك أو يمسك النار مباشرة بكفه أو بأصابعه بلا حائل بينه وبينها . إلخ . فأجاب : وأما مؤاخاة النساء وإظهار الإشارات المذكورة؛ فهي من أحوال إخوان الشياطين وأصحاب هذه الإشارات ليس فيهم ولي لله بل هم بين حال شيطاني ومحال بهتاني من حال إبليس ومحال تلبيس . وهؤلاء أصل حالهم أن الشياطين تنزل على من يعمل ما يحبه الشيطان من الكذب والفجور فإذا خرج أحدهم عن العقل والدين وصار من المتهوكين - الذين يطيعون الشيطان ويعصون الرحمن . وله شخير ونخير كأصوات الحمير يحضر أحدهم السماع ويؤاخون النسوان ويتخذون الجيران ويرقصون كالقرود وينقرون في صلاتهم الركوع والسجود .(1/391)
يبغضون سماع القرآن واتباع شريعة الرحمن - تنزلت عليهم الشياطين التي تنزل على كل أفاك أثيم؛ فمنهم من ترفعه في الهواء ومنهم من تدخله النار ومنهم من يمشي ومعه ضوء يريه أن ذلك كرامات ومنهم من يستغيث بالشيخ ويخاطب من يستغيث بالشيخ حتى يرى أن ذلك كرامة للشيخ ومنهم من يحضر طعاما وفاكهة وحلوى إلى أمور أخرى قد عرفناها وعرفنا من وقعت له هذه الأمور وأضعافها . فإذا تاب الرجل والتزم دين الإسلام وصلى صلاة المسلمين وتاب عما حرمه رب العالمين واعتاض بسماع القرآن عن سماع الشيطان ذهبت تلك الأحوال الشيطانية فإن قوي إيمانه حصلت له مقامات الصالحين وإلا كفاه أن يكون من أهل جنة النعيم وهذا بين يعرف المسلم أن هذه الأحوال شيطانية لا كرامات إيمانية . وسئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد ومنهم من يقول : إن غاية التحقيق وكمال سلوك الطريق ترك التكليف . بحيث أنه إذا ألزم بالصلاة يقوم ويقول : خرجنا من الحضرة ووقفنا بالباب . فأجاب : أما من جعل كمال التحقيق الخروج من التكليف . فهذا مذهب الملاحدة من القرامطة والباطنية ومن شابههم من الملاحدة المنتسبين إلى علم أو زهد أو تصوف أو تزهد يقول : أحدهم إن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة فإذا حصلت زال عنه التكليف ومن قال : هذا فإنه كافر مرتد باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جار على كل بالغ عاقل إلى أن يموت قال تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . قال الحسن البصري : لم يجعل الله لعمل المؤمن غاية دون الموت؛ وقرأ هذه الآية . و [ اليقين ] هنا ما بعد الموت .(1/392)
كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 46، 47 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لما مات عثمان بن مظعون : أما عثمان فإنه أتاه اليقين من ربه ) وقد سئل الجنيد بن محمد - رحمه الله تعالى - عمن يقول : إنه وصل من طريق البر إلى أن تسقط عنه الأعمال . فقال : الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء ولقد صدق الجنيد - رحمه الله - فإن هذه كبائر وهذا كفر ونفاق والكبائر خير من الكفر والنفاق . وقول الواحد من هؤلاء : خرجنا من الحضرة إلى الباب كلمة حق أريد بها باطل فإنهم خرجوا من حضرة الشيطان إلى باب الرحمن كما يحكى عن بعض شيوخ هؤلاء : أنهم كانوا في سماع فأذن المؤذن فقام إلى الصلاة . فقال : كنا في الحضرة فصرنا إلى الباب ولا ريب أنه كان في حضرة الشيطان فصار على باب الرحمن أما كونه أنه كان في حضرة الله فصار على بابه؛ فهذا ممتنع عند من يؤمن بالله ورسوله فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) . وفي الصحيح عن ابن مسعود . عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة على مواقيتها ) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته ) وآخر شيء وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة وكان يقول : ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) وكان يقول : ( أرحنا يا بلال بالصلاة ) ولم يقل أرحنا منها فمن لم يجد قرة عينه وراحة قلبه في الصلاة فهو منقوص الإيمان . قال الله تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] .(1/393)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) .
وهذا باب واسع لا ينكره من آمن بالله ورسوله .
سئل شيخ الإسلام الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ـ عما أحدثه الفقراء المجردون، والمطوعون من صحبة الشباب، ومؤاخاة النسوان والماجريات، وحط رؤوسهم بين يدى بعضهم بعضًا، وأكلهم مال بعضهم بعضا بغير حق، ومن جنى يشال تحت رجليه، ويضرب بغير حق، ووقوفهم مكشوفو الرؤس، منحنين كالراكعين، ووضع النعال على رؤوسهم، ولباسهم الصوف، والرقع، والسجادة والسبحة، وأكل الحشيشة . وإذا جاءهم أمرد فرضوا عليه أن يصحبه واحد منهم، ويطلبوا منه الصحبة، هل يجوز ذلك ؟ أو نقل عن الصحابة ؟
فأجاب :
الحمد لله، أما صحبة المردان، على وجه الاختصاص بأحدهم ـ كما يفعلونه ـ مع ما ينضم إلى ذلك من الخلوة بالأمرد الحسن، ومبيته مع الرجل، ونحو ذلك، فهذا من أفحش المنكرات عند المسلمين، وعند اليهود، والنصارى، وغيرهم، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ودين سائر الأمم، بعد قوم لوط : تحريم الفاحشة اللوطية، ولهذا بين الله فى كتابه أنه لم يفعلها قبل قوم لوط أحد من العالمين، وقد عذب الله /المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدًا من الأمم، حيث طمس أبصارهم وقلب مدائنهم، فجعل عليها سافلها، وأتبعهم بالحجارة من السماء .
ولهذا جاءت الشريعة بأن الفاحشة التى فيها القتل : يقتل صاحبها بالرجم بالحجارة، كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعز بن مالك الأسلمى والغامدية وغيرهم، ورجم بعده خلفاؤه الراشدون .(1/394)
والرجم شرعه الله لأهل التوراة والقرآن، وفى السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) . ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعًا، لكن تنوعوا فى صفة القتل : فبعضهم قال : يرجموا : وبعضهم قال : يرمى من أعلى جدار فى القرية ويتبع بالحجارة، وبعضهم قال : يحرق بالنار، ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد .
وكذلك مقدمات الفاحشة عند التذاذ بقبلة الأمرد، ولمسه والنظر إليه، هو حرام باتفاق المسلمين . كما هو كذلك فى المرأة الأجنبية . كما ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( العينان / تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزنى وزناها السمع، واليد تزنى وزناها البطش، والرجل تزنى وزناها المشى، والقلب يتمنى ويشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) .
فإذا كان المستحل لما حرم الله كافرًا، فكيف بمن يجعله قربة وطريقًا إلى الله تعالى ؟ ! قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، وسبب نزول الآية أن غير الحمس من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، فجعل الله كشف عوراتهم فاحشة، وبين أن الله لا يأمر بالفحشاء، ولها لما حج أبو بكر الصديق قبل حجة الوداع، نادى ـ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحج المسلم والمشرك ـ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان . فكيف بمن يستحل إتيان الفاحشة الكبرى ؟ أو ما دونها ؟ ويجعل ذلك عبادة وطريقًا .(1/395)
وإن كان طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم من ضلال المتنسكة جعلوا عشق الصور الجميلة من جملة الطريق التى تزكى بها النفوس،فليس هذا من دين المسلمين،ولا اليهود ولا النصارى، وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله .
/وإن كان أتباع هؤلاء زادوا على ما شرعه سادتهم وكبراؤهم، زيادات من الفواحش التى لا ترضاها القرود، فإنه قد ثبت فى صحيح البخارى ( أن أبا عمران رأى فى الجاهلية قردًا زنا بقردة، فاجتمعت عليه القرود فرجمته ) . ومثل ذلك قد شاهده الناس فى زماننا فى غير القرود، حتى الطيور .
فلو كانت صحبة [ المردان ] المذكورة خالية عن الفعل المحرم، فهى مظنة لذلك، وسبب له، ولهذا كان المشائخ العارفون بطريق الله يحذرون من ذلك . كما قال فتح الموصلى : أدركت ثلاثين من الأبدال كل ينهانى عند مفارقتى إياه عن صحبة الأحداث، وقال معروف الكرخى : كانوا ينهون عن ذلك . وقال بعض التابعين : ما أنا على الشاب الناسك من سبع يجلس إليه، بأخوف منى عليه من حدث يجلس إليه . وقال سفيان الثورى، وبشر الحافى : أن مع المرأة شيطانًا، ومع الحدث شيطانين، وقال بعضهم : ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه الله بصحبة هؤلاء الأحداث . وقد دخل من فتنة الصور والأصوات على النساك ما لا يعلمه إلا الله، حتى اعترف أكابر الشيوخ بذلك . وتاب منهم من تداركه الله برحمته .
ومعلوم أن هذا من باب اتباع الهوى بغير هدى من الله . { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] . ومن استحل ذلك، أو / اتخذه دينًا،كان ضالًا مضاهيًا للمشركين والنصارى، ومن فعله مع اعترافه بأنه ذنب أو معصية كان عاصيًا أو فاسقًا .(1/396)
وكذلك مؤاخاة [ المرأة الأجنبية ] بحيث يخلو بها، وينظر منها ما ليس للأجنبى أن ينظره حرام باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا كفر وضلال . والمال الذى يؤخذ لأجل إقرارهم، ومعونة على محادثة الرجل الأمرد، هى من جنس جعل القوادة، ومطالبتهم له بالصحبة من جنس العرس على البغى . والله سبحانه أباح النكاح غير مسافحين، ولا متخذى أخدان، فالمرأة المسافحة تزنى بمن اتفق لها . وكذلك الرجل المسافح؛ الذى يزنى مع من اتفق له، وأما المتخذ الخدن فهو الرجل يكون له صديقة، والمرأة يكون لها صديق، فالأمرد المخادن للواحد من هؤلاء من جنس المرأة المتخذة خدنًا، وكذلك الجعل والمال الذى يؤخذ على هذا من جنس مهر البغى، وجعل القوادة ونحو ذلك .
وأما [ الماجريات ] فإذا اختصم رجلان بقول أو فعل وجب أن يقام فى أمرهما بالقسط . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } [ النساء : 135 ] . وقال { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 8 ] ، وقال : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } الآية [ الحجرات : 9 ] ، / وقد روى : أن اقتتالهما كان بالجريد والنعال .(1/397)
وقد قال تعالى : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الآية [ النساء : 114 ] . وقال : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ النساء : 58 ] . وقال : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] . وقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } الآية [ النحل : 126 ] .
فإن كان الشخصان قد اختصما، نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما، كان المظلوم بالخيار بين الاستفاء والعفو، والعفو أفضل، فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه، أو يلطمه، كما فعل به عند جماهير السلف، وكثير من الأئمة، وبذلك جاءت السنة، وقد قيل : إنه يؤدب . ولا قصاص فى ذلك .
وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله، أو على غير الظالم . فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه، فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأنه لم يظلمه، وإن افترى عليه كذبًا لم يكن له أن يفترى عليه كذبًا، لأن الكذب حرام، لحق الله، كما قال كثير من / العلماء فى القصاص فى البدن : إنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل . فهذا أصح قولى العلماء، إلا أن يكون الفعل محرمًا لحق الله، كفعل الفاحشة، أو تجريعه الخمر، فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك .(1/398)
وإذا اعترف الظالم بظلمه، وطلب من المظلوم أن يعفو عنه، ويستغفر الله له، فهذا حسن مشروع . كما ثبت فى الصحيح عن أبى الدرداء : أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام، وإن أبا بكر طلب من عمر أن يستغفر له فأبى عمر، ثم ندم . فطلب أبا بكر فوجده قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له ذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يغفر الله لك يا أبا بكر ) ، ثم قال : ( أيها الناس، إنى قد جئت إليكم فقلت : إنى رسول الله، فقلتم : كذبت، وقال أبو بكر : صدقت، فهل أنتم تاركوا لى صاحبى ؟ ) .
وإذا طلب من المظلوم العفو بعد اعتراف الظالم فأجاب، كان من المحسنين الذين أجرهم على الله، وإن أبى إلا طلب حقه لم يكن ظالمًا . لكن يكون قد ترك الأفضل الأحسن، فليس لأحد أن يخرجه عن أهل الطريق بمجرد ذلك، كما قد يفعله كثير من الناس . قال الله تعالى : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الشورى : 41، 42 ] فإنه لو كان من ترك الإحسان الذى لا يجب عليه يحسب خارجًا عن الطريق خرج عنه جمهور أهله .
و [ أولياء الله ] على صنفين : مقربين سابقين، وأصحاب يمين مقتصدين . كما روى البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله تعالى : من عادى لى وليًا فقد بارزني بالمحاربة .
وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) .(1/399)
ثم أكثر هؤلاء الذين يذمون تارك العفو إنما يذمونه لأهوائهم لكون الظالم صديق أحدهم أو وريثه، أو قرينه ونحو ذلك .
والله سبحانه أوجب على عباده العدل فى الصلح، كما أو جبه فى الحكم . فقال تعالى : { ٌفَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] . وقيد الإصلاح الذى يثيب عليه بالإخلاص، فقال / تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 114 ] . إذ كثير من الناس يقصدون الإصلاح، إما لسمعة وإما لرياء .
ومن العدل أن يمكن المظلوم من الانتصاف، ثم بعد ذلك الشفاعة إلى المظلوم فى العفو، ويصالحه الظالم، وترغيبه فى ذلك . فإن الله تعالى إذا ذكر فى القرآن حقوق العباد التى فيها وزر الظالم ندب فيها إلى العفو، كقوله سبحانه : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ } [ المائدة : 45 ] ، وقوله : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ الشورى : 40 ] .
وعن أنس قال : ( ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء فى القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) وليس من شرط طلب العفو من المظلوم أن الظالم يقوم على قدميه، ولا يضع نعليه على رأسه، ونحو ذلك مما قد يلتزمه بعض الناس . وإنما شرطه التمكين من نفسه حتى يستوفى منه الحق . فإذا أمكن المظلوم من استيفاء حقه فقد فعل ما وجب عليه . ثم المستحق بالخيار إن شاء عفى، وإن شاء استوفى .
وللمظلوم أن يهجره ثلاثًا، وأما بعد الثلاث فليس له أن يهجره على ظلمه إياه، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن / يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام ) .(1/400)
وأما إذا كان الذنب لحق الله كالكذب، والفواحش، والبدع المخالفة للكتاب والسنة، أو إضاعة الصلاة بالتفريط، وواجباتها، ونحو ذلك، فهذا لا بد فيه من التوبة، وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح فى العمل ؟ على قولين للعلماء، وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصى بحسب ذنبه تعزيرًا يليق بمثله أن يفعله بمثله، مثل هجره مدة . كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس فى دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس فى أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين .
وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التى هم أولو أمرها . وهو كذلك فسر أولى الأمر فى قوله : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [ النساء : 59 ] بأمراء الحرب : من الملوك ونوابهم، وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم، ويأمرونهم بطاعة الله، فإن قوام الدين بالكتاب والحديد، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] .
وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه، إذا لم يقم به غيرهم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان ) .(1/401)
وقد يكون تعزيره بنفيه عن وطنه مدة، كما كان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ينفى من شرب الخمر . وكما نفى نصر بن حجاج إلى البصرة، لخوف فتنة النساء به، وقد مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفى فى الزنا، ونفى المخنث، وأمر بعض المشائخ للمسىء بالسفر هذا أصله . وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل طويل ببيان الذنوب، والتوبة منها، وشروط التوبة، وهو حال مستصحب للعبد من أول أمره إلى آخر عمره، كما قال تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } الآية [ النصر : 1، 2 ] .
وإذا تاب العبد، وأخرج من ماله صدقة للتطهر من ذنبه، كان ذلك حسنًا مشروعًا قال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 104 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فتنة الرجل فى أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) وقال كعب بن مالك : إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ) .
لكن لا يجوز إلزامه بصدقة، ولا تجب عليه لا بإخراج ثيابه، ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يقصد مطالبته بالتوبة أن يؤكل ماله، لا سيما إذا أعنت فجعل له ذنب من غير ذنب، فإن هذا يبقى كذبا وظلمًا، وأكلًا للمال بالباطل، ولا يجب أن يكون ما يخرجه صدقة مصروفًا فى طعام يأكلونه، بل الخيرة إليه بوضعه حيث يكون أصلح وأطوع لله ولرسوله .(1/402)
والذى ينبغى أن ينظر أحق الناس بتلك الصدقة فتدفع إليه . وأما أن يجعل من جملة التوبة صنعة طعام، ودعوة، فهذا بدعة . فما زال الناس يتوبون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير هذه البدعة .
/وأما الشكر الذى فيه إخراج شىء من ماله : كملبوس، أو غيره شكرًا لله على ما أنعم به، إما من توبة، وإما إصلاح، ونحو ذلك، فهو حسن مشروع، فإن كعب بن مالك لما جاءه المبشر بتوبة الله عليه، أعطاه ثوبه الذى كان عليه، واستعار ثوبًا ذهب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . لكن تعيين اللباس وغيره فى الشكر بدعة أيضًا . فإن فعل ذلك أحيانًا فهو حسن، فلا يجعل واجبًا أو مستحبًا، إلا ما جعله الله ورسوله واجبًا أو مستحبًا، ولا ينكر إلا ما كرهه الله ورسوله . فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرم الله .
وضرب الرجل تحت رجليه هو من التعزير، فإن كان له ذنب يستحق به مثل ذلك من دين الله، والمؤدب له ممن له أهلية ذلك، فهو حق . وأما كشف الرؤوس، والانحناء فليس من السنة، وإنما هو مأخوذ عن عادات بعض الملوك، والجاهلية، والمخلوق لا يسأل كشف رأس، ولا ركوع له . وإنما يركع لله فى الصلاة، وكشف الرؤوس لله فى الإحرام .
فصل
( الفرق بين الإيمان والإسلام وتكفير أهل البدع )
إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر، والفاسق المِلِّى وفي حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في / ذلك من الاضطراب، فـ [ مسألة تكفير أهل البدع والأهواء ] متفرعة على هذا الأصل .
ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة . فنقول :(1/403)
المشهور من مذهب الإمام أحمد، وعامة أئمة السنة، تكفير الجهمية، وهم المعطلة لصفات الرحمن؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاء به الرسل من الكتاب، وحقيقة قوله جحود الصانع، ففيه جحود الرب، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله، ولهذا قال عبد الله بن المبارك : إنا لنحكى كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكى كلام الجهمية، وقال غير واحد من الأئمة : إنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ يعنون من هذه الجهة؛ ولهذا كفروا من يقول : إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا رحمة، ولا غضب، ونحو ذلك من صفاته .
وأما المرجئة، فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم؛ فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء؛ ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم [ باب الأسماء ] وهذا من نزاع الفقهاء، لكن يتعلق بأصل / الدين، فكان المنازع فيه مبتدعًا .
وكذلك الشيعة ـ المفضلون لعليٍّ علَى أبى بكر ـ لا يختلف قوله أنهم لا يكفرون؛ فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضًا، وإن كانوا يبدعون .
وأما القدرية ـ المقرون بالعلم ـ والروافض ـ الذين ليسوا من الغالية، والجهمية، والخوارج ـ فيذكر عنه في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج، مع قوله : ما أعلم قومًا شرًا ن الخوارج .(1/404)
ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقًا روايتين، حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك، وليس الأمر كذلك، وعنه في تكفير من لا يكفر روايتان، أصحهما : لا يكفر، وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكفر مطلقًا، وهو خطأ محض، والجهمية ـ عند كثير من السلف، مثل عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ـ ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، التى افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه عند هؤلاء : هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذ المأثور / عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة، والحديث أنهم كانوا يقولون : من قال : القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال : إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ونحو ذلك .
ثم حكى أبو نصر السجزى عنهم في هذا قولين : أحدهما : أنه كفر ينقل عن الملة . قال : وهو قول الأكثرين، والثانى : أنه كفر لا ينقل؛ ولذلك قال الخطابى : إن هذا قالوه علي سبيل التغليظ، وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء، فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمى علماء الحديث، كأبى حاتم، وأبى زُرْعَة وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد .
وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم أنهم يرون من الأعيان، الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرًا، فيتعارض عندهم الدليلان .(1/405)
وحقيقة الأمر : أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا : من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق لمعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، / إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة ـ الذين أطلقوا هذه العمومات ـ لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه .
فإن الإمام أحمد ـ مثلا ـ قد باشر [ الجهمية ] الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا الؤمنين والمؤمنات ـ الذين لم يوافقوهم علي التجهم ـ بالضرب والحبس، والقتل والعزل على الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدى العدو، بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، يحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا ولا رواية . ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير ذلك . فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه .
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من /قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب .(1/406)
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذى هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون : القرآن مخلوق، وإن الله لايرى في الآخرة . وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفّر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل . فيقال : من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم .
والدليل على هذا الأصل : الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار .
أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } [ الأحزاب : 5 ] وقوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] .
/وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن الله ـ تعالى ـ قال : ( قد فعلتُ ) لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الدعاء . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كَنْز تحت العرش ) ، ( إنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه ) .
وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهذا عام عمومًا محفوظًا، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئًا على خطئه، وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة .(1/407)
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : ( إن رجلا لم يعمل خيرًا قط فقال لأهله : إذا مات فأحرقوه، ثم أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال : لم فعلتَ هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب، وأنت أعلم، فغفر الله له ) .
/ وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد، وحذيفة وعقبة بن عمرو، وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني، وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله ـ تعالى ـ على إعادة ابن آدم، بعد ما أحرق وذرى، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك، وهذان أصلان عظيمان :
أحدهما : متعلق بالله ـ تعالى ـ وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير .
الثانى : متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمنًا بالله في الجملة، ومؤمنًا باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملا صالحًا ـ وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه ـ غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر والعمل الصالح .(1/408)
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ) / وفي رواية : ( مثقال دينار من خير، ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ) ، وفي رواية : ( مثقال دينار من خير، ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ) وفي رواية : ( من خير ) ( ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ـ أو خير ) وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان والخير وإن كان قليلا،وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ . ومعلوم ـ قطعًا ـ أن كثيرًا من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان بالله ورسوله؛ إذ الكلام فيمن يكون كذلك .
وأيضًا، فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة .(1/409)
وكان القاضي شُرَيْح ينكر قراءة من قرأ : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } [ الصافات : 12 ] ، ويقول : إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النَّخَعِي . فقال : إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول : [ بل عجبتَ ] فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر / بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ الرعد : 31 ] ، وقال : إنما هى : أولم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] ، وقال : إنما هى : ووصى ربك . وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر .
وأيضًا، فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحدًا، إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسًا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية .(1/410)
وذلك مثل قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، وقوله : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } الآية [ الأنعام : 130 ] ، وقوله : { نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ } [ فاطر : 37 ] ، وقوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } الآية [ الزمر : 71 ] ، وقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } [ القصص : 59 ] ، وقوله : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } [ الملك : 8، 9 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } [ طه : 134 ] ، وقوله : { وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ القصص : 47 ] ،ونحو هذا في القرآن في مواضع متعددة .(1/411)
فمن كان قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلا؛ إما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذى يعذر به ـ فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التى يكفر مخالفها .
وأيضًا، فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفة، بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، مثل الخطأ في الفروع العملية، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن المخطئ فيها آثم، وبعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان شاذان، ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها، ومع ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع / فيها بالنصوص والإجماع القديم، مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا، واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر، واستحلال آخرين للقتال في الفتنة .
وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير، كالصحابة المعروفين، وغيرهم من أهل الجمل وصِفِّين من الجانبين، لا يفسق أحد منهم، فضلا عن أن يكفر، حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل البغى، فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل، كما يقول هؤلاء الأئمة : إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأولا لا يجلد ولا يفسق، وقد قال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [ الأنبياء : 78، 79 ] ،وقال تعالى : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } [ الحشر : 5 ] .(1/412)
وثبت في الصحاح ـ من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) . وثبت في الصحيح عن بُرَيْدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا حاصرت أهل حِصْن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك؛ فإنك لا تدرى ما حكم الله فيهم ) / وأدلة هذا الأصل كثيرة لها موضع آخر .
وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة، وإعلام النبوة؛ ولأن العذر بالخطأ حكم شرعى، فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والواجبات تنقسم إلى
أركان وواجبات ليست أركانًا، فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل، إما أن يلحق بالكفار، من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم، مع أنها ـ أيضًا ـ من أصول الإيمان .
فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه .(1/413)
وإذا كان لابد من إلحاقه بأحد الصنفين، فمعلوم أن المخطئين من المؤمنين بالله ورسوله، أشد شبهًا منه بالمشركين وأهل الكتاب، /فوجب أن يلحق بهم، وعلى هذا مضى عمل الأمة قديمًا وحديثًا، في أن عامة المخطئين من هؤلاء تجرى عليهم أحكام الإسلام التى تجرى على غيرهم، هذا مع العلم بأن كثيرًا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة، ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين، فهؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر ـ أيضًا .
وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه، مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة، وغالية المتكلمة والمتصوفة، أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى .
فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين :
أحدهما : أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو / أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث .
والأصل الثانى : أن التكفير العام ـ كالوعيد العام ـ يجب القول بإطلاقه وعمومه .
وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين؛ فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه .(1/414)
ومما ينبغى أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا، إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة، ومثل إقامه الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك وعلى الغامدية ، مع قوله : ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له ) ، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولا، مع العلم بأنه باق على العدالة .
بخلاف من لا تأويل له، فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة / واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } [ المائدة : 93 ] ، اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب وغيرهما، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا .(1/415)
وكذلك نعلم أن خلقًا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة، مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم، ومثل المنافقين المظهرين الإسلام، فإنهم تجرى عليهم أحكام الإسلام، وهم في الآخرة كافرون، كما دل عليه القرآن في آيات متعددة، كقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } الآية [ النساء : 145 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }
الآية [ الحديد : 13 ـ 15 ] .(1/416)
وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة، التى هى دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع / به الظلم والعدوان، كما قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 193 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [ الشورى : 42 ] ، وهذا لأن المقصود بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، هو إقامة القسط، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ]
وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعى إلى البدعة، الذى يضل الناس لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا : هو كافر، أو ليس بكافر
وإذا عرف هذا، فتكفير [ المعين ] من هؤلاء الجهال وأمثالهم ـ بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ـ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحده الحجة الرسالية، التى يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر .
وهكذا الكلام في تكفير جميع [ المعينين ] ، مع أن بعض هذه / البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحَجَّة .
ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة(1/417)
وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسؤول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم .
فَصْل
( تفسير القرآن والحديث عن الرسول )
ومما ينبغي أن يعلم : أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة؛ فإنه قد عرف تفسيره وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء : ( الأسماء ثلاثة أنواع ) نوع يعرف حَدّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ النساء : 19 ] .
وكان من أعظم ما أنعم اللّه به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان : أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجْده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدي ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قَبْلَهم، وخبر ما بعدهم، وحُكْم ما بينهم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمَهُ اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل اللّه المتين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه، ولا يحرف به لسانه، ولا يَخْلَق [ أي : يبلى . انظر : القاموس، مادة : خلق ] عن كثرة الترداد، فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام، ولا تنقضى عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صَدَق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .(1/418)
فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به؛ ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة،ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول : فيجب تقديم العقل . والنقل ـ يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين ـ إما أن يُفوَّض وإما أن يُؤوَّل . ولا فيهم من يقول : إن له ذوقًا أو وَجْدًا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث، فضلا عن أن يَدَّعِي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول، وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد، والأنبياء كلهم يأخذون عن مشكاته . أو يقول : الولي أفضل من النبي، ونحو ذلك من مقالات أهل الإلحاد؛ فإن هذه الأقوال لم تكن حدثت بَعْدُ في المسلمين، وإنما يعرف مثل هذه إما عن ملاحدة اليهود والنصارى؛ فإن فيهم من يجوز أن غير النبي أفضل من النبي، كما قد يقوله في الحواريين؛ فإنهم عندهم رسل، وهم يقولون : أفضل من داود وسليمان، بل ومن إبراهيم وموسى، وإن سموهم أنبياء، إلى أمثال هذه الأمور .
ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه، وكانوا يسمون ما عارض الآية ناسخًا لها، فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل . وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها، وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية، بل قد لا يفهم منها وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخًا، وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم .(1/419)
وأصل ذلك من إلقاء الشيطان، ثم يحكم اللّه آياته، فما ألقاه الشيطان في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه، سمى هؤلاء ما يرفع ذلك الظن نسخًا، كما سموا قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ناسخًا لقوله : { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] وقوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ناسخًا لقوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } [ البقرة : 284 ] . وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه .
إذ المقصود أنهم كانوا متفقين على أن القرآن لا يعارضه إلا قرآن، لا رأي ومعقول وقياس، ولا ذوق ووَجْد وإلهام ومكاشفة .
وكانت البدع الأولى مثل [ بدعة الخوارج ] إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي . قالوا : فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار . ثم قالوا : وعثمانوعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل اللّه، فكانت بدعتهم لها مقدمتان :
الواحدة : أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر .(1/420)
والثانية : أن عثمان وعليا ومن والاهما كانوا كذلك؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفَّر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة في ذمهم والأمر بقتالهم . قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنه ـ : صح فيهم الحديث من عشرة أوجه؛ ولهذا قد أخرجها مسلم في صحيحه،وأفرد البخاري قطعة منها، وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن، فكيف بمن تكون بدعته معارضة القرآن والإعراض عنه،وهو مع ذلك يكفر المسلمين، كالجهمية ؟ ! ثم الشيعة لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين، بل كان غرضه فاسدًا، وقد قيل : إنه كان منافقًا زنديقًا، فأصل بدعتهم مبنية على الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،وتكذيب الأحاديث الصحيحة؛ولهذا لا يوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما يوجد فيهم، بخلاف الخوارج فإنه لا يعرف فيهم من يكذب .
والشيعة لا يكاد يوثق برواية أحد منهم من شيوخهم لكثرة الكذب فيهم؛ولهذا أعرض عنهم أهل الصحيح، فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث علىّ إلا عن أهل بيته كأولاده، مثل الحسن،والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع،أو أصحاب ابن مسعود وغيرهم، مثل عبيدة السلماني، والحارث التيمي، وقيس بن عباد وأمثالهم؛إذ هؤلاء صادقون فيما يروونه عن علي، فلهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم .(1/421)
وهاتان الطائفتان ـ الخوارج والشيعة ـ حَدثوا بعد مقتل عثمان، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان ـ في السنة الأولي من ولايته ـ متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعًا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه، وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له حروراء، فكف عنهم أمير المؤمنين، وقال : لكم علينا ألا نمنعكم حقكم من الفىء، ولا نمنعكم المساجد، إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم، فقتلوا عبد اللّه بن خباب، وأغاروا على سرح المسلمين؛ فعلم عليّ أنهم الطائفة التي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم فيهم رجل مخدج [ أي : ناقص . انظر : القاموس، مادة : خدج ] اليد عليها بضعة شعرات ) وفي رواية : ( يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان ) ، فخطب الناس وأخبرهم بما سمع من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال : هم هؤلاء القوم، قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس فقاتلهم، ووجد العلامة بعد أن كاد لا يوجد، فسجد للّه شكرًا .
وحدث في أيامه الشيعة لكن كانوا مختفين بقولهم، لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف :
طائفة تقول : إنه إله، وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنار، وخَدَّ لهم أخاديد عند باب مسجد بني كندة، وقيل : إنه أنشد :
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا ** أجَّجْت ناري ودعوت قنْبَرًا(1/422)
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : أتى عَلِيٌّ بزنادقة فحرقهم بالنار، ولو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب اللّه، ولضربت أعناقهم لقوله : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
وهذا الذي قاله ابن عباس هو مذهب أكثر الفقهاء، وقد روى أنه أجَّلَهم ثلاثًا .
والثانية : السابة : وكان قد بلغه عن ابن السوداء [ في المطبوعة : ( أبي السوداء ) وهو خطأ . والمراد عبد اللّه بن سبأ اليهودي، أظهر الإسلام وأبطن الكفر، رئيس فرقة السبئية من غلاة الشيعة، وإنما سمي بابن السوداء لسواد أمه ] أنه كان يسب أبا بكر وعمر فطلبه، قيل : إنه طلبه ليقتله فهرب منه .
والثالثة : المفضلة : الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فتواتر عنه أنه قال : ( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر ) ، وروى ذلك البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية أنه سأل أباه : مَنْ خير الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر . قال : ثم من ؟ قال : عمر .
وكانت الشيعة الأولى لا يتنازعون في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان النزاع في علي وعثمان؛ ولهذا قال شريك بن عبد اللّه [ هو شريك بن عبد اللّه بن أبي نمر القرشي، وثقه ابن سعد، وقال يحيى بن معين والنسائي : ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي سنة 140هـ . وقيل : 144هـ ] : إن أفضل الناس بعد رسول الّله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر . فقيل له : تقول هذا وأنت من الشيعة ؟ فقال : كل الشيعة كانوا على هذا، وهو الذي قال هذا على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال ؟ ولهذا قال سفيان الثوري : من فضل عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى [ أي : حطَّ من شأنهم . انظر : القاموس، مادة : زري ] بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى اللّه ـ عز وجل ـ عمل وهو كذلك . رواه أبو داود في سننه، وكأنه يعرض بالحسن بن صالح بن حيى، فإن الزيدية الصالحة وهم أصلح طوائف الزيدية ينسبون إليه .(1/423)
ولكن الشيعة لم يكن لهم في ذلك الزمان جماعة ولا إمام، ولا دار ولا سيف يقاتلون به المسلمين، وإنما كان هذا للخوارج، تميزوا بالإمام والجماعة والدار، وسموا دارهم دار الهجرة، وجعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب .
وكلا الطائفتين تطعن بل تكفر ولاة المسلمين، وجمهور الخوارج يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما، والرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم، ولكن الفساد الظاهر كان في الخوارج، من سفك الدماء، وأخذ الأموال، والخروج بالسيف؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بقتالهم، والأحاديث في ذمهم والأمر بقتالهم كثيرة جدًا، وهي متواترة عند أهل الحديث مثل أحاديث الرؤية، وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والحوض .
وقد رويت أحاديث في ذم القدرية والمرجئة، روى بعضها أهل السنن، كأبي داود وابن ماجه، وبعض الناس يثبتها ويقويها، ومن العلماء من طعن فيها وضعفها، ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونحوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس .
وأما لفظ [ الرافضة ] ، فهذا اللفظ أول ما ظهر في الإسلام، لما خرج زيد بن علي ابن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك، واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما وترحم عليهما، فرفضه قوم،فقال : رفضتموني رفضتموني، فسموا الرافضة؛ فالرافضة تتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيدًا وينسبون إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى : زيدية، ورافضة إمامية .(1/424)
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت [ القدرية ] ، وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر اللّه، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين اللّه، وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصى؛ لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضًا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد، فلما بلغ قولهم ـ بإنكار القدر السابق ـ الصحابة أنكروا إنكارًا عظيمًا وتبرؤوا منهم، حتى قال عبد اللّه بن عمر : أخبر أولئك أني برىء منهم، وأنهم منى برآء، والذي يحلف به عبد اللّه بن عمر : لو أن لأحدهم مثل أحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر، وذكر عن أبيه حديث جبريل وهذا أول حديث في صحيح مسلم، وقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أيضًا مختصرًا .
ثم كثر الخوض في القدر، وكان أكثر الخوض فيه بالبصرة والشام وبعضه في المدينة، فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار نزاع الناس في [ الإرادة ] و [ خلق أفعال العباد ] فصاروا في ذلك حزبين :
النفاة يقولون : لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئًا من أفعال العباد .
وقابلهم الخائضون في القدر من [ المجبرة ] مثل الجهم بن صفوان وأمثاله، فقالوا : ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا : العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل اللّه هو الفاعل القادر فقط، وكان جهم مع ذلك ينفي الأسماء والصفات، يذكر عنه أنه قال : لا يسمى اللّه شيئًا، ولا غير ذلك من الأسماء التي تسمى بها العباد إلا القادر فقط؛ لأن العبد ليس بقادر .(1/425)
وكانت [ الخوارج ] قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا : إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك، وخاض في ذلك القدرية بعد موت الحسن البصري، فقال عمرو بن عبيد وأصحابه : لا هم مسلمون ولا كفار، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار، فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإسلام والإيمان شىء،ولكن لم يسموهم كفارًا،واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما .
فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن . وقيل : إن قتادة كان يقول : أولئك المعتزلة .
وتنازع الناس في [ الأسماء والأحكام ] أي في أسماء الدين، مثل مسلم ومؤمن، وكافر وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة . فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا، فلم يستحلوا من دمائهم وأموالهم ما استحلته الخوارج، وفي الأسماء أحدثوا المنزلة بين المنزلتين،وهذه خاصة المعتزلة التي انفردوا بها، وسائر أقوالهم قد شاركهم فيها غيرهم .(1/426)
وحدثت [ المرجئة ] ، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبد اللّه من المرجئة ولا إبراهيم النخعي وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا : إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيرًا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول، مثل حماد ابن أبي سليمان، وأبي حنيفة وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على أن اللّه يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه . وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب، فكان في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي؛ فإن الإيمان إذا أطلق دخلت فيه الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وستون شعبة ـ أو بضع وسبعون شعبة ـ أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) ، وإذا عطف عليه العمل كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 107 ] ، فقد ذكر مقيدًا بالعطف، فهنا قد يقال : الأعمال دخلت فيه وعطفت عطف الخاص على العام، وقد يقال : لم تدخل فيه ولكن مع العطف كما في اسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان كما في آية الصدقات، كقوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] ، وكما في آية الكفارة، كقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] ، وفي قوله : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } [ البقرة : 271 ] ، فالفقير والمسكين شيء واحد .(1/427)
وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر والتقوى والمعروف وفي الإثم والعدوان والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن، وقد بسط هذا بسطًا كبيرًا في الكلام على الإيمان، وشرح حديث جبريل الذي فيه بيان أن الإيمان أصله في القلب؛ وهو الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإسلام علانية والإيمان في القلب ) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،ألا وهي القلب ) ، فإذا كان الإيمان في القلب فقد صلح القلب، فيجب أن يصلح سائر الجسد؛ فلذلك هو ثمرة ما في القلب؛ فلهذا قال بعضهم : الأعمال ثمرة الإيمان . وصحته لما كانت لازمة لصلاح القلب دخلت في الاسم،كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع .
وفي الجملة، الذين رموا بالإرجاء من الأكابر، مثل طلق بن حبيب [ هو طلق بن حبيب العنزي البصري، من الزهاد والعلماء العاملين، قال أبو حاتم : صدوق، يرى الإرجاء، ووثقه أبو زرعة وابن حبان، ذكره البخاري فيمن مات بين التسعين إلى المائة ] ، وإبراهيم التيمي ونحوهما : كان إرجاؤهم من هذا النوع، وكانوا أيضًا لا يستثنون في الإيمان، وكانوا يقولون : الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونحن نقطع بأنا مصدقون، ويَرَوْن الاستثناء شَكا، وكان عبد اللّه بن مسعود وأصحابه يستثنون، وقد روى في حديث أنه رجع عن ذلك لما قال له بعض أصحاب معاذ ما قال، لكن أحمد أنكر هذا وضعف هذا الحديث، وصار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال :
قول : إنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعًا .
وقول : إن الاستثناء محظور؛ فإنه يقتضى الشك في الإيمان .(1/428)
والقول الثالث ـ أوسطها وأعدلها ـ : أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار؛ فإذا كان مقصوده أنى لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب اللّه علي، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن وقصده ألا يزكي نفسه، وألا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة، والنفاق مخوف على عامة الناس .
قال ابن أبي مُلَيْكة : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، لا يقول واحد منهم : إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل . والبخاري في أول صحيحه بوب أبوابًا في الإيمان والرد على المرجئة، وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة، قال : وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كرهوا أن يقول الرجل : إيماني كإيمان جبريل وميكائيل ـ قال محمد : لأنهم أفضل يقينًا ـ أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيمان أبي بكر، أو كإيمان هذا، ولكن يقول : آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر .
وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان، وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله : أنت طالق إن شاء اللّه . فإذا علق الإيمان بالشرط كسائر المعلقات بالشرط لا يحصل إلا عند حصول الشرط . قالوا : وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار فقد ظهرت المشيئة وصح العقد، فلا معنى للاستثناء؛ ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمنا، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله .(1/429)
قلت : فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له : آمن . فيقول : أنا أومن إن شاء اللّه، أو آمنت إن شاء، أو أسلمت إن شاء اللّه، أو أشهد إن شاء اللّه أن لا إله إلا اللّّه، وأشهد إن شاء اللّه أن محمدًا رسول اللّه، والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان، فاستثنوا إما أن الإيمان المطلق يقتضى دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة، كأنه إذا قيل للرجل : أنت مؤمن . قيل له : أنت عند اللّه مؤمن من أهل الجنة، فيقول : أنا كذلك إن شاء اللّه . أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب .
ولهذا كان من جواب بعضهم ـ إذا قيل له : أنت مؤمن ـ : آمنت باللّه وملائكته وكتبه، فيجزم بهذا ولا يعلقه، أو يقول : إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي ومالي فأنا مؤمن، وإن كنت تريد قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حقًا } [ الأنفال : 2ـ 4 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، فأنا مؤمن إن شاء اللّه، وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم آمن وأسلم جزمًا بلا تعليق .(1/430)
فتبين أن النزاع في المسألة قد يكون لفظيًا، فإن الذي حرمه هؤلاء غير الذي استحسنه وأمر به أولئك، ومن جزم جزم بما في قلبه من الحال، وهذا حق لا ينافى تعليق الكمال والعاقبة، ولكن هؤلاء عندهم الأعمال ليست من الإيمان، فصار الإيمان هو الإسلام عند أولئك .
والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام . وهو المشهور عن أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ وقد روى عنه فيه الاستثناء، كما قد بسط هذا في شرح حديث جبريل وغيره من نصوص الإيمان التي في الكتاب والسنة .
ولو قال لامرأته : أنت طالق إن شاء اللّه، ففيه نزاع مشهور، وقد رجحنا التفصيل، وهو أن الكلام يراد به شيئان : يراد به إيقاع الطلاق تارة،ويراد به منع إيقاعه تارة، فإن كان مراده أنت طالق بهذا اللفظ، فقوله : إن شاء اللّه مثل قوله : بمشيئة اللّه، وقد شاء اللّه الطلاق حين أتى بالتطليق فيقع، وإن كان قد علق لئلا يقع، أو علقه على مشيئة توجد بعد هذا لم يقع به الطلاق حتى يطلق بعد هذا، فإنه حينئذ شاء اللّه أن تطلق .
وقول من قال : المشيئة تنجزه، ليس كما قال، بل نحن نعلم قطعًا أن الطلاق لا يقع إلا إذا طلقت المرأة، بأن يطلقها الزوج أو من يقوم مقامه، من ولي أو وكيل، فإذا لم يوجد تطليق لم يقع طلاق قط، فإذا قال : أنت طالق إن شاء اللّه، وقصد حقيقة التعليق لم يقع إلا بتطليق بعد ذلك، وكذلك إذا قصد تعليقه لئلا يقع الآن . وأما إن قصد إيقاعه الآن وعلقه بالمشيئة توكيدًا وتحقيقًا، فهذا يقع به الطلاق .(1/431)
وما أعرف أحدًا أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده : أنا مؤمن إن شاء اللّه، أنا أومن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنًا، مثل الذي يقال له : هل تصير من أهل دين الإسلام ؟ فقال : أصير إن شاء اللّه، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر . وإن كان قصده : إني قد آمنت وإيماني بمشيئة اللّه صار مؤمنًا، لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضًا فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا،فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا : { آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } [ البقرة : 136 ] ، وقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعًا بلا استثناء .
وعلى كل أحد أن يقول : آمنا باللّه وما أنزل إلينا ـ كما أمر اللّه ـ بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي . فقول القائل له : أنت مؤمن هو عندهم كقوله : هل أنت بَرٌّ تقي ؟ فإذا قال : أنا بر تقي، فقد زكى نفسه . فيقول : إن شاء اللّه، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك أن الإيمان التام يتعقبه قبول اللّه له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر، فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال : هذا حاصل بمشيئة اللّه وفضله وإحسانه، وقوله فيه : إن شاء اللّه بمعني إذا شاء اللّه، وذلك تحقيق لا تعليق .(1/432)
والرجل قد يقول : واللّه ليكونن كذا إن شاء اللّه، وهو جازم بأنه يكون . فالمعلق هو الفعل، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ } [ الفتح : 27 ] واللّه عالم بأنهم سيدخلونه، وقد يقول الآدمي : لأفعلن كذا إن شاء اللّه وهو لا يجزم بأنه يقع، لكن يرجوه فيقول : يكون إن شاء اللّه، ثم عزمه عليه قد يكون جازمًا، ولكن لا يجزم بوقوع المعزوم عليه، وقد يكون العزم مترددًا معلقًا بالمشيئة أيضًا، ولكن متى كان المعزوم عليه معلقًا لزم تعليق بقاء العزم، فإنه بتقدير أن تعليق العزم ابتداء أو دوامًا في مثل ذلك؛ ولهذا لم يَحْنَثْ المطلق المعلق وحرف ( إن ) لا يبقى العزم، فلابد إذا دخل على الماضي صار مستقبلا، تقول : إن جاء زيد كان كذلك { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } [ البقرة : 137 ] وإذا أريد الماضي دخل حرف ( إن ) كقوله : { ن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي } [ آل عمران : 31 ] فيفرق بين قوله : أنا مؤمن إن شاء اللّه، وبين قوله : إن كان اللّه شاء إيماني .
وكذلك إذا كان مقصوده : إني لا أعلم بماذا يختم لي، كما قيل لابن مسعود : إن فلانًا يشهد أنه مؤمن . قال : فليشهد أنه من أهل الجنة، فهذا مراده إذا شهد أنه مؤمن عند اللّه يموت على الإيمان، وكذلك إن كان مقصوده : إن إيماني حاصل بمشيئة اللّه .
ومن لم يستثن قال : أنا لا أشك في إيمان قلبي، فلا جناح عليه إذا لم يُزَكِّ نفسه ويقطع بأنه عامل كما أمر، وقد تقبل اللّه عمله، وإن لم يقل : إن إيمانه كإيمان جبريل وأبي بكر وعمر ونحو ذلك من أقوال المرجئة، كما كان مِسْعَر بن كِدَام يقول : أنا لا أشك في إيماني، قال أحمد : ولم يكن من المرجئة، فإن المرجئة الذين يقولون : الأعمال ليست من الإيمان، وهو كان يقول : هي من الإيمان، لكن أنا لا أشك في إيماني .(1/433)
وكان الثوري يقول لسفيان بن عيينة : ألا تنهاه عن هذا، فإنهم من قبيلة واحدة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن النزاع في هذا كان بين أهل العلم والدين من جنس المنازعة في كثير من الأحكام، وكلهم من أهل الإيمان والقرآن .
وأما جَهْم، فكان يقول : إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووَكِيع وغيرهما كفَّروا من قال بهذا القول، ولكن هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك : إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة، وقد بسط الكلام على أقوالهم وأقوال غيرهم في ( الإيمان ) .
والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنًا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء، كما كان أصل القدر عجزهم عن الإيمان بالشرع والقدر جميعًا، فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين . قالت الخوارج والمعتزلة : قد علمنا يقينًا أن الأعمال من الإيمان، فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار؛ إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء .
وقالت المرجئة ـ مقتصدتهم وغلاتهم كالجهمية ـ : قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما تواترت بذلك الأحاديث . وعلمنا بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة أنهم ليسوا كفارًا مرتدين؛ فإن الكتاب قد أمر بقطع السارق لا بقتله، وجاءت السنة بجلد الشارب لا بقتله، فلو كان هؤلاء كفارًا مرتدين لوجب قتلهم؛ وبهذا ظهر للمعتزلة ضعف قول الخوارج فخالفوهم في أحكامهم في الدنيا .(1/434)
والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها، دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم، فلا يرجمون الزاني، ولا يرون للسرقة نصابًا، وحينئذ فقد يقولون : ليس في القرآن قتل المرتد، فقد يكون المرتد عندهم نوعين .
وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة، والزيدية والكرّامية والأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء .
وقد بسط الكلام على تفصيل القول في أقوال هؤلاء في غير هذا الموضع .
وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام :
منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج .
ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة، ويختم بالجهمية، كما فعله كثير من أصحاب أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ كعبد الله ابنه ونحوه، وكالخلال، وأبي عبد اللّه بن بطة، وأمثالهما، وكأبي الفرج المقدسي، وكلا الطائفتين تختم بالجهمية؛ لأنهم أغلظ البدع، وكالبخاري في صحيحه فإنه بدأ بـ ( كتاب الإيمان والرد على المرجئة ) ، وختمه ( بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية ) .
ولما صنف الكتاب في الكلام صاروا يقدمون التوحيد والصفات، فيكون الكلام أولاً مع الجهمية، وكذلك رتب أبو القاسم الطبري كتابه في أصول السنة، والبيهقي أفرد لكل صنف مصنفًا، فله مصنف في الصفات، ومصنف في القدر، ومصنف في شعب الإيمان، ومصنف في دلائل النبوة، ومصنف في البعث والنشور، وبسط هذه الأمور له موضع آخر .(1/435)
والمقصود هنا أن منشأ النزاع في ( الأسماء والأحكام ) في الإيمان والإسلام أنهم لما ظنوا أنه لا يتبعض، قال أولئك : فإذا فعل ذنبًا زال بعضه فيزول كله فيخلد في النار، فقالت الجهمية والمرجئة : قد علمنا أنه ليس يخلد في النار، وأنه ليس كافرًا مرتدًا، بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم لا يتبعض، فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئًا واحدًا يشترك فيه جميع أهل القبلة، فقال فقهاء المرجئة : هو التصديق بالقلب والقول باللسان، فقالت الجهمية بعد تصديق اللسان قد لا يجب إذا كان الرجل أخرس أو كان مكرهًا فالذي لابد منه تصديق القلب، وقالت المرجئة : الرجل إذا أسلم كان مؤمنًا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال .
وأنكر كل هذه الطوائف أنه ينقص، والصحابة قد ثبت عنهم أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة السنة، وكان ابن المبارك يقول : هو يتفاضل ويتزايد ويمسك عن لفظ ( ينقص ) ، وعن مالك ـ في كونه لا ينقص ـ روايتان، والقرآن قد نطق بالزيادة في غير موضع، ودلت النصوص على نقصه كقوله : ( لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ونحو ذلك، لكن لم يعرف هذا اللفظ إلا في قوله في النساء : ( ناقصات عقل ودين ) ، وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص .
وذلك أن أصل أهل السنة : أن الإيمان يتفاضل من وجهين : من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد .
أما الأول : فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان من الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة .(1/436)
وأيضًا، فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن اللّه أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان، وهذا من أصول غلط المرجئة؛ فإنهم ظنوا أنه شيء واحد وأنه يستوى فيه جميع المكلفين، فقالوا : إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء؛ كما أنه إذا تلفظ الفاسق بالشهادتين أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس .
فيقال لهم : قد تبين أن الإيمان الذي أوجبه اللّه على عباده يتنوع ويتفاضل ويتباينون فيه تباينًا عظيمًا، فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر، ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم،ويجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم، وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق والإقرار .
فإن الناس ـ وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول ـ فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به، وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلاً، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به، فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر اللّه به من الزكاة، ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فيجب عليه من العلم والإيمان والعمل مالا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان،وإن جعل جميع ذلك داخلا في مسمى الإيمان كان أبلغ، فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره .(1/437)
ولهذا كان من الناس من قد يؤمن بالرسول مجملاً، فإذا جاءت أمور أخرى لم يؤمن بها فيصير منافقًا مثل طائفة نافقت لما حولت القبلة إلى الكعبة، وطائفة نافقت لما انهزم المسلمون يوم أحد، ونحو ذلك .
ولهذا وصف اللّه المنافقين في القرآن بأنهم آمنوا ثم كفروا، كما ذكر ذلك في سورة المنافقين، وذكر مثل ذلك في سورة البقرة، فقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 17، 18 ] ، وقال طائفة من السلف عرفوا ثم أنكروا وأبصروا ثم عموا .
فمن هؤلاء من كان يؤمن أولاً إيمانًا مجملاً، ثم يأتي أمورًا لا يؤمن بها فينافق في الباطن، وما يمكنه إظهار الردة بل يتكلم بالنفاق مع خاصته، وهذا كما ذكر اللّه عنهم في الجهاد فقال : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } [ محمد : 20، 21 ] .(1/438)
وبالجملة، فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء : ( ناقصات عقل ودين ) وقال في نقصان دينهن : ( إنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي ) ، وهذا مما أمر الله به، فليس هذا النقص دينا لها تعاقب عليه، لكن هو نقص، حيث لم تؤمر بالعبادة في هذا الحال، والرجل كامل حيث أمر بالعبادة في كل حال، فدل ذلك على أن من أمر بطاعة يفعلها كان أفضل ممن لم يؤمر بها وإن لم يكن عاصيًا، فهذا أفضل دينًا وإيمانًا، وهذا المفضول ليس بمعاقب ومذموم، فهذه زيادة كزيادة الإيمان بالتطوعات، لكن هذه زيادة بواجب في حق شخص، وليس بواجب في حق شخص غيره، فهذه الزيادة لو تركها بهذا لا يستحق العقاب بتركها، وذاك لا يستحق العقاب بتركها، ولكن إيمان ذلك أكمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) .
فهذا يبين تفاضل الإيمان في نفس الأمر به، وفي نفس الأخبار التي يجب التصديق بها .
والنوع الثاني : هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استوائهم في الواجب، وهذا هو الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع . وهذا أيضًا يتفاضلون فيه، فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل دينًا وبرًا وتقوى، فهو كذلك أفضل إيمانًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) ، وقد يجتمع في العبد إيمان ونفاق، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلَة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها : إذا حَدَّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر ) .(1/439)
وأصل هؤلاء : أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع العباد فيما أوجبه الرب من الإيمان، وفيما يفعله العبد من الأعمال، فغلطوا في هذا وهذا ثم تفرقوا، كما تقدم .
وصارت المرجئة على ثلاثة أقوال : فعلماؤهم وأئمتهم أحسنهم قولا؛ وهو أن قالوا : الإيمان تصديق القلب وقول اللسان .
وقالت الجهمية : هو تصديق القلب فقط .
وقالت الكرامية : هو القول فقط، فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقرًا بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذبًا بقلبه كان منافقًا مؤمنا من أهل النار . وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان . وبعض الناس يحكي عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون : إنه مؤمن كامل الإيمان، وأنه من أهل النار، فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذبًا في النار، بل يكون مخلدًا فيها . وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : ( يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) .
وإن قالوا : لا يخلد وهو منافق، لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، والمنافقون قد قال اللّه فيهم : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [ النساء : 145 ] ،وقد نهى اللّه نبيه عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم،وقال له : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ } [ التوبة : 80 ] ،وقال : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 84 ] ، وقد أخبر أنهم كفروا باللّه ورسوله .(1/440)
فإن قالوا : هؤلاء قد كانوا يتكلمون بألسنتهم سرًا فكفروا بذلك، وإنما يكون مؤمنا إذا تكلم بلسانه ولم يتكلم بما ينقضه، فإن ذلك ردة عن الإيمان، قيل لهم : ولو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، قال تعالى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [ التوبة : 64 ] .
وأيضًا، قد أخبر اللّه عنهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم كاذبون، فقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] ، وقال تعالى : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) ، وقد قال اللّه تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] ، وفي الصحيحين عن سعد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً . فقلت : يا رسول اللّه، أعطيت فلانًا وفلانًا، وتركت فلانًا وهو مؤمن ؟ فقال : ( أو مسلم ) مرتين أو ثلاثًا . وبسط الكلام في هذا له مواضع أخر، وقد صنفت في ذلك مجلدًا غير ما صنفت فيه غير ذلك .(1/441)
وكلام الناس في هذا الاسم ومسماه كثير؛ لأنه قطب الدين الذي يدور عليه، وليس في القول اسم علق به السعادة والشقاء، والمدح والذم، والثواب والعقاب، أعظم من اسم الإيمان والكفر؛ ولهذا سمى هذا الأصل : ( مسائل الأسماء والأحكام ) ، وقد رأيت لابن الهيصم فيه مصنفًا في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لابن الباقلاني فيه مصنفًا أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما في عصر واحد، وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة .
والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان . فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعًا . صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن؛ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها .(1/442)
ولهذا قال كثير منهم ـ كأبي الحسين البصري ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب ـ : إن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين . فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن يكون اللّه أنزل الآية وأراد بها معنىً لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا : إن اللّه أراد معنى آخر، وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا هذا؛ فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يقولون قولين كلاهما خطأ والصواب قول ثالث لم يقولوه، لكن قد اعتادوا أن يتأولوا ما خالفهم، والتأويل عندهم مقصوده بيان احتمال في لفظ الآية بجواز أن يراد ذلك المعنى بذلك اللفظ، ولم يستشعروا أن المتأول هو مبين لمراد الآية، مخبر عن اللّه تعالى أنه أراد هذا المعنى إذا حملها على معنى .
وكذلك إذا قالوا : يجوز أن يراد بها هذا المعنى، والأمة قبلهم لم يقولوا : أريد بها إلا هذا أو هذا، فقد جوزوا أن يكون ما أراده اللّه لم يخبر به الأمة، وأخبرت أن مراده غير ما أراده، لكن الذي قاله هؤلاء يتمشى إذا كان التأويل أنه يجوز أن يراد هذا المعنى من غير حكم بأنه مراد، وتكون الأمة قبلهم كلها كانت جاهلة بمراد اللّه، ضالة عن معرفته، وانقرض عصر الصحابة والتابعين وهم لم يعلموا معنى الآية، ولكن طائفة قالت : يجوز أن يريد هذا المعنى، وطائفة قالت : يجوز أن يريد هذا المعنى، وليس فيهم من علم المراد . فجاء الثالث وقال : هاهنا معنى يجوز أن يكون هو المراد . فإذا كانت الأمة من الجهل بمعاني القرآن والضلال عن مراد الرب بهذه الحال توجه ما قالوه، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود أن كثيرًا من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف؛ فلهذا كان السلف أكمل علمًا وإيمانًا، وخطؤهم أخف، وصوابهم أكثر كما قدمناه .(1/443)
وكان الأصل الذي أسسوه هو ما أمرهم اللّه به في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الحجرات : 1 ] ، فإن هذا أمر للمؤمنين بما وصف به الملائكة، كما قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 26 ـ 29 ] ، فوصفهم ـ سبحانه ـ بأنهم لا يسبقونه بالقول، وأنهم بأمره يعملون،فلا يخبرون عن شىء من صفاته ولا غير صفاته إلا بعد أن يخبر ـ سبحانه ـ بما يخبر به؛ فيكون خبرهم وقولهم تبعًا لخبره وقوله،كما قال : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } وأعمالهم تابعة لأمره، فلا يعملون إلا ما أمرهم هو أن يعملوا به، فهم مطيعون لأمره ـ سبحانه ـ .(1/444)
وقد وصف - سبحانه- بذلك ملائكة النار، فقال : { قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] ، وقد ظن بعضهم أن هذا توكيل، وقال بعضهم : بل لا يعصونه في الماضي، ويفعلون ما أمروا به في المستقبل . وأحسن من هذا وهذا أن العاصي هو الممتنع من طاعة الأمر مع قدرته على الامتثال، فلو لم يفعل ما أمر به لعجزه لم يكن عاصيًا، فإذا قال : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } لم يكن في هذا بيان أنهم يفعلون ما يؤمرون، فإن العاجز ليس بِعاصٍ ولا فاعل لما أمر به، وقال : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ليبين أنهم قادرون على فعل ما أمروا به، فهم لا يتركونه لا عجزًا ولا معصية . والمأمور إنما يترك ما أمر به لأحد هذين، إما ألا يكون قادرًا، وإما أن يكون عاصيًا لا يريد الطاعة، فإذا كان مطيعًا يريد طاعة الآمر وهو قادر، وجب وجود فعل ما أمر به، فكذلك الملائكة المذكورون لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وقد وصف الملائكة بأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } .(1/445)
فالملائكة مصدقون بخبر ربهم، مطيعون لأمره، ولا يخبرون حتي يخبر، ولا يعملون حتى يأمر، كما قال تعالى : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } ، وقد أمر اللّه المؤمنين أن يكونوا مع اللّه ورسوله كذلك، فإن البشر لم يسمعوا كلام الله منه، بل بينهم وبينه رسول من البشر، فعليهم ألا يقولوا حتى يقول الرسول ما بلغهم عن اللّّه، ولا يعملون إلا بما أمرهم به، كما قال تعالى : { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الحجرات : 1 ] .
قال مجاهد : لا تفتاتوا عليه بشيء حتى يقضيه اللّه على لسانه، { تُقَدِّمُوا } معناه : تتقدموا، وهو فعل لازم، وقد قرئ { تُقَدِّمُوا } ، يقال : قدم وتقدم، كما يقال : بين وتبين، وقد يستعمل قدم متعديًا، أي قدم غيره، لكن هنا هو فعل لازم، فلا تقدموا معناه : لا تتقدموا بين يدي اللّه ورسوله .
فعلى كل مؤمن ألا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لقوله، وعلمه تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شىء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله اللّه والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة . وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلا .(1/446)
فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة، وأهل النفاق والبدعة، وإن كان هؤلاء لهم من الإيمان نصيب وافر من اتباع السنة، لكن فيهم من النفاق والبدعة بحسب ما تقدموا فيه بين يدي اللّه ورسوله، وخالفوا اللّه ورسوله، ثم إن لم يعلموا أن ذلك يخالف الرسول، ولو علموا لما قالوه لم يكونوا منافقين، بل ناقصى الإيمان مبتدعين، وخطؤهم مغفور لهم لا يعاقبون عليه وإن نقصوا به .
وأهل الضلال، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، هم كما قال مجاهد : أهل البدع والشبهات؛ يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل، كما قال فيهم الإمام أحمد، قال : هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يحتجون بالمتشابه من الكلام، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم .
والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون : نفوّض معناه إلى اللّه، وهذا فعل عامتهم .
وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة، يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول، ويجعلون كلام اللّه ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا اللّه، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم، والراسخون عندهم من كان موافقًا لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم، كالنصارى، والخوارج، وغيرهم؛ إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام اللّه وجعلوه محكمًا، وجعلوا المحكم متشابهًا .(1/447)
وأما أولئك ـ كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة ـ فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء، وإن كان صريحًا قد يعلم معناه بالضرورة، يجعلونه من المتشابه؛ ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط وعبد اللّه بن المبارك وغيرهما ـ كطائفة من أصحاب أحمد : إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين وسبعين فرقة، قالوا : وأصولها أربعة : الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن في قوله تعالى : { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، في المتشابهات قولان :
أحدهما : أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس .
والثاني ـ وهو الصحيح ـ : أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] ، وهذا كقوله : ( الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) ، وكذلك قولهم : { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] .
وقد صنف أحمد كتابًا في ( الرد على الزنادقة والجهمية ) فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق ابن عباس . قال الحسن البصري : ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت، وماذا عني بها .(1/448)
ومن قال من السلف : إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه فقد أصاب أيضًا، ومراده بالتأويل ما استأثر اللّه بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجىء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه .
وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم، كقوله : { إنَّا } و { نحن } ، وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم الذي له أعوان، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة، فتأويل هذا الذي هو تفسيره يعلمه الراسخون، ويفرقون بين ما قيل فيه : { إيَّاي } وما قيل فيه : { إنَّا } لدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه، إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده؛ ولهذا لا يقول : فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها الملائكة قال : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } [ الفتح : 1 ] ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] ، { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } [ القصص : 3 ] ، ونحو ذلك، مع أن تأويل هذا ـ وهو حقيقة ما دل عليه من الملائكة وصفاتهم وكيفية إرسال الرب لهم ـ لا يعلمه إلا اللّه، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله اللّه ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ : يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد .(1/449)
وهذا مثل لفظ [ المركب ] و [ الجسم ] و [ المتحيز ] و [ الجوهر ] و [ الجهة ] و [ العرض ] ونحو ذلك، ولفظ [ الحيز ] ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ، لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضًا، بل هم يختصون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن بالأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم، فإنها ملفقة من مقدمات مشتركة، يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل، وفي المعنى ليس بدليل، كمن يقول : سهيل بعيد من الثريا، لا يجوز أن يقترن بها، ولا يتزوجها، والذي قال :
أيها المنكح الثريا سهيلا
أراد امرأة اسمها الثريا، ورجلا اسمه سهيل . ثم قال :
عمرك اللّه كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ** وسهيل إذا استقل يمان
وهذا لفظ مشترك، فجعل يعجبه، وإنكاره من الظاهر من جهة اللفظ المشترك، وقد بسط الكلام على أدلتهم المفصلة في غير موضع .
والأصل الذي بني عليه نفاة الصفات وعطلوا ما عطلوه حتى صار منتهاهم إلى قول فرعون الذي جحد الخالق، وكذب رسوله موسي في أن اللّه كلمه، هو استدلالهم على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة، واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث، ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، وهذا أصل قول الجهمية الذين أطبق السلف والأئمة على ذمهم، وأصل قول المتكلمين الذين أطبقوا على ذمهم، وقد صنف الناس مصنفات متعددة فيها أقوال السلف والأئمة في ذم الجهمية، وفي ذم هؤلاء المتكلمين .(1/450)
والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر اللّه به رسوله، والاستدلال بما بينه اللّه ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضًا وهو الباطل، فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل .
ولكن كثيرًا من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام، فمنهم من اعتقده موافقًا للشرع والعقل، حتى اعتقد أن إبراهيم الخليل استدل به، ومن هؤلاء من يجعله أصل الدين ولا يحصل الإيمان أو لا يتم إلا به، ولكن من عرف ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة علم بالاضطرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، فصار من عرف ذلك يعرف أن هذا بدعة، وكثير منهم لا يعرف أنه فاسد، بل يظن مع ذلك أنه صحيح من جهة العقل، لكنه طويل أو يبعد المعرفة، أو هو طريق مخيفة مخطر يخاف على سالكه، فصاروا يعيبونه كما يعاب الطريق الطويل والطريق المخيف، مع اعتقادهم أنه يوصل إلى المعرفة، وأنه صحيح في نفسه .
وأما الحذاق العارفون تحقيقه فعلموا أنه باطل عقلا وشرعًا، وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة، بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك .
ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك؛ إذ كان حقيقته أن كل موجود فهو حادث مسبوق بالعدم، وليس في الوجود قديم، وهذا مكابرة؛ فإن الوجود مشهود، وهو إما حادث وإما قديم، والحادث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين .(1/451)
وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك، كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع، وحقيقته أن كل موجود فهو ممكن ليس في الوجود موجود بنفسه، مع أنهم جعلوا هذا طريقًا لإثبات الواجب بنفسه، كما يجعل أولئك هذا طريقًا لإثبات القديم، وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه، مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة .
ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه، وقالوا : هو اللّه، وأنكروا أن يكون للعالم رب مباين للعالم؛ إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لابد منه على كل قول، وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب، لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم،بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه .
ولكن وصفوه بصفات الممتنع، فقالوا : لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو صفة ولا موصوف، ولا يشار إليه، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه، وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر، ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود، فدليلهم في نفس الأمر يستلزم أنه ما ثَمَّ قديم ولا واجب، ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب، وهذا الذي أثبتوه هو ممتنع، فما أثبتوا قديمًا ولا واجبًا .(1/452)
فجاء آخرون من جهميتهم فرأوا هذا مكابرة، ولابد من إثبات القديم والواجب، فقالوا : هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون : إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا : هو عين الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الموجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه، وأما حقيقة قولهم فهو النفي أنه لا داخل العالم ولا خارجه،ولكن هذا لم تسمعه الأئمة، ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم؛ ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام :
جهمية الأوصاف إلا أنها ** قد حليت بمحاسن الأشياء
وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر؛ إذ كان خلاف ما يعلمه كل أحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم، لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث لا يحدث بنفسه؛ ولهذا قال تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون } [ الطور : 35 ] ، وقد قيل : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } من غير رب خلقهم، وقيل : من غير مادة، وقيل : من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابد له من خالق .
ومعرفة الفطر أن المحدث لابد له من محدث أظهر فيها، من أن كل محدث لابد له من مادة خلق منها وغاية خلق لها؛ فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم ينازع في الأول، طائفة قالت : إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال : إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، و إما أن يقول : إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكي عمن لا يعرف .(1/453)
ومثل هذا القول وأمثاله يقوله من يقوله ممن حصل له فساد في عقله، صار به إلى السفسطة، والسفسطة تعرض لآحاد الناس، وفي بعض الأمور، ولكن أمة من الأمم كلهم سوفسطائية في كل شيء، هذا لا يتصور؛ فلهذا لا يعرف عن أمة من الأمم أنهم قالوا بحدوث العالم من غير محدث .
وهؤلاء لما اعتقدوا أن كل موصوف أو كل ما قامت به صفة أو فعل بمشيئته، فهو محدث وممكن، لزمهم القول بحدوث كل موجود؛ إذ كان الخالق جل جلاله متصفًا بما يقوم به من الصفات والأمور الاختياريات، مثل أنه متكلم بمشيئته وقدرته، ويخلق ما يخلقه بمشيئته وقدرته، لكن هؤلاء اعتقدوا انتفاء هذه الصفات عنه؛ لاعتقادهم صحة القول بأن ما قامت به الصفات والحوادث فهو حادث؛ لأن ذلك لا يخلو من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإذا كان حادثًا كان له محدث قديم، واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب، وأنه ذات مجردة عن الصفات، ووجوده مطلق لا يشار إليه ولا يتعين، ويقولون : هو بلا إشارة ولا تعيين، وهذا الذي أثبتوه لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو في الذهن، فكان ما أثبتوه واعتقدوا أنه الصانع للعالم إنما يتحقق في الأذهان لا فى الأعيان، وكان حقيقة قولهم تعطيل الصانع .
فجاء إخوانهم في أصل المقالة . وقالوا : هذا الوجود المطلق المجرد عن الصفات هو الوجود الساري في الموجودات، فقالوا بحلوله في كل شيء .
وقال آخرون منهم : هو وجود كل شيء، ومنهم من فرق بين الوجود والثبوت، ومنهم من فرق بين التعيين والإطلاق، ومنهم من جعله في العالم كالمادة في الصورة، ومنهم من جعله في العالم كالزبد في اللبن وكالزيت والشيرج فى السمسم والزيتون، وقد بسط الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع .(1/454)
والمقصود هنا أن الأصل الذي أضلهم قولهم : ما قامت به الصفات والأفعال، والأمور الاختيارية أو الحوادث فهو حادث، ثم قالوا : والجسم لا يخلو من الحوادث، وأثبتوا ذلك بطرق؛ منهم من قال : لا يخلو عن الأكوان الأربعة : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق . ومنهم من قال : لا يخلو عن الحركة والسكون فقط . ومنهم من قال : لا يخلو عن الأعراض، والأعراض كلها حادثة، وهي لا تبقى زمانين، وهذه طريقة الآمدي، وزعم أن أكثر أصحاب الأشعرية اعتمدوا عليها، والرازى اعتمد على طريقة الحركة والسكون .
وقد بسط الكلام على هذه الطرق، وجميع ما احتجوا به على حدوث الجسم وإمكانه، وذكرنا في ذلك كلامهم هم أنفسهم فى فساد جميع هذه الطرق، وأنهم هم بينوا فساد جميع ما استدل به على حدوث الجسم وإمكانه، وبينوا فسادها طريقًا طريقًا بما ذكروه، كما قد بسط هذا فى غير هذا الموضع .
وأما الهشامية والكَرَّامية، وغيرهم، ممن يقول بأنه جسم قديم، فقد شاركوهم في أصل هذه المقالة، لكن لم يقولوا بحدوث كل جسم، ولا قالوا : إن الجسم لا ينفك عن الحوادث؛ إذ كان القديم عندهم جسمًا قديمًا وهو خال من الحوادث، وقد قيل : أول من قال في الإسلام : إن القديم جسم هو هشام بن الحكم [ هو هشام بن الحكم الشيباني، من أهل الكوفة، متكلم مناظر، من كبار الرافضة ومشاهيرهم، له مصنفات كثيرة منها [ الإمامة ] و [ القدر ] و [ الرد على من قال بإمامة المفضول ] ، يقال : إنه عاش إلى خلافة المأمون، وتوفى سنة 971هـ ] ، كما أن أول من أظهر في الإسلام نفي الجسم هو الجهم بن صفوان .(1/455)
وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية كثير مشهور، فإن مرض التعطيل شر من مرض التجسيم، وإنما كان السلف يذمون المشبهة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنه ـ وإسحاق بن راهويه وغيرهما، قالوا : المشبهة الذين يقولون : بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي . وابن كلاب ومن تبعه أثبتوا الصفات التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته، فأما التي تتعلق بمشيئته وقدرته فينفونها، قالوا : لأنها حادثة ولو قامت به الحوادث لكان حادثًا؛ لأن ما قبل الشيء لم يخل عنه وعن ضده، فلو قبل بعض هذه الحوادث لم يخل منه ومن ضده فلم يخل من الحوادث فيكون حادثًا .
ومحمد بن كرَّام كان بعد ابن كُلاَّب في عصر مسلم بن الحجاج، أثبت أنه يوصف بالصفات الاختياريات،ويتكلم بمشيئته وقدرته، ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فلم يقل بقول السلف : إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بل قال : إنه صار يتكلم بمشيئته وقدرته، كما صار يفعل بمشيئته وقدرته بعد أن لم يكن كذلك، وقال هو وأصحابه في المشهور عنه : إن الحوادث التي تقوم به لا يخلو منها ولا يزول عنها؛ لأنه لو قامت به الحوادث ثم زالت عنه كان قابلاً لحدوثها وزوالها، وإذا كان قابلاً لذلك لم يخل منه، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإنما يقبل على أصلهم أنه تقوم به الحوادث فقط، كما يقبل أن يفعلها ويحدثها، ولا يلزم من ذلك أنها لم تخل منه، كما لم يلزم أنه لم يزل فاعلا لها . والحدوث عندهم غير الأحداث . والقرآن عندهم حادث لا محدث؛ لأن المحدث يفتقر إلى إحداث بخلاف الحدوث .(1/456)
وهم إذا قالوا : كان خاليًا منها في الأزل وكان ساكنًا، لم يقولوا : إنه قام به حادث، بل يقولون : السكون أمر عدمي كما يقوله الفلاسفة ولكن الحركة أمر وجودي، بخلاف ما يقوله من يقوله من المعتزلة والأشعرية : إن السكون أمر وجودي كالحركة، فإذا حصل به حادث لم يكن ثم عدم هذا الحادث، فإنما يعدم الحادث بإحداث يقوم به وهذا ممتنع، وهم يقولون : إنه يمتنع عدم الجسم، وعندهم أن الباري يقوم به إحداث المخلوقات وإفناؤها، فالحوادث التي تقوم بهم تقوم به لو أفناها لقام به الإحداث والإفناء، فكان قابلاً لأن يحدث فيه حادث ويفني ذلك الحادث، وما كان كذلك لم يخل من إحداث وإفناء فلم يخل من الحوادث، و ما لم يخل منها فهو حادث، وإنما كان كذلك لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده كما قالت الكلابية، لكن المعتزلة يقولون : السكون ضد الحركة فالقابل لأحدهما لا يخلو عنه وعن الآخر، وهؤلاء يقولون : السكون ليس بضد وجودي، بل هو عدمي، وإنما الوجودي هو الإحداث والإفناء، فلو قبل قيام الإحداث والإفناء به لكان قابلاً لقيام الأضداد الوجودية، والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده .
وهؤلاء لما أراد منازعوهم إبطال قولهم، كان عمدتهم بيان تناقض أقوالهم، كما ذكر ذلك أبو المعالي وأتباعه، وكما ذكر الآمدي تناقضهم من وجوه كثيرة، قد ذكرت في غير هذا الموضع، وغايتها أنها تدل على مناقضتهم لا على صحة مذهب المنازع .(1/457)
وثَمَّ طائفة كثيرة تقول : إنه تقوم به الحوادث وتزول، وإنه كلم موسى بصوت وذلك الصوت عدم، وهذا مذهب أئمة السنة والحديث من السلف وغيرهم، وأظن الكرامية لهم في ذلك قولان، وإلا فالقول بفناء الصوت الذي كلم به موسى من جنس القول بقدمه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والحديث والفقه من السالمية وغيرهم، ومن الحنبلية والشافعية والمالكية، يقول : إنه كلم موسى بصوت سمعه موسى، وذلك الصوت قديم، وهذا القول يعرف فساده ببديهة العقل، وكذلك قول من يقول : كلمة بصوت حادث، وأن ذلك الصوت باق لا يزال هو وسائر ما يقوم به من الحوادث، هي أقوال يعرف فسادها بالبديهة .
وإنما أوقع هذه الطوائف في هذه الأقوال ذلك الأصل الذي تلقوه عن الجهمية، وهو أن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وهو باطل عقلاً وشرعًا، وهذا الأصل فاسد مخالف للعقل والشرع، وبه استطالت عليهم الفلاسفة الدهرية، فلا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل قد خالفوا السلف والأئمة، وخالفوا العقل والشرع، وسلطوا عليهم وعلى المسلمين عدوهم، من الفلاسفة والدهرية والملاحدة بسبب غلطهم في هذا الأصل الذي جعلوه أصل دينهم،ولو اعتصموا بما جاء به الرسول لوافقوا المنقول والمعقول، وثبت لهم الأصل،ولكن ضيعوا الأصول فحرموا الوصول،والأصول اتباع ما جاء به الرسول .(1/458)
وأحدثوا أصولا ظنوا أنها أصول ثابتة، وكانت كما ضرب اللّه المثلين : مثل البناء والشجرة، فقال في المؤمنين والمنافقين : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ التوبة : 109 ] ، وقال : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } [ إبراهيم : 24-27 ] ، والأصول مأخوذة من أصول الشجرة وأساس البناء؛ ولهذا يقال فيه : الأصل ما ابتنى عليه غيره، أو ما تفرع عنه غيره .
فالأصول الثابتة هي أصول الأنبياء، كما قيل :
أيها المغتدى لتطلب علما ** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح حكما ** ثم أغفلت أصل أصل الأصول
واللّه يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا .(1/459)
وهذه الأصول ينبني عليها ما في القلوب، ويتفرع عليها . وقد ضرب اللّه مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين . و [ الكلمة] هي قضية جازمة وعقيدة جامعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام،وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم قضية، فالكلمة الطيبة في قلوب المؤمنين ـ وهي العقيدة الإيمانية التوحيدية ـ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فأصل أصول الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبات أصل الشجرة الطيبة وفرعها في السماء { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] واللّّه- سبحانه - مَثَّل الكلمة الطيبة، أي : كلمة التوحيد، بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء .(1/460)
فبين بذلك أن الكلمة الطيبة لها أصل ثابت في قلب المؤمن، ولها فرع عال، وهي ثابتة في قلب ثابت، كما قال : { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } ، فالمؤمن عنده يقين وطمأنينة، والإيمان في قلبه ثابت مستقر، وهو في نفسه ثابت على الإيمان مستقر لا يتحول عنه،والكلمة الخبيثة {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ } ، استؤصلت واجتثت، كما يقطع الشيء يجتث من فوق الأرض { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } : لا مكان تستقر فيه ولا استقرار في المكان؛فإن القرار يراد به مكان الاستقرار،كما قال تعالى : { وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ ابراهيم : 29 ] ، وقال : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } [ غافر : 64 ] . ويقال : فلان ما له قرار أي ثبات، وقد فسر القرار في الآية بهذا وهذا، فالمبطل ليس قوله ثابتًا في قلبه، ولا هو ثابت فيه ولا يستقر، كما قال تعالى في المثل الآخر : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } [ الرعد : 17 ] فإنه وإن اعتقده مدة فإنه عند الحقيقة يخونه، كالذي يشرك باللّه، فعند الحقيقة يضل عنه ما كان يدعو من دون اللّه .(1/461)
وكذلك الأفعال الباطلة التي يعتقدها الإنسان عند الحقيقة تخونه ولا تنفعه، بل هي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فمن كان معه كلمة طيبة أصلها ثابت كان له فرع في السماء يوصله إلى اللّه، فإنه سبحانه { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [ فاطر : 10 ] ومن لم يكن معه أصل ثابت فإنه يحرم الوصول؛ لأنه ضيع الأصول . ولهذا تجد أهل البدع والشبهات لا يصلون إلى غاية محمودة، كما قال تعالى : لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [ الرعد : 14 ] .
واللّه - سبحانه- بعث الرسل وأنزل الكتب، بأن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أمر به على ألسن رسله .
وأصل عبادته معرفته بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسله؛ ولهذا كان مذهب السلف أنهم يصفون اللّه بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون بعض ذلك ما قدروا اللّه حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، ولا وصفوه حق صفته، ولا عبدوه حق عبادته .(1/462)
واللّه - سبحانه - قد ذكر هذه الكلمة ماقدروا اللّه حق قدره في ثلاثة مواضع؛ ليثبت عظمته في نفسه، وما يستحقه من الصفات، وليثبت وحدانيته وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وليثبت ما أنزله على رسله، فقال في الزمر : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الآية [ الزمر : 67 ] ، وقال في الحج : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الحج : 73، 74 ] ، وقال في الأنعام : { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] .
وفي المواضع الثلاثة ذم الذين ما قدروه حق قدره من الكفار، فدل ذلك على أنه يجب على المؤمن أن يقدر اللّه حق قدره، كما يجب عليه أن يتقيه حق تقاته، وأن يجاهد فيه حق جهاده، قال تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] ، وقال : { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] والمصدر هنا مضاف إلى المفعول، والفاعل مراد أي حق جهاده الذي أمركم به، وحق قاته التي أمركم بها،واقدروه قدره الذي بينه لكم وأمركم به،فصدقوا الرسول فيما أخبر،وأطيعوه فيما أوجب وأمر . وأما ما يخرج عن طاقة البشر فذلك لا يذم أحد على تركه، قالت عائشة : فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو .
ودلت الآية على أن له قدرًا عظيمًا، لا سيما قوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وفي تفسير ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال : من آمن بأن اللّه على كل شيء قدير، فقد قدر اللّه حق قدره .(1/463)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، لما ذكر له بعض اليهود أن اللّه يحمل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر والثَّرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع؛ فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا لقول الحَبْرِ، وقرأ هذه الآية .
وعن ابن عباس قال : مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم، ما تقول إذا وضع اللّه السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال والماء على ذه، وسائر الخلق على ذه ؟ فأنزل اللّه تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الضحى عن ابن عباس، وقال : غريب حسن صحيح .
وهذا يقتضى أن عظمته أعظم ما وصف ذلك الحبْر، فإن الذي في الآية أبلغ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول : أنا الملك، أين ملوك الأرض ) .
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( يطوي اللّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول : أين الملوك ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ) ورواه مسلم أبسط من هذا، وذكر فيه أنه يأخذ الأرض بيده الأخرى .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، ثنا عمرو بن رافع، ثنا يعقوب بن عبد اللّه، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال : تكلمت اليهود في صفة الرب ـ تبارك وتعالى ـ فقالوا ما لم يعلموا ولم يروا، فأنزل اللّه على نبيه : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فجعل صفته التي وصفوه بها شركا .(1/464)
وقال : حدثنا أبي، ثنا أبو نعيم، ثنا الحكم - يعني أبا معاذ- عن الحسن، قال : عمدت اليهود فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فرغوا أخذوا يقدرونه، فأنزل اللّه تعالى على نبيه : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، وهذا يدل على أنه أعظم مما وصفوه، وأنهم لم يقدروه حق قدره .
وقوله : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } فكل من جعل مخلوقًا مثلا للخالق في شيء من الأشياء فأحبه مثل ما يحب الخالق، أو وصفه بمثل ما يوصف به الخالق فهو مشرك، سوى بين اللّه وبين المخلوق في شيء من الأشياء فعدل بربه، والرب تعالى لا كفؤ له، ولا سَمِيّ له، ولا مثل له، ومن جعله مثل المعدوم والممتنع فهو شر من هؤلاء، فإنه معطل ممثل، والمعطل شر من المشرك .
واللّه ثني قصة فرعون في القرآن في غير موضع؛ لاحتياج الناس إلى الاعتبار بها، فإنه حصل له من الملك ودعوى الربوبية والإلهية والعلو ما لم يحصل مثله لأحد من المعطلين، وكانت عاقبته إلى ما ذكر اللّه تعالى، وليس للّه صفة يماثله فيها غيره، فلهذا لم يجز أن يستعمل في حقه قياس التمثيل، ولا قياس الشمول الذي تستوى أفراده، فإن ذلك شرك، إذ سوى فيه بالمخلوق، بل قياس الأولى، فإنه ـ سبحانه ـ { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الروم : 27 ] . فهو أحق من غيره بصفات الكمال، وأحق من غيره بالتنزيه عن صفات النقص .
وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، وبين أن من جعله الوجود المطلق والمقيد بالسلب أو ذاتًا مجردة، فهؤلاء مثلوه بأنقص المعقولات الذهنية، وجعلوه دون الموجودات الخارجية، والنفاة الذين قصدوا إثبات حدوث العالم بإثبات حدوث الجسم لم يثبتوا بذلك حدوث شيء، كما قد بين في موضعه .(1/465)
ثم إنهم جعلوا عمدتهم في تنزيه الرب عن النقائص على نفي الجسم، ومن سلك هذا المسلك لم ينزه اللّه عن شىء من النقائص البتة،فإنه ما من صفة ينفيها؛ لأنها تستلزم التجسيم وتكون من صفات الأجسام إلا يقال له : فيما أثبته نظير ما يقوله هو في نفس تلك الصفة .
فإن كان مثبتًا لبعض الصفات قيل له : القول في هذه الصفة التي تنفيها كالقول فيما أثبته، فإن كان هذا تجسيمًا وقولاً باطلاً فهذا كذلك، وإن قلت : أنا أثبت هذا على الوجه الذي يليق بالرب، قيل له : وكذلك هذا . وإن قلت : أنا أثبته وأنفى التجسيم، قيل : وهذا كذلك، فليس لك أن تفرق بين المتماثلين .
وإن كان ممن يثبت الأسماء وينفي الصفات ـ كالمعتزلة ـ قيل له في الصفات ما يقوله هو في الأسماء، فإذا كان يثبت حيا عالمًا قادرًا، وهو لا يعرف من هو متصف بذلك إلا جسمًا كان إثبات أن له علمًا وقدرة، كما نطق به الكتاب والسنة كذلك .
وإن كان ممن لا يثبت لا الأسماء ولا الصفات كالجهمية المحضة والملاحدة، قيل له : فلابد أن تثبت موجودًا قائمًا بنفسه، وأنت لا تعرف ذلك إلا جسمًا، وإن قال : لا أسميه باسم لا إثبات ولا نفي، قيل له : سكوتك لا ينفي الحقائق، ولا واسطة بين النفي والإثبات، فإما أن يكون حقًا ثابتًا موجودًا، وإما أن يكون باطلاً معدومًا .
وأيضًا، فإن كنت لم تعرفه فأنت جاهل فلا تتكلم، وإن عرفته فلابد أن تميز بينه وبين غيره بما يختص به، مثل أن تقول : رب العالمين، أو القديم الأزلي، أو الموجود بنفسه ونحو ذلك، وحينئذ فقد أثبت حيًا موجودًا قائمًا بنفسه، وأثبته فاعلاً وأنت لا تعرف ما هو كذلك إلا الجسم .(1/466)
وإن قدر أنه جاحد له قيل له : فهذا الوجود مشهود، فإن كان قديمًا أزليًا موجودًا بنفسه فقد يثبت جسم قديم أزلي موجود بنفسه وهو ما فررت منه، وإن كان مخلوقًا مصنوعًا فله خالق خلقه، ولابد أن يكون قديمًا أزليًا، فقد ثبت الموجود القائم بنفسه القديم الأزلي على كل تقدير، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
وهنا قد نبهنا على ذلك، هو أنه كل من بني تنزيهه للرب عن النقائص والعيوب على نفي الجسم، فإنه لا يمكنه أن ينزهه عن عيب أصلاً بهذه الحجة، وكذلك من جعل عمدته نفي التركيب .
ومن تدبر ما ذكروه في كتبهم تبين له أنهم لم يقيموا حجة على وجوده، فلا هم أثبتوه وأثبتوا له ما يستحقه، ولا نزهوه ونفوا عنه ما لا يجوز عليه، إذ كان إثباته هو إثبات حدوث الجسم، ولم يقيموا على ذلك دليلاً، والنفي اعتمدوا فيه على ذلك، وهم متناقضون فيه لو كانوا أقاموا دليلا على نفي كونه جسمًا، فكيف إذا لم يقيموا على ذلك دليلاً وتناقضوا ؟ !
وهذا مما يتبين لك أن من خرج عن الكتاب والسنة، فليس معه علم لا عقلي ولا سمعي، لاسيما في هذا المطلوب الأعظم، لكنهم قد يكونون معتقدين لعقائد صحيحة عرفوها بالفطرة العقلية، وبما سمعوه من القرآن ودين المسلمين، فقلوبهم تثبت ما تثبت وتنفي ما تنفي بناء على هذه الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة، لكنهم سلكوا هذه الطرق البدعية، وليس فيها علم أصلا، ولكن يستفاد من كلامهم إبطال بعضهم لقول المبطل الآخر، وبيان تناقضه .(1/467)
ولهذا لما ذكروا المقالات الباطلة في الرب جعلوا يردونها بأن ذلك تجسيم، كما فعل القاضي أبو بكر في هداية المسترشدين وغيره، فلم يقيموا حجة على أولئك المبطلين، وردوا كثيرًا مما يقول اليهود بأنه تجسيم، وقد كان اليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكانوا أحيانًا يذكرون له بعض الصفات، كحديث الحبر، وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم : { إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ } [ آل عمران : 181 ] وأن يده مغلولة وغير ذلك، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط أنهم يجسمون، ولا أن في التوراة تجسيمًا ولا عابهم بذلك، ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله من النفاة .
فتبين أن هذه الطريقة مخالفة للشرع والعقل، وأنها مخالفة لما بعث اللّه به رسوله، ولما فطر عليه عباده، وأن أهلها من جنس الذين { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ]
وقد بينا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره الرازي من أن طريقة الوجوب والإمكان من أعظم الطرق، وبينا فسادها وأنها لا تفيد علمًا، وأنهم لم يقيموا دليلا على إثبات واجب الوجود، وأن طريقة الكمال أشرف منها وعليها اعتماد العقلاء قديمًا وحديثًا، وهو قد اعترف في آخر عمره بأنه قد تأمل الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما وجدها تشفى عليلا، ولا تروى [ في المطبوعة : ترى ـ والصواب ما أثبتناه ] غليلاً، ووجد أقرب الطرق طريقة القرآن .
وطريقة الوجوب والإمكان لم يسلكها أحد قبل ابن سينا، وهو أخذها من كلام المتكلمين الذين قسموا الوجود إلى محدث وقديم، فقسمه هو إلى واجب وممكن؛ ليمكنه القول بأن الفلك ممكن مع قدمه، وخالف بذلك عامة العقلاء من سلفه وغير سلفه، وخالف نفسه، فإنه قد ذكر في المنطق ما ذكره سلفه من أن الممكن لا يكون إلا محدثًا، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع .(1/468)
ثم إن هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة انتهت بهم إلى قول فرعون؛ فإن فرعون جحد الخالق، وكذب موسى في أن اللّه كلمه، وهؤلاء ينتهي قولهم إلى جحد الخالق، وإن أثبتوه قالوا : إنه لا يتكلم، ولا نادى أحدًا ولا ناجاه .
وعمدتهم في نفي ذاته على نفي الجسم، وفي نفي كلامه وتكليمه لموسى على أنه لاتحله الحوادث، فلا يبقى عندهم رب ولا مرسل . فحقيقة قولهم يناقض شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه؛ فإن الرسول هو المبلغ لرسالة مرسله، والرسالة هي كلامه الذي بعثه به، فإذا لم يكن متكلمًا لم تكن رسالة .
ولهذا اتفق الأنبياء على أن اللّه يتكلم، ومن لم يقل : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته، لم يقل : إنه يتكلم . والنفاة منهم من يقول : الكلام صفة فعل؛ بمعنى أنه مخلوق بائن عنه، ومنهم من يقول : هو صفة ذات؛ بمعنى أنه كالحياة يقوم بذاته، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل طائفة مصيبة في إبطال باطل الأخرى .
والدليل يقوم على أنه صفة ذات وفعل تقوم بذات الرب، والرب يتكلم بمشيئته وقدرته، فأدلة من قال : إنه صفة فعل كلها إنما تدل على أنه يتكلم بقدرته ومشيئته وهذا حق، وأدلة من قال : إنه صفة ذات إنما تدل على أن كلامه يقوم بذاته وهذا حق، وأما من أثبت أحدهما كمن قال : إن كلامه مخلوق، أو قال : إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، فهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا أنه يتكلم، ولا أثبتوا له كلامًا؛ ولهذا يقولون ما لا يعقل . هذا يقول : إنه معنى واحد قام بالذات، وهذا يقول : حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته، وهذا يقول : مخلوق بائن عنه .
ولهذا لما ظهر لطائفة من أتباعهم ما في قولهم من الفساد، ولم يعرفوا عين هذه الأقوال الثلاثة ـ حاروا وتوقفوا، وقالوا : نحن نقر بما عليه عموم المسلمين من أن القرآن كلام اللّه، وأما كونه مخلوقًا أو بحرف وصوت أو معنى قائم بالذات فلا نقول شيئًا من هذا .(1/469)
ومعلوم أن الهدى في هذه الأصول ومعرفة الحق فيها هو معرفة ما جاء به الرسول، وهو الموافق لصريح المعقول، أنفع وأعظم من كثير مما يتكلمون فيه من العلم، لاسيما والقلوب تطلب معرفة الحق في هذه بالفطرة، ولما قد رأوا من اختلاف الناس فيها .
وهؤلاء يذكرون هذا الوقف في عقائدهم وفيما صنفوه في أصول الدين، كما قد رأيت منهم من أكابر شيوخ العلم والدين بمصر والشام قد صنفوا في أصول الدين ما صنفوه، ولما تكلموا في [ مسألة القرآن ] وهل هو مخلوق ؟ أو قديم ؟ أو هو الحروف والأصوات ؟ أو معنى قائم بالذات ؟ نهوا عن هذه الأقوال، وقالوا : الواجب أن يقال ما قاله المسلمون كلهم : إن القرآن كلام اللّه، ويمسك عن هذه الأقوال .
وهؤلاء توقفوا عن حيرة وشك، ولهم رغبة في العلم والهدى والدين، وهم من أحرص الناس على معرفة الحق في ذلك وغيره، لكن لم يعلموا إلا هذه الأقوال الثلاثة . قول المعتزلة، والكلابية، والسالمية ـ وكل طائفة تبين فساد قول الأخرى، وفي كل قول من الفساد ما يوجب الامتناع من قبوله، ولم يعلموا قولاً غير هذه فرضوا بالجهل البسيط، وكان أحب إليهم من الجهل المركب، وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا هؤلاء على أصل قولهم ودينهم، وهو الاستدلال على حدوث الأجسام وحدوث العالم بطريقة أهل الكلام المبتدع، كما سلكها من ذكرته من أجلاء شيوخ أهل العلم والدين، والاستدلال على إمكانها بكونها مركبة كما سلك الشيخ الآخر، وهذا ينفي عن الواجب أن يكون جسمًا بهذه الطريقة، وذلك نفي عنه أنه جسم بتلك الطريقة . وحذاق النظار الذين كانوا أخبر بهذه الطرق وأعظم نظرًا واستدلالاً بها وبغيرها قد عرفوا فسادها، كما قد بسط في غير هذا الموضع .(1/470)
واللّّه ـ سبحانه ـ قد أخبر أنه { أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ } [ التوبة : 33، الفتح : 28، الصف : 9 ] وأخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا . والله ـ سبحانه ـ يجزي الإنسان بجنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه . فإن كان قد قدح فيهم ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل، ابتلى في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به .
ومن قال عنهم : إنهم تعمدوا الكذب، أظهر اللّه كذبه . ومن قال : إنهم جهال، أظهر اللّه جهله، ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى : إنه ساحر كذاب، أخبر اللّه بذلك عنهم في قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [ غافر : 23،24 ] وطلب فرعون إهلاكه بالقتل وصار يصفه بالعيوب، كقوله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] ، وقال : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين } [ الزخرف : 52 ] .
أهلك اللّه فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على اللّه وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع، فلم يبين حجة . وفرعون هذه الأمة أبو جهل كان يسمى أبا الحكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أبا جهل، وهو كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو جهل، أهلك به نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة .(1/471)
والذين قالوا عن الرسول : إنه أبتر، وقصدوا أنه يموت فينقطع ذكره، عوقبوا بانبتارهم، كما قال تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } [ الكوثر : 3 ] فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره اللّه حتى أهل البدع المخالفون لسنته . قيل لأبي بكر بن عياش [ هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي، وثقه ابن معين وعبد اللّه بن أحمد بن حنبل وابن حبان، ولد سنة خمس أو ست وتسعين، وقيل : إنه مات في سنة ثلاث وتسعين ومائة ] : إن بالمسجد قومًا يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة، فقال : من جلس للناس جلس الناس إليه، لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم .
وهؤلاء المشبهون لفرعون الجهمية نفاة الصفات، الذين وافقوا فرعون في جحده، وقالوا : إنه ليس فوق السموات، وإن اللّه لم يكلم موسى تكليمًا، كما قال فرعون : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [ غافر : 36، 37 ] .(1/472)
وكان فرعون جاحدًا للرب، فلولا أن موسى أخبره أن ربه فوق العالم لما قال : { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ } [ القصص : 38 ـ 42 ] .
ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى ربه، وفرض عليه الصلوات الخمس، ذكر أنه رجع إلى موسى، وأن موسى قال له : ارجع إلى ربك فَسَلْهُ التخفيف إلى أمتك، كما تواتر هذا في أحاديث المعراج، فموسى صدق محمدًا في أن ربه فوق، وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق، فالمقرون بذلك متبعون لموسى ومحمد، والمكذبون بذلك موافقون لفرعون .
وهذه الحجة مما اعتمد عليها غير واحد من النظار، وهي مما اعتمد عليها أبو الحسن الأشعري في كتابه [ الإبانة ] وذكر عدة أدلة عقلية وسمعية، على أن اللّه فوق العالم وقال في أوله :
فإن قال قائل : قد أنكرتم قول الجهمية، والقدرية، والخوارج والروافض، والمعتزلة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون ؟(1/473)
قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها : التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما جاء عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وبما كان يقول به أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قوله مجانبون، فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان اللّه به الحق، وأوضح به المناهج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمه اللّه من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين . وذكر جملة الاعتقاد والكلام على علو اللّه على العرش، وعلى الرؤية ومسألة القرآن ونحو ذلك، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن المعطلة ـ نفاة الصفات أو نفاة بعضها ـ لا يعتمدون في ذلك على ما جاء به الرسول؛ إذ كان ما جاء به الرسول إنما يتضمن الإثبات لا النفي، لكن يعتمدون في ذلك على ما يظنونه أدلة عقلية، ويعارضون بذلك ما جاء به الرسول .
وحقيقة قولهم أن الرسول لم يذكر في ذلك ما يرجع إليه لا من سمع ولا عقل، فلم يخبر بذلك خبرًا بين به الحق على زعمهم، ولا ذكر أدلة عقلية تبين الصواب في ذلك على زعمهم، بخلاف غير هذا، فإنهم معترفون بأن الرسول ذكر في القرآن أدلة عقلية على ثبوت الرب، وعلى صدق الرسول .
وقد يقولون أيضًا : إنه أخبر بالمعاد؛ لكن نفوا الصفات لما رأوا أن ما ذكروه من النفي لم يذكره الرسول، فلم يخبر به ولا ذكر دليلا عقليًا عليه، بل إنما ذكر الإثبات، وليس هو في نفس الأمر حقًا، فأحوج الناس إلى التأويل أو التفويض، فلما نسبوا ما جاء به الرسول إلى أنه ليس فيه لا دليل سمعي ولا عقلي،لا خبر يبين الحق ولا دليل يدل عليه، عاقبهم اللّه بجنس ذنوبهم، فكان ما يقولونه في هذا الباب خارجًا عن العقل والسمع، مع دعواهم أنه من العقليات البرهانية، فإذا اختبره العارف وجده من الشبهات الشيطانية، من جنس شبهات أهل السفسطة والإلحاد، الذين يقدحون في العقليات والسمعيات .(1/474)
وأما السمع فخلافهم له ظاهر لكل أحد، وإنما يظن من يعظمهم ويتبعهم أنهم أحكموا العقليات، فإذا حقق الأمر وجدهم، كما قال أهل النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير } [ الملك : 10 ] وكما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ النور : 39، 40 ] .
فلما كان حقيقة قولهم : إن القرآن والحديث ليس فيه في هذا الباب دليل سمعي ولا عقلي ـ سلبهم اللّه في هذا الباب معرفة الأدلة السمعية والعقلية، حتى كانوا من أضل البرية مع دعواهم أنهم أعلم من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، بل قد يدعون أنهم أعلم من النبيين، وهذا ميراث من فرعون وحزبه اللعين .
وقد قيل : إن أول من عرف أنه أظهر في الإسلام التعطيل ـ الذي تضمنه قول فرعون ـ هو الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري [ هو خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري، وثقه ابن حبان، وقد ولاه هشام بن عبد الملك على العراق عام ست ومائة ثم عزله سنة خمس وعشرين ومائة، وقتل سنة ست وعشرين ومائة ] ، وقال : أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، إني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا . ثم نزل فذبحه، وشكر له علماء المسلمين ما فعله، كالحسن البصري وغيره .(1/475)
وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم اللّه ممن خالف الرسل، وانتصر لهم؛ ولهذا لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم، وهو حقيقة قول فرعون [ إنكار الصانع وإنكار عبادته ] ، وخيار ما كانوا يتظاهرون به الرفض، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد، حتى كان من كان ينزل الشام مثل بني حمدان الغالية ونحوهم متشيعين، وكذلك من كان من بني بويه في المشرق .
وكان ابن سينا وأهل بيته من أهل دعوتهم، قال : وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة، وكان مبدأ ظهورهم من حين تولى المقتدر، ولم يكن بلغ بعد، وهو مبدأ انحلال الدولة العباسية، ولهذا سمي حينئذ بأمير المؤمنين الأموي الذي كان بالأندلس، وكان قبل ذلك لا يسمى بهذا الاسم، ويقول : لا يكون للمسلمين خليفتان، فلما ولى المقتدر قال : هذا صبي لا تصح ولايته، فسمى بهذا الاسم .
وكان بنو عبيد اللّه القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلاً كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين .(1/476)
فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شىء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة .
فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببًا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة .
فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم اللّه على الكفار؛ تحقيقًا لقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الصف : 10 ـ 13 ] .(1/477)
وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار، قال تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } [ الإسراء : 4 ـ 8 ] .
وكان بعض المشايخ يقول : هولاكو ـ ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق، وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدًا، يقال : قتل منهم ألف ألف، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ، كان بعض الشيوخ يقول : هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل .
وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر، سماه [ السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ] ، ويقال : إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه،وكان من أعظم ملوك الأرض،وكان للرازي به اتصال قوي،حتى إنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتابًا سماه [ الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية ] .(1/478)
وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، كما قال جابر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره : كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول : ( إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخبرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره، ثم بارك فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به ) .
وأهل النجوم لهم اختيارات إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعًا سعيدًا، فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم . وقد صنف الناس كتبًا في الرد عليهم، وذكروا كثرة ما يقع من خلاف مقصودهم فيما يخبرون به ويأمرون به، وكم يخبرون من خبر فيكون كذبًا، وكم يأمرون باختيار فيكون شرًا، والرازي صنف الاختيارات لهذا الملك، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك، كما ذكر في [ السر المكتوم ] في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها، والشرك بها ودعائها، مثلما يدعو الموحدون ربهم، بل أعظم، والتقرب إليها بما يظن أنه مناسب لها من الكفر والفسوق والعصيان، فذكر أنه يتقرب إلى الزهرة بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء، ونحو ذلك مما حرمه اللّه ورسوله .(1/479)
وهذا في نفس الأمر يقرب إلى الشياطين، الذين يأمرونهم بذلك ويقولون لهم : إن الكوكب نفسه يحب ذلك، وإلا فالكواكب مسخرات بأمر اللّه مطيعة للّه، لا تأمر بشرك ولا غيره من المعاصي، ولكن الشياطين هي التي تأمر بذلك ويسمونها روحانية الكواكب، وقد يجعلونها ملائكة وإنما هي شياطين، فلما ظهر بأرض المشرق بسبب مثل هذا الملك ونحوه، ومثل هذا العالم ونحوه ما ظهر من الإلحاد والبدع سلط اللّه عليهم الترك المشركين الكفار، فأبادوا هذا الملك، وجرت له أمور فيها عبرة لمن يعتبر، ويعلم تحقيق ما أخبر اللّه به في كتابه، حيث يقول : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] أي أن القرآن حق، وقال : { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } [ الأنبياء : 37 ] ، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل وغيره من الأسباب، التي أوجبت إدبارها، وفي آخر دولتهم ظهر الجهم بن صفوان بخراسان، وقد قيل : إن أصله من ترمذ وأظهر قول المعطلة النفاة الجهمية، وقد قتل في بعض الحروب، وكان أئمة المسلمين بالمشرق أعلم بحقيقة قوله من علماء الحجاز والشام والعراق؛ ولهذا يوجد لعبد اللّه بن المبارك وغيره من علماء المسلمين بالمشرق من الكلام في الجهمية أكثر مما يوجد لغيرهم، مع أن عامة أئمة المسلمين تكلموا فيهم، ولكن لم يكونوا ظاهرين إلا بالمشرق، لكن قوى أمرهم لما مات الرشيد، وتولى ابنه الملقب بالمأمون بالمشرق، وتلقي عن هؤلاء ما تلقاه .(1/480)
ثم لما ولى الخلافة اجتمع بكثير من هؤلاء، ودعا إلى قولهم في آخر عمره، وكتب إلى بغداد وهو بالثغر بطرسوس التي ببلدسيس ـ وكانت إذ ذاك أعظم ثغور بغداد، ومن أعظم ثغور المسلمين يقصدها أهل الدين من كل ناحية ويرابطون بها، رابط بها الإمام أحمد، رضي اللّه عنه، والسرى السقطى [ هو أبو الحسن السقطي البغدادي، ولد في حدود الستين ومائة، اشتهر بالصلاح والزهد والورع، وتوفى في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين ] ، وغيرهما، وتولي قضاءها أبو عبيد، وتولى قضاءها أيضًا صالح بن أحمد بن حنبل؛ ولهذا ذكرت في كتب الفقه كثيرًا فإنها كانت ثغرًا عظيمًا ـ فكتب من الثغر إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتابًا يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا : القرآن مخلوق . فلم يجبه أحد . ثم كتب كتابًا ثانيًا يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه، فأجاب أكثرهم، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا، فأجاب منهم خمسة بعد القيد، وبقى اثنان لم يجيبا : الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه، ثم أوصي إلى أخيه أبي إسحاق، وكان هذا سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقى أحمد في الحبس إلى سنة عشرين، فجرى ما جرى من المناظرة حتى قطعهم بالحجة، ثم لما خافوا الفتنة ضربوه وأطلقوه، وظهر مذهب النفاة الجهمية، وامتحنوا الناس فصار من أجابهم أعطوه وإلا منعوه العطاء وعزلوه من الولايات، ولم يقبلوا شهادته، وكانوا إذا افتكوا الأسرى يمتحنون الأسير، فإن أجابهم افتدوه وإلا لم يفتدوه .
وكتب قاضيهم أحمد بن أبي دؤاد [ هو أحمد بن أبي دؤاد القاضي الأباري، ولي القضاء للمعتصم والواثق، وكان موصوفًا بالجود وحسن الخلق، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وكان أحمد بن حنبل يطلق عليه الكفر، ولد سنة ستين ومائة، وتوفى سنة أربعين ومائتين من فالج أصابه ] على ستارة الكعبة [ ليس كمثلة شىء وهو العزيز الحكيم ] ، لم يكتب وهو { السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .(1/481)
ثم ولي الواثق واشتد الأمر إلى أن ولى المتوكل فرفع المحنة، وظهرت حينئذ السُّنَّة، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود أن أئمة المسلمين لما عرفوا حقيقة قول الجهمية بينوه، حتى قال عبد اللّه بن المبارك : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وكان ينشد :
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ** إلى النار واشتق اسمه من جهنم
وقيل له : بماذا يعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، قيل له : بِحَدٍّ ؟ قال : بحد . وكذلك قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم من أئمة السنة .
وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه، كما كان فرعون يفعل، فكان يجحد الخالق جل جلاله، ويقول : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ، ويقول لموسى : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين } [ الشعراء : 29 ] ، ويقول : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو يكون لموسى إله فوق السموات، ويريد أن يبطل عبادة اللّه وطاعته، ويكون هو المعبود المطاع .
فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يؤول إلى قول فرعون، كان منتهي قولهم إنكار رب العالمين، وإنكار عبادته، وإنكار كلامه حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد والعرفان، فصاروا يقولون : العالم هو اللّه، والوجود واحد، والموجود القديم الأزلي الخالق هو الموجود المحدث المخلوق، والرب هو العبد، ما ثم رب وعبد وخالق ومخلوق بل هو عندهم فرقان .(1/482)
ولهذا صاروا يعيبون على الأنبياء وينقصونهم؛ ويعيبون على نوح وعلى إبراهيم الخليل وغيرهما، ويمدحون فرعون، ويجوزون عبادة جميع المخلوقات، وجميع الأصنام، ولا يرضون بأن تعبد الأصنام حتى يقولوا : إن عُبَّاد الأصنام لم يعبدوا إلا اللّه، وأن اللّه نفسه هو العابد وهو المعبود، وهو الوجود كله، فجحدوا الرب وأبطلوا دينه، وأمره ونهيه،وما أرسل به رسله، وتكليمه لموسى وغيره .
وقد ضل في هذا جماعة لهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك، كابن سبعين، والصدر ـ القونوي تلميذ ابن عربي ـ والبلياني، والتلمساني، وهو من حذاقهم علمًا ومعرفة، وكان يظهر المذهب بالفعل، فيشرب الخمر ويأتي المحرمات .
وحدثني الثقة أنه قرأ عليه [ فصوص الحكم ] لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء اللّه العارفين، فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال : فقلت له : هذا الكلام يخالف القرآن، فقال : القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول : ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول .
وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه : هذا أيضًا هو ذات اللّه ؟ فقال : وهل ثم شيء خارج عنها ؟ نعم ! الجميع في ذاته !
وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدًا فينافقه فلم يثبت الخالق، وإن كان في الباطن مقرًا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار، كما قال : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 13، 14 ] .(1/483)
وأما هؤلاء فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال يحسبون أنهم على حق، وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندًا مظهرًا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جُهَّال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر .
وحدثني الشيخ عبد السيد الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلامًا، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له : الشرف البلاسي، يطلب منه المعرفة والعلم، قال : فدعاني إلى هذا المذهب فقلت له : قولكم يشبه قول فرعون، قال : ونحن على قول فرعون ! فقلت لعبد السيد : واعترف لك بهذا ؟ قال : نعم ! وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب، فقلت له : هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون، فحدثني بهذا، فقلت له : ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يُحتاج إلى بينة، قال عبد السيد : فقلت له : لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، فقال : ولم ؟ قلت : لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد ـ وكان هذا قبل أن يسلم : نفعتك اليهودية، يهودي خير من فرعوني .
وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه، وهم يحسبون أنه حق، وعامتهم ـ الذين يقرون ظاهرًا وباطنًا بأن محمدًا رسول اللّه، وأنه أفضل الخلق أفضل من جميع الأنبياء والأولياء ـ لا يفهمون حقيقة قولهم، بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء اللّه فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل ابن عبد اللّه، وأمثال هؤلاء .(1/484)
وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك، ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه : إن الأولياء أفضل من الأنبياء، وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة اللّه من مشكاة خاتم الأولياء، وإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء، فإنهم متجهمة متفلسفة، يخرجون أقوال المتفلسفة والجهمية في قالب الكشف .
وعند المتفلسفة : أن جبريل إنما هو خيال في نفس النبي، ليس هو ملكًا يأتي من السماء، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال، وأما خاتم الأولياء في زعمهم فإنه يأخذ من العقل المجرد الذي يأخذ منه الخيال؛ فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول .
وهم يعظمون فرعون، ويقولون ما قاله صاحب [ الفصوص ] قال : ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي، لذلك قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] أي وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم . قال : ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك . وقالوا له : { فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ طه : 72 ] قال : فصح قول فرعون : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وإن كان فرعون عين الحق .(1/485)
وحدثني الثقة ـ الذي كان منهم ثم رجع عنهم ـ أن أبغض الناس إليهم محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وسلم . قال : وإذا نَهَق الحمار ونَبَح الكلب سجدوا له، وقالوا : هذا هو اللّه، فإنه مظهر من المظاهر . قال : فقلت له : محمد بن عبد اللّه أيضًا مظهر من المظاهر، فاجعلوه كسائر المظاهر، وأنتم تعظمون المظاهر كلها أو اسكتوا عنه، قال : فقالوا لي : محمد نبغضه؛ فإنه أظهر الفرق ودعا إليه، وعاقب من لم يقل به، قال : فتناقضوا في مذهبهم الباطل، وجعلوا الكلب والحمار أفضل من أفضل الخلق، قال لي : وهم يصرحون باللعنة له ولغيره من الأنبياء، ولا ريب أنهم من أعظم الناس عبادة للشيطان وكفرًا بالرحمن .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا سمعتم صياح الديكة فَسَلُوا اللّه من فضله؛ فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار ونباح الكلب فتعوذوا باللّه من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانًا ) ، فهم إذا سمعوا نهيق الحمار ونباح الكلب تكون الشياطين قد حضرت، فيكون سجودهم للشياطين .
وكان فيهم شيخ جليل من أعظمهم تحقيقًا- لكن هذا لم يكن من هؤلاء الذين يسبون الأنبياء - وقد صنف كتابًا سماه [ فك الأزرار عن أعناق الأسرار ] ذكر فيه مخاطبة جرت له مع إبليس، وأنه قال له ما معناه : إنكم قد غلبتموني وقهرتموني ونحو هذا، لكن جرت لي قصة تعجبت منها مع شيخ منكم، فإني تجليت له فقلت : أنا اللّه لا إله إلا أنا، فسجد لي، فتعجبت كيف سجد لي . قال هذا الشيخ : فقلت له : ذاك أفضلنا وأعلمنا وأنت لم تعرف قصده،ما رأى في الوجود اثنين وما رأى إلا واحدًا فسجد لذلك الواحد، لا يميز بين إبليس وغيره، فجعل هذا الشيخ - ذاك الذي سجد لإبليس - لا يميز بين الرب وغيره، بل جعل إبليس هو اللّه هو وغيره من الموجودات جعله أفضلهم وأعلمهم .(1/486)
ولهذا عاب ابن عربي نوحًا أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وهو الذي جعل اللّه ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا،وعظَّم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام، وأنهم ما عبدوا إلا اللّه، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه، وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم .
ومدح عُبَّاد العجل، وتنقص هارون، وافترى على موسى، فقال : وكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن اللّه قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما قضى اللّه بشىء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فذكر عن موسى أنه عتب على هارون أنه أنكر عليهم عبادة العجل، وأنه لم يسع ذلك فأنكره؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء .(1/487)
وهذا من أعظم الافتراء على موسى وهارون، وعلى اللّه، وعلى عُبَّاد العجل، فإن اللّه أخبر عن موسى أنه أنكر العجل إنكارًا أعظم من إنكار هارون، وأنه أخذ بلحية هارون لما لم يدعهم ويتبع موسى لمعرفته،قال تعالى : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 83 ـ 94 ] .(1/488)
قلت لبعض هؤلاء : هذا الكلام الذي ذكره هذا عن موسى وهارون يوافق القرآن أو يخالفه ؟ فقال : لا بل يخالفه، قلت : فاختر لنفسك إما القرآن وإما كلام ابن عربي .
وكذلك قال عن نوح قال : لو أن نوحًا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه؛ أي ذكر لهم فدعاهم جهارًا ثم دعاهم إسرارًا إلى أن قال : ولما علموا أن الدعوة إلى اللّه مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية { أَدْعُو إِلَى اللّهِ } فهذا عين المكر { عَلَى بَصِيرَةٍ } [ يوسف : 108 ] ،فنبه أن الأمر كله للّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم، فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى اللّه ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسمائه، فقال : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } [ مريم : 85 ] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين، فقالوا في مكرهم : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء؛ فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] أي حكم، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير اللّه في كل معبود .(1/489)
وهو دائمًا يحرف القرآن عن مواضعه، كما قال في هذه القصة : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } [ نوح : 25 ] فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه وهي الحيرة، { فَأُدْخِلُوا نَارًا } في عين الماء في المحمديين { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت } [ التكوير : 6 ] سجرت التنور : أوقدته، { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا } [ نوح : 25 ] فكان اللّه عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد، وقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] بمعنى : أمر وأوجب وفرض . وفي القراءة الأخرى : ( ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ، فجعل معناه : أنه قدر وشاء ألا تعبدوا إلا إياه، وما قدره فهو كائن، فجعل معناها كل معبود هو اللّه، وإن أحدًا ما عبد غير اللّه قط، وهذا من أظهر الفرية على اللّه، وعلى كتابه، وعلى دينه، وعلى أهل الأرض .(1/490)
فإن اللّه في غير موضع أخبر أن المشركين عبدوا غير اللّّه، بل يعبدون الشيطان، كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60 ـ62 ] . وقال تعالى عن يوسف أنه قال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 39، 40 ] ، وقال تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138 ـ140 ] .(1/491)
وقال تعالى عن الخليل : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [ مريم : 42-50 ] .
فهو - سبحانه - يقول : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } وهؤلاء الملحدون يقولون : ما عبدنا غير اللّه في كل معبود .(1/492)
وقال تعالى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [ الأعراف : 148-152 ] .
قال أبو قِلابة : هي لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله اللّه .
والجهمية النفاة كلهم مفترون، كما قال الإمام أحمد بن حنبل : إنما يقودون قولهم إلى فرية على اللّه، وهؤلاء من أعظمهم افتراء على اللّه، فإن القائلين بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق هم أعظم افتراء ممن يقول : إنه يحل فيه، وهؤلاء يجهلون من يقول بالحلول أو يقول بالاتحاد، وهو أن الخالق اتحد مع المخلوق، فإن هذا إنما يكون إذا كان شيئان متباينان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، كما يقوله النصارى من اتحاد اللاهوت مع الناسوت، وهذا إنما يقال في شىء معين .
وهؤلاء عندهم ما ثَمَّ وجود لغيره حتى يتحد مع وجوده، وهم من أعظم الناس تناقضًا، فإنهم يقولون : ما ثم غير ولا سوى، وتقول السبعينية : ليس إلا اللّه، بدل قول المسلمين : لا إله إلا اللّه، ثم يقولون : هؤلاء المحجوبون لا يرون هذا . فإذا كان ما ثم غير ولا سوى فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ومن الذي ليس بمحجوب، وعم حجب ؟ فقد أثبتوا أربعة أشياء : قوم محجوبون، وقوم ليسوا بمحجوبين، وأمرًا انكشف لهؤلاء، وحجب عن أولئك .(1/493)
فأين هذا من قولهم : ما ثم اثنان ولا وجودان ؟ كما حدثني الثقة أنه قال للتلمساني : فعلى قولكم : لا فرق بين امرأة الرجل وأمه وابنته ؟ قال : نعم ! الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام، فقلنا : حرام عليكم، فقيل لهم : فمن المخاطب للمحجوبين أهو هم أم غيرهم ؟ فإن كانوا هم فقد حرم على نفسه لما زعم أنه حرام عليهم دونه، وإن كانوا غيره فقد أثبت غيرين وعندهم ما ثم غير .
وهؤلاء اشتبه عليهم الواحد بالنوع بالواحد بالعين، فإنه يقال : الوجود واحد، كما يقال : الإنسانية واحدة، والحيوانية واحدة، أي يعني واحد كلي، وهذا الكلي لا يكون كليًا إلا في الذهن لا في الخارج، فظنوا هذا الكلى ثابتًا في الخارج، ثم ظنوه هو اللّه، وليس في الخارج كلي مع كونه كليًا، وإنما يكون كليًا في الذهن، وإذا قدر في الخارج كلى فهو جزء من المعينات وقائم بها، ليس هو متميزًا قائمًا بنفسه، فحيوانية الحيوان وإنسانية الإنسان سواء قدرت معينة أو مطلقة هي صفة له، ويمتنع أن تكون صفة الموصوف مبدعة له، ولوقدر وجودها مجردًا عن العيان على رأي من أثبت [ المثل الأفلاطونية ] فتثبت الماهيات الكلية مجردة عن الموصوفات، ويدعى أنها قديمة أزلية، مثل إنسانية مجردة وحيوانية مجردة، وهذا خيال باطل .
وهذا الذي جعله مجردًا هو مجرد في الذهن وليس في الخارج كلي مجرد، وإذا قدر ثبوت كلي مجرد في الخارج ـ وهو مسمى الوجود ـ فهذا يتناول وجود المحدثات كلها، كما يتناول وجود القديم، وهذا لا يكون مبدعًا لشىء ولا اختصاص له بصفات الكمال، فلا يوصف بأنه حي عليم قدير؛ إذ ليس وصفه بذلك بأولى من وصفه بأنه عاجز جاهل ميت، والخالق لابد أن يكون حيًا عليمًا قديرًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .(1/494)
ثم لو قدر أن هذا هو الخالق فهذا غير الأعيان الموجودة المخلوقة، فقد ثبت وجودان أحدهما غير الآخر، وأحدهما محدث مخلوق، فيكون الآخر الخالق غير المخلوق، ولا يمكن جحد وجود الأعيان المعينة، ولكن الواحد من هؤلاء قد يغيب عن شهود المغيبات كما يغيب عن شهود نفسه، فيظن أن ما لم يشهده قد عدم في نفسه وفنى وليس كذلك، فإن ما عدم وفنى شهوده له وعلمه به ونظره إليه، فالمعدوم الفاني صفة هذا الشخص، وإلا فالموجودات في نفسها باقية على حالها لم تتغير، وعدم العلم ليس علمًا بالمعدوم، وعدم المشهود ليس شهودًا للعدم، ولكن هذه الحال يعترى كثيرًا من السالكين يغيب أحدهم عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات، وقد يسمون هذا فناء واصطلامًا، وهذا فناء عن شهود تلك المخلوقات، لا أنها في نفسها فنيت، ومن قال : فنى ما لم يكن وبقى مالم يزل، فالتحقيق - إذا كان صادقًا - أنه فني شهوده لما لم يكن، وبقى شهوده لما لم يزل . لا أن ما لم يكن فني في نفسه، فإنه باق موجود، ولكن يتوهمون إذا لم يشهدوه أنه قد عدم في نفسه .
ومن هنا دخلت طائفة في الاتحاد والحلول، فأحدهم قد يذكر اللّه حتى يغلب على قلبه ذكر اللّه ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكور مشهود لقلبه إلا اللّه، ويفنى ذكره وشهوده لما سواه، فيتوهم أن الأشياء قد فنيت، وأن نفسه فنيت حتى يتوهم أنه هو اللّه، وأن الوجود هو اللّه .
ومن هذا الباب غلط أبي يزيد ونحوه حيث قال : ما في الجبة إلا اللّه .
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أنه يعبر بالفناء عن ثلاثة أمور :(1/495)
أحدها : أنه يفنى بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه، وبمحبته وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه عن محبة ما سواه وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه، وهذا هو حقيقة التوحيد الذي بعث اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فقد فنى من قلبه التأله لغير اللّه، وبقى في قلبه تأله اللّه وحده، وفنى من قلبه حب غير اللّه وخشية غير اللّه والتوكل على غير اللّه، وبقى في قلبه حب اللّه وخشية اللّه والتوكل على اللّه .
وهذا الفناء يجامع البقاء، فيتخلى القلب عن عبادة غير اللّه مع تحلي القلب بعبادة اللّه وحده، كما قال صلى الله عليه وسلم لرجل : ( قل : أسلمت للّه وتخليت ) وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه بالنفي مع الإثبات؛ نفي إلهية غيره مع إثبات إلهيته وحده، فإنه ليس في الوجود إله إلا الله، ليس فيه معبود يستحق العبادة إلا اللّه؛ فيجب أن يكون هذا ثابتا في القلب؛ فلا يكون في القلب من يألهه القلب ويعبده إلا اللّه وحده، ويخرج من القلب كل تأله لغير اللّه، ويثبت فيه تأله اللّه وحده؛ إذ كان ليس ثم إله إلا اللّه وحده .(1/496)
وهذه الولاية للّه مقرونة بالبراءة والعداوة لكل معبود سواه ولمن عبدهم، قال تعالى عن الخليل ـ عليه السلام : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 26ـ 28 ] ، وقال : { أ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75ـ77 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] .(1/497)
قلت لبعض من خاطبته من شيوخ هؤلاء : قول الخليل : { إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ } ممن تبرأ الخليل ؟ أتبرأ من اللّه تعالى وعندكم ما عبد غير اللّه قط ؟ والخليل قد تبرأ من كل ما كانوا يعبدون إلا من رب العالمين، وقد جعله اللّه لنا وفيمن معه أسوة حسنة، لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر، قال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ الممتحنة : 4 ـ 6 ] .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل ) .(1/498)
وهذا تصديق قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج : 62 ] ،وقال تعالى : { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ يونس : 23 ] ، وقال سبحانه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] قال طائفة من السلف : كل عمل باطل إلاما أريد به وجهه، وقد قال سبحانه : { وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [ القصص : 87، 88 ] .
و [ الإله ] هو المألوه أي المستحق لأن يُؤْلَه أي يُعْبَد، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا اللّه وحده، وكل معبود سواه ـ من لدن عرشه إلى قرار أرضه ـ باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى المركوب والمحمول . وكان الصحابة يرتجزون في حفر الخندق يقولون :
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر
وإذا قيل : هذا هو الإمام فهو الذي يستحق أن يؤتم به، كما قال تعالى لإبراهيم : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124] فعهده بالإمامة لا ينال الظالم، فالظالم لا يجوز أن يؤتم به في ظلمه، ولا يركن إليه، كما قال تعالى : {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } [ هود : 113 ] فمن ائتم بمن لا يصلح للإمامة فقد ظلم نفسه، فكيف بمن جعل مع اللّه إلهًا آخر، وعبد من لا يصلح للعبادة، واللّه تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48، 116] .(1/499)
وقد غلط طائفة من أهل الكلام فظنوا أن [ الإله ] بمعنى الفاعل، وجعلوا الإلهية هي القدرة والربوبية، فالإله هو القادر وهو الرب، وجعلوا العباد مألوهين كما أنهم مربوبون .
فالذين يقولون بوحدة الوجود متنازعون في أمور، لكن إمامهم ابن عربي يقول : الأعيان ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها؛ فلهذا قال : فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً . فزعم أن المخلوقات جعلت الرب إلهًا لها حيث كانوا مألوهين . ومعنى مألوهين ـ عنده ـ مربوبين، وكونهم مألوهين حيث كانت أعيانهم ثابتة في العدم . وفي كلامهم من هذا وأمثاله مما فيه تنقص بالربوبية ما لا يحصى، فتعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .(1/500)
والتحقيق أن اللّه خالق كل شيء، والمعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن اللّه يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به فيكون سببًا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 28 ] . واللّه ـ سبحانه ـ خالق الإنسان ومعلمه فهو الذي { خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [ العلق : 1، 2 ] وهو { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3 ـ 5 ] ، ولو قدر أن الإله بمعنى الرب فهو الذي جعل المربوب مربوبًا، فيكون على هذا هو الذي جعل المألوه مألوهًا، والمربوب لم يجعله ربًا، بل ربوبيته صفة، وهو الذي خلق المربوب وجعله مربوبًا؛وهو إذا آمن بالرب واعتقد ربوبيته وأخبر بها كان قد اتخذ اللّه ربا ولم يبغ ربا سوى اللّه ولم يتخذ ربًا سواه، كما قال تعالى : { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق: 3 :5 ] ، قال تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] ، وقال : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 80 ] .(2/1)
وهو - أيضًا - في نفسه هو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وَحَّده من لم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره، قال تعالى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 213 ] ، وقال تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] ، وقال إبراهيم لأبيه آزر : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره، كما أن الجاهل إذا اتخذ إمامًا ومفتيًا وقاضيًا كان ذلك باطلاً؛ فإنه لا يصلح أن يؤم ولا يفتى ولا يقضى، وغير اللّه لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو ـ سبحانه ـ لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا ينفع ذا الجَدِّ منه الجَدُّ .(2/2)
ومن دعا من لا يسمع دعاءه، أو يسمع ولا يستجيب له، فدعاؤه باطل وضلال، وكل من سوى اللّه إما أنه لا يسمع دعاء الداعي، أو يسمع ولكن لا يستجيب له، فإن غير اللّه لا يستقل بفعل شيء البتة، وقد قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] فغير اللّه لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا هو معاون للرب في شيء، بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة والأنبياء والصالحين ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلابد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا، كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا . لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=282 - TOP#TOPوَسُئِلَ عن معنى قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] واللّه ـ سبحانه ـ لا يدخل عليه النسيان .
فأجاب :(2/3)
أما قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] ، ففيها قراءتان، أشهرهما : { أَوْ نُنسِهَا } أى : ننسيكم إياها، أى : نسخنا ما أنزلناه، أو اخترنا تنزيل ما نريد أن ننزله نأتكم بخير منه أو مثله، والثانية : ( أو ننسأها ) بالهمز، أى نؤخرها، ولم يقرأ أحد : ( ننساها ) ، فمن ظن أن معنى ننسأها بمعنى : ننساها، فهو جاهل بالعربية والتفسير، قال ـ موسى عليه السلام : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى } [ طه : 52 ] ،و النسيان مضاف إلى العبد كما فى قوله : { سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ } [ الأعلى : 6، 7 ] ؛ ولهذا قرأها بعض الصحابة : ( أو تنساها ) أى : تنساها يا محمد،وهذا واضح لا يخفى إلا على جاهل،لا يفرق بين ننسأها بالهمز وبين ننساها بلا همز، واللّه أعلم .
قَال أبو العبَّاس أحْمَد بن تيمية ـ رَحِمهُ اللَّه تعالى :
فى قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } الآية [ البقرة : 178 ] ،وفيها قولان :
أحدهما : أن القصاص هو القَوَد، وهو أخذ الدية بدل القتل،كما جاء عن ابن عباس أنه كان فى بنى إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فجعل اللّه فى هذه الأمة الدية فقال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] ، والعفو هو أن يقبل الدية فى العَمْد { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 178 ] مما كان على بنى إسرائيل، والمراد على هذا القول أن يقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنِثى بالأنثى . قال قتادة : إن أهل الجاهلية كان فيهم بَغِىٌّ،وكان الحى إذا كان فيهم عدد وعُدَّة فقتل عبدَهم عبدُ قوم آخرين، لن يقتل به إلا حراً تعززاً على غيرهم، وإن قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا : لن يقتل بها إلا رجلا،فنزلت هذه الآية . وهذا قول أكثر الفقهاء،وقد ذكر ذلك الشافعى وغيره .(2/4)
ويحتج بها طائفة من أصحاب مالك والشافعى وأحمد على أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لقوله : { وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } [ البقرة : 178 ] فينقض ذلك عليه بالمرأة؛ فإنه قال : { وَالأُنثَى بِالأُنثَى } [ البقرة : 178 ] ، وطائفة من المفسرين لم يذكروا هذا القول .
القول الثانى : أن القصاص فى القتلى يكون بين الطائفتين المقتتلتين قتال عَصَبِيَّة وجاهلية، فيقتل من هؤلاء ومن هؤلاء أحرار وعبيد ونساء، فأمر الله ـ تعالى ـ بالعدل بين الطائفتين، بأن يقاص دية حر بدية حر، ودية امرأة بدية امرأة، وعبد بعبد، فإن فضل لإحدى الطائفتين شىء بعد المقاصة فلتتبع الأخرى بمعروف، ولتؤد الأخرى إليها بإحسان، وهذا قول الشَّعْبِى وغيره، وقد ذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره، وعلى هذا القول فإنه إذا جعل ظاهر الآية لزمته إشكالات،لكن المعنى الثانى هو مدلول الآية ومقتضاه ولا إشكال عليه، بخلاف القول الأول يستفاد من دلالة الآية، كما سننبه عليه إن شاء [ في المطبوعة : ـ إنشاد ـوهو خطأ ] الله تعالى، وما ذكرناه يظهر من وجوه :
أحدها : أنه قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] و ( القصاص ) مصدر قاصه يقاصه مقاصة وقصاصاً، ومنه مقاصة الدينين أحدهما بالآخر و { بًقٌصّاصٍ فٌي بًقّتًلّى } إنما يكون إذا كان الجميع قتلى، كما ذكر الشعبى فيقاص هؤلاء القتلى بهؤلاء القتلى، أما إذا قتل رجل رجلا فالمقتول ميت، فهنا المقتول لا مقاصة فيه، ولكن القصاص أن يمكن من قتل القاتل لا غيره، وفى اعتبار المكافآت فيه قولان للفقهاء : قيل : تعتبر المكافآت فلا يقتل مسلم بذمى ولا حر بعبد، وهو قول الأكثرين مالك والشافعى وأحمد . وقيل : لا تعتبر المكآفات كقول أبى حنيفة، والمكافآت لا تسمى قصاصاً .(2/5)
وأيضاً فإنه قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } وإن أريد بالقصاص المكافآت فتلك لم تكتب، وإن أريد به استيفاء القَوَد فذلك مباح للولى، إن شاء اقتص وإن شاء لم يقتص فلم يكتب عليه الاقتصاص، وقد أورد هذا السؤال بعضهم وقال : هو مكتوب على القاتل أن يمكن من نفسه، فيقال له : هو تعالى قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وليس هذا خطاباً للقاتل وحده بل هو خطاب لأولياء المقتول، بدليل قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } ثم لا يقال للقاتل : كتب عليك القصاص فى المقتول فإن المقتول لا قصاص فيه .
وأيضا، فنفس انقياد القاتل للولى ليس هو قصاصا، بل الولي له أن يقتص وله ألا يقتص، وإنما سمى هذا قوداً لأن الولى يقوده، وهو بمنزلة تسليم السلعة إلى المشترى، ثم قال تعالى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } فكيف يقال : مثل هذا قصده القاتل، بل هذا الخطاب للأمة بالمقاصة والمعادلة فى القتل . والنبى صلى الله عليه وسلم إنما قال : ( كتاب اللّه القصاص ) لما كَسَرَتِ الرُّبَيِّع سِنّ جارية وامتنعوا من أخذ الأرْش، فقال أنس بن النضر : لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( يا أنس، كتاب اللّه القصاص ) فرضى القوم بالأرش، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبَرَّه ) ، كقوله تعالى : { $ّالًجٍرٍوحّ قٌصّاصِ } [ المائدة : 54 ] ، يعنى ( كتاب اللّّه ) أن يؤخذ العضو بنظيره، فهذا قصاص لأنه مساواة؛ ولهذا كانت المكافآت فى الأعضاء والجروح معتبرة باتفاق العلماء، وإن قيل : القصاص هو أن يقتل قاتله لا غيره فهو خلاف الاعتداء، قيل : نعم ! وهذا قصاص فى الأحياء لا فى القتلى .(2/6)
الثانى : أنه قال : { فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } ومعلوم باتفاق المسلمين أن العبد يقتل بالعبد وبالحر، والأنثى تقتل بالأنثى وبالذكر، والحر يقتل بالحر وبالأنثى ـ أيضا ـ عند عامة العلماء . وقيل : يشترط أن تؤدى تمام ديته، وإذا كان كذلك فقوله : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } [ البقرة : 178 ] إنما يدل على مقاصة الحر بالحر ومعادلته به ومقابلته به،وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وهذا إنما يكون إذا كانوا مقتولين فيقابل كل واحد بالآخر، وينظر : أيتعادلان أم يفضل لأحدهما على الآخر فضل، أما فى القتلى فلا يختص هذا بهذا باتفاق المسلمين .
الثالث : أنه قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } لفظ { عُفِيَ } هنا قد استعمل متعديا؛ فإنه قال : { عُفِيَ } ، { شَيْءٌ } ولم يقل : ( عفا ) ( شيئا ) وهذا إنما يستعمل فى الفعل، كما قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] ، وأما العفو عن القتل فذاك يقال فيه : عفوت عن القاتل، فَوَلِىُّ المقتول بين خيرتين : بين أن يعفو عن القتل ويأخذ الدية فلم يعف له شىء،بل هو عفا عن القتل وإذا عفا فإما أن يستحق الدية بنفسه أو بغير رضا القاتل على قولين .
وقد قال بعضهم : { مِنْ أَخِيهِ } أى : من دم أخيه، أى : ترك له القتل ورضى بالدية، والمراد القاتل، يعنى : إن القاتل عفى له من دم أخيه المقتول، أى : ترك له القتل، فيكون التقدير : أن الولى عفى للقاتل من دم المقتول شيئاً، وهذا كلام لا يعرف، لا يقال : عفوت لك شيئاً، ولا يقال : عفوت من دم القاتل، وإنما الذى يقال : إنه عفا عن القاتل، فأين هذا من هذا ؟(2/7)
وأما على القول الأول، فالمتقاصان إذا تعادى القتلى فمن عفى له، أى : فضل له من مقاصة أخيه مقاصة أخرى، أى : هذا الذى فضل له فضل كما يقال : أبقى له من جهة أخيه بقية { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } فهذا المستحق للفضل يتبع المقاص الآخر بالمعروف، وذلك يؤدى إلى هذا بإحسان { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أى : من أن كل طائفة تؤدى قتلى الأخرى، فإن فى هذا تثقيلا عظيما له { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] ، فإنهم إذا تعادوا القتلى وتقاصوا وتعادلوا لم يبق واحدة تطلب الأخرى بشىء فحَيِىَ هؤلاء وَحيِىَ هؤلاء، بخلاف ما إذا لم يتقاصوا فإنهم يتقاتلون، وتقوم بينهم الفتن التى يموت فيها خلائق، كما هو معروف فى فتن الجاهلية والإسلام، وإنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين، وإلا فمع التعادل والتناصف الذى يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة .
وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } فطلب من الطائفة الأخرى مالا أو قوما أو أذاهم بسبب ما بينهم من الدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وهذا كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 9،10 ] ، و ( الأخوة ) هنا كالأخوة هناك وهذا فى قتلى الفتن .(2/8)
وأما إذا قتل رجل رجلا من غير فتنة فهم كانوا يعرفون أن القاتل يقتل، لكن كانت الطائفة القوية تطلب أن تقتل غير القاتل، أو من هو أكثر من القاتل، أو اثنين بواحد، وإذا كان القاتل منها لم تقتل به من هو دونه، كما قيل : إنه كان بين قريظة والنضير، لكن هذا لم تُثَر به الفتن، بل فيه ظلم الطائفة القوية للضعيفة، ولم يكن فى الأمم من يقول : إن القاتل الظالم المتعدى مطلقاً لا يقتل، فهذا لم يكن عليه أحد من بنى آدم، بل كل بنى آدم مطبقون على أن القاتل فى الجملة يقتل، لكن الظلمة الأقوياء يفرقون بين قتيل وقتيل .(2/9)
وقول من قال : إن قوله : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] ، معناه : أن القاتل إذا عرف أنه يقتل كف فكان فى ذلك حياة له وللمقتول، يقال له : هذا معنى صحيح، ولكن هذا مما يعرفه جميع الناس، وهو مغروز فى جِبِلَّتِهم، وليس فى الآدميين من يبيح قتل أحد من غير أن يقتل قاتله، بل كلهم مع التساوى يجوزون قتل القاتل ولا يتصور أن الناس . . . [ بياض بالأصل ] إذا كان كل من قَدَر على غيره قتله وهو لا يقتل يرضى بمال، وإذا كان هذا المعنى من أوائل ما يعرفه الآدميون ويعلمون أنهم لا يعيشون بدونه صار هذا مثل حاجتهم إلى الطعام والشراب والسكنى، فالقرآن أجل من أن يكون مقصوده التعريف بهذه الأمور البديهية، بل هذا مما يدخل فى معناه، وهو أنه إذا كتب عليهم القصاص فى المقتولين أنه يسقط حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فجعل دية هذا كدية هذا، ودم هذا كدم هذا متضمن لمساواتهم فى الدماء والديات، وكان بهذه المقاصة لهم حياة من الفتن التى توجب هلاكهم، كما هو معروف، وهذا المعنى مما يستفاد من هذه الآية، فعلم أن دم الحر وديته كدم الحر وديته فيقتل به، وإذا علم أن التقاص يقع للتساوى فى الديات علم أن للمقتول دية . ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة، فيدل على أن اللّه أوجب العدل والإنصاف فى أمر القتلى، فمن قتل غير قاتله فهو ظالم، والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون،هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل،وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل .(2/10)
وقد ذكر ـ سبحانه ـ هذا المعنى فى قوله : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } [ الإسراء : 33 ] ، وإذا دلت على العدل فى القَوَد بطريق اللزوم والتنبيه ذهب الإشكال، ولم يقل : فلم لا قال : والعبد بالعبد والحر ؟ فإنه لم يكن المقصود أنه يقاص به فى القتلى، ومعلوم أنه إنما يقاص الحر بالحر لا بالمرأة، والمرأة بالمرأة لا بالحر، والعبد بالعبد . فظهرت فائدة التخصيص به والمقابلة فى الآية .
ودلت الآية ـ حينئذ ـ على أن الحر يقتل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى؛ إذا كانا متساويين فى الدم، وبدله هو الدية، ولم ينتف أن يقتل عبد بحر وأنثى بذكر، ولا لها مفهوم ينفى ذلك، بل كما دلت على ذلك بطريق التنبيه والفحوى والأولى، كذلك تدل على هذا أيضاً؛ فإنه إذا قتل العبد بالعبد فقتله بالحر أولى، وإذا قتلت المرأة بالمرأة فقتلها بالرجل أولى .
وأما قتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى فالآية لم تتعرض له لا بنفى ولا إثبات، ولا لها مفهوم يدل عليه، لا مفهوم موافقة ولا مخالفة؛ فإنه إذا كان فى المقاصة يقاس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لتساوى الديات، دل ذلك على قتل النظير بالنظير، والأدنى بالأعلى .
يبقى قتل الأعلى الكثير الدية بالأدنى القليل الدية، ليس فى الآية تعرض له؛ فإنه لم يقصد بها ابتداء القود، وإنما قصد المقاصة فى القتلى لتساوى دياتهم .
فإن قيل : دية الحر كدية الحر، ودية الأنثى كدية الأنثى،ويبقى العبيد قيمتهم متفاضلة ؟(2/11)
قيل : عبيدهم كانوا متقاربين القيمة، وقوله : { وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } [ البقرة : 178 ] قد يراد به بالعبد المماثل به، كما يقال : ثوب بثوب وإن كان أحدهما أغلى قيمة،فذاك مما عفى له، وقد يعفى إذا لم تعرف قيمتهم وهو الغالب، فإن المقتولين فى الفتن عبيدهم الذين يقاتلون معهم، وهم يكونون تربيتهم عندهم لم يشتروهم، فهذا يكون مع العلم بتساوى القيمة ومع الجهل بتفاضلها؛ فإن المجهول كالمعدوم، ولو أتلف كل من الرجلين ثوب الآخر ولا يعلم واحد منهما قيمة واحد من الثوبين، قيل : ثوب بثوب، وهذا لأن الزيادة محتملة من الطرفين؛ يحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى، ويحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى، وليس ترجيح أحدهما أولى من الآخر، والأصل براءة ذمة كل واحد من الزيادة،فلا تشتغل الذمة بأمر مشكوك فيه لو كان الشك فى أحدهما، فكيف إذا كان من الطرفين ؟
فظهر حكمة قوله : { وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } ، وظهر بهذا أن القرآن دل على ما يحتاج الخلق إلى معرفته والعمل به، ويُحقن به دماؤهم ويحيون به، ودخل فى ذلك ما ذكره الآخرون من العدل فى القود .
ودلت الآية على أن القتلى يؤخذ لهم ديات، فدل على ثبوت الدية على القاتل، وأنها مختلفة باختلاف المقتولين،وهذا مما مَنَّ الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم،حيث أثبت القصاص والدية .
وأما كون العفو هو قبول الدية فى العمد، وأنه يستحق العافى بمجرد عفوه ـ فالآية لم تتعرض لهذا .
ودلت هذه الآية على أن الطوائف المقتتلة تضمن كل منهما ما أتلفته الأخرى؛ من دم ومال بطريق الظلم؛ لقوله : { مِنْ أَخِيهِ } [ البقرة : 178 ] بخلاف ما أتلفه المسلمون للكفار، والكفار للمسلمين .
وأما القتال بتأويل ( كقتال أهل الجمل وصِفِّين ) فلا ضمان فيه ـ أيضا ـ بطريق الأولى عند الجمهور،فإنه إذا كان الكفار المتأولون لا يضمنون،فالمسلمون المتأولون أولى ألا يضمنوا .(2/12)
ودلت الآية على أن هذا الضمان على مجموع الطائفة يستوى فيه الرِّدْء [ الرًّدْءُ : المعين . انظر : المصباح المنير، مادة : ردؤ ] والمباشر، لا يقال : انظروا من قتل صاحبكم هذا فطالبوه بديته بل يقال : ديته عليكم كلكم، فإنكم جميعاً قتلتموه؛ لأن المباشر إنما تمكن بمعاونة الردء له، وعلى هذا دل قوله : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا } [ الممتحنة : 11 ] ، فإن أولئك الكفار كان عليهم مثل صداق هذه المرأة التى ذهبت إليهم، فإذا لم يؤدوه أخذ من أموالهم التى يقدر المسلمون عليها، مثل امرأة جاءت منهم يستحقون صداقها، فيعطى المسلم زوج تلك المرتدة صداقها من صداق هذه المسلمة المهاجرة التى يستحقه الكفار؛ لكونها أسلمت وهاجرت وفوتت زوجها بُضْعَها كما فوتت المرتدة بضعها لزوجها وإن كان زوج المهاجرة ليس هو الذى تزوج بالمرتدة؛ لأن الطائفة لما كانت ممتنعة يمنع بعضها بعضا،صارت كالشخص الواحد .
ولهذا لما قتل خالد من قتل من بنى جذيمة وَدَاهُم النبى صلى الله عليه وسلم من عنده؛ لأن خالداً نائبه وهو لا يمكنهم من مطالبته وحبسه لأنه متأول، وكذلك عَمرو بن أمية وقاتله خالد بن الوليد؛ لأنه قتل هذا على سبيل الجهاد لا لعداوة تخصه، وقد تنازع الفقهاء فى خطأ ولى الأمر؛ هل هو فى بيت المال أو على ذمته ؟ على قولين .
ولهذا كان ما غنمته السَّرِيَّة يشاركها فيه الجيش، وما غنمه الجيش شاركته فيه السرية؛ لأنه إنما يغنم بعضهم بظهر بعض، فإذا اشتركوا فى المغرم اشتركوا فى المغنم، وكذلك فى العقوبة يقتل الرِّدْء والمباشر من المحاربين عند جماهير الفقهاء،كما قتل عمر ـ رضى اللّه عنه ـ ربيئة [ أى طليعة . انظر : المصباح، مادة : ربأ ] المحاربين، وهو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وهو مذهب مالك فى القتل قوداً، وفى السراق ـ أيضاً .(2/13)
وبيان دلالة الآية على ذلك : أن المقتولين إذا حبس حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فالحر من هؤلاء ليس قاتله هو ولى الحر من هؤلاء، بل قد يكون غيره،وكذلك العبد من هؤلاء ليس قاتله هو سيد العبد من هؤلاء بل قد يكون غيره،لكن لما كانوا مجتمعين متناصرين على قتال أولئك ومحاربتهم كان من قتله بعضهم فكلهم قتله، وكلهم يضمنونه؛ ولهذا ما فضل لأحد الطائفتين يؤخذ من مال الأخرى .
فإن قيل : إذا كان مستقراً فى فِطَر بنى آدم أن القاتل الظالم لنظيره يستحق أن يقتل، وليس فى الآدميين من يقول : إنه لا يقتل، فما الفائدة فى قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } أى : فى التوراة { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } الآية [ المائدة : 45 ] ، إذا كان مثل هذا الشرع يعرفه العقلاء كلهم ؟
قيل لهم : فائدته : بيان تساوى دماء بنى إسرائيل، وأن دماءهم متكافئة ليس لشريفهم مزية على ضعيفهم، وهذه الفائدة الجليلة التى جاءت بها شرائع الأنبياء، فأما الطوائف الخارجون عن شرائع الأنبياء فلا يحكمون بذلك مطلقاً، بل قد لا يقتلون الشريف، وإذا كان الملك عادلا فقد يفعل بعض ذلك، فهذا الذى كتبه الله فى التوراة من تكافؤ دمائهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فحكم أيضاً فى المؤمنين به من جميع الأجناس بتكافؤ دمائهم، فالمسلم الحر يقتل بالمسلم الحر من جميع الأجناس باتفاق العلماء .(2/14)
وبهذا ظهر الجواب عن احتجاج من احتج بآية التوراة على أن المسلم يقتل بالذمى؛ لقوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } و ( شَرْعُ من قَبْلنا شَرْعٌ لنا ) ، فإنه يقال : الذى كتب عليهم أن النفس منهم بالنفس منهم، وهم كلهم كانوا مؤمنين، لم يكن فيهم كافر، ولم يكن فى شريعتهم إبقاء كافر بينهم لا بجزية ولا غيرها، وهذا مثل شرع محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، وليس فى الشريعتين أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، بل جعل الإيمان هو الواجب للمكافآت دليل على انتفاء ذلك فى الكافر ـ سواء كان ذمياً أو مستأمناًـ لانتفاء الإيمان الواجب للمكافأة فيه، نعم يحتج بعمومه على العبد .
وليس فى العبد نصوص صريحة صحيحة كما فى الذمى، بل ما روى : ( من قتل عبده قتلناه به ) ، وهذا لأنه إذا قتله ظالماً كان الإمام ولى دمه؛ لأن القاتل كما لا يرث المقتولَ إذا كان حراً، فكذلك لا يكون ولى دمه إذا كان عبداً، بل هذا أولى،كيف يكون دمه وهو القاتل ؟ بل لا يكون ولى دمه، بل ورثة القاتل السيد، لأنهم ورثته وهو بالحياة ولم يثبت له ولاية حتى تنتقل إليهم فيكون وليه الإمام . وحينئذ فللإمام قتله، فكل من قتل عبده كان للإمام أن يقتله .
و أيضا، فقد ثبت بالسنة والآثار أنه إذا مَثّل بعبده عتق عليه، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقتله أشد أنواع المثْل، فلا يموت إلا حراً، لكن حريته لم تثبت فى حال الحياة حتى يرثه عصبته، بل حريته ثبتت حكما، وهو إذا كان عتق كان ولاؤه للمسلمين، فيكون الإمام هو وليه، فله قتل قاتل عبده .
وقد يحتج بهذا من يقول : إن قاتل عبد غيره لسيده قتله، وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح، والقول الآخر ليس معه نص صريح ولا قياس صحيح، وقد قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم : من قتل ولا ولى له كان الإمام ولى دمه، فله أن يقتل، وله أن يعفو على الدية، لا مجاناً .(2/15)
يؤيد هذا أن من قال : لا يقتل حر بعبد يقول : إنه لا يقتل الذمى الحر بالعبد المسلم، قال اللّه ـ تعالى ـ فى كتابه : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } [ البقرة : 221 ] ، فالعبد المؤمن خير من الذمى المشرك، فكيف لا يقتل به ؟ ! والعبد المؤمن مثل الحرائر المؤمنات، كما دلت عليه هذه الآية، وهو قول جماهير السلف والخلف، وهذا قوى على قول أحمد؛ فإنه يجوز شهادة العبد كالحر، بخلاف الذمى، فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وكلهم مؤمنون، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) ؟ ! .
سُئِلَ ـ رَضي اللّه عَنهُ ـ عن قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] ، وهل الدعوة عامة تتعين في حق كل مسلم ومسلمة أم لا ؟ وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في هذه الدعوة أم لا ؟ وإذا كانا داخلين أو لم يكونا، فهل هما من الواجبات على كل فرد من أفراد المسلمين كما تقدم أم لا ؟ وإذا كانا واجبين، فهل يجبان مطلقاً مع وجود المشقة بسببهما أم لا ؟ وهل للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقتص من الجاني عليه إذا آذاه في ذلك لئلا يؤدي إلى طمع منه في جانب الحق أم لا ؟ وإذا كان له ذلك فهل تركه أولي مطلقاً أم لا ؟
فأجاب ـ رضي اللّه عنه وأرضاه :
الحمد لله رب العالمين، الدعوة إلى اللّه هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ،/ والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه .(2/16)
فإن هذه الدرجات الثلاث التي هي : الإسلام، والإيمان، والإحسان، داخلة في الدين، كما قال في الحديث الصحيح : ( هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ) ، بعد أن أجابه عن هذه الثلاث، فبين أنها كلها من ديننا .
و ( الدين ) : مصدر، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، يقال : دان فلان فلانًا إذا عبده وأطاعه، كما يقال : دانه إذا أذله . فالعبد يدين الله، أي : يعبده ويطيعه، فإذا أضيف الدين إلى العبد فلأنه العابد المطيع، وإذا أضيف إلى الله فلأنه المعبود المطاع، كما قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .
فالدعوة إلى الله تكون بدعوة العبد إلى دينه، وأصل ذلك عبادته وحده لا شريك له، كما بعث الله بذلك رسله،وأنزل به كتبه . قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشوري : 13 ] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .(2/17)
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، وإن أولي الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي ) [ والإخوة لعلات : هم الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد، والمراد هنا : أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة ] ، فالدين واحد وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] .
فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام والأعراف، وسورة بني إسرائيل، كقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلى آخر الآيات الثلاث [ الأنعام : 151 - 153 ] ، وقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } إلى آخر الوصايا [ الإسراء : 23- 39 ] ، وقوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ الأعراف : 29 ] ، وقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] .(2/18)
/ فهذه الأمور هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع، كعامة ما في السور المكية، فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله، إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة، وأما السور المدنية ففيها الخطاب لمن يقر بأصل الرسالة، كأهل الكتاب الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وكالمؤمنين الذين آمنوا بكتب الله ورسله؛ ولهذا قرر فيها الشرائع التي أكمل الله بها الدين؛ كالقبلة، والحج، والصيام، والاعتكاف، والجهاد، وأحكام المناكح ونحوها، وأحكام الأموال بالعدل كالبيع، والإحسان كالصدقة، والظلم كالربا، وغير ذلك مما هو من تمام الدين .
ولهذا كان الخطاب في السور المكية : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } لعموم الدعوة إلى الأصول؛ إذ لا يدعي إلى الفرع من لا يقر بالأصل ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعز بها أهل الإيمان، وكان بها أهل الكتاب ، خُوطِبَ هؤلاء وهؤلاء؛ فهؤلاء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ، وهؤلاء : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } ، أو { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ولم ينزل بمكة شيء من هذا، ولكن في السور المدنية خطاب : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ، كما في سورة النساء، وسورة الحج وهما مدنيتان، وكذا في البقرة .
وهذا يعَكِّر على قول الحَبْرِ ابن عباس؛لأن الحكم المذكور يشمل جنس الناس،والدعوة بالاسم الخاص لا تنافي الدعوة بالاسم العام ، / فالمؤمنون داخلون في الخطاب بـ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ، وفي الخطاب بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ، فالدعوة إلى الله تتضمن الأمر بكل ما أمر الله به،والنهي عن كل ما نهي الله عنه،وهذا هو الأمر بكل معروف،والنهي عن كل منكر .(2/19)
والرسول صلى الله عليه وسلم قام بهذه الدعوة، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله به، ونهاهم عن كل ما نهي الله عنه، أمر بكل معروف، ونهي عن كل منكر . قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 156، 157 ] .
ودعوته إلى الله هي بإذنه لم يشرع دينًا لم يأذن به الله، كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } [ الأحزاب : 45، 46 ] ، خلاف الذين ذمهم في قوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشوري : 21 ] ، وقد قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
/ ومما يبين ما ذكرناه : أنه سبحانه يذكر أنه أمره بالدعوة إلى الله تارة، وتارة بالدعوة إلى سبيله، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] ، وذلك أنه قد علم أن الداعي الذي يدعو غيره إلى أمر لابد فيما يدعو إليه من أمرين :
أحدهما : المقصود المراد .
والثاني : الوسيلة والطريق الموصل إلى المقصود؛ فلهذا يذكر الدعوة تارة إلى الله وتارة إلى سبيله؛ فإنه ـ سبحانه ـ هو المعبود المراد المقصود بالدعوة .(2/20)
والعبادة : اسم يجمع غاية الحب له، وغاية الذل له، فمن ذل لغيره مع بغضه لم يكن عابدًا، ومن أحبه من غير ذل له لم يكن عابدًا، والله ـ سبحانه ـ يستحق أن يحَب غاية المحبة، بل يكون هو المحبوب المطلق، الذي لا يحب شيء إلا له، وأن يعظم ويذل له غاية الذل، بل لا يذل لشيء إلا من أجله، ومن أشرك غيره في هذا وهذا لم يحصل له حقيقة الحب والتعظيم، فإن الشرك يوجب نقص المحبة .
قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ } [ البقرة : 165 ] أي : أشد حبًا لله من هؤلاء / لأندادهم، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } [ الزمر : 29 ] ، وكذلك الاستكبار يمنع حقيقة الذل لله، بل يمنع حقيقة المحبة لله، فإن الحب التام يوجب الذل والطاعة، فإن المحب لمن يحب مطيع .
ولهذا كان الحب درجات أعلاها : ( التتيم ) ، وهو : التعبد، وتيم الله أي : عبد الله؛ فالقلب المتيم هو المعبد لمحبوبه، وهذا لا يستحقه إلا الله وحده .
والإسلام : أن يستسلم العبد لله لا لغيره، كما ينبئ عنه قول : ( لا إله إلا الله ) ، فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر، وكلاهما ضد الإسلام . والشرك غالب على النصاري ومن ضاهاهم من الضلال والمنتسبين إلى الأمة .
وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذا الموضع في مواضع متعددة .(2/21)
وذلك يتعلق بتحقيق الألوهية لله وتوحيده، وامتناع الشرك، وفساد السموات والأرض بتقدير إله غيره، والفرق بين الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية، وبيان أن العباد فطروا على الإقرار به ومحبته وتعظيمه، وأن القلوب لا تصلح إلا بأن تعبد الله وحده، ولا/ كمال لها ولا صلاح ولا لذة ولا سرور ولا فرح ولا سعادة بدون ذلك، وتحقيق الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وغير ذلك مما يتعلق بهذا الموضع الذي في تحقيقه تحقيق مقصود الدعوة النبوية، والرسالة الإلهية، وهو لُبُّ القرآن وزبدته، وبيان التوحيد العلمي القولي، المذكور في قوله : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1، 2 ] ، والتوحيد القصدي العملي المذكور في قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } [ الكافرون : 1 ] ، وما يتصل بذلك ، فإن هذا بيان لأصل الدعوة إلى الله وحقيقتها ومقصودها .
لكن المقصود في الجواب ذكر ذلك على طريق الإجمال؛ إذ لا يتسع الجواب لتفضيل ذلك، وكل ما أحبه الله ورسوله من واجب ومستحب، من باطن وظاهر فمن الدعوة إلى الله الأمر به،وكل ما أبغضه الله ورسوله من باطن وظاهر، فمن الدعوة إلى الله النهي عنه لا تتم الدعوة إلى الله إلا بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه الله، ويترك ما أبغضه الله، سواء كان من الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة، كالتصديق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته، والمعاد وتفصيل ذلك، وما أخبر به عن سائر المخلوقات : كالعرش، والكرسي، والملائكة، والأنبياء، وأممهم، وأعدائهم؛ وكإخلاص الدين لله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وكالتوكل عليه، والرجاء لرحمته، / وخشية عذابه، والصبر لحكمه، وأمثال ذلك، وكصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وكالجهاد في سبيله بالقلب واليد واللسان .(2/22)
إذا تبين ذلك، فالدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه، وهم أمته يدعون إلى الله، كما دعا إلى الله .
وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به، ونهيهم عما ينهي عنه، وإخبارهم بما أخبر به؛ إذ الدعوة تتضمن الأمر، وذلك يتناول الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر .
وقد وصف أمته بذلك في غير موضع، كما وصفه بذلك فقال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } [ آل عمران : 110 ] ، وقال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } الآية [ التوبة : 71 ] ، وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء : فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين؛ فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين . قال تعالى : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 ] .
فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان إجماعهم / حجة قاطعة، فأمته لا تجتمع على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى رسوله، وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجز لم يطالب به . وأما ما لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به؛ ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على هذا، وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة، وبحسب غيره أخري؛ فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب، وهذا إلى عمل ظاهر واجب، وهذا إلى عمل باطن واجب؛ فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة، وفي الوقوع أخري .(2/23)
وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ما جاء به الرسول، والجهاد في سبيل الله، وتعليم الإيمان والقرآن .
وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، فإن الداعي طالب مستدع مقتض لما دعي إليه، وذلك هو الأمر به؛ إذ الأمر هو طلب الفعل المأمور به، واستدعاء له ودعاء إليه، فالدعاء / إلى الله الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر .
وقد تبين أنهما واجبان على كل فرد من أفراد المسلمين، وجوب فرض الكفاية، لا وجوب فرض الأعيان، كالصلوات الخمس، بل كوجوب الجهاد .
والقيام بالواجبات، من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها،كما جاء في الحديث : ينبغي لمن أمر بالمعروف،ونهي عن المنكر،أن يكون فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهي عنه،رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهي عنه،حليمًا فيما يأمر به،حليما فيما ينهي عنه،فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود،والحلم بعد الأمر ليصبر على أذي المأمور المنهي، فإنه كثيرًا ما يحصل له الأذى بذلك .(2/24)
ولهذا قال تعالى : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } [ لقمان : 17 ] ، وقد أمر نبينا بالصبر في مواضع كثيرة، كما قال تعإلى ـ في أول المدثر ـ : { قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ المدثر : 2 - 7 ] ، وقال تعالى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [ الطور : 48 ] ، وقال : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [ المزمل : 10 ] ، وقال تعالى : / { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 34 ] ، وقال : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [ القلم : 48 ] .
وقد جمع ـ سبحانه ـ بين التقوي والصبر في مثل قوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، والمؤمنون كانوا يدعون إلى الإيمان بالله وما أمر به من المعروف ، وينهون عما نهي الله عنه من المنكر ، فيؤذيهم المشركون وأهل الكتاب ، وقد أخبرهم بذلك قبل وقوعه ، وقال لهم : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } ، وقد قال يوسف ـ عليه السلام : { أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَالْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .
فالتقوي تتضمن طاعة الله، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر يتناول الصبر على المصائب التي منها أذى المأمور المنهي للآمر الناهي .(2/25)
لكن للآمر الناهي أن يدفع عن نفسه ما يضره، كما يدفع الإنسان عن نفسه الصائل، فإذا أراد المأمور المنهي ضربه، أو أخذ ماله ونحو ذلك وهو قادر على دفعه فله دفعه عنه؛ بخلاف ما إذا وقع الأذى / وتاب منه؛ فإن هذا مقام الصبر والحلم، والكمال في هذا الباب حال نبينا صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فقد تضمن خلقه العظيم أنه لا ينتقم لنفسه إذا نيل منه، وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، ومعلوم أن أذي الرسول من أعظم المحرمات، فإن من آذاه فقد آذي الله، وقتل سَابِّه واجب باتفاق الأمة، سواء قيل : إنه قتل لكونه ردة، أو لكونه ردة مغلظة أوجبت أن صار قتل الساب حدًا من الحدود .(2/26)
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في احتماله وعفوه عمن كان يؤذيه كثير، كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] ، فالآمر الناهي إذا أوذي وكان أذاه تعديا لحدود الله وفيه حق لله، يجب على كل أحد النهي عنه، وصاحبه مستحق للعقوبة، لكن لما دخل فيه حق الآدمي كان له العفو عنه، كما له أن يعفو عن القاذف والقاتل وغير ذلك، وعفوه عنه لا / يسقط عن ذلك العقوبة التي وجبت عليه لحق الله، لكن يكمل لهذا الآمر الناهي مقام الصبر والعفو الذي شرع الله لمثله، حتى يدخل في قوله تعالى : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وفي قوله : { فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } .
ثم هنا فرق لطيف، أما الصبر فإنه مأمور به مطلقًا، فلا ينسخ، وأما العفو والصفح فإنه جعل إلى غاية، وهو : أن يأتي الله بأمره، فلما أتي بأمره بتمكين الرسول ونصره ـ صار قادرًا على الجهاد لأولئك، وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم عن المنكر ـ صار يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزًا عنه، وهو مأمور بالصبر في ذلك،كما كان مأمورًا بالصبر أولا .(2/27)
والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه؛ ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، بأن لهم الجنة، حتى إن الكفار إذا أسلموا أو عاهدوا لم يضمنوا ما أتلفوه للمسلمين من الدماء والأموال، بل لو أسلموا وبأيديهم ما غنموه من أموال المسلمين، كان ملكا لهم عند جمهور العلماء : كمالك وأبي حنيفة وأحمد، وهو الذي مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين .
/فالآمر الناهي إذا نيل منه وأوذي، ثم إن ذلك المأمور المنهي تاب وقَبِلَ الحق منه : فلا ينبغي له أن يقتص منه، ويعاقبه على أذاه،فإنه قد سقط عنه بالتوبة حق الله كما يسقط عن الكافر إذا أسلم حقوق الله ـ تعإلى ـ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإسلام يهدم ما كان قبله،والتوبة تهدم ما كان قبلها ) ، والكافر إذا أسلم هدم الإسلام ما كان قبله،دخل في ذلك ما اعتدي به على المسلمين في نفوسهم وأموالهم؛لأنه ما كان يعتقد ذلك حراما، بل كان يستحله، فلما تاب من ذلك غفر له هذا الاستحلال،وغفرت له توابعه .
فالمأمور المنهي إن كان مستحلاً لأذي الآمر الناهي كأهل البدع والأهواء، الذين يعتقدون أنهم على حق، وأن الآمر الناهي لهم معتد عليهم، فإذا تابوا لم يعاقبوا بما اعتدوا به على الآمر الناهي من أهل السنة، كالرافضي الذي يعتقد كفر الصحابة أو فسقهم وسبهم على ذلك، فإن تاب من هذا الاعتقاد، وصار يحبهم ويتولاهم لم يبق لهم عليه حق، بل دخل حقهم في حق الله ثبوتًا وسقوطًا؛ لأنه تابع لاعتقاده .(2/28)
ولهذا كان جمهور العلماء ـ كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أصح الروايتين، والشافعي في أحد القولين ـ على أن أهل البغي المتأولين لا يضمنون ما أتلفوه على أهل العدل بالتأويل، كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه على أهل البغي بالتأويل باتفاق العلماء .
/ وكذلك أصح قولي العلماء في المرتدين، فإن المرتد والباغي المتأول والمبتدع كل هؤلاء يعتقد أحدهم أنه على حق، فيفعل ما يفعله متأولا، فإذا تاب من ذلك كان كتوبة الكافر من كفره؛ فيغفر له ما سلف مما فعله متأولا، وهذا بخلاف من يعتقد أن ما يفعله بغي وعدوان كالمسلم إذا ظلم المسلم، والذمي إذا ظلم المسلم، والمرتد الذي أتلف مال غيره، وليس بمحارب بل هو في الظاهر مسلم أو معاهد، فإن هؤلاء يضمنون ما أتلفوه بالاتفاق .
فالمأمور المنهي إن كان يعتقد أن أذي الآمر الناهي جائز له، فهو من المتأولين وحق الآمر الناهي داخل في حق الله ـ تعإلى ـ فإذا تاب سقط الحقان، وإن لم يتب كان مطلوبا بحق الله المتضمن حق الآدمي، فإما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون فاسقًا، وإما أن يكون عاصيا، فهؤلاء كل يستحق العقوبة الشرعية بحسبه، وإن كان مجتهدًا مخطئًا فهذا قد عفي الله عنه خطأه، فإذا كان قد حصل بسبب اجتهاده الخطأ أذي للآمر الناهي بغير حق فهو كالحاكم إذا اجتهد فأخطأ، وكان في ذلك ما هو أذي للمسلم، أو كالشاهد، أو كالمفتي .(2/29)
فإذا كان الخطأ لم يتبين لذلك المجتهد المخطئ، كان هذا مما ابتلي الله به هذا الآمر الناهي . قال تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } [ الفرقان : 20 ] ، فهذا مما يرتفع عنه الإثم في نفس الأمر، وكذلك / الجزاء على وجه العقوبة، ولكن قد يقال : قد يسقط الجزاء على وجه القصاص الذي يجب في العمد، ويثبت الضمان الذي يجب في الخطأ، كما تجب الدية في الخطأ، وكما يجب ضمان الأموال التي يتلفها الصبي والمجنون في ماله، وإن وجبت الدية على عاقلة القاتل خطأ، معاونة له فلابد من استيفاء حق المظلوم خطأ، فكذلك هذا الذي ظلم خطأ، لكن يقال : يفرق بين ما كان الحق فيه لله، وحق الآدمي تبع له، وما كان حقًا لآدمي محضًا أو غالبًا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد من هذا الباب موافق لقول الجمهور الذين لا يوجبون على أهل البغي ضمان ما أتلفوه لأهل العدل بالتأويل، وإن كان ذلك خطأ منهم ليس كفرًا ولا فِسْقًا .
وإذا قدر عليهم أهل العدل لم يتبعوا مدبرهم، ولم يجهزوا على جريحهم، ولم يسبوا حريمهم، ولم يغنموا أموالهم، فلا يقاتلونهم على ما أتلفوه من النفوس والأموال إذا أتلفوا مثل ذلك، أو تملكوا عليهم .
فتبين أن القصاص ساقط في هذا الموضع؛ لأن هذا من باب الجهاد الذي يجب فيه الأجر على الله، وهذا مما يتعلق بحق العبد الآمر الناهي .
وأما قول السائل : هل يقتص منه لئلا يؤدي إلى طمع منه في/ جانب الحق ؟ فيقال : متي كان فيما فعله إفساد لجانب الحق كان الحق في ذلك لله ورسوله، فيفعل فيه ما يفعل في نظيره، وإن لم يكن فيه أذي للآمر الناهي .(2/30)
والمصلحة في ذلك تتنوع؛ فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال، وتارة تكون المصلحة المهادنة، وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة، وهذا يشبه ذلك، لكن الإنسان تزين له نفسه أن عفوه عن ظالمه يجريه عليه، وليس كذلك، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : ( ثلاث إن كنت حالفاً عليهن : ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) .
فالذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو الإنسان عن حقه، ويستوفي حقوق الله بحسب الإمكان . قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } [ الشوري : 39 ] ، قال إبراهيم النَّخْعِي [ هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة النخعي اليماني ثم الكوفي، وهو ابن مليكة أخت الأسود بن يزيد، كان كبير الشأن، كثير المحاسن، توفي وله تسع وأربعون سنة، مات سنة 96هـ ] : كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا . قال تعالى : { هُمْ يَنتَصِرُونَ } يمدحهم، بأن فيهم همة الانتصار للحق والحمية له؛ ليسوا بمنزلة الذين يعفون عجزًا وذلا بل هذا مما يذم به الرجل، والممدوح العفو مع القدرة، والقيام لما يجب من نصر الحق، لا مع إهمال حق الله وحق العباد . والله ـ تعالى ـ أعلم .(2/31)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=308 - TOP#TOPسُئِلَ شيخ الإسلام عن قوله تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الآية [ النور : 30، 31 ] ، والحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذكر زنا الأعضاء كلها، وماذا على الرجل إذا مس يد الصبى الأمرد، فهل هو من جنس النساء ينقض الوضوء أم لا ؟ وما على الرجل إذا جاءت إلى عنده المردان، ومد يده إلى هذا وهذا ويتلذذ بذلك، وما جاء فى التحريم من النظر إلى وجه الأمرد الحسن ؟ وهل هذا الحديث المروى : أن النظر إلى الوجه المليح عبادة صحيح أم لا ؟ وإذا قال أحد : أنا ما أنظر إلى المليح الأمرد لأجل شىء، ولكنى إذا رأيته قلت : سبحان الله ! تبارك الله أحسن الخالقين ! فهل هذا القول صواب أم لا ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب ـ قدس الله روحه، ونور ضريحه، ورحمه ورضى عنه، ونفع بعلومه وحشرنا فى زمرته :
/ الحمد لله، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره :
أحدهما : أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء، وهو المشهور فى مذهب مالك، وذكره القاضى أبو يعلى فى ( شرح المذهب ) ، وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى .
والثانى : أنه لا ينقض، وهو المشهور من مذهب الشافعى . والقول الأول أظهر،فإن الوطء فى الدبر يفسد العبادات التى تفسد بالوطء فى القبل، كالصيام والإحرام والاعتكاف، ويوجب الغسل كما يوجبه هذا، فتكون مقدمات هذا فى باب العبادات كمقدمات هذا، فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم، كما عليه لو مس أجنبية لشهوة، وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة فى نقض الوضوء .(2/32)
والذى لا ينقض الوضوء بمسه يقول : إنه لم يخلق محلاً لذلك .
فيقال : لا ريب أنه لم يخلق لذلك، وأن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات، لكن هذا القدر لم يعتبر فى بعض الوطء، فلو وطئ فى الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام، وإن كان الدبر لم يخلق محلا / للوطء،مع أن نفرة الطباع عن الوطء فى الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة، ونقض الوضوء باللمس يراعى فيه حقيقة الحكمة، وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين ـ كمالك وأحمد وغيرهما ـ يراعى كما يراعى مثل ذلك فى الإحرام والاعتكاف وغير ذلك .
وعلى هذا القول فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم، حتى لو مس بنته وأخته وأمه لشهوة انتقض وضوؤه؛ فكذلك من الأمرد .
وأما الشافعى وأحمد فى رواية فيعتبر المظنة، وهو أن النساء مظنة الشهوة، فينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة؛ ولهذا لا ينقض مس المحارم، لكن لو مس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة . وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة، والتلذذ بمس الأمرد ـ كمصافحته ونحو ذلك ـ حرام بإجماع المسلمين، كما يحرم التلذذ بمس ذوات المحارم والمرأة الأجنبىة، كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطى أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية، فيجب قتل الفاعل والمفعول به، سواء كان أحدهما محصنًا أو لم يكن، وسواء كان أحدهما مملوكًا للآخر، أو لم يكن، كما جاء ذلك فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم، وقتله بالرجم، كما قتل الله قوم لوط؛ وبذلك جاءت الشريعة فى قتل الزانى أنه بالرجم، فرجم النبى صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك، والغامدية، واليهوديين،/والمرأة التى أرسل إليها أنيسا، وقال : ( اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) فرجمها .(2/33)
والنظر إلى وجه الأمرد بشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم،والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو كانت شهوة التلذذ بالنظر،كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية : كان معلومًا لكل أحد أن هذا حرام،فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة .
وقول القائل : إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة، كقوله : إن النظر إلى وجوه النساء الأجانب والنظر إلى محارم الرجل كبنت الرجل وأمه وأخته عبادة . ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة فهو بمنزلة من جعل الفواحش عبادة . قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] .
ومعلوم أنه قد يكون فى صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما فى صور المردان، فهل يقول مسلم : إن للإنسان أن ينظر على هذا الوجه إلى صور النساء ـ نساء العالمين وصور محارمه ـ ويقول : إن ذلك عبادة ؟ بل من جعل مثل هذا / النظر عبادة فإنه كافر مرتد، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل .(2/34)
وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفاحشة عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر من الحشيشة عبادة، فمن جعل المعاونة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئًا من المحرمات التى يعلم تحريمها فى دين الإسلام عبادة : فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . وهو مُضَاهٍ به للمشركين { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون : لا نطوف فى الثياب التى عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية . وقد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن جعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة ؟ .
والله ـ سبحانه ـ قد أمر فى كتابه بغض البصر . وهو نوعان : غض البصر عن العورة . وغضه عن محل الشهوة .
فالأول : كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة ) . ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال لمعاوية بن حيدة : ( احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك ) ، / قلت : فإذا كان أحدنا مع قومه ؟ قال : ( إن استطعت أن لا تريها أحدًا فلا يرينها ) ، قلت : فإذا كان أحدنا خاليًا ؟ قال : ( فالله أحق أن يستحىا منه من الناس )
ويجوز كشفها بقدر الحاجة، كما تكشف عند التخلى، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده ـ بحيث يجد ما يستره ـ فله أن يغتسل عريانًا، كما اغتسل موسى عريانًا، وأيوب، وكما فى اغتسال النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، واغتساله فى حديث ميمونة .(2/35)
وأما النوع الثانى من النظر ـ كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية : فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، وتلك المحرمات إذا تناولها مستحلاً لها كان عليه التعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر . وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن . وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم بشهوة .
والخالق ـ سبحانه ـ يُسبَّح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق الأمرد بأعجب فى قدرته من خلق ذى اللحية، ولا خلق النساء بأعجب فى / قدرته من خلق الرجال؛ فتخصيص الإنسان بالتسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره كتخصيصه بالتسبيح بالنظر إلى المرأة دون الرجل ؛ وما ذاك لأنه أدل على عظمة الخالق عنده؛ ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله ، وقد يذهله ما رآه ، فيكون تسبيحه لما حصل فى نفسه من الهوى ، كما أن النسوة لما رأين يوسف : { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] .(2/36)
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) . فإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به . وقد قال تعالى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ طه : 131 ] ، وقال فى المنافقين : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } [ المنافقون : 4 ] .
فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم، لما فيهم من البهاء والرواء، والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة، قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فيكف بمن ينظر إليه لشهوة ؟
/ وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى،وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته،وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن . وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه، كما ينظر إلى الخيل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار والأنهار، والأزهار؛فهذا ـ أيضًا ـ إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم بقوله : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ طه : 131 ] .
وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط : كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذى لا يستعان به على الحق .(2/37)
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بالنظر أو كان نظرًا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره إلى الأشجار والأزهار، وما يجده عند نظره إلى النسوان والمردان .
فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعى، فصار النظر إلى المردان ثلاثة أقسام :
أحدها : ما تقترن به الشهوة . فهو محرم بالاتفاق .
/ والثانى : ما يجزم أنه لا شهوة معه كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه الحسنة، فهذا لا يقترن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم . وعلى هذا نظر من لا يميل قلبه إلى المردان، كما كان الصحابة وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق من هذا الوجه بين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبى أجنبى، لا يخطر بقلبه شىء من الشهوة؛ لأنه لم يعتد ذلك، وهو سليم القلب من قبل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين فى الطرقات مكشفات الرؤوس، ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس فى مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد .
وكذلك المردان الحسان، لا يصلح أن يخرجوا فى الأمكنة والأزقة التى يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس فى الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك .(2/38)
وإنما وقع النزاع بين العلماء فى ( القسم الثالث ) من النظر، وهو : النظر إليه بغير شهوة . لكن مع خوف ثورانها، ففيه وجهان فى / مذهب أحمد، أصحهما وهو المحكى عن نص الشافعى وغيره أنه لا يجوز . والثانى : يجوز، لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره . والأول هو الراجح، كما أن الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية، لأنه مظنة الفتنة . والأصل أن كلما كان سبباً للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة .
ولهذا كان النظر الذى قد يفضى إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم الشهوة . وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز . ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وأدامه، وقال : إنى لا أنظر لشهوة كذب فى ذلك، فإنه إذا لم يكن له داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل فى القلب من اللذة بذلك .
وأما نظر الفجأة فهو عفو إذا صرف بصره، كما ثبت فى الصحاح عن جرير، قال : سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، قال : ( اصرف بصرك ) ، وفى السنن أنه قال لعلى ـ رضى اللّه عنه : يا على، لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية ) .
وفى الحديث الذي فى المسند وغيره : ( النظر سهم مسموم من سهام إبليس ) ، وفيه : ( من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث اللّه قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة ) أو كما قال .
ولهذا يقال : إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر إليها : كالمرأة، والأمرد الحسن، يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر :(2/39)
أحدها : حلاوة الإيمان ولذته التي هى أحلى وأطيب مما تركه للّه، فإن من ترك شيئاً للّه عوضه اللّه خيراً منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور، لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تنجذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى الصورة تخطف أحدهم وتصرعه، كما يصرعه السبع .
ولهذا قال بعض التابعين : ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه . وقال بعضهم : اتقوا النظر إلى أولاد الملوك، فإن فتنتهم كفتنة العذارى . وما زال أئمة العلم والدين ـ كأئمة الهدى وشيوخ الطريق ـ يوصون بترك صحبة الأحداث، حتى يروى عن فتح الموصلى أنه قال : صحبت ثلاثين من / الأبدال كلهم يوصينى عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم : ما سقط عبد من عين اللّه إلا ابتلاه بصحبة هؤلاء الأنتان .
ثم النظر يولد المحبة، فيكون علاقة، لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة، لانصباب القلب إليه، ثم غراما؛ للزومه للقلب . كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقاً، إلى أن يصير تتيما، والمتيم : المعبد، وتيم اللّه : عبد اللّه، فيبقى القلب عبداً لمن لا يصلح أن يكون أخا ولا خادما .(2/40)
وهذا إنما يبتلى به أهل الأعراض عن الإخلاص للّه، الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال اللّه تعالى فى حق يوسف عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف - عليه السلام - مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة : عصمه اللّه بإخلاصه للّه، تحقيقاً لقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39، 40 ] ، قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، و ( الغى ) : هو اتباع الهوى .
وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة ـ كابن سينا وذويه، أو من الفرس، كما يذكر / عن بعضهم من جُهَّال المتصوفة ـ فإنهم أهل ضلال، فهم مع مشاركة اليهود فى الغى، والنصارى فى الضلال : زادوا على الأمتين فى ذلك، فإن هذا وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتلطيف نفسه، وتهذيب أخلاقه، أو للمعشوق من السعى فى مصالحه، وتعليمه وتأديبه وغير ذلك، فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من نفعه ؟ !(2/41)
وإنما هذا كما يقال : إن فى الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل له من اللذة والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال : إن فى شرب الخمر منافع بدنية ونفسية . وقال تعالى فى الخمر والميسر : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] ، وهذا قبل التحريم، دع ما قاله عند التحريم وبعده، فإن التعبد بهذه الصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من باطن الإثم . قال اللّه تعالى : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 120 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] .
وليس بين أئمة الدين نزاع فى أن هذا ليس بمستحق، كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج عن إجماع المسلمين، واليهود والنصارى، بل وعمّا عليه عقلاء بنى آدم من جميع الأمم، وهو / ممن اتبع هواه بغير هدى من اللّه { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ القصص : 50 ] ، وقال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 40، 41 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ ص : 26 ] .(2/42)
وأما من نظر إلى المردان ظانا أنه ينظر إلى مظاهر الجمال الإلهى، وجعل هذا طريقا له إلى اللّه، كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة، فقوله هذا أعظم كفراً من قول عُبَّاد الأصنام، ومن كُفْرِ قوم لوط . فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين، الذين يجب قتلهم بإجماع كل أمة، فإن عباد الأصنام قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] .
وهؤلاء يجعلون اللّه ـ سبحانه ـ موجوداً فى نفس الأصنام، وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه فى المخلوقات أنها أدلة عليه، وآيات له، بل يريدون أنه - سبحانه - ظهر فيها، وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء فى الصوفة، والزبد فى اللبن، والزيت فى الزيتون، والدهن فى السمسم، ونحو ذلك مما يقتضى حلول نفس ذاته فى مخلوقاته، أو اتحاده بها، فيقولون فى جميع المخلوقات نظير ما قاله النصارى فى المسيح خاصة، ثم يجعلون المرادن مظاهر الجمال، فيقرون هذا الشرك الأعظم طريقاً إلى استحلال الفواحش، بل إلى استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل / مشايخهم التلمسانى : إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمى وأختى وبنتى حتى يكون هذا حلال وهذا حرام ؟ قال : الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام، فقلنا : حرام عليكم .
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص، إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة، كقول الغالية فى على، أو ببعض الشيوخ، كالحَلاّجِية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور، كصور المردان . ويقول أحدهم : إنما أنظر إلى صفات خالقى، وأشهدها فى هذه الصورة، والكفر فى هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن باللّه ورسوله . ولو قال مثل هذا الكلام فى نبي كريم لكان كافراً، فكيف إذا قاله فى صبى أمرد ؟ ! فقبح اللّه طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها ! !(2/43)
وقد قال تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 80 ] ، فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون للّه كفارًا، فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا ؟ مع أن اللّه فيها، أو متحد بها، فوجوده وجودها، ونحو ذلك من المقالات .
/ وأما الفائدة الثانية فى غض البصر : فهو نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب ، بل جنونه، كما قيل :
سكران سكر هوى وسكر مدامة
فمتى يفيق من به سكران
وقيل - أيضا- :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون فى الحين
وذكر اللّه ـ سبحانه ـ آية النور عقيب آيات غض البصر، فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ النور : 35 ] ، وكان شُجَاعُ بن شاه الكرمانى لا تخطئ له فراسة، وكان يقول : من عَمَّرَ ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام / المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكَفَّ نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة سادسة أظنه هو أكل الحلال : لم تخطئ له فراسة . واللّه ـ تعالى ـ يجزى العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب .(2/44)
الفائدة الثالثة : قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل اللّه له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن فى الأثر : الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله؛ ولهذا يوجد فى المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله اللّه لمن عصاه، فإن اللّه جعل العزة لمن أطاعه، والذلة لمن عصاه . قال تعالى : { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] .
ولهذا كان فى كلام الشيوخ : الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا فى طاعة اللّه . وكان الحسن البصرى يقول : وإن هَمْلَجَتْ [ هملج : مشى مشية سهلة فى سرعة، حسن سير الدابة ] بهم البراذين [ البرذون : دابة معروفة ] ، وطقطقت بهم ذُلُل البغال، فإن ذل المعصية فى رقابهم، أبى اللّه إلا أن يذل من عصاه، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه، وفى دعاء القنوت : ( إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت ) .
/ ثم الصوفية المشهورون عند الأمة ـ الذين لهم لسان صدق فى الأمة ـ لم يكونوا يستحسنون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم فى الكلام فى ذم صحبة الأحداث، وفى الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق : ما لا يتسع هذا الموضع لذكره . وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فيتظاهر بدعوى الولاية للّه، وتحقيق الإيمان والعرفان، وهو من شر أهل العداوة للّه، وأهل النفاق والبهتان . واللّه ـ تعالى ـ يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة . واللّه ـ سبحانه ـ أعلم .
فَصْل(2/45)
في قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } [ الزمر : 53، 54 ] . وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آيتا النساء، قوله : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48، 116 ] ، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كا يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك ـ أيضًا ـ بنصوص القرآن واتفاق المسلمين . وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خَصَّ فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علَّقه بالمشيئة فقال : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } .
/ وقد ذكرنا ـ في غير موضع ـ أن هذه كما تَرُدُّ على الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، فهى تَرُدُّ ـ أيضًا ـ على المرجئة الواقفية، الذين يقولون : يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع، فإنه قد قال : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } فأثبت أن ما دون ذلك هو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } ، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله : { لِمَن يَشَاء } ، فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هى لمن يشاء، دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس .(2/46)
وحينئذ، فمن غُفِر له لم يُعذَّب، ومن لم يُغْفَر له عُذِّب، وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضهم يغفر له، لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة، أو لا اعتبار بالموازنة ؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم، بناء على أصل الأفعال الإلهية، هل يعتبر فيها الحكمة والعدل ؟ وأيضًا، فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن قوله : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] ، فيه نهى عن القنوط من رحمة الله ـ تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِل لأحد أن يقنط من / رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمة الله . قال بعض السلف : إنَّ الفقيه ـ كل الفقيه ـ الذى لا يُؤْيِس الناس من رحمة الله، ولا يُجَرِّيهم على معاصى الله .
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له، إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول : نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييأس من توبة نفسه، وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعترى كثيرًا من الناس . والقنوط يحصل بهذا تارة، وبهذا تارة، فالأول : كالراهب الذى أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له، فقتله وكَمَّلَ به مائة، ثم دُلَّ على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته . والحديث في الصحيحين . والثاني : كالذى يرى للتوبة شروطًا كثيرة، ويقال له : لها شروط كثيرة، يتعذر عليه فعلها، فييأس من أن يتوب .(2/47)
وقد تنازع الناس في العبد : هل يصير في حال تمتنع منه التوبة إذا أرادها ؟ والصواب الذى عليه أهل السنة والجمهور : أن التوبة ممكنة من كل ذنب، وممكن أن الله يغفره، وقد فرضوا في ذلك من توسط أرضًا مغصوبة، ومن توسط جَرْحَى، فكيف ما تحرك قتل بعضهم ؟ ! فقيل : هذا لا طريق له إلى التوبة . والصحيح : أن هذا إذا تاب، قبل الله توبته .
/ أما من توسط الأرض المغصوبة، فهذا خروجه بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحِقِّه ليس منهيًا عنه ولا محرَّمًا، بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارًا وترك فيها قماشه وماله، إذا أمر بتسليمها إلى مستحقها فإنه يؤمر بالخروج منها، وبإخراج أهله وماله منها، وإن كان ذلك نوع تَصَرُّف فيها، لكنه لأَجْلِ إخلائها .
والمشرك إذا دخل الحرم أمر بالخروج منه، وإن كان فيه مرور فيه، ومثل هذا حديث الأعرابى المتَّفَق على صحته لمَّا بال في المسجد فقام الناس إليه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( لا تُزْرِموه ) ، أى لا تقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله دلوًا من ماء، فهو لما بدأ بالبول كان إتمامه خيرًا من أن يقطعوه، فيلوث ثيابه وبدنه، ولو زنا رجل بامرأة ثم تاب لنزع، ولم يكن مذنبًا بالنزع، وهل هو وطء ؟ فيه قولان : هما روايتان عن أحمد . فلو حلف ألاَّ يطأ امرأته بالطلاق الثلاث، فالذين يقولون : إنه يقع به الطلاق الثلاث إذا وطئها تنازعوا : هل يجوز له وطؤها ؟ على قولين : هما روايتان عن أحمد . أحدهما : يجوز كقول الشافعى . والثاني : لا يجوز كقول مالك، فإنه يقول : إذا أَجزْتَ الوطء لزم أن يباشرها في حال النزع وهى محرمة، وهذا إنما يُجَوَّزه للضرورة، لا يجوزه ابتداء، وذلك يقول : النزع ليس بمحرم .(2/48)
/ وكذلك الذين يقولون : إذا طلع عليه الفجر وهو مولج فقد جامع، لهم في النزع قولان : في مذهب أحمد وغيره . وأما على ما نصرناه فلا يحتاج إلى شىء من هذه المسائل، فإن الحالف إذا حنث يكفر يمينه ولا يلزمه الطلاق الثلاث، وما فعله الناس حال التبيُّن من أَكْل وجَمَاع فلا بأس به، لقوله : { حتى }
والمقصود أنه لا يجوز أن يقنط أحد، ولا يُقَنِّط أحدًا من رحمة الله، فإن الله نهى عن ذلك، وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعًا .
فإن قيل : قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] ، معه عموم على وجه الإخبار، فدل أن الله يغفر كل ذنب؛ ومعلوم أنه لم يُرِدْ أن من أذنب من كافر وغيره فإنه يغفر له، ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع، إذ كان الله أهلك أممًا كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمة من عُذِّبَ بذنوبه، إما قدرًا، وإما شرعًا في الدنيا قبل الآخرة .
وقد قال تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7، 8 ] ، فهذا يقتضى أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعًا . أى : ذلك مما قد يفعله أو أنه يغفره لكل تائب، لكن يقال : فَلِمَ أتى بصيغة الجزم والإطلاق في موضع التردد والتقْييد ؟ قيل : بل / الآية على مقتضاها، فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، ولم يذكر أنه يغفر لكل مذنب، بل قد ذكر في غير موضع أنه لا يغفر لمن مات كافرًا، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ محمد : 34 ] .(2/49)
وقال في حق المنافقين : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] ،لكن هذا اللفظ العام في الذنوب هو مطلق في المذنبين، فالمذنب لم يتعرض له بنفي ولا إثبات، لكن يجوز أن يكون مغفورًا له، ويجوز ألا يكون مغفورًا له؛ إنْ أتى بما يوجب المغفرة غُفِر له، وإن أَصَرَّ على ما يناقضها، لم يُغْفَر له .
وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة؛ الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى، بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة .
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف؛ رد على من يقول : إن الداعى إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائىلى، فيه : ( أنه قيل لذلك الداعية : فكيف بمن أضللتَ ؟ ) ، وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك،كأبى على الأهوازى وأمثاله،ممن لا يميزون بين / الأحاديث الصحيحة والموضوعة،وما يحتج به وما لا يحتج به، بل يَرْوون كل ما في الباب محتجين به
وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعى إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم .
وقد تاب قادة الأحزاب مثل : أبى سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبى جهل، وغيرهم بعد أن قُتِل على الكفر ـ بدعائهم ـ من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم . قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبى صلى الله عليه وسلم لما أسلم : ( يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله ؟ ) .(2/50)
وفي صحيح البخارى عن ابن مسعود في قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [ الإسراء : 57 ] ، قال : كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم أولئك الجن، والإنس يعبدونهم . ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا عبادة غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولًا .
/ وأيضًا، فالداعى إلى الكفر والبدعة، وإن كان أضل غيره، فذلك الغير يُعَاقَب على ذنبه؛ لكونه قَبِل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجْل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب، حالهم واحد، ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة . وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير .(2/51)
ومن ذلك توبة قاتل النفس . والجمهور على أنها مقبولة . وقال ابن عباس : لا تقبل . وعن أحمد روايتان . وحديث قاتل التسعة والتسعين في الصحيحين دليل على قبول توبته، وهذه الآية تدل على ذلك . وآية النساء إنما فيها وعيد في القرآن كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] ، ومع هذا فهذا إذا لم يتب . وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس، فبأى وجه يكون وعيد القاتل لاحقًا به وإن تاب ؟ هذا في غاية الضعف، ولكن قد يقال : لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل، بل التوبة تسقط حق الله، والمقتول مُطَالِبُه بحقه، وهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الديْن، فإن في الصحيحين عن النبى / صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : ( الشهيد يغفر له كل شىء إلا الديْن ) لكن حق الآدمى يُعْطَاه من حسنات القاتل .
فمن تمام التوبة، أن يستكثر من الحسنات حتى يكون له ما يقابل حق المقتول، ولعل ابن عباس رأى أن القتل أعظم الذنوب بعد الكفر، فلا يكون لصاحبه حسنات تُقَابِل حق المقتول، فلابد أن يبقى له سيئات يعذب بها، وهذا الذى قاله قد يقع من بعض الناس، فيبقى الكلام فيمن تاب وأخلص،وعجز عن حسنات تعادل حق المظلوم، هل يجعل عليه من سىئات المقتول ما يعذب به ؟ وهذا موضع دقيق، على مثله يُحْمَلُ حديث ابن عباس، لكن هذا كله لا ينافي مُوجِب الآية، وهو أن الله تعالى يغفر كل ذنب؛ الشرك، والقتل، والزنا، وغير ذلك من حيث الجملة، فهى عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص .
ومثل هذا قوله : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ،عام في الأشخاص مطلق في أحوال . . . الأرْجُل؛ إذ قد تكون مستورة بالخف واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال .(2/52)
وكذلك قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] ، عام في الأولاد، عام في الأحوال؛ إذ قد يكون الولد موافِقًا في الدين ومخالفًا، وحرًا وعبدًا . واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال .
وكذلك قوله : { يَغْفِرُ الذُّنُوبَ } [ الزمر : 53 ] ، عام في الذنوب مطلق في أحوالها، فإن الذنب قد يكون صاحبه تائبًا منه،وقد يكون مصرًا، واللفظ لم يتعرض لذلك، بل الكلام يبين أن الذنب يغفر في حال دون حال،فإن الله أمر بفعل ما تُغْفَر به الذنوب،ونهى عما به يحصل العذاب يوم القيامة بلا مغفرة،فقال : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 54 - 59 ]
فهذا إخبار أنه يوم القيامة يُعذِّب نفوسًا لم يغفر لها، كالتى كذبت بآياته واستكبرت وكانت من الكافرين، ومثل هذه الذنوب غفرها الله لآخرين لأنهم تابوا منها .(2/53)
فإن قيل : فقد قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ } [ آل عمران : 90 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } [ النساء : 137 ] ؟ قيل : إن القرآن قد بيَّن توبة الكافر، وإن كان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في غير موضع، كقوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 86 - 89 ] ، وقوله : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ } أى : إنه لا يهديهم مع كونهم مرتدين ظالمين؛ ولهذا قال : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ، فمن ارتد عن دين الإسلام لم يكن إلا ضالًا، لا يحصل له الهدى إلى أى دين ارتد .
والمقصود أن هؤلاء لا يهديهم الله ولا يغفر لهم إلا أن يتوبوا .
وكذلك قال في قوله : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } [ النحل : 106 ] ، ومن كفر بالله من بعد إيمانه من غير إكراه فهو مرتد، قال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] .(2/54)
وهو ـ سبحانه ـ في آل عمران ذكر المرتدين، ثم ذكر التائبين منهم، ثم ذكر من لا تقبل توبته،ومن مات كافرًا، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ آل عمران : 90، 91 ] . وهؤلاء الذين لا تقبل توبتهم قد ذكروا فيهم أقوالًا؛ قيل : لنفاقهم،وقيل : / لأنهم تابوا مما دون الشرك ولم يتوبوا منه، وقيل : لن تقبل توبتهم بعد الموت، وقال الأكثرون، كالحسن وقتادة وعطاء الخراسانى والسدى : لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، فيكون هذا كقوله : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء : 18 ] .
وكذلك قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } [ النساء : 137 ] ، قال مجاهد وغيره من المفسرين : ازدادوا كفرًا ثبتوا عليه حتى ماتوا .
قلت : وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفرًا بعد كفر، فقوله : { ثُمَّ ازْدَادُواْ } بمنزلة قول القائل : ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لاتقبل توبتهم، وهى التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب ورجع عن كفره، فلم يزدد، بل نقص؛ بخلاف المُصِر إلى حين المعاينة، فما بقى له زمان يقع لنقص كفره فضلًا عن هدمه .(2/55)
وفي الآية الأخرى قال : { لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ، وذكر أنهم / آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرًا، قيل : لأن المرتد إذا تاب غُفِرَ له كفره، فإذا كفر بعد ذلك ومات كافرًا حبط إيمانه، فعوقب بالكفر الأول والثاني، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قيل : يا رسول الله، أنؤاخذ بما عَمِلْنا في الجاهلية ؟ فقال : ( من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر ) ، فلو قال : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم، كان هؤلاء الذين ذكرهم في آل عمران فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } [ آل عمران : 90 ] ، بل ذكر أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا بعد ذلك، وهو المرتد التائب، فهذا إذا كفر وازداد كفرًا لم يُغْفَرْ له كفره السابق أيضًا، فلو آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا فلا يدخلون في الآية .
والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت ردته، أو قبول توبة الزنديق، فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قُدِّر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] .(2/56)
ونحن حقيقة قولنا أن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة، / لا شرعًا ولا قدرًا، والعقوبات التى تقام من حدٍّ، أو تعزير، إما أن يثبت سببها بالبينة، مثل قيام البينة بأنه زنا أو سرق أو شرب، فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها، ولو دُرِئ الحد بإظهار هذا لم يقم حد، فإنه كل من تقام عليه البينة يقول : قد تُبت، وإن كان تائبًا في الباطن، كان الحد مكفرًا، وكان مأجورًا على صبره، وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائبًا، فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، وهى من مسائل التعليق، واحتج عليها القاضى بعدة أحاديث . وحديث الذى قال : ( أصبت حدًا فأقمه علىَّ، فأْقيمت الصلاة ) يدخل في هذا؛ لأنه جاء تائبًا، وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز والغامدية واختار إقامة الحد أقيم عليه، وإلاَّ فلا، كما في حديث ماعز : ( فهلاَّ تركتموه ؟ ) . والغامدية ردها مرة بعد مرة .
فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا، ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه، كالذى يذنب سرًا، وليس على أحد أن يقيم عليه حدًا، لكن إذا اختار هو أن يعترف ويقام عليه الحد، أقيم، وإن لم يكن تائبًا، وهذا كقتل الذى ينغمس في العدو هو مما يرفع الله به درجته كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ؟ ) .(2/57)
وقد قيل في ماعز : إنه رجع عن الإقرار، وهذا هو أحد القولين / فيه في مذهب أحمد وغيره، وهو ضعيف، والأول أجود . وهؤلاء يقولون : سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار . ويقولون : رجوعه عن الإقرار مقبول . وهو ضعيف، بل فَرْقٌ بين من أقرَّ تائبًا، ومن أقرَّ غير تائب، فإسقاط العقوبة بالتوبة ـ كما دلت عليه النصوص ـ أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقًا، فالرجوع الذى هو فيه كاذب أَوْلَى .
آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
فصل
المعنى الصحيح الذي هو نفي المثل والشريك والند قد دل عليه قوله سبحانه : { أَحَدٌ } وقوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، وقوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] ، وأمثال ذلك، فالمعاني الصحيحة ثابتة بالكتاب والسنة، والعقل يدل على ذلك .(2/58)
وقول القائل : الأحد أو الصمد أو غير ذلك هو الذي لا ينقسم ولا يتفرق، أو ليس بمركب ونحو ذلك . هذه العبارات إذا عني بها أنه لا يقبل التفرق والانقسام فهذا حق، وأما إن عني به أنه لا يشار إليه بحال، أو من جنس ما يعنون بالجوهر الفرد أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء، فهذا عند أكثر العقلاء يمتنع وجوده، وإنما يقدر في الذهن تقديرًا، وقد علمنا أن العرب حيث أطلقت لفظ [ الواحد ] و [ الأحد ] نفيًا وإثباتًا لم ترد هذا المعنى، فقوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } [ التوبة : 6 ] ، لم يرد به هذا المعنى الذي فسروا به الواحد والأحد، وكذلك قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } [ النساء : 11 ] ، وكذلك قوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، فإن المعنى لم يكن له أحد من الآحاد كفوًا له، فإن كان الأحد عبارة عما لا يتميز منه شيء عن شيء، ولا يشار إلى شيء منه دون شيء، فليس في الموجودات ما هو أحد إلا ما يدعونه من الجوهر الفرد ومن رب العالمين، وحينئذ لا يكون قد نفي عن شيء من الموجودات أن يكون كفوًا للرب؛ لأنه لم يدخل في مسمي أحد .
وقد بسطنا الكلام على هذا بسطًا كثيرًا في المباحث العقلية والسمعية التي يذكرها نفاة الصفات من الجهمية وأتباعهم في كتابنا المسمي [ بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ] .(2/59)
ولهذا لما احتجت الجهمية على السلف - كالإمام أحمد وغيره - على نفي الصفات باسم الواحد، قال أحمد : قالوا : لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا : قد كان الله، ولا شيء، قلنا : نحن نقول : كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا : إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا، وضربنا لهم في ذلك مثلًا فقلنا : أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جَذْعٌ وكِربٌ ولَيْفٌ وسَعَفٌ وخُوَصٌ وجُمَّارٌ واسمها شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها ؟ فكذلك الله - وله المثل الأعلى - بجميع صفاته إله واحد، لا نقول : إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول : قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى/خلق له علمًا، ولكن نقول : لم يزل عالمًا قادرًا مالكًا، لا متى ولا كيف . ومما يبين هذا أن سبب نزول هذه السورة الذي ذكره المفسرون يدل على ذلك فإنهم ذكروا أسبابا :
أحدها : ما تقدم عن أُبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك، فنزلت هذه السورة .
والثاني : أن عامر بن الطفيل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إلى ما تدعونا إليه يا محمد ؟ قال : ( إلى الله ) قال : فصفه لي، أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد ؟ فنزلت هذه السورة . وروي ذلك عن ابن عباس من طريق أبي ظبيان، وأبي صالح عنه .
والثالث : أن بعض اليهود قال ذلك، قالوا : من أي جنس هو . وممن ورث الدنيا، ولمن يورثها ؟ فنزلت هذه السورة، قاله قتادة والضحاك . قال الضحاك وقتادة ومقاتل : جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا به من أي شيء هو ؟ ومن أي جنس هو : أمن ذهب ؟ أم من نحاس هو ؟ أم من صفر ؟ أم من حديد ؟ أم من فضة ؟ وهل يأكل ويشرب ؟ وممن ورث الدنيا ؟ ولمن يورثها ؟ فأنزل الله هذه السورة . وهي نسبة الله خاصة .(2/60)
/والرابع : ما روي عن الضحاك، عن ابن عباس، أن وفد نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أساقفة من بني الحارث بن كعب، منهم السيد والعاقب، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صف لنا ربك من أي شيء هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن ربي ليس من شيء، وهو بائن من الأشياء ) فأنزل الله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . فهؤلاء سألوا : هل هو من جنس من أجناس المخلوقات ؟ وهل هو من مادة ؟ فبين الله ـ تعالى ـ أنه أحد، ليس من جنس شيء من المخلوقات، وأنه صمد ليس من مادة، بل هو صمد لم يلد ولم يولد، وإذا نفي عنه أن يكون مولودًا من مادة الوالد، فلأن ينفي عنه أن يكون من سائر المواد أولى وأحرى فإن المولود من نظير مادته أكمل من مادة ما خلق من مادة أخرى، كما خلق آدم من الطين، فالمادة التي خلق منها أولاده أفضل من المادة التي خلق منها هو؛ ولهذا كان خلقه أعجب . فإذا نزه الرب عن المادة العليا فهو عن المادة السفلي أعظم تنزيهًا، وهذا كما أنه إذا كان منزهًا عن أن يكون أحد كفوًا له، فلأن يكون منزهًا عن أن يكون أحد أفضل منه أولى وأحرى .(2/61)
وهذا مما يبين أن هذه السورة اشتملت على جميع أنواع التنزيه والتحميد، على النفي والإثبات؛ ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن . فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك، / وكذلك إذا نزه نفسه عن أن يلد فيخرج منه مادة الولد التي هي أشرف المواد، فلأن ينزه نفسه عن أن يخرج منه مادة غير الولد بطريق الأولى والأحرى، وإذا نزه نفسه عن أن يخرج منه مواد للمخلوقات فلأن ينزه عن أن يخرج منه فضلات لا تصلح أن تكون مادة بطريق الأولى والأحرى . والإنسان يخرج منه مادة الولد، ويخرج منه مادة غير الولد، كما يخلق من عرقه ورطوبته القمل والدود وغير ذلك، ويخرج منه المخاط والبصاق وغير ذلك . وقد نزه الله أهل الجنة عن أن يخرج منهم شيء من ذلك، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يتمخطون، وأنه يخرج منهم مثل رشح المسك، وأنهم يجامعون بذكر لا يخفي، وشهوة لا تنقطع، ولا مني، ولا منية، وإذا اشتهي أحدهم الولد كان حمله ووضعه في زمن يسير .
فقد تضمن تنزيه نفسه عن أن يكون له ولد، وأن يخرج منه شيء من الأشياء، كما يخرج من غيره من المخلوقات، وهذا ـ أيضًا ـ من تمام معنى الصمد، كما سبق في تفسيره أنه الذي لا يخرج منه شيء، وكذلك تنزيه نفسه عن أن يولد ـ فلا يكون من مثله ـ تنزيه له أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى والأحرى .(2/62)
وقد تقدم في حديث أبي بن كعب أنه ليس شيء يولد إلا سيموت، / وليس شيء يموت إلا يورث، والله ـ تعالى ـ لا يموت ولا يورث . وهذا رد لقول اليهود : ممن ورث الدنيا، ولمن يورثها ؟ وكذلك ما نقل من سؤال النصارى : صف لنا ربك، من أي شيء هو ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن ربي ليس من شيء، وهو بائن من الأشياء ) ، وكذلك سؤال المشركين واليهود : أمن فضة هو ؟ أم من ذهب هو ؟ أم من حديد ؟ . وذلك لأن هؤلاء عهدوا الآلهة التي يعبدونها من دون الله يكون لها مواد صارت منها؛ فعباد الأوثان تكون أصنامهم من ذهب وفضة وحديد وغير ذلك .
وعباد البشر سواء كان البشر لم يأمروهم بعبادتهم، أو أمروهم بعبادتهم، كالذين يعبدون المسيح وعزيرًا، وكقوم فرعون الذين قال لهم : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى } [ النازعات : 24 ] ، و { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} القصص : 38 ] ، وقال لموسى : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] ، وكالذي آتاه الله نصيبًا من الملك الذي حاج إبراهيم في ربه : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ، وكالدجال الذي يدعي الإلهية، وما من خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال، وكالذين قالوا : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] .(2/63)
وقد قال غير واحد من السلف : إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا فيهم، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم بعد ذلك/عبدوهم، وذلك أول ما عبدت الأصنام، وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب . وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال : صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد : أما وَدٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوثُ فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت .
ونوح ـ عليه السلام ـ أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى التوحيد، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيح . ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وكلا المرسلين بعث إلى مشركين يعبدون هذه الأصنام التي صورت على صور الصالحين من البشر، والمقصود بعبادتها عبادة أولئك الصالحين .(2/64)
وكذلك المشركون من أهل الكتاب ومن مبتدعة هذه الأمة وضلالها هذا غاية شركهم، فإن النصارى يصورون في الكنائس صور من يعظمونه من الإنس غير عيسى وأمه، مثل مارجرجس وغيره من القداديس، ويعبدون تلك الصور، ويسألونها ويدعونها ويقربون/ لها القرابين، وينذرون لها النذور، ويقولون : هذه تذكرنا بأولئك الصالحين، والشياطين تضلهم ـ كما كانت تضل المشركين تارة ـ بأن يتمثل الشيطان في صورة ذلك الشخص الذي يدعي ويعبد فيظن داعيه أنه قد أتي، أو يظن أن الله صور ملكًا على صورته، فإن النصراني ـ مثلًا ـ يدعو في الأَسْرِ وغيره مارجرجس أو غيره فيراه قد أتاه في الهواء، وكذلك آخر غيره، وقد سألوا بعض بطارقتهم عن هذا : كيف يوجد في هذه الأماكن ؟ فقال : هذه ملائكة يخلقهم الله على صورته تغيث من يدعوه، وإنما تلك شياطين أضلت المشركين .
وهكذا كثيرًا من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة، فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، أو يستغيث به عند قبره ويسأله، وقد ينذر له نذرًا ونحو ذلك، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلمه ببعض ما سأله عنه، ونحو ذلك، فيظنه الشيخ نفسه أتي إن كان حيًا، حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له . هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال قال : هذا مَلَكٌ صوره الله علي/صورتي . وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابًا، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيث بهم .(2/65)
ولهذا أعرف غير واحد من الشيوخ الأكابر الذين فيهم صدق وزهد وعبادة لما ظنوا هذا من كرامات الصالحين صار أحدهم يوصى مريديه يقول : إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث بي، وليستنجدني وليستوصني، ويقول : أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي، وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصورت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه أنا نفعل بعد موتك بأصحابك ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي في قلبه، فيأمر أصحابه بذلك . وأعرف من هؤلاء من كان له شياطين تخدمه في حياته بأنواع الخدم مثل : خطاب أصحابه المستغيثين به، وإعانتهم، وغير ذلك، فلما مات صاروا يأتون أحدهم في صورة الشيخ، ويشعرونه أنه لم يمت، ويرسلون إلى أصحابه رسائل بخطاب . وقد كان يجتمع بي بعض أتباع هذا الشيخ، وكان فيه زهد وعبادة، وكان يحبني ويحب هذا الشيخ، ويظن أن هذا من الكرامات، وأن الشيخ لم يمت، وذكر لي الكلام الذي أرسله إليه بعد موته، فقرأه فإذا هو كلام الشياطين/بعينه . وقد ذكر لي غير واحد ممن أعرفهم أنهم استغاثوا بي فرأوني في الهواء وقد أتيتهم وخلصتهم من تلك الشدائد، مثل من أحاط به النصارى الأرمن ليأخذوه، وآخر قد أحاط به العدو ومعه كتب ملطفات من مناصحين لو اطلعوا على ما معه لقتلوه، ونحو ذلك، فذكرت لهم أني ما دريت بما جرى أصلا، وحلفت لهم على ذلك حتى لا يظنوا أني كتمت ذلك كما تكتم الكرامات، وأنا قد علمت أن الذي فعلوه ليس بمشروع، بل هو شرك وبدعة، ثم تبين لي فيما بعد، وبينت لهم أن هذه شياطين تتصور على صورة المستغاث به .(2/66)
وحكي لي غير واحد من أصحاب الشيوخ أنه جرى لمن استغاث بهم مثل ذلك، وحكي خلق كثير أنهم استغاثوا بأحياء وأموات فرأوا مثل ذلك . واستفاض هذا حتى عرف أن هذا من الشياطين . والشياطين تغوي الإنسان بحسب الإمكان، فإن كان ممن لا يعرف دين الإسلام أوقعته في الشرك الظاهر، والكفر المحض؛ فأمرته ألا يذكر الله، وأن يسجد للشيطان، ويذبح له، وأمرته أن يأكل الميتة والدم ويفعل الفواحش . وهذا يجري كثيرًا في بلاد الكفر المحض وبلاد فيها كفر وإسلام ضعيف، ويجري في بعض مدائن الإسلام في المواضع التي يضعف إيمان أصحابها، حتى قد جرى ذلك في مصر والشام على أنواع يطول وصفها، وهو في أرض الشرق قبل ظهور/الإسلام في التتار كثيرًا جدًا، وكلما ظهر فيهم الإسلام وعرفوا حقيقته قلت آثار الشياطين فيهم، وإن كان مسلمًا يختار الفواحش والظلم أعانته على الظلم والفواحش . وهذا كثير جدًا أكثر من الذي قبله في البلاد التي في أهلها إسلام وجاهلية وبر وفجور، وإن كان الشيخ فيه إسلام وديانة ولكن عنده قلة معرفة بحقيقة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد عرف من حيث الجملة أن لأولياء الله كرامات، وهو لا يعرف كمال الولاية، وأنها الإيمان والتقوى واتباع الرسل باطنًا وظاهرًا، أو يعرف ذلك مجملًا ولا يعرف من حقائق الإيمان الباطن وشرائع الإسلام الظاهرة ما يفرق به بين الأحوال الرحمانية، وبين النفسانية والشيطانية، كما أن الرؤيا ثلاثة أقسام : رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ورؤيا من الشيطان .(2/67)
فكذلك الأحوال، فإذا كان عنده قلة معرفة بحقيقة دين محمد صلى الله عليه وسلم أمرته الشياطين بأمر لا ينكره، فتارة يحملون أحدهم في الهواء ويقفون به بعرفات ثم يعيدونه إلى بلده، وهو لابس ثيابه لم يحرم حين حاذى المواقيت، ولا كشف رأسه، ولا تجرد عما يتجرد عنه المحرم، ولا يدعونه بعد الوقوف يطوف طواف الإفاضة ويرمي الجمار ويكمل حجه، بل يظن أن مجرد الوقوف ـ كما فعل ـ/عبادة، وهذا من قلة علمه بدين الإسلام، ولو علم دين الإسلام لعلم أن هذا الذي فعله ليس عبادة لله، وأنه من استحل هذا فهو مرتد يجب قتله . بل اتفق المسلمون على أنه يجب الإحرام عند الميقات ولا يجوز للإنسان المحرم اللبس في الإحرام إلا من عذر، وأنه لا يكتفي بالوقوف، بل لابد من طواف الإفاضة باتفاق المسلمين، بل وعليه أن يفيض إلى المشعر الحرام، ويرمي جمرة العقبة، وهذا مما تُنُوزع فيه هل هو ركن، أو واجب يجبره دم ؟ وعليه ـ أيضًا ـ رمي الجمار أيام مني باتفاق المسلمين، وقد تحمل أحدهم الجن فتزوره بيت المقدس وغيره، وتطير به في الهواء، وتمشي به في الماء، وقد تريه أنه قد ذهب به إلى مدينة الأولياء، وربما أرته أنه يأكل من ثمار الجنة، ويشرب من أنهارها .
وهذا كله وأمثاله مما أعرفه قد وقع لمن أعرفه، لكن هذا باب طويل ليس هذا موضع بسطه .
وإنما المقصود أن أصل الشرك في العالم كان من عبادة البشر الصالحين، وعبادة تماثيلهم، وهم المقصودون . ومن الشرك ما كان أصله عبادة الكواكب : إما الشمس وإما القمر وإما غيرهما، وصورت الأصنام طلاسم لتلك الكواكب . وشرك قوم إبراهيم ـ والله أعلم ـ كان من هذا، أو كان بعضه من هذا . ومن الشرك ما كان أصله عبادة الملائكة أو الجن، وضعت الأصنام لأجلهم، وإلا فنفس الأصنام/الجمادية لم تعبد لذاتها، بل لأسباب اقتضت ذلك، وشرك العرب كان أعظمه الأول، وكان فيه من الجميع .(2/68)
فإن عَمْرو بن لُحَي هو أول من غير دين إبراهيم ـ عليه السلام ـ وكان قد أتي الشام ورآهم بالبلقاء لهم أصنام يستجلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فصنع مثل ذلك في مكة لما كانت خزاعة ولاة البيت قبل قريش، وكان هو سيد خزاعة . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( رأيت عَمْرو بن لُحَي بن قَمَعَة بن خِنْدِفَ يجر قصْبَهُ في النار - أي أمعاءه ـ وهو أول من غير دين إبراهيم، وسيب السوائب، وبحر البحيرة ) . وكذلك - والله أعلم ـ شرك قوم نوح وإن كان مبدؤه من عبادة الصالحين، فالشيطان يجر الناس من هذا إلى غيره، لكن هذا أقرب إلى الناس؛ لأنهم يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك منه، فتارة يسألونه، وتارة يسألون الله به، وتارة يصلون ويدعون عند قبره ظانين أن الصلاة والدعاء عند قبره أفضل منه في المساجد والبيوت .(2/69)
ولما كان هذا مبدأ الشرك سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، كما سد باب الشرك بالكواكب . ففي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ) . وفي/الصحيحين عنه أنه صلى الله عليه وسلم ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال : ( إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك هم شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) . وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم في مرض موته : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ) قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا . وفي مسند أحمد وصحيح أبي حاتم عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ) . وفي سنن أبي داود وغيره عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) .
وفي موطأ مالك عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) . وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرني ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سوىته، ولا تمثالًا إلا طمسته . فأمره بمحو التمثالين : الصورة الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا وبهذا .(2/70)
/وقد ثبت عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان في سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فقال : ما هذا ؟ فقالوا : هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا، أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصل، وإلا فليمض . وبلغه أن قومًا يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها فأمر بقطعها . وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتستر قبر دانيال، وعنده مصحف فيه أخبار ما سيكون، قد ذكر فيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا أجدبوا كشفوا عن القبر فمطروا، فأرسل إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، ويدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه الناس؛ لئلا يفتنوا به . فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجدًا كان بناء المساجد عليها أعظم .
كذلك قال العلماء : يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قبر في مسجد وقد طال مكثه سوى القبر حتى لا تظهر صورته، فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته؛ ولهذا كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أولًا مقبرة للمشركين، وفيها نَخْلٌ وخِرَبٌ، فأمر بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطع وبالخرب فسوىت، فخرج عن أن يكون مقبرة، فصار مسجدًا .(2/71)
/ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرمًا، ولم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يكن يعرف قط مسجد على قبر، وكان الخليل ـ عليه السلام ـ في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة لا أحد يدخل إليها، ولا تشد الصحابة الرحال لا إليه ولا إلى غيره من المقابر؛ لأن في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا ) . فكان يأتي من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه، ثم يرجعون لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها، وكانت مغارة الخليل مسدودة، حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة، ففتحوا الباب وجعلوا ذلك المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجدًا . وأهل العلم ينكرون ذلك . والذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هذه طيبة انزل فصل، فنزل فصلى، هذا مكان أبيك انزل فصل- كذب موضوع لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة إلا في المسجد الأقصى خاصة، كما ثبت ذلك في الصحيح، ولا نزل إلا فيه .(2/72)
ولهذا لما قدم الشام من الصحابة من لا يحصي عددهم إلا الله، / وقدمها عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وبعد فتح الشام لما صالح النصارى على الجزية وشرط عليهم الشروط المعروفة، وقدمها مرة ثالثة حتى وصل إلى سَرْغٍ، ومعه أكابر السابقين الأولين من المهاجرىن والأنصار، فلم يذهب أحد منهم إلى مغارة الخليل، ولا غيرها من آثار الأنبياء التي بالشام، لا ببيت المقدس، ولا بدمشق، ولا غير ذلك، مثل الآثار الثلاثة التي بجبل قاسيون، في غربيه الربوة المضافة إلى عيسى -عليه السلام، وفي شرقيه المقام المضاف إلى الخليل - عليه السلام، وفي وسطه وأعلاه مغارة الدم المضافة إلى هابيل لما قتله قابيل، فهذه البقاع وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها، ولا يزورونها، ولا يرجون منها بركة، فإنها محل الشرك .
ولهذا توجد فيها الشياطين كثيرًا، وقد رآهم غير واحد على صورة الإنس، ويقولون : لهم رجال الغيب، يظنون أنهم رجال من الإنس غائبين عن الأبصار، وإنما هم جن، والجن يسمون رجالًا، كما قال الله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] ، والإنس سموا إنسًا؛ لأنهم يؤنسون، أي : يرون، كما قال تعالى : { إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } [ طه : 10 ] أي : رأيتها . والجن سموا جنًا؛ لاجتنانهم، يجتنون عن الأبصار، أي : يستترون، كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } [ الأنعام : 76 ] أي : استولى عليه فغطاه وستره، وليس أحد من الإنس يستتر دائمًا عن/ أبصار الإنس، وإنما يقع هذا لبعض الإنس في بعض الأحوال، تارة على وجه الكرامة له، وتارة يكون من باب السحر وعمل الشياطين، ولبسط الكلام على الفرق بين هذا وبين هذا موضع آخر .(2/73)
والمقصود ههنا أن الصحابة والتابعين له بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي، ولا رجل صالح مسجدًا، ولا جعلوه مشهدًا ومزارًا، ولا على شيء من آثار الأنبياء، مثل مكان نزل فيه أو صلى فيه أو فعل فيه شيئًا من ذلك، لم يكونوا يقصدون بناء مسجد لأجل آثار الأنبياء والصالحين، ولم يكن جمهورهم يقصدون الصلاة في مكان لم يقصد الرسول الصلاة فيه، بل نزل فيه أو صلى فيه اتفاقًا، بل كان أئمتهم كعمر بن الخطاب وغيره ينهي عن قصد الصلاة في مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقًا لا قصدًا، وإنما نقل عن ابن عمر خاصة أنه كان يتحرى أن يسير حيث سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزل حيث نزل، ويصلي حيث صلي، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تلك البقعة لذلك الفعل، بل حصل اتفاقًا، وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ رجلا صالحًا شديد الاتباع، فرأي هذا من الاتباع، وأما أبوه وسائر الصحابة من الخلفاء الراشدين : عثمان وعلى وسائر العشرة وغيرهم، مثل ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب فلم يكونوا يفعلون ما فعل ابن عمر، وقول الجمهور أصح .(2/74)
/وذلك أن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، لأجل أنه فعل، فإذا قصد الصلاة والعبادة في مكان معين كان قصد الصلاة والعبادة في ذلك المكان متابعة له، وأما إذا لم يقصد تلك البقعة فإن قصدها يكون مخالفة لا متابعة له . مثال الأول : لما قصد الوقوف والذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرتين كان قصد تلك البقاع متابعة له، وكذلك لما طاف وصلي خلف المقام ركعتين كان فعل ذلك متابعة له، وكذلك لما صعد على الصفا والمروة للذكر والدعاء كان قصد ذلك متابعة له . وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأُسطوانة، قال : لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها، فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة . وكذلك لما أراد عِتْبَانُ بن مَالكٍ أن يبني مسجدًا لما عمي فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : إني أحب أن تأتيني تصلي في منزلي فأتخذه مصلي . وفي رواية فقال : تعال فخط لي مسجدًا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه . وفي رواية : فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، فقال : ( أين تحب أن أصلي من بيتك ؟ ) فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا وراءه فصلى ركعتين، ثم سلم، الحديث .(2/75)
/فإنه قصد أن يبني مسجدًا وأحب أن يكون أول من يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يبنيه في الموضع الذي صلى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد، وأراد أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم في المكان الذي يبنيه، فكانت الصلاة مقصودة لأجل المسجد، لم يكن بناء المسجد مقصودًا لأجل كونه صلى فيه اتفاقًا، وهذا المكان مكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه ليكون مسجدًا، فصار قصد الصلاة فيه متابعة له، بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد، وكذلك قصد يوم الاثنين والخميس بالصوم متابعة لأنه قصد صوم هذين اليومين، وقال في الحديث الصحيح إنه- : ( تفتح أبواب الجنة في كل خميس وإثنين فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كان بينه وبين أخيه شَحْنَاءُ فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا ) .
وكذلك قصد إتيان مسجد قباء متابعة له، فإنه قد ثبت عنه في الصحيحين أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، وذلك أن الله أنزل عليه : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } [ التوبة : 108 ] ، وكان مسجده هو الأحق بهذا الوصف . وقد ثبت في الصحيح أنه سئل عن المسجد المؤسس على التقوى فقال : ( هو مسجدي هذا ) ، يريد أنه أكمل في هذا الوصف من مسجد قباء، ومسجد قباء - أيضًا - أسس على التقوى، وبسببه نزلت الآية؛ ولهذا قال : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [ التوبة : 108 ] ، وكان أهل قباء مع الوضوء والغسل يستنجون بالماء - تعلموا ذلك من جيرانهم اليهود - ولم تكن العرب تفعل ذلك، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا يظن ظان أن ذاك هو الذي أسس على التقوى دون مسجده، فذكر أن مسجده أحق بأن يكون هو المؤسس على التقوى، فقوله : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَى } ، يتناول مسجده ومسجد قباء، ويتناول كل مسجد أسس على التقوى، بخلاف مساجد الضرار .(2/76)
ولهذا كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه ذلك، ويرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد عن أن يكون بني ضرارًا من الجديد الذي يخاف ذلك فيه، وعتق المسجد مما يحمد به؛ ولهذا قال : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] ، وقال : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ آل عمران : 96 ] ، فإن قدمه يقتضي كثرة العبادة فيه ـ أيضًا ـ وذلك يقتضي زيادة فضله؛ ولهذا لم يستحب علماء السلف من أهل المدينة وغيرها قصد شيء من المساجد والمزارات التي بالمدينة وما حولها بعد مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا مسجد قباء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد مسجدًا بعينه يذهب إليه إلا هو . وقد كان بالمدينة مساجد كثيرة، لكل قبيلة من الأنصار مسجد، لكن ليس في قصده دون أمثاله فضيلة، بخلاف مسجد قباء، فإنه أول مسجد بني بالمدينة/على الإطلاق، وقد قصده الرسول صلى الله عليه وسلم بالذهاب إليه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من توضأ في بيته ثم أتي مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة ) .(2/77)
ومع هذا فلا يسافر إليه، لكن إذا كان الإنسان بالمدينة أتاه، ولا يقصد إنشاء السفر إليه بل يقصد إنشاء السفر إلى المساجد الثلاثة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا ) ؛ ولهذا لو نذر السفر إلى مسجد قباء لم يوف بنذره عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بخلاف المسجد الحرام فإنه يجب الوفاء بالنذر إليه باتفاقهم، وكذلك مسجد المدينة، وبيت المقدس، في أصح قوليهم، وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه، وفي الآخرـ وهو قول أبي حنيفةـ ليس عليه ذلك، لكنه جائز ومستحب؛ لأن من أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان واجبًا بالشرع : والأكثرون يقولون : يجب بالنذر كل ما كان طاعة لله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .
ويستحب ـ أيضًا ـ زيارة قبور أهل البقيع، وشهداء أحد، للدعاء لهم والاستغفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد ذلك، مع أن/ هذا مشروع لجميع موتي المسلمين، كما يستحب السلام عليهم والدعاء لهم، والاستغفار . وزيارة القبور بهذا القصد مستحبة . وسواء في ذلك قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم . وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول : السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف .(2/78)
وأما زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم، أو دعائهم والإقسام بهم على الله، أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت، فهذا ضلال وشرك وبدعة باتفاق أئمة المسلمين، ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك، ولا كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يقفون يدعون لأنفسهم؛ ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا : إنه من البدع التي لم يفعلها السلف، واتفق العلماء الأربعة وغيرهم من السلف على أنه إذا أراد أن يدعو يستقبل القبلة، ولا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا سلم عليه فأكثرهم قالوا : يستقبل القبر، قاله مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة : بل يستقبل القبلة - أيضًا - ويكون القبر عن يساره، وقيل : بل يستدبر القبلة .
ومما يبين هذا الأصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر ذهبا إلى الغار الذي بجبل ثور، ولم يكن على طريقهما/ بالمدينة، فإنه من ناحية اليمن، والمدينة من ناحية الشام، ولكن اختبآ فيه ثلاثًا لينقطع خبرهما عن المشركين، فلا يعرفون أين ذهبا، فإن المشركين كانوا طالبين لهما، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته لمن يأتي به، وكانوا يقصدون منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى أصحابه بالمدينة، وألا يخرج من مكة، بل لما عجزوا عن قتله أرادوا حبسه بمكة، فلو سلك الطريق ابتداء لأدركوه، فأقام بالغار ثلاثًا لأجل ذلك، فلو أراد المسافر من مكة إلى المدينة أن يذهب إلى الغار، ثم يرجع لم يكن ذلك مستحبًا بل مكروهًا . والنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة سلك طريق الساحل وهي طويلة، وفيها دورة، وأما في عمره وحجته فكان يسلك الوسط، وهو أقرب إلى مكة، فسلك في الهجرة طريق الساحل؛ لأنها كانت أبعد عن قصد المشركين، فإن الطريق الوسطي كانت أقرب إلى المدينة، فيظنون أنه سلكها، كما كان إذا أراد غزوة وَرَّي بغيرها .(2/79)
وهو صلى الله عليه وآله وسلم لما قسم غنائم حنين بالجِعْرانَةِ اعتمر منها، ولما صده المشركون عن مكة حل بالحديبية، وكان قد أنشأ الإحرام بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة، ولما اعتمر من العام القابل عمرة القضية اعتمر من ذي الحليفة، ولم يدخل الكعبة في عمره ولا حجته وإنما دخلها عام الفتح، وكان بها صور مصورة فلم يدخلها/حتى محيت تلك الصور، وصلي بها ركعتين . وصلي يوم الفتح ثمان ركعات وقت الضحى، كما روت ذلك أم هانئ . ولم يكن يقصد الصلاة وقت الضحى إلا لسبب مثل أن يقدم من سفر، فيدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين، ومثل أن يشغله نوم أو مرض عن قيام الليل فيصلي بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، فصلى ثنتي عشرة ركعة شفعًا لفوات وقت الوتر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( المغرب وتر صلاة النهار، فأوتروا صلاة الليل ) ، وقال : ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا ) ، وقال : ( صلاة الليل مثني مثني، فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة ) .
والمأثور عن السلف أنهم إذا ناموا عن الوتر كانوا يوترون قبل صلاة الفجر، ولا يؤخرونه إلى ما بعد الصلاة . وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم . وقد ثبت عنه في الصحيح أنه أوصى بركعتي الضحى لأبي هريرة، ولأبي الدرداء، وفيها أحاديث، لكن صلاته ثمان ركعات يوم الفتح جعلها بعض العلماء صلاة الضحى .(2/80)
وقال آخرون : لم يصلها إلا يوم الفتح، فعلم أنه صلاها لأجل/الفتح . وكانوا يستحبون عند فتح مدينة أن يصلي الإمام ثماني ركعات شكرًا لله، ويسمونها صلاة الفتح، قالوا : لأن الاتباع يعتبر فيه القصد والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد الصلاة لأجل الوقت، ولو قصد ذلك لصلي كل يوم، أو غالب الأيام، كما كان يصلي ركعتي الفجر كل يوم، وكذلك كان يصلي بعد الظهر ركعتين، وقبلها ركعتين أو أربعًا، ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وهو صلى الله عليه وسلم لما نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في غزوة خيبر فصلوا بعد طلوع الشمس ركعتين، ثم ركعتين، لم يقل أحد : إن هذه الصلاة في هذا الوقت سنة دائمًا؛ لأنهم إنما صلوها قضاء، لكونهم ناموا عن الصلاة، ولما فاتته العصر في بعض أيام الخندق فصلاها بعد ما غربت الشمس . وروي أن الظهر فاتته - أيضًا - فصلى الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، لم يقل أحد : إنه يستحب أن يصلي بين العشاءين أحد عشر ركعة؛ لأن ذلك كان قضاء، بل ولا نقل عنه أحد أنه خص ما بين العشاءين بصلاة .
وقوله تعالى : { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } [ المزمل : 6 ] ، عند أكثر العلماء هو إذا قام الرجل بعد نوم ليس هو أول الليل، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هكذا كان يصلي، والأحاديث بذلك متواترة عنه، كان يقوم بعد النوم لم يكن يقوم بين العشاءين .(2/81)
/وكذلك أكله ما كان يجد من الطعام، ولبسه الذي يوجد بمدينته طيبة مخلوقًا فيها، ومجلوبًا إليها من اليمن وغيرها؛ لأنه هو الذي يسره الله له، فأكله التمر، وخبزه الشعير، وفاكهته الرطب والبطيخ الأخضر والقثاء، ولبس ثياب اليمن؛ لأن ذلك هو كان أيسر في بلده من الطعام والثياب، لا لخصوص ذلك، فمن كان ببلد آخر وقوتهم البُرُّ والذرة، وفاكهتهم العنب والرمان، ونحو ذلك، وثيابهم مما ينسج بغير اليمن القز لم يكن إذا قصد أن يتكلف من القوت والفاكهة واللباس ما ليس في بلده ـ بل يتعسر عليهم ـ متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذلك الذي يتكلفه تمرًا أو رطبًا أو خبز شعير، فعلم أنه لابد في المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار القصد والنية فـ ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
فعلم أن الذي عليه جمهور الصحابة وأكابرهم هو الصحيح، ومع هذا فابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لم يكن يقصد أن يصلي إلا في مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد الصلاة في موضع نزوله ومقامه، ولا كان أحد من الصحابة يذهب إلى الغار المذكور في القرآن للزيارة والصلاة فيه ـ وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقاما به ثلاثًا يصلون فيه الصلوات الخمس ـ ولا كانوا أيضًا يذهبون إلى حراء وهو المكان الذي كان يتعبد فيه قبل النبوة /وفيه نزل عليه الوحي أولًا، وكان هذا مكان يتعبدون فيه قبل الإسلام، فإن حراء أعلى جبل كان هناك، فلما جاء الإسلام ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة مرات بعد أن أقام بها قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ومع هذا فلم يكن هو ولا أصحابه يذهبون إلى حراء .(2/82)
ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين اليمانيين، ولم يستلم الشاميين؛ لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم، فإن أكثر الحجر من البيت، والحجر الأسود استلمه وَقَبَّلَهُ، واليماني استلمه ولم يقبله، وصلي بمقام إبراهيم ولم يستلمه، ولم يقبله، فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة، ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة، وإذا كان هذا نفس الكعبة، ونفس مقام إبراهيم بها، فمعلوم أن جميع المساجد حرمتها دون الكعبة، وأن مقام إبراهيم بالشام وغيرها وسائر مقامات الأنبياء دون المقام الذي قال الله فيه : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي } [ البقرة : 125 ] .
فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاة فيها، كما لا يحج إلى سائر المشاهد، ولا يتمسح بها، ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة ولا غيرها، ولا يقبل ما على وجه الأرض إلا الحجر الأسود .
/وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل بمسجد بمكة إلا المسجد الحرام، ولم يأت للعبادات إلا المشاعر : منى، ومزدلفة، وعرفة؛ فلهذا كان أئمة العلماء على أنه لا يستحب أن يقصد مسجدًا بمكة للصلاة غير المسجد الحرام، ولا تقصد بقعة للزيارة غير المشاعر التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا في آثارهم، فكيف بالمقابر التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذها مساجد، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة ؟ !
فصل
وأما عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين فلفظ المتواتر يراد به معان؛ إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم، لكن من الناس من لا يسمي متواترًا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلًا بكثرة عددهم فقط، ويقولون : إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية، وهذا قول ضعيف .(2/83)
والصحيح ما عليه الأكثرون : أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة، وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر، يحصل العلم بمجموع ذلك، وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة .
وأيضًا، فالخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقًا له أو عملًا بموجبه، يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معني المتواتر، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض، ويقسمون الخبر إلى : متواتر،/ ومشهور، وخبر واحد، وإذا كان كذلك، فأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة، تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق، وأجمعوا على صحتها، وإجماعهم معصوم من الخطأ، كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ، ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة، وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم، فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم، وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ، لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ .
ثم هذه الأحاديث التي أجمعوا على صحتها قد تتواتر وتستفيض عند بعضهم دون بعض، وقد يحصل العلم بصدقها لبعضهم؛ لعلمه بصفات المخبرين، وما اقترن بالخبر من القرائن التي تفيد العلم، كمن سمع خبرًا من الصديق أو الفاروق يرويه بين المهاجرين والأنصار، وقد كانوا شهدوا منه ما شهد، وهم مصدقون له في ذلك، وهم مُقِرُّون له على ذلك، وقوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) هو مما تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، وليس هو في أصله متواترًا، بل هو من غرائب الصحيح، لكن لما تلقوه بالقبول والتصديق صار مقطوعًا بصحته .
وفي السنن أحاديث تلقوها بالقبول والتصديق، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا وصية لوارث ) فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول والعمل بموجبه، وهو في السنن ليس في الصحيح .(2/84)
/وأما عدد ما يحصل به التواتر، فمن الناس من جعل له عددًا محصورًا، ثم يفرق هؤلاء، فقيل : أكثر من أربعة، وقيل : اثنا عشر، وقيل : أربعون، وقيل : سبعون، وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل : غير ذلك . وكل هذه الأقوال باطلة؛ لتكافئها في الدعوي .
والصحيح الذي عليه الجمهور أن التواتر ليس له عدد محصور، والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة، كما يحصل الشبع عقيب الأكل والرِّي عند الشرب، وليس لما يشبع كل واحد ويرويه قدر معين، بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم، وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح، أو غضب، أو حزن، ونحو ذلك .
كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر، تارة يكون لكثرة المخبرين، وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم، وإن كانوا كفارًا . وتارة يكون لدينهم وضبطهم . فرب رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين، لا يوثق بدينهم وضبطهم، وتارة قد يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر، مع العلم بأنهما لم يتواطآ، وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك، مثل من يروي حديثًا طويلًا فيه فصول ويرويه آخر لم يلقه . وتارة يحصل العلم بالخبر لمن عنده الفطنة والذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به/ما ليس لمن له مثل ذلك . وتارة يحصل العلم بالخبر؛ لكونه روي بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم، ولم يكذبه أحد منهم؛ فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان، كما يمتنع تواطؤهم على الكذب .(2/85)
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد علم أن من قيد العلم بعدد معين، وسوي بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطًا عظيمًا؛ ولهذا كان التواتر ينقسم إلى : عام، وخاص، فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة؛ كسجود السهو، ووجوب الشفعة، وحمل العاقلة العقل، ورجم الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك .
وإذا كان الخبر قد تواتر عند قوم دون قوم، وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم، فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه، كما يجب ذلك في نظائره، ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع، الذين أجمعوا على صحته، كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم؛ فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم؛ إذ غير العالم لا يكون له قول، وإنما القول للعالم، فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله فمن لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله، بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم .
/وقال أيضًا :
في الرد على بعض أئمة أهل الكلام لما تكلموا في المتأخرين من أهل الحديث وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم، ودقة علومهم فيها، فقال ـ رحمه الله ـ تعالى :(2/86)
لا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول، وآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وقد رأيت من هذا عجائب، لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم، وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها، تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر، وما أحسن قول الإمام أحمد : ضعيف الحديث خير من الرأي .
وقد أمر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة /من أبي الحسن الآمدي، وقال : أخذها منه أفضل من أخذ عكا . مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحرًا في الفنون الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلامًا، وأمثلهم اعتقادًا، ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة - سواء كانت حقًا أو باطلًا؛ إيمانًا أو كفرًا - لا تدرك إلا بذكاء وفطنة؛ فلذلك يستجهلون من لم يشركهم في عملهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان منه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } الآيات [ المطففين : 29، 30 ] . فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم، منها ما يستفيد به الإيمان الواجب فيكون كافرًا زنديقًا، منافقًا، جاهلًا، ضالًا، مضلًا، ظلومًا، كفورًا، ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقي الملة، من الذين قال الله فيهم : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 31 ] .(2/87)
وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق ويكون مرتدًا؛ إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه، إما ردة نفاق وإما ردة كفر، وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال .
/وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال : إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل إليهود والنصاري والمشركون يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوي الله؛ من الملائكة والنبيين، وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة إليهود والنصاري والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك .
ثم تجد كثيرًا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون؛ كرؤوس القبائل مثل : الأقرع وعيينة، ونحوهم، ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليها ولكن مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قَلَّ أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة .
وقد ذكر ابن قتيبة عن ذلك طرفًا في أول [ مختلف الحديث ] ، وقد حكي أهل المقالات ـ بعضهم عن بعض ـ من ذلك طرفًا، كما يذكره/ أبو الحسن الأشعري،والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبو عبد الله الشهرستاني، وغيرهم .(2/88)
وأبلغ من ذلك، أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام؛ كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، وجميع ما يأمرون به من العلوم والأعمال والأخلاق لا يكفي في النجاة من عذاب الله، فضلًا أن يكون موصلًا لنعيم الآخرة، قال الله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي على اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } الآيتين [ الأعراف : 37 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } إلى آخر السورة [ غافر : 83 : 85 ] ، فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف، وأن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل لما رأوا بأس الله وَحَّدوا الله وتركوا الشرك فلم ينفعهم ذلك، وكذلك أخبر عن فرعون ـ وهو كافر بالتوحيد والرسالة ـ أنه لما أدركه الغرق : { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ } الآية [ يونس : 90 ] . وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } الآيتين [ الأعراف : 172 ] .
وهذا في القرآن في مواضع يبين أن الرسل أمروا بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شيء من المخلوقات سواه، وأن/أهل السعادة هم أهل التوحيد، وأن المشركين هم أهل الشقاوة، ويبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسل مشركون، فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان، وكذلك الإيمان باليوم الآخر، فالثلاثة متلازمة؛ ولهذا يجمع بينهما في مثل قوله : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 150 ](2/89)
وأخبر في غير موضع أن الرسالة عمت جميع بني آدم، فهذه الأصول الثلاثة : توحيد الله والإيمان برسله، وباليوم الآخر أمور متلازمة؛ ولهذا قال ـ سبحانه ـ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } إلى قوله : { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } [ الأنعام : 112 ، 113 ] ، فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين المحسن يغرون به، والغرور : التلبيس والتمويه، وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين، ثم قال : { وَلِتَصْغَى إليه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } [ الأنعام : 113 ] ، فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة أصغي إلى زخرف أعدائهم فخالف الرسل، كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ
فصلنَاهُ على عِلْمٍ } إلى قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 52 ، 53 ] فأخبر أن الذين تركوا الكتاب ـ وهو الرسالة ـ يقولون إذا جاء تأويله ـ وهو ما أخبر به ـ : جاءت رسل ربنا بالحق .(2/90)
وهذا كما قال تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } الآيتين [ طه : 124 ] ، أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ما ذكر . فقد تبين أن أصل السعادة والنجاة من العذاب هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح . وهذه الأمور ليست في حكمتهم، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك، والفاعلون له . ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا .
فتدبر هذا فإنه نافع جدًا . وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة؛ أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه .
/والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك؛ فلو كانوا موحدين بالقول والكلام، وهو : أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لابد أن يعبدوا الله وحده، ويتخذوه إلهًا دون ما سواه، وهذا معني قول : [ لا إله إلا الله ] فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون ؟ ! فإذا كان ما تحصل به السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلًا كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات كما قال تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] ، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا .(2/91)
والقوم، وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق، فهذا القول لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة، وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن والإرادة، فالذي يؤتي فضائل علمية وإرادية - بدون هذه الأصول - بمنزلة من يؤتي قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول، وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة، وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئًا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤمن برسله واليوم الآخر .
ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل،/وقد يتابعونهم ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فذكر فرعون، والذي حاج إبراهيم لما آتاه الله الملك، والملأ من قوم نوح وعاد، وغيرهم، وذكر قول علمائهم كقوله : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } [ غافر : 83 ] ، وقال : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } [ غافر : 4 ] ، إلى قوله : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [ غافر : 5 ] ، إلى قوله : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ } الآية [ غافر : 35 ] والسلطان : هو الوحي المنزل من عند الله . وقد ذكر في هذه السورة [ حم غافر ] من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء ومجادلتهم ما فيه عبرة، مثل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } [ غافر : 56 ] ، ومثل قوله : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّي يُصْرَفُونَ } [ غافر : 69 ] ، إلى قوله : { ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] .(2/92)
وكذلك في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور المكية وطائفة من السور المدنية، فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب المقاييس والأمثال لهم، وذكر قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم؛ ولهذا قال ـ سبحانه ـ : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } الآية [ الأحقاف : 26 ] . فأخبر بما مكنوا فيه من أصناف/الإدراكات والحركات، وأخبر أن ذلك لم يغن عنهم شيئًا حيث جحدوا بآيات الله والرسالة؛ ولهذا حدثني ابن الشيخ الفقيه الخضري عن والده شيخ الحنفية في زمنه قال : كان فقهاء بخاري يقولون في ابن سينا : { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } الآية [ غافر : 21 ] ، والقوة تَعُمُّ قوة الإدراك النظرية، وقوة الحركة العملية، وقال في الآية الأخري : { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } [ غافر : 82 ] فأخبر بفضلهم في الكم والكيف، وأنهم أشد في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض .
وقد قال - سبحانه - عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } إلى قوله : { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 66 : 68 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ } [ غافر : 47 ] ، ومثل هذا في القرآن كثير، يذكر فيه قول أعداء الرسل وأفعالهم، وما أوتوه من قوي الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لما خالفوا الرسل .(2/93)
وقد ذكر الله ـ سبحانه ـ ما في المنتسبين إلى اتباع الرسل من العلماء والعباد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } الآية [ التوبة : 43 ] ، و { وَيَصُدُّونَ } يستعمل لازمًا، يقال : صَدَّ صدودًا /أعرض، كقوله : { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } [ النساء : 61 ] ، ويقال : صد غيره يصده، والوصفان يجتمعان فيهم . ومثل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } الآية [ النساء : 51 ] .
وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأَتْرُجَّة، طعمها طيب وريحها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها ) ، فبين أن في الذين يقرؤون القرآن مؤمنين ومنافقين، وإذا كان سعادة الأولين والآخرين هي اتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك، فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، والرسل عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين .(2/94)
وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أنزل إليه كتابًا مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، فهو الأمين على جميع الكتب، وقد/بلغ أَبْيَنَ البلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، بلغ الرسالة وأدي الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، وعَبَدَ الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق وأعظمهم نعيمًا وأعلاهم درجة، أعظمهم اتباعًا له وموافقة علمًا وعملًا، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=361 - TOP#TOPفصل
( لفظ إنما )
وأما قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية [ الأنفال : 2 ] فهذه الآية أثبت فيها الإيمان لهؤلاء، ونفاه عن غيرهم، كما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عمن نفاه عنه في الأحاديث مثل قوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، فإياكم وإياكم ) وكذلك قوله : ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) ، ومن هذا / الباب قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الآية [ الحجرات : 15 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } الآية [ النور : 62 ] .(2/95)
وهذه المواضع قد تنازع الناس في نفيها، والذي عليه جماهير السلف وأهل الحديث وغيرهم : أن نفي الإيمان لانتفاء بعض الواجبات فيه، والشارع دائمًا لا ينفي المسمي الشرعي إلا لانتفاء واجب فيه، وإذا قيل : المراد بذلك نفي الكمال فالكمال نوعان : واجب، ومستحب، فالمستحب؛ كقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ، أي : كامل المستحبات، وليس هذا الكمال هو المنفي في لفظ الشارع، بل المنفي هو الكمال الواجب وإلا فالشارع لم ينف الإيمان ولا الصلاة ولا الصيام ولا الطهارة، ولا نحو ذلك من المسميات الشرعية لانتفاء بعض مستحباتها؛ إذ لو كان كذلك لانتفي الإيمان عن جماهير المؤمنين، بل إنما نفاه لانتفاء الواجبات، كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ( لا صيام لمن لم يبيت النية ) ، و ( لا صلاة إلا بأم القرآن ) .
وقد رويت عنه ألفاظ تنازع الناس في ثبوتها عنه، مثل : قوله : ( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ) ، ( ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) ، ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) ، من ثبتت عنده هذه الألفاظ فعليه أن يقول بموجبها، /فيوجب ما تضمنته من التبييت، وذكر اسم الله، وإجابة المؤذن، ونحو ذلك . ثم إذا ترك الإنسان بعض واجبات العبادة، هل يقال : بطلت كلها، فلا ثواب له عليها ؟ أم يقال : يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه ؟ وهل عليه إعادة ذلك ؟ هذا يكون بحسب الأدلة الشرعية، فمن الواجبات في العبادة ما لا تبطل العبادة بتركه ولا إعادة على تاركه، بل يجبر المتروك؛ كالواجبات في الحج التي ليست أركانًا، مثل : رمي الجمار، وأن يحرم من غير الميقات، ونحو ذلك .(2/96)
وكذلك الصلاة عند الجمهور؛ كمالك وأحمد، وغيرهم، فيها واجب لا تبطل الصلاة بتركه عندهم، كما يقول أبو حنيفة في الفاتحة والطمأنينة . وكما يقول مالك وأحمد في التشهد الأول، لكن مالك وأحمد يقولان : ما تركه من هذا سهوًا فعليه أن يسجد للسهو، وأما إذا تركه عمدًا فتبطل صلاته، كما تبطل الصلاة بترك التشهد الأول عمدًا في المشهور من مذهبيهما، لكن أصحاب مالك يسمون هذا سنة مؤكدة، ومعناه معني الواجب عندهم .
وأما أبو حنيفة فيقول : من ترك الواجب ـ الذي ليس بفرض ـ عمدًا أساء ولا إعادة عليه، والجمهور يقولون : لا نعهد في العبادة واجبًا فيما يتركه الإنسان إلى غير بدل، ولا إعادة عليه، فلابد من وجوب البدل للإعادة . ولكن مع هذا اتفقت الأئمة على أن من ترك /واجبًا في الحج ليس بركن، ولم يجبره بالدم الذي عليه لم يبطل حجه، ولا تجب إعادته، فهكذا يقول جمهور السلف وأهل الحديث : أن من ترك واجبًا من واجبات الإيمان الذي لا يناقض أصول الإيمان - فعليه أن يجبر إيمانه؛ إما بالتوبة، وإما بالحسنات المكفرة . فالكبائر يتوب منها، والصغار تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن لم يفعل لم يحبط إيمانه جملة .
وأصلهم أن الإيمان يتبعَّض، فيذهب بعضه ويبقي بعضه، كما في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم .
وأما الذين أنكروا تبعضه وتفاضله كأنهم قالوا : متى ذهب بعضه ذهب سائره، ثم انقسموا قسمين : فقالت الخوارج والمعتزلة : فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلًا بحال .(2/97)
ثم قالت الخوارج : هو كافر، وقالت المعتزلة : ليس بكافر ولا مؤمن، بل هو فاسق، ننزله منزلةً بين المنزلتين، فخالفوا الخوارج في الاسم ووافقوهم في الحكم، وقالوا : إنه مخلد في النار، لا يخرج منها/بشفاعة ولا غيرها . والحزب الثاني : وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان؛ لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا : كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال، وقالوا : الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فَرَّق بين الإيمان والأعمال في كتابه . ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول : إن الإيمان هو تصديق اللسان وقول القلب، وهذا المنقول عن حماد بن أبي سليمان ـ ومن وافقه؛ كأبي حنيفة وغيره، وقال جَهْم والصَّالحي ـ ومن وافقهما من أهل الكلام كأبي الحسن وغيره : إنه مجرد تصديق القلب .
وفصل الخطاب في هذا الباب أن اسم الإيمان قد يذكر مجردًا، وقد يذكر مقرونًا بالعمل أو بالإسلام . فإذا ذكر مجردًا تناول الأعمال كما في الصحيحين : ( الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول : لا إله إلا الله . وأدناها إماطة الأذي عن الطريق ) ، وفيهما أنه قال لوفد عبد القيس : ( آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمس ما غنمتم ) ، وإذا ذكر مع الإسلام ـ كما في حديث جبريل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن/الإيمان والإسلام والإحسان ـ فَرَّق بينهما، فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) ، إلى آخره . وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) ، فلما ذكرهما جميعًا ذكر أن الإيمان في القلب، والإسلام ما يظهر من الأعمال .(2/98)
وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب؛ لأنه متى ثبت الإيمان في القلب، والتصديق بما أخبر به الرسول وجب حصول مقتضي ذلك ضرورة؛ فإنه ما أَسَرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفَلَتَات لسانه، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة، فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر .
ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إليهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أولياء } [ المائدة : 81 ] ، وقوله : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية [ المجادلة : 22 ] ، ونحوها فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيمًا إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلابد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) ،/وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وفي الحديث : ( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه ) .
ولهذا كان الظاهر لازمًا للباطن من وجه وملزومًا له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزومًا، لا من جهة كونه لازمًا؛ فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه، والدليل يَطَّرِدُ ولا ينعكس، بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس .(2/99)
وتنازعوا في العلة هل يجب طردها، بحيث تبطل بالتخصيص والانتقاض ؟ والصواب أن لفظ العلة يعبر به عن العلة التامة، وهو مجموع ما يستلزم الحكم، فهذه يجب طردها، ويعبر به عن المقتضي للحكم الذي يتوقف اقتضاؤه على ثبوت الشروط، وانتفاء الموانع، فهذه إذا تخلف الحكم عنها لغير ذلك بطلت .
وكذلك تنازعوا في انعكاسها، وهو أنه هل يلزم من عدم الحكم عدمها ؟ فقيل : لا يجب انعكاسها؛ لجواز تعليل الحكم بعلتين . وقيل : يجب الانعكاس؛ لأن الحكم متى ثبت مع عدمها لم تكن مؤثرة فيه، بل كان غنيًا عنها، وعدم التأثير مبطل للعلة . وكثير من الناس يقول/ بأن عدم التأثير يبطل العلة، ويقول بأن العكس ليس بشرط فيها، وآخرون يقولون : هذا تناقض .
والتحقيق في هذا أن العلة إذا عُدِمت عُدِم الحكم المتعلق بها بعينه، لكن يجوز وجود مثل ذلك الحكم بعلة أخري، فإذا وجد ذلك الحكم بدون علة أخرى علم أنها عديمة التأثير وبطلت، وأما إذا وجد نظير ذلك الحكم بعلة أخرى كان نوع ذلك الحكم معللا بعلتين، وهذا جائز، كما إذا قيل في المرأة المرتدة : كفرت بعد إسلامها، فتقتل قياسًا على الرجل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدي ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه، أو زني بعد إحصانه، أو قتل نفسًا فقتل بها ) . فإذا قيل له لا تأثير لقولك : كفر بعد إسلامه، فإن الرجل يقتل بمجرد الكفر، وحينئذ فالمرأة لا تقتل بمجرد الكفر، فيقول : هذه علة ثابتة بالنص، وبقوله : ( من بَدَّل دينه فاقتلوه ) وأما الرجل فما قتلته لمجرد كفره، بل لكفره وجراءته؛ ولهذا لا أقتل من كان عاجزًا عن القتال؛ كالشيخ الهرم، ونحوه . وأما الكفر بعد الإسلام فعلة أخرى مبيحة للدم؛ ولهذا قتل بالردة من كان عاجزًا عن القتال كالشيخ الكبير .(2/100)
وهذا قول مالك وأحمد،وإن كان ممن يري أن مجرد الكفر/يبيح القتال كالشافعي؛ قال : الكفر وحده علة، والكفر بعد الإسلام علة أخري .
وليس هذا موضع بسط هذه الأمور، وإنما ننبه عليها .
والمقصود أن لفظ الإيمان تختلف دلالته بالإطلاق والاقتران، فإذا ذُكِر مع العمل أريد به أصل الإيمان المقتضي للعمل، وإذا ذُكر وحده دخل فيه لوازم ذلك الأصل .
وكذلك إذا ذكر بدون الإسلام كان الإسلام جزءًا منه، وكان كل مسلم مؤمنًا، فإذا ذكر لفظ الإسلام مع الإيمان تميز أحدهما عن الآخر، كما في حديث جبريل، وكما في قوله تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ الأحزاب : 35 ] ، ولهذا نظائر كلفظ المعروف والمنكر، والعدل والإحسان، وغير ذلك، ففي قوله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ الأعراف : 157 ] ، يدخل في لفظ المعروف كل مأمور به، وفي لفظ المنكر كل مَنهي عنه، وفي قوله تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ، جعل الفحشاء غير المنكر، وقوله : { وَيَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] جعل الفحشاء والبغي غير المنكر .
وإذا قيل : هذا من باب عطف الخاص على العام، والعام على الخاص/ فللناس هنا قولان : منهم من يقول : الخاص دخل في العام وخص بالذكر، فقد ذكر مرتين . ومنهم من يقول : تخصيصه بالذكر يقتضي أنه لم يدخل في العام، وقد يعطف الخاص على العام، كما في قوله : { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ } الآية [ الأحزاب : 7 ] ، وقد يعطف العام على الخاص، كما في قوله تعالى : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا } [ الأحزاب : 27 ] .(2/101)
وأصل الشبهة في الإيمان أن القائلين : أنه لا يتبعض قالوا : إن الحقيقة المركبة من أمور متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، كالعشرة المركبة من آحاد، فلو قلنا : إنه يتبعض لزم زوال بعض الحقيقة مع بقاء بعضها، فيقال لهم : إذا زال بعض أجزاء المركب تزول الهيئة الاجتماعية الحاصلة بالتركيب، لكن لا يلزم أن يزول سائر الأجزاء، والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة، والأعمال الواجبة الباطنة والظاهرة هو المجموع الواجب الكامل، وهذه الهيئة الاجتماعية . تزول بزوال بعض الأجزاء، وهذه هي المنفية في الكتاب والسنة في مثل قوله : ( لا يزني الزاني ) إلخ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الآيات [ الحجرات : 15 ] ، ولكن لا يلزم أن تزول سائر الأجزاء، ولا أن سائر الأجزاء الباقية لا تكون من الإيمان بعد زوال بعضه . كما أن واجبات الحج من الحج الواجب الكامل، وإذا زالت زال/ هذا الكمال ولم يزل سائر الحج .
وكذلك الإنسان الكامل يدخل في مسماه أعضاؤه كلها، ثم لو قطعت يداه ورجلاه لم يخرج عن اسم الإنسان، وإن كان قد زال منه بعض ما يدخل في الاسم الكامل .
وكذلك لفظ الشجرة والباب والبيت والحائط، وغير ذلك، يتناول المسمي في حال كمال أجزائه بعد ذهاب بعض أجزائه .
وبهذا تزول الشبهة التي أوردها الرازي ـ ومن اتبعه، كالأصبهاني وغيره ـ على الشافعي؛ فإن مذهبه في ذلك مذهب جمهور أهل الحديث والسلف، وقد اعترض هؤلاء بهذه الشبهة الفاسدة على السلف .(2/102)
والإيمان يتفاضل من جهة الشارع، فليس ما أمر الله به كل عبد هو ما أمر الله به غيره، ولا الإيمان الذي يجب على كل عبد يجب على غيره، بل كانوا في أول الإسلام يكون الرجل مؤمنا كامل الإيمان، مستحقًا للثواب إذا فعل ما أوجبه الله عليه ورسوله، وإن كان لم يقع منه التصديق المفصل بما لم ينزل من القرآن، ولم يصم رمضان، ولم يحج البيت، كما أن من آمن في زمننا هذا إيمانًا تاما، ومات قبل دخول وقت صلاة عليه مات مستكملًا للإيمان الذي وجب عليه، كما أنه مستحق للثواب على إيمانه ذلك .
/وأما بعد نزول ما نزل من القرآن وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله من الواجبات وتمكن من فعل ذلك فإنه لا يكون مستحقًا للثواب بمجرد ما كان يستحق به الثواب قبل ذلك، فلذلك يقول هؤلاء : لم يكن هذا مؤمنا بما كان به مؤمنا قبل ذلك، وهذا لأن الإيمان الذي شرع لهذا أعظم من الإيمان الذي شرع لهذا، وكذلك المستطيع الحج يجب عليه ما لا يجب على العاجز عنه، وصاحب المال يجب عليه من الزكاة ما لا يجب على الفقير، ونظائره متعددة .
وأما تفاصيله من جهة العبد؛ فتارة يقوم هذا من الإقرار والعمل بأعظم مما يقوم به هذا . وكل أحد يعلم أن ما في القلب من الأمور يتفاضل، حتى إن الإنسان يجد نفسه ـ أحيانًا ـ أعظم حبًا لله ورسوله وخشية لله، ورجاء لرحمته وتوكلًا عليه، وإخلاصًا منه في بعض الأوقات .
وكذلك المعرفة والتصديق تتفاضل في أصح القولين، وهذا أصح الروايتين عن أحمد، وقد قال غير واحد من الصحابة، كعمر بن حبيب الخَطْمِي وغيره : الإيمان يزيد وينقص، فإذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه .(2/103)
ولهذا سُنَّ الاستثناء في الإيمان، فإن كثيرًا من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم استثنوا في الإيمان، وآخرون أنكروا الاستثناء فيه،/وقالوا : هذا شك . والذين استثنوا فيه منهم من أوجبه، ومنهم من لم يوجبه، بل جَوَّز تركه باعتبار حالتين، وهذا أصح الأقوال، وهذان القولان في مذهب أحمد وغيره، فمن استثني لعدم علمه بأنه غير قائم بالواجبات كما أمر الله ورسوله فقد أحسن، وكذلك من استثني لعدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثني تعليقًا للأمر بمشيئة الله تعالى لا شكا، ومن جزم بما هو في نفسه في هذه الحال كمن يعلم من نفسه أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فجزم بما هو متيقن حصوله في نفسه فهو محسن في ذلك .
وكثير من منازعات الناس في مسائل الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام هي منازعات لفظية، فإذا فصل الخطاب زال الارتياب . والله ـ سبحانه ـ أعلم بالصواب .
********
الوجه السادس(2/104)
أن مباني الإسلام الخمس المأمور بها وإن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فإنه يقتل بتركها في الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا عند كثير منهم أو أكثر السلف وأما فعل المنهي عنه الذي لا يتعدى ضرره صاحبه فإنه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا إذا ناقض الإيمان لفوات الإيمان وكونه مرتدا أو زنديقا . وذلك أن من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الإسلام بني عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه . ومنهم من لا يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية أخرى عن أحمد كما دل عليه ظاهر القرآن في براءة وحديث ابن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولا بدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج . ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة إذا قاتل الإمام عليها كرواية عن أحمد . ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن أحمد . ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد . ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لإمكان الاستيفاء منه . وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين . ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم : أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام :
أحدها : إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق .(2/105)
والثاني : أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول : اعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه أو بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين . وكذلك أبو طالب كان مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن أن تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولا للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] وقال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق .
والثالث : أن يكون مقرا ملتزما، لكن تركها كسلا وتهاونا، أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا . وهنا قسم رابع وهو : أن يتركها ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع ؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرا ولا منكرا .(2/106)
وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فإن قلنا . يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص، بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا في هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضي إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها، فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لا بد من تفصيلها علما وعملا . وأما القاتل والزاني والمحارب فهؤلاء إنما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما في ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر أحد منهم . وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه : وإن لم يكن محاربا . فثبت أن الكفر والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه . وهذا الوجه قوي على مذهب الثلاثة : مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال : إنه لا يوجب قتل أحد على ترك واجب أصلا حتى الإيمان، فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة وأما المنهي عنه فيقتل القاتل والزاني المحصن والمحارب إذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله وإلى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من أن المرتد يقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وإن كان حرابه قد انقضى .(2/107)
الثاني : أن ما وجب فيه القتل إنما وجب على سبيل القصاص الذي يعتبر فيه المماثلة، فإن النفس بالنفس، كما تجب المقاصة في الأموال، فجزاء سيئة سيئة مثلها في النفوس والأموال والأعراض والأبشار، لكن إن لم يضر إلا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول، لأن الحق لهم كحق المظلوم في المال وإن قتله لأخذ المال كان قتله واجبا، لأجل المصلحة العامة التي هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال، ورد المال المسروق حق لصاحبه إن شاء أخذه وإن شاء تركه فخرجت هذه الصور عن النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة إلا الزنا وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر، لخفائه وصعوبة الحجة عليه .(2/108)
الثالث : أن العقوبة في الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره، فإن الدنيا ليست دار الجزاء وإنما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات في الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى : { مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [ المائدة : 32 ] وقالت الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } [ البقرة : 30 ] . فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني إسرائيل القتل بهما، ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم في ترك الإيمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل . فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين . وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد في أحد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة في مواضع . وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم إلا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجود الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة . وأما أحمد فالمبيح عنده أنواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان، والرهبان والعميان، والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور .(2/109)
وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه، فإنه إن كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد إحدى غايتي القتال في حقه وإن كان وثنيا : فإن أخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرا لا منفعة في حياته لنفسه - لأنه يزداد إثما - ولا للمؤمنين، فيكون قتله خيرا من إبقائه . وأما تارك الصلاة والزكاة : فإذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالإسلام ملتزم لهذه الأفعال فإذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه أو لأنها عنده من الغاية التي يمتد القتال إليها كالشهادتين فإنه لو تكلم بإحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما إذا لم ويفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة . فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون أن ترك المأمور به في الآخرة أعظم وأما في الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم .
********
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=401 - TOP#TOPفصل
وأما قول القائل : إنهم يقولون ذلك فيما يروي عن بعض الصحابة فهذا باب واسع والذي يلتزمه إنما كان من أقوال الصحابة فقال بعضهم بقول وقال بعضهم بخلافهم فقد يكون أحد القولين مخالفا للقياس الصحيح بل وللنص الصريح .(2/110)
والذي لا ريب فيه أنه حجة ما كان من سنة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفهم فيه فهذا لا ريب أنه حجة بل إجماع . وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) .
مثال ذلك حبس عمر وعثمان رضي الله عنهما للأرضين المفتوحة وترك قسمتها على الغانمين .(2/111)
فمن قال : إن هذا لا يجوز قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر وقال : إن الإمام إذا حبسها نقض حكمه لأجل مخالفة السنة فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين ; فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله لا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل يدل على عدم وجوب ذلك لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلا على عدم الوجوب ; فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة ; بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير ؟ فإنه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران ولم يأت أحد منهم يصالحه ولا أرسل إليهم أحدًا يصالحهم بل خرج أبو سفيان يتجسس الأخبار فأخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته أن يكون العباس أمنه فصار مستأمنا ثم أسلم فصار من المسلمين فكيف يتصور أن يعقد عقد صلح الكفار بعد إسلامه بغير إذن منهم ؟ مما يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الأمان بأسباب كقوله : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ) . فأمن من لم يقاتله فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك وأيضًا فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم طلقاء ; لأنه أطلقهم بعد القدرة عليهم كما يطلق الأسير فصاروا بمنزلة من أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره وأيضًا فإنه أذن في قتل جماعة منهم من الرجال والنساء . وأيضًا فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال في خطبته : ( إن مكة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ) .
ودخل مكة وعلى رأسه المغفر لم يدخلها بإحرام فلو كانوا قد صالحوه لم يكن قد أحل له شيء كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه ؟ وأيضًا فقد قاتلوا خالدًا وقتل طائفة منهم .(2/112)
وفي الجملة : من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عَنْوَة ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها ففتح خيبر عنوة وقسمها وفتح مكة عنوة ولم يقسمها فعلم جواز الأمرين .
والأقوال في هذا الباب ثلاثة : إما وجوب قسم العقار كقول الشافعي ; وإما تحريم قسمه ووجوب تحبيسه كقول مالك ; وإما التخيير بينهما كقول الأكثرين : الثوري وأبي حنيفة ; وأبي عبيد . وهو ظاهر مذهب أحمد وعنه كالقولين الأولين . ومن أشكل ما أشكل على الفقهاء من أحكام الخلفاء الراشدين : امرأة المفقود ; فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه لما أجل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج بعد ذلك ; ثم قدم المفقود خيره عمر بين امرأته وبين مهرها وهذا مما اتبعه فيه الإمام أحمد وغيره .
وأما طائفة من متأخرى أصحابه فقالوا : هذا يخالف القياس والقياس أنها باقية على نكاح الأول إلا أن نقول : الفرقة تنفذ ظاهرًا وباطنًا فهي زوجة الثاني والأول قول الشافعي والثاني قول مالك . وآخرون أسرفوا في إنكار هذا حتى قالوا : لو حكم حاكم بقول عمر لنقض حكمه ; لبعده عن القياس .
وآخرون أخذوا ببعض قول عمر وتركوا بعضه فقالوا : إذا تزوجت فهي زوجة الثاني وإذا دخل بها الثاني فهي زوجته ولا ترد إلى الأول .(2/113)
ومن خالف عمر لم يهتد إلى ما اهتدى إليه عمر ولم يكن له من الخبرة بالقياس الصحيح مثل خبرة عمر ; فإن هذا مبني على أصل وهو وقف العقود إذا تصرف الرجل في حق الغير بغير إذنه : هل يقع تصرفه مردودًا أو موقوفا على إجازته ؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد : أحدهما : الرد في الجملة على تفصيل عنه والرد مطلقا قول الشافعي . والثاني : أنه موقوف ; وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهذا في النكاح والبيع والإجارة وغير ذلك فظاهر مذهب أحمد أن المتصرف إذا كان معذورا لعدم تمكنه من الاستئذان وحاجته إلى التصرف وقف على الإجازة بلا نزاع وإن أمكنه الاستئذان أو لم يكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع فالأول مثل من عنده أموال لا يعرف أصحابها كالغصوب والعواري ونحوهما إذا تعذرت عليه معرفة أرباب الأموال ويئس منها ; فإن مذهب أبي حنيفة ومالك و أحمد أنه يتصدق به عنهم فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيرين بين الإمضاء وبين التضمين وهذا مما جاءت به السنة في اللقطة ; فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم إن جاء صاحبها كان مخيرًا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها فهو تصرف موقوف ; لكن تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف .(2/114)
وكذلك الموصى بما زاد على الثلث وصيته موقوفة على إجازة الورثة عند الأكثرين وإنما يخيرون عند الموت ففي المفقود المنقطع خبره إن قيل : إن امرأته تبقى إلى أن يعلم خبره : بقيت لا أيما ولا ذات زوج إلى أن تصير عجوزا وتموت ولم تعلم خبره والشريعة لم تأت بمثل هذا . فلما أجلت أربع سنين ولم ينكشف خبره حكم بموته ظاهرا . وإن قيل : إنه يسوغ للإمام أن يفرق بينهما للحاجة فإنما ذلك لاعتقاده موته وإلا فلو علم حياته لم يكن مفقودًا كما ساغ التصرف في الأموال التي تعذر معرفة أصحابها فإذا قدم الرجل تبين أنه كان حيا كما إذا ظهر صاحب المال والإمام قد تصرف في زوجته بالتفريق فيبقى هذا التفريق موقوفًا على إجازته فإن شاء أجاز ما فعله الإمام وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه .
ولو أذن للإمام أن يفرق بينهما ففرق وقعت الفرقة بلا ريب وحينئذ فيكون نكاح الأول صحيحًا . وإن لم يجز ما فعله الإمام كان التفريق باطلًا من حين اختار امرأته لا ما قبل ذلك بل المجهول كالمعدوم كما في اللقطة فإنه إذا ظهر مالكها لم يبطل ما تقدم قبل ذلك وتكون باقية على نكاحه من حين اختارها ; فتكون زوجته فيكون القادم مخيرا بين إجازة ما فعله الإمام ورده وإذا أجازه فقد أخرج البضع عن ملكه .(2/115)
وخروج البضع من ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي و أحمد في أنص الروايتين عنه وهو مضمون بالمسمى كما يقوله مالك و أحمد في إحدى الروايتين عنه والشافعي يقول : هو مضمون بمهر المثل والنزاع بينهم فيما إذا شهد شهود أنه طلق امرأته ورجعوا عن الشهادة فقيل : لا شيء عليهم : بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم وهو قول أبي حنيفة و أحمد في إحدى الروايتين ; اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأصحابه وقيل : عليهم مهر المثل وهو قول الشافعي وهو وجه في مذهب أحمد وقيل : عليهم المسمى وهو مذهب مالك وهو أشهر في نصوص أحمد وقد نص على ذلك فيما إذا أفسد نكاح امرأته برضاع أنه يرجع بالمسمى والكتاب والسنة دلا على هذا القول ففي سورة الممتحنة في قول الله تعالى : { وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا } [ الممتحنة : 10 ] . وقوله : { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا } [ الممتحنة : 11 ] .
وهذا المسمى دون مهر المثل وكذلك ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوج المختلعة أن يأخذ ما أعطاها ) . ولم يأمر بمهر المثل وهو إنما يأمر في المعاوضات المطلقة بالعدل وهو مبسوط في غير هذا الموضع فقصة عمر تنبني على هذا .(2/116)
والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة ولم يعلم أن أحدًا أنكر ذلك مثل قصة ابن مسعود في صدقته عن سيد الجارية، التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في ذمته؛ لما تعذرت عليه معرفته وكتصدق الغالّ بالمال المغلول لما تعذر قسمته بين الجيش ; وإقرار معاوية على ذلك . وغير ذلك من القضايا مع أن القول بوقف العقود مطلقًا هو الأظهر في الحجة وهو قول الجمهور وليس ذلك إضرارًا أصلاً بل صلاح بلا فساد فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره أو يبيع له أو يستأجر له أو يوجب له ثم يشاوره فإن رضي وإلا فلم يصبه ما يضره وكذلك في تزويج موليته ونحو ذلك .
وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه فمسألة المفقود هي مما يقف فيها تعريف الإمام على إذن الزوج إذا جاء كما يقف تصرف الملتقط على إذن المالك إذا جاء والقول برد المهر إليه لخروج امرأته من ملكه ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجع به : هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثاني ؟ وفيه روايتان عن أحمد . والصواب أنه إنما يرجع بمهره هو ; فإنه الذي استحقه وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حق له فيه .
وإذا ضمن الأول الثاني المهر فهل يرجع به عليها ؟ فيه روايتان : إحداهما : يرجع لأنها التي أخذته والثاني قد أعطاها المهر الذي عليه فلا يضمن مهرين ; بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فراق الأول ونكاح الثاني فعليها أن ترد المهر ; لأن الفرقة جاءت منها .
والثانية : لا يرجع ; لأن المرأة تستحق المهر بما استحل من فرجها والأول يستحق المهر لخروج البضع من ملكه فكان على الثاني مهران .(2/117)
وهذا المأثور عن عمر في [ مسألة المفقود ] هو عند طائفة من أئمة الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس حتى قال من أئمة الفقهاء فيه ما قال وهو مع هذا أصح الأقوال وأجراها على القياس وكل قول قيل سواه فهو خطأ فمن قال : إنها تعاد إلى الأول وهو لا يختارها ولا يريدها وقد فرق بينه وبينها تفريقًا سائغًا في الشرع وأجاز هو ذلك التفريق فإنه وإن كان الإمام تبين أن الأمر بخلاف ما اعتقده فالحق في ذلك للزوج فإذا أجاز ما فعله الإمام زال المحذور .
وأما كونها زوجة الثاني بكل حال مع ظهور زوجها وتبين الأمر بخلاف ما فعل فهو خطأ أيضًا فإنه لم يفارق امرأته وإنما فرق بينهما بسبب ظهر أنه لم يكن كذلك وهو يطلب امرأته فكيف يحال بينهما ؟ وهو لو طلب ماله أو بدله رد إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله أعز عليه من ماله ؟ وإن قيل : تعلق حق الثاني بها قيل : حقه سابق على حق الثاني وقد ظهر انتقاض السبب الذي به استحق الثاني أن تكون زوجة له وما الموجب لمراعاة حق الثاني دون حق الأول .
فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإذا ظهر صواب الصحابة في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي فلأن يكون الصواب معهم فيما وافقهم فيه هؤلاء بطريق الأولى وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها واعتبر هذا بمسائل الأيمان بالنذر والعتق والطلاق وغير ذلك ومسائل تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك وقد بينت فيما كتبته أن المنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال قضاء وقياسا وعليه يدل الكتاب والسنة وعليه يدل القياس الجلي وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف للنصوص .(2/118)
وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن الملاعنة ومسألة ميراث المرتد . وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال المنقولة عن الصحابة . وإلى ساعتي هذه ما علمت قولا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا وكان القياس معه لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده ; وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد ; وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ; وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة ; والعدل التام . والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .
وسئل شيخ الإسلام عن عظام الميتة وحافرها، وقرنها، وظفرها، وشعرها، وريشها وأنفحتها : هل ذلك كله نجس أم طاهر ؟ أم البعض منه طاهر والبعض نجس ؟
فأجاب :
أما عظم الميتة وقرنها، وظفرها، وما هو من جنس ذلك ـ كالحافر ونحوه، وشعرها وريشها، ووبرها ـ ففي هذين النوعين للعلماء ثلاثة أقوال :
أحدها : نجاسة الجميع؛ كقول الشافعي في المشهور عنه، وذلك رواية عن أحمد .
والثاني : أن العظام ونحوها نجسة، والشعور ونحوها طاهرة . وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد .
والثالث : أن الجميع طاهر؛ كقول أبي حنيفة، وهو قول في مذهب مالك وأحمد .
وهذا القول هو الصواب؛ وذلك لأن الأصل فيها الطهارة، ولا دليل على النجاسة .
وأيضًا، فإن هذه الأعيان هي من الطيبات ليست من الخبائث، فتدخل في آية التحليل؛ وذلك لأنها لم تدخل فيما حرمه الله من الخبائث لا لفظًا ولا معني؛ فإن الله ـ تعالى ـ حرم الميتة، وهذه الأعيان لا تدخل فيما حرمه الله لا لفظًا ولا معني .(2/119)
أما اللفظ فلأن قوله ـ تعالى ـ : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [ المائدة : 3 ] ، لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها؛ وذلك؛ لأن الميت ضد الحي، والحياة نوعان : حياة الحيوان، وحياة النبات . فحياة الحيوان خاصتها الحس والحركة الإرادية . وحياة النبات خاصتها النمو والاغتذاء . وقوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية؛ فإن الشجر والزرع إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين، وقد قال تعالى : {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [ النحل : 65 ] ، وقال : {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [ الحديد : 17 ] ، فموت الأرض لا يوجب نجاستها باتفاق المسلمين، وإنما الميتة المحرمة : ما فارقها الحس والحركة الإرادية . وإذا كان كذلك فالشعر حياته من جنس حياة النبات، لا من جنس حياة الحيوان؛ فإنه ينمو ويغتذي ويطول كالزرع، وليس فيه حس ولا يتحرك بإرادته، فلا تحله الحياة الحيوانية حتي يموت بمفارقتها فلا وجه لتنجيسه .
وأيضًا، فلو كان الشعر جزءًا من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم يجبون أسنمة الإبل واليات الغنم ؟ فقال : ( ما أبين من البهيمة وهي حية فهو ميت ) . رواه أبو داود وغيره . وهذا متفق عليه بين العلماء، فلو كان حكم الشعر حكم السنام والالية لما جاز قطعه في حال الحياة، ولا كان طاهرًا حلالاً . فلما اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان طاهرًا حلالاً، علم أنه ليس مثل اللحم .
وأيضًا، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي شعره لما حلق رأسه للمسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم يستنجي ويستجمر . فمن سوي بين الشعر والبول والعذرة فقد أخطأ خطأ بينًا .(2/120)
وأما العظام ونحوها، فإذا قيل : إنها داخلة في الميتة لأنها تحس وتألم، قيل لمن قال ذلك : أنتم لم تأخذوا بعموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب والخنفساء لا ينجس عندكم وعند جمهور العلماء، مع أنها ميتة موتًا حيوانيًا . وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ) . ومن نجس هذا قال في أحد القولين : إنه لا ينجس المائعات الواقع فيها لهذا الحديث .
وإذا كان كذلك، علم أن علة نجاسة الميتة إنما هو احتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يحتبس فيه الدم، فلا ينجس . فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجيس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركًا بالإرادة إلا على وجه التبع . فإذا كان الحيوان الكامل الحساس المتحرك بالإرادة لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل ؟(2/121)
ومما يبين صحة قول الجمهور : أن الله ـ سبحانه ـ إنما حرم علينا الدم المسفوح، كما قال تعالى : {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [ الأنعام : 145 ] ؛ فإذا عفي عن الدم غير المسفوح ـ مع أنه من جنس الدم ـ علم أنه ـ سبحانه ـ فرق بين الدم الذي يسيل وبين غيره؛ ولهذا كان المسلمون يضعون اللحم في المرق وخطوط الدم في القدور بيِّن، ويأكلون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبرت بذلك عائشة، ولولا هذا لاستخرجوا الدم من العروق كما يفعل اليهود . والله ـ تعالى ـ حرم ما مات حتف أنفه أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم ما صيد بعرض المعراض، وقال : ( إنه وقيذ ) دون ما صيد بحده . والفرق بينهما إنما هو سفح الدم، فدل على أن سبب التنجيس هو احتقان الدم واحتباسه، وإذا سفح بوجه خبيث بأن يذكر عليه غير اسم الله، كان الخبث هنا من جهة أخري، فإن التحريم يكون تارة لوجود الدم، وتارة لفساد التذكية؛ كذكاة المجوسي والمرتد، والذكاة في غير المحل .
وإذا كان كذلك، فالعظم والقرن والظفر والظلف ـ وغير ذلك ـ ليس فيه دم مسفوح، فلا وجه لتنجيسه . وهذا قول جمهور السلف . قال الزهري : كان خيار هذه الأمة يمتشطون بأمشاط من عظام الفيل، وقد روي في العاج حديث معروف، لكن فيه نظر ليس هذا موضعه، فإنا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك .(2/122)
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شاة ميمونة : ( هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ؟ ! ) قالوا : إنها ميتة . قال : ( إنما حرم أكلها ) . وليس في صحيح البخاري ذكرالدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، ولكن ذكره ابن عُيَيْنْة، ورواه مسلم في صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك وأشار إلى غلط ابن عُُيَينة فيه، وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث، وحينئذ فهذا النص يقتضي جواز الانتفاع بها بعد الدبغ بطريق الأولي، لكن إذا قيل : إن الله حرم بعد ذلك الانتفاع بالجلود حتي تدبغ، أو قيل : إنها لا تطهر بالدباغ، لم يلزم تحريم العظام ونحوها؛ لأن الجلد جزء من الميتة فيه الدم كما في سائر أجزائها، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل دباغه ذكاته؛ لأن الدباغ ينشف رطوباته؛ فدل على أن سبب التنجيس هو الرطوبات، والعظم ليس فيه رطوبة سائلة، وما كان فيه منها فإنه يجف وييبس، وهو يبقي ويحفظ أكثر من الجلد، فهو أولي بالطهارة من الجلد .
والعلماء تنازعوا في الدباغ : هل يطهر ؟
فذهب مالك وأحمد ـ في المشهور عنهما ـ : أنه لا يطهر .
ومذهب أبي حنيفة والشافعي والجمهور : أنه يطهر . وإلى هذا القول رجع أحمد، كما ذكر ذلك عنه الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه .
وحديث ابن عُكَيْم يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن ينتفعوا من الميتة بإهاب أو عصب، بعد أن كان أذن لهم في ذلك، لكن هذا قد يكون قبل الدباغ فيكون قد أرخص، فإن حديث الزهري الصحيح يبين أنه كان قد رخص في جلود الميتة قبل الدباغ، فيكون قد أرخص لهم في ذلك، ثم لما نهى عن الانتفاع بها قبل الدباغ نهاهم عن ذلك، ولهذا قال طائفة من أهل اللغة : إن الإهاب اسم لما لم يدبغ ولهذا قرن معه العصب، والعصب لا يدبغ .
********(2/123)
وقد ثبت في الصحيحين ـ أيضاً ـ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع في صلاة الصبح شهراً إذا قال : ( سمع الله لمن حمده ) ، يقول في قنوته : ( اللهم نج الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة بن هشام ! اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) قال أبوهريرة : ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم بعد، فقلت : أري رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم، قال : فقيل : أو ما تراهم قد قدموا ؟
وهذا الحديث فيه أنواع من الفقه،فإن أبا هريرة لم يصل خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد خيبرـ وخيبر بعد الحديبية ـ وكانت الهدنة التي بينه وبين المشركين في الحديبية على ألا يدع أحداً منهم يهاجر اليه، ولا يرد اليه من ذهب مرتداً منه اليهم، فهؤلاء وأمثالهم كانوا من المستضعفين بمكة الذين قهرهم أهلوهم، والمسلمون كلهم من بني مخزوم، وهم بنو عبد مناف أشرف قبائل قريش، وبنو مخزوم كانوا هم الذين ينادون عبد مناف، والمحاسدة التي بينهم هي إحدي ما منعت أشرافهم ـ كالوليد وأبي جهل وغيرهما ـ من الإسلام، فلما قدم بعد الحديبية من قدم من المهاجرين، ولحقوا بسيف البحر على الساحل ـ كأبي بصير، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجرهم بالشرط، فصاروا بأيدي أنفسهم بالساحل يقطعون على أهل مكة، حتى أرسل أهل مكة حينئذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يأذن لهم في المقام عنده ليأمنوا قطعهم، فقدموا حينئذ أولئك المستضعفون، فترك النبي صلى الله عليه وسلم القنوت .
وَسُئِلَ شَيّخ الإسّلام ـ رَحمه الله :(2/124)
إذا مس يد الصبي الأمرد : فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء ؟ وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن ؟ وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة : إن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة ؟ وإذا قال لهم أحد : هذا النظر حرام، يقول : أنا إذا نظرت إلى هذا أقول : سبحان الذي خلقه، لا أزيد على ذلك ؟
فأجاب :
الحمد للّه، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره .
أحدهما : أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء . وهو المشهور من مذهب مالك، ذكره القاضى أبو يعلى في شرح المذهب .
والثاني : أنه لا ينقض الوضوء، وهو المشهور من مذهب الشافعي .
والقول الأول أظهر، فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل : كالصيام والإحرام والاعتكاف، ويوجب الغسل كما يوجبه هذا، فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا . فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء .
والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول : إنه لم يخلق محلا لذلك، فيقال له : لا ريب أنه لم يخلق لذلك وأن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات، لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء، فإن وطئ في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء، مع أن نُفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة، ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة، وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين ـ كمالك وأحمد وغيرهما ـ كما يراعى مثل ذلك في الإحرام والاعتكاف وغير ذلك . وعلى هذا القول، فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم، حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوؤه : فكذلك الأمرد .(2/125)
وأما الشافعي ـ وأحمد في رواية ـ فيعتبر المظنة، وهو : أن النساء مظنة الشهوة فينتقض الوضوء سواء بشهوة أو بغير شهوة، ولهذا لا ينقض لمس المحارم، لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة، وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة .
والتلذذ بمس الأمرد كمصافحته ونحو ذلك،حرام بإجماع المسلمين . كما يحرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية، بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية، كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطى أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية، فيجب قتل الفاعل والمفعول به، سواء كان أحدهما محصنًا أو لم يكن . وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن، كما جاء ذلك في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم، وقتله بالرجم كما قتل الله قوم لوط بالرجم، وبذلك جاءت الشريعة في قتل الزانى : أنه يرجم، فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك والغامدية، واليهوديين؛ والمرأة التي أرسل إليها أنيسًا وقال : ( اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) فاعترفت فرجمها .
والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو شهوة التلذذ بالنظر، فلو نظر إلى أمه وأخته وابنته بتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية : كان معلوما لكل أحد أن هذا حرام، فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة .(2/126)
وقول القائل : إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله : إن النظر إلى وجوه النساء أو النظر إلى وجوه محارم الرجل ـ كبنت الرجل وأمه وأخته ـ عبادة،ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة كان بمنزلة من جعل الفواحش عبادة، قال تعالى : {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ الأعراف : 28 ] .
ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صورة المرد : فهل يقول مسلم : إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور نساء العالم وصور محارمه، ويقول : إن ذلك عبادة ؟ بل من جعل مثل هذا النظر عبادة، فإنه كافر مرتد يجب أن يستتاب فإن تاب، وإلا قتل، وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفواحش عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر بالحشيشة عبادة . فمن جعل المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئًا من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام عبادة : فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . وهو مُضاهٍ للمشركين الذين {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ الأعراف : 28 ] .
وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون : لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر عنهم ما ذكر فكيف بمن يجعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة ؟ !
والله ـ سبحانة ـ قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان : غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة .(2/127)
فالأول : كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ) ، ويجب على الإنسان أن يستر عورته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حَيّدَة : ( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ) ، قلت : فإذا كان أحدنا مع قومه ؟ قال : ( إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها ) ، قلت : فإذا كان أحدنا خاليًا ؟ قال : ( فالله أحق أن يستحيى منه من الناس ) . ويجوز أن يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستره، فله أن يغتسل عريانًا كما اغتسل موسى عريانًا وأيوب، وكما في اغتساله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح واغتساله في حديث ميمونة .(2/128)
وأما النوع الثاني من النظر : كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير وعلى صاحبها الحد . وتلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان عليه التعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب . وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم لشهوة، والخالق ـ سبحانه ـ يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذى اللحية، ولا خلق النساء بأعجب في قدرته من خلق الرجال، بل تخصيص الإنسان التسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره : كتخصيصه التسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل، وما ذاك لأنه دل على عظمة الخالق عنده، ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله، وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه بما يحصل في نفسه من الهوى . كما أن النسوة لما رأين يوسف {أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [ يوسف : 31 ] .(2/129)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) . وإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به ؟ وقد قال تعالى : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [ طه : 131 ] ، وقال في المنافقين : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ إني يُؤْفَكُونَ} [ المنافقون : 4 ] ، فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم لما فيهم من البهاء والرواء والزينة الظاهرة ـ وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة ـ قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن ينظر إليه لشهوة ؟ وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى؛ وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن . وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه كما ينظر إلى الجبل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار، فهذا ـ أيضًا ـ إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال، فهو مذموم؛ لقوله تعالى : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [ طه : 131 ] .
وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين وإنما فيه راحة النفس فقط ـ كالنظر إلى الأزهار ـ فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق .(2/130)
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة أو كان نظرا بشهوة الوطء . وفَرق بين ما يجده الإنسان عند نظره الأشجار والأزهار وما يجده عند نظره النسوان والمردان؛ فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي فصار النظر إلى المرد ثلاثة أقسام :
أحدها : ما يقرن به الشهوة فهو حرام بالاتفاق .
والثاني : ما يجزم أنه لا شهوة معه : كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن وابنته الحسنة وأمه، فهذا لا يقرن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم .
وعلى هذا، من لا يميل قلبه إلى المرد ـ كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة ـ فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق بين هذا الوجه وبين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبى أجنبى، ولا يخطر بقلبه شيء من الشهوة لأنه لم يعتد ذلك وهو سليم القلب من مثل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات وهن متكشفات الرؤوس وتخدم الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجال أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس، في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين، كان هذا من باب الفساد .
وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزمنة التي يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك .
وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر، وهو : النظر إليه لغير شهوة لكن مع خوف ثورانها . فيه وجهان في مذهب أحمد، أصحهما ـ وهو المحكي عن نص الشافعي ـ أنه لا يجوز . والثاني : يجوز لأن الأصل عدم ثورانها فلا يحرم بالشك، بل قد يكره .(2/131)
والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها؛ ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببًا للفتنة فإنه لا يجوز . فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النظر الذي يفضى إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة .
وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز .
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه وقال : إني لا أنظر لشهوة، كذب في ذلك؛ فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك، وأما نظرة الفجأة فهى عفو إذا صرف بصره، كما ثبت في الصحيح عن جرير قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال : ( اصرف بصرك ) . وفي السنن أنه قال لعلي ـ رضي الله عنه ـ : ( يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية ) .
وفي الحديث الذي في المسند وغيره : ( النظر سهم مسموم من سهام إبليس ) . وفيه : ( من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة ) أو كما قال . ولهذا يقال : إن غض البصر عن الصورة التي نهى عن النظر إليها ـ كالمرأة والأمرد الحسن ـ يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر :(2/132)
إحداها : حلاوة الإيمان ولذته التي هى أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئًا للَّه عوضه الله خيرًا منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لاسيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع؛ ولهذا قال بعض التابعين : ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه ! وقال بعضهم : اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى .
ومازال أئمة العلم والدين ـ كشيوخ الهدى وشيوخ الطريق ـ يوصون بترك صحبة الأحداث حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال : صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث وقال بعضهم : ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء الأنتان .
ثم النظر يؤكد المحبة، فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غرامًا للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيمًا، والمتيم المعبد، وتيم الله : عبد الله، فيبقى القلب عبدًا لمن لا يصلح أن يكون أخا بل ولا خادمًا، وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص للَّه كما قال تعالى في حق يوسف : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [ يوسف : 24 ] ، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف ـ عليه السلام ـ مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة ـ عصمه الله بإخلاصه لله؛ تحقيقًا لقوله : {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ الحجر : 39، 40 ] ، قال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [ الحجر : 42 ] ، والغي : هو اتباع الهوى .(2/133)
وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى . ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة كابن سينا وذويه، أو من الفرس كما يذكر عن بعضهم؛ أو من جهال المتصوفة، فإنهم أهل ضلال وغي، فهم مع مشاركة اليهود في الغي والنصارى في الضلال زادوا على الأمتين في ذلك، فإن هذا ـ وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتطليق نفسه وتهذيب أخلاقه، وللمعشوق من الشفاء في مصالحه وتعليمه وتأديبه وغير ذلك ـ فمضرة ذلك أضعاف منفعته . وأين إثم ذلك من منفعته ؟ وإنما هذا كما يقال : إن في الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل له من التلذذ والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك ! وكما يقال : إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية . وقد قال في الخمر والميسر : {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [ البقرة : 219 ] ، وهذا قبل التحريم . دع ما قاله عند التحريم وبعده .
وباب التعلق بالصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش وهو من باطن الإثم، قال تعالى : {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [ الأنعام : 120 ] ، وقال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [ الأعراف : 33 ] ، وقد قال : {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ الأعراف : 28 ] .(2/134)
وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحًا وأثنى عليه فقد خرج من إجماع المسلمين، بل واليهود والنصارى، بل وعما عليه عقلاء بنى آدم من جميع الأمم، وهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ القصص : 50 ] ، وقد قال تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [ النازعات : 40، 41 ] ، وقال تعالى : {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ ص : 26 ] .(2/135)
وأما من نظر إلى المرد ظانًا أنه ينظر إلى الجمال الإلهى وجعل هذا طريقًا له إلى الله ـ كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة ـ فقوله هذا أعظم كفرًا من قول عباد الأصنام ومن كفر قوم لوط، فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين الذين يجب قتلهم بإجماع كل الأمة؛ فإن عُباد الأصنام قالوا : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [ الزمر : 3 ] ، وهؤلاء يجعلون الله موجودًا في نفس الأصنام وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه في المخلوقات أنها دالة عليه وآيات لهم؛ بل يريدون أنه ـ سبحانه ـ هو ظهر فيها وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء في الزجاجة، والزبد في اللبن، والزيت في الزيتون، والدهن في السمسم؛ ونحو ذلك مما يقتضى حلول نفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده بها في جميع المخلوقات، نظير ما قالته النصارى في المسيح خاصة، يجعلون المرد مظاهر الجمال فيقررون هذا الشرك الأعظم طريقًا إلى استحلال الفواحش، بل إلى استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل متأخريهم ـ التلمسإني ـ : إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمى وأختى وابنتى : تكون هذه حلالا وهذه حراما ؟ فقال الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام . فقلنا : حرام عليكم !
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص : إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة كقول الغالية في على، أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور كصور المرد، ويقول أحدهم : أنا أنظر إلى صفات خالقى وأشهدها في هذه الصورة .(2/136)
والكفر في هذا القول أبين من أن يخفي على من يؤمن باللَّه ورسوله، ولو قال مثل هذا الكلام في نبى كريم، لكان كافرًا، فكيف إذا قاله في صبى أمرد ؟ فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها . وقد قال تعالى : {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [ آل عمران : 80 ] ، فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون للَّه كفارًا : فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا مع قوله : إن الله فيها أو متحد بها ؟ فوجودها وجوده ونحو ذلك من المقالات ؟
وأما الفائدة الثانية في غض البصر فهو : أنه يورث نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [ الحجر : 27 ] ، فالتعلق في الصور يوجب فساد العقل وعمى البصيرة وسكر القلب، بل جنونه كما قيل :
سكران : سكر هوى، وسكر مدامة ** فمتى إفاقة من به سكران ؟
وقيل :
قالوا : جننت بمن تهوى ؟ فقلت لهم : ** العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ** وإنما يصرع المجنون في الحين
وذكر ـ سبحانه ـ آية النور عقيب آيات غض البصر فقال : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [ النور : 35 ] ، وكان شاه بن شجاع الكِرْمإني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول : من عَمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة خامسة وهى أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة . والله ـ تعالى ـ يجزى العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه، فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف ونحو ذلك مما ينال بصيرة القلب .(2/137)
والفائدة الثالثة : قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان النصرة مع سلطان الحجة . وفي الأثر : الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل ـ ذل النفس وضعفها ومهانتها ـ ما جعله الله لمن عصاه فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه، قال تعالى : {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [ المنافقون : 8 ] ، وقال تعالى : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ آل عمران : 139 ] .
ولهذا كان في كلام الشيوخ : الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله . وكان الحسن البصرى يقول : وإن هَمْلَجَت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه . ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه . وفي دعاء القنوت : ( إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت ) .
والصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحبون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث، وفي الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق للمخلوق، ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فتظاهر بدعوى الولاية للَّه وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة للَّه وأهل النفاق والبهتان .
والله ـ تعالى ـ يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة . والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=432 - TOP#TOPفصل(2/138)
فأما المرتد، فلا يجب عليه قضاء ما تركه في الردة من صلاة وزكاة وصيام في المشهور، ولزمه ما تركه قبل الردة في المشهور . وقيل : يجب عليه القضاء، وقيل : لا يجب في الصورتين . ويحكي ثلاث روايات عن أحمد . وأما ما فعله من المحرمات : فإن كان في قبضة المسلمين، ضَمِنَ ما أتلفه من نفس ومال، وإن كان في طائفة ممتنعة ففيه روايات .
********
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=432 - TOP#TOPفَصْل
ولكن النظر في فصلين :
أحدهما : من ترك الواجب، أو فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه، ولكن جهلاً وإعراضًا عن طلب العلم الواجب عليه ـ مع تمكنه منه ـ أو أنه سمع إيجاب هذا، وتحريم هذا، ولم يلتزمه إعراضًا لا كفرًا بالرسالة، فهذان نوعان يقعان كثيرًا من ترك طلب العلم الواجب عليه، حتى ترك الواجب وفعل المحرم، غير عالم بوجوبه وتحريمه أو بلغه الخطاب في ذلك، ولم يلتزم اتباعه، تعصبًا لمذهبه . أو اتباعًا لهواه، فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي . كما ترك الكافر الإسلام .
فإن الاعتقاد هو الإقرار بالتصديق، والالتزام . فقد يترك التصديق/والالتزام جميعًا؛ لعدم النظر الموجب للتصديق، وقد يكون مصدقًا بقلبه لكنه غير مقر ولا ملتزم، اتباعًا لهواه، فهل يكون حال هذا إذا تاب وأقر بالوجوب والتحريم تصديقًا والتزامًا، بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب ما قبلها، كما أن الإسلام يجب ما قبله ؟ فهذه الصورة أبعد من التي قبلها، فإن من أوجب القضاء على التارك المتأول، وفسخ العقد والقبض على المتأول المعذور، فعلي هذا المذنب بترك الاعتقاد الواجب أولى .
وأما على القول الذي قررناه وجزمنا بصحته، فهذا فيه نظر . قد يقال : هذا عاص ظالم بترك التعلم، والالتزام، فلا يلزم من العفو عن المخطئين في تأويله العفو عن هذا .(2/139)
وقد يقال وهو أظهر في الدليل والقياس : ليس هذا بأسوأ حال من الكافر المعاند الذي ترك استماع القرآن كبرًا وحسدًا وهوي، أو سمعه وتدبره واستيقنت نفسه أنه حق من عند الله ، ولكن جحد ذلك ظلمًا وعلوًا : كحال فرعون، وأكثر أهل الكتاب، والمشركين، الذين لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .
والتوبة كالإسلام، فإن الذي قال : ( الإسلام يهدم ما كان قبله ) هو الذي قال : ( التوبة تهدم ما كان قبلها ) وذلك في حديث واحد/ من رواية عمرو بن العاص رواه أحمد ومسلم .
فإذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي، والحسنات يذهبن السيئات، ولأن في عدم العفو تنفير عن الدخول، لما يلزم الداخل فيه من الآصار، والأغلال الموضوعة على لسان هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا المعني موجود في التوبة عن الجهل والظلم، فإن الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات، وفي عدم العفو تنفير عظيم عن التوبة، وآصار ثقيلة وأغلال عظيمة على التائبين .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبدل لعبده التائب بدل كل سيئة حسنة ) ، على ظاهر قوله : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] . فإذا كانت تلك التي تاب منها صارت حسنات، لم يبق في حقه بعد التوبة سيئة أصلاً، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه، ويصير ذلك الترك من باب المعفو عنه، فلا يجعل تاركًا لواجب، ولا فاعلاً لمحرم، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة الشرعية . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها ) .(2/140)
واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدًا : هل يقضيه ؟ / فقال الأكثرون : يقضيه، وقال بعضهم : لا يقضيه، ولا يصح فعله بعد وقته كالحج . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها : ( فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة ) .
ودل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها . ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء، لكن المضيع لوقتها كان ملتزمًا لوجوبها، وإنما ضيع بعض حقوقها وهو الوقت، وأتي بالفعل . فأما من لم يعلم وجوبها عليه جهلاً وضلالاً، أو علم الإيجاب ولم يلتزمه، فهذا إن كان كافرًا، فهو مرتد، وفي وجوب القضاء عليه الخلاف المتقدم لكن هذا شبيه بكفر النفاق .
فالكلام في هذا متصل بالكلام فيمن أقام الصلاة وآتي الزكاة نفاقًا أو رياءً، فإن هذا يجزئه في الظاهر، ولا يقبل منه في الباطن، قال الله تعالي : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 9 ] ، وقال : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] ، وقال تعالي : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون : 4 ـ 7 ] ، وقال تعالي : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] .
وقد اختلف أصحابنا في الإمام إذا أخذ الزكاة قهرًا : هل تجزئه في الباطن ؟ على وجهين ـ مع أنها لا تستعاد منه ـ :
أحدهما : لا تجزيه لعدم النية مع القدرة عليها .(2/141)
والثاني : أن نية الإمام تقوم مقام نية الممتنع؛ لأن الإمام نائب المسلمين في أداء الحقوق الواجبة عليهم . والأول أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذها منهم بإعطائهم إياها، وقد صرح القرآن بنفي قبولها؛ لأنهم ينفقون وهم كارهون . فعلم أنه إن أنفق مع كراهة الإنفاق، لم تقبل منه، كمن صلي رياء .
لكن لو تاب المنافق والمرائي : فهل تجب عليه في الباطن الإعادة ؟ أو تنعطف توبته على ما عمله قبل ذلك فيثاب عليه، أو لا يعيد ولا يثاب .
أما الإعادة فلا تجب على المنافق قطعًا؛ لأنه قد تاب من المنافقين جماعة عن النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة . وقد قال تعالي : { وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [ التوبة : 74 ] .
وأيضًا، فالمنافق كافر في الباطن، فإذا آمن فقد غفر له ما قد سلف، فلا يجب عليه القضاء، كما لا يجب على الكافر المعلن إذا أسلم .
وأما ثوابه على ما تقدم مع التوبة : فيشبه الكافر إذا عمل صالحًا في كفره، ثم أسلم هل يثاب عليه ؟ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام : ( أسلمت على ما سلف لك من خير ) .
وأما المرائي إذا تاب من الرياء مع كونه كان يعتقد الوجوب، فهو شبيه بالمسألة التي نتكلم فيها، وهي مسألة من لم يلتزم أداء الواجب ـ وإن لم يكن كافرًا في الباطن ـ ففي إيجاب القضاء عليه تنفير عظيم عن التوبة .(2/142)
فإن الرجل قد يعيش مدة طويلة لا يصلي ولا يزكي، وقد لا يصوم ـ أيضًا ـ ولا يبالي من أين كسب المال : أمن حلال ؟ أم من حرام ؟ ولا يضبط حدود النكاح والطلاق، وغير ذلك . فهو في جاهلية، إلا أنه منتسب إلي الإسلام، فإذا هداه الله وتاب عليه، فإن أوجب عليه قضاء جميع ما تركه من الواجبات، وأمر برد جميع ما/ اكتسبه من الأموال، والخروج عما يحبه من الإبضاع إلي غير ذلك صارت التوبة في حقه عذابًا، وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام، الذي كان عليه، فإن توبته من الكفر رحمة، وتوبته وهو مسلم عذاب .
وأعرف طائفة من الصالحين من يتمني أن يكون كافرًا ليسلم فيغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه، أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة، وهو شبيه بالمؤيس للناس من رحمة الله .
ووضع الآصار ثقيلة، والأغلال عظيمة على التائبين الذين هم أحباب الله ، فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين . والله أفرح بتوبة عبده من الواجد لماله بعد قوامه، بعد اليأس منه .
فينبغي لهذا المقام أن يحرر، فإن كفر الكافر لم يسقط عنه ما تركه من الواجبات، وما فعله من المحرمات، لكون الكافر كان معذورًا، بمنزلة المجتهد فإنه لا يعذر بلا خلاف، وإنما غفر له لأن الإسلام توبة، والتوبة تجب ما قبلها، والتوبة توبة من ترك تصديق وإقرار، وترك عمل وفعل . فيشبه ـ والله أْعلم ـ أن يجعل حال هؤلاء في جاهليتهم كحال غيرهم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=432 - TOP#TOPفَصْل
فالأحوال المانعة من وجوب القضاء للواجب والترك للمحرم : الكفر الظاهر، والكفر الباطن، والكفر الأصلي، وكفر الردة، والجهل الذي يعذر به لعدم بلوغ الخطاب، أو لمعارضة تأويل باجتهاد أو تقليد .(2/143)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=433 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه الله ـ عن تارك الصلاة من غير عذر، هل هو مسلم في تلك الحال ؟
فأجاب :
أما تارك الصلاة : فهذا إن لم يكن معتقدًا لوجوبها، فهو كافر بالنص والإجماع، لكن إذا أسلم ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة، أو وجوب بعض أركانها : مثل أن يصلي بلا وضوء، فلا يعلم أن الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلي مع الجنابة، فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة، فهذا ليس بكافر، إذا لم يعلم .
لكن إذا علم الوجوب : هل يجب عليه القضاء ؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد ومالك وغيرهما . قيل : يجب عليه القضاء، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد . وقيل : لا يجب عليه /القضاء، وهذا هو الظاهر .
وعن أحمد في هذا الأصل روايتان منصوصتان فيمن صلى في معاطن الإبل، ولم يكن علم بالنهي، ثم علم، هل يعيد ؟ على روايتين . ومن صلى ولم يتوضأ من لحوم الإبل، ولم يكن علم بالنهي، ثم علم . هل يعيد ؟ على روايتين منصوصتين .
وقيل : عليه الإعادة إذا ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها في دار الإسلام دون دار الحرب، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة . والصائم إذا فعل ما يفطر به جاهلاً بتحريم ذلك : فهل عليه الإعادة ؟ على قولين في مذهب أحمد . وكذلك من فعل محظورًا في الحج جاهلاً .(2/144)
وأصل هذا : أن حكم الخطاب، هل يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه ؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره . قيل : يثبت . وقيل : لا يثبت . وقيل : يثبت المبتدأ دون الناسخ . والأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك، ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ، لقوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ولقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، ومثل هذا في القرآن متعدد، بَيَّن ـ سبحانه ـ أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول .
ومن علم أن محمدًا رسول الله فآمن بذلك، ولم يعلم كثيرًا مما/ جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ، فإنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلاغ أولى وأحرى . وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه في أمثال ذلك .
فإنه قد ثبت في الصحاح أن طائفة من أصحابه ظنوا أن قوله تعالى : { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } [ البقرة : 187 ] هو الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فكان أحدهم يربط في رجله حبلاً، ثم يأكل حتى يتبين هذا من هذا فبين النبي صلى الله عليه وسلم : أن المراد بياض النهار، وسواد الليل، ولم يأمرهم بالإعادة .
وكذلك عمر بن الخطاب وعمار أجنبا، فلم يصل عمر حتى أدرك الماء، وظن عمار أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء فتمرغ كما تمرغ الدابة ولم يأمر واحدًا منهم بالقضاء، وكذلك أبو ذر بقي مدة جنبًا لم يصل، ولم يأمره بالقضاء، بل أمره بالتيمم في المستقبل .
وكذلك المستحاضة قالت : إني أُسْتَحَاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم، فأمرها بالصلاة زمن دم الاستحاضة، ولم يأمرها بالقضاء .(2/145)
ولما حرم الكلام في الصلاة تكلم معاوية بن الحكم السلمي في/ الصلاة بعد التحريم جاهلاً بالتحريم، فقال له : ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) ، ولم يأمره بإعادة الصلاة .
ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر إلى المدينة، كان من كان بعيدًا عنه ـ مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة ـ يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي بإعادة الصلاة .
ولما فرض شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يبلغ الخبر إلى من كان بأرض الحبشة من المسلمين، حتى فات ذلك الشهر، لم يأمرهم بإعادة الصيام .
وكان بعض الأنصار ـ لما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة قبل الهجرة ـ قد صلى إلى الكعبة معتقدًا جواز ذلك قبل أن يؤمر باستقبال الكعبة، وكانوا ـ حينئذ ـ يستقبلون الشام، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره باستقبال الشام، ولم يأمره بإعادة ما كان صلي .
وثبت عنه في الصحيحين أنه سئل ـ وهو بالجِعْرَانة ـ عن رجل أحرم بالعمرة، وعليه جبة، وهو متضمخ بالخلوق، فلما نزل عليه الوحي قال له : ( انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في/ عمرتك ما كنت صانعًا في حجك ) . وهذا قد فعل محظورًا في الحج، وهو لبس الجبة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بدم ولو فعل ذلك مع العلم للزمه دم .
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته : ( صل فإنك لم تصل ) مرتين أو ثلاثًا . فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، فعلمني ما يجزيني في الصلاة، فعلمه الصلاة المجزية . ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك . مع قوله ما أحسن غير هذا، وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق، فهو مخاطب بها، والتي صلاها لم تبرأ بها الذمة، ووقت الصلاة باق .(2/146)
ومعلوم أنه لو بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، أو أفاق مجنون، والوقت باق لزمتهم الصلاة أداء لا قضاء . وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم . فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة في أثناء الوقت فوجبت عليه الطمأنينة ـ حينئذ ـ ولم تجب عليه قبل ذلك؛ فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة تلك الوقت، دون ما قبلها .
وكذلك أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة . وقوله أولاً : ( صل فإنك لم تصل ) / تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة، فلهذا أمره بالإعادة ابتداء، ثم علمه إياها، لما قال : والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا .
فهذه نصوصه صلى الله عليه وسلم في محظورات الصلاة والصيام والحج مع الجهل فيمن ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد، فذلك أنه لم يأت بالواجب مع بقاء الوقت . فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم لبقاء وقت الوجوب، لم يأمره بذلك مع مضي الوقت .
وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها بالماء بالإعادة، فلأنه كان ناسيًا، فلم يفعل الواجب، كمن نسي الصلاة، وكان الوقت باقيًا، فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده . أعني أنه رأي في رِجْل رَجُل لمعة لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رواه أبو داود . وقال أحمد بن حنبل : حديث جيد .(2/147)
وأما قوله : ( ويل للأعقاب من النار ) ونحوه . فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء ليس في ذلك أمر بإعادة شيء، ومن كان ـ أيضًا ـ يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن المشائخ الواصلين، أو عن بعض أتباعهم، أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عبادًا أسقط/ عنهم الصلاة، كما يوجد كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد، وأتباع بعض المشائخ والمعرفة، فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب، وإلا قوتلوا،وإذا أصروا على جحد الوجوب حتى قتلوا، كانوا من المرتدين، ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء، فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب .
فإن قيل : إنهم مرتدون عن الإسلام، فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء، كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخري يقضي المرتد، كقول الشافعي والأول أظهر .
فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كالحارث بن قيس، وطائفة معه ـ أنزل الله فيهم : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } الآية [ آل عمران : 86 ] ، والتي بعدها . وكعبد الله بن أبي سرح، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر، وأنزل فيهم : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] . فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح، وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر/ أحدًا منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا .(2/148)
وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بصنعاء اليمن، ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام، ولم يؤمرا بالإعادة .
وتنبأ مسيلمة الكذاب، واتبعه خلق كثير، قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته .
وكان أكثر البوادي قد ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما ترك من الصلاة . وقوله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، يتناول كل كافر .
وإن قيل : إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم . فهذا حكم من تركها غير معتقد لوجوبها .
وأما من اعتقد وجوبها مع إصراره على الترك، فقد ذكر عليه المفرِّعون من الفقهاء فروعًا :
/أحدها هذا، فقيل عند جمهورهم ـ مالك والشافعي وأحمد . وإذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كفساق المسلمين ؟ على قولين مشهورين . حكيا روايتين عن أحمد، وهذه الفروع لم تنقل عن الصحابة، وهي فروع فاسدة، فإن كان مقرًا بالصلاة في الباطن، معتقدًا لوجوبها، يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل، وهو لا يصلي هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم؛ ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحدًا يعتقد وجوبها، ويقال له إن لم تصل وإلا قتلناك، وهو يصر على تركها، مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام .(2/149)
ومتي امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها، ولا ملتزمًا بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة . كقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة ) ، رواه مسلم . وقوله : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) .
وقول عبد الله بن شَقِيق : كان أصحاب محمد لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فمن كان مصرًا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلمًا مقرًا بوجوبها، فإن اعتقاد/ الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط، علم أن الداعي في حقه لم يوجد . والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحيانًا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها، وتفويتها أحيانًا .
فأما من كان مصرًا على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك، فهذا لا يكون مسلمًا، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد في إلىوم والليلة من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ) .
فالمحافظ عليها الذي يصليها في مواقيتها، كما أمر الله ـ تعالى ـ والذي ليس يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه، كما جاء في الحديث .(2/150)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=435 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل من أهل القبلة ترك الصلاة مدة سنتين، ثم تاب بعد ذلك، وواظب على أدائها . فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا ؟
فأجاب :
أما من ترك الصلاة، أو فرضًا من فرائضها، فإما أن يكون قد ترك ذلك ناسيًا له بعد علمه بوجوبه، وإما أن يكون جاهلاً بوجوبه، وإما أن يكون لعذر يعتقد معه جواز التأخير، وإما أن يتركه عالمًا عمدًا .
فأما الناسي للصلاة، فعليه أن يصليها إذا ذكرها بسنة رسول/ الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه، باتفاق الأئمة . قال صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها . لا كفارة لها إلا ذلك ) وقد استفاض في الصحيح وغيره : أنه نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في السفر فصلوها بعد ما طلعت الشمس السنة والفريضة بأذان وإقامة .
وكذلك من نسي طهارة الحدث، وصلى ناسيًا : فعليه أن يعيد الصلاة بطهارة بلا نزاع، حتى لو كان الناسي إمامًا كان عليه أن يعيد الصلاة، ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد في المنصوص المشهور عنه . كما جرى لعمر وعثمان ـ رضي الله عنهما .
وأما من نسى طهارة الخبث، فإنه لا إعادة عليه في مذهب مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه؛ لأن هذا من باب فعل المنهى عنه، وتلك من باب ترك المأمور به، ومن فعل ما نهى عنه ناسيًا فلا إثم عليه بالكتاب والسنة . كما جاءت به السنة فيمن أكل في رمضان ناسيًا . وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد . وطرد ذلك فيمن تكلم في الصلاة ناسيًا، ومن تطيب ولبس ناسيًا، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه . / وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيًا كما هو أحد القولين عن الشافعي وأحمد .
وهنا مسائل تنازع العلماء فيها : مثل من نسى الماء في رحله وصلى بالتيمم، وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها .(2/151)
وأما من ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها مثل من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال . وجهان في مذهب أحمد :
أحدها : عليه الإعادة مطلقًا . وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين في مذهب أحمد .
والثانى : عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الحرب . وهو مذهب أبى حنيفة؛ لأن دار الحرب دار جهل، يعذر فيه، بخلاف دار الإسلام .
والثالث : لا إعادة عليه مطلقًا . وهو الوجه الثانى في مذهب أحمد، وغيره .
وأصل هذين الوجهين : أن حكم الشارع، هل يثبت في حق /المكلف قبل بلوغ الخطاب له، فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، وغيره :
أحدها : يثبت مطلقًا .
والثانى : لا يثبت مطلقًا .
والثالث : يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ، كقضية أهل قباء، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عزل . فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم .
وعلى هذا، لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص . مثل أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ، ثم يبلغه النص، ويتبين له وجوب الوضوء، أو يصلي في أعطان الإبل ثم يبلغه، ويتبين له النص، فهل عليه إعادة ما مضى ؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد .
ونظيره أن يمس ذكره ويصلي، ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر .
والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة؛ لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين، لم يثبت حكم وجوبه عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعمارًا ـ لما أجنبا فلم يصل عمر، وصلى عمار بالتمرغ ـ أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء .(2/152)
ومن هذا الباب : [ المستحاضة ] إذا مكثت مدة لا تصلى لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففى وجوب القضاء عليها قولان :
أحدهما : لا إعادة عليها . كما نقل عن مالك وغيره؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبى صلى الله عليه وسلم : إنى حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة منعتنى الصلاة والصيام، أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضى .
وقد ثبت عندى بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادى ـ وغير البوادى ـ من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة : صلى، تقول : حتى أكبر وأصير عجوزة، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة، كالعجوز ونحوها . وفى أتباع الشيوخ / طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات، سواء قيل : كانوا كفارًا، أو كانوا معذورين بالجهل .
وكذلك من كان منافقًا زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن خلافه، وهو لا يصلي، أو يصلي أحيانًا بلا وضوء، أو لا يعتقد وجوب الصلاة، فإنه إذا تاب من نفاقه وصلى، فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء . والمرتد الذي كان يعتقد وجوب الصلاة، ثم ارتد عن الإسلام، ثم عاد، لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء ـ كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه ـ فإن المرتدين الذين ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ كعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وغيره ـ مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما تركوه . وكذلك المرتدون على عهد أبى بكر لم يؤمروا بقضاء صلاة، ولا غيرها .
وأما من كان عالمًا بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها الموقت، فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة ـ منهم ابن حزم وغيره ـ إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدًا . والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .(2/153)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=461 - TOP#TOPوسئل عن الرجل إذا تلي عليه القرآن فيه سجدة سجد على غير وضوء، فهل يأثم أو يكفر، أو تطلق عليه زوجته ؟
فأجاب :
لا يكفر، ولا تطلق عليه زوجته، ولكن يأثم عند أكثر العلماء، ولكن ذكر بعض أصحاب أبي حنيفة أن من صلي بلا وضوء فيما تشترط له الطهارة بالإجماع . كالصلوات الخمس، أنه يكفر بذلك، وإذا كفر كان مرتداً . والمرتد عند أبي حنيفة تبين منه زوجته، ولكن تكفير هذا ليس منقولاً عن أبي حنيفة نفسه، ولا عن صاحبيه وإنما هو عن أتباعه، وجمهور العلماء على أنه يعزر، ولا يكفر إلا إذا استحل ذلك، واستهزأ بالصلاة .
وأما سجدة التلاوة، فمن العلماء من ذهب إلى أنها تجوز بغير / طهارة، وما تنازع العلماء في جوازه لا يكفر فاعله بالاتفاق، وجمهور العلماء على أن المرتد لا تبين منه زوجته، إلا إذا انقضت عدتها، ولم يرجع إلى الإسلام . والله أعلم .
********
وقد ثبت عن على أنه حرق بالنار المرتدين، وكذلك الصديق روى عنه أنه حرق، فإذا جاز هذا على الخلاف مع ثبوت النص بخلافه، لأجل التأويل . لم يمتنع أن يغلط بعضهم فيما يراه ذنباً ومعصية بمثل هذا الكلام .
********
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=467 - TOP#TOPفصل
وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور، وتفصيل ليس هذا موضع بسطه :(2/154)
لكن أوسط الأقوال في هؤلاء : أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره . فإن من كان مظهراً للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته؛ ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت، فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت، لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت، فلم تنكر، ضرت العامة؛ ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم، وتوكل سرائرهم إلى الله تعالي، بخلاف من أظهر الكفر .
/فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة، وجب ذلك . لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان . ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً .(2/155)
فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع، والأعياد، والجماعة . إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقي ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة . ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند / السلف، والأئمة من أهل البدع .
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهو أولي من فعلها خلف الفاجر . وحينئذ، فإذا صلي خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد للعلماء .
منهم من قال : إنه يعيد لأنه فعل ما لا يشرع، بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهياً عنها فيعيدها .
ومنهم من قال : لا يعيد . قال : لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة .
وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة، فهنا لا تعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل : إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، أعيدت الجمعة خلفه، وإلا لم تعد، وليس كذلك . بل النزاع في الإعادة حيث ينهي الرجل عن الصلاة . فأما إذا أمر بالصلاة خلفه، فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه، لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين .(2/156)
/وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء، فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه . ومن قال : إنه يكفر أمر بالإعادة؛ لأنها صلاة خلف كافر، لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، والناس مضطربون في هذه المسألة . وقد حكي عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي فيها قولان . وعن الإمام أحمد ـ أيضاً ـ فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام فذكروا للأشعري فيها قولان . وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل .
وحقيقة الأمر في ذلك : أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها .
وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله ـ سبحانه وتعالي ـ يقول : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] ، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز ألا يلحقه الوعيد لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلي بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع .
/وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده،أو لم يتمكن من فهمها،وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه ـ كائنا ما كان ـ سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية . هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام ،وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها .(2/157)
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام . وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين : ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها ؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع ؟ فإن قال : مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له : فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأي ربه أم لا ؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم على أفضل ؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق . / ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق .
وإن قال الأصول : هي المسائل القطعية، قيل له : كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية، هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن مراده منه . وعند رجل لا تكون ظنية، فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته .(2/158)
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله : ( إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله على ليعذبني الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين . فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : خشيتك يا رب، فغفر الله له ) . فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له . وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع .
/ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين، ولهذا حكي طائفة عنهم الخلاف في ذلك، ولم يفهموا غور قولهم . فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقاً، حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي . وربما رجحت التكفير والتخليد في النار، وليس هذا مذهب أحمد، ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم . وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة . ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة .(2/159)
لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه . ومع هذا، فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية : أن القرآن مخلوق، وأن الله لا يري في الآخرة، وغير ذلك . ويدعون الناس إلى ذلك،/ ويمتحنونهم، ويعاقبونهم، إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم . حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير، لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية : إن القرآن مخلوق، وغير ذلك . ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك . ومع هذا، فالإمام أحمد ـ رحمه الله تعالي ـ ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبن لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك .
وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد ـ حين قال : القرآن مخلوق ـ كفرت باللَّه العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد، لسعي في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم .
وكذلك قال مالك ـ رحمه الله ـ والشافعي، وأحمد، في القدري : إن جحد علم الله كفر . ولفظ بعضهم : ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصِمُوا، وإن جحدوه كفروا .
وسئل أحمد عن القدري : هل يكفر ؟ فقال : إن جحد العلم، كفر . وحينئذ، فجاحد العلم هو من جنس الجهمية . وأما قتل الداعية إلى / البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب . وإن لم يكن في نفس الأمر كافراً، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته . وعلي هذا قتل غَيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه . وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيهاً .(2/160)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=480 - TOP#TOPوسئل عما يقوله بعض الناس : إن للّه ملائكة ينقلون من مقابر المسلمين إلى مقابر إليهود والنصاري، وينقلون من مقابر إليهود والنصاري إلى مقابر المسلمين . ومقصودهم أن من ختم له بشر في علم اللّه، وقد مات في الظاهر مسلما، أو كان / كتابياً وختم له بخير، فمات مسلما في علم اللّه، وفي الظاهر مات كافراً فهؤلاء ينقلون . فهل ورد في ذلك خبر أم لا ؟ وهل لذلك حجة أم لا ؟
فأجاب :
الحمد للّه، أما الأجساد، فإنها لا تنقل من القبور، لكن نعلم أن بعض من يكون ظاهره الإسلام، ويكون منافقاً، إما يهودياً، أو نصرانياً، أو مرتداً معطلا . فمن كان كذلك، فإنه يكون يوم القيامة مع نظرائه . كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] . أي أشباههم، ونظراءهم .
وقد يكون في بعض من مات ـ وظاهره كافراً ـ أن يكون آمن باللّه، قبل أن يغرغر، ولم يكن عنده مؤمن، وكتم أهله ذلك، إما لأجل ميراث، أو لغير ذلك، فيكون مع المؤمنين، وإن كان مقبوراً مع الكفار .
وأما الأثر في نقل الملائكة، فما سمعت في ذلك أثراً .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=508 - TOP#TOPفَصْل(2/161)
والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد بالطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد، فليس فيها ما يطاف به، ولا فيها ما يتمسح به، ولا ما يُقَبّل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء، كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها، بل ليست في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة .
ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع؛ فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر شهرًا إلى بيت المقدس، فكانت قبلة المسلمين هذه المدة، ثم إن الله حَوَّل القبلة إلى الكعبة، وأنزل الله في ذلك القرآن /كما ذكر في سورة البقرة، و صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى الكعبة، وصارت هي القبلة وهي قبلة إبراهيم، وغيره من الأنبياء .(2/162)
فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلى إليها، فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، مع أنها كانت قبلة لكن نُسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكانًا يطاف به كما يطاف بالكعبة ؟ ! والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال، وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنمًا أو بقرًا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل، وأن يحلق فيها شعره في العيد، أو أن يسافر إليها ليعرف بها عشية عرفة، فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات، ومن فعل شيئًا من ذلك معتقدًا أن هذا قربة إلى الله، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما لو صلى إلى الصخرة معتقدًا أن استقبالها في الصلاة قربة كاستقبال الكعبة؛ ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين في مقدم المسجد الأقصى .
فإن المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان ـ عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمى الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في مقدمه، والصلاة في هذا الم صلى الذى بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد؛ فإن عمر بن الخطاب لما /فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها، فأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ بإزالة النجاسة عنها، وقال لكعب الأحبار : أين ترى أن نبني مصلى المسلمين ؟ فقال : خلف الصخرة، فقال : يا بن اليهودية، خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، فإن لنا صدور المساجد . ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في الم صلى الذي بناه عمر، وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى في محراب داود .(2/163)
وأما الصخرة فلم يصلى عندها عمر ـ رضي الله عنه، ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلى ومعاوية ويزيد ومروان، ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام، ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة، كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة، وكساها في الشتاء والصيف، ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس، ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير، وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة، كما أن يوم السبت كان عيدًا في شريعة موسى ـ عليه السلام ـ ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة، فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود /والنصارى، وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى .
وما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر عمامته، وغير ذلك، فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب . وكذلك المكان الذي يذكر أنه مهد عيسى ـ عليه السلام ـ كذب، وإنما كان موضع معمودية النصارى . وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان، أو أن السور الذي يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد . وكذلك تعظيم السلسلة، أو موضعها ليس مشروعًا .
********
الرابع : أنه قد نهى أن يتخذ قبره عيدا، وأمر الأمة أن تصلى عليه وتسلم حيثما كانت، وأخبر أن ذلك يبلغه . فلم يكن تخصيص البقعة بالدعاء له مشروعا، بل يدعى له في جميع الأماكن، وعند كل / أذان،وفي كل صلاة،وعند دخول كل مسجد،والخروج منه، بخلاف غيره . وهذا لعلو قدره، وارتفاع درجته، فقد خصه الله من الفضيلة بما لم يشركه فيه غيره؛ لئلا يجعل قبره مثل سائر القبور، بل يفرق بينهما من وجوه متعددة، ويبين فضله على غيره، وما من الله به على أمته .(2/164)
ومنها : أنه قال : لم يلزم من دعواه بأن ذلك مجمع على تحريمه أن يكون السادة الصحابة مع التابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين للإجماع خارقين مصرين على تقرير الحرام، مرتكبين بأنفسهم وفتاويهم ما لا يجوز عليه الإقدام، مجمعين على الضلالة، سالكين طريق العماية والجهالة .
وفي هذا الكلام من الجهل بالشريعة، وما أجمع عليه المسلمون، والتسوية بين عبادة الرحمن ـ التى أجمع عليها أهل الإيمان ـ وبين عبادة الأوثان التى أجمعوا على تحريمها وغير ذلك، مما يبين اشتمال هذا الكلام على أنواع من مخالفة دين الإسلام، ولو كان صاحبه ممن يفهم ما قال ولوازمه لكان مرتدا يجب قتله، لكنه جاهل قد يتكلم بما لا يتصوره ويتصور لوازمه .
فيقال له ولأمثاله ـ ممن ظن أن في الجواب ما يخالف الإجماع ـ : /الذى أجمع عليه المسلمون سلفا وخلفا، قرنا بعد قرن : هو السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم، والصلاة والسلام عليه فيه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله من الأعمال المتضمنة لعبادة الله وحده، والقيام بحق رسوله من أفضل العبادات لله، كشهادتنا له، وثنائنا عليه . وصلاتنا وسلامنا عليه من أفضل ما عبدنا الله به، وهذا ونحوه هو المشروع في مسجده، سواء سمى زيارة لقبره أو لم يسم .
فإن لفظ الزيارة لقبره واستحباب ذلك لا يعرف عن أحد من الصحابة، بل المنقول عن ابن عمر ومن وافقه؛ السلام عليه هناك، والصلاة . وهم لا يسمون هذا زيارة لقبره، فكيف بالذين لم يكونوا يقفون عند القبر بحال ؟ ! وهم جمهور الصحابة .
وأما ما ابتدعه بعض الناس من الشرك والبدع وسمى ذلك [ زيارة لقبره ] ، فهو من جنس الزيارة البدعية التى تفعل عند قبر غيره، ليس هو من الزيارة الشرعية .(2/165)
وأما ما يدخل في الأعمال الشرعية، فهذا هو المستحب بسنته الثابتة عنه، وبإجماع أمته . ثم من أئمة العلم من لا يسمى هذا [ زيارة لقبره ] بل يكره هذه التسمية؛ فضلا عن أن يقول : إن ذلك سفر إلى قبره . وقد صرح من قال ذلك مثل مالك وغيره بأن المسافر إلى هناك إذا / كان مقصوده القبر أنه سفر منهى عنه، داخل في قوله : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) ، وأن السفر الذى هو طاعة وقربة أن يقصد السفر لأجل الصلاة في المسجد، وأنه لو نذر أن يسافر إلى المدينة لغير الصلاة في المسجد، فإنه ينهى عن الوفاء بنذره؛ لأنه نذر معصية .
********
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=531 - TOP#TOPفصل
في الولاية والعداوة
فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله، وأعداء المؤمنين . وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان ، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين .
فأما [ موالاة المؤمنين ] فكثيرة، كقوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } إلى قوله : { وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 55 ـ 56 ] . وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } إلى قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } [ الأنفال : 72-75 ] . وقال تعإلى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62،63 ] .(2/166)
وقال : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } إلى آخر السورة [ سورة الممتحنة ] . وقوله : { لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } [ الممتحنة : 13 ] . وقال : { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ } [ البقرة : 257 ] . وقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَي لَهُمْ } [ محمد : 11 ] . وقال : { وَإِن تَظَاهَرَا عليه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] . وقال : { فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 98 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ على الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } إلى قوله : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 23، 24 ] .(2/167)
وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ إليهودَ وَالنَّصَارَي أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَي أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَي اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } إلى قوله : / { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 51-57 ] . إلى تمام الكلام . وقال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَي كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عليهمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إليه مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 78- 81 ] .(2/168)
فذم من يتولي الكفار من أهل الكتاب قبلنا، وبين أن ذلك ينافي الإيمان : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا إلىمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا } إلى قوله : { سَبِيلاً } [ النساء : 138 ـ 141 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عليكم سُلْطَانًا مُّبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [ النساء : 144-145 ] .(2/169)
وقال عن المنافقين : { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } [ البقرة : 14 ] ، كما قال عن الكفار المنافقين من أهل الكتاب : { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عليكم لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 76 ] . وقال : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ } ، نزلت فيمن تولي إليهود من المنافقين وقال : { مَّا هُم مِّنكُمْ } ، ولا من إليهود، { وَيَحْلِفُونَ على الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } إلى قوله : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَإلىوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 14 ـ 22 ] . وقال : { أَلَمْ تَر إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } [ الحشر : 11 ] إلى تمام القصة، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا على أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَي الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَي لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } [ محمد : 25، 26 ] .(2/170)
وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم؛ ولهذا ذكر في [ سورة المائدة ] أئمة المرتدين عقب النهى عن موالاة الكفار قوله : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } [ المائدة : 41 ] .
فذكر المنافقين، والكفار المهادنين، وأخبر أنهم يسمعون لقوم آخرين لم يأتوك، وهو استماع المنافقين والكفار المهادنين للكفار المعلنين الذين لم يهادنوا، كما أن في المؤمنين من قد يكون سماعا للمنافقين كما قال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 47 ] .
وبعض الناس يظن أن المعني : سماعون لأجلهم، بمنزلة الجاسوس ، أي : يسمعون ما يقول وينقلونه إليهم، حتى قيل لبعضهم : أين في القرآن الحيطان لها آذان ؟ قال : في قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } . وكذلك قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب } [ المائدة : 42 ] . أي : ليكذبوا : إن اللام لام التعدية، لا لام التبعية؛ وليس هذا معني الآيتين، وإنما المعني فيكم من يسمع لهم، أي : يستجيب لهم ويتبعهم . كما في قوله : [ سمع اللّه لمن حمده ] استجاب اللّه لمن حمده، أي : قبل منه، يقال : فلان يسمع لفلان، أي : يستجيب له ويطيعه .(2/171)
وذلك أن المسمع وإن كان أصله نفس السمع الذي يشبه الإدراك، لكن إذا كان المسموع طلبًا، ففائدته وموجبه الاستجابة والقبول . وإذا كان المسموع خبرا، ففائدته التصديق والاعتقاد، فصار يدخل /مقصوده وفائدته في مسماه نفيا وإثباتا،فيقال : فلان يسمع لفلان، أي : يطيعه في أمره، أو يصدقه في خبره . وفلان لا يسمع ما يقال له، أي : لا يصدق الخبر ولا يطيع الأمر، كما بين اللّه السمع عن الكفار في غير موضع، كقوله : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } [ البقرة : 171 ] ، وقوله : { وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء } [ الأنبياء : 45 ] ؛ وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس بالحركة، وإيجاب علم القلب حركة القلب، فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه، والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه . فحيث انتفي موجب ذلك، دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعإلى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَي يَبْعَثُهُمُ اللّهُ } [ الأنعام : 36 ] .(2/172)
ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة، أي : يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان، لا يسمعون ما فيها ـ من تإلىف الحروف المتضمنة للمعاني ـ السمع الذي لابد أن يكون بالقلب مع الجسم، فقال تعإلى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } ، يقول : هم يستجيبونّ { لِقَوْمٍ آخَرِينَ } ، وأولئك { لَمْ يَأْتُوكَ } ، وأولئك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } يقولون لهؤلاء الذين أتوك : { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } ، كما ذكروا في سبب نزول /الآية : أنهم قالوا في حد الزنا، وفي القتل : اذهبوا إلى هذا النبي الأمي، فإن حكم لكم بما تريدونه، فاقبلوه، وإن حكم بغيره، فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه ؟ !
فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه ولو كانوا بمنزلة الجاسوس، لم يخص ذلك بالسماع، بل يرون ويسمعون، وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه ، لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم .
يبين ذلك أنه قال : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 47 ] أي : لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم، ثم قال : وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعني : وفيكم من تجسس لهم، لم يكن مناسبا، وإنما المقصود أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة، وفيكم من يسمع منهم، حصل الشر . وأما الجس، فلم يكونوا يحتاجون إليه، فإنهم بين المؤمنين، وهم يوضعون خلالهم .(2/173)
مما يبين ذلك أنه قال : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } [ المائدة : 42 ] ، فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام، وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام : غذاء الجسوم، وغذاء القلوب، فإنهما غذاءان /خبيثان : الكذب والسحت . وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه، يسمع الكذب، كشهادة الزور؛ ولهذا قال : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ المائدة : 63 ] .
فلما كان هؤلاء يستجيبون لغير الرسول، كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم، لم يجب عليه الحكم بينهم، فإنهم متخيرون بين القبول منه، والقبول ممن يخالفه، فكان هو متخيرا في الحكم بينهم، والإعراض عنهم . وإنما يجب عليه الحكم بين من لابد له منه من المؤمنين .
وإذا ظهر المعني، تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب كالمستأمن، والمهادن، والذمي، فإن فيه نزاعا مشهوراً بين العلماء . قيل : ليس بواجب للتخير . وقيل : بل هو واجب، والتخيير منسوخ بقوله : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] . قال الأولون : أما الأمر هنا : أن يحكم بما أنزل اللّه إذا حكم، فهو أمر بصفة الحكم، لا بأصله، كقوله : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 42 ] ، وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [ النساء : 58 ] ، وهذا أصوب، فإن النسخ لا يكون بمحتمل، فكيف بمرجوح ؟ وقيل : يجب في مظالم العباد دون غيرها . والخلاف في ذلك مشهور في / مذهب الإمام أحمد، وغيره من الأئمة .(2/174)
وحقيقة الآية : إن كان مستجيبا لقوم آخرين، لم يأتوه، لم يجب عليه الحكم بينهم، كالمعاهد : من المستأمن وغيره، الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم، وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم، فيكون متخيراً بين الطاعة لحكم اللّه ورسوله، وبين الإعراض عنه . وأما من لم يكن إلا مطيعاً لحكم اللّه ورسوله، ليس عنه مندوحة، كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه، وليس له من ينصره من أهل دينه، فهذا ليس في الآية تخيير . وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب، فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولي أن يوجب ذلك .
وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة،وبين ترك ذلك، لم يجب عليه الحكم بينهم . وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم .
ومن هذا الباب : من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق، بل غرضه من يوافقه على هواه، كائنا من كان، سواء كان صحيحاً أو باطلا . فهذا سماع لغير ما بعث اللّه به رسوله، فإن اللّه إنما بعث رسوله /بالهدي ودين الحق، فليس على خلفاء رسول اللّه أن يفتوه ويحكموا له، كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين، لم يستجيبوا للّه ورسوله .(2/175)
ومن جنس موالاة الكفار التي ذم اللّه بها أهل الكتاب والمنافقين : الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب اللّه، كما قال تعإلى : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَي مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] . وقد عرف أن سبب نزولها شأن كعب بن الأشرف ـ أحد رؤساء إليهود ـ لما ذهب إلى المشركين، ورجح دينهم على دين محمد وأصحابه . والقصة قد ذكرناها في [ الصارم المسلول ] لما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذي اللّه ورسوله ) .
ونظير هذه الآية قوله ـ تعإلى ـ عن بعض أهل الكتاب : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية [ البقرة : 101، 102 ] . فأخبر أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب اللّه، كما يفعله كثير من إليهود، وبعض المنتسبين إلى الإسلام من اتباعهم كتب السحرة ـ أعداء إبراهيم وموسى ـ من المتفلسفة ونحوهم ،/وهو كإيمانهم بالجبت والطاغوت، فإن الطاغوت هو : الطاغي من الأعيان، والجبت : هو من الأعمال والأقوال، كما قال عمر بن الخطاب : الجبت السحر، والطاغوت الشيطان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( العيافة والطيرة، والطرق من الجبت ) . رواه أبو داود .(2/176)
وكذلك ما أخبر عن أهل الكتاب بقوله : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عليه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [ المائدة : 60 ] أي : ومن عبد الطاغوت ، فإن أهل الكتاب كان منهم من أشرك، وعبد الطواغيت .
فهنا ذكر عبادتهم للطاغوت، وفي [ البقرة ] ذكر اتباعهم للسحر، وذكر في [ النساء ] إيمانهم بهما جميعا بالجبت والطاغوت .
وأما التحاكم إلى غير كتاب اللّه، فقد قال : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إلىكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } [ النساء : 60، 61 ] .
والطاغوت : فعلوت من الطغيان . كما أن الملكوت : فعلوت من الملك . والرحموت، والرهبوت، والرغبوت : فعلوت من الرحمة،/والرهبة، والرغبة . والطغيان : مجاوزة الحد، وهو الظلم والبغي . فالمعبود من دون اللّه إذا لم يكن كارها لذلك : طاغوت؛ ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال : ( ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت ) . والمطاع في معصية اللّه، والمطاع في اتباع غير الهدي ودين الحق ـ سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب اللّه، أو مطاعا أمره المخالف لأمر اللّه ـ هو طاغوت؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه، من حاكم بغير كتاب اللّه طاغوت، وسمي اللّه فرعون وعادا طغاة وقال في صيحة ثمود : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } [ الحاقة : 5 ] .(2/177)
فمن كان من هذه الأمة موإلىاً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب، ببعض أنواع الموالاة، ونحوها : مثل إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم، وفعالهم الباطل، كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك، وذلك مثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم، كنحو أقوال الصابئة وأفعالهم، من الفلاسفة ونحوهم، المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال إليهود، والنصاري، وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة .
ومن تولي أمواتهم، أو أحياءهم، بالمحبة والتعظيم والموافقة، فهو منهم كالذين وافقوا أعداء إبراهيم الخليل : من الكِلدانيين وغيرهم /من المشركين، عباد الكواكب أهل السحر، والذين وافقوا أعداء موسى، من فرعون وقومه بالسحر . أو ادعي أنه ليس ثم صانع غير الصنعة، ولا خالق غير المخلوق، ولا فوق السموات إله، كما يقوله الاتحادية، وغيرهم من الجهمية . والذين وافقوا الصابئة والفلاسفة فيما كانوا يقولونه في الخالق، ورسله : في أسمائه وصفاته ، والمعاد، وغير ذلك .
ولا ريب أن هذه الطوائف، وإن كان كفرها ظاهراً، فإن كثيرا من الداخلين في الإسلام، حتى من المشهورين بالعلم، والعبادة، والإمارة، قد دخل في كثير من كفرهم، وعظمهم، ويري تحكيم ما قرروه من القواعد ونحو ذلك . وهؤلاء كثروا في المستأخرين، ولبسوا الحق الذي جاءت به الرسل بالباطل الذي كان عليه أعداؤهم .(2/178)
واللّه ـ تعإلى ـ يحب تمييز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل، فيعرف أن هؤلاء الأصناف منافقون، أو فيهم نفاق ، وإن كانوا مع المسلمين، فإن كون الرجل مسلما في الظاهر لا يمنع أن يكون منافقاً في الباطن، فإن المنافقين كلهم مسلمون في الظاهر، والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم . وإذا كانوا موجودين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي عزة الإسلام، مع ظهور أعلام النبوة، ونور الرسالة، فهم مع بعدهم عنهما أشد وجودا، لاسيما وسبب النفاق هو سبب الكفر، وهو المعارض لما جاءت به الرسل .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=532 - TOP#TOPوَسُئلَ عن شارب الخمر هل يسلم عليه ؟ وهل إذا سلم رد عليه ؟ وهل تشيع جنازته ؟ وهل
يكفر إذا شك فى تحريمها ؟
فأجاب :
الحمد للّه . من فعل شيئا من المنكرات، كالفواحش، والخمر، والعدوان، وغير ذلك، فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) . فإن كان الرجل متسترا بذلك، وليس معلنا له، أنكر عليه سرا وستر عليه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( من ستر عبدا ستره اللّه فى الدنيا والآخرة ) . إلا أن يتعدى ضرره . والمتعدى لابد من كف عدوانه، وإذا نهاه المرء سرا فلم ينته، فعل ما يَنْكَفُّ به من هجر وغيره، إذا كان ذلك أنفع فى الدين .
وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم /يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة .(2/179)
وينبغى لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتا، كما هجروه حيا، إذا كان فى ذلك كف لأمثاله من المجرمين، فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة على غير واحد من أهل الجرائم، وكما قيل لسَمُرة بن جندب : أن ابنك مات البارحة . فقال : لو مات لم أصل عليه، يعنى لأنه أعان على قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه . وقد ترك النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه . وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم فى ترك الجهاد الواجب حتى تاب اللّه عليهم . فإذا أظهر التوبة، أظهر له الخير .
وأما من أنكر تحريم شىء من المحرمات المتواترة، كالخمر والميتة والفواحش، أو شك فى تحريمه، فإنه يستتاب ويعرف التحريم . فإن تاب وإلا قتل . وكان مرتدًا عن دين الإسلام، ولم يصل عليه، ولم يدفن بين المسلمين .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=536 - TOP#TOPفصل(2/180)
وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقَبِّل الصبي والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل، كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حرز، ولو شيئًا يسيرًا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال أو الوقوف، ومال إلىتيم ونحو ذلك، إذا خانوا فيها، وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد بالزور، أو يلقن شهادة الزور، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزي بعزاء الجاهلية، أو يلبي داعي الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات، فهؤلاء يعاقبون تعزيرًا وتنكيلا وتأديبا، بقدر ما يراه الوإلى، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته . فإذا كان كثيرًا زاد في العقوبة؛ بخلاف ما إذا كان قليلا . وعلى حسب حال المذنب؛ فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك . وعلى حسب كبر الذنب وصغره؛ فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة /واحدة، أو صبي واحد .(2/181)
وليس لأقل التعزير حد، بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان، من قول وفعل، وترك قول، وترك فعل، فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ( الثلاثة الذين خُلِّفوا ) ، وقد يعزر بعزله عن ولايته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك، وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين، كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف؛ فإن الفرار من الزحف من الكبائر، وقطع أجره نوع تعزير له، وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله عن إمارته تعزير له . وكذلك قد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا؛ كما روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه أمر بمثل ذلك في شاهد الزور، فإن الكاذب سود الوجه، فسود وجهه، وقلب الحديث، فقلب ركوبه .
وأما أعلاه، فقد قيل : ( لا يزاد على عشرة أسواط ) . وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد . ثم هم على قولين : منهم من يقول : ( لا يبلغ به أدني الحدود ) : لا يبلغ بالحر أدني حدود الحر، وهي الأربعون، أو الثمانون، ولا يبلغ بالعبد أدني حدود العبد، وهي /العشرون أو الأربعون . وقيل : بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد . ومنهم من يقول : لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على حد جنس آخر، فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع إلىد، وإن ضرب أكثر من حد القاذف . ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزاني، وإن زاد على حد القاذف، كما روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ بذلك من بيت المال، فأمر به فضرب مائة ضربة، ثم ضربه في إلىوم الثاني مائة ضربة، ثم ضربه في إلىوم الثالث مائة ضربة .(2/182)
وروي عن الخلفاء الراشدين، في رجل وامرأة وجدا في لحاف : يضربان مائة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي جارية امرأته : ( إن كانت أحلتها له جلد مائة، وإن لم تكن أحلتها له رجم ) . وهذه الأقوال في مذهب أحمد، وغيره . والقولان الأولان في مذهب الشافعي، وغيره .
وأما مالك وغيره، فحكي عنه : أن من الجرائم ما يبلغ به القتل . ووافقه بعض أصحاب أحمد، في مثل الجاسوس المسلم، إذا تجسس للعدو على المسلمين، فإن أحمد توقف في قتله، وجوز مالك وبعض الحنابلة ـ كابن عقيل ـ قتله، ومنعه أبو حنيفة، والشافعي وبعض الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى .
/وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، وكذلك كثير من أصحاب مالك . وقالوا : إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض، لا لأجل الردة، وكذلك قد قيل في قتل الساحر؛ فإن أكثر العلماء على أنه يقتل، وقد روي عن جندب ـ رضي الله عنه ـ موقوفًا ومرفوعًا : ( إن حد الساحر ضربه بالسيف ) رواه الترمذي . وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة ـ رضي الله عنهم : قتله . فقال بعض العلماء : لأجل الكفر، وقال بعضهم : لأجل الفساد في الأرض . لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا . وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم، إذا كان جنسه يوجب القتل، كما يقتل من تكرر منه اللواط، أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك .
وقد يستدل على أن المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل؛ بما رواه مسلم في صحيحه، عن عرفجة الأشجعي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه ) . وفي رواية : ( ستكون هنات، وهنات . فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف، كائنا من كان ) .(2/183)
/وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة؛ بدليل ما رواه أحمد في المسند، عن ديلم الحميري ـ رضي اللّه عنه ـ قال : سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فقلت : يا رسول اللّه، إنا بأرض نعالج بها عملا شديداً، وإنا نتخذ شراباً من القمح نتقوي به على أعمالنا، وعلى برد بلادنا . فقال : ( هل يسكر ؟ ) قلت : نعم . قال : ( فاجتنبوه ) . قلت : إن الناس غير تاركيه . قال : ( فإن لم يتركوه فاقتلوهم ) . وهذا لأن المفسد كالصائل . فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل .
وجماع ذلك أن العقوبة نوعان :
أحدهما : على ذنب ماض، جزاء بما كسب نكالا من اللّه، كجلد الشارب والقاذف، وقطع المحارب والسارق .
والثاني : العقوبة لتأدية حق واجب، وترك محرم في المستقبل، كما يستتاب المرتد حتى يسلم، فإن تاب، وإلا قتل . وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها، فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول . ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة، أو يؤدي الواجب عليه، والحديث الذي في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال : ( لا يجلد فوق عشرة /أسواط إلا في حد من حدود اللّه ) ، قد فسره طائفة من أهل العلم، بأن المراد بحدود اللّه ما حرم لحق اللّه؛ فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل آخر الحلال وأول الحرام . فيقال في الأول : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] . ويقال في الثاني : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] .
وأما تسمية العقوبة المقدرة حداً، فهو عرف حادث، ومراد الحديث : أن من ضرب لحق نفسه، كضرب الرجل امرأته في النشوز، لا يزيد على عشر جلدات .(2/184)
والجلد الذي جاءت به الشريعة : هو الجلد المعتدل بالسوط؛ فإن خيار الأمور أوساطها، قال على ـ رضي اللّه عنه : ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين . ولا يكون الجلد بالعصي ولا بالمقارع، ولا يكتفي فيه بالدِّرَّةِ بل الدرة تستعمل في التعزير .
أما الحدود، فلابد فيها من الجلد بالسوط، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يؤدب بالدرة، فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط، ولا تجرد ثيابه كلها، بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب، من الحشايا والفراء ونحو ذلك . ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك، ولا يضرب وجهه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قاتل أحدكم /فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله ) ، فإن المقصود تأديبه لا قتله، ويعطي كل عضو حظه من الضرب، كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك .
فصل
العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصي اللّه ورسوله نوعان :
أحدهما : عقوبة المقدور عليه، من الواحد والعدد، كما تقدم .
والثاني : عقاب الطائفة الممتنعة، كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال .
فأصل هذا هو جهاد الكفار، أعداء اللّه ورسوله، فكل من بلغته دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إلى دين اللّه الذي بعثه به فلم يستجب له؛ فإنه يجب قتاله { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .(2/185)
ولأن اللّه لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلق إلى دينه، لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 39 : 41 ]
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى : { كُتِبَ عليكم الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَي أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَي أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ } [ البقرة : 216 ] .(2/186)
وأكد الإيجاب، وعظم أمر الجهاد، في عامة السور المدنية، وذم التاركين له، ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، فقال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إليكم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] . وقال تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إليكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عليه مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَي لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ً } [ محمد : 20 - 22 ] . فهذا كثير /في القرآن .(2/187)
وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في [ سورة الصف ] التي يقول فيها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ إلىمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَي تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الصف : 10 : 13 ] . وقوله تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوم الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 - 22 ] .(2/188)
وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عليمٌ } [ المائدة : 54 ] ؛ وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ التوبة : 120، 121 ] . فذكر ما يتولد من أعمالهم، وما يباشرونه من الأعمال .
والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر .(2/189)
ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع . كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوَة سَنَامه الجهاد ) ، وقال : ( إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله ) متفق عليه، وقال : ( من اغبَرَّت قدماه في سبيل اللّه حَرَّمَه اللّه على النار ) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم : ( رباط يوم وليلة في سبيل اللّه خير من صيام شهر وقيامه . وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفَتَّان ) رواه مسلم، وفي السنن : ( رباط يوم في سبيل اللّه، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( عينان لا تمسهما النار : عين بَكَتْ من خشية اللّه، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه ) قال الترمذي : حديث حسن . وفي مسند الإمام / أحمد : ( حرس ليلة في سبيل اللّه، أفضل من ألف ليلة يقام ليلها، ويصام نهارها ) ، وفي الصحيحين : أن رجلا قال : يارسول اللّه، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل اللّه ؟ قال : ( لا تستطيع ) . قال : أخبرني به ؟ قال : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تفتر ؟ ) . قال : لا . قال : ( فذلك الذي يعدل الجهاد ) . وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إن لكل أمة سياحة، وسياحة أمتى الجهاد في سبيل اللّه ) .
وهذا باب واسع، لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه .(2/190)
وهو ظاهر عند الاعتبار؛ فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة اللّه ـ تعالى ـ والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر اللّه، وسائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر .
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدي الحسنيين دائماً؛ إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة .
فإن الخلق لابد لهم من محيا وممات، ففيه استعمال محياهم ومماتهم /في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما؛ فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات .(2/191)
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله للّه، وأن تكون كلمة اللّه هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين . وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان، والراهب، والشيخ الكبير، والأعمي، والزمن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يري إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان؛ لكونهم مالا للمسلمين . والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين اللّه، كما قال اللّه تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [ البقرة : 190 ] ، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم : أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه، قد وقف عليها الناس . فقال : ( ما كانت هذه لتقاتل ) ، وقال لأحدهم : ( الحق خالداً فقل له : لا تقتلوا ذرية ولا عَسِيفاً ) . وفيها ـ أيضاً ـ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( لا تقتلوا شيخاً فانياً،ولا /طفلا صغيراً، ولا امرأة ) .
وذلك أن اللّه ـ تعالى ـ أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [ البقرة : 217 ] أي : أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه؛ ولهذا قال الفقهاء : إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، يعاقب بما لا يعاقب به الساكت .
وجاء في الحديث : ( إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضَرَّت العامة ) .(2/192)
ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال، مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله، أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته، بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان من الفقهاء من يري المن عليه ومفاداته منسوخاً .
فأما أهل الكتاب والمجوس، فيقاتلون حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
/ومن سواهم، فقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية منهم، إلا أن عامتهم لا يأخذونها من العرب، وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة، فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين، حتى يكون الدين كله للّه، كما قاتل أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ وسائر الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ مانعي الزكاة، وكان قد توقف في قتالهم بعض الصحابة، ثم اتفقوا، حتى قال عمر بن الخطاب لأبي بكر ـ رضي اللّه عنهما : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإذا قالوها، فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللّه ) ؟ فقال له أبو بكر : فإن الزكاة من حقها . واللّه لو منعوني عَنَاقا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فما هو إلا أن رأيت اللّه قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق .(2/193)
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، أنه أمر بقتال الخوارج، ففي الصحيحين عن على ابن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم /من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة ) . وفي رواية لمسلم عن على ـ رضي اللّه عنه ـ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز قراءتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل ) ، وعن أبي سعيد، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : ( يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) متفق عليه . وفي رواية لمسلم : ( تكون أمتى فرقتين فتخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق ) .
فهولاء الذين قتلهم أمير المؤمنين على ـ رضي اللّه عنه ـ لما حصلت الفرقة بين أهل العراق والشام،وكانوا يسمون الحرورية، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كلا الطائفتين المفترقتين من أمته، وأن أصحاب على أولي الطائفتين بالحق، ولم يحرض إلا على قتال أولئك المارقين الذين خرجوا من الإسلام، وفارقوا الجماعة، واستحلوا دماء من سواهم من المسلمين وأموالهم .
فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة،أنه يقاتل من خرج عن /شريعة الإسلام،وإن تكلم بالشهادتين .(2/194)
وقد اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، لو تركت السنة الراتبة، كركعتي الفجر : هل يجوز قتالها ؟ على قولين . فأما الواجبات والمحرمات الظاهرة والمستفيضة، فيقاتل عليها بالاتفاق، حتى يلتزموا أن يقيموا الصلوات المكتوبات، ويؤدوا الزكاة، ويصوموا شهر رمضان، ويحجوا البيت، ويلتزموا ترك المحرمات؛ من نكاح الأخوات، وأكل الخبائث، والاعتداء على المسلمين في النفوس والأموال، ونحو ذلك .
وقتال هؤلاء واجب ابتداء بعد بلوغ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بما يقاتلون عليه . فأما إذا بدؤوا المسلمين فيتأكد قتالهم، كما أكدناه في قتال الممتنعين من المعتدين قطاع الطرق . وأبلغ الجهاد الواجب للكفار، والممتنعين عن بعض الشرائع، كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم، يجب ابتداءً ودفعًا . فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال الله تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } الآية [ النساء : 95 ] .(2/195)
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين؛ لإعانتهم، كما قال الله تعالى : / { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكم النَّصْرُ إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } [ الأنفال : 72 ] ، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن . وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج . بل ذم الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم : { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } [ الأحزاب : 13 ] .
فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار؛ للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها . فهذا النوع من العقوبة هو للطوائف الممتنعة .
فأما غير الممتنعين من أهل ديار الإسلام ونحوهم، فيجب إلزامهم بالواجبات التي هي مباني الإسلام الخمس وغيرها، من أداء الأمانات والوفاء بالعهود في المعاملات وغير ذلك .
فمن كان لا يصلى من جميع الناس، من رجالهم ونسائهم، فإنه يؤمر بالصلاة، فإن امتنع عوقب حتى يصلى بإجماع العلماء . ثم إن أكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصل، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل . وهل يقتل كافرًا أو / مرتدًا أو فاسقًا ؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد وغيره . والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره، وهذا مع الإقرار بالوجوب .(2/196)
فأما من جحد الوجوب فهو كافر بالاتفاق، بل يجب على الأولياء أن يأمروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعًا، ويضربوه عليها لعشر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) ، وكذلك ما تحتاج إليه الصلاة من الطهارة الواجبة ونحوها .
ومن تمام ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم، وأمرهم بأن يصلوا بهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلى ) ، رواه البخاري . وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال : ( إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ) .
وعلى إمام الناس في الصلاة وغيرها أن ينظر لهم، فلا يفوتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينهم، بل على كل إمام للصلاة أن يصلى بهم صلاة كاملة ولا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الإجزاء إلا لعذر؛ وكذلك على إمامهم في الحج، وأميرهم في الحرب . ألا تري أن الوكيل والولي في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله ؟ وهو في مال نفسه يفوت نفسه ما شاء، فأمر /الدين أهم، وقد ذكر الفقهاء هذ المعني .(2/197)
ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس، صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم . وملاك ذلك كله صلاح النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه . فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . فإن هاتين الكلمتين قد قيل : إنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة في بعض مغازيه، فقال : ( يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين ) ، فجعلت الرؤوس تندر عن كواهلها، وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه، كقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } [ هود : 123 ] . وقوله تعالى : { عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُبٍ } [ هود : 88 ] ، وكان صلى الله عليه وسلم ـ إذا ذبح أضحيته ـ يقول : ( اللهم منك ولك ) .
وأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة، ثلاثة أمور :
أحدها : الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره . وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن .
الثاني : الإحسان إلى الخلق، بالنفع والمال الذي هو الزكاة .
الثالث : الصبر على أذي الخلق وغيره من النوائب .(2/198)
ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيرًا، كقوله تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } [ البقرة : 45 ] ، وكقوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَي لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] ، وقوله تعالى : { فَاصْبِرْ على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] ، وكذلك في سورة [ ق ] : { فَاصْبِرْ على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ ق : 39 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } [ الحجر : 97، 98 ] .
وأما قرنه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدًا .
فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية، إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة، يدخل في الصلاة ذكر الله ـ تعالى، ودعاؤه، وتلاوة كتابه، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه . وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع : من نصر المظلوم، وإغاثة الملهوف، وقضاء حاجة المحتاج . ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل معروف صدقة ) ، فيدخل فيه كل إحسان . ولو ببسط الوجه، والكلمة الطيبة . ففي الصحيحين عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يري / إلا شيئًا قدمه، فينظر أمامه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يجد فبكلمة طيبة ) .(2/199)
وفي السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقي أخاك ووجهك إليه منبسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ) . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن ) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم سلمة : ( يا أم سلمة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة ) .(2/200)
وفي الصبر احتمال الأذي، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، ومخالفة الهوي، وترك الأشر والبطر، كما قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود : 9 - 11 ] ؛ وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] . وقال تعالى : { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 133، 134 ] . وقال تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعليم } [ فصلت : 34 : 36 ] . وقال تعالى : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ الشوري : 40 ] . قال الحسن البصري ـ رحمة الله عليه : إذا كان يوم القيامة، نادي مناد من بطنان العرش : ألا ليقم من وجب أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا وأصلح .(2/201)
فليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم : أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] . وقال تعالى للصحابة : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [ الحجرات : 7 ] ، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا، ولو كرهه من كرهه، لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه . ففي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ) .
وكان عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ يقول : والله إني /لأريد أن أخرج لهم المرة من الحق، فأخاف أن ينفروا عنها، فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا، فأخرجها معها، فإذا نفروا لهذه، سكنوا لهذه .
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول . وسأله مرة بعض أقاربه أن يوليه على الصدقات، ويرزقه منها، فقال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) . فمنعهم إياها وعوضهم من الفيء . وتحاكم إليه على، وزيد، وجعفر، في ابنة حمزة، فلم يقض بها لواحد منهم، ولكن قضي بها لخالتها، ثم إنه طيب قلب كل واحد منهم بكلمة حسنة،قال لعلى : ( أنت مني وأنا منك ) ، وقال لجعفر : ( أشبهت خلقي وخلقي ) .
وقال لزيد : ( أنت أخونا ومولانا ) .(2/202)
فهكذا ينبغي لولي الأمر في قسمه وحكمه؛ فإن الناس دائمًا يسألون ولي الأمر ما لا يصلح بذله من الولايات، والأموال والمنافع والأجور، والشفاعة في الحدود وغير ذلك، فيعوضهم من جهة أخري إن أمكن، أو يردهم بميسور من القول، ما لم يحتج إلى الإغلاظ؛ فإن رد السائل يؤلمه، خصوصًا من يحتاج إلى تأليفه، وقد قال الله تعالى : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } [ الضحي : 10 ] . وقال الله تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَي حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } [ الإسراء : 26 : 28 ] .
وإذا حكم على شخص فإنه قد يتأذي، فإذا طيب نفسه بما يصلح من القول والعمل كان ذلك تمام السياسة، وهو نظير ما يعطيه الطبيب للمريض، من الطب الذي يسوغ الدواء الكريه، وقد قال الله لموسي عليه السلام ـ لما أرسله إلى فرعون : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَي } [ طه : 44 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وأبي موسي الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ لما بعثهما إلى إلىمن : ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا ) . وبال مرة أعرابي في المسجد فقام أصحابه إليه، فقال : ( لا تزرموه ) أي : لا تقطعوا عليه بوله، ثم أمر بدلو من ماء فصب عليه . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) ، والحديثان في الصحيحين .(2/203)
وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته؛ فإن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة . ألا تري أن الأكل والشرب واللباس واجب على الإنسان ؟ حتى لو /اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، فإن لم يأكل حتى مات دخل النار؛ لأن العبادات لا تؤدي إلا بهذا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=539 - TOP#TOPوكتب شيخ الإسلام إلى الملك الناصر بعد وقعة جبل كسروان بسبب فتوح الجبل :
بسم الله الرحمن الرحيم
من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين، والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيا به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذل به أهل الكفر والفسوق والعصيان . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير . ونسأله أن يصلى على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أما بعد : فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده . وأنعم الله على السلطان، وعلى المؤمنين في دولته نعما لم تعهد في القرون الخالية . وجدد الإسلام في أيامه تجديدًا،/ بانت فضيلته على الدول الماضية . وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق، أفضل الأولين والآخرين، الذين أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين . والله ـ تعالى ـ يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين .(2/204)
وذلك أن السلطان ـ أتم الله نعمته ـ حصل للأمة بيمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين، وهم صنفان :
أهل الفجور والطغيان، وذوو الغي والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلبا للعلو في الأرض والفساد، وتركا لسبيل الهدي والرشاد . وهؤلاء هم التتار، ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الإسلام .
والصنف الثاني : أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة،المفارقون للشرعة والطاعة،مثل هؤلاء /الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل، والجرد، والكسروان . فإن ما مَنَّ الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام، هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام .
وذلك أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين؛ فإن اعتقادهم : أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر، وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصاري؛ لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شر من الكافر الأصلى؛ ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان .(2/205)
ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد، وفعلوا بعسكر المسلمين ما لا يحصي من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصليب، وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصي عدده إلا الله، وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوما يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص، وفرحوا بمجيء التتار، هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جزين وما حوإليها . وجبل عامل ونواحيه .
/ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية، ظهر فيهم من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم . ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمي عند قدوم السلطان، كان بينهم شبيه بالعزاء .
كل هذا، وأعظم منه عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكسخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب، وفي نهب الصالحية، وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله .
لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد . ومن استحل الفقاع فهو كافر . ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر . ومن حرم المتعة فهو كافر . ومن أحب أبا بكر، أو عمر، أو عثمان، أو ترضي عنهم، أو عن جماهير الصحابة، فهو عندهم كافر . ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر .
وهذا المنتظر صبي عمره سنتان أو ثلاث، أو خمس . يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة . وهو يعلم كل شيء . وهو حجة الله على أهل الأرض . فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر . وهو شيء لا حقيقة له، ولم يكن هذا في الوجود قط .(2/206)
وعندهم من قال : إن الله يري في الآخرة فهو كافر . ومن قال : / إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر . ومن قال : إن الله فوق السموات فهو كافر . ومن آمن بالقضاء والقدر، وقال : إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإن الله يقلب قلوب عباده، وإن الله خالق كل شيء، فهو عندهم كافر . وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو عندهم كافر .
هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم، مثل بني العود؛ فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل، وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين، ويفتونهم بهذه الأمور .
وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف ابن العود وغيره . وفيها هذا وأعظم منه . وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم، لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق . ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم . وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية، فإنما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق، ويبذلونه من البرطيل لمن يقصدهم .
والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة . ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله؛ ولهذا كثر فسادهم، فقتلوا من النفوس، وأخذوا من الأموال، ما لا يعلمه إلا الله .
/ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يضبط شره، كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة، ويفعلون من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد . كانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات، يرد إليهم النصاري من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين، ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين، فإما أن يقتلوه أو يسلبوه . وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة .(2/207)
فأعان الله ويسر بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الإسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية، كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في قتال الحرورية المارقين، الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم من وجوه متعددة . أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، من حديث على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري، ورافع بن عمرو، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
قال فيهم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، /وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل . يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه ) .
وأول ما خرج هؤلاء زمن أمير المؤمنين على ـ رضي الله عنه ـ وكان لهم من الصلاة، والصيام، والقراءة، والعبادة، والزهادة ما لم يكن لعموم الصحابة، لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة المسلمين، وقتلوا من المسلمين رجلا اسمه عبد الله بن خباب، وأغاروا على دواب المسلمين .
وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياما، ولم نجد في جبلهم مصحفا ولا فيهم قارئا للقرآن، وإنما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، وأباحوا بها دماء المسلمين . وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى .(2/208)
فإذا كان على بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج، مع أنه قتلهم جميعهم، كان هؤلاء أحق بأخذ أموالهم . وليس هؤلاء / بمنزلة المتأولين الذين نادي فيهم على بن أبي طالب يوم الجمل : أنه لا يقتل مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يغنم لهم مالا ولا يسبي لهم ذرية؛ لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ، وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ . ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الإمام . وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته . وهم شر من التتار من وجوه متعددة، لكن التتر أكثر وأقوي؛ فلذلك يظهر كثرة شرهم .
وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم، كما كان في زمن قازان، وهولاكو وغيرهما؛ فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم . وأرضهم فيء لبيت المال .
وقد قال كثير من السلف : إن الرافضة لا حق لهم من الفيء؛ لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار، { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] ، فمن لم يكن قلبه سليما لهم، ولسانه مستغفرًا لهم، لم يكن من هؤلاء .
وقطعت أشجارهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه . فقال اليهود : هذا فساد . وأنت / يا محمد تنهى عن الفساد . فأنزل الله : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ الحشر : 5 ] .
وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر عند الحاجة إليه . فليس ذلك بأولي من قتل النفوس وما أمكن غير ذلك .(2/209)
فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها، وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار . وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم . وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم؛ لأن التركمان إنما قصدهم الرعي، وقد صار لهم مرعي، وسائر الفلاحين لا يتركون عمارة أرضهم ويجيؤون إليه .
فالحمد لله الذي يسر هذا الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره، وإخلاء الجبل منهم وإخراجهم من ديارهم .
وهم يشبهون ما ذكره الله في قوله : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عليهمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ الحشر : 2 - 5 ] .
وأيضا، فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز، واليمن، والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان، ويعز به أهل الإيمان .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=539 - TOP#TOPوكتب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ لما قدم العدو من التتار سنة تسع وتسعين وستمائة إلى حلب، وانصرف عسكر مصر، وبقي عسكر الشام :
بسم الله الرحمن الرحيم(2/210)
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين ـ أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة، وأسبغ عليهم نعمه باطنة وظاهرة، ونصرهم نصرا عزيزا، وفتح عليهم فتحًا كبيرًا، وجعل لهم من لدنه سلطانًا نصيراً، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين إلى صراطه المستقيم ـ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلى على صفوته من خليقته، وخيرته من بريته، محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أما بعد : فإن الله ـ عز وجل ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدا، وجعله خاتم النبيين، وسيد ولد آدم من الناس أجمعين، وجعل كتابه الذي أنزله /عليه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ فهم يوفون سبعين فرقة، هم خيرها وأكرمها على الله، وقد أكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا . فليس دين أفضل من دينهم الذي جاء به رسولهم، ولا كتاب أفضل من كتابهم، ولا أمة خيرًا من أمتهم، بل كتابنا ونبينا وديننا وأمتنا أفضل من كل كتاب ودين ونبي وأمة .
فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم، { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] ، واحفظوا هذه التي بها تنالون نعيم الدنيا والآخرة، واحذروا أن تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرًا، فتعرضون عن حفظ هذه النعمة ورعايتها، فيحيق بكم ما حاق بمن انقلب على عقبيه، واشتغل بما لا ينفعه من أمر الدنيا عما لا بد له منه من مصلحة دينه ودنياه، فخسر الدنيا والآخرة .(2/211)
فقد سمعتم ما نعت الله به الشاكرين والمنقلبين حيث يقول : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [ آل عمران : 144 ] . أنزل الله ـ سبحانه ـ هذه الآية وما قبلها وما بعدها في غزوة أحد،لما انكسر المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم،/ وقتل جماعة من خيار الأمة، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة يسيرة حتى خلص إليه العدو، فكسروا رباعيته، وشجوا وجهه، وهشموا البيضة على رأسه، وقتل وجرح دونه طائفة من خيار أصحابه لذبهم عنه، ونعق الشيطان فيهم : أن محمدا قد قتل . فزلزل ذلك قلوب بعضهم، حتى انهزم طائفة، وثبت الله آخرين حتى ثبتوا .
وكذلك لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فتزلزلت القلوب، واضطرب حبل الدين، وغشيت الذلة من شاء الله من الناس، حتى خرج عليهم الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقال : من كان يعبد محمدا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . وقرأ قوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [ آل عمران : 144 ] ، فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها الصديق ـ رضي الله عنه ـ فلا يوجد من الناس إلا من يتلوها .(2/212)
وارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس، قوم ارتدوا عن الدين بالكلية، وقوم ارتدوا عن بعضه، فقالوا : نصلى، ولا نزكي . وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . فآمنوا مع محمد /بقوم من النبيين الكذابين، كمسيلمة الكذاب، وطليحة الأسدي، وغيرهما، فقام إلى جهادهم الشاكرون، الذين ثبتوا على الدين، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، والطلقاء، والأعراب، ومن اتبعهم بإحسان، الذين قال الله ـ عز وجل ـ فيهم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، هم أولئك الذين جاهدوا المنقلبين على أعقابهم الذين لم يضروا الله شيئًا .
وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم، وسيعمل بها آخرون . فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين، الذين يحبهم الله ـ عز وجل ـ ورسوله، فإنه يجاهد المنقلبين على أعقابهم، الذين يخرجون عن الدين، ويأخذون بعضه ويدعون بعضه، كحال هؤلاء القوم المجرمين المفسدين، الذين خرجوا على أهل الإسلام، وتكلم بعضهم بالشهادتين، وتسمي بالإسلام من غير التزام شريعته، فإن عسكرهم مشتمل على أربع طوائف :
كافرة باقية على كفرها : من الكرج، والأرمن، والمغل .(2/213)
وطائفة كانت مسلمة فارتدت عن الإسلام، وانقلبت على عقبيها : من العرب، والفرس، والروم، وغيرهم . وهؤلاء أعظم جرمًا عند الله / وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلى من وجوه كثيرة . فإن هؤلاء يجب قتلهم حتمًا ما لم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه، لا يجوز أن يعقد لهم ذمة، ولا هدنة، ولا أمان، ولا يطلق أسيرهم، ولا يفادي بمال ولا رجال، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، ولا يسترقون، مع بقائهم على الردة بالاتفاق . ويقتل من قاتل منهم، ومن لم يقاتل؛ كالشيخ الهرم، والأعمي، والزمن، باتفاق العلماء . وكذا نساؤهم عند الجمهور .
والكافر الأصلى يجوز أن يعقد له أمان وهدنة، ويجوز المن عليه والمفاداة به إذا كان أسيرًا عند الجمهور، ويجوز إذا كان كتابياً أن يعقد له ذمة، ويؤكل طعامهم، وتنكح نساؤهم، ولا تقتل نساؤهم إلا أن يقاتلن بقول أو عمل، باتفاق العلماء . وكذلك لا يقتل منهم إلا من كان من أهل القتال عند جمهور العلماء، كما دلت عليه السنة .
فالكافر المرتد أسوأ حالاً في الدين والدنيا من الكافر المستمر على كفره . وهؤلاء القوم فيهم من المرتدة ما لا يحصي عددهم إلا الله . فهذان صنفان .
وفيهم ـ أيضًا ـ من كان كافرًا فانتسب إلى الإسلام ولم يلتزم شرائعه : من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، والكف عن دماء / المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله، وضرب الجزية على اليهود والنصاري، وغير ذلك .(2/214)
وهؤلاء يجب قتالهم بإجماع المسلمين، كما قاتل الصديق مانعي الزكاة، بل هؤلاء شر منهم من وجوه، وكما قاتل الصحابة ـ أيضًا ـ مع أمير المؤمنين ـ على رضي الله عنه ـ الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم في وصفهم : ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) ، وقال : ( لو يعلم الذين يقاتلون ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ) ، وقال : ( هم شر الخلق والخليقة، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه ) . فهؤلاء مع كثرة صيامهم وصلاتهم وقراءتهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، وقاتلهم أمير المؤمنين على، وسائر الصحابة الذين معه، ولم يختلف أحد في قتالهم، كما اختلفوا في قتال أهل البصرة والشام؛ لأنهم كانوا يقاتلون المسلمين . فإن هؤلاء شر من أولئك من غير وجه، وإن لم يكونوا مثلهم في الاعتقاد؛ فإن معهم من يوافق رأيه في المسلمين رأي الخوارج . فهذه ثلاثة أصناف .(2/215)
وفيهم صنف رابع شر من هؤلاء . وهم قوم ارتدوا عن شرائع/الإسلام وبقوا مستمسكين بالانتساب إليه . فهؤلاء الكفار المرتدون، والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه، والمرتدون عن شرائعه لا عن سمته، كلهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين، حتى يلتزموا شرائع الإسلام،وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله،وحتى تكون كلمة الله ـ التي هي كتابه وما فيه من أمره ونهيه وخبره ـ هي العليا . هذا إذا كانوا قاطنين في أرضهم، فكيف إذا استولوا على أراضي الإسلام : من العراق، وخراسان، والجزيرة، والروم، فكيف إذا قصدوكم وصالوا عليكم بغيا وعدوانًا ؟ ! { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عليهمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ على مَن يَشَاء وَاللّهُ عليمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 13- 15 ] .
واعلموا ـ أصلحكم الله ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه من وجوه كثيرة أنه قال : ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة ) ، وثبت أنهم بالشام .
فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق : الطائفة المنصورة، وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين . والطائفة المخالفة،وهم هؤلاء / القوم، ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام . والطائفة المخذلة، وهم القاعدون عن جهادهم؛ وإن كانوا صحيحي الإسلام . فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة ؟ فما بقي قسم رابع .(2/216)
واعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله ـ تعالى ـ في كتابه : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ } [ التوبة : 52 ] يعني : إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة . فمن عاش من المجاهدين كان كريمًا له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يعطي الشهيد ست خصال : يغفر له بأول قطرة من دمه، ويري مقعده من الجنة، ويكسي حلة من الإيمان، ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين، ويوقي فتنة القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر ) رواه أهل السنن . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمجاهدين في سبيله ) ، فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد . وقال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت، الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام ) ، وقال رجل : أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ( لا تستطيعه ) . / قال : أخبرني به ؟ قال : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تفتر ؟ ) قال : لا، قال : ( فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله ) . وهذه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما .
وكذلك اتفق العلماء ـ فيما أعلم ـ على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد . فهو أفضل من الحج، وأفضل من الصوم التطوع، وأفضل من الصلاة التطوع .(2/217)
والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس، حتى قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود . فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالى عند أفضل البقاع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة؛ لمعان منها : أنهم كانوا مرابطين بالمدينة . فإن الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو، فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط، والأعمال بالنيات . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ) . رواه أهل السنن وصححوه . وفي صحيح مسلم عن سلمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا أجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان ) ، يعني : منكر ونكير . فهذا في الرباط فكيف الجهاد ؟ ! /وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد أبدًا ) ، وقال : ( من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار ) ، فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل، فكيف بما هو أشق منه، كالثلج، والبرد، والوحل ؟ !(2/218)
ولهذا عاب الله ـ عز وجل ـ المنافقين الذين يتعللون بالعوائق، كالحر والبرد، فقال ـ سبحانه وتعالى : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 81 ] ، وهكذا الذين يقولون : لا تنفروا في البرد، فيقال : نار جهنم أشد بردًا . كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اشتكت النار إلى ربها، فقالت : ربي أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر والبرد فهو من زمهرير جهنم ) ، فالمؤمن يدفع بصبره على الحر والبرد في سبيل الله حر جهنم وبردها، والمنافق يفر من حر الدنيا وبردها حتى يقع في حر جهنم وزمهريرها .
واعلموا ـ أصلحكم الله ـ أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا(2/219)
والذين هم محسنون . وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون . والله ـ سبحانه وتعالى ـ ناصرنا عليهم، ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم . فأبشروا بنصر الله ـ تعالى ـ وبحسن /عاقبته { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه، والحمد لله رب العالمين . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [ الصف : 10- 14 ] .(2/220)
واعلموا ـ أصلحكم الله ـ أن من أعظم النعم على من أراد الله به خيرًا أن أحياه إلى هذا الوقت الذى يجدد الله فيه الدين، ويحيى فيه شعار المسلمين، وأحوال المؤمنين والمجاهدين، حتى يكون شبيهاً بالسابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار . فمن قام فى هذا الوقت بذلك، كان من التابعين لهم بإحسان، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم . فينبغى للمؤمنين أن يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه المحنة التى/ حقيقتها منحة كريمة من الله، وهذه الفتنة التى باطنها نعمة جسيمة، حتى والله لو كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ـ كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وغيرهم ـ حاضرين فى هذا الزمان، لكان من أفضل أعمالهم جهاد هؤلاء القوم المجرمين .
ولا يفوت مثل هذه الغزاة إلا من خسرت تجارته، وسفه نفسه، وحرم حظًا عظيمًا من الدنيا والآخرة، إلا أن يكون ممن عذر الله ـ تعالى ـ كالمريض، والفقير، والأعمى وغيرهم، وإلا فمن كان له مال وهو عاجز ببدنه فليغز بماله . ففى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه فى أهله بخير فقد غزا ) ، ومن كان قادرًا ببدنه وهو فقير، فليأخذ من أموال المسلمين ما يتجهز به سواء كان المأخوذ زكاة، أو صلة، أو من بيت المال، أو غير ذلك، حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام وقد تعذر رده إلى أصحابه لجهله بهم ونحو ذلك، أو كان بيده ودائع أو رهون أو عوار قد تعذر معرفة أصحابها فلينفقها فى سبيل الله، فإن ذلك مصرفها .(2/221)
ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد؛ فإن الله ـ عز وجل ـ يغفر ذنوبه، كما أخبر الله فى كتابه بقوله ـ سبحانه وتعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 12 ] . ومن أراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى أصحابه فلينفقه فى سبيل الله على أصحابه، فإن ذلك طريق حسنة إلى / خَلاَصه، مع ما يحصل له من أجر الجهاد .
وكذلك من أراد أن يُكَفِّر الله عنه سيئاته فى دعوى الجاهلية وحميتها فعليه بالجهاد؛ فإن الذين يتعصبون للقبائل وغير القبائل ـ مثل قيس ويمن، وهلال وأسد ونحو ذلك ـ كل هؤلاء إذا قتلوا، فإن القاتل والمقتول فى النار، كذلك صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار ) . قيل : يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصًا على قتل أخيه ) . أخرجاه فى الصحيحين . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قتل تحت راية عَمِيَّة : يغضب لعَصَبِيَّة، ويدعو لعصبية فهو فى النار ) . رواه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من تَعَزَّى بعزاء أهل الجاهلية فأعِضُّوه بهن أبيه ولا تَكْنُوا ) فسمع أبى بن كعب رجلاً يقول : يا لفلان، فقال : اعضض أيْرَ أبيك، فقال : يا أبا المنذر، ما كنت فاحشاً . فقال : بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه أحمد فى مسنده .(2/222)
ومعنى قوله : ( من تعزى بعزاء الجاهلية ) يعنى : يتعزى بعزواتهم، وهى الانتساب إليهم فى الدعوة، مثل قوله : يا لقيس ! يا ليمن ! ويا لهلال ! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو قرابته، أو لأصدقائه دون غيرهم، كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله ـ تعالى ـ معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله . فإن /كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وربهم إله واحد، لا إله إلا هو، له الحمد فى الأولى والآخرة، وله الحكم، وإليه ترجعون . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 102- 106 ] . قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والبدعة .(2/223)
فالله، الله، عليكم بالجماعة والائتلاف على طاعة الله ورسوله، والجهاد فى سبيله؛ يجمع الله قلوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويحصل لكم خير الدنيا والآخرة . أعاننا الله وإياكم على طاعته وعبادته، وصرف عنا وعنكم سبيل معصيته، وأتانا وإياكم فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، ووقانا عذاب النار، وجعلنا وإياكم ممن رضى الله عنه وأعد له جنات النعيم، إنه على كل شىء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل . والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فصل
فإذًا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق . فإذا قرأ الإنسان [ سورة الأحزاب ] وعرف من المنقولات فى الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازى، كيف كانت صفة الواقعة التى نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك، وجد مصداق ما ذكرنا . وأن الناس انقسموا فى هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة . كما انقسموا فى تلك . وتبين له كثير من المتشابهات .
/افتتح الله السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وذكر فى أثنائها قوله : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 47، 48 ] ، ثم قال : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [ الأحزاب : 2، 3 ] . فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة ـ التى هى سنته ـ وبأن يتوكل على الله . فبالأولى يحقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، وبالثانية يحقق قوله : { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . ومثل ذلك قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] .(2/224)
وهذا وإن كان مأمورا به فى جميع الدين، فإن ذلك فى الجهاد أوكد؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين، وذلك لا يتم إلا بتأييد قوى من الله؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة . ففيه سنام المحبة، كما فى قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 ] . وفيه سنام التوكل، وسنام الصبر، فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ولهذا قال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 41، 42 ] ، { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] .
ولهذا كان الصبر واليقين ـ اللذان هما أصل التوكل ـ يوجبان الإمامة فى الدين، كما دل عليه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التى هى محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما : إذا اختلف الناس فى شىء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }(2/225)
وفى الجهاد أيضا : حقيقة الزهد فى الحياة الدنيا، وفى الدار الدنيا .
وفيه أيضا : حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن جاهد فى سبيل الله، لا فى سبيل الرياسة، ولا فى سبيل المال، ولا فى سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هى العليا .
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال /تعالى : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] . و { الجَنَّةَ } اسم للدار التى حوت كل نعيم . أعلاه النظر إلى الله، إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، مما قد نعرفه وقد لا نعرفه، كما قال الله ـ تعالى ـ فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) .
فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا .
ثم إنه ـ تعالى ـ قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } [ الأحزاب : 9 ] .(2/226)
وكان مختصر القصة : أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاؤوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بنى أسد، وأشجع، وفزارة، وغيرهم من قبائل نجد . واجتمعت ـ أيضا ـ اليهود، من قريظة، والنضير . فإن بنى النضير كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله ـ تعالى ـ فى [ سورة الحشر ] . فجاؤوا فى الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبى صلى الله عليه وسلم، ومجاورون له، قريبًا من /المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا فى الأحزاب . فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة . فرفع النبى صلى الله عليه وسلم الذرية من النساء والصبيان فى آطام المدينة، وهى مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر . وجعل ظهرهم إلى سلع ـ وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام ـ وجعل بينه وبين العدو خندقا . والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة . وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات .
وفى هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغل وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم . ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين . ومقصودهم الاستيلاء على الدار، واصطلام أهلها . كما نزل أولئك بنواحى المدينة بإزاء المسلمين .
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق ـ على ما قيل : بضعا وعشرين ليلة . وقيل : عشرين ليلة .(2/227)
وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول /انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه؛ يوم الاثنين حادى أو ثانى عشر جمادى الأولى، يوم دخل العسكر ـ عسكر المسلمين ـ إلى مصر المحروسة . واجتمع بهم الداعى، وخاطبهم فى هذه القضية . وكان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لما ألقى فى قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم : ألقى الله فى قلوب عدوهم الروع والانصراف .
وكان عام الخندق برد شديد، وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] .
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد ـ على خلاف أكثر العادات ـ حتى كره أكثر الناس ذلك . وكنا نقول لهم : لا تكرهوا ذلك؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة . وكان ذلك من أعظم الأسباب التى صرف الله به العدو؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله . وهلك ـ أيضًا ـ منهم من شاء الله . وظهر فيهم وفى بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغنى عن بعض كبار المقدمين فى أرض الشام أنه قال : لا بيض الله وجوهنا، أعدونا فى الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم ؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدًا للمسلمين، لو يصطادونهم، لكن فى تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة .
/وقال الله فى شأن الأحزاب : { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 10، 11 ] .(2/228)
وهكذا هذا العام . جاء العدو من ناحيتى علو الشام ـ وهو شمال الفرات ـ وهو قبلى الفرات ـ فزاغت الأبصار زيغًا عظيمًا، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو، وتوجهه إلى دمشق . وظن الناس بالله الظنونا . هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام . وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر . وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام . وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها . وهذا ـ إذا أحسن ظنه ـ قال : إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين . ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام . وهذا ظن خيارهم . وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديث والمبشرات أمانى كاذبة، وخرافات لاغية . وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل /يتفهم، ولا لسان يتكلم .
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب . ولا يميز فى التحديث بين المخطئ والصائب . ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدى لدفع ما يتخيل أنه معارض لها فى بادئ الروية .(2/229)
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسمًا بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء، { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] . ابتلاهم الله بهذا الابتلاء، الذى يكفر به خطيآتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات، ما استوجبوا به أعلى الدرجات . قال الله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [ الأحزاب : 12 ] . وهكذا قالوا فى هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية، والخلافة الرسالية، وحزب الله المحدثون عنه . حتى حصل لهؤلاء التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم .
/وأما الذين فى قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم فى هذه السورة، فذكروا هنا، وفى قوله : { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } [ الأحزاب : 60 ] ، وفى قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
وذكر الله مرض القلب فى مواضع، فقال تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } [ الأنفال : 49 ] .
والمرض فى القلب كالمرض فى الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون فى القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال، من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته .(2/230)
وذلك ـ كما فسروه ـ هو من ضعف الإيمان، إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته . فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك، كلها أمراض . وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التى فيه .
وعلى هذا فقوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] هو إرادة الفجور، وشهوة الزنا، كما فسروه به . ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم : / ( وأى داء أدوأ من البخل ؟ ! ) .
وقد جعل الله ـ تعالى ـ كتابه شفاء لما فى الصدور، وقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنما شفاء العِىِّ السؤال ) .
وكان يقول فى دعائه : ( اللهم إنى أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء ) .
ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض فى قلبه، كما ذكروا أن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال : لو صححت لم تخف أحدًا . أى : خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك؛ ولهذا أوجب الله على عباده ألا يخافوا حزب الشيطان، بل لا يخافون غيره ـ تعالى ـ فقال : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] أى : يخوفكم أولياءه . وقال لعموم بنى إسرائيل تنبيهًا لنا : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] .(2/231)
وقال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] . وقال : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [ البقرة : 150 ] . وقال تعالى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 3 ] . وقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } [ التوبة : 18 ] . وقال : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ } [ الأحزاب : 39 ] . وقال : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [ التوبة : 13 ] .
فدلت هذه الآية ـ وهى قوله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 12 ] ـ على أن المرض والنفاق فى القلب يوجب الريب فى الأنباء الصادقة التى توجب أمن الإنسان من الخوف،حتى يظنوا أنها كانت غرورًا لهم، كما وقع فى حادثتنا هذه سواء .
ثم قال تعالى : { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } [ الأحزاب : 13 ] ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سَلْع، وجعل الخندق بينه وبين العدو . فقالت طائفة منهم : لا مقام لكم هنا؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة . وقيل : لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى دين الشرك . وقيل : لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم .(2/232)
وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال : ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغى الدخول فى دولة التتار . وقال بعض الخاصة : ما بقيت أرض الشام تسكن، بل ننتقل عنها، إما إلى الحجاز واليمن، وإما إلى مصر . وقال بعضهم : بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد /استسلم لهم أهل العراق، والدخول تحت حكمهم .
فهذه المقالات الثلاث قد قيلت فى هذه النازلة . كما قيلت فى تلك . وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة : لا مقام لكم بهذه الأرض .
ونفى المقام بها أبلغ من نفى المقام . وإن كانت قد قرئت بالضم أيضًا . فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان، فكيف يقيم به ؟ !
قال الله تعالى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } [ الأحزاب : 13 ] .
وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون ـ والناس مع النبى صلى الله عليه وسلم عند سَلْع داخل الخندق، والنساء والصبيان فى آطام المدينة : يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، أى : مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل ـ وأصل العورة : الخالى الذى يحتاج إلى حفظ وستر . يقال : اعور مجلسك إذا ذهب ستره، أو سقط جداره . ومنه عورة العدو . وقال مجاهد والحسن : أى ضائعة تخشى عليها السراق . وقال قتادة : قالوا : بيوتنا مما يلى العدو، فلا نأمن على أهلنا، فائذن لنا أن /نذهب إليها؛لحفظ النساء والصبيان . قال الله تعالى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } ؛ لأن الله يحفظها { إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } فهم يقصدون الفرار من الجهاد، ويحتجون بحجة العائلة .(2/233)
وهكذا أصاب كثيرًا من الناس فى هذه الغزاة . صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة، كمصر، ويقولون : ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون فى ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم فى حصن دمشق، لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله ؟ قال الله تعالى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا } [ الأحزاب : 14 ] ، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة ـ وهى الافتتان عن الدين بالكفر، أو النفاق لأعطوا الفتنة، ولجاؤوها من غير توقف .
وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم . ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام ـ وتلك فتنة عظيمة ـ لكانوا معه على ذلك . كما ساعدهم فى العام الماضى أقوام بأنواع من الفتنة فى الدين والدنيا، ما بين ترك واجبات، وفعل محرمات، إما فى حق الله، وإما فى حق العباد . كترك الصلاة، وشرب /الخمور، وسب السلف، وسب جنود المسلمين، والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين، وحريمهم . وأخذ أموال الناس، وتعذيبهم، وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم، إلى غير ذلك من أنواع الفتنة .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا } [ الأحزاب : 15 ] ، وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا ـ قديمًا وحديثًا ـ فى هذه الغزوة . فإن فى العام الماضى، وفى هذا العام ـ فى أول الأمر ـ كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر، ثم فر منهزمًا، لما اشتد الأمر .(2/234)
ثم قال الله تعالى : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 16 ] ، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل . فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون؛ ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ) . والفرار من القتل كالفرار من الجهاد . وحرف [ لن ] ينفى الفعل فى الزمن المستقبل . والفعل نكرة . والنكرة فى سياق النفى تعم جميع أفرادها . فاقتضى ذلك : أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدًا . وهذا خبر الله الصادق . فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله فى خبره .
/والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن . فإن هؤلاء الذين فروا فى هذا العام لم ينفعهم فرارهم، بل خسروا الدين والدنيا، وتفاوتوا فى المصائب . والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك فى الدين والدنيا، حتى الموت الذى فروا منه كثر فيهم . وقل فى المقيمين . فما منع الهرب من شاء الله . والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد، ولا قتل، بل الموت قل فى البلد من حين خرج الفارون . وهكذا سنة الله قديمًا وحديثًا .(2/235)
ثم قال تعالى : { وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 16 ] ، يقول : لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة، ثم تموتون . فإن الموت لابد منه . وقد حكى عن بعض الحمقى أنه قال : فنحن نريد ذلك القليل . وهذا جهل منه بمعنى الآية . فإن الله لم يقل : إنهم يمتعون بالفرار قليلاً . لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدًا . ثم ذكر جوابًا ثانيًا : أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل . ثم ذكر جوابًا ثالثًا : وهو أن الفار يأتيه ما قضى له من المضرة، ويأتى الثابت ما قضى له من المسرة . فقال : { قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [ الأحزاب : 17 ] .
ونظيره قوله فى سياق آيات الجهاد : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } الآية [ النساء : 78 ] . وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ آل عمران : 156 ] . فمضمون الأمر : أن المنايا محتومة، فكم ممن حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد ـ لما احتضر : لقد حضرت كذا وكذا صفًا، وإن ببدنى بضعًا وثمانين، ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهاأنذا أموت على فراشى كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء .(2/236)
ثم قال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } [ الأحزاب : 18 ] . قال العلماء : كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له : ويحك ! اجلس فلا تخرج . ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر : أن ائتونا بالمدينة، فإنا ننتظركم . يثبطونهم عن القتال . وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدًا . فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم . فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة . فانصرف بعضهم من عند النبى صلى الله عليه وسلم، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ . فقال : أنت هاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إلىَّ، فقد أحيط بك وبصاحبك .
/فوصف المثبطين عن الجهاد ـ وهم صنفان ـ بأنهم إما أن يكونوا فى بلد الغزاة، أو فى غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول، أو بالعمل، أو بهما . وإن كانوا فى غيره راسلوهم، أو كاتبوهم : بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة، ليكونوا معهم بالحصون، أو بالبعد . كما جرى فى هذه الغزاة .
فإن أقوامًا فى العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو، وأقوامًا بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم : هلم إلينا . قال الله ـ تعالى ـ فيهم : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } [ الأحزاب : 18، 19 ] أى : بخلاء عليكم بالقتال معكم، والنفقة فى سبيل الله . وقال مجاهد : بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة . وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله، من نصره ورزقه الذى يجريه بفعل غيره، فإن أقوامًا يشحون بمعروفهم، وأقوامًا يشحون بمعروف الله وفضله . وهم الحساد .(2/237)
ثم قال تعالى : { فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ] ، من شدة الرعب الذى فى قلوبهم، يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره ولا يطرف . فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] ، ويقال فى اللغة : / [ صلقوكم ] وهو رفع الصوت بالكلام المؤذى . ومنه : [ الصالقة ] وهى التى ترفع صوتها بالمصيبة . يقال : صلقه، وسلقه ـ وقد قرأ طائفة من السلف بها، لكنها خارجة عن المصحف ـ إذا خاطبه خطابًا شديدًا قويًا . ويقال : خطيب مسلاق : إذا كان بليغًا فى خطبته، لكن الشدة هنا فى الشر لا فى الخير . كما قال : { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } [ الأحزاب : 19 ] . وهذا السلق بالألسنة الحادة، يكون بوجوه :
تارة يقول المنافقون للمؤمنين : هذا الذى جرى علينا بشؤمكم، فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة .
وتارة يقولون : أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا .
وتارة يقولون : أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم، كما قال تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] .
وتارة يقولون : أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا /أنفسكم والناس معكم .(2/238)
وتارة يقولون أنواعًا من الكلام المؤذى الشديد . وهم مع ذلك أشحة على الخير، أى : حراص على الغنيمة والمال الذى قد حصل لكم . قال قتادة : إن كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم . يقولون : أعطونا، فلستم بأحق بها منا . فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق . وأما عند الغنيمة فأشح قوم . وقيل : أشحة على الخير، أى : بخلاء به، لا ينفعون، لا بنفوسهم ولا بأموالهم .
وأصل الشح : شدة الحرص الذى يتولد عنه البخل والظلم، من منع الحق، وأخذ الباطل . كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمَرَهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) . فهؤلاء أشحاء على إخوانهم، أى : بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير، أى : حراص عليه . فلا ينفقونه، كما قال : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، ثم قال تعالى : { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 20 ] .
فوصفهم بثلاثة أوصاف :
/أحدها : أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد . وهذه حال الجبان الذى فى قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن .
الوصف الثانى : أن الأحزاب إذا جاؤوا تمنوا ألا يكونوا بينكم، بل يكونون فى البادية بين الأعراب، يسألون عن أنبائكم : إيش خبر المدينة ؟ وإيش جرى للناس ؟
والوصف الثالث : أن الأحزاب إذا أتوا ـ وهم فيكم ـ لم يقاتلوا إلا قليلاً . وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس فى هذه الغزوة كما يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه منهم من خبرهم .(2/239)
ثم قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [ الأحزاب : 21 ] ، فأخبر ـ سبحانه ـ أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه . فليتأسوا به فى التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها، وإهانة له . فإنه لو كان كذلك ما ابتلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خير الخلائق ـ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك،/ فيكون فى حقه عذابًا كالكفار والمنافقين .
ثم قال تعالى : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 22 ] . قال العلماء : كان الله قد أنزل فى سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، فبين الله ـ سبحانه منكرًا على من حسب خلاف ذلك ـ أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم بـ [ البأساء ] ، وهى الحاجة والفاقة . و [ الضراء ] وهى الوجع والمرض . و [ الزلزال ] وهى زلزلة العدو .(2/240)
فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ الأحزاب : 22 ] ، وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال . وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا لحكم الله وأمره . وهذه حال أقوام فى هذه الغزوة قالوا ذلك .
وكذلك قوله : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } [ الأحزاب : 23 ] أى : عهده الذى عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل، أو عاش . و [ النحب ] : النذر والعهد . وأصله من النحيب . وهو /الصوت . ومنه : الانتحاب فى البكاء، وهو الصوت الذى تكلم به فى العهد . ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق فى اللقاء ـ ومن صدق فى اللقاء فقد يقتل ـ صار يفهم من قوله : { قَضَى نَحْبَهُ } أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب : نذر الصدق فى جميع المواطن؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت . وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } [ الأحزاب : 23 ] أى : أكمل الوفاء . وذلك لمن كان عهده مطلقًا بالموت، أو القتل . { وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ } قضاءه، إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد . وأصل القضاء : الإتمام والإكمال .
{(2/241)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 24 ] . بين الله ـ سبحانه ـ أنه أتى بالأحزاب ليجزى الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا فى إيمانهم، كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] فحصر الإيمان فى المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون فى قولهم : آمنا، لا من قال، كما قالت الأعراب : { آمنا } [ الحجرات : 14 ] ، والإيمان لم يدخل فى قلوبهم، بل انقادوا واستسلموا . وأما المنافقون فهم بين أمرين : إما أن يعذبهم، وإما أن يتوب عليهم . فهذا حال الناس فى الخندق وفى هذه الغزاة .
/وأيضًا، فإن الله ـ تعالى ـ ابتلى الناس بهذه الفتنة، ليجزى الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون، لينصروا الله ورسوله، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم . ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين؛ فإن منهم من ندم . والله ـ سبحانه ـ يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات . وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها .(2/242)
وقد ذكر أهل المغازى ـ منهم ابن إسحاق ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى الخندق : ( الآن نغزوهم، ولا يغزونا ) ، فما غزت قريش ولا غطفان، ولا اليهود المسلمين بعدها، بل غزاهم المسلمون، ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة . كذلك ـ إن شاء الله ـ هؤلاء الأحزاب من المغل وأصناف الترك ومن الفرس، والمستعربة، والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا . ويتوب الله على من يشاء من المسلمين، الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم، ويحسن ظنهم بالإسلام، وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم . فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولى الأبصار، كما قال : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [ الأحزاب : 25 ] .
/ فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا ـ ريح شديدة باردة ـ وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرًا . إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين، فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم، والبرد الشديد، والريح العاصف، والجوع المزعج، ما الله به عليم .(2/243)
وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التى وقعت فى هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة . وكنا نقول لهم : هذا فيه خيرة عظيمة . وفيه لله حكمة وسر، فلا تكرهوه . فكان من حكمته : أنه فيما قيل : أصاب قازان وجنوده، حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل : سبب رحيلهم . وابتلى به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه . وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضى حلب : يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله فى قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه . فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو، جزاء منه، وبيانًا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الديار .
/وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضًا وتعاديًا، كما ألقى ـ سبحانه ـ عام الأحزاب بين قريش وغطفان، وبين اليهود . كما ذكر ذلك أهل المغازى . فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك، كما ذكره أهل المغازى، مثل عروة بن الزبير، والزهرى، وموسى بن عقبة، وسعيد بن يحيى الأموى، ومحمد بن عائذ، ومحمد بن إسحاق، والواقدى، وغيرهم .
ثم تبقى بالشام منهم بقايا، سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم، مضافاً إلى عسكر حماة وحلب، وما هنالك . وثبت المسلمون بإزائهم . وكانوا أكثر من المسلمين بكثير، لكن فى ضعف شديد وتقربوا إلى حماة، وأذلهم الله ـ تعالى ـ فلم يقدموا على المسلمين قط . وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم، فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار، كما جرى فى غزوة الخندق، حيث قتل على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فيها عمرو بن عبد ود العامرى لما اقتحم الخندق، هو ونفر قليل من المشركين .(2/244)
كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين . وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم . وساق المسلمون خلفهم فى آخر /النوبات،فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات . وبعضهم فى جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم، وخالطوهم، وأصاب المسلمون بعضهم . وقيل : إنه غرق بعضهم .
وكان عبورهم وخلو الشام منهم فى أوائل رجب، بعد أن جرى ـ ما بين عبور قازان أولاً وهذا العبورـ رجفات ووقعات صغار، وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة؛ لأجل الغزاة، لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا . وثبت بإزائهم المقدم الذى بحماة، ومن معهم من العسكر، ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم، ونالوا أجرًا عظيمًا . وقد قيل : إنهم كانوا عدة كمانات، إما ثلاثة، أو أربعة . فكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقى فى قلوب عدوهم الرعب فيهربون، لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل [ تيزين ]
و [ الفوعة ] و [ معرة مصرين ] وغيرها ما لم يكونوا وطئوه فى العام الماضى .
وقيل : إن كثيرًا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ـ بسبب الرفض ـ وأن عند بعضهم فرامين منهم، لكن هؤلاء ظلمة، ومن أعان ظالمًا بلى به، والله تعالى يقول : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] .(2/245)
وقد ظاهروهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب،من /أهل [ سيس ] والأفرنج . فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهى الحصون ـ ويقال للقرون : الصياصى ـ ويقذف فى قلوبهم الرعب . وقد فتح الله تلك البلاد . ونغزوهم إن شاء الله ـ تعالى ـ فنفتح أرض العراق وغيرها، وتعلو كلمة الله ويظهر دينه؛ فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس . وخرجت عن سنن العادة . وظهر لكل ذى عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التى بارك فيها للعالمين ـ بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم، وكر العدو كرة فلم يلو عن . . وخذل الناصرون فلم يلووا على . . . وتحير السائرون فلم يدروا من . . . ولا إلى . . . وانقطعت الأسباب الظاهرة . وأهطعت الأحزاب القاهرة، وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق .
فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة، وأساسًا /لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفى صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا .(2/246)
قال الشيخ ـ رحمه الله : كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر فى جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد . ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم، وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم . فكتبته فى رجب، والله أعلم . والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=541 - TOP#TOPوسئل شيخ الإسلام تقى الدين عمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على ابن أبى طالب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته، وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه، وأنهم كفروا بذلك، فهل يجب قتالهم ؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا ؟
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله .(2/247)
فلو قالوا : نصلى ولا نزكى، أو نصلى الخمس ولا نصلى الجمعة ولا الجماعة، أو نقوم بمبانى الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه، أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين، وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة،/ أو قالوا : إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين، أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وما عليه جماعة المسلمين، فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها، كما جاهد المسلمون مانعى الزكاة، وجاهدوا الخوارج وأصنافهم، وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام .(2/248)
وذلك لأن الله ـ تعالى ـ يقول فى كتابه : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] . فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر، وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 278، 279 ] ، فقد أخبر ـ تعالى ـ أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله، والربا آخر ما حرم الله فى القرآن، فما حرمه قبله أوكد . وقال تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } [ المائدة : 33 ] .
/فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول فى طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله، ومن عمل فى الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى فى الأرض فسادًا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة، حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال، وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين فى الأرض فسادًا . وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه، ويقرون بالإيمان بالله ورسوله .(2/249)
فالذى يعتقد حل دماء المسلمين، وأموالهم، ويستحل قتالهم، أولى بأن يكون محاربًا لله ورسوله، ساعيًا فى الأرض فسادًا من هؤلاء . كما أن الكافر الحربى الذى يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ويرى جواز قتالهم، أولى بالمحاربة من الفاسق الذى يعتقد تحريم ذلك . وكذلك المبتدع الذى خرج عن بعض شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، وأموالهم، هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينًا يتقرب به إلى الله . كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينًا تتقرب به إلى الله .
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التى يعتقد أصحابها أنها ذنوب . وبذلك مضت سنة رسول الله / صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم، والصلاة خلفهم مع ذنوبهم، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنته، وأخبر عن ذى الخويصرة وأصحابه ـ مع عبادتهم وورعهم ـ أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . وقد قال تعالى فى كتابه : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] .
فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضي بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى فى قلوبهم حرج من حكمه . ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة .(2/250)
وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين . ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال : لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر : كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم /وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ) ؟ فقال أبو بكر : ألم يقل : ( إلا بحقها ) ؟ ! فإن الزكاة من حقها . والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق . فاتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم .
وهذا الاستنباط من صِدِّيق الأمة قد جاء مصرحًا به . ففى الصحيحين عن عبد الله ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات .(2/251)