رأي شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
(رحمه الله) بالرافضة
جمعه وحققه وعلق عليه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا- تقديم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن التشيع قد نشأ في المجتمع الإسلامي الأول بعد مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه
وقد مرَّ التشيعُ بمراحل متعددة ، فلا بد من ذكرها باختصار لنرى ما آل إليه أخيرا ،
المرحلة الأولى -
ظهر بعد مقتل عثمان رضي الله عنه حيث كان بعض التابعين من أهل الكوفة وغيرها يرون أن عليًّا رضي الله عنه أفضل من عثمان رضي الله عنه ، ولم يكن هناك خلاف بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
ومع هذا فقد كان من هؤلاء الفقيه والمحدِّث والزاهد ، وقد روى عنهم أهل العلم ، ونقلوا آراءهم
المرحلة الثانية -
ظهرت فرقة جديدة تنكر خلافة عثمان رضي الله عنه ، بعكس الفرقة الأولى ، ورد عليهم أهل السنة والجماعة ، وهؤلاء يمكن أن نسميهم غلاة الشيعة ، فلا يقبل من حديثهم إلا ما وافق الثقات ، وكان لا يتعلق ببدعتهم .
المرحلة الثالثة-
ظهرت فرقة جديدة ، تفضل عليًّا رضي الله عنه على من سبقه من الخلفاء الراشدين ، وقد أنكر عليهم عليٌّ رضي الله عنه بشدة ، وجلد من فضله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حد الافتراء
المرحلة الرابعة -
ظهرت فرقة جديدة وهي تنكر إمامة الخلفاء الثلاثة ، بل وتكفرهم ، وتعتبرهم ظالمين لعلي رضي الله عنه ، وتؤمن بالوصية ، والعصمة ، والرجعة ، وهؤلاء هم الرافضة ( الشيعة الإثني عشرية أو الإمامية )(1/1)
وهؤلاء قد تبنوا أفكار عبد الله بن سبأ اليهودي تماما لأغراض دنيئة ، خبيثة ، وما زالوا يغلون في عليٍّ رضي الله عنه وبنيه حتى رفعوهم إلى مراتب أعلى من مراتب الأنبياء والمرسلين ، وخرج من هذه الفرقة الخبيثة الباطنية والخرمية والبابكية والقرامطة ، والنصيرية ، والإسماعلية ، والدروز وغيرهم من فرق الكفر والضلال
قال أبو عبد الله البخاري في كتابه النفيس خلق أفعال العباد : " ما أبالي صليت خلف الجهمي أو الرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى ، ولا يسلم عليهم ، ولا يعادون ، ولا يناكحون ، ولا يشهدون ، ولا تؤكل ذبائحهم "
**********************
وفي العصور المتأخرة لم يعد هناك شيء اسمه تشيع بالمعنى الذي ذكر في المراحل الأولى ، بل لا يوجد إلا رفض محض ، فتسميتهم اليوم بشيعة فيه تجوُّزٌ كبيرٌ ، بل لا يوجد إلا الرافضة الغلاة ، الذين لا علاقة لهم بالتشيع السابق بتاتا .
*******************
وأصبح نشاط الرافضة اليوم مخيف ومرعب ، حيث وُفِّرَ لهم كل شيء من أجل نشر باطلهم وإفكهم في العالم الإسلامي ، باسم حبّ آل البيت زورا وبهتانا ، وقد طبعت آلاف النسخ القديمة والحديثة ، وبطبعات فاخرة ، وكل طبعة بالألوف ، وتوزع مجانا في كل مكان حلَّ فيه الرافضة غربا وشرقاً .(1/2)
ولهم مواقع كثيرة جدًّا على النت ، كلها تنضح بالسم الزعاف على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقدح فيهم ، وسبِّهم ، والوقوع في أذيتهم ، فلا يشكُّ عاقل يؤمن بالله واليوم والآخر بكفر بهؤلاء ، وأنهم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى ، وذلك لأن اليهود والنصارى مكشوفون لدى المسلمين ، فلا ينخدعون بهم ، بينما الرافضة يزعمون أنهم مسلمون ، والله تعالى لم يقل في كتابه العزيز إن اليهود والنصارى في الدرك الأسفل من النار ، ولكنه قال ذلك في المنافقين الذين يعيشون وسط المجتمع الإسلامي ، ويطعنون المسلمين من الخلف ، قال تعالى { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) [النساء/145-147] }
*************************
وأما الدعوة للتقارب مع الرافضة وأنهم مذهب خامس ، ولا فرق بيننا وبينهم إلا في الفروع ، فهي دعوة كاذبة فاجرة ، تدل على جهل من يدعو إلى مثل تلك الدعوة ، وذلك لأنه لم يقرأ كتب الرافضة القديمة والحديثة ، ولم ينظر إلى واقع الرافضة اليوم ، والغاية من هذه الدعوات هو تمييع الإسلام الذي أنزله الله تعالى على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإلغاء فكرة الولاء والبراء من الدين ، وجعل أهل السنة والجماعة يصبحون رافضة بالتدريج ، ولا يهمنا كثرة الناعقين في هذا الأمر الجلل ، لأنه ليس بعد الحقِّ إلا الضلال .
******************(1/3)
وأما محاولة تلميع صورتهم وتحسينها من خلال حزب الشيطان اللبناني، وأنه يقف وحده ضد العدوِّ الصهيوني الشرس !!!!، فهذا التلميع لا ينطلي إلا على السذَّج من الناس ، وذلك لأن تاريخ الرافضة كله مخازي ومصائب على أهل السنة والجماعة ، وما يجري في العراق من مذابح لأهل السنة على يدي أساتذة حسن نصر الشيطان ليس عنا ببعيد ، فلا يجوز الانخداع بوسائل الإعلام التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب .
********************
والذي أراه من خلال خبرتي وتجاربي ، أننا لو جمعنا جميع كتب الرفض قديمها وحديثها ووضعناها في كفة ووضعنا في الكفة الأخرى منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، لفاقها جميعا ، وبين عوارها وأسكتها بلا رجعة .
ومن ثم فإن كل من كتب عن الرافضة وبين بلاواهم، فهو عالة على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
فهو فارس الميدان بلا نزاع
*********************
وبما أن ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله طويل وشائك ، وقلَّ من يستطيع قراءته اليوم ، فقد قمت باختصاره ، وتبيان رأيه فيهم بشكل جليٍّ ، حتى يستطيع أيُّ واحد منا قراءته بسهولة ويسر ، و هو أمر في غاية الأهمية لنا في هذه الأيام العصيبة ، التي اشتدت فيها فتنة القوم ، واستطاعوا من خلال وسائل إعلامهم الخبيثة الماكرة التدليس والتلبيس على الناس .
ثانيا- طريقة عملي في هذا الكتاب
يظهر هذا من خلال الأمور التالية :
1. مقدمة عن تاريخ الرافضة وقد اشتملت على الموضوعات التالية :
* خيانة الرافضة لأهل السنة
* رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لِلمَلِكِ النَّاصِرِ بِفَتْحِ جَبَلِ كسروان
* أثر الشيعة في العالم الإسلامي
* نشر الرفض في العالم الإسلامي
* ظهور اتجاه رافضي عند بعض الكتاب المنتسبين للسنة
* تشويه تاريخ المسلمين
* أثرهم في الأدب العربي
* أثرهم في المجال السياسي
* أثرهم في الفتن الداخلية
* أثرهم في نشر الإباحية(1/4)
* عقيدة الرافضة في أهل السنة أو كما يسمونهم ( النواصب ) !
* نجاسة أهل السُّنّة عند الرافضة
* حكم من لا يقول بإمامة الاثني عشر عند الشيعة
* جواز اغتياب المخالفين
* عقيدة الطينة عند الشيعة الرافضة
* هل يجوز التعبد بمذهب الاثنى عشرية
2. نقلت خلاصة رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالرافضة من خلال كتابه النفيس منهاج السنة النبوية ومجموع الفتاوى
3. قسمته لفقرات ووضعت عنوانا مناسبا لها ، ورقمتها من أول فقرة حتى آخر فقرة لسهولة الرجوع إليها
4. قمت بتصحيح الأخطاء المطبعية وتشكيل الكلمات الصعبة
5. قمت بمراجعة جميع الآيات القرآنية ، وعزوت كل آية لمصدرها
6. قمت بمراجعة جميع الأحاديث النبوية ، وخرجتها من مصاردها ، وحكمت على الأحاديث التي ليست في الصحيحين ، بما يناسبها بعبارة موجزة
7. علقت على كثير من الموضوعات التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، للتأكيد على صحة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
8. قمت بعمل فهرس عام للموضوعات حسب ترتيبها بالكتاب وذلك لسهولة الرجوع إليها
9. ذكرت مصادر هذه الدراسة ومراجعها بآخر الكتاب
هذا وأسال الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناشره ، إنه نعم المولى ونعم النصير
قال تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام :{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود/88] }
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 24 رجب 1427 هـ الموافق
****************************
ثانيا- المقدمات
خيانة الرافضة لأهل السنة(1/5)
* قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " (3/243) : " إِنَّ أَصلَ كُل فِتْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ هُم الشِّيْعَةُ ، وَمَنْ انْضَوَى إِلَيْهِمْ ، وَكَثِيْرُ مِنْ السُّيُوْفِ الَّتِي فِي الإِسْلاَمِ ، إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِم ، وَبِهِم تَسْتَرت الزّنَادقَةُ " .ا.هـ.
وَقَالَ أَيْضاً (4/110) : " فَهُم يُوالُونَ أَعْدَاءَ الدِّيْنِ الَّذِيْنَ يَعْرِفُ كُل أَحَدٍ مُعادَاتِهِم مِنَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِيْنَ ، وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ الَّذِيْنَ هُم خِيَارُ أَهْلِ الدِّيْنِ ، وَسَادَاتِ المُتَّقِيْنَ ... وَكَذَلِكَ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الأَسبَابِ فِي اسْتيلاَءِ النَّصَارَى قَدِيْماً عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ المُسْلِمُوْنَ مِنْهُم " .ا.هـ.
وَقَالَ أَيْضاً (3/38) : " فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى المُسْلِمُوْنَ أَنَّهُ إِذَا ابْتُلِيَ المُسْلِمُوْنَ بَعَدُوِّ كَافِرٍ كَانُوا مَعَهُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ " .ا.هـ.(1/6)
* وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " (3/244) : " وَقَدْ رَآهُم المُسْلِمُوْنَ بِسَواحِلِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا إِذَا اقْتَتَلَ المُسْلِمُوْنَ وَالنَّصَارَى هَوَاهُمْ مَعَ النَّصَارَى يَنْصُرُونَهُم بِحَسَبِ الإِمْكَانِ ، وَيَكرَهُوْنَ فَتَحَ مدائِنهمْ كَمَا كَرِهُوا فَتَحَ عكّا وَغَيْرِهَا ، وَيَختَارُونَ إِدَالَتَهُم عَلَى المُسْلِمِيْنَ حَتَّى إِنَّهُمْ لَمَّا انْكَسَرَ المُسْلِمُوْنَ سَنَةَ غَازَان سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسَمائَة ، وَخَلَتْ الشَّامُ مِنْ جَيْشِ المُسْلِمِيْنَ عَاثُوا فِي البِلاَدِ ، وَسَعَوْا فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الفسَادِ مِنَ القَتْلِ وَأَخَذِ الأَمْوَالِ ، وَحَمَلِ رَايَةِ الصَّلِيْبِ ، وَتَفْضِيْلِ النَّصَارَى عَلَى المُسْلِمِيْنَ ، وَحَمَلِ السَّبْيِ وَالأَمْوَالِ وَالسِّلاَحِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ إِلَى النَّصَارَى بقُبْرُص وَغَيْرِهَا ، فَهَذَا وَأَمثَالُهُ قَدْ عَايَنَهُ النَّاسُ ، وَتوَاتَر عِنْدَ مَنْ لَم يُعايِنُه " .ا.هـ.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى " (4/22) : " وَفِي دَوْلَةِ " بَنِي بويه " وَنَحْوِهِمْ : الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ أَصْنَافُ الْمَذَاهِبِ الْمَذْمُومَةِ . قَوْمٌ مِنْهُمْ زَنَادِقَةٌ وَفِيهِمْ قَرَامِطَةٌ كَثِيرَةٌ وَمُتَفَلْسِفَةٌ وَمُعْتَزِلَةٌ وَرَافِضَةٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فِيهِمْ غَالِبَةٌ عَلَيْهِمْ .
فَحَصَلَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ الْوَهْنِ مَا لَمْ يُعْرَفْ حَتَّى اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَتْ الْقَرَامِطَةُ فِي أَرْضِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَرَتْ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ " .ا.هـ.(1/7)
* وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " (3/39) : " وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ بِسَاحلِ الشَّامِ جَبُّلٌ كَبِيْرٌ فِيهِ أُلُوفٌ مِنَ الرَّافِضَّةِ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ النَّاسِ ، وَيَأْخُذُوْنَ أَمْوَالَهُمْ ، وَقَتَلُوا خَلقاً عَظِيْماً ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، وَلَمَا انْكَسَرَ المُسْلِمُوْنَ سَنَةَ غَازَان أَخَذُوا الخَيْلَ وَالسِّلاَحِ وَالأُسَارَى ، وَبَاعُوهُم لِلكُفَّارِ وَالنَّصَارَى بقُبْرُص ، وَأَخَذُوا مَنْ مَرَّ بِهِم مِنْ الجُنْدِ ، وَكَانُوا أَضَرَّ عَلَى المُسْلِمِيْنَ مِنْ جَمِيْعِ الأَعْدَاءِ ، وَحَمَلَ بَعْضُ أُمَرَائِهِم رَايَةَ النَّصَارَى ، وَقَالُوا لَهُ : " أَيّمَا خَيْرٌ : المُسْلِمُوْنَ أَو النَّصَارَى ؟ " فَقَالَ : بَل النَّصَارَى ، فَقَالُوا لَهُ : " مَعَ مَنْ تُحشَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ ؟ " ، فَقَالَ : " مَعَ النَّصَارَى " ، وَسلَّمُوا إِلَيْهِم بَعْضَ بِلاَدِ المُسْلِمِيْنَ .
وَمَعَ هَذا فَلَمَا اسْتَشَارَ بَعْضُ وُلاَةِ الأَمْرِ فِي غَزْوِهِمْ ، وَكَتَبْتُ جَوَاباً مبسَوْطاً فِي غَزْوِهِمْ (1) ... وَذَهَبْنَا إِلَى نَاحِيَتِهِم ، وَحَضَرَ عِنْدِي جَمَاعَةٌ مِنْهُم ، وَجَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُم مُنَاظَرَاتٌ وَمُفَاوضَاتٌ يَطُولُ وَصفُهَا ، فَلَمَّا فَتَحَ المُسْلِمُوْنَ بَلَدَهُم ، وَتَمَكَّنَ المُسْلِمُوْنَ مِنْهُم نَهَيْتُهُم عَنْ قَتْلِهِم ، وَعَنْ سَبيهِم ، وَأَنْزَلْنَاهُم فِي بِلاَدِ المُسْلِمِيْنَ مُتَفَرِّقِين لِئَلاَّ يَجتمعُوا " .ا.هـ.
(1) سَأَذْكُرُ جَوَابَ شَيْخِ الإِسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ ، وَهِي رِسَالَةٌ أَرْسَلَهَا إِلَى المَلِكِ النَّاصِرِ .
تَهْنِئةُ شَيْخِ الإِسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ لِلمَلِكِ النَّاصِرِ بِفَتْحِ جَبَلِ كسروان(1/8)
وَمَا صَنَعَهُ الرَّافِضَّةُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ خِيَانَاتٍ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ الدَّاعِي أَحْمَد ابْنِ تيمية إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ أَيَّدَ اللَّهُ فِي دَوْلَتِهِ الدِّينَ وَأَعَزَّ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَمَعَ فِيهَا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْخَوَارِجَ الْمَارِقِينَ . نَصَرَهُ اللَّهُ وَنَصَرَ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَصْلَحَ لَهُ وَبِهِ أُمُورَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَأَحْيَا بِهِ مَعَالِمَ الْإِيمَانِ وَأَقَامَ بِهِ شَرَائِعَ الْقُرْآنِ وَأَذَلَّ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ
فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
أَمَّا بَعْدُ .(1/9)
فَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ . وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي دَوْلَتِهِ نِعَمًا لَمْ تُعْهَدْ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ . وَجَدَّدَ الْإِسْلَامَ فِي أَيَّامِهِ تَجْدِيدًا بَانَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَى الدُّوَلِ الْمَاضِيَةِ . وَتَحَقَّقَ فِي وِلَايَتِهِ خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ أَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ تَجْدِيدِ الدِّينِ فِي رُءُوسِ المئين . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوزِعُهُ وَالْمُسْلِمِينَ شُكْرَ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَيُتِمُّهَا بِتَمَامِ النَّصْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْدَاءِ الْمَارِقِينَ .
وَذَلِكَ : أَنَّ السُّلْطَانَ - أَتَمَّ اللَّهُ نِعْمَتَهُ - حَصَلَ لِلْأُمَّةِ بِيُمْنِ وِلَايَتِهِ وَحُسْنِ نِيَّتِهِ وَصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَعَقِيدَتِهِ وَبَرَكَةِ إيمَانِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِ هِمَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَثَمَرَةِ تَعْظِيمِهِ لِلدِّينِ وَشِرْعَتِهِ وَنَتِيجَةِ اتِّبَاعِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ : مَا هُوَ شَبِيهٌ بِمَا كَانَ يَجْرِي فِي أَيَّامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَا كَانَ يَقْصِدُهُ أَكَابِرُ الْأَئِمَّةِ الْعَادِلِينَ : مِنْ جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْمَارِقِينَ مِنْ الدِّينِ وَهُمْ صِنْفَانِ :
أَهْلُ الْفُجُورِ وَالطُّغْيَانِ وَذَوُو الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ الْخَارِجُونَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ وَتَرْكًا لِسَبِيلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ التَّتَارُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ كُلِّ خَارِجٍ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ بِبَعْضِ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ .(1/10)
وَالصِّنْفُ الثَّانِي : أَهْلُ الْبِدَعِ الْمَارِقُونَ وَذَوُو الضَّلَالِ الْمُنَافِقُونَ الْخَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُفَارِقُونَ لِلشِّرْعَةِ وَالطَّاعَةِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَزَوْا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ مَنْ أَهْلِ الْجَبَلِ وَالْجُرْد والكسروان . فَإِنَّ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ عَلَى هَؤُلَاءِ الطَّغَامِ هُوَ مِنْ عَزَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى السُّلْطَانِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ .
وَلِلرِسَالَةَ بَقِيَّةٌ ...
تعليق على رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية :
رَحِمَ اللهُ شَيْخَ الإِسْلاَمِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ كَأَنَّهُ يَعِيْشُ بَيْنَنَا ، فَقَدْ قسَّمَ أَعْدَاءَ اللهِ إِلَى صِنْفَينِ :
عَدُوٍّ خَارِجِيّ ، وَهُم الكَفَرَةَ مِنْ أَهْلِ الصَّليبِ وَغَيْرِهِم الَّذِيْنَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ : " وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا " [ البَقَرَةُ : 217 ] ، وَقَالَ : " وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً " [ النِّسَاءُ : 89 ] .
عَدُوٍّ دَاخلِيّ ، وَهُم المُنَافِقُوْنَ مِنَ المُبْتَدِعَةِ وَالعَلمَانيينَ الَّذِيْنَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ : " هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ " [ المُنَافِقُوْنَ : 4 ] .
قَالَ القُرْطُبِيُّ : " وَفِي قَوْله تَعَالَى : وَجْهَانِ :
أَحَدهمَا : فَاحْذَرْ أَنْ تَثِق بِقَوْلِهِمْ أَوْ تَمِيل إِلَى كَلَامهمْ .
الثَّانِي : فَاحْذَرْ مُمَايَلَتهُمْ لِأَعْدَائِك وَتَخْذِيلهمْ لِأَصْحَابِك " .ا.هـ.(1/11)
وَقَالَ اللهُ فِي صِفَاتِ المُنَافِقِيْنَ : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " [ الحَشْرُ : 11 ] . ..انتهى التعليق
وَذَلِكَ : أَنَّ هَؤُلَاءِ وَجِنْسَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الْمُفْسِدِينَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ . فَإِنَّ اعْتِقَادَهُمْ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَهْلَ بَدْرٍ وَبَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَجُمْهُورَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءَهُمْ أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ وَغَيْرَهُمْ وَمَشَايِخَ الْإِسْلَامِ وَعُبَّادَهُمْ وَمُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْنَادَهُمْ وَعَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْرَادَهُمْ . كُلُّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ لِأَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عِنْدَهُمْ وَالْمُرْتَدُّ شَرٌّ مِنْ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . وَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَدِّمُونَ الفرنج وَالتَّتَارَ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ .(1/12)
وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ التَّتَارُ إلَى الْبِلَادِ وَفَعَلُوا بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْفَسَادِ وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلِ قُبْرُصَ فَمَلَكُوا بَعْضَ السَّاحِلِ وَحَمَلُوا رَايَةَ الصَّلِيبِ وَحَمَلُوا إلَى قُبْرُصَ مِنْ خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسِلَاحِهِمْ وَأَسْرَاهُمْ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ وَأُقِيمَ سُوقُهُمْ بِالسَّاحِلِ عِشْرِينَ يَوْمًا يَبِيعُونَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ عَلَى أَهْلِ قُبْرُصَ وَفَرِحُوا بِمَجِيءِ التَّتَارِ هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ مِثْلَ أَهْلِ جَزَيْنَ وَمَا حَوَالَيْهَا . وَجَبَلِ عَامِلٍ وَنَوَاحِيهِ .
وَلَمَّا خَرَجَتْ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ مِنْهُمْ . وَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ النُّصْرَةَ الْعُظْمَى عِنْدَ قُدُومِ السُّلْطَانِ كَانَ بَيْنَهُمْ شَبِيهُ بِالْعَزَاءِ .
كُلُّ هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْهُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي خُرُوجِ جنكسخان إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَفِي اسْتِيلَاءِ هُولَاكُو عَلَى بَغْدَادَ وَفِي قُدُومِهِ إلَى حَلَبَ وَفِي نَهْبِ الصالحية وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ .(1/13)
لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ . وَمَنْ اسْتَحَلَّ الْفُقَّاعَ فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَمَنْ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَمَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ تَرَضَّى عَنْهُمْ أَوْ عَنْ جَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ : فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُنْتَظِرِهِمْ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ .
وَهَذَا الْمُنْتَظَرُ صَبِيٌّ عُمْرُهُ سَنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ خَمْسٌ . يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَخَلَ السِّرْدَابَ بسامرا مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعمِائَةِ سَنَةٍ . وَهُوَ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ . وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ . فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَهُوَ شَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْوُجُودِ قَطُّ .
وَعِنْدَهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ حَقِيقَةً فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ آمَنَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُ قُلُوبَ عِبَادِهِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِحَقِيقَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَافِرٌ .(1/14)
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي تُلَقِّنُهُ لَهُمْ أَئِمَّتُهُمْ . مِثْلَ بَنِي الْعُود ؛ فَإِنَّهُمْ شُيُوخُ أَهْلِ هَذَا الْجَبَلِ . وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيُفْتُونَهُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ .
وَقَدْ حَصَلَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ طَائِفَةٌ مِنْ كُتُبِهِمْ تَصْنِيفُ ابْنِ الْعُود وَغَيْرِهِ . وَفِيهَا هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْهُ . وَهُمْ اعْتَرَفُوا لَنَا بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ عَلَّمُوهُمْ وَأَمَرُوهُمْ لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا يُظْهِرُونَ التَّقِيَّةَ وَالنِّفَاقَ . وَيَتَقَرَّبُونَ بِبَذْلِ الْأَمْوَالِ إلَى مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُمْ . وَهَكَذَا كَانَ عَادَةُ هَؤُلَاءِ الْجَبَلِيَّةِ ؛ فَإِنَّمَا أَقَامُوا بِجَبَلِهِمْ لَمَّا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنْ النِّفَاقِ وَيَبْذُلُونَهُ مِنْ الْبِرْطِيلِ لِمَنْ يَقْصِدُهُمْ .
وَالْمَكَانُ الَّذِي لَهُمْ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ . ذَكَرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ فَسَادُهُمْ فَقَتَلُوا مِنْ النُّفُوسِ وَأَخَذُوا مِنْ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ .(1/15)
وَلَقَدْ كَانَ جِيرَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِقَاعِ وَغَيْرِهَا مَعَهُمْ فِي أَمْرٍ لَا يُضْبَطُ شَرُّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَيَفْعَلُونَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ . كَانُوا فِي قَطْعِ الطُّرُقَاتِ وَإِخَافَةِ سُكَّانِ الْبُيُوتَاتِ عَلَى أَقْبَحِ سِيرَةٍ عُرِفَتْ مِنْ أَهْلِ الْجِنَايَاتِ يَرُدُّ إلَيْهِمْ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ قُبْرُصَ فَيُضَيِّفُونَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ سِلَاحَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقَعُونَ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يَسْلُبُوهُ . وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يَفْلِتُ مِنْهُمْ بِالْحِيلَةِ ...
وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانُوا أَقَلَّ صَلَاةً وَصِيَامًا . وَلَمْ نَجِدْ فِي جَبَلِهِمْ مُصْحَفًا وَلَا فِيهِمْ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ ؛ وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ عَقَائِدُهُمْ الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَبَاحُوا بِهَا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ . وَهُمْ مَعَ هَذَا فَقَدْ سَفَكُوا مِنْ الدِّمَاءِ وَأَخَذُوا مِنْ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَثِيرٌ مِنْ فَسَادِ التتر هُوَ لِمُخَالَطَةِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ قازان وَهُولَاكُوَ وَغَيْرِهِمَا ؛ فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ أَضْعَافَ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ . وَأَرْضِهِمْ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ .(1/16)
وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الرَّافِضَةَ لَا حَقَّ لَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا جَعَلَ الْفَيْءَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " فَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ سَلِيمًا لَهُمْ وَلِسَانُهُ مُسْتَغْفِرًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ .
وَقُطِعَتْ أَشْجَارُهُمْ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاصَرَ بَنِي النَّضِيرِ قَطَعَ أَصْحَابُهُ نَخْلَهُمْ وَحَرَّقُوهُ . فَقَالَ الْيَهُودُ : هَذَا فَسَادٌ . وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ : " مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ " .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ الشَّجَرِ وَتَخْرِيبِ الْعَامِرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَمَا أَمْكَنَ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَحْضُرُوا كُلُّهُمْ مِنْ الْأَمَاكِنِ الَّتِي اخْتَفَوْا فِيهَا وأيسوا مِنْ الْمَقَامِ فِي الْجَبَلِ إلَّا حِينَ قُطِعَتْ الْأَشْجَارُ . وَإِلَّا كَانُوا يَخْتَفُونَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِمْ . وَمَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْكُنَ الْجَبَلَ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ التُّرْكُمَانَ إنَّمَا قَصْدُهُمْ الرَّعْيُ وَقَدْ صَارَ لَهُمْ مَرْعًى وَسَائِرُ الْفَلَّاحِينَ لَا يَتْرُكُونَ عِمَارَةَ أَرْضِهِمْ وَيَجِيئُونَ إلَيْهِ .(1/17)
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَسَّرَ هَذَا الْفَتْحَ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ بِهِمَّتِهِ وَعَزْمِهِ وَأَمْرِهِ وَإِخْلَاءِ الْجَبَلِ مِنْهُمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ .
وَهُمْ يُشْبِهُونَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : " هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ " " وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ " " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " " مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ " .
وأيضا فَإِنَّهُ بِهَذَا قَدْ انْكَسَرَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَاتِ السُّلْطَانِ وَيَعِزُّ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ .
فَصْلٌ(1/18)
تَمَامُ هَذَا الْفَتْحِ وَبَرَكَتُهُ تُقَدِّمُ مَرَاسِمَ السُّلْطَانِ بِحَسْمِ مَادَّةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ فِي الْبِلَادِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْإِخْوَانِ فِي قُرًى كَثِيرَةٍ مَنْ يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَيَنْتَصِرُونَ لَهُمْ . وَفِي قُلُوبِهِمْ غِلٌّ عَظِيمٌ وَإِبْطَانُ مُعَادَاةٍ شَدِيدَةٍ لَا يُؤْمِنُونَ مَعَهَا عَلَى مَا يُمْكِنُهُمْ . وَلَوْ أَنَّهُ مباطنة الْعَدُوِّ . فَإِذَا أَمْسَكَ رُءُوسَهُمْ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ - مِثْلَ بَنِي الْعُود - زَالَ بِذَلِكَ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ .
وَيَتَقَدَّمُ إلَى قُرَاهُمْ . وَهِيَ قُرًى مُتَعَدِّدَةٌ بِأَعْمَالِ دِمَشْقَ وَصَفْدَ ؛ وَطَرَابُلُس ؛ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ وَحَلَبَ : بِأَنْ يُقَامَ فِيهِمْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ . وَالْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَيَكُونُ لَهُمْ خُطَبَاءُ وَمُؤَذِّنُونَ كَسَائِرِ قُرَى الْمُسْلِمِينَ وَتُقْرَأُ فِيهِمْ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وَتُنْشَرُ فِيهِمْ الْمَعَالِمُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَيُعَاقَبُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِالْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ بِمَا تُوجِبُهُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ .
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَأَمْثَالَهُمْ قَالُوا : نَحْنُ قَوْمٌ جُهَّالٌ . وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُعَلِّمُونَنَا وَيَقُولُونَ لَنَا : أَنْتُمْ إذًا قَاتَلْتُمْ هَؤُلَاءِ تَكُونُونَ مُجَاهِدِينَ وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَهُوَ شَهِيدٌ .(1/19)
وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُقِرُّونَ بِصَلَاةِ وَلَا صِيَامٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَلَا يُحَرِّمُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . مِنْ جِنْسِ الإسماعيلية والنصيرية وَالْحَاكِمِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَهُمْ كُفَّارٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
فَتَقَدَّمَ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ بِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ : مِنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَبْلِيغِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُرَى هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ الْإِسْلَامِيَّةِ . وَأَبْلَغِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَذَلِكَ سَبَبٌ لِانْقِمَاعِ مَنْ يباطن الْعَدُوَّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَدُخُولهمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُعِينُ اللَّهُ بِهَا عَلَى قَمْعِ الْأَعْدَاءِ . فَإِنَّ مَا فَعَلُوهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ " سِيسَ " نَوْعٌ مِنْ غَدْرِهِمْ الَّذِي بِهِ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ . وَفِي ذَلِكَ لِلَّهِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَنُصْرَةٌ لِلْإِسْلَامِ جَسِيمَةٌ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلَّا أُدِيلَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ .
وَلَوْلَا هَذَا وَأَمْثَالُهُ مَا حَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَزْمِ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَلِلْعَدُوِّ مِنْ الْخِذْلَانِ مَا يَنْصُرُ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُذِلُّ بِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ .(1/20)
وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَى سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً وَعَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى (28/398 - 409)
* وقَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (28/527 - 528) : " وَمَذْهَبُ الرَّافِضَةِ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ غَايَتُهُمْ تَكْفِيرُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَشِيعَتِهِمَا . وَالرَّافِضَةُ تَكْفِيرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَجُمْهُورِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَجْحَدُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِمَّا جَحَدَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغُلُوِّ وَالْإِلْحَادِ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ وَفِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ .(1/21)
وَالرَّافِضَةِ تُحِبُّ التَّتَارَ وَدَوْلَتَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ الْعِزِّ مَا لَا يَحْصُلُ بِدَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّافِضَةُ هُمْ مُعَاوِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دُخُولِ التَّتَارِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ إلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً لَهُمْ عَلَى أَخْذِهِمْ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ حَرِيمِهِمْ . وَقَضِيَّةُ ابْنِ العلقمي وَأَمْثَالِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَقَضِيَّتِهِمْ فِي حَلَبَ مَعَ صَاحِبِ حَلَبَ : مَشْهُورَةٌ يَعْرِفُهَا عُمُومُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ النَّصَارَى بِسَوَاحِلِ الشَّامِ : قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَكُونُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ عَاوَنُوهُمْ عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ وَعَزَّ عَلَى الرَّافِضَةِ فَتْحُ عُكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّوَاحِلِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ ذَلِكَ غُصَّةً عِنْد الرَّافِضَةِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ عِيدًا وَمَسَرَّةً عِنْدَ الرَّافِضَةِ .(1/22)
* قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (28/636 - 638) : " فَالرَّافِضَةُ يُوَالُونَ مَنْ حَارَبَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالُونَ التَّتَارَ وَيُوَالُونَ النَّصَارَى . وَقَدْ كَانَ بِالسَّاحِلِ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَبَيْنَ الفرنج مُهَادَنَةٌ حَتَّى صَارَتْ الرَّافِضَةُ تَحْمِلُ إلَى قُبْرُصَ خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ وَسِلَاحَهُمْ وَغِلْمَانَ السُّلْطَانِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْجُنْدِ وَالصِّبْيَانِ . وَإِذَا انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّتَارِ أَقَامُوا الْمَآتِمَ وَالْحُزْنَ وَإِذَا انْتَصَرَ التَّتَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ . وَهُمْ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَى التَّتَارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَقَتْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ . وَوَزِيرِ بَغْدَادَ ابْنِ العلقمي الرَّافِضِي هُوَ الَّذِي خَامَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَاتَبَ التَّتَارَ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ أَرْضَ الْعِرَاقِ بِالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ قِتَالِهِمْ .(1/23)
وَقَدْ عَرَفَ الْعَارِفُونَ بِالْإِسْلَامِ : أَنَّ الرَّافِضَةَ تَمِيلُ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ . وَلَمَّا كَانُوا مُلُوكَ الْقَاهِرَةِ كَانَ وَزِيرُهُمْ مَرَّةً يَهُودِيًّا وَمَرَّةً نَصْرَانِيًّا أَرْمِينِيًّا وَقَوِيَتْ النَّصَارَى بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّصْرَانِيِّ الْأَرْمِينِيِّ وَبَنَوْا كَنَائِسَ كَثِيرَةً بِأَرْضِ مِصْرَ فِي دَوْلَةِ أُولَئِكَ الرَّافِضَةِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ : مَنْ لَعَنَ وَسَبَّ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ . وَفِي أَيَّامِهِمْ أَخَذَتْ النَّصَارَى سَاحِلَ الشَّامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فَتَحَهُ نُورُ الدِّينِ وَصَلَاحُ الدِّينِ . وَفِي أَيَّامِهِمْ جَاءَتْ الفرنج إلَى بلبيس وَغَلَبُوا مِنْ الفرنج ؛ فَإِنَّهُمْ مُنَافِقُونَ وَأَعَانَهُمْ النَّصَارَى وَاَللَّهُ لَا يَنْصُرُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ يُوَالُونَ النَّصَارَى فَبَعَثُوا إلَى نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُونَ النَّجْدَةَ فَأَمَدَّهُمْ بِأَسَدِ الدِّينِ وَابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ . فَلَمَّا جَاءَتْ الْغُزَاةُ الْمُجَاهِدُونَ إلَى دِيَارِ مِصْرَ قَامَتْ الرَّافِضَةُ مَعَ النَّصَارَى فَطَلَبُوا قِتَالَ الْغُزَاةِ الْمُجَاهِدِينَ الْمُسْلِمِينَ وَجَرَتْ فُصُولٌ يَعْرِفُهَا النَّاسُ حَتَّى قَتَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مُقَدِّمَهُمْ شَاوَرَ .(1/24)
وَمِنْ حِينَئِذٍ ظَهَرَتْ بِهَذِهِ الْبِلَادِ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَصَارَ يُقْرَأُ فِيهَا أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيُذْكَرُ فِيهَا مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ وَيَتَرَضَّى فِيهَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ وَإِلَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . فِيهِمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَرْصُدُونَهَا وَفِيهِمْ قَوْمٌ زَنَادِقَةٌ دَهْرِيَّةٌ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَخَيْرُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ وَالرَّافِضَةُ شَرُّ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ " .ا.هـ.
* وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى " (4/429) : " وَ " الرَّافِضَةُ " جُهَّالٌ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ " .
* وَقَالَ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " (3/244) عَنْ دَوْلَةِ " خدا بنده " : " وَانظُر مَا حَصَلَ لَهُم فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ خدا بنده الَّذِي صَنَّفَ لَهُ هَذَا الكِتَابَ - يَعْنِي كِتَابَ " مِنْهَاجِ الكَرَامَةِ " الَّذِي وَضَعَهُ ابنُ المُطَهَّرِ الحِلِّي ، وَرَدَّ عَلَيهِ شَيْخُ الإِسْلاَمِ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " - كَيْفَ ظَهَرَ فِيهِم مِنَ الشَّرِ الَّذِي لَوْ دَامَ وَقَوِيَ أَبْطَلوا بِهِ عَامَّةَ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ لَكِنْ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَا أَنْ يَتِمَّ نُوْرَه وَلَو كَرِهَ الكَافِرُوْنَ " .ا.هـ.
خدا ( بالفارسية ) الله . وبنده : عبد . أي عبد الله .(1/25)
وخدا بنده هو الثامن من ملوك الإيلخانية ، والسادس من ذرية جنكيز خان واسمه الحقيقي الجايتو بن أرغون بن أبغا بن هولاكو .
قال ابن كثير في " البداية والنهاية " (14/77) : " أقام سنةً على السنةِ ، ثم تحول إلى الرفضِ وأقام شعائرهُ في بلادهِ ".
ذلك أنه كان حديث عهد بدين الإسلام ، ولا معرفة له بالعقيدة الإسلامية ، وتاريخ الإسلام ، فالتقى بابن المطهر الحلي فزين له مذهب الرافضة الباطل ، فدخل فيه جميع عشائره وقبائله وأتباعه .
وقد صنف ابن المطهر تصانيف كثيرة كنهج الحق ، ومنهاج الكرامة وغيرهما لدعوة السلطان المذكور ، وإغرائه بالتمسك بالمذهب الرافضي .
قال ابن كثير: " وقد جرت في أيامه فتن كبار ، ومصائب عظام فأراح الله منه البلاد والعباد ".
وقصم عمره وهو ابن ست وثلاثين سنة.
وبعدما توفي السلطان المذكور تاب ابنه في سنة 710ه من الرفض ورجع عن هذه العقيدة الخبيئة بإرشاد أهل السنة ، وأبعد الروافض ، فهرب الحلي إلى الحلة وسائر علمائهم .
* ذَكَرَ الشَّيْخُ إحْسَان إِلَهِي ظَهِير أَنَّ انفصَالَ بَاكِسْتَانَ الشَّرْقِيَّةِ كَانَ وَرَاءهُ الكَيْدُ الرَّافِضِيُّ ، قَالَ فِي " الشِّيْعَةِ وَالسُّنَّةِ " ( ص 11 ) : " وَهَا هِي بَاكِسْتَانُ الشَّرْقِيَّةُ ذَهَبْتَ ضَحِيَّةً بِخِيَانَةِ أَحَدِ أَبْنَاءِ " قزلباش " الشِّيْعَة يَحْيَى خَان فِي أَيْدِي الهُندُوس " .ا.هـ
*********************
أثر الشيعة في العالم الإسلامي(1/26)
أثر الشيعة في العالم الإسلامي في مراحل التاريخ المختلفة وحقبه المتطاولة.. موضوع واسع كبير، بل موضوعات متعددة، وجوانب مختلفة تقتضي رسائل عديدة، وتستدعي جهوداً كبيرة.. وإن مراجعة الأحداث التاريخية - مثلاً - التي جرت في العراق في القرن الرابع والخامس وما بعدها والتي كان للشيعة فيها دور وأثر لموضوع واسع، فيكف بدراسة ذلك في العالم الإسلامي، وإن رصد حركات الشيعة المتزايدة في الواقع المعاصر في مختلف أصقاع العالم الإسلامي وما تحدثه من آثار ليحتاج إلى دراسات ميدانية وصلات واسعة، ورحلات متعددة.
وشيء من ذلك لا يمكن تحقيقه في رسالة بل في فصل من رسالة، هي معنية بالأساس، بدراسة أصولهم ونقدها.
لهذه الأسباب سنكتفي في هذا الفصل بالإشارة الدالة، واللمحة المعبرة، والكلمة الموجزة، ونكتفي بالجزء عن الكل، وبالمثال الواحد مثلاً في بلد واحد وزمن واحد عن الاستقصاء وبالتفصيل.
ولعلي أحاول أن أبرز بعض آثارهم وفق مجالات محددة حتى لا يتشعب بنا الحديث وهي المجالات التالية:
1-المجال العقدي والفكري.
2- السياسي.
3- الاجتماعي.
4- الاقتصادي.
وهذا مجرد تقسيم لتوضيح هذه الآثار، وإلا فإنها مترابطة ومتصلة الحلقات.
ذلك أن شؤم البدعة خطير على الأمة، يؤثر في جميع جوانب حياتها، ومن يدرس تاريخ هذه الأمة، والاتجاهات البدعية التي ظهرت يجد أثرها السلبي على الدولة الإسلامية كلها. استمع - مثلاً - لما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية عن أسباب سقوط الدولة الأموية يقول - رحمه الله -:(1/27)
"إن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل" [يعني الجعد بن درهم أول من أحدث مقالة التعطيل لأسماء الله وصفاته. انظر: ص(546) من هذه الرسالة.] وغيره من الأسباب [مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13/182.]. وقال: "وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة، فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسول صلى الله عليه وسلم انتقم الله ممن خالف الرسل، وانتصر لهم" [مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13/177.].
وهذا التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ يخالف ما درج عليه جملة من المؤرخين الذين لا يفسرون أحداث التاريخ إلا بأسبابه مادية بحتة، وهو من العمل الذي لا يفقهه إلا أهل الإيمان.
******************
المجال العقدي والفكري
وهو موضوع واسع كبير، نشير فيما يلي إلى بعض معالمه:
إحداث الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد كان لعقيدتهم في الإمامة والإمام الأثر الواضح في إحداث "الشرك" و"الشركيات في العالم الإسلامي"، بل قرر طائفة من أهل العلم أن الشيعة هم أول من أحدث الشرك وعبادة القبور في الأمة المحمدية. فقد تحول غلو الشيعة في أئمتها إلى غلو في قبورها، ووضعوا روايات لمساندة مسيرتهم الوثنية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور أهل البدع من الروافض ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطاناً، فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد" [انظر: الرد على الأخنائي: ص47.].
واليوم أصبحت مشاهد الشيعة ومزاراتها موطناً للشرك، وعبادة غير الله سبحانه.. وتحدث الكثير ممن زار ديار الشيعة عن هذه المظاهر الشوكية [انظر: ص(1071-1072) من هذه الرسالة.]، وقد سرى هذا "البلاء" إلى بعض ديار السنة. والرافضة هم الأصل فيه، وكتبهم تشهد له وتؤيده.(1/28)
ولا حاجة بنا إلى استعراض أسماء المشاهد وأماكنها، وصور ما يجري فيها لشهرة ذلك وذيوعه.
الصد عن دين الله:
كان الاتجاه الرافضي - بكل شذوذه وضلالاته التي مرَّ ذكرها - ولا يزال مصحوباً بدعاية كبيرة من شيوخ الروافض الذين يبحثون عن تكثير سوادهم بأي وسيلة.
وكانت هذه الدعاية مرتكزة على "أكذوبة كبرى" أتقن الشيعة "اللعب فيها" وخداع أتباعهم، والجهلة من أتباع المسلمين بها.. هذه الأكذوبة تقول بأن شذوذ الشيعة هذا مؤيد بروايات عند أهل السنة.. ولذلك يكثر قولهم: لا خلاف بين السنة والشيعة من هذا المنطلق.
وما أكثر ما نقرأ في كتبهم مثل هذا الاتجاه في الاستدلال والاحتجاج من طريق من يسمونهم بالعامة [لا يخلو - غالباً - كتاب من كتبهم المتأخرة والمعاصرة من هذا الأسلوب، ومن أشدها غلواً وأعظمها كذباً كتاب "غاية المرام" وهو كله قائم على هذا المسلك، وهو بكذبه الجلي الواضح عار على الشيعة إلى الأبد ، ومع ذلك يعده أحد مراجعهم في هذا العصر موضع الفخر (محسن العاملي/ الشيعة: ص124، وانظر: ملحق الوثائق والنصوص من رسالة فكرة التقريب).].
وهذه "الأكذوبة" قد انخدع بها من أزاغ الله قلبه فظن أن دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون ورأوا ذلك فاسداً في العقل فخرجوا من الإسلام إلى مهاوي الإلحاد والزندقة.
ولهذا كان غلاتهم طاعنين في دين الإسلام بالكلية باليد واللسان كالخرمية [الخرمية: فرقتان: فرقة منهم كانوا قبل دولة الإسلام وهم أتباع مزدك الإباحي دعاة الاشتراك في الأموال والأبضاع، الذين أفسدوا بلاد الفرس فقضى عليهم أنو شروان الملك الساساني الملقب بالعادل والذي توفي قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/29)
والفرقة الثانية من الخرمية ظهروا في دولة الإسلام كالبابكية أتباع بابك الخرمي الذي ظهر بناحية أذربيجان، وكثر أتباعه، وكان يستحل المحرمات كلها وهزم كثيراً من عساكر بني العباس في مدة عشرين سنة إلى أن أسر مع أخيه إسحاق وصالب "بسر من رأى" في أيام المعتصم سنة (223ه).
ولا شك في أن الخرمية الذين ظهروا في الإسلام هم امتداد للديانة الفارسية القديمة "المزدكية" الأولى، وهم الذين زادوا في انحراف التشيع، ولذلك قال النوبختي الشيعي: ومنهم كان بدء الغلو في القول حتى قالوا: إن الأئمة آلهة وإنهم أنبياء وإنهم رسل، وقالوا بالتناسخ وإبطال القيامة، (انظر: النوبختي/ فرق الشيعة ص36، ابن النديم/ الفهرست: ص342-344، الإسفراييني/ التبصير في الدين: ص79-80، الملطي/ التنبيه والرد: ص22، الغزالي/ فضائح الباطنية: ص14 وما بعدها).] أتباع بابك الخرمي، وقرامطة [القرامطة: إحدى فرق الإسماعيلية التي سبق التعريف بها ص: 97. وهم يسمون بالقرامطة نسبة إلى رجل يقال له: حمدان قرمط كان أحد دعاتهم في بداية أمرهم (فضائح الباطنية: ص12).] البحرين أتباع أبي سعيد الجنابي وغيرهم [انظر: منهاج السنة: 1/114.].
ولاشك في أن إظهار بدعة الرفض على أنها الإسلام هو من أعظم أسباب الصد عن سبيل الله، إذ كيف يقبل عاقل خرافة الغيبة والرجعة والطعن في الصحابة والتأويلات الباطنية؟!
ولا يبعد اليوم أن إقامة دولة الآيات في إيران وسيلة لهذا الغرض لمواجهة تطلعات المسلمين لعودة الخلافة ووحدة الأمة، وللحد من انتشار مظاهر الصحوة الإسلامية في العالم.. فإن إقامة دولة تشوه الإسلام، وتعطي صورة مخالفة لتطلعات المسلمين وآمالهم من شأنه أن يحبط الآمال ويطفئ وقدة التطلعات وشعلة الحماس في شباب المسلمين.(1/30)
والمستعمر الكافر معنيّ بمعرفة هذه الاتجاهات البدعية.. على يد ثلة ممن يسمون "بالمستشرقين" والذين يعمل معظمهم كمستشارين في وزارات الخارجية، وبالتالي فإن سياسات الدول الكبرى تتخذ منهجها من تقارير المستشرقين المبنية على دراسة تاريخية وطائفية لأمة الإسلام.. والمستعمر الكافر لم ينس تاريخه معنا، كما شهدت بذلك مواقفة وأقوال بعض قادته، وكما كشف ذلك بعض الأوربيين الذين دخلوا في الإسلام كالأستاذ محمد أسد في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" [وقد تحدث عن ذلك في فصل بعنوان "شبح الحروب الصليبية" وقال: "إن الحروب الصليبية هي التي عينت في المقام الأول والمقام الأهم موقف أوربة من الإسلام لبضعة قرن تتلو" (الإسلام على مفترق الطرق: ص55). وقال: "لقد استفادت أوربا أكثر مما استفاد العالم الإسلامي منها، ولكنها لم تعترف بهذا الجميل وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام، بل كان الأمر على العكس، فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن ثم استحالت عادة، ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذكرت كلمة مسلم. ولقد دخلت في الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت في قلب كل أوربي رجلاً أو امرأة". (المصدر السابق: ص59-60).
ويقول بأن هذه المشاعر العدائية ظلت حية بعد جميع أدوار التبادل الثقافي واستمرت في تطور رغم أن الشعور الديني الذي كان سبب هذا العداء قد أخلى مكانه. ويقول بأن هذا ليس بغريب إذ إنه من المقرر في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية في تلقنها في أثناء طفولته، بينما تظل عنده بعض الخرافات الخاصة تتحدى كل تعليل عقلي (المصدر السابق: ص60-61).
وأقول: إن مقررات علم النفس هذه إنما تنطبق على أديان أوروبا لا دين الفطرة دين الإسلام.].(1/31)
وسواء كان قيام دولة الآيات، أو تصاعد المد الشيعي في العالم الإسلامي مقصوداً للعدو الكافر أو غير مقصود فإنه بلا شك له آثاره في الصد عن سبيل الله، وظهور الزندقة المقنعة التي ينخدع بها المسلمون، وهذا هو الداء الأكبر، وهذا ما يتضح بالمسألة التالية:
ظهور فرق الزندقة والإلحاد:
يذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن مبدأ ضلال الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث [منهاج السنة: 4/3.].
وكان أئمة العبيديين إنما يقيمون مبدأ دعواهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في الإلهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم، ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد [منهاج السنة: 4/3.].
"فالرافضة هم الباب لهؤلاء الملحدين منهم يدخلون إلى سائر أصناف الإلحاد في أسماء الله، وآيات كتابه المبين، كما قرر ذلك روؤس الملاحدة من القرامطة والباطنية وغيرهم من المنافقين" [منهاج السنة: 1/3.].
وقد تبين - فيما مضى - كيف أن روايات الاثني عشرية وأحاديثها التي يزعمون تلقيها عن آل البيت هي المناخ الملائم، والتربة الصالحة لظهور الأفكار الغالية وخروج الفرق الملحدة، لأنها جمعت "حثالة" آراء وأقوال الفرق الشيعية الشاذة بمختلف اتجاهاتها، والتي فرقت الأمة وأفسدت عليها أمرها، والتي وصلتنا أقوالها بواسطة كتب الفرق والمقالات، ثم وجدنا روايات الاثني عشرية تشهد لهذه الاتجاهات وتؤيدها [انظر: ص(979-980) من هذه الرسالة.].
ومن هنا انبثق من الاثني عشرية فرق كثيرة اشتهر غلوها وكفرها كالشيخية والكشفية والبابية وغيرها. وقد قال صاحب المنتقى بأن "الرفض مأوى شر الطوائف.." [انظر: المنتقى: ص77.].(1/32)
ثم ذكر جملة من فرق الزندقة والإلحاد الذين يعيشون تحت مظلة الرفض، ولذا قال الغزالي: "إن مذهب الباطنية ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض" [فضائح الباطنية: ص37.].
فهم كفرة يتظاهرون بالتشيع.. ويبدو أن هؤلاء يشكلون السواد الأعظم منهم حتى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن "كثيراً من أئمة الرافضة وعامتهم زنادقة وملاحدة ليس لهم غرض في العلم ولا في الدين" [منهاج السنة: 4/70.].
فجو التشيع مناخ خصب لمختلف النحل والأهواء، وقد سجل محب الدين الخطيب أن التشيع كان عاملاً من عوامل انتشار الشيوعية والبهائية في إيران [الخطوط العريضة: ص44-45.].
محاولة إضلال المسلمين في سنة نبيهم:
ومن آثارهم الفكرية أن طائفة منهم اندسوا في رجال الحديث وحاولوا إدخال بعض الروايات التي تخدم التشيع.. حتى وُجدت مادة من هذه اللون في معاجم أهل السنة ودواوين الحديث عندهم، لكن تنبه لذلك رجال الحديث فبينوا الحق وكشفوا الكيد الرافضي، وقد بين الشيخ السويدي هذا الأثر الذي تركه هؤلاء الروافض حينما قال: "إن بعض علمائهم اشتغلوا بعلم الحديث، وسمعوا الأحاديث من ثقات المحدثين وحفظوا أسانيد أهل السنة الصحيحة، وتحلوا في الظاهر بحلي التقوى والورع بحيث كانوا يعدون من محدثي أهل السنة، فكانوا يروون الأحاديث صحاحاً وحساناً، ثم أدرجوا في تلك الأحاديث موضوعات مطابقة لمذهبهم، وقد ضل بذلك كثير من خواص أهل السنة، فضلاً عن العوام ولكن قيض الله - بفضله - أئمة الحديث فأدركوا الموضوعات فنصوا على وضعها فتبين حالها حينئذ والحمد لله على ذلك.(1/33)
وقد أقرت طائفة منهم بالوضع بعدما انكشف حالهم، ثم قال السويدي: "وتلك الأحاديث الموضوعة إلى الآن موجودة في المعاجم والمصنفات وقد تمسك بها أكثر التفضيلية [التفضيلية أو المفضلة هم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر من الزيدية وغيرهم. (انظر: التسعينية لابن تيمية: ص40).]. والمتشيعة" [السويدي/ نقض عقائد الشيعة (مخطوط غير مرقم الصفحات، وبالعد ينظر ص25-26، وانظر: الألوسي/ السيوف المشرقة: ص50 (مخطوط)، ومختصر التحفة: ص32.].
ويقول الألوسي بأن ممن يستخدم هذه الوسيلة جابر الجعفي [السيوف المشرقة: ص50.]، وذكر ابن القيم أن الحافظ أبا يعلى قال في كتابه الإرشاد: وضعت الرافضة من فضائل علي رضي الله عنه وأهل البيت نحو ثلاثمائة ألف حديث، وعقب على ذلك ابن القيم بقوله: ولا نستبعد هذا؛ فإنك لو تتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال [المنار المنيف: ص116.].
دخولهم في مذهب أهل السنة - في الظاهر - للإضلال:
ومن الآثار الفكرية التي تركها الكيد الرافضي هو ما وقع بسبب قيام طائفة من شيوخهم بالدخول في مذهب أهل السنة في الظاهر وتلقبوا بالحنفي والشافعي زيادة في الإضلال، وألفوا مصنفات تؤيد المذهب الرافضي [ولهم في ذلك مسالك مختلفة كشفها صاحب التحفة الاثني عشرية: فهم قد يؤلفون كتاباً في فضائل الخلفاء الأربعة، فإذا جاءوا لذكر فضائل علي ضمنوه ما يؤيد مذهب الرفض من دعوة النص، والقدح في الصحابة (انظر: تفصيل ذلك في التحفة الاثني عشرية/ الورقة: 46 مخطوط).
ويؤلفون كتاباً في فقه بعض الماذهب ينشرونها في الأوساط التي لا تعتنق هذا المذهب، ويضمنون هذا المهذب شناعات عظيمة مثل: الأخذ بالقياس مع رد الأحاديث، أو إقرار بعض الفواحش، ويشير صاحب التحفة في هذا الصدد إلى كتاب ألفوه ونسبوه للإمام مالك وهو: "المختصر" وضعوا فيه على الإمام جواز اللواط بالبعيد. (انظر: تفصيل ذلك في المصدر السابق/ الورقة 45 ب).(1/34)
وقد يؤلفون كتباً يزعمون فيها أنهم كانوا على مذهب أهل السنة ثم تبين لهم بطلانه فرجعوا (مثل كتابهم "لماذا اخترت مذهب الشيعة" والذي نسبوه لمن أسموه مرعي الأنطاكي). ولهم مسالك بسطها يحتاج لمؤلف مستقل.].
كما قام بعض شيوخهم المتسترين بالانتساب للسنة بابتداع بعض الأفكار المشابهة للفكر الشيعي وطرحها في الوسط الإسلامي.. ويرى الشيخ محمد أبو زهرة بأن الطوفي نجم الدين (المتوفى سنة 716هـ) قد تعمد الترويج للمذهب الشيعي بهذه الوسيلة في بحثه عن المصلحة الذي قرر فيه بأن المصلحة تقدم على النص؛ لأن هذا مسلك شيعي حيث عند الشيعة أن للإمام أن يخصص أو ينسخ النص بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالطوفي قد أتى بالفكرة كلها، وإن لم يذكر كلمة الإمام وأبدلها بالمصلحة ليروج القول وينشر الفكرة، ثم يقرر أبو زهرة بأن الطوفي في تهوينه في شأن النص ونشر فكرة نسخه أو تخصيصه بالمصالح المرسلة قد أراد تهوين القدسية التي تعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع [انظر: ابن حنبل: ص326، وقد ترجم أبو زهرة للطوفي، وأثبت أنه من الشيعة (المصدر السابق: ص324-325). وقد اعتمد أبو زهرة في حكمه على الطوفي بما جاء عنه في طبقات الحنابلة لأبي يعلى.].
بل إن الروافض استغلوا التشابه في أسماء بعض أعلامهم مع أعلام أهل السنة وقاموا بدس فكري رخيص يضلل الباحثين عن الحق.. حيث ينظرون في أسماء المعتبرين عند أهل السنة فمن وجدوه موافقاً لأحد منهم في الاسم واللقب لأسندوا حديث رواية ذلك الشيعي أو قوله إليه.(1/35)
ومن ذلك محمد بن جرير الطبري الإمام السني المشهور صاحب التفسير والتاريخ، فإنه يوافقه في هذا الاسم محمد بن جرير بن رستم الطبري من شيوخهم [وله مصنفات في مذهب الرفض مثل: المسترشد في الإمامة، ونور المعجزات في مناقب الأئمة الاثني عشر (انظر في ترجمته: جامع الرواة: 2/82-83، بحار الأنوار: 1/177، تنقيح المقال: 2/91، وانظر: ابن حجر/ لسان الميزان: 5/103).]، وكلاهما في بغداد، وفي عصر واحد، بل كانت وفاتهما في سنة واحدة، وهي سنة (310هـ). وقد استغل الروافض هذا التشابه فنسبوا للإمام ابن جرير بعض ما يؤيد مذهبهم مثل: كتاب المسترشد في الإمامة [انظر: ابن النديم/ الفهرست: ص335.] مع أنه لهذا الرافضي [انظر: طبقات أعلام الشيعة في المائة الرابعة: ص252، ابن شهراشوب/ معالم العلماء: ص106.]، وهم إلى اليوم يسندون بعض الأخبار التي تؤيد مذهبهم إلى ابن جرير الطبري الإمام [انظر: الأميني النجفي/ الغدير: 1/214-216.].
ولقد ألحق صنيع الروافض هذا - أيضاً - الأذى بالإمام الطبري في حياته وقد أشار ابن كثير إلى أن بعض العوام اتهمه بالرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد [انظر: البداية والنهاية: 11/146.]. وقد نسب إليه كتاب عن حديث غدير خم يقع في مجلدين، ونسب إليه القول بجواز المسح على القدمين في الوضوء [انظر: البداية والنهاية: 11/146.].
ويبدو أن هذه المحاولة من الروافض قد انكشف أمرها لبعض علماء السنة من قديم، فقد قال ابن كثير: ومن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر من هذه الصفات [انظر: البداية والنهاية: 11/146.].(1/36)
وهذا القول الذي نسبه ابن كثير لبعض أهل العلم هو عين الحقيقة كما تبين ذلك من خلال كتب التراجم، ومن خلال آثارهما، وأين الثرى من الثريا..؟ فالفرق بين آثار الرجلين لا يقاس [انظر أيضاً في التفرقة بين الرجلين مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد التاسع: ص345.]، وعقيدة الإمام ابن جرير لا تلتقي مع الرفض بوجه [انظر - مثلاً - جزء في الاعتقاد لابن جرير الطبري: ص6-7.]، فهو أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك رافضي آخر يدعى بأبي جعفر الطبري [وهو أبو جعفر محمد بن أبي القاسم بن علي الطبري، من علماء الإمامية في القرن السادس (انظر: طبقات أعلام الشيعة (في القرن السادس) ص242، 278).]، وهو غير الأول، وإن كان الأستاذ فؤاد سزكين قد خلط بينهما [فنسب كتاب بشارة المصطفى للأول (ابن رستم) في حين أنه للأخير (ابن أبي القاسم) (انظر: تاريخ التراث: 260).] رغم أنه يفصلهما عن بعض أكثر من قرنين. وقد نشرت - لهذا الرافضي الأخير - جريدة المدينة المنورة حكاية موضوعة بعنوان: "عقد الزهراء" وما كانت لتأخذ طريقها للنشر لولا استغلال الروافض للتشابه في الأسماء [جريدة المدينة/ عدد (4621) الثلاثاء 24 رجب 1399ه، ص: 7، اختيار محمد سالم محمد، نقلاً عن كتاب بشارة المصطفى، وكتاب "بشارة المصطفى" هذا قد تناهى في الغلو، ففيه تأويل الجبت والطاغوت بأبي بكر وعمر (ص238)، وفيه قوله بأن من شك في تقديم علي وتفضيله ووجوب طاعته، وولايته محكوم بكفره وإن أظهر الإسلام (ص51).].
ومثل ابن جرير آخرون [كابن قتيبة؛ فإنهما رجلان: أحدهما عبد الله بن قتيبة رافضي غال، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة من ثقات أهل السنة، وقد صنف كتاباً سماه بالمعارف فصنف ذلك الرافضي كتاباً وسماه بالمعارف قصداً للإضلال. انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية ص32، مختصر الصواقع ص51 (مخطوط)، والسويدي/ نقض عقائد الشيعة: ص25 (مخطوط).(1/37)
وقد احتار الباحثون في نسبة كتاب الإمامة والسياسة إلى ابن قتيبة السني لما فيه من أباطيل، وحاول بعضهم التعرف على المؤلف فلم يفلح حتى قال: "لقد حاولت كثيراً أن أتعرف على شخصية المؤلف الحقيقي لكتاب الإمامة والسياسة ولكني لم أعثر على شيء" (عبد الله عسيلان/ الإمامة والسياسة: ص20).
بل قد طرح افتراض أن يكون المؤلف من أتباع الإمام مالك (المصدر السابق ص: 20) رغم أن الكتاب فيه المسحة الرافضية جلية واضحة، حيث الطعن في الصحابة ودعوى أن علياً رفض بيعة أبي بكر لأنه - كما يزعم - أحق بالأمر، وقد ساق د. عبد الله عسيلان أمثلة لذلك من الكتاب المذكور (المصدر السابق: ص17، 18، 19)، وغاب عنه وعن الكثيرين الدسائس الرافضية، وأن ابن قتيبة رجلان، وكتاب الإمامة والسياسة هو لذلك الرافضي، بل لم أر من نبه على ذلك مع أهميته.]، والمقام لا يحتمل البسط، فإن هذا الأمر يستحق دراسة خاصة.
نشر الرفض في العالم الإسلامي:
مما يبين مدى الأثر الرافضي في نشر عقائدهم في أوساط المسلمين ما سجل في نصوصهم القديمة من أنه لم يقبل فكرتهم إلا أهل مدينة واحدة هي الكوفة.
قال أبو عبد الله: "إن الله عرض ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلا أهل الكوفة" [بحار الأنوار: 60/209، 100/259، وعزاه إلى بصائر الدرجات.].
فالتشيع لم يجد موطناً في بلاد الإسلام إلا في الكوفة لبعدها عن العلم وأهله [انظر: مقدمة الرسالة: ص6.]. وهذا من آثار ابن سبأ، فقد كان له نشاط مبكر في الكوفة، وما غادرها حتى ترك فيها خلية تعمل على نهجه [انظر: سليمان العودة/ عبد الله بن سبأ: ص49.].
وقد لاحظ شيخ الكوفة وعالمها أبو إسحاق السبيعي (ت127ه) التغير الذي طرأ على هذه البلدة، فقد غادر الكوفة وهم على السنة، لا يشك أحد منهم في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، ولكنه حينما عاد إليها وجد فيها ما ينكر من القول "بالرفض" [انظر: ص (54).].(1/38)
ثم ما لبث أن سرى داء الرفض إلى العالم الإسلامي حتى يذكر بعض الباحثين بأن الشيعة يشكلون عشرة في المائة من مجموع المسلمين اليوم [روم لاندو/ الإسلام والعرب: ص95.].
ودعاة التشيع في العصر يشكون خلايا سرية نشطة تسرح في العالم الإسلامي لنشر الرفض بموجب خطة مدروسة، وتموين مالي من الحوزات العلمية التي تستمد رصيدها المالي من عرق وجهد أولئك الأتباع الأغرار الذين خدرت أفكارهم، وشحنت عواطفهم بتلك الدعوى الجميلة الخادعة "حب آل البيت" والتي ليس لشيوخ الشيعة نصيب منها إلا الاسم والدعوى، فاستولوا على الأموال الكبيرة باسم خمس الإمام، وهذه الخلايا السرية تتخذ شعارات أشبه ما تكون بشعارات الماسونية فهي تارة ترفع شعار "التقريب بين المذاهب الإسلامية" [انظر: فكرة التقريب ص511.] وأخرى باسم "جمعية أهل البيت" [انظر: فكرة التقريب ص514.].
وبعد قيام دولة الآيات في إيران تحولت السفارات للحكومة الإيرانية إلى مراكز للدعوة إلى الرفض، واستغلوا المراكز الإسلامية، والمساجد ولا سيما في أيام الجمع للدعوة للاتجاه الرافضي.
وقد نشرت مجلة المجتمع تحقيقاً عما يجري من نشاط رافضي في أوربا قالت فيه: "تحولت السفارات والقنصليات الإيرانية في أوربا إلى مراكز لنشر عقيدتهم في أوساط المسلمين (لا الكفار) المقيمين في أوربا، وتؤكد ذلك عشرات بل مئات وآلاف الكتيبات والمنشورات الخاصة بالفكر الشيعي، وتوزيع هذه الكتيبات على المسلمين الأوربيين في أماكن تجمعهم وخاصة عند أبواب المساجد، أو في البريد، أو من خلال وسائل أخرى.. وحتى المراكز الثقافية والمكتبات تبدو وكأنها أقيمت من أجل نشر دعوة التشيع دعوة التشيع الإيراني بين الأقلية المسلمة في أوربا، فبالإضافة إلى ما تحتويه هذه المكتبات من كتب ونشرات حول الثورة الإيرانية ومنهجها العقائدي.. نجد أن القائمين على هذه المكتبات ينظمون دروساً وندوات تتعلق في معظمها بالقضية العقدية.(1/39)
ثم أشارت المجلة إلى أسماء بعض المكتبات في أوربا والتي تقوم بتنظيم محاضرات عقدية في فكر الثورة الإيرانية أيام الخميس والسبت من كل أسبوع، وتوزع خلال ذلك المجلات والكتيبات والتسجيلات الصوتية.. ويدعا إلى حضور هذه المحاضرات المسلمون كوسيلة من وسائل نشر المنهج الشيعي على الطريقة الإيرانية.
كما بدأت المراكز الإيرانية بدفع بعض الشباب الذين غررت بهم وجعلتهم عملاء للمنهجية الإيرانية إلى بعض مساجد المسلمين للاتصال بالمصلين وخاصة أيام الجمع، حيث يتواجد عدد كبير من المسلمين في صلاة الجمعة.. وأشارت المجلة إلى أن هذه الاتصالات غالباً من تؤدي إلى وقوع بعض المصادمات والفتن داخل المسجد، وقدمت لذلك بعض الأمثلة، كما أشارت إلى أن هذه النشاطات الإيرانية بما تحدثه من فتن سيكون لها آثارها السلبية على المسلمين [انظر: مجلة المجتمع، العدد: 760، السنة السابعة عشرة 15 رجب 1406ه.].
ونشاط "الروافض" متعدد الوجوه، متنوع الوسائل لا يراعى فيه مبدأ كحال أهل السنة، لأن الروافض يرون في "التقية" تسعة أعشار الدين. وقد اعترف بعض علمائهم المعاصرين من حيث لا يدري أن التقية عندهم هي - كما يقول بالحرف الواحد - "الغاية تبرر الواسطة" [محمد جواد مغنية/ الشيعة في الميزان: ص49.] يعني في سبيل الغاية التي تنشدها استخدم أي وسيلة، أي هي "الميكافيلية" [أسلوب في المعاملات يتسم بالخداع والمراوغة والغدر والأنانية مبنى على مبدأ "الغاية تبرر الواسطة" وهو ينسب إلى المفكر الإيطالي (نيكولا ماكيافلي 1469-1527م) رائد هذا المبدأ، والذي سجله في كتابه "الأمير" وقدمه لأحد ملوك "أوربا" في القرون الوسطى. (انظر: أحمد عطية/ القاموس السياسي: ص1105-1106).] التي اعتمدها الذين لا دين لهم في تحقيق أهدافهم.. أما في الإسلام فإن الغاية لا تبرر ولا تبيح الوسيلة المحرمة.(1/40)
ولذلك فإن وسائل الروافض لنشر مذهبهم قد اكتست بألوان من الخداع والتغرير راح ضحيتها جملة من القبائل المسلمة والأفراد المسلمين.. فقد دفعوا مجموعة من شيوخ القبائل إلى اعتناق الرفض عن طريق إغرائهم بالمتعة [في سنة 1326ه كشف الشيخ العلامة محمد كامل الرافعي في رسالة أرسلها من بغداد لصديقه الشيخ رشيد رضا، ونشرتها مجلة المنار في المجلد السادس عشر، كشف أثناء سياحته في تلك الديار ما يقوم به علماء الشيعة من دعوة الأعراب إلى التشيع واستعانتهم في ذلك بإحلال متعة النكاح لمشايخ قبائلهم الذين يرغبون الاستمتاع بكثير من النساء في كل وقت.
وقد نشرت الرسالة في مجلة المنار ولم يفصح عن اسم كاتبها في أول الأمر، ثم بيّن الشيخ رشيد فيما بعد اسم كاتب الرسالة، حيث أشار إلى ذلك في المجلد (29)، وقال بأننا لم ننشر اسم الكاتب حينذاك لئلا تؤذيه الحكومة الحميدية كما هو معلوم من حالها (انظر: مجلة المنار، المجلد (29)، وانظر أيضاً: المجلد: الثاني ص687).].
وقد قدّم الحيدري في "عنوان المجد" بياناً خطيراً بالقبائل السنية التي ترفضت بجهود الروافض وخداعهم فقال: "وأما العشائر العظام في العراق الذين ترفضوا من قريب فكثيرون، منهم ربيعة.. ترفضوا منذ سبعين سنة، وتميم وهي عشيرة عظيمة ترفضوا في نواحي العراق منذ ستين سنة بسبب تردد شياطين الرافضة إليهم. والخزاعل ترفضوا منذ أكثر من مائة وخمسين سنة وهي عشيرة عظيمة من بني خزاعة فحرفت وسميت خزاعل.. وعشيرة زبيد وهي كثيرة القبائل وقد ترفضت منذ ستين سنة بتردد الرافضة إليهم وعدم العلماء عندهم.
ومن العشائر المترفضة بنو عمير وهم بطن من تميم، والخزرج وهم بطن من بني مزيقيا من الأزد، وشمرطوكه وهي كثيرة، والدوار، والدفافعة.(1/41)
ومن المترفضة عشائر العمارة آل محمد وهي لكثرتها لا تحصى وترفضوا من قريب، وعشيرة بني لام وهي كثيرة العدد، وعشائر الديوانية، وهم خمس عشائر: آل أقرع، آل بدير، وعفج، والجبور، وجليحة، والأقرع ست عشرة قبيلة، وكل قبيلة كثيرة العدد، وآل بدير ثلاث عشرة قبيلة وهي أيضًا كثيرة العدد، وعفج ثماني قبائل كثيرة العدد، وجليحة أربع قبائل كثيرة الأعداد، والجبور كذلك. ومن عشائر العراق العظيمة المترفضة منذ مائة سنة فأقل عشيرة كعب وهي عشيرة عظمية ذات بطون كثيرة.." [عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد: ص112-118.].
وهكذا مضى الحيدري على هذا المنوال يذكر قبائل أهل السنة التي اعتنقت الرفض في غفلة من أهل السنة، ولأنهم انخدعوا بأقاويل الروافض: دعونا نلتق ونتعاون، وهيا إلى الوحدة والتقارب، والمذهب الشيعي لا يعدو الخلاف بينه وبين أهل السنة الخلاف بين المذاهب السنية نفسها، فهيأ أهل السنة بسكوتهم الأرضية لشيوخ الرافضة لنشر مذهبهم، وإلا لو أعلن الحق وبُيّن لما انخدع بالرفض أحد.
وهم لا يزالون إلى اليوم ينشرون معتقدهم على كل المستويات.
ولهم اهتمامات بالاتصال ببعض رؤساء الدول الذين يتوسمون فيهم الاستجابة لمذهبهم، كما فعل قديماً ابن المطهر الحلي مع خدا [خدا (بالفارسية) الله. وبنده: عبد. أي عبد الله.
وخدا بنده هو الثامن من ملوك الإيلخانية، والسادس من ذرية جنكيز خان واسمه الحقيقي الجايتو بن أرغون بن أبغا بن هولاكو. قال ابن كثير: "أقام سنة على السنة، ثم تحول إلى الرفض وأقام شعائره في بلاده". (البداية والنهاية: 14/77) ذلك أنه كان حديث عهد بدين الإسلام، ولا معرفة له بالعقيدة الإسلامية، وتاريخ الإسلام، فالتقى بابن المطهر الحلي فزين له مذهب الرافضة الباطل، فدخل فيه جميع عشائره وقبائله وأتباعه.(1/42)
وقد صنف ابن المطهر تصانيف كثيرة كنهج الحق، ومنهاج الكرامة وغيرهما لدعوة السلطان المذكور، وإغرائه بالتمسك بالمذهب الرافضي.
قال ابن كثير: "وقد جرت في أيامه فتن كبار، ومصائب عظام فأراح الله منه البلاد والعباد". وقصم عمره وهو ابن ست وثلاثين سنة. وبعدما توفي السلطان المذكور تاب انه في سنة 710ه من الرفض ورجع عن هذه العقيدة الخبيئة بإرشاد أهل السنة، وأبعد الروافض، فهرب الحلي إلى الحلة وسائر علمائهم (انظر: التحفة الاثني عشرية/ الورقة 43 "مخطوط" وتعليقات محب الدين الخطيب على المنتقى ص18-19).] بنده، وقد كان لذلك آثاره المعروفة تاريخياً، وكما فعلوا حديثاً مع الزعيم الليبي، حيث بدت من الأخير بوادر الاتجاه الرافضي في الرأي والولاء.
كما قاموا بشراء بعض أصحاب الأقلام والعقول الخاوية من الإيمان واستكتبوها للدعاية للتشيع والتقديم لكتب الشيعة [كما ترى ذلك في بعض كتبهم التي ترسل للعالم الإسلامي للدعاية للتشيع، ويستكتب فيها أمثال هؤلاء كما في كتاب "أصل الشيعة"، و"عقائد الإمامية" وغيرهما.].
ويقومون بانتقاء الأذكياء من الطلاب والطالبات في العالم الإسلامي ويعطونهم منحاً دراسية في قم ليغسلوا أدمغتهم ويربوهم على الرفض حتى يعودا لبلدانهم ناشرين للرفض داعين له.(1/43)
يقول شيخ الأزهر: "الأنباء التي تصلني من كافة أنحاء العالم الإسلامي تدل على أن هذه الحركة الإيرانية الخمينية الآن تنشر العنف، وتحاول أن تستقطب الشباب بوجه خاص في كثير من البلدان الإسلامية بالإغراءات المتعددة المالية والدراسية في إيران وغير ذلك من السبل بقصد إحداث الفرقة باستقطاب هؤلاء الشباب، ودفعهم إلى إثارة الخلافات في بلادهم وبين شعوبهم.. وأعتقد أنه على الشعوب الإسلامية أن تكون حذرة فيما تساق إليه بواسطة الخمينية أو غيرها، فهي حركة من الحركات الموفدة لتفتيت الأمة الإسلامية وبث الصراع والخلاف فيما بينها" [أخبار اليوم، العدد: (2160) السنة 42، السبت 11 رجب 1406ه.].
ظهور اتجاه رافضي عند بعض الكتاب المنتسبين للسنة:
وظهر في كتابات بعض المفكرين من المنتسبين لأهل السنة "لوثات" من الفكر الرافضي، وبرزت كتابات لهؤلاء متأثرة بالشبهات التي يثيرها "الروافض" في أمر الإمامة والصحابة، والمطالع لما يكتبه ثلة من المفكرين والأدباء حول تاريخ صد الإسلام، أو "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" أو "مسائل الإمامة والخلافة" يدرك مدى تأثير الكيد الرافضي في تحوير الحقائق أمام هؤلاء.
وأنا لا أشك أن هناك من هذا الصنف "زمرة" مرتزقة قد أغراها بريق المال ودفعها "متاع الغرور" لتقول ما قالت، ولتكتب ما سطرت، والروافض يدفعون المال "للرموز المشهورة" حتى يكتبوا للناس ما يتفق والمذهب الرافضي ومن قديم قال بعض السلف: لو أردت أن يملؤوا داري ورقاً وأكذب على علي لفعلوا والله لا كذبت عليه أبداً [وهو الشعبي. انظر: السنة للإمام عبد الله بن أحمد: 2/549.].(1/44)
فكيف اليوم وقد كثر المال في أيديهم، وقلت الأمانة في نفوس الكثيرين وغرتهم الدنيا وغرهم بالله الغرور [على حد المثل القائل: "كل إناء بما فيه ينضح" والقائل: "رمتني بدائها وانسلت" يتهم رئيس المحكمة الجعفرية ببيروت محمد جواد مغنية الأستاذ محمد حسين هيكل بأنه قد حذف في الطبعة الثانية لكتابه: "حياة محمد" نصاً من نصوص مقابل 500 جنيه. كل ذلك لأن هيكل حذف نصاً موضوعاً تبين له ضعفه فتدراكه في طبعة تالية فأول هذا الرافضي بمقتضى صنيع قومه وما يفعلون، فانظر وتعجب (انظر: محمد جواد مغنية/ الشيعة في الميزان: ص18 "الهامش").].
وإذا أردت مثالاً على هذا التأثر الفكري بالمنهج الرافضي فإليك ذلك: هذا د. علي سامي النشار صاحب كتاب "شهداء الإسلام في عصر النبوة" يكتب كتاباً باسم "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" ويضع فيه ما تقر به عيون الروافض فيكفر فيه بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول مثلاً عن معاوية رضي الله عنه: "ومهما قيل في معاوية، ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر، وبعض أهل السنة من وضعه في نسق صحابة رسول الله، فإن الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام، ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً ولكنه لم يستطع أكثر من هذا" [نشأة الفكر الفلسفي: 2/19.].
فانظر إلى عظيم افترائه.. وهل يعهد مثل هذا القول إلا من الروافض وأشباههم.. وكيف يتفوه مسلم بهذه المقالة في صحابي جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شهد معه غزوة حنين [انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/458.]، وكان أميناً عنده يكتب له الوحي، وكان متولياً على المسلمين أربعين سنة نائباً ومستقلاً يقيم معهم شعائر الإسلام [مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/472.]؟.(1/45)
ثم هو يفتري على أهل السنة حين يزعم أن القول بصحبة معاوية هو قول للبعض من أهل السنة، وكأن الأكثرية على مذهبه، وهذا كذب واختلاق كمسلك الروافض في الكذب، فإن إيمان معاوية رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر وإجماع أهل العلم على ذلك [مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/477.].
وقال أيضاً عن أبيه (أبو سفيان بن حرب): "ولقد كان أبو سفيان زنديقاً أي ممن يؤمنون بالمجوسية الفارسية" [نشأة الفكر الفلسفي: 2/31.]، مع أن أبا سفيان قد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم نائباً له، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان عامله في نجران، فكيف يكون زنديقاً والنبي صلى الله عليه وسلم يأتمنه على أحوال المسلمين في العلم والعمل؟! [مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/454، 35/66.].
ويوافق أهل الرفض في قولهم بأن قلة من الصحابة كانوا يرون الحق لعلي، وأن الأمر قد نزع منه.. يقول: "وقد أحسَّ قلة من خلص الصحابة أن الأمر نزع من علي للمرة الثالثة، وأنه إذا كان الأمر قد سلب منه أولاً لكي يعطى للصاحب الأول، ثم يأخذ منه ثانياً لكي يعطى للصاحب الثاني فقد أخذ منه ثالثاً لكي يعطى لشيخ متهاوٍ متهالك لا يحسن الأمر ولا يقيم العدل يترك الأمر لبقايا قريش الضالة" [نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: 1/228.]. وهو يقصد بهذا الخليفة الراشد ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي اتفق الصحابة على خلافته.. فكأنه يزري بهم جميعاً بهذه الفرية.
ويقول عن الرافضة التي تتسمى بالاثني عشرية والتي قالت كل ما مضى من كفر وشنيعة، واستفاض ذمهم ومقتهم في كلام أئمة الإسلام. يقول: "إن الأفكار الفلسفية للشيعة الاثني عشرية هي في مجموعها إسلامية بحتة" [نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: 1/13.].(1/46)
فانظر إلى هذه المفارقات الغريبة وتعجب [حدثني د. محمد رشاد سالم - رحمه الله - أنه طرأ على حياة الرجل بسبب: علاقة مصاهرة مع زوجة كافرة مشبوهة، وسفر لأوربا بإلزام عبد الناصر، ووضع مالي سيء ما كان له أثره على فكره ونهجه، ولا يستكثر مثل هذا على من ينال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.].
ويقول - وكأنه المتحدث أحد الروافض - بأن شيعة علي الذين أحبوه عن يقين وإيمان، وساروا في ركب الإمام وهم على إيمان مطلق بأنه الأثر الباقي لحقيقة الإسلام الكبرى، وبجانب هذا "العثمانية" و"الأموية" الذين كرهوا الإسلام أشد الكراهية، وامتلأت صدورهم بالحقد الدفين نحو رسول الله وآله وأصحابه [نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: 1:/228-229.].
وبعد، فهذا مثال واحد أكتفي به، لأن هذه المسألة تستحق دراسة نقدية مستقلة.
تشويه تاريخ المسلمين:
للرافضة كتابات في التاريخ تعمدوا الإساءة فيها لتاريخ الأمة الإسلامية كما في روايات وأخبار الكلبي [محمد بن السائب بن بشبر الكلبي، قال ابن حبان: كان الكلبي سبئياً من أولئك الذين يقولون: إن علياً لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا، توفي سنة (146ه) (ميزان الاعتدال: 3/558، وانظر: ابن أبي حاتم/ الجرح والتعديل: 7/270-271، تهذيب التهذيب: 9/178).]، وأبي مخنف [لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي (أبو مخنف) من أهل الكوفة، قال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم، توفي سنة (157ه)، له تصانيف كثيرة منها: "الردة"، و"الجمل"، و"صفين" وغيرها.
(انظر: ميزان الاعتدال: 3/419-420، الأعلام للرزكلي 6/110-111).]، ونصر بن مزاحم المنقري [نصر بن مزاحم بن سيار المنقري الكوفي، قال الذهبي: رافضي جلد تركوه، توفي سنة 212ه، ومن كتبه: وقعة صفين، وهو مطبوع، والجمل، ومقتل الحسين.(1/47)
(انظر: ميزان الاعتدال: 4/253، العقيلي/ الضعفاء الكبير 4/30، ابن أبي حاتم/ الجرح والتعديل: 8/468، لسان الميزان: 6/157، الأعلام: 8/350).]، والتي توجد حتى عند الطبري في تاريخه، لكن الطبري يذكرها مسندة لهؤلاء فيعرف أهل العلم حالها [انظر: روايات الكلبي في تاريخ الطبري: 1/355، 2/237، 238، 272، 370، 465، 3/168، 274، 286، 425، 4/108، 368، 5/449، 6/103، 349، 364.
وروايات أبي مخنف وهي كثيرة جداً في أكثر من 300 موضع. وقال المستشرق بل A.Bel في دائرة المعارف الإسلامية: 1/399: صنف (يعني أبا مخنف) 32 رسالة في التاريخ، عن حوادث مختلفة وقعت في إبان القرن الأول للهجرة، وقد حفظ لنا الطبر معظمها في تاريخه، أما المصنفات التي وصلت إلينا منسوبة إليه فهي من وضع المتأخرين. (انظر: الأعلام: 6/111- الهامش).
وروايات نصر بن مزاحم: 4/458، 465، 485، 487. (انظر: فهارس الطبري التي وضعها أبو الفضل إبراهيم في ج10 من التاريخ).].
وكما في كتابات المسعودي في مروج الذهب، واليعقوبي في تاريخه.. وقد أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في حاشية العواصم إلى أن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية، وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه وتسويد صفحاته الناصعة [انظر: العواصم من القواصم (الحاشية) ص:177.].
ويظهر هذا الكيد لمن تدبر كتاب العواصم من القواصم لابن العربي مع الحاشية الممتازة التي وضعها عليه العلامة محب الدين الخطيب.
لقد سوّد شيوخ الروافض آلاف الصفحات بسب أفضل قرن عرفته البشرية، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين.
وكانت هذه المادة "الرافضية" الكبيرة والتي تجدها في كتب التاريخ التي وضعها الروافض، أو شاركوا في بعض أخبارها، وتراها في كتب الحديث عندهم كالكافي، والبحار، وفي ما كتب شيوخهم في القديم كإحقاق الحق، وفي الحديث ككتاب الغدير.(1/48)
هذه المادة السوداء المظلمة الكريهة الشائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين وغيرهم.
وجاء ذلك الجيل المهزوم روحياً، والذي يرى في الغرب قدوته وامثولته من المستغربين فتلقف ما كتبته الأقلام الاستشراقية وجعلها مصدره ومنهله.. وتبنى أفكارهم ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين.
وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافاتهم، وكان الرفض هو الأصل في هذا الشر كله.
وإن دراسة آراء المستشرقين وصلتها بالشيعة لهي موضوع هام يستحق الدراسة والتتبع.. ولا يمكن بحال أن نخوض غماره في هذا البحث لضيق المجال، وحسبنا أن نشير إليه وننبه عليه.
لقد بدأت استفادة العدو الكافر من شبهات الروافض وأكاذيبهم ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ وقت ليس بالقريب.
ففي عصر الإمام ابن حزم (ت456ه) كان النصارى يتخذون من فرية الروافض حول كتاب الله سبحانه حجة لهم في مجادلة أهل الإسلام، وقد أجاب ابن حزم عن ذلك بكل حزم فأبان أنه لا عبرة بأقوال هذه الفئة، لأن الروافض ليسوا من المسلمين [انظر: ص(1256) من هذه الرسالة.].
أثرهم في الأدب العربي:
لم يسلم الأدب ودولة الشعر والنثر من تأثير أهل التشيع فيه، وقد ترك التشيع بصماته "السوداء" على الأدب العربي.. وقد استغل "شعراء" الشيعة وخطباؤها ما يسمى بمحن آل البيت في إثارة عواطف الناس واستجاشة مشاعرهم وإلهاب العواطف والنفوس، وتحريكها ضد الأمة ودينها.
وتلمس في بعض ما وصلنا من "أدب" بعض الاتجاهات العقدية عند الشيعة، وتلمح المبالغة في تصوير ما جرى على أهل البيت من محن، واستغلال ذلك في نشر التشيع، والطعن في الصحابة رضوان الله عليه.
وقد أجهد رواد التشيع أنفسهم في نشر الخرافات والأساطير عن أئمتهم في ثوب قصصي مثير، أو في خطبة أو في شعر مبالغ في الغلو في مدح الأئمة.
ولقد تأثرت عقائد العامة وتصوراتهم، حتى أثر ذلك على عقيدة التوحيد عندهم فاتخذوا من الأئمة أرباباً من دون الله.(1/49)
يقول الأستاذ محمد سيد كيلاني:
"فترى أن التشيع قد أخرج لوناً من الأدب كان سبباً في الهبوط بالمسلمين إلى هوة سحيقة من التأخر والانحطاط، وقد أفلح الوهابيون في القضاء على كثير من هذه الخرافات في داخل بلادهم، أما في الأقطار الإسلامية الأخرى فالحال باقية كما هي عليه حتى بين طبقة المتعلمين" [أثر التشيع في الأدب العربي/ محمد سيد كيلاني: ص43، دار الكتاب العربي بمصر.].
ويكفي هذا مطالعة القصيدة المشهورة والمعتمدة عندهم وهي "القصيدة الأزرية" [وتسمى القصيدة الهائية لشيخهم محمد كاظم الأزري المتوفى سنة 1211ه (الذريعة: 17/135)، وللأستاذ محمود الملاح نقد لهذه القصيدة سماه "الرزية في القصيدة الأزرية" ذكر أنه قدم لها شيخهم محمد رضا المظفر، وقال - نقلاً عن المظفر -: إن شيخهم صاحب الجواهر (وهو محمد بن حسن بن باقر النجفي المتوفى سنة 1266ه، والجواهر هو شرح "شرائع الإسلام" من كتبهم المعتمدة في الفقه. انظر: محمد جواد مغنية/ مقدمته لـ "شرائع الإسلام") كان يتمنى أن تكتب في ديوان أعماله "القصيدة الأزرية" مكان كتابه "جواهر الكلام" ثم ذكر بعض أبياتها وهي تعج بالكفر الصريح، كقوله عن علي:
وهو الآية في المحيط في الكون ففي عين كل شيء تراها
وقوله:
كل ما في القضاء من كائنات أنت مولى بقائها وفناها
(انظر: الرزية في القصيدة الأزرية: ص33-35).].(1/50)
كما اتخذوا من حرفة الأدب وسيلة للنيل من الأمة بالإساءة لسمعة خلفائها، وتشويه صورة المجتمع المسلم، حيث نجد تضخيم الجانب الهزلي والمنحرف والضال في المجتمع، بل تصوير المجتمع وخليفته بصورة هابطة كما فعلوا مع الخليفة هارون الرشيد وأخباره مع أبي نواس، وهو الخليفة الذي يغزو عاماً ويحج عاماً، كما وجدوا في الأدب متنفساً لهم، حيث ترتفع التقية في جو العاطفة والخيال.. فيصبوا أحقادهم وكرههم للخليفة والأمة في قصة أو شعر أو مثل أو خطبة.. ويكفي كمثال على ذلك كله الاطلاع على كتاب الأغاني للرافضي أبي الفرج الأصفهاني.
أثرهم في المجال السياسي
الشيعة - كما تؤكد أصولهم - لا يؤمنون بشرعية أي دولة في العالم الإسلامي، ويرون أن الخليفة على العالم الإسلامي طاغوت، ودولته غير شرعية، ولا يستثنون من ذلك إلا خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخلافة الحسن (وقد مضى أنهم يقولون في رواياتهم: كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت) [انظر: ص(738).].
ولهذا وجد العدو المتربص بالأمة المسلمة ضالته المنشودة في الشيعة، وحقق الكثير من أغراضه بواسطتها، لوجود هذه العقيدة التي من ثمارها فقدان الولاء والطاعة، وإضمار العداء والكراهية للأمير والمأمورين من المسلمين.
ولذا كانت الزمر الرافضية أداة مطيعة بيد العدو، ومركباً ذلولاً سخره للوصول إلى مآربه.
وكانت عقيدة التقية تيسر للعناصر الشيعية إحكام الخطط، وترتيب المؤامرات، فهم أشبه ما يكونون بخلية سرية ماسونية تلبس للأمة المسلمة رداء الإسلام، وترتدي ثوب المودة والطاعة لإمام المسلمين في الظاهر، وتعمل على الكيد له وللأمة في الباطن، فقد قالوا: "خالطوهم بالبرانية وظاهروهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية" [أصول الكافي: 2/220، و"البرانية" هي العلانية، و"الجوانية" هي السر والباطني. (هامش الكافي: 2/220-221).].(1/51)
ولقد كان الشيعة في مختلف فترات التاريخ موضع استغلال من الملحدين يسخرونهم في خدمة أغراضهم وتنفيذ مخططاتهم، وقد انضم رؤوس الزنادقة إلى ركب التشيع حتى يمكنهم الاستفادة من أولئك الرعاع، ولذا ذكر شيخ الإسلام "أن أكثر معتنقي التشيع لا يعتقدون دين الإسلام، إنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوسلوا بهم إلى أغراضهم" [انظر: منهاج السنة: 2/48.].
وقد شهدت الوقائع والأحداث أن التشيع كان مأوى لكل من يريد الكيد للإسلام وأهله.
لقد وجدت طوائف من الفرس الذين قضى المسلمون على دولتهم في سبع نسين في التشيع ضالتهم المنشودة، كذلك وجد يهود الفرصة سانحة لتحقيق أهدافهم عن طريق التشيع.
وإلى اليوم يتستر بالتشيع أعداء الإسلام والمتآمرين على أهله.. وقد برزت أثناء الخلاف بين الفصائل الشيعية المنبثقة من الاثني عشرية "اعترافات" من القوم أنفسهم تصدق هذا القول.. فقد نقل أحد الباحثين الشيعة بأن السفير الروسي في إيران - كنياز دكوركي كان يحضر دروس شيخهم الرشتي [انظر: ترجمته في الأعلام للزركلي: 6/67، وانظر: أحسن الوديعة: 1/72.] صاحب الكشفية إحدى فرق الاثني عشرية - كما مر [انظر: ص(112) من هذه الرسالة.]- والتي يلقيها في كربلاء باسم مستعار هو "الشيخ عيسى اللنكراني" وقد كشفت ذلك مجلة الشرق التي أصدرتها وزارة الخارجية الروسية (السوفياتية) لسنة 1924-1925م [انظر: آل طعمة/ مدينة الحسين: ص53.].
كم كان الجنرال الانكليزي المتقاعد جعيفر عليخان (ويبدو أنه اتخذ هذا الاسم للتمويه) كان يتزيا بالزي الشيعي ويحضر هو الآخر دروس كاظم الرشتي [آل طعمة/ مدينة الحسين: ص 53.].(1/52)
ويعلل الباحث الشيعي هذه الظاهرة بأن الأعداء "كانوا على علم مسبق بأن سكان هذين القطرين - العراق وإيران - من المحبين لأهل البيت فجاءوهم من الناحية العقائدية [آل طعمة/ مدينة الحسين: ص 53.].. فأشاعوا بينهم - كما يقول - من خلال المذهب الكشفي الغلو في الأئمة وجعلهم شركاء لله في خلقه ورزقه.. ونفي العقاب عن كل مرتكتب معصية صغيرة كانت أو كبيرة [آل طعمة/ مدينة الحسين: ص54.].
ثم يقول: "وهكذا وجد الاستعمار في هذه الديار العربية المسلمة أرضاً خصبة لغرس شجرة العقيدة الحنظلية" [انظر: آل طعمة/ مدينة الحسين: ص 54.].
وأقول: ومن قبل كان للاتجاه الصفوي دوره الخطير في بذر أصول الغلو على يد ثلة من شيوخ السوء أمثال المجلسي والجزائري والكاشاني وغيرهم.
وهذا العدو الذي لبس ثوب التشيع زرواً، واندس في صفوف الشيعة قد يجد المكانة الرفيعة بينهم، كيف وعقيدتهم في الإجماع تجعل لقول الفئة المجهولة، ورأي الشخص المجهول الأحقية على غيره على احتمال أن يكون هذا المجهول هو المهدي [وهو لا يعدم حينئذ شيئاً من شهواته التي كان يمارسها قبل دخوله في الاتجاه الشيعي، فالشهوات الجنسية تتحقق له عن طريق المتعة وعارية الفرج واللواط بالنساء المقررة في شرعتهم.
والتكاليف الشريعة قد تخف بجمع الصلوات.. وقد تسقط بحب آل البيت.
والجهاد معطل حتى يخرج المنتظر فلا خوف على النفس ، وإن وصل إلى مرحلة الآية والحجة والمرجعية فالذهب الرنان يبذل تحت قديمه باسم الخمس.
و"البابوية" أو التقديس والتعظيم يناله باسم النيابة عن المنتظر.
فماذا يضيره حينئذ أن يندس في صفوفهم، ويعمل لقومه بين ظرانيهم متستراً بزي رجال الدين المتوشحين بالسواد عندهم، وقد ينتسب إلى العترة ليجد الحظوة.].(1/53)
هذا ومن يتتبع أحداث التاريخ وملاحمه يرى أن معول مدعي التشيع كان من أخطر المعاول التي أتت على الدولة الإسلامية من أطرافها، ذلك أنهم مع المسلمين في الظاهر، وهم من أعظم الأعداء لهم في الباطن، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أصل كل فتنة وبلية هم الشيعة، ومن انضوى إليهم، وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كان من جهتهم، وبهم تسترت الزنادقة" [منهاج السنة: 3/243.].
ولأنهم يرون أن المسلمين أكفر من اليهود والنصارى [انظر: ص 714-715 من هذه الرسالة.]، فهم يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين وسادات المتقين [منهاج السنة: 4/110.].
وقال شيخ الإسلام: "فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين" [منهاج السنة: 3/38.].
فقد شهد الناس أنه لما دخل هولاكوا ملك الكفار الترك الشام سنة 658هـ كانت الرافضة الذين كانوا بالشام من أعظم الناس أنصاراً وأعواناً على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين، وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكو إلى العراق وسفك فيها من الدماء ما لا يحصيه إلا الله، فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين عاونوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها [وسيأتي تفصيل بعض أحداثها في آخر هذا المبحث.].
وقبل ذلك كانت إعانتهم لجد هولاكو هو جنكيز خان، فإن الرافضة أعانته على المسلمين.(1/54)
وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى يناصرونهم بحسب الإمكان، ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها، ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى إنهم لما انكسر المسلمون سنة غازان [هو أخو خدابنده، من أحفاد جنكيز خان ملك الترك الكفار المسمون بالتتار، أما الواقعة التي يشير إليها شيخ الإسلام فانظر تفاصيل أحداثها في البداية والنهاية لابن كثير: 14/6.]. سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وخلت الشم من جيش المسلمين عاثوا في البلاد، وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال، وحمل راية الصليب، وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى بقبرص وغيرها، فهذا وأمثاله قد عاينه الناس، وتواتر عند من لم يعاينه [منهاج السنة: 3/244، وانظر: ص38-39من نفس الجزء، وانظر: ج4 ص110-111، والمنتقى: ص 329-332، وتعليقات محب الدين الخطيب في هذا الموضوع.].
وقال: "وكذلك كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديماً على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم" [منهج السنة: 4/110.].
والحديث في هذا الباب ممتد، وقد حفلت كتب التاريخ بتصوير أحداثه المريرة.
وإذا كان هذا تأثير الشيعة الذين يعيشون داخل الدولة الإسلامية، فإن تأثير دول الشيعة التي قامت أشد، ولهذا قال شيخ الإسلام عن دولة بني بويه [وقد ظهرت في العراق وقسم من إيران سنة 334، وانقرضت سنة 437هـ، والاثنا عشرية تعدها من دولها. (انظر: الشيعة في التاريخ ص98، والشيعة في الميزان: ص138-148).] بأن هذه الدولة قد انتظمت أصناف المذاهب المذمومة: قوم منهم زنادقة، وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة، ومعتزلة، ورافضة.(1/55)
وقد حصل لأهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف، حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثيرة [مجوع فتاوى شيخ الإسلام: 4/22.].
وقال عن دولة خدا بنده [انظر: ص1203 هامش (1) من هذه الرسالة.]: "وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدا بنده الذي صنف له هذا الكتاب [يعني كتاب "منهاج الكرامة" الذي وضعه ابن المطهر الحلي ورد عليه شيخ الإسلام في منهاج السنة.] كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" [منهاج السنة: 3/244.]، وكذلك كان الأمر أشد في الدولة الصفوية من بعد شيخ الإسلام.
وإلى اليوم يجري الأثر الرافضي في أرض المسلمين فساداً من دولة الآيات في إيران، ومن منظماتهم في لبنان [انظر: أمل والمخيمات الفلسطينية للدكتور محمد الغريب.]، وفي خلاياهم في دول الخليج وغيرها.
ويذكر إحسان إلهي ظهير أن انفصال باكستان الشرقية كان وراءه الكيد الرافضي، حيث قال: "وها هي باكستان الشرقية ذهبت ضحية بخيانة أحد أبناء "قزلباش" الشيعة يحيى خان في أيدي الهندوس" [الشيعة والسنة: ص11.].
وقد عارض شيوخ الشيعة في باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية [انظر: مظالم الشيعة: ص 9-10، وقد قال زعيم الشيعة مفتي جعفر حسين في مؤتمر صحفي بأن الشيعة يرفضون تطبيق الحدود الإسلامية لأنها ستكون على مذهب أهل السنة. (الأبناء الكويتية في 1/5/1979م).]؛ لأنها تحد من شهواتهم التي يمارسونها باسم المتعة، وتعاقبهم على جرائمهم التي يستسهلون ارتكابها بحجة أن حب علي لا تضر معه سيئة.
وبعد.. هذه إشارات لقضايا كبيرة، شرحها ودراستها يحتاج لمؤلفات.
وحسبي أن أختار مثالين منها للوقوف عندها قليلاً لأخذ العبرة:(1/56)
الأول: يتصل بتأثير الشيعة داخل الدولة الإسلامية، وسأتوقف عند حادثة ابن العلقمي وتآمره لإسقاط الدولة الإسلامية.
والثاني: في تأثير دول الشيعة على المسلمين، وسأتوقف عند الدولة الصفوية.
مؤامرة ابن العلقمي الرافضي:
وملخص الحادثة أن ابن العلقمي كان وزيراً للخليفة العباسي المستعصم، وكان الخليفة على مذهب أهل السنة، كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ، فكان هذا الوزير الرافضي يخطط للقضاء على دولة الخلافة، وإبادة أهل السنة، وإقامة دولة على مذهب الرافضة، فاستغل منصبه، وغفلة الخليفة لتنفيذ مؤامراته ضد دولة الخلافة، وكانت خيوط مؤامراته تتمثل في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: إضعاف الجيش، ومضايقة الناس.. حيث سعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين، وضعفتهم:
قال ابن كثير: "وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في أخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل.. فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف" [البداية والنهاية: 13/202.].
المرحلة الثانية: مكاتبة التتار: يقول ابن كثير: "ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال وكشف لهم ضعف ا لرجال" [البداية والنهاية: 13/202.].
المرحلة الثالثة: النهي عن قتال التتار وتثبيط الخليفة والناس:(1/57)
فقد نهى العامة عن قتالهم [منهاج السنة: 3/38.] وأوهم الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان.. فتم بهذه الحيلة قتل الخليفة ومعن معه من قواد الأمة وطلائعها بدون أي جهد من التتر. وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم على المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير ابن العلقمي: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، ونصير الدين الطوسي [وكان النصير عند هولاكوا قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية (ابن كثير/ البداية والنهاية: (13/201) ).].
ثم مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي [البداية والنهاية: 13/201-202.].
وقد قتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو أكثر أو أقل، ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر، وقتلوا الهاشميين، وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين، فهل يكون موالياً لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين [منهاج السنة: 3/38.].؟
وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد [البداية والنهاية: 13/203.].(1/58)
وكان هدف ابن العلقمي "أن يزيل السنة بالكلية وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يعطل المساجد والمدارس، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون بهذا مذهبهم فلم يقدره الله على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شعور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده" [البداية والنهاية: 13/202-203.].
فتأمل هذه الحادثة الكبرى والخيانة العظمى، واعتبر بطيبة بعض أهل السنة إلى حد الغفلة بتقريب أعدى أعدائهم، وعظيم حقد هؤلاء الروافض وغلهم على أهل السنة، فهذا الرافضي كان وزيراً للمستعصم أربع عشرة سنة، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة ما لم يحصل لغيره من الوزراء، فلم يجد هذا التسامح والتقدير في إزالة الحقد والغل الذي يحمله لأهل السنة، وقد كشف متأخروا الرافضة القناع عن قلوبهم، وباحوا بالسر المكنون فعدوا جريمة ابن العلقمي والنصير الطوسي في قتل المسلمين من عظيم مناقبهما عندهم. فقال الخميني في الإشادة بما حققه نصير الطوسي: ".. ويشعر الناس (يعني شيعته) بالخسارة.. بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأضرابه ممن قدم خدمات جليلة للإسلام" [الحكومة الإسلامية: ص128.].
والخدمات التي يعني هنا هي ما كشفها الخوانساري من قبله في قوله في ترجمة النصير الطوسي: "ومن جملة أمره المشهور المعروف المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم.. هولاكو خان.. ومجيئه في موكب السلطان المؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد.. بإبادة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام من أتباع أولئك الطغام، إلى أن أسال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار، فانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى نار جهنم دار البوار" [روضات الجنات: 6/300-301، وانظر أيضاً في ثناء الروافض على النصير الطوسي النوري الطبرسي/ مستدرك الوسائل: 3/483، القمي/ الكنى والألقاب: 1/356.].(1/59)
فهم يعدون تدبيره لإيقاع القتل العام بالمسلمين، من أعظم مناقبه، وهذا القتل هو الطريق عندهم لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، ويرون مصير المسلمين الذي استشهدوا في هذه "الكارثة" إلى النار، ومعنى هذا أن هولاكو الوثني وهو الذي يصفه بالمؤيد، وجنده هم عندهم من أصحاب الجنة؛ لأنهم شفوا غيظ هؤلاء الروافض من المسلمين، فانظر إلى عظيم هذا الحقد!! حتى صار قتل المسلمين من أغلى أمانيهم.. وصار الكفار عندهم أقرب إليهم من أمة الإسلام.
هذه قصة ابن العلقمي أوردتها معظم كتب التاريخ [وانظر أيضاً في قصة تآمره: ابن شاكر الكتبي/ فوات الوفيات: 2/313، الذهبي/ العبر: 5/225، السبكي/ طبقات الشافعية: 8/262-263 وغيرها.]، وأقرتها كتب الرافضة، وأشادت بها.. ومع ذلك فقد حاول الراوفض المعاصرين توهين القصة والطعن في ثبوتها، وحجته أن الذين ذكروا الحادثة غير معاصرين للواقعة، وحينما جاء على من ذكر الحادثة من معاصريها مثل: أبي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل (ت665هـ) كان جوابه عن ذلك بأنه وإن عاصر الحادثة معاصرة زمانية، لكنه من دمشق فلم تتوفر فيه المعاصرة المكانية [انظر: محمد الشيخ الساعدي/ مؤيد الدين بن العلقمي وأسرار سقوط الدولة العباسية، وقد ساعدت جامعة بغداد على نشر الكتاب.].
وهي محاولة لرد ما استفاض أمره عند المؤرخين، كمحاولتهم في إنكار وجود ابن سبأ، وقد بحثت في كتب التاريخ فوجدت شهادة هامة لأحد كبار المؤرخين تتوفر فيه ثلاث صفات: الأولى: أن الشيعة يعدونه من رجالهم، والثانية: أنه من بغداد، والثالثة: أنه متوفى سنة 674هـ.(1/60)
فهو شيعي بغدادي معاصر للحادثة؛ ذلك هو الإمام الفقيه علي بن أنجب المعروف بابن الساعي الذي شهد بجريمة ابن العلقمي فقال: "... وفي أيامه (يعني المستعصم) استولت التتار على بغداد، وقتلوا الخليفة، وبه انقضت الدولة العباسية من أرض العراق، وسببه أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي كان رافضياً.. ثم ساق القصة [مختصر أخبار الخلفاء: ص136-137.].. وابن الساعي هذا ذكره محسن الأمين من رجال الشيعة فقال: "علي بن أنجب البغدادي المعروف بابن الساعي له أخبار الخلفاء ت674هـ" [أعيان الشيعة: 1/305.].
ويكفي دلالة على صلة الروافض بنكبة المسلمين وتمني حصول أمثالها هذا التشفي الذي صدر على ألسنة شيوخهم المتأخرين والمعاصرين كالخوانساري، والخميني وأمثالهما.
الدولة الصفوية [استمر ملك الدولة الصفوية من سنة 1905إلى سنة 1148هـ (مغنية/ الشيعة في الميزان: ص182).]:
في الدولة الصفوية، والتي أسسها الشاه إسماعيل الصفوي فرض التشيع الاثني عشري على الإيرانيين قسراً، وجعل المذهب الرسمي لإيران.. وكان إسماعيل قاسياً متعطشاً للدماء إلى حد لا يكاد يصدق [علي الوردي/ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ص56.]، ويشيع عن نفسه أنه معصوم وليس بينه وبين المهدي فاصل، وأنه لا يتحرك إلا بمقتضى أوامر الأئمة الاثني عشر [كامل مصطفى الشيبي/ الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر الهجري: ص413.].(1/61)
ولقد تقلد سيفه وأعمله في أهل السنة، وكان يتخذ سب الخلفاء الثلاثة وسيلة لامتحان الإيرانيين، فمن يسمع السب منهم يجب عليه أن يهتف قائلاً: "بيش باد كم باد".. هذه العبارة تعني في اللغة الأذربيجانية أن السامع يوافق على السب ويطلب المزيد منه، أما إذا امتنع السامع عن النطق بهذه العبارة قطعت رقبته حالاً، وقد أمر الشاه أن يعلن السب في الشوارع، والأسواق وعلى المنابر منذراً المعاندين بقطع رقابهم [كامل مصطفى الشيبي/ الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر الهجري: ص58.]، وكان إذا فتح مدينة أرغم أهلها على اعتناق الرفض فوراً بقوة السلاح.
ويروى عنه أنه عندما فتح تبريز في بداية أمره وأراد فرض التشيع على أهلها بالقوة، أشار عليه بعض شيوخهم أن يتريث، لأن ثلثي سكان المدنية من أهل السنة، وأنهم لا يصبرون على سب الخلفاء الثلاثة على المنابر، ولكنه أجابهم: "إذا وجدت من الناس كلمة اعتراض شهرت سيفي بعون الله فلا أبقي منهم أحداً حياً" [كامل مصطفى الشيبي/ الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر الهجري: ص58، وانظر: تاريخ الصفويين: ص55.].
ومن ناحية أخرى اتخذ مسألة قتل الحسين وسيلة للتأثير النفسي، بالإضافة إلى أسلوب التهديد والإرهاب فأمر بتنظيم الاحتفال بذكر مقتل الحسين على النحو الذي يتبع الآن عندهم [الشيبي/ الفكر الشيعي: ص415.]. وأضاف إليه فيما يقال مجالس التعزية.
وهي التي يسمونها الآن "الشبيه" ويجرى فيها تمثيل مقتل الحسين.. فكان لهذا أثره على أولئك الأعاجم حتى رأى بعضهم أنه من أهل العوامل في نشر التشيع في إيران، لأن ما فيه من مظاهر الحزن والبكاء وما يصاحبه من كثرة الأعلام ودق الطبول وغيرهما يؤدي إلى تغلغل في العقيدة في أعماق النفس والضرب على أوتارها الكامنة" [الوردي/ لمحات اجتماعية: ص59.].(1/62)
ولقد آزر شيوخ الروافض سلاطين الصفويين في الأخذ بالتشيع إلى مراحل من الغلو وفرض ذلك على مسلمي إيران بقوة الحديد والنار.
وكان من أبرز هؤلاء الشيوخ شيخهم علي الكركي [علي بن هلال الكركي، هلك سنة (948هـ).]، الذي يلقبه الشيعة بالمحقق الثاني الذي قربه الشاه طهماسب، ابن الشاه إسماعيل وجعله الآمر المطاع في الدولة، فاستحدث هذا الكركي بدعاً جديدة في التشيع، فكان منها: "التربة التي يسجد عليها الشيعة الآن في صلواتهم. وقد ألف فيها رسالة سنة (933هـ) [الفكر الشيعي: ص416 عن ترجمته في روضات الجنات ص404.]، كما ألف رسالة في تجويز السجود للعبد [لمحات اجتماعية: ص63.]، وذلك مسايرة للسلطان إسماعيل الصفوي الذي كان يغلو فيه أصحابه حتى إنهم يعبدونه ويسجدون له [ولذا قال الحيدري بأن إسماعيل خرج عن جادة الرفض، وادعى الربوبية، وكان يسجد له عسكره (عنوان المجد: ص116-117).].
وكانت بدعه الكثيرة في المذهب الشيعي داعية للمصنفين من غير الشيعة إلى تلقيبه بمخترع الشيعة [النواقض/ الورقة: 98ب.]. وقد ألف رسالة في لعن الشيخين - رضي الله عنهما - سماها "نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت" [الفكر الشيعي: ص416.].
ويقال: إنه هو الذي شرع السب في المساجد أيام الجمع [الفكر الشيعي: ص416.].
كذلك كان من شيوخ الدولة الصفوية المجلسي، والذي شارك السلطة في التأثير على المسلمين في إيران حتى يقال بأن كتابه "حق اليقين" كان سبباً في تشيع سبعين ألف سني من الإيرانيين" [دونلد سن/ عقيدة الشيعة: ص302.].
والأقرب أن هذا من مبالغات الشيعة، فإن الرفض في إيران لم يجد مكانه إلا بالقوة والإرهاب، لا بالفكر والإقناع.
ثم نشأ الجيل اللاحق في جو المآتم الحسينية السنوية التي طورها الصفويون ليمتلئ الناشئ بتأثيرها حقداً وغيظاً حتى لا يكاد يستمع بسبب ذلك إلى حجة أو برهان.(1/63)
وكان لكتاب المجلسي "بحار الأنوار" أثره في إشاعة الغلو بين الشيعة، حيث "جاء قراء التعزية، وخطباء المنابر فصاروا يأخذون منه ما يروق لهم وبذا ملؤوا أذهان العامة بالغلو والخرافة".
وقد كان هذا الكتاب من أوائل المؤلفات التي طبعت على نطاق واسع في العهد القاجاري، وقد وردت منه إلى العراق نسخ كثيرة مما أدى إلى انتشار معلوماته الغثة في أوساط الشعب العراقي على منوال ما حدث في إيران [لمحات اجتماعية: ص77-78.].
كذلك لا ينسى الجانب الآخر من آثر الدولة الصفوية، وذلك في حروبها لدولة الخلافة الإسلامية، وتعاونها مع الأعداء من البرتغال ثم الإنجليز ضد المسلمين، وتشجيعها لبناء الكنائس ودخول المبشرين والقسس، مع محاربتهم للسنة وأهلها [انظر تفاصيل ذلك في: تاريخ الصفويين ص93 وما بعدها، وانظر: حاضر المعالم الإسلامي للدكتور جميل المصري: ص117.].
هذه بعض أثار دولهم وأفرادهم في هذا المجال..
ومن كلمات شيخ الإسلام ابن تيمية (الخالدة) والمهمة في هذا الموضوع، والتي إذا طبقتها على الواقع، وإذا استقرأت من خلالها وقائع التاريخ رأيت صدقها كالشمس قوله - رحمه الله -:
"فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة، وتجدهم من أعظم الناس فتناً وشراً، وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشرور وإيقاع الفساد بين الأمة" [منهاج السنة: 3/243.].
ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن، إنما تخرج عنهم [منهاج السنة: 3/245.].
أثرهم في الفتن الداخلية:(1/64)
وهي فتنتهم التي يثيرونها بسبب سبهم للصحابة عبر مآتمهم السنوية، فمنذ أن اخترع البوبهيون إقامة المآتم بذكرى مقتل الحسين وذلك في بغداد في القرن الرابع الهجري، والشيعة تثير في هذه الذكرى السنوية فتناً لا حدود لها.. وينشب صراع عنيف بين السنة والشيعة بسبب تجرؤ الروافض على شتم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد بدأت فتنة في سنة 338هـ، وذلك لأول في تاريخ بغداد [عبد الرزاق الحصان/ المهدي والمهدوية: ص74.]، ثم توالت الفتن بينهما بعد ذلك [انظر - مثلاً - حوادث سنة 406، 408، 421، 422، 425، 439، 443، 444، 445، 447، 478، 481، 482، 486، 510... إلخ في البداية والنهاية وغيرها من كتب التاريخ.]، وقتل فيها خلق كثير من المسلمين، ولا تزال لهذه البدعة آثارها في العالم الإسلامي الذي يوجد فيه شيعة.
فكم أزهقت من أرواح، وكم زرعت من أحقاد، وكم أحدثت من فرقة وفتن ومحن ومع ذلك كله فإنه شيخ الشيعة اليوم الخميني يذكي أوار هذه الفتنة ويقول: "في تلفزيون إيران بالحرف الواحد": "إن شعار الفرقة الناجية وعلامتهم الخاصة من أول الإسلام إلى يومنا هذا إقامة المآتم" [نقل ذلك العالم السني الإيراني محمد ضيائي في مجلة "المجتمع" العدد (589)، السنة الثالثة عشرة، في 18 ذي الحجة 1402هـ.].
ويقول: "إن البكاء على سيد الشهداء (ع) وإقامة المجالس الحسينية هي التي حفظت الإسلام عن أربعة عشر قرناً" [جريدة "الاطلاعات" العدد (15901) في تاريخ 16/8/1399هـ (عن كتاب إقناع اللائم على إقامة المآتم صفحة الغلاف).].
وقد مضى قول بعض شيوخهم: إن إقامة المآتم من تعظيم شعائر الله [انظر: ص(1102).].(1/65)
والحسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشهادة في ذلك اليوم.. وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء.. وقتله مصيبة عظيمة، والله سبحانه قد شرع الاسترجاع عند المصيبة [مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/511.].. وليس ما تفعله الرافضة من الإسلام في شيء، إنما غرض المخترعين لهذه البدعة، والمشجعين عليها، هو إشغال أمة الإسلام في نفسها حتى لا تتفرغ لنشر دين الله في الأرض
أثرهم في نشر الإباحية:
ومن آثارهم في المجال الاجتماعي، تلك الإباحية التي يدعون إليها، ويسهلون أسبابها ويمارسونها وسط المجتمع الإسلامي باسم عارية الفرج [جاء في كتبهم: "عن الحسن العطار قال: سالت أبا عبد الله عليه السلام عن عارية الفرج قال: لا بأس. (وسائل الشيعة: 7/536-537، تهذيب الأحكام للطوسي: 2/185، والاستبصار 3/141).]، أو التي يسمونها بالمتعة والتي يقارفون باسمها الزنا، لأن متعتهم تعني الاتفاق السري [قال الطوسي: يجوز أن يتمتع بها من غير إذن أبيها وبلا شهود، ولا إعلان. (النهاية: ص490).]. على فعل الفاحشة مع أي امرأة تتفق لهم ولو كانت من المومسات [قال الطوسي: لا بأس أن يتمتع الرجل بالفاجرة (النهاية: ص490)، وقال الخميني: يجوز التمتع بالزانية. (تحرير الوسيلة: 2/292)، وجاء في أخبارهم "عن إسحاق بن جرير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن عندنا بالكوفة امرأة معروفة بالفجور أيحل أن أتزوجها متعة؟ قال: فقال: رفعت راية؟ قلت: لا لو رفعت راية أخذها السلطان، قال: نعم تزوجها متعة، قال: ثم أصغى إلى بعض مواليه فأسر إليه شيئاً، فلقيت مولاه فقلت له: ما قال لك؟ فقال: إنما قال لي: ولو رفعت راية ما كان عليه في تزويجها شيء إنما يخرجها من حرام إلى حلال (وسائل الشيعة: 14/455، تهذيب الأحكام: 2/249).]، أو من ذوات الأزواج [جاء في أخبارهم: عن محمد بن عبد الله الأشعري قال: قلت للرضاع: الرجل يتزوج بالمرأة فيقع في قلبه لها زوجاً، فقال: وما عليه.. (وسائل(1/66)
الشيعة: 14/457، عن تهذيب الأحكام: 2/187)، وقيل له (أي جعفر كما يزعمون) إن فلاناً تزوج امرأة متعة، فقيل له إن لها زوجاً، فسألها، فقال أبو عبد الله (ع): ولم سألها؟ (الموضع نفسه من المصدرين السابقين)، ولذا قال شيخهم الطوسي: "وليس على الرجل أن يسألها هل لها زوج أم لا" (النهاية: ص490).]، ولذلك قالوا: ممكن أن يتفق معها على يوم أو مرة أو مرتين [انظر: النهاية للطوسي: ص491، الخميني/ تحرير الوسيلة: 2/290، وجاء في أخبارهم عن خلف بن حماد، قال: أرسلت إلى أبي الحسن (ع) كم أدنى أجل المتعة؟ هل يجوز أن يتمتع الرجل بشرط مرة واحدة؟ فقال: نعم. (فروع الكافي: 2/46، وسائل الشيعة: 14/479).]، وقد صرح بعضهم للشيخ محمد نصيف بأنه يجري عندهم استعمال المتعة الدورية بحيلة وضعها شيوخهم [المتعة الدورية أن يستمتع جماعة بامرأة واحدة ويقرروا الدورة والنوبة لكل منهم (انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية ص227) وانظر ما ذكره الشيخ العاني عن شيوع استعمالها في بعض مدارس مدراس النجف (الذريعة لإزالة شبه كتاب الشيعة ص45-46) وقد استطاع الشيخ محمد نصيف رحمه الله أن يكتشف إقرار شيوخ الشيعة بأمر المتعة الدورية في حوار له مع شيخهم أحمد سرحان، حيث قال نصيف للشيعي: إن أهل السنة ثبت عندهم نسخ المتعة، ولم يثبت عند الشيعة ذلك، لكني لم أعرف دليلكم على جواز المتعة الدورية، فأجاب الشيعي بأن المتمتع بالمرأة يعقد عليها بعد نهاية متعته منها عقد زواج دائم ثم يطلقها قبل الدخول فتصبح لا عدة عليها، فيتمتع بها آخر ويفعل كالأول.. فتدور المرأة على مجموعة من الرجال بهذه الطريقة بلا عدة. (انظر: مجلة الفتح العدد 845، الصادر في رجب سنة 1366هـ).].(1/67)
ولذا قال الألوسي: "من نظر إلى أحوال الرافضة في المتعة في هذا الزمان لا يحتاج في حكمه عليهم بالزنا إلى برهان، فإن المرأة الواحدة تزني بعشرين رجلاً في يوم وليلة، وتقول إنها متمتعة، وقد هيئت عندهم أسواق عديدة للمتعة توقف فيها النساء ولهن قوادون يأتون بالرجال إلى النساء وبالنساء إلى الرجال فيختارون ما يرضون ويعينون أجرة الزنا ويأخذون بأيديهن إلى لعنة الله تعالى وغضبه.." [كشف غياهب الجهالات/ الورقة 3 (مخطوط).].
ثم ذكر رحمه الله بعض تفاصيل وحكايات ما يجري هنالك [كشف غياهب الجهالات/ الورقة 3 (مخطوط).].
وهذه الفاحشة يدفعون إليها النساء والرجال دفعاً بالتهديد والترغيب فهم يعدونها من أفضل أعمالهم [جاءت عندهم أخبار كثيرة في اعتبارها أعظم عبادة، حتى قالوا في حديثهم الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تمتع مرة فدرجته كدرجة الحسين، ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن، ومن تمتع ثلاث مرات فدرجته كدرجة علي، ومن تمتع أربع مرات فدرجته كدرجتي (تفسير منهج صادقين: ص356).
بل لم يدعوا باباً من أبواب الإغراء بالفاحشة إلا وفتحوه، ومن يقرأ أخبارهم في ذلك يجزم بأن واضعيها من الإباحيين الذين يريدون أن يتمتعوا بنساء المسلمين، ومما قالوه: إذا تزوجها متعة "لم يكلمها كلمة إلا كتب الله لها بها حسنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة - إلى أن يقول -: فإذا اغتسل غفر الله له.. بعدد الشعر" (وسائل الشيعة: 14/442، من لا يحضره الفقيه: 2/151).
وزعموا أن امرأة كانت ترد الخطاب لأنها لا رغبة لها في الزواج ولكنها أرسلت لابن عم لها لتتزوجه متعة رغبة في عصيان عمر كما تقول الرواية... فهي تفضل الزنا على شرعة الزواج.
(انظر: أخبارهم في فضل المتعة المزعوم في وسائل الشيعة، باب استحباب المتعة: 14/442 وما بعدها).].(1/68)
والذي يتنزه عنها فالويل له يوم القيامة [من رواياتهم في ذلك أن من خرج من الدنيا ولم يتمتع جاء يوم القيامة وهو أجدع "يعني مقطوع الأنف والأذن" (تفسير منهج الصادقين: ص356).].
كذلك يبيح شيوخهم اللواط بالنساء حتى قال شيخهم الخميني "والأقوى والأظهر جواز وطئ الزوجة مع الدبر" [تحرير الوسيلة: 2/241.]. فأين هذا الهبوط من قول ابن نجيم: "استحلال اللواطة بزوجته كفر عند الجمهور" [الأشباه والنظائر: ص191.].
فهذه الصور بمجموعها لا تبعد عن إباحية الخرمية من أتباع مزدك وبابك، وقد لا تقل عن "إباحية أوربا".
وقد استغلوا هذه الفوضى الأخلاقية في إغراء طلاب المتعة الرخيصة في اعتناق مذهبهم كما سلف [انظر: ص1201.].
بل جاء في أخبارهم ما يبيح الزنا الصريح إذا كان بأجرة "عن عبد الرحمن ابن كثير عن أبي عبد الله قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: إني زنيت فطهرني فأمر بها أن ترجم فأخبر بذلك أمير المؤمنين (ع) فقال: كيف زنيت؟ قالت: مررت بالبادية فأصابني عطش شديد فاستقيت أعرابياً فأبى أن يسقيني إلا أن أمكنه من نفسي، فلما أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي فقال أمير المؤمنين: "تزويج وربّ الكعبة" [فروع الكافي: 2/48، وسائل الشيعة: 14/471-472.].
وهم لا يخصون إباحيتهم ببني قومهم، بل يوصي إمامهم بأن يعرض التمتع على نساء أهل السنة [انظر: وسائل الشيعة: 14/452، وفروع الكافي: 2/44.]، ونساء اليهود والنصارى [انظر: وسائل الشيعة: 14/452 ، تهذيب الأحكام: 2/188، من لا يحضره الفقيه: 2/148.].
فإباحيتهم شاملة لا تذر مجتمعاً أتت عليه إلا أفسدته.. فهم "زناة" يعيشون بين المسلمين، ويحملون اسم الإسلام، ويسعون في الأرض فساداً وأقوالهم تشهد على آثارهم.
-----------------
المراجع لهذا البحث
1. http://www.arabsys.net/vb/showthread.php?t=18052
2. http://www.fnoor.com/fn0967.doc
3. http://www.fnoor.com/fn0963.doc(1/69)
4. http://ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=237966
5. موسوعة الرد على الرافضة
*************************
عقيدة الرافضة في أهل السنة أو كما يسمونهم ( النواصب ) !
ماذا يعني لفظ الناصب:
ـ أبي حنيفة عند الشيعة ناصبي كما في: {الكافي 8/292} ط دار الكتب الاسلامية طهران.
ـ قال المفيد في كتابه: {عدة مسائل ص 253،263،265،268،270 ط قم} أطلق لفظ الناصبي على أبي حنيفة
.ـ وقال نقمة الله الجزائري في {الانوار النعمانية 2/307 ط تبريز}: (ويؤيد هذا المعنى أنَّ الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله مع أنه لم يكن ممن نصب العداوة لآل البيت).
ـ وقال حسين بن الشيخ محمد آل عصفور البحراني في {المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية ص157 ط بيروت}: ( على أنك قد عرفت سابقاً أنه ليس الناصب إلا عبارة عن التقديم على عليٍّ عليه السلام).
ـ وقبلها قال في ص147 من كتابه: (بل أخبارهم تُنادي بأنَّ الناصب هو ما يُقال له عندهم سنياً).
ـ ويقول في نفس الموضع: (ولا كلام في أنَّ المراد بالناصبة هم أهل التسنّن).
ـ وقال حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي في كتابه{هداية الابرار إلى طريق الأئمة الأطهار ص106 ط1}: (كالشبهة التي أوجبت للكفار إنكار نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم والنواصب إنكار خلافة الوصي).
ـ وقال محمد الحسيني الشيرازي في موسوعته {الفقه 33/38 ط2 دار العلوم اللبنانية} : (الثالث مصادمة الخبرين المذكورين بالضرورة بعد أنْ فُسر الناصب بمطلق العامة).(1/70)
ـ إذن المقصود بالعامة هم أهل السُّنّة كما يقول محسن الأمين في كتابه: {أعيان الشيعة 1/21 ط دار التعارف بيروت} ( الخاصة وهذا يطلقه أصحابنا على أنفسهم مقابل العامة الذين يُسمّون أنفسهم بأهل السُّنّة والجماعة).ـ قال فتح الله الشيرازي في {قاعدة لا ضرر ولا ضرار ص21 نشر دار الأضواء بيروت}: (وأما الحديث من طريق العامة فقد روى كثير من محدثيهم كالبخاري ومسلم....).
* إذن الناصب عند الشيعة هم مجمل أهل السُّنّة والجماعة (العامة). فإذا فهمنا هذه النقطة ننتقل إلى ما يترتب عليها من أحكام عندهم .
*******************
نجاسة أهل السُّنّة عند الرافضة:
ـ قال الخوئي في كتابه {منهاج الصالحين1/116 ط نجف}: (في عدد الاعيان النجسة وهي عشرة ـ إلى أنْ قال ـ العاشر الكافر وهو من لم ينتحل ديناً غير الاسلام أو انتحل الاسلام وجحد ما يُعلم أنه من الدين الإسلامي بحيث رجع جحده إلى إنكار الرسالة، نعم إنكار المعاد يُوجب الكفر مطلقاً ولا فرق بين المرتد والكافر الأصلي الحربي والذمي والخارجي والغالي والناصب).
ـ وقال محسن الحكيم في كتابه {العروة الوثقى 1/68 ط طهران}: ( لا إشكال في نجاسة الغلاة والخوارج والنواصب).
ـ وقال الخميني في {تحرير الوسيلة 1/119}: (غير الاثني عشرية من فرق الشيعة إذا لم يظهر منهم نصب أو معاداة وسب لسائر الأئمة الذين لا يعتقدون بإمامتهم طاهرون وأما مع ظهور ذلك منهم فهم مثل سائر النواصب).
ـ ويقول في ص 118 ط بيروت: (وأما النواصب والخوارج لعنهما الله تعالى فهما نجسان من غير توقف).ـ
وقال محمد بن علي القمي الكذوب في {عقاب الأعمال ص352 ط بيروت} عن الامام الصادق أنّه قال: (إنَّ المؤمن ليشفع في حميمه إلاّ أنْ يكون ناصبياً ولو أنَّ ناصباً شفع له كل نبي مرسل وملك مقرب ما شفعوا).(1/71)
ـ ويروي في الصفحةِ ذاتها عن أبي بصير عن الصادق (إنَّ نوحاً عليه السلام حمل في السفينة الكلب والخنزير ولم يحمل ولد الزنا والناصب شر من ولد الزنا).
*******************
حكم من لا يقول بإمامة الاثني عشر عند الشيعة:
ـ وقال يوسف البحراني في {الحدائق الناضرة 18/153 ط بيروت}: (وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه ورسوله وبين من كفر بالائمة عليهم السلام مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين).
ـ وقال الفيض الكاشاني في {منهاج النجاة ص48 ط دار الاسلامية بيروت}: (ومن جحد إمامة أحدهم ـ الائمة الاثني عشرـ فهو بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء).
ـ وقال المجلسي في {بحار الانوار23/390 ط بيروت}: (أعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد بإمامة أمير المؤمنين والائمة من ولده عليهم السلام وفضّل عليهم غيرهم يدل على أنهم كفار مخلدون في النار).
ـ وقال يوسف البحراني في {الحدائق الناضرة 18/53}:
(إنك قد عرفت أن المخالف كافر لاحظ له في الاسلام بوجه من الوجوه كما حققنا في كتابنا الشهاب الثاقب).
ـ وقال عبد الله شبر في {حق اليقين في معرفة أصول الدين 2/188 ط بيروت}:
(وأما سائر المخالفين ممن لم ينصب ولم يعاند ولم يتعصب فالذي عليه جملة من الامامية كالسيد المرتضى أنهم كفار في الدنيا والاخرة والذي عليه الأشهر أنهم كفار مخلدون في النار).
ـ وقال محمد بن حسن النجفي في {جواهر الكلام 6/62}:
(والمخالف لإهل الحق كافر بلا خلاف بيننا كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي، بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية لأنها أصل من أصول الدين).
ـ يقول أيضاً في نفس المصدر السابق (ومعلوم أن الله عقد الاخوّة بين المؤمنين بقوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة} دون غيرهم فكيف تتصور الاخوة بين المؤمن والمخالف بعد تواتر الروايات وتظافر الآيات في وجوب معاداتهم والبراءة منهم).(1/72)
ـ وقال عبد الله المامقاني في {تنقيح المقال 1/208 باب الفوائد ط نجف}:
(وغاية ما يستفاد من الأخبار جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على كل من لم يكن إثني عشرياً).
ـ وقال الصدوق في {علل الشرائع ص601 ط نجف/ الحر العاملي في وسائل الشيعة18/463/ والجزائري في الانوارالنعمانية2/308}:
(عن داود بن فرقد قال: قلتُ: لأبى عبد الله عليه السلام ما تقول في قتل الناصب؟ قال: حلال الدم ولكن اتقي عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد عليك فافعل. قلتُ: فما ترى في ماله؟ قال: تُوه ما قدرت عليه).
ـ وقال نقمة الله الجزائري في: {الانوار النعمانية2/308}: (وفي الروايات أن علي بن يقطين وهو وزير الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين وكان من خواص الشيعة فأمر غلمانه وهدوا سقف الحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريباً فأراد الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل إلى مولانا الكاظم فكتب عليه السلام إليه جواب كتابه بأنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم وحيث أنك لم تتقدم إلي فكفّر عن كل رجل قتلته منهم بتيس والتيس خير منه، فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لاتعادل دية أخيهم الأصغر وهو كلب الصيد فإن ديته خمس وعشرون درهماً ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي أو المجوسي فإنها ثمانمائة درهم وحالهم في الدنيا أخس وأبخس).
ـ وقال أبو جعفر الطوسي في {تهذيب الأحكام 4/122 ط طهران /الفيض الكاشاني في الوافي 6/43 ط دار الكتب الاسلامية طهران}:
عن الامام الصادق (خذ مال الناصب حيث ما وجدته وادفع إلينا خُمسه).
ـ وقال الخميني في {تحرير الوسيلة 1/352}: (والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما أغتنم منهم وتعلق الخُمس به بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان وادفع إلينا خُمسه).
ـ وقال يوسف البحراني في {الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة12/323-324}:(1/73)
(إن إطلاق المسلم على الناصب وإنه لا يجوز أخذ ماله من حيث الإسلام خلاف ما عليه الطائفة المحقة سلفاً وخلفاً من الحكم بكفر الناصب ونجاسته وجواز أخذ ماله بل قتله).
***********************
جواز اغتياب المخالفين:
ـ وقال الخميني في {المكاسب المحرمه1/251 ط قم}:
(والإنصاف أن الناظر في الروايات لا ينبغي أن يرتاب في قصورها عن إثبات حرمة غيبتهم بل لا ينبغي أن يرتاب في أن الظاهر من مجموعها اختصاصها بغيبة المؤمن الموالي لائمة الحق عليهم السلام).
ـ وقال الخميني في: {المكاسب المحرمة1/249}:
(ثم أن الظاهر اختصاص الحرمة بغيبة المؤمن فيجوز اغتياب المخالف إلا أن تقتضي التقية وغيرها لزوم الكف عنهم).ـ
وقال عبد الحسين دستغيب في {الذنوب الكبرى 2/267 ط الدار الاسلامية بيروت}: (ويجب أن يعلم أن حرمة الغيبة مختصة بالمؤمن أي المعتقد بالعقائد الحقة ومنها الاعتقاد بالائمة عليهم السلام وبناءً على ذلك فأن غيبة المخالفين ليست حراماً).
ـ وقال محمد حسن النجفي في {جواهر الكلام22/62}:
(وعلى كل حال فالظاهر إلحاق المخالفين بالمشركين في ذلك لاتحاد الكفر الاسلامي والإيماني فيه بل لعل هجائهم على رؤوس الأشهاد من أفضل عبادة العباد ما لم تمنع التقية وأولى من ذلك غيبتهم التي جرت سيرة الشيعة عليها في جميع الاعصاروالامصار وعلمائهم وعوا مهم حتى ملاؤا القراطيس منها بل هي عندهم من أفضل الطاعات وأكمل القربات فلا غرابة في دعوى تحصيل الإجماع كما عن بعضهم بل يمكن دعوى كون ذلك من الضروريات فضلاً عن القطعيات).
ويقول الشيخ الشيعي علي آل محسن في كتابه - كشف الحقائق - دار الصفوة - بيروت ? 249 "وأما النواصب من علماء أهل السنة فكثيرون أيضاً منهم ابن تيمية وابن كثير الدمشقي وابن الجوزي وشمس الدين الذهبي وابن حزم الأندلسي .. وغيرهم".(1/74)
وذكر العلامة الشيعي محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) ? دار الهادي - بيروت - في الباب الخامس - الفصل الثالث - ? 259 تحت عنوان: (النواصب في العباد) أكثر من مائتي ناصب - على حد زعمه - . وذكر منهم:
عمر بن الخطاب، أبو بكر الصديق، عثمان بن عفان، أم المؤمنين عائشة، أنس بن مالك، حسان بن ثابت، الزبير بن العوام، سعيد بن المسيب، سعد بن أبي وقاص، طلحة بن عبيد الله، الإمام الأوزاعي، الإمام مالك، أبو موسى الأشعري، عروة بن الزبير، ابن حزم، ابن تيمية، الامام الذهبي، الإمام البخاري، الزهري، المغيرة بن ?عبة، أبو بكر الباقلاني، الشيخ حامد الفقي رئيس أنصار السنة المحمدية في مصر، محمد رشيد رضا، محب الدين الخطيب، محمود شكري الآلوسي ... وغيرهم كثير.
إذن النواصب هم كل أهل السنة حيث يقول آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي في موسوعته الضخمة الفقه (33/38 ? الثانية دار العلوم بيروت 1409هـ) : "الثالث مصادمة الخبرين المذكورين بالضرورة بعد
أن فسر الناصب بمطلق العامة كخبر ابن سنان عن أبي عبد الله ..". قلت: فإن قال قائل: كيف نعرف أن المقصود عندهم بالعامة أهل السنة؟ فأقول: نحن لا ندين الشيعة إلا من كتبهم وأقوال علمائهم يقول آية الله العظمى محسن الأمين في كتابه المعروف (أعيان الشيعة 1/21? دار التعارف بيروت لبنان 1986): "الخاصة وهذا يطلقه أصحابنا على انفسهم مقابل العامة الذين يسمون بأهل السنة والجماعة".(1/75)
ويقول عالمهم ومحققهم ومدققهم وحكيمهم الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي المتوفي 1076 في (هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار ? 264 ? الأولى 1396هـ) : "فذهب إلى الأول جماعة من العامة كالمزني الغزالي والصيرفي ومن الخاصة كالعلامة في أحد قوليه.." . ويقول آية الله العظمى المحقق الكبير (عندهم) الشيخ فتح الله النمازي الشيرازي في (قاعدة لا ضرر ولا ضرار) (ص 21 نشر دار الأضواء بيروت الطبعة الأولى): "وأما الحديث من طرق العامة فقد روى كثير من محدثيهم كالبخاري ومسلم..".
*********************
عقيدة الطينة عند الشيعة الرافضة
هذه العقيدة من مقالاتهم السرية، وعقائدهم التي يتواصون بكتمانها حتى من عامتهم، لئلا يطلع العامي الشيعي على هذه العقيدة.
وكانت هذه المقالة موضع إنكار من بعض عقلاء الشيعة المتقدمين كالمرتضى وابن إدريس؛ لأنها في نظرهم وإن تسللت أخبارها في كتب الشيعة إلا أنها أخبار آحاد مخالفة للكتاب والسنة والإجماع فوجب ردها.
تواتر أحاديث الطينة عند الشيعة:
لكن هذه الأخبار تكاثرت على مر الزمن حتى قال شيخهم نعمة الله الجزائري (ت 1112هـ): (إن أصحابنا قد رووا هذه الأخبار بالأسانيد المتكاثرة في الأصول وغيرها، فلم يبق مجال في إنكارها، والحكم عليها بأنها أخبار آحاد، بل صارت أخباراً مستفيضة بل متواترة). قال هذا في الرد على من أنكرها من شيوخهم السابقين.
والذي تولى كبر إرساء هذه العقيدة -فيما يظهر- هو شيخهم الكليني الذي بوب لها بعنوان (باب طينة المؤمن والكافر) وضمّن ذلك سبعة أحاديث في أمر الطينة [أصول الكافي (2/2-6)].
ثم ما زالت تكثر هذه الأخبار من بعد الكليني حتى سجل منها شيخهم المجلسي سبعة وستين حديثاً في باب عقده بعنوان: (باب الطينة والميثاق) [بحار الأنوار (5/225 -276)].(1/76)
وكأن القارئ يتطلع إلى تفاصيل هذه المقالة التي تجعل الشيعي يعتقد بأن كل بائقة يرتكبها فذنبها على أهل السنة، وكل عمل صالح يعمله أهل السنة فثوابه للشيعة، ولذلك فإن شيوخ الشيعة يكتمون ذلك عن عوامهم حتى لا يفسدون عليهم البلاد والعباد.
وهذه العقيدة أوسع تفصيل لها هو في رواية ابن بابويه في علل الشرائع، حيث استغرقت عنده خمس صفحات وختم بها كتابه [انظر: علل الشرائع: ص606-610]، ورأى بعض شيوخهم المعاصرين أن هذا كمسك الختام، فقال: (إنه ختم بهذا الحديث الشريف كتاب علل الشرائع) [انظر: بحار الأنوار(الهامش) (5/233)].
ملخص عقيدة الطينة:
يقول: إن الشيعي خلق من طينة خاصة والسني خلق من طينة أخرى، وجرى المزج بين الطينتين بوجه معين، فما في الشيعي من معاصي وجرائم هو من تأثره بطينة السني، وما في السني من صلاح وأمانة هو بسبب تأثره بطينة الشيعي، فإذا كان يوم القيامة فإن سيئات وموبقات الشيعة توضع على أهل السنة، وحسنات أهل السنة تعطى للشيعة.
وعلى هذا المعنى تدور أكثر من ستين رواية من رواياتهم.
سبب القول بهذه العقيدة:
يمكن أن يستنبط سبب القول بهذه العقيدة من الأسئلة التي زُعم أنها وجهت للأئمة، والشكاوي التي رفعت إليهم، فالشيعة يشكون من انغماس قومهم بالموبقات والكبائر، ومن سوء معاملة بعضهم لبعض، ومن الهم والقلق الذي يجدونه ولا يعرفون سببه.
ولكن تعزو الرواية المنسوبة كذباً إلى الإمام ذلك كله لتأثر طينة الشيعي بطينة السني في الخلقة الأولى.
أسئلة مثيرة تكشف واقع المجتمع الشيعي المغلق:
ولنستمع إلى بعض هذه الأسئلة المثيرة التي تكشف واقع المجتمع الشيعي المغلق:(1/77)
(روى ابن بابويه بسنده: عن أبي إسحاق الليثي قال: [[ قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر -عليه السلام-: يا بن رسول الله! أخبرني عن المؤمن المستبصر -يعني الشيعي- إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني؟ قال: اللهم لا، قلت: فيشرب الخمر؟ قال: لا. قلت: فيأتي بكبيرة من الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال: لا. قلت: يا بن رسول الله! إني أجد من شيعتكم من يشرب الخمر، ويقطع الطريق، ويخيف السبل، ويزني، ويلوط، ويأكل الربا ويرتكب الفواحش ويتهاون بالصلاة والصيام والزكاة ويقطع الرحم، ويأتي الكبائر فكيف هذا ولم ذاك؟ فقال: يا إبراهيم! هل يختلج صدرك شيء غير هذا؟ قلت: نعم يا ابن رسول الله أخرى أعظم من ذلك، فقال: وما هو يا أبا إسحاق؟! قال: فقلت: يا بن رسول الله! وأجد من أعدائكم ومناصبيكم -يشير إلى أهل السنة- من يكثر من الصلاة والصيام ويخرج الزكاة ويتابع بين الحج والعمرة، ويحرص على الجهاد، ويأثر -كذا- على البر، وعلى صلة الأرحام، ويقضي حقوق إخوانه، ويواسيهم من ماله، ويتجنب شرب الخمر والزنا واللواط، وسائر الفواحش فما ذاك؟ ولِمَ ذاك؟ فسّره لي يا بن رسول الله وبرهنه وبينه، فقد والله كثر فكري وأسهر ليلي، وضاق ذرعي ]] [علل الشرائع: (ص 606- 607)، بحار الأنوار: (5/228-229)].
هذا وحده من الأسئلة والشكاوي التي تكشف انزعاج الشيعة من واقعهم المليء بالمعاصي والموبقات، بالمقارنة بواقع سلف هذه الأمة وأئمة أهل السنة ومعظم عامتهم من تقى وأمانة وصلاح، وقد أجيب السائل بمقتضى عقيدة الطينة وهي: أن المعاصي الموجودة عند الشيعة بسبب أهل السنة، والأعمال الصالحة التي تسود المجتمع السني بسبب طينة الشيعي.(1/78)
ويأتي سائل آخر يدعى إسحاق القمي فيقول لأبي جعفر الباقر: [[ جعلت فداك! أرى المؤمن الموحد الذي يقول بقولي، ويدين الله بولايتكم، وليس بيني وبينه خلاف، يشرب المسكر، ويزني، ويلوط، فآتيه في حاجة واحدة فأصيبه معبس الوجه، كالح اللون، ثقيلاً في حاجتي، بطيئاً فيها، وقد رأى الناصب المخالف لما أنا عليه ويعرفني بذلك -أي: يعرف بأنه شيعي- فآتيه في حاجة، فأصيبه طلق الوجه، حسن البشر، متسرعاً في حاجتي، فرحاً بها، يحب قضاءها، كثير الصلاة، كثير الصوم، كثير الصدقة، يؤدي الزكاة، ويُستودع فيؤدي الأمانة ]] [علل الشرائع (ص489-490)، بحار الأنوار (5/246-247)].
فهذا السائل يزيد عن سابقه بشكواه من سوء معاملة أصحابه، وجفاء طبعهم، وقلة وفائهم، على حين يجد أهل السنة -وهم خصومه- أحسن له من أصحابه وأقضى للحاجة، وأفضل للخلق والمعاملة والعبادة.
- وقريب من ذلك ما شكاه بعض الشيعة إلى أبي عبد الله، فقال: (أرى الرجل من أصحابنا -ممن يقول بقولنا- خبيث اللسان، خبيث الخلطة، قليل الوفاء بالميعاد؛ فيغمني غماً شديداً، وأرى الرجل من المخالفين لنا حسن السمت، حسن الهدي -الهدي: الطريقة والسيرة (بحار الأنوار: 5/251)- وفياً بالميعاد فأغتم غماً) [ البرقي المحاسن (ص137-138)، بحار الأنوار (5-251)].
- ويأتي سائل رابع يشكو ما يجده من قلق وهم لا يعرف له تفسير. تقول روايتهم: (عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله ومعي رجل من أصحابنا فقلت له: جعلت فداك يا بن رسول الله! إني لأغتم وأحزن من غير أن أعرف لذلك سبباً...) [بحار الأنوار (5/242)، وعزاه إلى علل الشرائع (ص:42)]
ويبدو أن مصدر القلق هو تلك العقيدة غير الواضحة، والمستقرة التي تأخذ بها الشيعة، ولكن "إمامه" يفسر هذا القلق بمقتضى عقيدة الطينة.(1/79)
هذه الأسئلة والشكاوي وغيرها كثير -تجدها في أبواب الطينة في الكافي والبحار، وسيأتي "نماذج" أخرى في باب أثر الشيعة في العالم الإسلامي- توضح طبيعة التركيبة الشيعية في نفسيتها، وعلاقاتها، وخلقها، ومعاملاتها ودينها.. وقد احتال شيوخ الشيعة لمواجهة هذا الإحساس الذي ينتاب بعض الصادقين من الشيعة، إزاء هذه الظواهر المقلقة والمخيفة فكانت محاولة الخروج من إلحاح هذه التساؤلات والشكاوي بقولهم بهذه العقيدة.
جواب أبي جعفر الباقر بعقيدة الطينة:(1/80)
ولنستمع إلى بعض الأجوبة على تلك الشكاوي -والجواب المذكور هو على السؤال الذي قالوا: إنه سأله إسحاق القمي- يقول (إمامهم): [[يا إسحاق -راوي الخبر- ليس تدرون من أين أوتيتم؟ قلت: لا والله، جعلت فداك إلا أن تخبرني، فقال: يا إسحاق! إن الله عز وجل لما كان متفرداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام مع لياليها، ثم نضب -أي: نشح ماؤه ونشف- [بحار الأنوار (5/230/هامش3)] الماء عنها فقبض قبضة من صفاوة ذلك الطين وهي طينتنا أهل البيت، ثم قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثم اصطفانا لنفسه، فلو أن طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنا لما زنى أحد منهم ولا سرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر ولا اكتسب شيئاً مما ذكرت، ولكن الله عز وجل أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها ثم نضب الماء عنها، ثم قبض قبضته، وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون -الحمأ: الطين الأسود المتغير، والمسنون: المنتن- وهي طينة خبال -الخبال: الفساد، النقصان- [المرجع نفسه من المصدر السابق، هامش رقم (3)] وهي طينة أعدائنا، فلو أن الله عز وجل ترك طينتهم كما أخذها لم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقروا بالشهادتين، ولم يصوموا ولم يصلوا، ولم يزكوا، ولم يحجوا البيت، ولم تروا أحداً منهم بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين -طينتكم وطينتهم- فخلطهما وعركهما عرك الأديم، ومزجهما بالماءين فما رأيت من أخيك من شر لفظ، أو زنا، أو شيء مما ذكرت -من شرب مسكر أو غيره- ليس من جوهريته وليس من إيمانه، إنما بمسحة الناصب اجترح هذه السيئات التي ذكرت، وما رأيت من الناصب من حسن وجه وحسن خلق، أو صوم، أو صلاة، أو حج بيت، أو صدقة، أو معروف فليس من جوهريته، إنما تلك الأفاعيل من مسحة الإيمان اكتسبها وهو اكتساب مسحة الإيمان.(1/81)
قلت: جعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فمه؟ قال لي: يا إسحاق! أيجمع الله الخير والشر في موضع واحد؟ إذا كان يوم القيامة نزع الله عز وجل مسحة الإيمان منهم فرّدها على أعدائنا، وعاد كل شيء إلى عنصره الأول.
قلت: جعلت فداك! تؤخذ حسناتهم فترد إلينا، وتؤخذ سيئاتنا فترد عليهم؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو]] [علل الشرائع (ص490-491)، بحار الأنوار (5/247-248)].
هذه عقيدة الطينة عندهم، وقد جاء في سياق رواية القمي في أولها قوله: [[خذ إليك بياناً شافياً فيما سألت، وعلماً مكنوناً من خزائن علم الله وسره]] [علل الشرائع (ص: 607)، بحار الأنوار (5/229)].
وجاء في خاتمتها: [[خذها إليك يا أبا إسحاق! فو الله إنه لمن غرر أحاديثنا، وباطن سرائرنا، ومكنون خزائننا، وانصرف ولا تطلع على سرنا أحداً إلا مؤمناً مستبصراً، فإنك إن أذعت سرنا بليت في نفسك ومالك وأهلك وولدك]] [ علل الشرائع (ص610)، بحار الأنوار (5/233)].
فهي -كما ترى- عقيدة سرية في إبان قوة الدولة الإسلامية، يؤكد على سريتها في بدايتها ونهايتها، فهل خطر ببال مخترع هذه العقيدة أنها ستقع في أيدي أهل السنة، ويعلنوها أمام الملأ كإحدى الفضائح؟!
نقد عقيدة الطينة:
أولاً: إن هذه الروايات ناقضت نفسها بنفسها، فالشيعي -كما ترى في عرض الشكاوي والأسئلة- أغرق في الجريمة، وأكثر إيغالاً في المعاصي والموبقات، وأسوأ معاملة، وأردأ خلقاً وديناً، فكيف يكون -من هذه حاله- أفضل طينة، وأطهر خلقة؟
ثانياً: قد خلق الله سبحانه الناس جميعاً على فطرة الإسلام، قال تعالى: (( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ))[الروم:30].
والتفريق بينهما مما شذت به أساطير الشيعة.(1/82)
ثالثاً:ناقضت الشيعة في أخبار الطينة مذهبها في أفعال العباد، لأن مقتضى هذه الأخبار أن يكون العبد مجبوراً على فعله وليس له اختيار له، إذ أفعاله بمقتضى الطينة. مع أن مذهبهم أن العبد يخلق فعله كمذهب المعتزلة [انظر: (ص638), وما بعدها].
رابعاً: تقرر أخبار طينتهم أن موبقات الشيعة وأوزارها يتحملها أهل السنة، وحسنات المسلمين جميعاً تعطى للشيعة، وهذا مخالف للعدل الرباني ولا يتفق مع العقل الصريح ولا الفطرة السليمة، فضلاً عن نصوص الشرع وأصول الإسلام، قال تعالى: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))[الأنعام:164، فاطر:18، الزمر:7]، وقال عز وجل: ((كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ))[الطور:21] وقال تعالى: (( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ))[المدثر:38] وقال تعالى: (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه ))[الزلزلة:7-8] وقال تعالى: ((الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ))[غافر:17] وغيرها كثير.
وهذه المقالة ظاهرة البطلان، ويكفي مجرد تصورها لمعرفة فسادها، وهي من فضائح المذهب الإثني عشري وعوراته.
ولا يستحي الشيعة إلى اليوم من المجاهرة بهذه العقيدة وإعلانها، فتجد أخبار هذه "الفرية" في بحار الأنوار [(5/233)، هامش(3)] والأنوار النعمانية [انظر: (1/287)، تعليقه رقم(1)] ، ويعلق عليها المحقق الشيعي بما يؤكد رضاه عن هذه الأساطير واعتقادها.
وإذا لم تستحي فاصنع ما شئت!!
*********************
هل يجوز التعبد بمذهب الاثنى عشرية ؟
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من محاضرة: الأسئلة
السؤال: قرأت أن شيخ الأزهر شلتوت قال: أنه يجوز التعبد بمذهب الإثني عشرية ؟(1/83)
الجواب: أما الحكم فنحن أهل السنة والجماعة أمرنا الله تبارك وتعالى وأمر هذه الأمة جميعاً أن يكونوا قوامين لله شهداء بالقسط، وألا يجرمنهم شنئان قوم على ألاَّ يعدلوا، وأهل السنة والجماعة هم أولى الناس بالتمسك بأوامر الله عز وجل، ونحن لا نسوي في الحكم بين الباطنية الذين هم غلاة الروافض الذين سبق بيان عقيدتهم، وبين الإثنى عشرية ، وإن كانوا في الحقيقة مشتركين في كثير من الأصول.
والإثنى عشرية إذا دقق المدقق، وحقق المحقق، ورأى ما في كتبهم وما كتبه عنهم علماء الإسلام الثقات المعروفون فإنهم بلا شك من حيث العقيدة ومن حيث المبدأ الذي هم عليه خارجون عن الملة، وأما الباطنية فهم أشد منهم كفراً وأشد إيغالاً في الرفض، ولا غرابة، فالكفر بعضه أشد من بعض، كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:37]؛ فإن مشركي قريش والعرب كانوا على الشرك وعلى الكفر، لكن الزيادة في الكفر لأنهم شرعوا ما لم يأذن به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالباطنية أشد، وما من باب تخرج منه الرافضة الإمامية الإثني عشرية من الملة إلا والباطنية أولى وأشد وأكثر خروجاً منهم.
أما بالنسبة لفتوى شلتوت وأمثاله: فقد صدرت هذه الدعوى وهي دعوى التقريب بين المذاهب في مصر ودعا إليها بعض العلماء وراجت عند بعضهم -مع الأسف- حتى أصبحوا يدرسون ما يسمى الفقه الجعفري في الأزهر، ونتيجة لذلك يقول شلتوت وغيره مثل هذا القول، والحقيقة أن الفقه والأحكام الفقهية لأية طائفة لا يمكن أن تنفصل عن عقيدتها.(1/84)
ومن الأمثلة على ذلك أن الروافض الإثنى عشرية هؤلاء يرون أن صلاتنا باطلة وأن صلاتنا غير صحيحة، بناءً على اعتقادهم فينا، لأنهم يقولون: من رضي وتولىَّ أعداء علي فهو كافر، وفي كتب كثيرة منها الكافي ومنها من لا يحضره الفقيه وأمثال ذلك تنص وتصرح بأن من يتولىَّ أعداء علي فهو كافر، أي من يتولى أبا بكر وعمر وعثمان الذين هم في نظرهم أعداء علي فهو كافر، فإذاً صلاتنا غير صحيحة، فكيف نقول: إن الأحكام الفقهية لا ارتباط لها بالعقيدة.
وقد تقولون: إن الروافض يُصلون خلفنا، نعم هذا مثل ما تقدم أنه يجب علينا أن نعرف دينهم لنعرف كيف يفكرون، وكيف يعملون، في هذه الكتب نفسها من كتب دينهم، يقولون: إذا صليت خلف الناصبة -أي: أهل السنة لأنهم يناصبون علياً العداوة- فصل خلفهم فإن لك سبعمائة حسنة، أي: إن صلاتك خلف الناصبة، مضاعفة سبعمائة مرة، لأنك تأخذ حسناتهم، فتصلي خلفهم من أجل أن تأخذ من حسناتهم وتحط آثامك عليهم وهذا منصوص عليه في كتبهم، فيصلون معنا بهذه النية، وقالوا: ورووا عن أبي عبد الله صاحبهم الذي هو جعفر يقولون: قال أبو عبد الله عليه السلام وغيره: لا تكبر إذا صليت معهم، أي: لا تكبر تكبيرة الإحرام؛ لأن مفتاح الصلاة هو التكبير، فادخل معهم بلا تكبير، وأيضاً هذا لون من ألوان التقية، فيدخل ولكن لا يكبر أيضاً، وقد نصوا في أكثر كتبهم الفقهية أنك إذا صليت خلف الناس أو العامة فإنك تنوي الانفراد، أي: هو في الحركات مع الجماعة لكن في نفسه ينوي الانفراد، ولهذا أحياناً تجدون المخالفة واضحة، فالإمام يصلي أربعاً وهو يصلي ركعتين ينفرد عنه، لأنه -أصلاً- منفرد بالنية عنه، إلى غير ذلك مما المقصود منه أن تعلموا أنه لا يمكن الفصل بين العقيدة وبين الأحكام التعبدية الفقهية، ونحن وهم مختلفون في الأصول والفروع، فكيف نقول: إنه يجوز التعبد بدينهم كما قال شلتوت !
************************(1/85)
الخلاصة في بيان رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالرافضة
وذلك من خلال الناقط التالية :
1- قوله في الرافضة ؟
ج1- هم أعظم ذوي الأهواء جهلا وظلما يعادون خيار أولياء الله تعالى من بعد النبيين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم من الضالين . ص 20 جـ (1)
2- هل هم متعاونون مع اليهود والنصارى ؟
ج2- فتجدهم أو كثيرا منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء فمنهم من آمن ومنهم من كفر سواء كان الاختلاف بقول أو عمل كالحروب التي بين المسلمين وأهل الكتاب والمشركين تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن ،كما قد جربه الناس منهم غير مرة في مثل إعانتهم للمشركين من الترك وغيرهم على أهل الإسلام بخراسان والعراق والجزيرة والشام وغير ذلك وإعانتهم للنصارى على المسلمين بالشام ومصر وغير ذلك في وقائع متعددة من أعظمها الحوادث التي كانت في الإسلام في المائة الرابعة والسابعة فإنه لما قدم كفار الترك إلى بلاد الإسلام وقتل من المسلمين ما لا يحصى عدده إلا رب الأنام كانوا من أعظم الناس عداوة للمسلمين ومعاونة للكافرين وهكذا معاونتهم لليهود أمر شهير حتى جعلهم الناس لهم كالحمير
3- يدعي البعض أنّ قلوبهم طيبة هل صحيح هذا ؟
ج3- ومن أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غل لخيار المؤمنين وسادات أولياء الله بعد النبيين، ولهذا لم يجعل الله تعالى في الفيء نصيبا لمن بعدهم إلا للذين { .... يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) [الحشر/10]}(1/86)
ولهذا كان بينهم وبين اليهود من المشابهة في الخبث واتباع الهوى وغير ذلك من أخلاق اليهود وبينهم وبين النصارى من المشابهة في الغلو والجهل وغير ذلك من أخلاق النصارى ما أشبهوا به هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه وما زال الناس يصفونهم بذلك .
ومن أخبر الناس بهم الشعبي وأمثاله من علماء الكوفة وقد ثبت عن الشعبي أنه قال ما رأيت أحمق من الخشبية لو كانوا من الطير لكانوا رخما ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرا ، والله لو طلبت منهم أن يملئوا لي هذا البيت ذهبا على أن أكذب على علي لأعطوني ووالله ما أكذب عليه أبدا .1
4- متى أطلق عليهم لقب الرافضة ، ولماذا ، ومن أطلقه ؟
ج4- من زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما ، رفضه قوم فقال لهم رفضتموني فسموا رافضة لرفضهم إياه وسمى من لم يرفضه من الشيعة زيديا لانتسابهم إليه . ص 35 جـ (1) .2
5- ممن يتبرأ الرافضة ؟
ج5- ( إنهم) يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، يبغضون هؤلاء إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار من السابقين الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة وقد أخبر الله أنه قد رضي عنهم3
وثبت في صحيح مسلم وغيره عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو حَاطِبًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " كَذَبْتَ لاَ يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ ".4(1/87)
وهم يبرؤون من جمهور هؤلاء ، بل يتبرؤون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا نحو بضعة عشر .
6- لماذا يكثر فيهم الكذب والجهل ؟
ج6- لما كان أصل مذهبهم مستند إلى جهل ، كانوا أكثر الطوائف كذباً وجهلاً. ص 57 جـ (1)
7- بماذا امتاز الروافض ؟
ج7- إنهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها ، وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب بل وبالإلحاد وعلماؤهم يعتمدون على نقل مثل أبي مخنف لوط بن يحيى وهشام بن محمد بن السائب وأمثالهما من المعروفين بالكذب عند أهل العلم مع أن أمثال هؤلاء هم من أجل من يعتمدون عليه في النقل إذ كانوا يعتمدون على من هو في غاية الجهل والافتراء ممن لا يذكر في الكتب ولا يعرفه أهل العلم بالرجال وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف والكذب فيهم قديم ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب قال أبو حاتم الرازي سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال أشهب بن عبد العزيز سئل مالك عن الرافضة فقال لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون وقال أبو حاتم حدثنا حرملة قال سمعت الشافعي يقول لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة وقال مؤمل بن إهاب سمعت يزيد بن هارون يقول يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون ، وقال محمد بن سعيد الأصبهاني سمعت شريكا يقول أحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينا5 وشريك هذا هو شريك بن عبد الله القاضي قاضى الكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه أنا من الشيعة وهذه شهادته فيهم وقال أبو معاوية سمعت الأعمش يقول أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين يعني أصحاب المغيرة بن سعيد قال الأعمش ولا عليكم ألا تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا إنا أصبنا(1/88)
الأعمش مع امرأة وهذه آثار ثابتة رواها أبو عبد الله بن بطة في الإبانة الكبرى هو وغيره وروى أبو القاسم الطبري كلام الشافعي فيهم من وجهين من رواية الربيع قال سمعت الشافعي يقول ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة ورواه أيضا من طريق حرملة وزاد في ذلك ما رأيت أشهد على الله بالزور من الرافضة 6وهذا المعنى وإن كان صحيحا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي ولهذا ذكر الشافعي ما ذكره أبو حنيفة وأصحابه أنه يرد شهادة من عرف بالكذب كالخطابية ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء هل تقبل مطلقا أو ترد مطلقا أو ترد شهادة الداعية إلى البدع وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته 7
8- هل صحيح أنهم يقدسون الكذب والخداع وماذا يسمونه ؟
ج8- وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد وتعمد الكذب كثير فيهم وهم يقرون بذلك حيث يقولون ديننا التقية وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه، وهذا هو الكذب والنفاق ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة ، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق فهم في ذلك كما قيل رمتني بدائها وانسلت ، إذ ليس في المظهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم، واعتبر ذلك بالغالية من النصيرية وغيرهم وبالملاحدة الإسماعيلية وأمثالهم .
9- ما هو موقف الرافضة من ولاة أمور المسلمين ؟
ج9- هم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور ، وأبعد الناس عن طاعتهم إلاّ كرها. ص 111 جـ (1)
10- كيف ينظر إلى أعمالهم ؟(1/89)
ج10- ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة ، فإنهم يقرون بأن الأمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين أو قريبا من ذلك وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة8 ، فهم في هذه المدة لم ينتفعوا بإمامته لا في دين ولا في دنيا ، بل يقولون : إن عندهم علما منقولا عن غيره، فإن كانت أهم مسائل الدين وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه ، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد والعدل لأنه يكون ناقصا بالنسبة إلى مقصود الإمامة فيستحقون العذاب ، كيف وهم يسلمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع الشرعية، وأما الأصول العقلية فلا يحتاج فيها إلى الإمام ، وتلك هي أهم وأشرف ثم بعد هذا كله فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب ، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم ، وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا، فأي سعى أضل من سعي من يتعب التعب الطويل ويكثر القال والقيل ، ويفارق جماعة المسلمين ويلعن السابقين والتابعين ويعاون الكفار والمنافقين ، ويحتال بأنواع الحيل ، ويسلك ما أمكنه من السبل، ويعتضد بشهود الزور ، ويدلى أتباعه بحبل الغرور ويفعل ما يطول وصفه ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه ويعرفه ما يقربه إلى الله تعالى ، ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه لم يظفر بشيء من مطلوبه ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده ولا أمره ولا نهيه ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلا إلا إذهاب نفسه وماله ، وقطع الأسفار وطول الانتظار بالليل والنهار ، ومعاداة الجمهور لداخل في سرادب ليس له عمل ولا خطاب ، ولو كان موجودا بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين فكيف وعقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس وأن الحسن(1/90)
بن علي العسكري لم ينسل ولم يعقب كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالنسب 9
11- إلى أي حدٍ بلغ الغلو عندهم فيمن زعموا أنهم أئمة لهم ؟
ج11- وكذلك الرافضة غلوا في الرسل بل في الأئمة حتى اتخذوهم أربابا من دون الله10 فتركوا عبادة الله وحده لا شريك له التي أمرهم بها الرسل وكذبوا الرسل فيما أخبر به من توبة الأنبياء واستغفارهم ، فتجدهم يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فلا يصلون فيها جمعة ولا جماعة وليس لها عندهم كبير حرمة وإن صلوا فيها صلوا فيها وحدانا ويعظمون المشاهد المبنية على القبور فيعكفون عليها مشابهة للمشركين ويحجون إليها كما يحج الحاج إلى البيت العتيق ، ومنهم من يجعل الحج إليها أعظم من الحج إلى الكعبة، بل يسبون من لا يستغني بالحج إليها عن الحج الذي فرضه الله على عباده ، ومن لا يستغنى بها عن الجمعة والجماعة وهذا من جنس دين النصارى والمشركين الذين يفضلون عبادة الأوثان على عبادة الرحمن وقد ثبت في الصحاح عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى مَرَضِهِ الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا .11 وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى جُنْدَبٌ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ " إِنِّى أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِى مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِى خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ(1/91)
أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ". رواه مسلم12
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ " رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه13
و عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِى وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ". رواه مالك في الموطأ14
12- هل الروافض من عبّاد القبور ؟
ج12-قد صنف شيخهم ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد وهو شيخ الموسوي والطوسي كتابا سماه مناسك المشاهد جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياما للناس15، وهو أول بيت وضع للناس16 ، فلا يطاف إلا به ولا يصلى إلا إليه ولم يأمر الله إلا بحجه 17، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين ، بل هذا من دين المشركين الذين قال الله فيهم :{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) [نوح/23-25] قال ابن عباس وغيره هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح لما ماتوا عكفوا على قبورهم فطال عليهم الأمد فصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم18 ، وقد ثبت في الصحيح عَنْ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا " 19(1/92)
وقد ثبت في صحيح مسلم عَنْ أَبِى الْهَيَّاجِ الأَسَدِىِّ قَالَ قَالَ لِى عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ أَلاَّ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ وَلاَ قَبْراً مُشْرِفاً إِلاَّ سَوَّيْتَهُ "20
فقرن بين طمس التماثيل وتسوية القبور المشرفة لأن كليهما ذريعة إلى الشرك كما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَمَّا اشْتَكَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ - رضى الله عنهما - أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ " أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ ". 21(1/93)
والله أمر في كتابه بعمارة المساجد22 ، ولم يذكر المشاهد ، فالرافضة بدلوا دين الله فعمروا المشاهد وعطلوا المساجد مضاهاة للمشركين ومخالفة للمؤمنين ، قال تعالى :{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) [الأعراف/29] لم يقل عند كل مشهد ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) [التوبة/17، 18]
ولم يقل إنما يعمر مشاهد الله ، بل عمار المشاهد يخشون بها غير الله ويرجون غير الله .
وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) [الجن/18] ولم يقل وأن المشاهد لله ، وقال وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) [الحج/40] ولم يقل ومشاهد
وقال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)[النور/36-37](1/94)
وأيضا فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات والاجتماع للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك ، وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولا غيرهم لا مسجدا ولا مشهدا ، ولم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم في الإسلام مشهد مبني على قبر وكذلك على عهد خلفائه الراشدين وأصحابه الثلاثة وعلي بن أبي طالب ومعاوية لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره لا على قبر إبراهيم الخليل ولا على غيره
بل لما قدم المسلمون إلى الشام غير مرة ومعهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم ، ثم لما قدم عمر لفتح بيت المقدس ثم لما قدم لوضع الجزية على أهل الذمة ومشارطتهم ثم لما قدم إلى سرغ ، ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد ، بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ،ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصارى تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة ، فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا .
بل كان الصحابة إذ رأوا أحدا بني مسجدا على قبر نهوه عن ذلك ،ولما ظهر قبر دانيال بتستر كتب فيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ألى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن تحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وتدفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به23
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رآهم يتناوبون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي ينهاهم عن ذلك ويقول : إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب24(1/95)
فهذا وأمثاله مما كانوا يحققون به التوحيد الذي أرسل الله به إليهم ويتبعون في ذلك سنته صلى الله عليه وسلم.
والإسلام مبني على أصلين : أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع
فالنصارى خرجوا عن الأصلين وكذلك المبتدعون من هذه الأمة من الرافضة وغيره.
13- هل من أصولهم الكذب والنفاق ؟
ج13- أخبر (تعالى ) أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين25 ، فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم فيمتنع أن يكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا ، ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا أعز الناس ، وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين ، فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ، ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم ، والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف ، بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق ، فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم26 ، والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية ، وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا عن جعفر الصادق أنه قال : التقية ديني ودين آبائي 27، وقد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان ، وكان دينهم التقوى لا التقية وقول الله تعالى : { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران/28]28 إنما هو الأمر بالاتقاء من(1/96)
الكفار لا الأمر بالنفاق والكذب ، والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لكن لم يكره أحدٌ من أهل البيت على شيء من ذلك ، حتى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكره أحدا لا منهم ولا من غيرهم على مبايعته فضلا أن يكرههم على مدحه والثناء عليه ، بل كان علي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ، ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس ، وقد كان في زمن بني أمية وبني العباس خلق عظيم دون علي وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ، ولا يقربونهم ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ولم يكن أولئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم من هؤلاء ، فإذا لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على أن يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك ، بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر كما تقوله الرافضة من غير أن يكرههم أحد على ذلك ، فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق ، وأن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم لا من باب ما يكره المؤمن عليه من التكلم بالكفر ، وهؤلاء أسرى المسلمين في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور وتكفير عثمان وعلي ومن والاهما يتظاهرون بدينهم ، وإذا سكنوا بين الجماعة سكنوا على الموافقة والمخالفة ، والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض ، وغايته إذا ضعف أن يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسب الخلفاء والصحابة إلا أن يكونوا قليلا ، فكيف يظن بعلي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف دينا وقلوبا من الأسرى في بلاد الكفر ومن عوام أهل السنة ، ومن النواصب29 ، مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليا ولا أولاده على(1/97)
ذكر فضائل الخلفاء والترحم عليهم ، بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر( عنهم )30 ، وأيضا فقد يقال في قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) [النور/55، 56] إن ذلك وصف للجملة بوصف يتضمن حالهم عند الاجتماع كقوله تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد، فلا بد أن يتصف بسبب ذلك وهو الإيمان والعمل الصالح إذ قد يكون في الجملة منافق ، وفي الجملة كل ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم ، فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : " خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِى بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ "31(1/98)
14- في أي أصناف الناس يوجد الرافضة ؟
ج14- إن من تأمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه ، والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار ، ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله32 ، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ولا في الجيوش المؤيدة المنصورة جيش رافضي ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي ، وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين وإما في جهال ليس لهم علم لا بالمنقولات ولا بالمعقولات قد نشئوا بالبوادي والجبال أو تحيزوا عن المسلمين ، فلم يجالسوا أهل العلم والدين ، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال أو له نسب يتعصب له كفعل أهل الجاهلية ، وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين فليس في هؤلاء رافضي لظهور الجهل والظلم في قولهم ، وتجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية وفيهم من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم كما في الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " وزاد مسلم " .... وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ33
وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة
15- هل عند الرافضة زهد وجهاد إسلامي صحيح ؟(1/99)
ج15- أما الشيعة فهم دائما مغلوبون مقهورون منهزمون وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ، ولهذا ( عندما ) كاتبوا الحسين رضي الله عنه فلما أرسل إليهم ابن عمه ثم قدم بنفسه غدروا به وباعوا الآخرة بالدنيا وأسلموه إلى عدوه وقاتلوه مع عدوه34 ، فأي زهد عند هؤلاء وأي جهاد عندهم وقد ذاق منهم على بن أبي طالب رضي الله عنه من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله حتى دعا عليهم فقال اللهم قد سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني35، وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ويخونونه في الولايات والأموال هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة إنما سموا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين فرقة شايعت أولياء عثمان وفرقة شايعت عليا رضي الله عنهما فأولئك خيار الشيعة ، وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وابنيه سبطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانتيه في الدنيا الحسن والحسين36 ، وأعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق وأسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها ، يغرُّون من يظهرون نصره من أهل البيت حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا ، ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين رضي الله عنه أن لا يذهب إليهم مثل عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم لعلمهم بأنهم يخذلونه ولا ينصرونه ، ولا يوفون له بما كتبوا له إليه وكان الأمر كما رأى هؤلاء ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم دعاء علي بن أبي طالب حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف فكان لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ، ودب شرهم إلى من لم يكن منهم حتى عم الشر ، وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي ، وهؤلاء المعروفون في الأمة بقول الحق وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ليس فيهم رافضي ، كيف والرافضي من جنس المنافقين مذهبه التقية ، فهل(1/100)
هذا حال من لا تأخذه في الله لومة لائم ، إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) [المائدة/54] .
وهذا حال من قاتل المرتدين وأولهم الصِّديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين، كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه :"أَنْتُمْ أَكْثَرُ صَلاةً، وَأَكْثَرُ جِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ"، قَالُوا: بِمَ ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ:"إِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَ فِي الآخِرَةِ",37 بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم ، وهم كما قال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) [المنافقون/4] ، ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل ، ثم يقال : من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا ؟!!(1/101)
فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي رضي الله عنه ، بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال : إنهم كانوا يكتمون تقديم علي رضي الله عنه ، وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة ؟!!(1/102)
وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر واتباعا لهما وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر وعمر ، وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه ، ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي ، واقتتلت الطائفتان وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي ، وفي صحيح مسلم عَنْ زُرَارَةَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا لَهُ بِهَا فَيَجْعَلَهُ فِى السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ وَيُجَاهِدَ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَقِىَ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ رَهْطًا سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ فِى حَيَاةِ نَبِىِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنَهَاهُمْ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ " أَلَيْسَ لَكُمْ فِىَّ أُسْوَةٌ ". فَلَمَّا حَدَّثُوهُ بِذَلِكَ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ مَنْ قَالَ عَائِشَةُ. فَأْتِهَا فَاسْأَلْهَا ثُمَّ ائْتِنِى فَأَخْبِرْنِى بِرَدِّهَا عَلَيْكَ فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهَا فَأَتَيْتُ عَلَى حَكِيمِ بْنِ أَفْلَحَ فَاسْتَلْحَقْتُهُ إِلَيْهَا فَقَالَ مَا أَنَا بِقَارِبِهَا لأَنِّى نَهَيْتُهَا أَنْ تَقُولَ فِى هَاتَيْنِ(1/103)
الشِّيعَتَيْنِ شَيْئًا فَأَبَتْ فِيهِمَا إِلاَّ مُضِيًّا. - قَالَ - فَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَانْطَلَقْنَا إِلَى عَائِشَةَ فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهَا فَأَذِنَتْ لَنَا فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا. فَقَالَتْ أَحَكِيمٌ فَعَرَفَتْهُ. فَقَالَ نَعَمْ.
فَقَالَتْ مَنْ مَعَكَ قَالَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ. قَالَتْ مَنْ هِشَامٌ قَالَ ابْنُ عَامِرٍ فَتَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ خَيْرًا - قَالَ قَتَادَةُ وَكَانَ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ. فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِى عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.(1/104)
قَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى. قَالَتْ فَإِنَّ خُلُقَ نَبِىِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ الْقُرْآنَ. - قَالَ - فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلاَ أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَىْءٍ حَتَّى أَمُوتَ ثُمَّ بَدَا لِى فَقُلْتُ أَنْبِئِينِى عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قُلْتُ بَلَى. قَالَتْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَامَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَىْ عَشَرَ شَهْرًا فِى السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِى آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ. - قَالَ - قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِى عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَتْ كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى تِسْعَ رَكَعَاتٍ لاَ يَجْلِسُ فِيهَا إِلاَّ فِى الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلاَ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّى التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَىَّ فَلَمَّا أَسَنَّ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَخَذَ اللَّحْمَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَصَنَعَ فِى الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الأَوَّلِ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَىَّ وَكَانَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى(1/105)
صَلاَةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلاَ أَعْلَمُ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِى لَيْلَةٍ وَلاَ صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ وَلاَ صَامَ شَهْرًا كَامِلاً غَيْرَ رَمَضَانَ. - قَالَ - فَانْطَلَقْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسِ فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِهَا فَقَالَ صَدَقَتْ لَوْ كُنْتُ أَقْرَبُهَا أَوْ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لأَتَيْتُهَا حَتَّى تُشَافِهَنِى بِهِ. - قَالَ - قُلْتُ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهَا مَا حَدَّثْتُكَ حَدِيثَهَا.38
وعن ابن عباس ، قال : قال معاوية : أنت على ملة علي ؟ قلت : " ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة محمد صلى الله عليه وسلم " 39
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان ، ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة وصاروا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما فرفضه قوم فقال : رفضتموني رفضتموني فسموا رافضة وتولاه قوم زيدية لانتسابهم إليه ، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر ، فالزيدية خير من الرافضة أعلم وأصدق وأزهد وأشجع ثم بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم ، وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق.
16- هل هم من الضالين ؟(1/106)
ج16- أما عصمة الأئمة فلم يقل بها إلا كما قال الإمامية والإسماعيلية وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدةُ المنافقون الذين شيوخهم الكبار أكفرُ من اليهود والنصارى والمشركين ، وهذا دأبُ الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك، فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويوالون الكفار والمنافقين؟ !!(1/107)
وقد قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) [المجادلة/14-22](1/108)
فهذه الآيات نزلت في المنافقين ، وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق كما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ " أخرجاه في الصحيحين40
17- ما موقفهم من المنكرات ؟
ج17- قال تعالى :{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) [المائدة/78-82] }
وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك ،. ص 376 جـ (3) .
18- ما موقفهم من الكفار ؟(1/109)
ج18- وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار كما قال تعالى : { َألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) [المجادلة/14-18]
ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر ، حتى أن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقطعون الطريق استحلالا لذلك وتدينا به فقاتلهم صنف من التركمان فصاروا يقولون : نحن مسلمون فيقولون : لا أنتم جنس آخر ، فهم بسلامة قلوبهم علموا أنهم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم ، وقد قال الله تعالى: { .. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14 [المجادلة/14](1/110)
وهذا حال الرافضة ، وكذلك : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) [المجادلة/16-21]
وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين، ولهذا لما خرج الترك والكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم ، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم.41
19- ماذا أدخلوا في دين الله ؟(1/111)
ج19- الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم ، وردُّوا من الصدق ما لم يرده غيرهم ، وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم ، مثل قولهم إن قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) [المائدة/55، 56] نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة
وقوله تعالى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) [الرحمن/19] علي وفاطمة وقوله تعالى : { َخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) [الرحمن/22، 23] الحسن والحسين
وقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) [يس/12] علي بن أبي طالب
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) [آل عمران/33] هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران وقوله تعالى : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) [التوبة/12] طلحة والزبير
وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) [الإسراء/60] هم بنو أمية(1/112)
وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) [البقرة/67، 68] عائشة
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) [الزمر/65] لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية 42
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم ثم من هذا دخلت الإسماعيليه والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرمات ، فهم أئمة التأويل الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ، ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ما لا يوجد في صنف من المسلمين ، فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد وحرفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه .
20- دعوى الرافضة متابعتهم لإجماع أهل البيت ما مدى صحتها ؟
ج20- أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة ، وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفة إجماع الصحابة ، فإنه لم يكن في العترة النبوية بنو هاشم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من يقول بإمامة الإثني عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بكفر الخلفاء الثلاثة، بل ولا من يطعن في إمامتهم بل ولا من ينكر الصفات ولا من يكذب بالقدر ، فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفتهم لإجماع الصحابة ، فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة ؟؟؟!!!
21- بعض الصفات الخاصة بطائفتهم ؟(1/113)
ج21- إن الموجود في الشيعة من الأمور المنكرة الشنيعة المخالفة للكتاب والسنة والإجماع أعظم وأشنع مما يوجد في أي طائفة فرضت من طوائف السنة، فما من طائفة من طوائف السنة يوجد في قولها ما هو ضعيف إلا ويوجد ما هو أضعف منه وأشنع من أقوال الشيعة ، فتبين على كل تقدير أن كل طائفة من أهل السنة خير منهم ، فإن الكذب الذي يوجد فيهم والتكذيب بالحق وفرط الجهل والتصديق بالمحالات وقلة العقل والغلو في اتباع الأهواء والتعلق بالمجهولات لا يوجد مثله في طائفة أخرى .
22- لماذا يطعنون في الصحابة ؟
ج22- الرافضة يطعنون في الصحابة ونقلِهِم ، وباطنُ أمرهم : الطعنُ في الرسالة. ص 463 جـ (3) .43
23- من الذي يوجّه الشيعة ؟
ج 23- الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب ، إلاّ شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ، ويصدونهم عن سبيل الله . ص 488 جـ (3) .
24- بماذا يأمُرُ شيوخُ الرافضة أتباعهم ؟(1/114)
ج24- الذين يطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة أو كتب صنفها بعض شيوخ الرافضة ، وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين وهؤلاء الشيوخ المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق ولا مقطوعا لهم النجاة ، فإذا الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم، فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي ، وهم أئمتهم حقا وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ولا يدرون بماذا أمر ولا عماذا نهى، بل له أتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه وأن يتخذوهم أربابا ، وكما تأمر شيوخ الشيعة أتباعهم وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم، فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ويصدونهم عن سبيل الله ، فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه ولا يكون الدين إلا له لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم ، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله أمره ونهيه فلا يطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو ، فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدْعى مع مغيبه وبعد موته ويستغاث به ويطلب منه الحوائج والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد وينهى عما يريد كان الميت مشبَّهاً بالله تعالى، والحيُّ مشبَّهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله .(1/115)
ثم إن كثيرا منهم يتعلقون بحكايات تنقل عن ذلك الشيخ ، وكثير منها كذب عليه وبعضها خطأ منه فيعدلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ، فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا فالشيعة أكثر وأعظم خطأ لأنهم أعظم كذباً فيما ينقلونه عن الأئمة وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة ، وإذا كان الواحد من هؤلاء أتباع الشيوخ الأحياء المضلين الغالين في شيخ قد مات مخطئين في قطعهم بالنجاة فخطأ الشيعة في قطعهم بالنجاة أعظم وأعظم ، وإن قدر أن طريق الشيعة صواب لما فيه من القطع والجزم بالنجاة فطريق المشايخية صواب لما فيه من القطع بالنجاة ، وحينئذ فيكون طريق من يعتقد أن يزيد بن معاوية كان من الأنبياء الذين يشربون الخمر وأن الخمر حلال له لأنه شربها الأنبياء ، ويزيد كان منهم طريقا صوابا وإذا كان يزيد نبيا كان من خرج على نبي كافرا فيلزم من ذلك كفر الحسين وغيره 44، ويلزم من ذلك أن يكون طريق من يقول كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده طريقا صحيحا ، وطريق من يقول : إن الله ينزل إلى الأرض45 وأن كل مسجد فإن الله قد وضع قدمه عليه طريقا صحيحا ، وطريق من يقول على الدرة البيضاء كان اجتماعنا وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة طريقا صحيحا ، وطريق من يقول إن شيخه قد أسقط عنه الصلاة طريقا صحيحا ، وأمثال هذه الضلالات التي توجد في كثير من العامة أتباع المشايخ46 فإن كثيرا من هؤلاء جازمون بنجاتهم وسعادة مشايخهم أعظم من قطع الإثني عشرية للأئمة وأتباعهم ، فإن كان ما ذكره من أتباع الجازم بالنجاة واجبا وجب اتباع هؤلاء ، ومن جملة اتباع هؤلاء القدح في الشيعة وإبطال طريقتهم فيلزم من اتباع الجازم إبطال قول الشيعة ، وإن لم يكن اتباع الجازم مطلقا طريقا صحيحا بطلت حجته ، وكذلك يقال لهؤلاء وهؤلاء إن كان اتباع أهل الجزم أولى بالاتباع من طريقة الذين يأمرون بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويتبعون أهل العلم والدين فيما(1/116)
يأمرون به من طاعة الله ورسوله ولا يوجبون طاعة معين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يضمنون السعادة إلا لمن أطاع الله ورسوله ، ويقولون إن من سواه يخطئ ويصيب فلا يطاع مطلقا فإن كان اتباع هؤلاء نقصا وخطأ والصواب اتباع أهل الجزم مطلقا وجب اتباع شيعة الأئمة المعصومين وشيعة المشايخ المحفوظين، وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء، فيلزم أن يكون كل من الطريقين باطلا حقا ، وهذا جمع بين النقيضين ، وهذا إنما لزم لأن الأصل فاسد وهو اتباع من يجزم بلا علم ولا دليل فكل من جعل اتباع الشيخ الجازم والمجازف بلا حجة ولا دليل أو الإمامي الجازم المجازف بالنجاة بلا حجة ولا دليل مما يجب اتباعه لزم تناقض أقوالهم بخلاف الأقوال التي ترجع إلى أصل صحيح فإنها لا تتناقض .
25- حالهم مع الشهادة ؟
ج25- الرافضة إن شهدوا : شهدوا بما لا يعلمون ، أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب ، فهم كما قال الشافعي - رحمه الله - : ما رأيت قوماً أشهد بالزور من الرافضة . ص 502 جـ (3)47 .
26- أصول الرافضة هل وضعها أهل البيت ؟
ج26- ( وهنا أمور ) :
الوجه الأول - لا نسلم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت لا الإثنا عشرية ولا غيرهم، بل هم مخالفون لعلى رضي الله عنه وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة : توحيدُهم وعدلُهم وإمامتُهم ، فإن الثابت عن علي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت من إثبات الصفات لله تعالى وإثبات القدر وإثبات خلافة الخلفاء الثلاثة وإثبات فضيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغير ذلك من المسائل ، كله يناقض مذهب الرافضة ، والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم بحيث أن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علما ضروريا بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم .(1/117)
الوجه الثاني- أن يقال قد عُلِمَ أن الشيعة مختلفون اختلافا كثيرا في مسائل الإمامة والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول دينهم ، فأي قول لهم هو المأخوذ عن الأئمة المعصومين ؟!!
حتى مسائل الإمامة قد عرف اضطرابهم فيها، وقد تقدم بعض اختلافهم في النص وفي المنتظر ، فهم في الباقي المنتظر على أقوال منهم من يقول ببقاء جعفر بن محمد ومنهم من يقول ببقاء ابنه موسى بن جعفر ومنهم من يقول ببقاء عبد الله بن معاوية ومنهم من يقول ببقاء محمد بن عبد الله بن حسن ومنهم من يقول ببقاء محمد بن الحنفية ، وهؤلاء يقولون نص عليٌّ على الحسن والحسين ، وهؤلاء يقولون على محمد بن الحنفية وهؤلاء يقولون أوصى علي بن الحسين إلى ابنه أبي جعفر وهؤلاء يقولون إلى ابنه عبد الله وهؤلاء يقولون أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ، وهؤلاء يقولون إن جعفر أوصى إلى ابنه إسماعيل ، وهؤلاء يقولون إلى ابنه محمد ، وهؤلاء يقولون إلى ابنه عبد الله ، وهؤلاء يقولون إلى ابنه موسى ، وهؤلاء يسوقون النص إلى محمد بن الحسن ، وهؤلاء يسوقون النص إلى بني عبيد الله بن ميمون القداح الحاكم وشعيته ، وهؤلاء يسوقون النص من بني هاشم إلى بني العباس ، ويمتنع أن تكون هذه الأقوال المتناقضة مأخوذة عن معصوم، فبطل قولهم أن أقوالهم مأخوذةٌ عن معصوم .
الوجه الثالث - أن يقال هب أن عليا رضي الله عنه كان معصوما فإذا كان الاختلاف بين الشيعة هذا الاختلاف وهم متنازعون هذا التنازع فمن أين يعلم صحة بعض هذه الأقوال عن علي دون الآخر؟!!
وكلٌّ منهم يدَّعي أن ما يقوله إنما أخذه عن المعصومين ، وليس للشيعة أسانيد متصلة برجال معروفين مثل أسانيد أهل السنة حتى ينظر في الإسناد وعدالة الرجال، بل إنما هي منقولات منقطعة عن طائفة عرف فيها كثرة الكذب وكثرة التناقض في النقل فهل يثق عاقل بذلك؟!!(1/118)
وإن ادَّعوا تواتر نصِّ هذا على هذا ونص هذا على هذا كان هذا معارضا بدعوى غيرهم مثل هذا التواتر، فإن سائر القائلين بالنص إذا ادعى مثل هذه الدعوى لم يكن بين الدعويين فرق، فهذه الوجوه وغيرها تبين أن بتقدير ثبوت عصمة على رضي الله عنه فمذهبهم ليس مأخوذاً عنه ، فنفس دعواهم العصمة في على مثل دعوى النصارى الإلهية في المسيح مع أن ماهم عليه ليس مأخوذا عن المسيح عليه السلام .
الوجه الرابع- أنهم في مذهبهم محتاجون إلى مقدمتين إحداهما عصمةُ من يضيفون المذهب إليه من الأئمة والثانية ثبوتُ ذلك النقل عن الإمام ، وكلتا المقدمتين باطلةٌ ، فإن المسيحَ ليس بإلهٍ ، بل هو رسول كريم ، وبتقدير أن يكون إلها أو رسولا كريما فقوله حقٌّ ، لكنْ ما تقوله النصارى ليس من قوله ، ولهذا كان في علي رضي الله عنه شبه من المسيح قوم غلوا فيه فوق قدره وقوم نقصوه دون قدره48 ، فهم كاليهود والنصارى في المسيح فهؤلاء يقولون عن المسيح إنه إله وهؤلاء يقولون كافر ولد بغية وكذلك عليٌّ رضي الله عنه هؤلاء يقولون إنه إله وهؤلاء يقولون إنه كافر ظالم
27- ما تنسبه الرافضة إلى جعفر الصادق رحمه الله ؟
ج27- قال عمرو بن أبي المقدام كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين49 ،
وأما قوله50: اشتغل بالعبادة عن الرياسة، فهذا تناقض من الإمامية ؛لأن الإمامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها وبأعبائها لأنه لا إمام في وقته إلا هو ، فالقيام بهذا الأمر العظيم لو كان واجبا لكان أولى من الاشتعال بنوافل العبادات.
وأما قوله : إنه هو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقية والعقائد اليقينية ، فهذا الكلام يستلزم أحد أمرين:
إما أنه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله وإما أن يكون الذين قبله قصَّروا فيما يجب عليهم من نشر العلم ؟!!(1/119)
وهل يشك عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأمته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان وأن أصحابه تلقوا ذلك عنه وبلغوه إلى المسلمين ؟!!
وهذا يقتضي القدح إما فيه وإما فيهم، بل كُذِبَ على جعفر الصادق رحمه الله أكثرُ مما كذبَ على مَن قبله، فالآفة وقعت من الكذابين عليه لا منه ، ولهذا نُسِبَ إليه أنواعٌ مِنَ الأكاذيبِ مثلُ كتابِ البطاقةِ و الجفر والهفتِ والكلام في النجوم وفي تقدمة المعرفة من جهة الرعود والبروق واختلاج الأعضاء وغير ذلك ، حتى نقل عنه أبو عبد الرحمن ( السلمي) في حقائق التفسير من الأكاذيبِ ما نزه الله جعفرَ عنه ، وحتى أن كل من أراد أن ينفِّقَ أكاذيبه نسبها إلى جعفر حتى أن طائفةً من الناس يظنون أن رسائلَ إخوان الصفا مأخوذةٌ عنه، وهذا من الكذب المعلوم ، فإن جعفرَ توفي سنة ثمان وأربعين ومائة ، وهذه الرسائل وضعت بعد ذلك بنحو مائتي سنة ، وضعت لما ظهرت دولة الإسماعيلية الباطنية51، الذين بنوا القاهرة المعزية سنة بضع وخمسين وثلاثمائة ، وفي تلك الأوقات صنفت هذه الرسائل بسبب ظهور هذا المذهب، الذي ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض ، فأظهروا اتباع الشريعة وأن لها باطنا مخالفا لظاهرها ، وباطنُ أمرهم مذهبُ الفلاسفة ، وعلى هذا الأمر وضعت هذه الرسائل وضعها طائفة من المتفلسفة معروفون ، وقد ذكروا في أثنائها ما استولى عليه النصارى من أرض الشام وكان أول ذلك بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة النبوية في أوائل المائة الرابعة .
28- هل صحيح انتساب الرافضة لآل البيت ؟
ج28- من المصائب التي ابتليَ بها ولد الحسين رضي الله عنه انتسابُ الرافضة إليهم وتعظيمهم ومدحهم لهم ، فإنهم يمدحونهم بما ليس بمدح ويدعون لهم دعاوى لا حجة لها ، ويذكرون من الكلام ما لو لم يعرف فضلهم من غير كلام الرافضة لكان ما تذكره الرافضة بالقدح أشبه منه بالمدح
29- بِمَ يحتجُ الرافضة لإثبات دينهم ومذهبهم ؟(1/120)
ج29- الرافضةُ غالبُ حججهم أشعارٌ تليقُ بجهلهم وظلمهم ، وحكاياتٌ مكذوبةٌ تليقُ بجهلهم وكذبهم ، وما يُثبت أصولَ الدين بمثل هذه الأشعار ، إلاّ من ليس معدوداً من أولي الأبصار . ص 66 جـ (4) .
30- إنَّ للشعر دوراً في خدمة الإسلام فهل أثبت شيخ الإسلام شيئا منه ؟
ج30- نعم :
* إذا ما شئت أن ترضى لنفسك مذهباً تنال به الزلفى وتنجوا من النارِ
* فدن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله من نقل أخيار
* ودع عنك دين الرفض والبدع التي يقودك داعيها إلى النار والعار
* وسر خلف أصحاب الرسول فإنهم نجوم هدى في ضوئها يهتدي السار
* وعج عن طريق الرفض فهو مؤسس على الكفر تأسيساً على جُرُفٍ هار
* هما خطتا : إما هدىً وسعادة وإما شقاءً مع ضلالة كفار
* فأي فريقينا أحق بأمنه وأهدى سبيلاً عندما يحكم البار
* أمن سبّ أصحاب الرسول وخالف ال كتاب ولم يعبأ بثابت أخبار
* أم المقتدي بالوحي يسلك منهج ال صحابة مع حب القرابة الأطهار
ص 128 جـ (4) .
31- ماذا جمع مذهب الرافضة ؟
ج31- الرافضة من أجهل الناس وأضلهم وأبعد طوائف الأمة عن الهدى ، كيف ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائمَ البدع المنكرة فإنهم جهمية52 قدرية53 رافضة ، وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله والكتب مشحونة بذلك ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك ، وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية ، واللهُ يعلمُ أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رجلا له في الأمة لسانَ صدقٍ يُتَّهمُ بمذهب الإمامية ، فضلا عن أن يقال: إنه يعتقده في الباطن ص 131 جـ (4) .54
32- هل يشتمل مذهب الرافضة على المتناقضات ؟
ج32- الرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضاً كثيراً بيّناً ، إذ هم في قولٍ مختلفٍ ، يؤفكُ عنه من أفك 55. ص 285 جـ (4)(1/121)
33- هل الرافضة مُحبّون لعلي - رضي الله عنه - حقاً وصدقاً ؟
ج33- إنَّ المحبة المتضمنة للغلو هي كمحبة اليهود لموسى والنصارى للمسيح عليهما السلام ، وهي محبةٌ باطلةٌ ، وذلك أن المحبة الصحيحة أن يحبَّ العبدُ ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر، فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبيٌّ من الأنبياء أو أنه من السابقين الأولين فأحبه لكان قد أحبَّ ما لا حقيقة له ، لأنه أحبَّ ذلك الشخص بناءً على أنه موصوفٌ بتلك الصفة ، وهي باطلةٌ ، فقد أحبَّ معدوماً لا موجودا، كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمةُ المالِ والجمالِ والدين والحسب فأحبَّها ثم تبين أنها دون ما ظنهُ بكثيرٍ ، فلا ريب أن حبَّه ينقصُ بحسب نقص اعتقاده إذ الحكمُ إذا ثبتَ لِعِلَّةٍ زالَ بزوالهِا56 ، فاليهوديُّ إذا أحبَّ موسى بناءً على أنه قال : تمسَّكوا بالسبت ما دامتِ السمواتُ والأرضُ، وأنه نهى عن اتباعِ المسيح ومحمدِ صلى الله عليهم وسلم ، ولم يكن موسى كذلك فإذا تبين له حقيقة موسى عليه السلام يوم القيامة علمَ أنهُ لم يكنْ يحبُّ موسى على ما هو عليه ، وإنما أحبَّ موصوفاً بصفاتٍ لا وجودَ لها ، فكانت محبتهُ باطلةٌ ، فلم يكن مع موسى المبشِّرِ بعيسى المسيحِ ومحمدٍ صلوات الله عليهم ، وقد ثبت في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ "57(1/122)
واليهودي لم يحبَّ إلا ما لا وجودَ له في الخارج ، فلا يكون مع موسى المبشِّر بعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم ، فإنه لم يحبَّ موسى ، هذا والحبُّ والإرادةُ ونحو ذلك يتبعُ العلمَ والاعتقادَ ، فهو فرعُ الشعورِ ، فمن اعتقد باطلا فأحبَّهُ كان مُحبًّا لذلك الباطلِ ، وكانت محبتُه باطلةً، فلم تنفعهُ، وهكذا من اعتقد في بشرٍ الإلهيةَ فأحبَّهُ لذلك كمنِ اعتقدَ إلهية فرعون ونحوه أو أئمة الإسماعيليةِ أو اعتقد الإلهية في بعض الشيوخ ، أو بعض أهل البيت أو في بعض الأنبياءِ أو الملائكة كالنصارى ونحوهم ، ومن عرف الحق فأحبَّهُ كان حبُّهُ لذلك الحقِّ فكانت محبَّته من الحق فنفعتْهُ ، قال الله تعالى :
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) [محمد/1-3](1/123)
وهكذا النصراني مع المسيح إذا أحبه معتقدا أنه إله وكان عبداً كان قد أحبَّ ما لا حقيقةَ له، فإذا تبين له أن المسيح عبدٌ ورسولٌ لم يكنْ قد أحبه فلا يكون معه ، وهكذا من أحبَّ الصحابةَ والتابعين والصالحين معتقدا فيهم الباطلَ ، كانت محبَّتُهُ لذلك الباطل باطلةً ، ومحبَّةُ الرافضةِ لعليٍّ رضي الله عنه من هذا البابِ ، فإنهم يحبُّون ما لم يوجدْ، وهو الإمام المعصومُ المنصوصُ على إمامته ، الذي لا إمامَ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا هو، الذي كان يعتقدُ أنَّ أبا بكر وعمرَ رضي الله عنهما ظالمانِ معتديانِ، أو كافرانِ ، فإذا تبينَ لهم يوم القيامة أنَّ عليًّا لم يكنْ أفضلَ من واحد من هؤلاءِ ، وإنما غايتُهُ أن يكون قريباً من أحدهم ، وأنَّهُ كان مقرًّا بإمامتهم وفضلهم ، ولم يكن معصوماً لا هوَ ولا همْ ، ولا كان منصوصاً على إمامته ، تبينَ لهم أنهم لم يكونوا يحبونَ عليًّا ، بلْ همْ مِنْ أعظمِ الناسِ بغضاً لعليٍّ رضي الله عنه في الحقيقة، فإنهم يبغضونَ منِ اتصفَ بالصفات التي كانت في عليّس أكملَ منها في غيرهِ ، منْ إثباتِ إمامةِ الثلاثةِ وتفضيلهم، فإنَّ عليًّا رضي الله عنه كان يفضِّلُهم ويقرُّ بإمامتهم، فتبينَ أنهم مبغضونَ لعليٍّ قطعاً ، وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عَنْ زِرٍّ قَالَ قَالَ عَلِىٌّ وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ صلى الله عليه وسلم إِلَىَّ أَنْ لاَ يُحِبَّنِى إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضَنِى إِلاَّ مُنَافِقٌ58
إن كان هذا محفوظاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ الرافضة لا تحبه على ما هو عليه، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى ، فإنهم يبغضون من أقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكانا مقرينِ بها صلى الله عليهم أجمعين.(1/124)
وهكذا كل من أحب شيخا على أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر ، كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه يوم القيامة وأنه يرزقه وينصره ويفرج عنه الكربات ويجيبه في الضرورات59 ، كما اعتقد أن عنده خزائن الله أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك وهو ليس كذلك في نفس الأمر ، فقد أحبَّ ما لا حقيقة له، وقول على رضي الله عنه في هذا الحديث لاَ يُحِبَّنِى إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضَنِى إِلاَّ مُنَافِقٌ ، ليس من خصائصه بل قد ثبت في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ " 60
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لاَ يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ "61
وعن الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " لاَ يُحِبُّ الأَنْصَارَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ " 62(1/125)
وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِى كَثِيرٍ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَدْعُو أُمِّى إِلَى الإِسْلاَمِ وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِى فِى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِى قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أَدْعُو أُمِّى إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَىَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِى فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِىَ أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ ". فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِىِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّى خَشْفَ قَدَمَىَّ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ - فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - قَالَ - فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِى مِنَ الْفَرَحِ - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِى أَنَا وَأُمِّى إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يَعْنِى أَبَا(1/126)
هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ - إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ ". فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِى وَلاَ يَرَانِى إِلاَّ أَحَبَّنِى.63
وهذا مما يبين به الفرق بين هذا الحديث وبين الحديث الذي روى عن ابن عمر ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم عليا64 ، فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب ، لأنَّ النفاقَ له علاماتٌ كثيرةٌ وأسبابٌ متعددةٌ غير بغض عليٍّ ، فكيف لا يكون على النفاقِ علامةٌ إلا بغضَ عليٍّ ؟؟؟!!!
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ "65
وقال في الحديث الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ "66(1/127)
وقد قال تعالى في القرآن في صفة المنافقين :{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) [التوبة/58] وقال تعالى : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) [التوبة/61] } وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) [التوبة/75-79] وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى(1/128)
الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) [التوبة/49-54] ، وقال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) [التوبة/124-126] ،وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه، بل لو قال : كنا نعرف المنافقين ببغض عليٍّ لكان متوجهاً ، كما أنهم أيضا يُعرفون ببغض الأنصار ، بل وببغضِ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ،وببغض هؤلاء فإن كلَّ من أبغضَ ما يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبُّه ويواليه وأنهُ كان يحبُّ النبي صلى الله عليه وسلم ويواليه كان بغضُهُ شعبةً من شُعب النفاقِ ، والدليل يطرد ولا ينعكس، ولهذا كان أعظمُ الطوائف نفاقاً المبغضين لأبي بكر رضي الله عنه ، لأنه لم يكن في الصحابة أحبُّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهُ ، ولا كان فيهم أعظمُ حبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم منه، فبغضُهُ من أعظم آياتِ النفاق ، ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفةٍ أعظمَ منها في مبغضيه ، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم ، وإن قال قائل : فالرافضةُ الذين يبغضونهُ يظنون أنه كان عدوًّا للنبيِّ صلى(1/129)
الله عليه وسلم لِما يُذكرُ لهمْ منَ الأخبارِ التي تقتضي أنهُّ كان يبغضُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأهلَ بيتهِ فأبغضوه لذلكَ !!
قيلَ : إن كان هذا عذراً يمنعُ نفاقَ الذين يبغضونه جهلاً وتأويلاً فكذلك المبغضونَ لعليٍّ رضي الله عنه الذين اعتقدوا أنه كافرٌ مرتدٌّ أو ظالمٌ فاسقٌ فأبغضوه لبغضه لدينِ الإسلامِ ، أو لما أحبَّهُ اللهُ وأمرَ به منَ العدلِ، ولاعتقادهمْ أنهُ قتلَ المؤمنينَ بغير حقٍّ ، وأرادَ علوًّا في الأرضِ وفساداً ، وكان كفرعونَ ونحوهِ ، فإن كانوا جهَّالاً فليسوا بأجهلَ ممنِ اعتقدَ في عمر َ رضي الله عنه أنهُ فرعونُ هذهِ الأمةِ ، فإن لم يكنْ بغضُ أولئك لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما نفاقاً لجهلهمْ وتأويلهمْ فكذلكَ بغضُ هؤلاءِ لعليٍّ رضي الله عنه بطريق الأَوْلى والأحْرى ،وإن كانَ بغضُ عليٍّ نفاقاً ، وإنْ كان المبغضُ جاهلاً متأولاً ، فبغضُ أبي بكر ٍوعمرَ رضي الله عنهما أولى أن يكون نفاقاً حينئذ ، وإن كان المبغضُ جاهلاً متأولاً67.
34- موقفهم من أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ؟
ج34- هم يرمون عائشة - رضي الله عنها - بالعظائم ، ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها وأنزل القرآن في ذلك68 . ص 344 جـ (4) .
35- هل يعتبر صنيعُهم هذا أذىً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؟
ج35- من المعلوم أنّه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته رجل ويقول : إنّها بغي 69. ص 345-346 جـ (4) .
وقال أيضا :(1/130)
وهؤلاء الرافضة يرمون أزواجَ الأنبياء عائشةَ وامرأةَ نوحٍ بالفاحشةِ فيؤذون نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء من الأذى بما هو من جنس أذى المنافقين المكذبينَ للرسلِ ، ثم ينكرون على طلحة والزبير رضي الله عنهما أخذهما لعائشة رضي الله عنها معهما لمَّا سافرا معها من مكةَ إلى البصرةِ، ولم يكن في ذلك ريبةُ فاحشةٍ بوجهٍ من الوجوهِ ، فهل هؤلاءِ إلا من أعظمِ الناسِ جهلاً وتناقضاً ؟؟!!
وأمَّا أهلُ السنَّةِ فعندهم أنهُ ما بغتِ امرأةُ نبيٍّ قطُّ، وأن ابن نوح عليه السلام كان ابنه ، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين :{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) [هود/42، 43] ، وقال :{ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) [هود/45-46] ، فالله ورسوله يقولانِ إنهُ ابنه ، وهؤلاء الكذابون المفترونَ المؤذونَ للأنبياءِ يقولون : إنه ليس ابنَهُ ، والله تعالى لم يقل إنه ليس ابنك ، ولكن قال : إنه ليس من أهلك وهو سبحانه وتعالى قال : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) [هود/40، 41] ثم قال ومن آمن ، أي واحمل من آمن فلم يأمره بحمل أهله كلهم بل استثنى منْ سبق عليه القولُ منهم ،(1/131)
وكان ابنه قد سبق عليه القولُ ولم يكن نوحٌ يعلمُ ذلك ، فلذلك قال :{ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) [هود/45] ظانًّا أنه دخل في جملةِ من وُعدَ بنجاتهم ، ولهذا قال من قال من العلماء : إنه ليس من أهلك الذين وعدتُ بإنجائهم ، وهو وإن كان من الأهلِ نسباً ، فليس هو منهم ديناً ، والكفرُ قطعَ الموالاةِ بينَ المؤمنين والكافرين، كما نقول إن أبا لهب ليس من آل محمد ولا من أهل بيته ، وإن كان من أقاربه، فلا يدخل في قولنا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد70 ، وخيانة امرأة نوح لزوجها كانت في الدين فإنها كانت تقولُ إنه مجنونٌ ، وخيانة امرأة لوط أيضا كانت في الدين فإنها كانت تدلُّ قومها على الأضياف ،وقومها كانوا يأتون الذكرانَ لم تكن معصيتهم الزنا بالنساء حتى يظنَّ أنها أتت فاحشة، بل كانت تعينهم على المعصية وترضى عملهم، ثمَّ منْ جهلِ الرافضة أنهم يعظمونَ أنساب الأنبياء آباءهم وأبناءهم ، ويقدحون في أزواجهم ، كلُّ ذلك عصبيةً واتباعَ هوىً ، حتى يعظِّمون فاطمة والحسن والحسين ويقدحون في عائشة أمِّ المؤمنين ، فيقولون أو من يقول منهم : إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمناً وإنَّ أبويِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانا مؤمنينِ ، حتى لا يقولون: إنَّ النبيَّ يكون أبوه كافراً ، فإذا كان أبوه كافرا أمكن أن يكون ابنُه كافراً ، فلا يكون في مجرد النسب فضيلةٌ ، وهذا مما يدفعون به أنَّ ابنَ نوحٍ كان كافراً لكونه ابن نبىٍّ ، فلا يجعلونه كافراً مع كونه ابنَه ، ويقولون أيضا : إن أبا طالبَ كان مؤمناً ، ومنهم من يقول : كان اسمه عمرانَ ، وهو المذكور في قوله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) [آل عمران/33] ، وهذا الذي فعلوه مع ما فيه من الافتراء والبهتان، ففيه منَ التناقضِ وعدم حصول مقصودهم(1/132)
مالا يخفى ، وذلك أن كون الرجلُ أبيه أو ابنه كافراً لا ينقصه ذلك عند الله شيئا ، فإن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحيِّ71، ومن المعلوم أن الصحابةَ أفضلُ من آبائهم ، وكان آباؤهم كفاراً ، بخلاف من كونُه زوجُ بغيٍّ قحبةٍ ، فإن هذا من أعظمِ ما يذمُّ به ويعابُ، لأن مضرةَ ذلك تدخلُ عليه بخلاف كفر أبيهِ أو ابنهِ ، وأيضا فلو كان المؤمنُ لا يلد إلا مؤمناً لكان بنو آدمَ كلَّهم مؤمنينَ، وقد قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) [المائدة/27-31] ، وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ، لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ "72(1/133)
وأيضا فهم يقدحون في العباس رضي الله عنه عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تواترَ إيمانُه ، ويمدحون أبا طالبَ الذي مات كافراً باتفاق أهل العلمِ ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، ففي الصحيحين عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهِ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالَ " أَىْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ " . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ، وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَبَى أَنْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ " . فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِى أَبِى طَالِبٍ ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ )73(1/134)
وأخرجه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ " قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . قَالَ لَوْلاَ أَنْ تُعَيِّرَنِى قُرَيْشٌ يَقُولُونَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ )74، وفي الصحيحين عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَىْءٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ " نَعَمْ هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ ، لَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِى الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ " 75.(1/135)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ " لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُجْعَلُ فِى ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ ، يَغْلِى مِنْهُ دِمَاغُهُ " أخرجاه في الصحيحين76 وأيضا فإن الله لم يثنِ على أحد بمجرد نسبه ، بل إنما يثني عليه بإيمانه وتقواهُ ، كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) [الحجرات/13] ، وإن كان الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح77 ، فالمعدن هو مظنة حصول المطلوبِ، فإن لم يحصلْ وإلا كان المعدنُ الناقصُ الذي يحصل منه المطلوب خيراً منه ، وأيضاً من تناقضهم أنَّهم يعظِّمونَ عائشة رضي الله عنها في هذا المقامِ طعنا في طلحة والزبير رضي الله عنهما ، ولا يعلمون أنَّ هذا إن كان متوجهاً فالطعنُ في عليٍّ بذلكَ أوجهُ ، فإنَّ طلحةَ والزبيرَ كانا معظمينِ عائشةَ موافقينِ لها مؤتمرينِ بأمرها ، وهما وهي من أبعدِ الناسِ عن الفواحشِ والمعاونةِ عليها ، فإن جاز لرافضيٍّ أن يقدحَ فيهما يقول : بأيِّ وجهٍ تلقونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنَّ الواحدَ منا لو تحدث مع امرأة غيرهِ حتى أخرجها من منزلِها ، وسافر بها مع أن ذلك إنما جعلها بمنزلةِ الملكةِ التي يأتمر بأمرها ويطيعها، ولم يكنْ إخراجُها لمظانِّ الفاحشةِ كان لنا صبيٌّ أن يقول: بأيِّ وجهٍ يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ قاتلَ امرأتهُ وسلطَ عليها أعوانَهُ حتَّى عقروا بها بعيرها وسقطت من هودجِها ، وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبيةِ التي أحاط به من يقصدُ سِباءها ، ومعلومٌ أن هذا في مظنةِ الإهانةِ لأهلِ الرجلِ وهتكِها وسبائِها وتسليطِ الأجانبِ على قهرها وإذلالِها(1/136)
وسبيِها وامتهانِها أعظمُ منْ إخراجِها من منزلِها بمنزلةِ الملكةِ العظيمة المبجَّلةِ التي لا يأتي إليها أحدٌ إلا بإذنها، ولا يهتكُ أحدٌ سترَها ولا ينظرُ في خدرِها ، ولم يكن طلحة والزبير ولا غيرهما من الأجانب يحملونها، بل كان في العسكرِ من محارمِها مثلُ عبدُ الله بن الزبير ابنُ أختها وخلوةُ ابن الزبير بها ومسُّهُ لها جائزٌ بالكتاب والسنة والإجماع ، وكذلك سفرُ المرأة مع ذي محرمِها جائزٌ بالكتاب والسنة والإجماع ، وهي لم تسافر إلا مع ذي محرمٍ منها ، وأما العسكر الذينَ قاتلوها فلولا أنه كان في العسكر محمدُ بن أبي بكر مدَّ يدهُ إليها لمدَّ يدَه إليها الأجانبُ ، ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مدَّ يدَهُ إليها ، وقالت : يدُ منْ هذهِ أحرقَها اللهُ بالنار ِ؟ فقال : أي أخيةَ في الدنيا قبل الآخرةِ، فقالت : في الدنيا قبل الآخرة، فأحرق بالنار بمصرَ ، ولو قال المشنعُ : أنتم تقولون إنَّ آل الحسينِ سُبوا لما قتلَ الحسينُ رضي الله عنه ، ولم يفعلْ بهم إلا منْ جنس ما فُعلَ بعائشةَ حيث استوليَ عليها ، وردت إلى بيتها ، وأعطيتْ نفقها، وكذلك آل الحسينِ استوليَ عليهم وردوا إلى أهليهم وأعطوا نفقة، فإن كان هذا سبباً واستحلالا للحرمة النبويةِ فعائشةُ قد سُببت واستحلتْ حرمةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يشنِّعونَ ويزعمونَ أن بعضَ أهلِ الشام طلب أن يسترقَّ فاطمةَ بنتِ الحسينِ وأنها قالت : لا ها لله حتى تكفرَ بديننا ، وهكذا إن كانَ وقعَ ، فالذين طلبوا من عليٍّ رضي الله عنه أن يُسبَى من قاتلهم من أهل الجملِ وصفينَ ،ويغنموا أموالهم أعظمُ جرماً من هؤلاء ، وكان في ذلك لو سَبوا عائشةَ وغيرها، ثم إن هؤلاء الذين طلبوا ذلك من عليٍّ كانوا متدينين بهِ مصرينَ عليه إلى أن خرجوا على عليٍّ، وقاتلهم على ذلك وذلك الذي طلبَ استرقاق فاطمةَ بنتِ الحسينِ واحدٌ مجهولٌ لا شوكةَ له ولا حجةَ ولا فعلَ هذا تديناً ،(1/137)
ولمَّا منعه سلطانُهَ من ذلك امتنعَ ، فكان المستحلونَ لدماءِ المؤمنينَ وحرمِهم وأموالِهم وحرمةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عسكر (عليٍّ)، فإن الخوارج الذين مرقوا من عسكر عليٍّ رضي الله عنه هم شرٌّ من شرارِ عسكر ِمعاويةَ رضي الله عنه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم78، وأجمع الصحابة والعلماء على قتالهم، والرافضة أكذبُ منهم وأظلمُ وأجهلُ وأقربُ إلى الكفرِ والنفاقِ لكنهمْ أعجزُ منهم وأذلُّ ، وكلا الطائفتين من عسكر عليٍّ ، وبهذا وأمثاله ضعف عليٌّ وعجزَ عن مقاومةِ من كان بإزائهِ ، والمقصود هنا أن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير رضي الله عنهما ينقلبُ بما هو أعظمُ منه في حقِّ عليٍّ ، فإنْ أجابوا عن ذلك بأنَّ عليًّا كان مجتهداً فيما فعلَ ، وأنه أولى بالحقِّ من طلحة والزبير، قيلَ : نعم وطلحةُ والزبيرُ كانا مجتهدينِ وعليٌّ وإن كان أفضلَ منهما ، لكن لم يبلغْ فعلُهما بعائشةَ رضي الله عنها ما بلغَ فعلُ عليٍّ فعليٌّ أعظم أجراً منهما ، ولكنْ إن كان فعلُ طلحة والزبير معها ذنباً ففعلُ عليٍّ أعظمُ ذنباً ، فتقاومَ كبرُ القدر وعظمُ الذنبِ ، فإن قالوا : هما أحوجا عليا إلى ذلك ، لأنهما أتيا بها ، فما فعله عليٌّ مضافٌ إليهما لا إلى عليٍّ ، قيل : وهكذا معاويةُ لما قيل له قد قتلَ عمارٌ ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تقتلك الفئة الباغية قال أو نحن قتلناه إنما قتله الذين جاءوا به حتى جعلوه تحت سيوفنا79، فإن كانت هذه الحجةُ مردودةً فحجةُ من احتجَّ بأن طلحة والزبير هما فعلا بعائشة ما جرى عليها من إهانةِ عسكر عليٍّ لها واستيلائهم عليها مردودةٌ أيضا ، وإن قُبلتْ هذه الحجةُ قبلتْ حُجةُ معاوية رضي الله عنه، والرافضةُ وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فسادَ قولهم وتناقضهم، فإنه إن احتجَّ بنظيرها عليهم فسد قولهم المنقوضُ بنظيرها، وإن لم يحتجَّ بنظيرها بطلتْ هي في(1/138)
نفسها، لأنه لا بد من التسويةِ بين المتماثلينِ، ولكنْ منتهاهم مجردُ الهوى الذي لا علم معه ، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) [القصص/50] ، وجماهيرُ أهل السنة متفقونَ على أن عليا أفضلُ من طلحة والزبير، والمسلمون لما افترقوا في خلافته فطائفة قاتلته وطائفة قاتلت معه كان هو وأصحابه أولى الطائفتين بالحق كما ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " تَمْرُقُ مَارِقَةٌ فِى فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ فَيَلِى قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ "80 هؤلاء هم الخوارج المارقون الذين مرقوا فقتلهم عليٌّ رضي الله عنه وأصحابه ، فعلمَ أنهم كانوا أولى بالحقِّ من معاوية رضي الله عنه وأصحابه ، لكنَّ أهل السنة يتكلمون بعلمٍ وعدلٍ ، ويعطونَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ
36- من الذي ابتدع مذهب الرافضة ؟
ج36- لو كان الحق كما تقوله الرافضةُ لكان أبو بكر وعمر والسابقون الأولون رضي الله عنهم من شرارِ أهلِ الأرضِ وأعظمهمْ جهلاً وظلماً، حيث عمدوا عقبَ موتِ نبيهم صلى الله عليه وسلم فبدَّلوا وغيَّروا وظلموا الوصيَّ ، وفعلوا بنبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما لم تفعلْهُ اليهودُ والنصارى عقبَ موتِ موسى والمسيح عليهما الصلاةُ والسلامُ ، فإن اليهود والنصارى لم يفعلوا عَقِبَ موت أنبيائهم ما تقوله الرافضةُ، إن هؤلاء فعلوه عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى قولهم تكونُ هذه الأمة شرَّ أمةٍ أخرجتْ للناس81 ، ويكون سابقوها شرارَها ، وكل هذا مما يعلم بالاضطرار فسادهُ من دين الإسلامِ ، وهو مما يبين أن الذي ابتدع مذهبَ الرافضةِ كان زنديقاً ملحداً عدوًّا لدين الإسلام وأهله، ولم يكن من أهل البدعِ المتأولينَ كالخوارجِ والقدريةِ362 جـ (4) .(1/139)
وإن كان قولُ الرافضة راجَ بعد ذلك على قومٍ فيهم إيمانٌ لفرطِ جهلهم ، ومما يبين ذلك أن يقالَ : أيُّ داعٍ كان للقوم في أن ينصروا عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، ويقاتلوا معها عليا ، ولا ينصرون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقاتلون معها ومع زوجِها الوصيِّ أبا بكر وعمر ؟؟!!
فإن كان القومُ الذين فعلوا هذا يحبونَ الرياسةَ ويكرهون إمارةَ عليٍّ عليهم كان حبُّهم للرياسةِ يدعوهم إلى قتال أبي بكرٍ بطريق الأولى، فإن رياسةَ بيت عليٍّ أحبَّ إليهم من رياسةِ بيت أبي بكرٍ ، ولهذا قال صفوان بن أمية يوم حنين لما ولَّوا مدبرينَ وقالَ بعضُ الطلقاء : والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من ثقيف، وصفوانُ رأسُ الطلقاء كان أن يربيه رجلٌ من بني عبد مناف أحبَّ إليه من أن يربه رجلٌ من بني تيم ، فحبُّ الرياسةِ إذا كان هو الداعي كان يدعوهم إلى تقديم بني هاشمَ على بني تيم باتفاقِ العقلاءِ ، ولو لم يقدِّموا عليًّا لقدموا العباسَ، فإن العباسَّ كان أقربَ إلى موافقتهم على المطالب الدنيويةِ من أبي بكرٍ، فإن كانوا قد أقدموا على ظلمِ الوصيِّ الهاشميِّ لئلا يحملَهم على الحقِّ الذي يكرهونه، كان تقديمُ من يحصِّلُ مطالبهمْ مع الرياسةِ الهاشميةِ وهو العباسُ أولى وأحرى من أبي بكر، الذي لا يعينهم على مطالبهِم كإعانةِ العباسِ ، ويحملهم على الحقِّ المرِّ أكثرَ مما يحملهم عليه عليٌّ، فلو كرهَ من عليٍّ حقٌّ مر ٌّلكان ذلك من أبي بكر أكرهُ ، ولو أريدَ من أبي بكر دنيا حلوةً، لكان طلبُها عند العباس وعليٍّ أقربَ، فعدولِهم عن عليٍّ وعن العباسِ وغيرهما إلى أبي بكرٍ دليلٌ على أنَّ القومَ وضعوا الحقَّ في نصابهِ ، وأقرُّوه في إهابهِ ، وأتوا الأمرَ الأرشدَ من بابهِ ، وأنهم علموا أن الله ورسوله كانا يرضيانِ تقديمَ أبي بكر ٍرضي الله عنه ، وهذا أمرٌ كان معلوماً لهم علماً ظاهراً بيِّناً، لما رأوه وسمعوهُ من(1/140)
النبيِّ صلى الله عليه وسلم مدةَ صحبتِهم له، فعلموا من تفضيلِ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ بطولِ المشاهدةِ والتجربةِ والسماعِ ما أوجبَ تقديمَهُ وطاعتَهُ ، ولهذا قال عمرُ رضي الله عنه: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر82 ، أراد أن فضيلتَهُ على غيره ظاهرةٌ مكشوفةٌ لا تحتاجُ إلى بحثٍ ونظرٍ ، ولهذا قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار: أنت خيرُنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم83 ، وهم يُقرُّونَهُ على ذلك ولا ينازعه منهم أحد ، حتى أن المنازعين في الخلافةِ من الأنصارِ لم ينازعوا في هذا، ولا قال أحدٌ بل عليٌّ أو غيرهُ أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خيرٌ منهُ أو أفضلُ ، ومن المعلوم أنه يمتنعُ في العادة لا سيَّما عادةَ الصحابة المتضمنةِ كمالَ دينهِم وقولهِم بالحقِّ ألا يتكلمَ أحدٌ منهم بالحقِّ المتضمنِ تفضيلِ عليٍّ ، بل كلُّهم موافقونَ على تفضيل أبي بكرٍ من غيرِ رغبةٍ فيهِ ولا رهبةٍ
37- بماذا يصفون علياً - رضي الله عنه - ؟
ج37- الرافضة يتناقضونَ : فإنّهم يصفونَ عليًّا بأنه كان هو الناصرُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لولاهُ لما قامَ دينُهُ ، ثمَّ يصفونهُ بالعجزِ والذلِّ المنافي لذلك . ص 485 جـ (4) .84
38- الرافضة يجعلون الصحابة شراً من إبليس
ج38- من جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شرًّا من إبليسَ فما أبقَى غايةً في الافتراءِ على اللهِ ورسولهِ والمؤمنينَ، والعدوانِ على خير القرونِ في مثل هذا المقامِ ، والله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد85، والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحدِّ فقد أخرجَ صاحبَهُ عن ربقةِ العقلِ فضلاً عن العلمِ والدينِ، فنسأل اللهَ العافيةَ من كل بليَّةٍ ، وإنَّ حقًّا على اللهِ أن يذلَّ أصحابَ مثلِ هذا الكلامِ ، وينتصرَ لعباده المؤمنين، من أصحاب نبيهِ وغيرهم من هؤلاء المفترينَ الظالمينَ .(1/141)
39- حال شيوخهم
ج39- هؤلاء الرافضة إما منافقٌ وإما جاهلٌ ، فلا يكون رافضيٌّ ولا جهميٌّ إلا منافقاً أو جاهلاً بما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، لا يكون فيهم أحدٌ عالماً بما جاء به الرسولُ مع الإيمانِ به، فإنَّ مخالفتَهُم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكذبهُم عليه لا يخفى قطُّ إلا على مفرطٍ في الجهلِ والهوَى، وشيوخُهم المصنفونَ فيهم طوائفُ يعلمون أن كثيراً مما يقولونهُ كذبٌ ، ولكنْ يصنِّفون لهم لرياستهِم عليهم ، وهذا المصنِّفُ يتَّهمُهُ الناسُ بهذا ، ولكنْ صنفَ لأجلِ أتباعهِ، فإن كانَ أحدهم يعلمُ أن ما يقولهُ باطلٌ ويظهرهُ ، ويقول إنهُ حقٌّ من عند اللهِ فهو من جنسِ علماءِ اليهودِ الذين قال الله تعالى فيهم :{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) [البقرة/79] ، وإن كان يعتقدُ أنهُ حقٌّ دلَّ ذلك على نهاية جهلهِ وضلالهِ
فإن كنتَ لا تدري فتلكَ مصيبةٌ وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
40- رأيه في أبي جعفر الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق ؟
ج40-لا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين وأئمة الدين ، ولأقوالهم من الحرمةِ والقدرِ ما يستحقُّهُ أمثالهُم، لكنْ كثيرٌ مما ينقل عنهم كذبٌ، والرافضةُ لا خبرةَ لهم بالأسانيدَ ،والتمييز ِبين الثقات وغيرهم، بل هم في ذلك من أشباهِ أهلِ الكتاب كلُّ ما يجدونهُ في الكتب منقولاً عن أسلافهم قبلوه ، بخلاف أهل السنَّةِ فإنَّ لهم من الخبرةِ بالأسانيدَ ما يميزون به بين الصدقِ والكذب ص 163 جـ (5) .
41- نظرة أهل السنة إلى عليٍّ - رضي الله عنه -(1/142)
ج41- أما عليٌّ رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدينَ والأئمةِ المهديينَ، لكنْ نصفُ رعيتهِ يطعنونَ في عدلهِ ، فالخوارجُ يكفِّرونه، وغيرُ الخوارج من أهلِ بيته وغير أهل بيته: يقولون إنه لم ينصفْهم، وشيعةُ عثمانَ رضي الله عنه يقولون: إنه ممنْ ظلمَ عثمانَ ، وبالجملة لم يظهرْ لعليٍّ رضي الله عنه منَ العدلِ مع كثرةِ الرعيةِ وانتشارِها ما ظهرَ لعمرَ رضي الله عنه ولا قريب منه ،وعمرُ لمْ يولِّ أحداً من أقاربهِ وعليٌّ ولَّى أقاربهُ كما ولَّى عثمانُ أقاربهُ، وعمرُ مع هذا يخافُ أن يكونَ ظلمهُم، فهو أعدلُ وأخوفُ من اللهِ منْ عليٍّ ، فهذا مما يدلُّ على أنهُ أفضلُ من عليٍّ ، وعمرُ مع رضا رعيتهِ عنه يخافُ أن يكون ظلمهُم ، وعليٌّ يشكو من رعيتهِ وتظلمهِم ،ويدعو عليهِم ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي ، وَمَلَلْتُهُمْ وَمَلُّونِي ، فَأَرِحْنِي مِنْهُمْ وَأَرِحْهُمْ مِنِّي ، مَا يَمْنَعُ أشْقَاكُمْ أَنْ يَخْضِبَهَا بِدَمٍ " وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ ،86 {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) [الأنعام/81] ؟!!
42- الرافضة ماذا يسمون الفاروق - رضي الله عنه - ؟
ج42- الرافضة تسميه : فرعونُ هذه الأمة .87 ص 164 جـ (6) .
43- موقف علي من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - ؟(1/143)
ج43- أما عليٌّ رضي الله عنه فما زالا مكرمين له غاية الإكرام ، بكل طريق مقدِّمينِ له، بل ولسائر بني هاشمَ على غيرهم في العطاء ، مقدِّمين له في المرتبةِ والحرمةِ والمحبةِ والموالاةِ والثناءِ والتعظيمِ ، كما يفعلانِ بنظرائهِ ويفضِّلانهِ بما فضلهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ على منْ ليسَ مثلهُ، ولم يعرفْ عنهم كلمةَ سوءٍ في عليٍّ قطُّ، بل ولا في أحدٍ من بني هاشمَ ، ومنَ المعلومِ أن المعاداةِ التي في القلب توجبُ إرادةَ الأذى لمنْ يعادي ، فإذا كان الإنسانُ قادراً اجتمعتِ القدرةُ مع الإرادةِ الجازمةِ ، وذلك يوجب وجودَ المقدورِ، فلو كانا مريدَينِ بعليٍّ سوءاً لكانَ ذلك مما يوجبُ ظهورَهُ، لقدرتهِما ، فكيف ولم يظهرْ منهما إلا المحبةُ والموالاةُ ، وكذلك عليٌّ رضي الله عنه قد تواترَ عنه مِن محبَّتِهما وموالاتِهما وتعظيمِهما وتقديمِهما على سائرِ الأمةِ ما يعلمُ به حالهُ في ذلك، ولم يعرفْ عنه قطُّ كلمةَ سوءٍ في حقِّهما ، ولا أنه كان أحقَّ بالأمرِ منهما، وهذا معروفٌ عند من عرفَ الأخبارَ الثابتةَ المتواترةَ عند الخاصَّةِ والعامَّةِ والمنقولةِ بأخبارِ الثقاتِ.(1/144)
وأمَّا من رجعَ إلى ما ينقلُه مَنْ هو مِنْ أجهلِ الناسِ بالمنقولاتِ وأبعدِ الناسِ عن معرفةِ أمورِ الإسلامِ ، ومَن هو معروفٌ بافتراءِ الكذبِ الكثيرِ الذي لا يروجُ إلا على البهائمِ، ويروجُ كذبهُ على قومٍ لا يعرفونَ الإسلامَ؛ إمَّا قومٌ سكانُ البوادي أو رءوسِ الجبالِ أو بلدٍ أهلِهِ من أقلِّ الناسِ علماً وأكثرهِمْ كذابًّا ، فهذا هو الذي يُضَلُّ ،وهكذا الرافضةُ لا يتصورُ قطُّ أن مذهبَهُم يروجُ على أهلِ مدينةٍ كبيرةٍ من مدائنِ المسلمينَ فيها أهلُ علمٍ ودينٍ، وإنَّما يروجُ على جهَّالٍ سكنوا البوادي والجبالِ، أو على محِلَّةٍ في مدينةٍ أو بليدةٍ أو طائفةٍ يُظهرونَ للناسِ خلافَ ما يبطنونَ لظهورِ كذبهِم ، حتَّى أنَّ القاهرةَ لمَّا كانتْ معَ العُبيديينَ وكانوا يظهرونَ التشيعَ لم يتمكَّنُوا من ذلكَ حتى منعوا مَن فيها مِن أهلِ العلم والدينِ من إظهارِ علمِهِم ، ومع هذا فكانوا خائفينَ منْ سائرِ مدائنِ المسلمينَ ، يَقدِمُ عليهِمُ الغريبُ منَ البلدِ البعيدِ فيكتمونَ عنهُ قولَهُم، ويداهِنونهُ ، ويتَّقونَهُ كما يخافُ الملِكُ المطاعُ ، وهذا لأنهم أهلُ فِريةٍ وكذبٍ، وقد قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) [الأعراف/152، 153] قال أبو قِلابةَ : هي لكلِّ مُفترٍ من هذهِ الأمةِ إلى يومِ القيامةِ .88
44- هل الرافضة من الزائغين ؟
ج44- لا ريب أن الرافضةَ من شرار الزائغينَ الذين يبتغونَ الفتنةَ الذين ذمَّهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم89 . ص 268 جـ (6) .
45- كلام الرافضة المشتمل على رواياتهم وأقوالهم هل هو متناقض ؟
ج45- الرافضة تتكلمُ بالكلام المتناقضِ الذي ينقُضُ بعضُهُ بعضاً90 . ص 290 جـ (6) .
46- من أين ظهرت الفتنة في الإسلام ؟(1/145)
ج46- أما الفتنةُ فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعةِ ، فإنهم أساسُ كلِّ فتنةٍ وشرٍّ ، وهمْ قطبُ رحَى الفِتَنِ ، فإنَّ أولَ فتنةٍ كانتْ في الإسلام قتلُ عثمانَ رضي الله عنه ، وقد روى الإمامُ أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الأَزْدِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ " مَنْ نَجَا مِنْ ثَلاَثٍ فَقَدْ نَجَا ". قَالَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالُوا مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ " مَوْتِى وَمِنْ قَتْلِ خَلِيفَةٍ مُصْطَبِرٍ بِالْحَقِّ يُعْطِيهِ وَالدَّجَّالِ " .91(1/146)
ومنِ استقرأَ أخبارَ العالمِ في جميعِ الفِرقِ تبينَ له أنهُ لم يكنْ قطُّ طائفةٌ أعظمُ اتفاقاً على الهدى والرشدِ وأبعدَ عنِ الفتنةِ والتفرقِ والاختلافِ من أصحابِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، الذين همْ خيرُ الخلقِ بشهادة اللهِ لهم بذلك ، إذ يقول تعالى عنهم : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) [آل عمران/110]، كما لم يكنْ في الأمم أعظمُ اجتماعاً على الهدى وأبعدُ عن التفرقِ والاختلافِ من هذه الأمةِ، لأنهُم أكملُ اعتصاماً بحبل اللهِ الذي هو كتابُهُ المنزَّلُ ، وما جاء به عن نبيِّهِ المرسلٌ ، وكلُّ منْ كانَ أقربَ إلى الاعتصامِ بحبل اللهِ ، وهو اتباعُ الكتابِ والُّسنَّةِ كان أولَى بالهدى والاجتماع والرشدِ والصلاحِ وأبعدَ عن الضلالِ والافتراقِ والفتنةِ92، واعتبرْ ذلك بالأمم، فأهلُ الكتاب أكثرُ اتفاقاً وعلماً وخيراً منَ الخارجينَ عن الكتبِ، والمسلمونَ أكثرُ اتفاقاً وهدًى ورحمةً وخيراً منَ اليهودِ والنصارى، فإنَّ أهلَ الكتابينِ قبلَنا تفرَّقوا وبدَّلوا ما جاءت به الرسلُ ، وأظهروا الباطلَ ، وعادَوا الحقَّ وأهلَهُ ، وإنهُ وإنْ كان يوجدُ في أمتِنا نظيرُ ما يوجدُ في الأممِ قبلَنا كما ثبتَ في الصحيحين عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ " . قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ " فَمَنْ "93(1/147)
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ " . فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ . فَقَالَ " وَمَنِ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ " . 94
لكنَّ أمتنا لا تزالُ فيها طائفةٌ ظاهرةٌ على الحقِّ لا يضرهمْ من خالفَهُم ولا مَنْ خذلَهُمْ حتى تقومَ الساعةُ ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم، كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزالُ طائفةٌ من أمتهِ ظاهرةٌ على الحقِّ لا يضرُّهم من خالفَهم إلى يوم القيامةِ95،، وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلِّطَ عليهمْ عدوًّا من غيرهم فأعطاهُ ذلكَ، وسأله أن لا يهلكهمْ بَسنةٍ عامةٍ فأعطاهُ ذلك ،وسألهُ أن لا يجعلَ بأسهُم بينهم شديداً فمنعهُ ذلك،96 ومن قبلنا كان الحقُّ يغلبُ فيهم حتى لا تقومَ به طائفةٌ ظاهرةٌ منصورةٌ ،ولهذا كان العدوُّ يُسلَّطُ عليهم فيجتاحُهم ،كما سُلِّطَ على بني إسرائيلَ ، وخُرِّبَ بيتُ المقدسِ مرتينِ، فلم يبقَ لهمْ ملكٌ ،ونحنُ ولله الحمدُ لم يزلْ لأمتِنا سيفٌ منصورٌ يقاتلونَ على الحقِّ فيكونونَ على الهدى ودينِ الحقِّ الذي بعثَ اللهُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، فلهذا لم نزلْ ولا نزالُ ( على الحقِّ) .(1/148)
وأبعدُ الناسِ عن هذه الطائفةِ المهديَّةِ المنصورةِ همُ الرافضةُ ؛ لأنهُم أجهلُ وأظلمُ طوائفَ أهلِ الأهواءِ المنتسبينَ إلى القبلةِ، وخيارُ هذهِ الأمةِ همُ الصحابةُ ،فلم يكنْ في الأمةِ أعظمُ اجتماعاً على الهدى ودينِ الحقِّ ، ولا أبعدُ عن التفرقِ والاختلافِ منهم، وكلُّ ما يُذكرُ عنهم مما فيه نقصٌ، فهذا إذا قيسَ إلى ما يوجدُ في غيرهِم منَ الأمةِ كانَ قليلاً منْ كثيرٍ ، وإذا قيسَ ما يوجدُ في الأمةِ إلى ما يوجدُ في سائر الأممِ كانَ قليلاً منْ كثيرٍ، وإنَّما يغلطُ مَن يغلطُ أنهُ ينظرُ إلى السَّوادِ القليلِ في الثوبِ الأبيضِ ، ولا ينظرُ إلى الثوبِ الأسودِ الذي فيه بياضٌ، وهذا منَ الجهلِ والظلمِ، بل يوزنُ هؤلاءِ بنظرائهِم فيظهرُ الفضلُ والرجحانُ97 ، وأمَّا ما يقترحُهُ كلُّ أحدٍ في نفسهِ مما لم يخلقْ ، فهذا لا اعتبارَ بهِ ، فهذا يقترحُ معصوماً في الأئمةِ، وهذا يقترحُ ما هو كالمعصومِ ،وإن لم يسمِّهِ معصوماً98 ، فيقترحُ في العالمِ والشيخِ والأميرِ والملكِ ونحو ذلك، مع كثرةِ علمهِ ودينهِ ومحاسنهِ وكثرةِ ما فعل اللهُ على يديهِ منَ الخيرِ يقترحُ مع ذلكَ أن لا يكونَ قد خفيَ عليهِ شيءٌ ولا يخطئُ في مسألةٍ ، وأنْ يخرجَ عن حدِّ البشريةِ ، فلا يغضبُ ،بل كثيرٌ من هؤلاء يقترح فيهم مالا يقترحُ في الأنبياءِ ، وقد أمر الله تعالى نوحاً ومحمداً أن يقولا { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) [الأنعام/50]، فيريد الجهَّالُ من المتبوعِ أن يكونَ عالماً بكل ما يُسأل عنه قادراً على كل ما يُطلب منه، غنيًّا عن الحاجاتِ البشريةِ كالملائكةِ ، وهذا الاقتراحُ منْ ولاةِ الأمرِ كاقتراحِ الخوارجِ في عمومِ الأمةِ أنْ لا يكونَ(1/149)
لأحدهمْ ذنبٌ ، ومن كان له ذنبٌ كان عندهم كافراً مخلداً في النارِ .
وكلُّ هذا باطلٌ خلافُ ما خلقهُ اللهُ ،وخلافُ ما شرعه الله ، فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له ،والبدعُ مشتقةٌ من الكفر، فما من قولٍ مبتدعٍ إلا وفيه شعبةٌ من شعبِ الكفرِ ، وكما أنه لم يكن في القرون أكملُ من قرنِ الصحابةِ ، فليس في الطوائفَ بعدهم أكملُ من أتباعِهم ،فكلُّ من كان للحديث والسنة وآثارِ الصحابةِ أتبعُ كانَ أكملَ ، وكانت تلك الطائفةُ أولى بالاجتماعِ والهدى والاعتصامِ بحبل اللهِ ، وأبعدَ عن التفرقِ والاختلافِ والفتنةِ ، وكلُّ منْ بَعُدَ عن ذلكَ كان أبعدَ عنِ الرحمةِ وأدخلَ في الفتنةِ ، فليس الضلالُّ والغيُّ في طائفةٍ من طوائفَ الأمةِ أكثرَ منه في الرافضةِ، كما أنَّ الهدَى والرشادَ والرحمةَ ليسَ في طائفةٍ من طوائفَ الأمةِ أكثرُ منه في أهلِ الحديثِ والسُّنَّةِ المحضةِ ، الذينَ لا ينتصرونَ إلَّا لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلمَ، فإنهم خاصَّتُهُ ،وهو إمامُهم المطلقُ الذي لا يغضبونَ لقولِ غيرِهم إلا إذا اتبعَ قولَهُ ومقصودُهُمْ نصرُ اللهِ ورسولهِ ، وإذا كان الصحابةُ ثمَّ أهلُ الحديثِ والسنَّةِ المحضةِ أولى بالهدى ودينِ الحقِّ وأبعدَ الطوائفَ عن الضَّلالِ والغيِّ، فالرَّافِضةُ بالعكسِ .
47- لمن يوجهون سيوفهم ؟(1/150)
ج47-الصحابةُ رضي الله عنهم كانوا أئمةَ الهدى ومصابيحَ الدُّجَى ، وأنَّ أصلَ كلِّ فتنةٍ وبليَّةٍ همُ الشيعةُ ، ومنِ انضوَى إليهمْ، وكثيرٌ منَ السيوفِ التي سُلَّتْ في الإسلام إنما كانتْ منْ جِهتهِم، وعُلِمَ أنَّ أصلَهُم ومادَّتَهُم منافقونَ اختلقوا أكاذيبَ وابتدعوا آراءَ فاسدةً ليُفسِدوا بها دينَ الإسلامِ ،ويستزلُّوا بها مَنْ ليسَ من أُولي الأحلامِ ، فسعوا في قتلِ عثمانَ رضي الله عنه ، وهو أوَّلُ الفتنِ ثمَّ انزوَوا إلى عليٍّ لا حبًّا فيهِ ولا في أهلِ البيتِ ، لكنْ ليُقيموا سوقَ الفتنةِ بينَ المسلمينَ ، ثمَّ هؤلاءِ الذين سَعَوا معه منهُم مَنْ كفَّرهُ بعدَ ذلك وقاتلَهُ ،كما فعلتِ الخوارجُ، وسيفُهُم أوَّلُ سيفٍ سُلَّ على الجماعةِ ،ومنهم منْ أظهرَ الطعنَ على الخلفاءِ الثلاثةِ، كما فعلتِ الرافضةُ ، وبهم تستَّرتِ الزنادقةُ كالغاليةِ منَ النصيريةِ وغيرهِم ،ومنَ القرامطةِ الباطنيةِ والإسماعيليةِ وغيرهم ، فهُم مَنشأُ كلِّ فتنةٍ ، والصحابةُ رضي الله عنهم منشأُ كلِّ علمٍ وصلاحٍ وهدًى ورحمةٍ في الإسلامِ، ولهذا تجدُ الشيعةَ ينتصرونَ لأعداءِ الإسلامِ المرتدينَ كبَني حنيفةَ أتباعِ مسيلمةَ الكذَّابِ ، ويقولونَ : إنهُم كانوا مظلومينَ ،كما ذكرَ صاحبُ هذا الكتابِ، وينتصرونَ لأبي لؤلؤةَ الكافرَ المجوسيَ ،ومنهم من يقول : اللهُمَّ ارضَ عن أبي لؤلؤةَ واحشرني معه ، ومنهم من يقولُ في بعض ما يفعلُه من محاربَتهِم وثاراتِ أبي لؤلؤةَ99، كما يفعلونَهُ في الصورةِ التي يقدِّرون فيها صورةَ عمرَ رضي الله عنه من الجِبسِ أو غيرِه ، وأبو لؤلؤةٍ كافرٌ باتفاقِ أهلِ الإسلامِ، كانَ مجوسيًّا من عبَّادِ النيرانِ وكانَ مملوكاً للمغيرةِ بنِ شعبةَ ،وكان يصنعُ الأرحاء100، وعليه خراجٌ للمغيرة كلَّ يومٍ أربعةُ دراهِمَ ، وكان قد رأى ما عملَهُ المسلمونَ بأهلِ الذمةِ ، وإذا رأى سبيَهُم يقدُمُ إلى المدينة يبقَى في نفسِه من(1/151)
ذلك، وقد رويَ أنهُ طلبَ من عمرَ رضي الله عنه ، أنْ يكلِّمَ مولاهُ في خراجهِ فتوقفَ عمرُ ، وكانَ من نيَّتِه أن يكلِّمَهُ، فقَتلَ عمرَ بُغضاً في الإسلامِ وأهلهِ وحبًّا للمجوسِ ، وانتقاماً للكفارِ لِما فعلَ بهم عمرُ حينَ فتحَ بلادَهم وقتلَ رؤساءَهُم وقسَّم أموالَهُم ، كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديثِ الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ "101
وهذا الحديث الصحيحُ مما يدلُّ على صحةِ خلافتِه وأنهُ كان يُنفقُ هذينِ الكنزينِ في سبيل الله، الذي هو طاعتُه وطاعةُ رسولهِ وما يقرِّبُ إلى اللهِ ، لم ينفقِ الأموالَ في أهواءِ النفوسِ المباحةِ فضلاً عن المحرمةِ ، فهل ينتصرُ لأبي لؤلؤةَ مع هذا إلا من هوَ أعظمُ الناسِ كفراً باللهِ ورسولهِ وبغضاً في الإسلامِ ومفرطَاً في الجهلِ لا يعرفُ حالَ أبي لؤلؤةَ ؟؟!!!102
48- ماذا يقول لكل مخدوع بالرافضة ؟
ج48- دع ما يسمع وينقل عمن خلا ، فلينظر كلُّ عاقلٍ فيما يحدُثُ في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتنِ والشرورِ والفسادِ في الإسلامِ فإنهُ يجدُ معظمَ ذلكَ من قبلِ الرافضةِ ، وتجدُهُم منْ أعظمْ الناسِ فتناً وشرًّا ،وأنهم لا يقعدونَ عمَّا يمكِنُهم منَ الفتنِ والشرِّ وإيقاعِ الفسادِ بينَ الأمةِ ، ونحن نعرفُ بالعيانِ والتواترِ العامِ وما كان في زمانِنا من حينِ خرجَ جنكزخان ملكِ التركِ الكفارِ103 وما جرى في الإسلامِ من الشرِّ ،فلا يشك عاقل أن استيلاءَ الكفار ِالمشركينَ الذينَ لا يقرُّونَ بالشهادتينِ ولا بغيرها منَ المباني الخمسِ(1/152)
ولا يصومون شهرَ رمضانَ ولا يحجُّونَ البيتَ العتيقَ، ولا يؤمنون بالله ولا بملائكتهِ ولا بكتبهِ ورسلهِ واليوم الآخرِ،وأعلمُ من فيهم وأدينُ مشركٌ يعبدُ الكواكبَ والأوثانَ ، وغايَتُهُ أن يكونَ ساحراً أو كاهناً له رِئيٌ منَ الجنِّ ، وفيهم منَ الشركِ والفواحشَ ما همْ بهِ شرٌّ منَ الكهَّانِ الذينَ يكونونَ في العربِ ، فلا يشكُّ عاقلٌ أنَّ استيلاءَ مثلِ هؤلاءِ على بلادِ الإسلامِ وعلى أقاربِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منْ بني هاشمَ كذريةِ العبَّاسِ وغيرهِم بالقتلِ وسفكِ الدماءِ وسبيِ النساءِ واستحلالِ فروجهِنَّ، وسبيِ الصبيانِ واستعبادهِمْ وإخراجِهمْ عنْ دينِ اللهِ إلى الكفرِ وقتلِ أهلِ العلمِ والدينِ منْ أهلِ القرآنِ والصلاةِ وتعظيمِ بيوتِ الأصنامِ، التي يسمُّونَها البذخاناتِ والبِيَعِ والكنائسَ على المساجدَ ، ورفعِ المشركينَ وأهلِ الكتابِ منَ النَّصارى وغيرهِم على المسلمينَ، بحيثُ يكونُ المشركونَ وأهلُ الكتابِ أعظمَ عزًّا وأنفذَ كلمةً وأكثرَ حرمةً منَ المسلمينَ ، إلى أمثالِ ذلكَ مما لا يشِكُّ عاقلٌ أنَّ هذا أضرُّ على المسلمينَ من قتالِ بعضهِم بعضاً104، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرَى على أمَّتِهِ من هذا كان كراهَتُهُ لهُ وغضبهُ منهُ أعظمَ من كراهتِه لاثنينِ مسلمينِ تقاتلا على المُلكِ ولم يسبِ أحدهُما حريمَ الآخرِ ، ولا نفعَ كافراً ولا أبطلَ شيئاً من شرائعِ الإسلامِ المتواترةِ وشعائرهِ الظاهرةِ ، ثمَّ معَ هذا فالرافضةُ يعاونونَ أولئكَ الكفارَ وينصرونَهُم على المسلمينَ ، كما قد شاهدَهُ الناسُ لمَّا دخلَ هولاكو ملكُ الكفارِ التركِ الشامَ سنةَ ثمانٍ وخمسينَ وستمائةٍ، فإنَّ الرافضةَ الذينَ كانوا بالشَّامِ بالمدائنَ والعواصمَ من أهلِ حلبَ وما حولها، ومنْ أهلِ دمشقَ وما حولها ،وغيرهم كانوا من أعظمَ الناسِ أنصاراً وأعواناً على إقامةِ ملكهِ وتنفيذِ أمرهِ في زوالِ ملكِ(1/153)
المسلمينَ ،وهكذا يعرفُ الناسُ عامةً وخاصةً ما كانَ بالعراقِ لمَّا قدمَ هولاكو إلى العراقِ وقتلَ الخليفةَ وسفكَ فيها منَ الدماءِ مالا يُحصيهِ إلا اللهُ، فكانَ وزيرُ الخليفة ابنُ العلقميِّ، والرافضةُ همْ بطانتهُ الذينَ أعانوهُ على ذلكَ بأنواعٍ كثيرةٍ باطنةٍ وظاهرةٍ يطولُ وصفُها ، وهكذا ذُكرَ أنهمْ كانوا مع جنكزخانَ ، وقد رآهمُ المسلمونَ بسواحلِ الشامِ وغيرِها إذا اقتتلَ المسلمونَ والنصارى هواهُم معَ النصارى ، ينصرونَهُم بحسبِ الإمكانِ ، ويكرهونَ فتحَ مدائنِهِم كما كَرِهوا فتحَ عكَّا وغيرِها ، ويختارون إدالتَهُم على المسلمينَ، حتى أنهم لمَّا انكسرَ عسكرُ المسلمينَ سنةَ غازانَ سنةَ تسعٍ وتسعينَ وخمسمائةٍ وخلتِ الشامُ من جيشِ المسلمينَ عاثوا في البلادِ وسعَوا في أنواعٍ من الفسادِ منَ القتلِ وأخذِ الأموالِ ، وحملِ رايةِ الصليبِ وتفضيلِ النصارى على المسلمينَ، وحملِ السبيِ والأموالِ والسِّلاحِ منَ المسلمينَ إلى النَّصارى أهلِ الحربِ بقبرسَ105 وغيرها، فهذا وأمثالُه قد عاينَهُ الناسُ وتواترَ عندَ منْ لم يعاينْهُ ، ولو ذكرتُ أنا ما سمعتُه ورأيتُه من آثارِ ذلكَ لطالَ الكتابُ ، وعندَ غيري من أخبارِ ذلك وتفاصيلِه مالا أعلمُه، فهذا أمرٌ مشهودٌ منْ معاونتِهِمْ للكفارِ على المسلمينَ ، ومن اختيارهِم لظهورِ الكفرِ وأهلِهِ على الإسلامِ وأهلهِ ، ولو قُدِّرَ أنَّ المسلمينَ ظلمةٌ فسقةٌ ومظهرونَ لأنواعٍ من البدعِ التي هيَ أعظمُ من سبِّ عليٍّ وعثمانَ رضي الله عنهما ، لكانَ العاقلُ ينظرُ في خير ِالخيرينِ وشرِّ الشَّرَّيْنِ ، ألا ترَى أنَّ أهلَ السنَّةِ وإنْ كانوا يقولونَ في الخوارجِ والروافضِ وغيرهِما من أهلِ البدعِ ما يقولونَ، لكنْ لا يعاونونَ الكفارَ على دينهِم ، ولا يختارونَ ظهورَ الكفرِ وأهلهِ على ظهورِ بدعةٍ دونَ ذلكَ
49- ماذا يفعل الرافضة بأهل السنة إذا تمكنوا في الأرض ؟(1/154)
ج49- الرافضة إذا تمكَّنوا لا يتَّقونَ، وانظر ما حصلَ لهم في دولةِ السلطانِ خُدابندا الذي صُنِّفَ لهُ هذا الكتابُ ، كيفَ ظهرَ فيهم منَ الشرِّ الذي لو دامَ وقويَ أبطلوا بهِ عامةَ شرائعِ الإسلامِ، لكنْ { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) [التوبة/32] ص 375 جـ (6) .
50- الرافضة ينافقون أهل السنة ويخادعونهم
ج50- والرافضةُ من أعظم الناسِ إظهاراً لمودَّةِ أهلِ السنَّةِ ، ولا يظهرُ أحدهُم دينَهُ حتَّى إنهمْ يحفَظونَ من فضائلِ الصحابةِ ، والقصائدَ التي( قيلت ) في مدحِهم وهجاءِ الرافضةِ ما يتوددونَ بهِ إلى أهلِ السنَّةِ، ولا يُظهِرُ أحدهُما دينَهُ كما كانَ المؤمنونَ يظهرونَ دينَهم للمشركينَ وأهلِ الكتابِ، فعُلِمَ أنهم مِنْ أبعدِ الناسِ عنِ العملِ بهذهِ الآيةِ .
وأمَّا قولُه تعالى :{ إلَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران/28]106 قال مجاهد : إلا مصانعةً، والتقاةُ ليستْ بأنْ أكذبَ وأقولَ بلساني ما ليسَ في قلبي، فإنَّ هذا نفاقٌ ، ولكنْ أفعلُ ما أقدرُ عليهِ
كما في الصحيح عَنْ أبي سَعِيدٍ قال:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ".107(1/155)
فالمؤمن إذا كان بينَ الكفارِ والفجارِ لم يكنْ عليه أن يجاهدَهُم بيدهِ معْ عجزهِ ، ولكنْ إن أمكنهُ بلسانهِ وإلا فبقلبهِ ، مع أنهُ لا يكذبُ ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، إمَّا أن يظهرَ دينَه وإمَّا أنْ يكتمَهُ ، وهو مع هذا لا يوافقُهم على دينهِم كلِّهِ، بل غايتُهُ أن يكونَ كمؤمنِ آلِ فرعونَ وامرأةِ فرعونَ، وهو لم يكنْ موافقاً لهمْ على جميعِ دينِهم ،ولا كانَ يكذبُ ولا يقولُ بلسانهِ ما ليسَ في قلبهِ ، بلْ كانَ يكتُمُ إيمانَهُ ، وكتمانُ الدِّينِ شيءٌ وإظهارُ الدِّينِ الباطلِ شيءٌ آخرَ ، فهذا لم يبحْهُ اللهُ قطُّ إلا لمَنْ أُكرهَ بحيثُ أبيحَ له النطقُ بكلمةِ الكفرِ ، واللهُ تعالى قدْ فرَّقَ بينَ المنافقِ والمكرَهِ ، والرافضةُ حالُهُم منْ جنسِ حالِ المنافقينَ لا منْ جنسِ حالِ المكرَهِ الذي أُكرهَ على الكفرِ وقلبُه مطمئنٌ بالإيمانِ ، فإنَّ هذا الإكراهَ لا يكونُ عامًّا منْ جمهورِ بني آدمَ ، بلِ المسلمُ يكونُ أسيراً أو منفرداً في بلادِ الكفرِ ولا أحدَ يُكرهُهُ على كلمةِ الكفرِ، ولا يقولُها ولا يقولُ بلسانهِ ما ليسَ في قلبهِ ، وقد يحتاجُ إلى أنْ يلينَ لناسٍ منَ الكفارِ ليظنُّوه منْهُم ،وهو مع هذا لا يقولُ بلسانهِ ما ليسَ في قلبهِ ، بل يكتمُ ما في قلبهِ، وفرقٌ بينَ الكذبِ وبينَ الكتمانِ، فكتمانُ ما في النَّفسِ يستعملُهُ المؤمنُ حيثُ يعذرهُ اللهُ في الإظهارِ كمؤمنِ آلِ فرعونَ ، وأما الذي يتكلَّمُ بالكفرِ فلا يعذرُهُ إلَّا إذا أُكرهَ ، والمنافقُ الكذَّابُ لا يُعْذَرُ بحالٍ ، ولكنْ في المعاريضِ مندوحةٌ عنِ الكذبِ ، ثم ذلك المؤمنُ الذي يكتمُ إيمانَهُ يكونُ بينَ الكفارِ الذينَ لا يعلمونَ دينَهُ وهوَ معَ هذا مؤمنٌ عندَهُم يحبُّونَهُ ويُكرمونَهُ ،لأنَّ الإيمانَ الذي في قلبهِ يوجبُ أنْ يعاملَهُم بالصدقِ والأمانةِ والنصحِ وإرادةِ الخيرِ بهِم ، وإن لمْ يكنْ موافقاً لهم على دينِهم كما كانَ(1/156)
يوسفُ الصِّدِّيقُ عليه السلامُ يسيرُ في أهلِ مصرَ، وكانوا كفاراً ، وكما كانَ مؤمنُ آلَ فرعونَ يكتمُ إيمانَهُ ، ومع هذا كانَ يعظِّمُ موسى عليه السلام ، ويقول: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) [غافر/28، 29]
51-معاشرة الرافضة لغيرهم
ج51- أمَّا الرافضيُّ فلا يعاشرُ أحداً إلا استعملَ معهُ النِّفاقَ، فإنَّ دينَهُ الذي في قلبهِ دينٌ فاسدٌ يحملُه على الكذبِ والخيانةِ وغشِّ الناسِ ، وإرادةِ السُّوءِ بهم، فهو لا يألوهُمْ خبالاً 108،ولا يتركُ شرًّا يقدرُ عليهِ إلا فعلَهُ بهِم، وهو ممقوتٌ عندَ مَنْ لا يعرفُهُ ، وإن لم يعرَفْ أنهُ رافضيٌّ تظهَرُ على وجهِهِ سِيما النِّفاقِ ، وفي لحنِ القولِ109، ولهذا تجدُهُ ينافقُ ضعفاءَ الناسِ ، ومَنْ لا حاجةَ بهِ إليه لِما في قلبهِ منَ النفاقِ الذي يُضعفُ قلبَهُ ، والمؤمنُ معهُ عزَّةُ الإيمانِ ، فإن العزة َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ،110 ثم همْ يدَّعونَ الإيمانَ دونَ الناسِ ، والذلَّةُ فيهِم أكثرُ منها في سائرِ الطوائفِ من المسلمينَ، وقد قالَ تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) [غافر/51] ، وهم أبعدُ طوائفَ أهلِ الإسلامِ عنِ النصرةِ وأولاهُم بالخذلانِ .
52- هل تكثر فيهم صفاتُ المنافقين ؟(1/157)
ج52- إنهم أقربُ طوائفَ أهلِ الإسلامِ إلى النفاقِ وأبعدُهُم عن الإيمانِ، وآيةُ ذلك أنَّ المنافقينَ حقيقةً الذين ليسَ فيهِم إيمانٌ منَ الملاحدةِ يميلونَ إلى الرافضةِ ، والرافضةُ تميلُ إليهم أكثرَ منْ سائرِ الطوائفِ، وقد قالَ صلى الله عليه وسلمِ : " الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ "111
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ:"اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ"112 فعلِمَ أنَّ بينَ أرواحِ الرافضةِ وأرواحِ المنافقينَ اتفاقاً محضاً قدراً مشتركاً وتشابهاً ، وهذا لِما في الرافضةِ ( من النفاقِ)، فإنَّ النفاقَ شُعَبٌ كما في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ".113(1/158)
وفي الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ "114 وفي رواية لمسلم " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ "115 والقرآنُ يشهدُ لهذا ، فإنَّ اللهَ وصفَ المنافقينَ في غيرِ موضعٍ بالكذبِ والغدرِ والخيانةِ ، وهذهِ الخصالُ لا توجدُ في طائفةٍ أكثرَ منها في الرافضةِ، ولا أبعدَ منها عن أهلِ السنةِ المحضةِ، المتَّبعينَ للصحابةِ، فهؤلاءِ أولى الناسِ بشُعبِ الإيمانِ وأبعدُهم عن شُعبِ النفاقِ ، والرافضةُ أولى الناسِ بشعبِ النفاقِ وأبعدُهم عن شعبِ الإيمانِ، وسائرُ الطوائفِ قربُهم إلى الإيمانِ وبعدُهم عن النفاقِ بحسبِ سنَّتهِم وبدعَتِهم ،وهذا كلُّهُ مما يبينُ أن القومَ أبعدُ الطوائفَ عنِ اتباعِ المعصومِ الذي لا شكَّ في عصمتهِ ، وهو خاتمُ المرسلينَ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وعلى آلهِ ، وما يذكرونَهُ من خلافِ السنةِ في دعوى الإمامِ المعصومِ وغيرِ ذلك، فإنما هو في الأصل منِ ابتداعِ منافقٍ زنديقٍ ، كما قد ذكرَ ذلكَ أهلُ العلمِ ،ذكرَ غيرُ واحدٍ منهم أنَّ أولَ منِ ابتدعَ الرفضَ والقولَ بالنصِّ على عليٍّ وعصمتِه كانَ منافقاً زنديقاً أرادَ فسادَ دينِ الإسلامِ، وأرادَ أن يصنعَ بالمسلمينَ ما صنعَ بولصُ بالنصارى، لكن لم يتأتَ له ما تأتَّى لبولصَ لضعفِ دينِ النصارى وعقلهِم، فإنَّ المسيحَ صلى الله عليه وسلم رُفعَ ولم يتبعْهُ خلقٌ كثيرٌ يعلمونَ دينَه ويقومونَ بهِ علماً وعملاً ، فلمَّا ابتدعَ بولصُ ما ابتدعَهُ من الغلوِّ في المسيحِ اتبعَهُ على ذلكَ طوائفُ وأحبُّوا الغلوَّ في المسيحِ ودخلتْ معهُم ملوكٌ فقامَ أهلُ الحقِّ خالفوهم وأنكروا عليهِم ، فقتلتِ الملوكُ بعضَهم وداهنَ الملوكَ بعضُهُم وبعضُهم اعتزلوا في الصوامعَ والدياراتِ ، وهذه(1/159)
الأمةُ وللهِ الحمدُ لا يزالُ فيها طائفةٌ ظاهرةٌ على الحقِّ فلا يتمكنُ ملحدٌ ولا مبتدعٌ من إفسادهِ بغلوٍّ أو انتصارِ على أهلِ الحقِّ، ولكنْ يضلُّ منْ يتبعُه على ضلالهِ ، وأيضاً فنوابُ المعصومِ الذي يدَّعونهُ غيرُ معصومينَ في الجزئياتِ، وإذا كان كذلكَ فيقالُ: إذا كانتِ العصمةُ في الجزئياتِ غيرُ واقعةٍ ، وإنما الممكنُ العصمةُ في الكلياتِ ، فاللهُ تعالى قادرٌ أن ينصَّ على الكلياتِ بحيثُ لا يحتاجُ في معرفتِها إلى الإمامِ ولا غيرهِ، وقادرٌ أيضا أن يجعلَ نصَّ النبيِّ أكملُ من نصِّ الإمامِ، وحينئذٍ فلا يُحتاجُ إلى عصمةِ الإمامِ لا في الكلياتِ ولا في الجزئياتِ .116
53- مذهب الرافضة معادٍ للإسلام
ج53- أصلُ الرفضِ كانَ من وضعِ قومٍ زنادقةٍ منافقينَ ، مقصودُهم الطعنُ في القرآنِ و الرسولِ ودين الإسلامِ ،فوضعوا منَ الأحاديثَ ما يكونُ التصديقُ بهِ طعناً في دينِ الإسلامِ ، و روَّجوها على أقوامٍ فمِنهُم مَن كانَ صاحبَ هوًى و جهلٍ فقبلَها لهواهُ و لم ينظرْ في حقيقتِها و منْهُم مَن كانَ لهُ نظرٌ فتدبَّرها فوجدها تقدحُ في حقِّ الإسلامِ، فقالَ بموجبِها و قدحَ بها في دينِ الإسلامِ إمَّا لفسادِ اعتقادهِ في الدينِ وإمَّا لاعتقادهِ أن هذهِ صحيحةٌ و قدحتْ فيما كانَ يعتقدُهُ منْ دينِ الإسلامِ .
54- إلى ماذا ينتهي بأصحابه ؟(1/160)
ج54- و لهذا دخلتْ عامةُ الزنادقةِ من هذا البابِ، فإنَّ ما تنقلهُ الرافضةُ من الأكاذيبِ تسلَّطوا بهِ على الطعنِ في الإسلامِ ، و صارتْ شبهاً عند منْ لم يعلمْ أنهُ كذبٌ ، و كان عنده خبرةٌ بحقيقةِ الإسلامِ ، و ضلَّتْ طوائفُ كثيرةٌ منَ الإسماعيليةِ و النصيريةِ و غيرهِم منَ الزنادقةِ الملاحدةِ المنافقينَ، و كان مبدأُ ضلالهِم تصديقَ الرافضةِ في أكاذيبهِم التي يذكرونَها في تفسيرِ القرآنِ و الحديثِ كأئمةِ العبيديينَ ، إنما يقيمونَ مبدأَ دعوتهِم بالأكاذيبِ التي اختلقتَها الرافضةُ ليستجيبَ لهمْ بذلكَ الشيعةُ الضُّلالُ ثمَّ ينقلونَ الرجلَ منَ القدحِ في الصحابةِ إلى القدحِ في عليٍّ ثمَّ في النبيِّ صلى الله عليه و سلم ثمَّ في الإلهية كما رتبهُ لهمْ صاحبُ البلاغِ الأكبرِ و الناموسِ الأعظمِ ،و لهذا كانَ الرفضُ أعظمُ بابٍ و دهليزٍ إلى الكفرِ و الإلحادِ.
55- من أين كان اشتقاقه وخروجه ؟
ج55-لا ريبَ أنَّ الرفضَ مشتقٌّ منَ الشركِ و الإلحادِ و النفاقِ، لكنْ تارةً يظهرُ لهمْ ذلكَ فيهِ و تارةً يخفَى.117 ص 27 جـ (7).
56- الهدف من ابتداع هذا المذهب(1/161)
ج56- أمَّا عليٌّ رضي الله عنه فلا ريبَ أنهُ ممن يحبُّ اللهَ و يحبُّهُ اللهُ لكنْ ليسَ بأحقَّ بهذهِ الصِّفَةِ من أبي بكرٍ و عمرَ و عثمانَ رضي الله عنهم ، و لا كانَ جهادُه للكفارِ و المرتدينَ أعظمَ من جهادِ هؤلاءِ ، و لا حصلَ بهِ منَ المصلحةِ للدينِ أعظمُ مما حصلَ بهؤلاءِ ، بل كلٌّ منهُم له سعيٌ مشكورٌ و عملٌ مبرورٌ، و آثارٌ صالحةٌ في الإسلامِ ، و اللهُ يُجزيَهم عنِ الإسلامِ و أهلهِ خيرَ جزاءٍ ؛ فهمُ الخلفاءُ الراشدونَ و الأئمةُ المهديونُ الذينَ قضَوا بالحقِّ ، و بهِ كانوا يعدِلونَ، و أمَّا أن يأتيَ إلى أئمةِ الجماعةِ الذينَ كانَ نفعُهم في الدينِ و الدنيا أعظمَ ، فيجعلهُم كفاراً أو فساقاً ظلمةً، و يأتي إلى من لمْ يجرِ على يديهِ من الخيرِ مثلَ ما جرَى على يدِ واحدٍ منهُم فيجعلُه إلهاً أو شريكاً للهِ ، أو شريكَ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم، أوِ الإمامَ المعصومَ الذي لا يؤمنُ إلا مَنْ جعلَهُ معصوماً منصوصاً عليهِ ، و مَنْ خرجَ عن هذا فهوَ كافرٌ ، و يجعلُ الكفارَ المرتدينَ الذي قاتلَهم أولئكَ كانوا مسلمينَ، و يجعلَ المسلمينَ الذين يصلُّون الصلواتِ الخمسِ و يصومونَ شهرَ رمضانَ و يحجُّون البيتَ و يؤمنونَ بالقرآنِ ، يجعلُهُم كفاراً لأجلِ قتالِ هؤلاءِ، فهذا عملُ أهلِ الجهلِ و الكذبِ و الظلمِ و الإلحادِ في دينِ الإسلامِ؛ عملُ مَنْ لا عقلَ لهُ و لا دينَ و لا إيمانَ ،و العلماءُ دائماً يذكرونَ أنَّ الذي ابتدعَ الرفضَ كان زنديقاً ملحداً مقصودُهُ إفسادُ دينِ الإسلامِ، و لهذا صارَ الرفضُ مأوَى الزنادقةِ الملحدينَ منَ الغاليةِ و المعطِّلةِ كالنصيريةِ و الإسماعيليةِ و نحوهِم ، و أولُ الفكرةِ آخرُ العملِ، فالذي ابتدعَ الرفضَ كان مقصودُه إفسادَ دينِ الإسلامِ ونقضَ عراهُ وقلعَهُ بعروشهِ آخراً، لكنْ صارَ يظهرُ منه ما يُكنُّهُ من ذلكَ {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ(1/162)
الْكَافِرُونَ (32) [التوبة/32، 33] ، وهذا معروفٌ عن ابنِ سباَ وأتباعهِ ، وهو الذي ابتدعَ النصَّ في عليٍّ ، وابتدعَ أنهُ معصومٌ ، فالرافضةُ الإماميةُ هم أتباعُ المرتدينَ وغلمانِ الملحدينَ وورثةِ المنافقينَ، لم يكونوا أعيانَ المرتدينَ الملحدينَ.
57- هل لأهل البيت علاقة بمذهب الرافضة ؟
ج57- أهلُ البيت لم يتفقوا وللهِ الحمدُ على شيءٍ من خصائصِ مذهبِ الرافضةِ ، بل همُ المبرؤونَ المنزهونَ عن التدنُّسِ بشيءٍ منه، ص 395 جـ (7).
58- النقل الثابت عن أهل البيت تجاه الخلفاء الراشدين
ج58- (إنَّ)أئمةَ العترةِ كابنِ عباسِ وغيرهِ يقدِّمونَ أبا بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما في الإمامةِ والأفضليةِ ، وكذلك سائرُ بني هاشمَ من العباسيينَ والجعفريينَ ، وأكثرُ العلويينَ، وهم مقرُّونَ بإمامةِ أبي بكر ٍوعمرَ رضي الله عنهما ،وفيهم من أصحابِ مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ وغيرُهم أضعافُ من فيهم منِ الإماميةِ، والنقلُ الثابتُ عن جميعِ علماءِ أهلِ البيتِ منْ بني هاشمَ منَ التابعينَ وتابعيهِم، من ولدِ الحسينِ بنِ عليٍّ وولدِ الحسنِ وغيرهِما أنَّهم كانوا يتولَّون أبا بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما ، وكانوا يفضِّلونهُما على عليٍّ رضي الله عنه ، والنقولُ عنهم ثابتةٌ متواترةٌ ، وقد صنفَ الحافظُ أبو الحسنِ الدارقطنيِّ كتابُ ثناءِ الصحابةِ على القرابةِ وثناءِ القرابةِ على الصحابةِ، وذكر فيه من ذلك قطعةٌ ص 396 جـ (7) .
59- الرافضة تزعُم أنها تُبجِّلُ أهلَ البيت ، فهل هذا صحيحٌ ؟
ج59- إنَّ الرافضةَ من أعظمٍ الناسِ قدحاً وطعناً في أهلِ البيتِ، وأنهم همُ الذينَ عادوا أهلَ البيتِ في نفسِ الأمرِ ، ونسبوهُم إلى أعظمِ المنكراتِ التي منْ فعلَها كانَ منَ الكفارِ، وليس هذا ببدعٍ من جهلِ الرافضةِ و حماقاتهِم ص 408 جـ (7) .
60- مُنتَهى أمرُ الرافضةِ(1/163)
ج60- إن الرافضة تدعي أن الإمامَ المعصومَ لطفٌ من اللهِ بعبادهِ ليكونَ ذلك أدعَى إلى أنْ يطيعوهُ فيُرحموا ،وعلى ما قالوهُ فلم يكنْ على أهل الأرضِ نقمةٌ أعظمَ منْ عليٍّ رضي الله عنه ، فإنَّ الذين خالفوهُ وصاروا مرتدينَ كفاراً والذينَ وافقوهُ أذلاءُ مقهورينَ تحتَ النقمةِ، لا يدَ ولا لسانَ، وهم معَ ذلكَ يقولونَ: إنَّ خلقَه مصلحةٌ ولطفٌ ، وإنَّ اللهَ يجبُ عليه أنْ يخلقَهُ ،وإنهُ لا تتمُّ مصلحةُ العالمِ في دينهِم ودنياهُم إلا بهِ، وأيُّ صلاحٍ في ذلكَ على قولِ الرافضةِ ؟!!(1/164)
ثمَّ إنهُم يقولونَ: إنَّ اللهَ يجبُ عليهِ أن يفعلَ أصلحَ ما يقدرُ عليه للعبادِ في دينهِم و دنياهُم ،و هو يُمكِّنُ الخوارجَ الذينَ يكفرونَ به بدارٍ لهمْ فيها شوكةٌ ، و من قتالِ أعدائهِم، و يجعلُهُمْ همْ و الأئمةَ المعصومينَ في ذلٍّ أعظمُ منْ ذُلِّ اليهودِ و النصارَى و غيرهِم من أهلِ الذمَّةِ ، فإنَّ أهلَ الذمَّةِ يمكنُهم إظهارَ دينهِم ، و هؤلاءِ الذينَ يدَّعِي أنهُم حِججُ اللهِ على عبادهِ و لطفهِ في بلادهِ ، وأنهُ لا هدًى إلا بهِم و لا نجاةَ إلا بطاعتِهم، و لا سعادةَ إلا بمتابعتِهم ، قدْ غابَ خاتمتُهُم منْ أكثرِ من أربعمائةٍ و خمسينَ سنةَ، فلم ينتفعْ بهِ أحدٌ في دينهِ و لا دنياهُ118 ، و همْ لا يمكنهُم إظهارُ دينهِم ، كما تُظهرُ اليهودُ و النصارَى دينَهُم ، و لهذا ما زالَ أهلُ العلمِ يقولون: إنَّ الرفضَ مِنْ إحداثِ الزنادقةِ الملاحدةِ ،الذينَ قصَدوا إفسادَ الدِّينِ دينِ الإسلامِ ، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) [التوبة/32، 33] ، فإنَّ منتهَى أمرِهم تكفيرُ عليٍّ رضي الله عنه و أهلِ بيتهِ بعدَ أن كفَّروا الصحابةَ و الجمهورَ ، و لهذا كانَ صاحبُ دعوَى الباطنيةِ الملاحدةِ رتَّبَ دعوتَهُ مراتبَ ، أولُ ما يدعو المستجيبَ إلى التشيُّعِ ثم إذا طمعَ فيه قالَ له : عليٌّ مثلُ الناسِ، و دعاهُ إلى القدحِ في عليٍّ أيضاً ثم إذا طمعَ فيهِ دعاهُ إلى القدحِ في الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، ثم إذا طمعَ فيه دعاهُ إلى إنكارِ الصانعِ ، هكذا ترتيبُ كتابهِم الذي يسمونَهُ البلاغُ الأكبرُ و الناموسُ الأعظمُ، و واضعُهُ الذي أرسلَ به إلى القُرمطيِّ الخارجِ بالبحرينِ لمَّا استولَى على مكةَّ ، و قتلوا الحُجاجَ وأخذوا الحجرَ الأسودَ ، و استحلُّوا المحارمَ وأسقطوا الفرائضَ ، و سيرتُهُم مشهورةٌ عند أهلِ العلمِ، و كيف يقولُ النبيُّ صلى الله عليه و سلم مَنْ ماتَ و(1/165)
هو يبغضُ عليًّا ماتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا ، و الخوارجُ كلُّهُم تكفِّرُهُ و تبغضُه ، و هو نفسُه لم يكنْ يجعلُهُم مثلَ اليهودِ و النصارَى، بل يجعلُهم منَ المسلمينَ أهلِ القبلةِ، و يحكمُ فيهِم بغيرِ ما يحكمُ بهِ بينَ اليهودِ و النصارَى ، و كذلك منْ كانَ يسُبُّهُ و يبغضُهُ من بني أميةَ وأتباعهِم، فكيفَ يكونُ منْ يصلِّي الصلواتِ و يصومُ شهرَ رمضانَ و يحجُّ البيتَ و يؤدِّي الزكاةَ مثلَ اليهودِ و النصارَى ؟؟!!
و غايتُه أنْ يكونَ قد خفيَ عليه كونُ هذا إماماً ، أو عصاهُ بعد معرفتِهِ ، و كلُّ أحدٍ يعلمُ أنَّ أهلَ الدِّينِ و الجمهورِ ليسَ لهًم غرضٌ معَ عليٍّ و لا لأحدٍ منهُم غرضٌ في تكذيبِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، وأنهُم لو علموا أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم جعلَهُ إماماً كانوا أسبقَ الناسِ إلى التصديقِ بذلكَ، و غايةُ ما يقدَّرُ أنهُم خفيَ عليهِم هذا الحكمُ ، فكيفَ يكونُ مَنْ خفيَ عليه جزءٌ منَ الدِّينِ مثلَ اليهودِ و النَّصارَى ؟؟!!
و ليس المقصودُ هنا الكلامُ في التكفيرِ ، بلِ التنبيهُ على أنَّ هذهِ الأحاديثَ مما يُعلمُ بالاضطرارِ أنها كذبٌ على النبيِّ صلى الله عليه و سلم ، و أنها مناقضةٌ لدينِ الإسلامِ ، و أنَّها تستلزِمُ تكفيرَ عليٍّ رضي الله عنه ، و تكفيرَ مَن خالفَهُ ، وأنهُ لم يقلْها مَنْ يؤمنُ باللهِ و اليومِ الآخرِ ، فضلاً عنْ أن تكونَ مِن كلامِ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم، بل إضافَتُها و العياذُ باللهِ إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أعظمِ القدحِ و الطعنِ فيهِ، و لا شكَّ أنَّ هذا فعلُ زنديقٍ ملحدٍ لقصدِ إفسادِ دينِ الإسلامِ ، فلعنَ اللهُ منِ افتراها ، و حسبُه ما وعدَهُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، حيثُ قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار119
61- ما الذي تسعَى إليه الرافضةُ ؟(1/166)
ج61- أما الرافضةُ فهم المعروفونَ بالبدعةِ عند الخاصةِ و العامةِ، حتى أنَّ أكثرَ العامَّةِ لا تعرفُ في مقابلةِ الشيءِ إلا الرافضيِّ لظهورِ مناقضتِهم لما جاءَ به الرسولُ عليه الصلاة و السلامُ عندَ الخاصةِ و العامةِ، فهم عينٌ على ما جاءَ بهِ حتى الطوائفَ الذينِ ليس لهمْ منَ الخبرةِ بدينِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ما لغيرِهم إذا قالتْ لهمُ الرافضةُ نحنُ مسلمونَ يقولونَ: أنتم جِنسٌ آخرُ ، و لهذا فالرافضةُ يوالونَ أعداءَ الدِّينِ الذينَ يعرفُ كلُّ أحدٍ معاداتِهم منِ اليهودِ و النصارَى و المشركينَ مشركِي التركِ ،و يعادونَ أولياءَ اللهِ الذينَ همْ خيارُ أهلِ الدِّينِ و ساداتِ المتقينَ، و همُ الذينَ أقاموهُ و بلَّغوهُ و نصروهُ، و لهذا كانَ الرافضةُ منْ أعظمِ الأسبابِ في دخولِ التُّركِ الكفارِ إلى بلادِ الإسلام ِ، و أمَّا قصةُ الوزيرِ ابنِ العلقميِّ و غيرهِ كالنَّصيرِ الطوسيِّ مع الكفارِ و ممالأتهِم على المسلمينَ، فقدْ عرفَها الخاصةُ والعامةُ، و كذلك منْ كانَ منهم بالشامِ ظاهروا المشركينَ على المسلمينَ، و عاونوهم معاونةً عرفهِا الناسُ، و كذلك لمَّا انكسرَ عسكرُ المسلمينَ لمَّا قدمَ غازانُ ظاهروا الكفارَ النصارَى و غيرَهم منْ أعداءِ المسلمينَ، و باعوهُم أولادَ المسلمينَ بيعَ العبيدِ ،و أموالَهم ، و حاربوا المسلمينَ محاربةً ظاهرةً، و حَملَ بعضُهم رايةَ الصليبِ ، و هم كانوا منْ أعظمِ الأسبابِ في استيلاءِ النصارَى قديماً على بيتِ المقدسِ حتى استنقذَهُ المسلمونَ منهُم، و قد دخلَ فيهِم أعظمُ الناسِ نفاقاً منَ النُّصَيريَّةِ و الإسماعيليةِ و نحوهِم ممنْ هو أعظمُ كفراً في الباطنِ و معاداةً للهِ و رسولهِ صلى الله عليه وسلم منَ اليهودِ و النصارَى فهذهِ الأمورُ و أمثالُها مما هيَ ظاهرةٌ مشهورةٌ يعرفُها الخاصَّةُ و العامةُ توجبُ ظهورَ مباينتِهم للمسلمينَ، و مفارقتهِم للدينِ ، و دخولهِم في(1/167)
زمرةِ الكفارِ و المنافقينَ حتى يعدُّهم منْ رأى أحوالَهُم جنساً آخرَ غيرَ جنسِ المسلمينَ، فإنَّ المسلمينَ الذينَ يقيمونَ دينَ الإسلامِ في الشرقِ و الغربِ قديماً و حديثاً هم الجمهورُ، و الرافضةُ ليسَ لهمْ سعيٌ إلا في هدمِ الإسلامِ و نقضِ عراهُ و إفسادِ قواعدِه ، و القدرِ الذي عندَهم منِ الإسلامِ إنما قامَ بسببِ قيامِ الجمهورِ به ، و لهذا قراءةُ القرآنِ فيهِم قليلةٌ ، و من يحفظُه حفظاً جيداً فإنَّما تعلمَهُ من أهلِ السنَّةِ، و كذلك الحديثُ إنما يعرفُه و يصْدُقُ فيهِ و يؤخذُ عن أهلِ السنةِ، و كذلك الفقهُ و العبادةُ و الزهدُ ، و الجهادُ و القتالُ إنما هو لعساكرِ أهلِ السنةِ ،و هم الذينَ حفظَ اللهُ بهِم الدينَ علماً و عملاً بعلمائهِم و عبَّادهِم و مقاتليهِم ، و الرافضةُ منْ أجهلِ الناسِ بدينِ الإسلامِ ، و ليس للإنسانِ منهُم شيءٌ يختصُّ بهِ إلا ما يُسِرُّ عدوَّ الإسلامِ، و يسوءُ وليَّهُ، فأيامُهم في الإسلامِ كلِّها سودٌ، وأعرفُ الناسِ بعيوبهِم و ممادحِهم أهلُ السنَّةِ ،لا تزالُ تطَّلعُ منهم على أمورٍ غيرِها عرفَتْها كما قالِ تعالى في اليهودِ: { وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة/13] ، و لو ذكرتُ بعضَ ما عرفتُهُ منهُم بالمباشرةِ و نقلِ الثقاتِ ، و ما رأيتُه في كتبهِم لاحتاجَ ذلكَ إلى كتابٍ كبيرٍ، و همُ الغايةُ في الجهلِ و قلَّةِ العقلِ ، يبغضونَ مِنَ الأمورِ ما لا فائدةَ لهُم في بغضِه ، ويفعلونَ منَ الأمورِ ما لا منفعةَ لهم فيهِ إذا قدِّرَ أنهُم على حقٍّ مثلُ نتفِ النعجةِ، حتى كأنَّ لهمْ عليها ثأراً، كأنهُم ينتفونَ عائشةَ رضي الله عنها، و شقُّ جوفِ الكبشِ كأنهُم يشقُّونَ جوفَ عمرَ رضي الله عنه ، فهل فعلَ هذا أحدٌ منْ طوائفِ المسلمينَ بعدوِّهِ غيرَهم؟؟!!
و لو كان مثلُ هذا مشروعاً لكان بأبي جهلٍ و أمثالِه أولَى.(1/168)
62- هل لمذهبِ الرافضة علاقةٌ بالإسلام ؟
ج62 - لا ريبَ أن كثيراً ممنْ يحبُّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم من بني هاشمَ وغيرهِم، وقد تشيَّعَ قدْ تلقَّى منَ الرافضةِ ما هو منْ أعظمِ الأمورِ قدحاً في الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ أصلَ الرفضِ إنَّما أحدثَهُ زنديقٌ غرضُهُ إبطالُ دينِ الإسلامِ والقدحُ في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكرَ ذلكَ العلماءُ، وكان عبدُ الله بنُ سبأٍ شيخَ الرافضةِ لمَّا أظهرَ الإسلامَ أرادَ أن يفسدَ الإسلامَ بمكرهِ وخبثهِ، كما فعلَ بولصُ بدينِ النصارَى؛ فأظهرَ النسكَ ثمَّ أظهرَ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ، حتَّى سعَى في فتنة ِعثمانَ رضي الله عنه وقتلهِ، ثم لمَّا قدمَ عليٌّ رضي الله عنه الكوفةَ أظهرَ الغلوَّ في عليٍّ رضي الله عنه ، والنصَّ عليهِ ليتمكنَ بذلك منْ أغراضهِ وبلغَ ذلك عليًّا فطلبَ قتلهُ فهربَ منه إلى قرقيسيا، وخبرُه معروفٌ ، وقد ذكرهُ غيرُ واحدٍ من العلماءَ، وإلا فمنْ له أدنَى خبرةٍ بدينِ الإسلامِ يعلمُ أن مذهبَ الرافضةِ مناقضٌ له، ولهذا كانتِ الزنادقةُ الذينَ قصدهُم إفسادُ الإسلامِ يأمرونَ بإظهارِ التشيعِ والدخولِ إلى مقاصدهِمْ من بابِ الشيعةِ، كما ذكرَ ذلكَ إمامُهم صاحبُ البلاغِ الأكبر ِوالناموسِ الأعظمِ، قال القاضي أبو بكر بن الطيِّب : وقد اتفقَ جميعُ الباطنيةِ وكلَّ مصنِّفٍ لكتابٍ ورسالةٍ منهُم في ترتيبِ الدعوةِ المضلَّةِ على أنْ منْ سبيلِ الداعي إلى دينهِم ورجسهِم المجانبِ لجميعِ أديانِ الرسلِ والشرائعِ أن يجيبَ الداعيَ إليه الناسَ بما يبين وما يظهرُ له من أحوالهِم ومذاهبهم، وقالوا لكلِّ داعٍ لهم إلى ضلالتهِم ما أنا حاكٍ لألفاظهِم وصيغةِ قولهِم بغيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ ، ليُعلمَ بذلك كفرهِم وعنادهِم لسائرِ الرسلِ والمللِ، فقالوا للداعي: يجبُ عليكَ إذا وجدتَ مَن تدعوهُ مسلماً أن تجعلَ التشيعَ عنده دينَك وشعارَك، واجعلِ(1/169)
المدخلَ عليه من جهةِ ظلمِ السلفِ وقتلهِم الحسينَ رضي الله عنه ، وسبيهِم نساءَه وذريتَه والتبرِّي من تيمٍ وعديٍّ ومنْ بني أميةَ وبني العباسِ، وأن تكون قائلاً بالتشبيهِ والتجسيمِ والبدءِ120 والتناسخِ121 والرجعةِ122 والغلوِّ، وأنَّ عليًّا إلهٌ يعلمُ الغيبُ مفوَّضٌ إليه خلقُ العالمِ ، وما أشبهَ ذلكَ من أعاجيبِ الشيعةِ وجهلهِم ، فإنهم أسرعُ إلى إجابتِك بهذا الناموسِ حتى تتمكنَ منهم ، مما تحتاجُ إليه أنت ومن بعدكَ ممنْ تثقُ به من أصحابِك فترقيِّهِم إلى حقائقِ الأشياءِ حالاً فحالاً، ولا تجعلْ كما جعلَ المسيحُ ناموسَهُ في زُور موسى القولُ بالتوراة وحفظُ السبتِ ، ثم عجَّلَ وخرجَ عن الحدِّ وكان له ما كانَ يعني من قتلهِم له بعد تكذيبهِم إياهُ ، وردَّهُم عليه وتفرُّقَهم عنه، فإذا آنستَ من بعضِ الشيعةِ عندَ الدعوةِ إجابةً ورشداً أوفقتْهُ على مثالبِ عليٍّ وولدهِ ، وعرَّفتَه حقيقةَ الحقِّ لمنْ هوَ، وفيمنْ هو وباطلَ بطلانِ كلِّ ما عليه أهلُ ملَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وغيرهِ من الرسلِ، ومن وجدتَه صابئاً فأدخلْه مداخلَهُ بالأشانيعِ وتعظيمِ الكواكبِ، فإن ذلك دينُنا ،وجُلُّ مذهبِنا في أولِ أمرِنا وأمرهِم من جهةِ الأشانيعِ، يقربُ عليكَ أمرهُ جدًّا ، ومن وجدتَهُ مجوسيًّا اتفقتَ معهُ في الأصلِ في الدرجةِ الرابعةِ من تعظيمِ النارِ والنور ِوالشمسِ والقمرِ ، واتلُ عليهم أمرَ السابقِ وأنه نهرٌ منَ الذي يعرفونَهُ وثالثُهُ المكنونِ من ظنِّه الجيدَ والظلمةَ المكتوبةَ، فإنهم معَ الصابئينَ أقربَ الأممِ إلينا وأولاهُم بنا، لولا يسيرٌ صحَّفوهُ بحهلهِم بهِ، قالوا : وإنْ ظفرتَ بيهوديٍّ فادخلْ عليهِ من جهةِ انتظارِ المسيحِ، وأنهُ المهديُّ الذي ينتظرهُ المسلمونَ بعينهِ، وعظِّمِ السبتَ عندهُم، وتقربْ إليهِم بذلكَ وأعلمْهم أنهُ مثلٌ يدلُّ على ممثولٍ ، وأنَّ ممثولَهُ يدلُّ على السابعِ المنتظرِ، يعنونَ محمدَ(1/170)
بنِ إسماعيلَ بن جعفر ، وأنه دورُه وأنهُ هو المسيحُ وهو المهديُّ، وعند معرفتِه تكونُ الراحةُ من الأعمالِ وتركِ التكليفاتِ، كما أُمروا بالراحةِ يومَ السبتِ، وأن راحةَ السبتِ هو دلالةٌ على الراحةِ من التكليفِ والعباداتِ في دور السابعِ المنتظَرِ، وتقرَّبْ منْ قلوبهِم بالطعنِ على النصارَى والمسلمينَ الجهَّال الحيارَى الذينَ يزعمونَ أن عيسَى لم يولدْ ولا أبَ لهُ، وقوِّ في نفوسِهم أنَّ يوسفَ النجارَ أبوهُ ،وأنَّ مريمَ أمُّهُ وأن يوسفَ النجارِ كانَ ينالُ منها ما ينالُ الرجالُ من النساءِ، وما شاكلَ ذلكَ، فإنهم لنْ يلبَثوا أن يتَّبعوك، قال : وإنْ وجدتَ المدَّعي نصرانيًّا فادخلْ عليه بالطعنِ على اليهودِ والمسلمينَ جميعاً وصحةِ قولهِم في الثالوثِ وأنَّ الأبَ والابنَ وروحَ القدسِ صحيحٌ، وعظمِ الصليبَ عندهُم، وعرِّفْهُم تأويلَهُ، وإنْ وجدتَهُ مثانيًّا فإنَّ المثانيةَ تحركُ الذي منه يعترفُ فداخلهم بالممازجةِ في البابِ السادسِ في الدرجةِ السادسةِ من حدودِ البلاغِ التي يصفُها من بعدُ، وامتزجَ بالنورِ وبالظلامِ ، فإنكَ تملكُهم بذلكَ، وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا وقد أجمعنا نحن وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك والمدخل عليه بإبطال التوحيد والقول بالسابق والتالي ورتب له ذلك على ما هو مرسومٌ لكَ في أولِ درجةِ البلاغِ وثانيهِ وثالثهِ(1/171)
، وسنصف لك عنهم من بعدُ، واتخذْ غليظَ العهودِ وتوكيدَ الأيمانِ وشدةَ المواثيقِ جُنَّةً لكَ ،وحصناً ، ولا تهجمْ على مستجيبِك بالأشياءَ الكبارِ التي يستبشعونها حتى ترَقِّيَهُم إلى أعلى المراتبِ حالاً فحالاً ، وتدرجَهم درجةً درجةً على ما سنبينُهُ منْ بعدِ وقفٍ بكلِّ فريقٍ حيثُ احتمالُهم ؛ فواحدٌ لا تزيدُه على التشيُّعِ والائتمامِ بمحمدِ بن إسماعيل، وأنهُ حيٌّ لا تجاوزْ بهِ هذا الحدَّ ، لا سيَّما إنْ كان مثلُه ممنْ يكثَرُ بهِ وبموضعِ اسمهِ، وأظهرْ لهُ العفافَ عن الدرهمِ والدينار ِ، وخففَ عليهِ وطأتكَ مرةً بصلاةِ السبعينَ، وحذِّرْهُ الكذبَ والزنا واللواطَ وشربَ النبيذِ، وعليكِ في أمرهِ بالرفقِ والمداراةِ لهُ والتوددِ، وتصبَّرْ لهُ إنْ كانَ هواهُ متبَّعاً لك تحظَ عندهُ ، ويكونُ لكَ عوناً على دهرِكَ ،وعلى منْ لعلهُ يعاديكَ من أهلِ المللِ، ولا تأمنْ أنْ يتغيرَ عليكَ بعضُ أصحابِك ،ولا تخرجْهُ عن عبادةِ إلههِ والتديُّنِ بشريعةِ محمدٍ نبيهِ صلى الله عليه وسلم ، والقولِ بإمامةِ عليٍّ وبنيهِ إلى محمد بن إسماعيل، وأقمْ له دلائلَ الأسابيعَ فقطْ ، ودقَّهُ بالصومِ والصلاةِ دقًّا ، وشدةِ الاجتهادِ ، فإنك يومئذٍ إنْ أومأتَ إلى كريمتِه فضلاً عن مالِه لمْ يمنعْكَ، وإنْ أدركتْهُ الوفاةُ فوضَ إليكَ ما خلَّفهُ وورَّثكَ إياهُ ، ولم يرَ في العالمِ منْ هوَ أوثقُ منكَ، وآخرُ ترقيةٍ إلى نسخِ شريعةِ محمدٍ، وأن السابعَ هو الخاتَمُ للرسلِ، وأنه ينطقُ كما ينطقونَ ويأتي بأمرٍ جديدٍ، وأن محمداً صاحبُ الدورِ السادسِ، وأنَّ عليًّا لم يكنْ إماماً ،وإنما كانَ سوساً لمحمدٍ، وحسِّنِ القولَ فيه وإلا سياسيةً، فإنَّ هذا بابٌ كبيرٌ وعملٌ عظيمٌ منه ترقَى إلى ما هو أعظمُ منه وأكبرُ منه، ويعينُك على زوالِ ما جاءَ بهِ من قبلكَ من وجوبِ زوالِ النبواتِ على المنهاجِ الذي هو عليهِ، وإياكَ أن ترتفعَ من هذا البابِ إلا إلى منْ(1/172)
تقدِّرُ فيه النجابةَ، وآخرُ ترقيةٍ من هذا إلى معرفةِ القرآنِ ومؤلفهِ وسببهِ، وإياكَ أن تغترَّ بكثيرٍ ممنْ يبلغْ معكَ إلى هذهِ المنزلةِ فترقِّيهِ إلى غيرِها ألَّا يغلطونَ المؤانسةَ والمدارسةَ واستحكامَ الثقةِ به ، فإنَّ ذلكَ يكونُ لك عوناً على تعطيلِ النبواتِ والكتبِ التي يدَّعونها منزلةً من عندِ اللهِ، وآخرُ ترقيةٍ إلى إعلامهِ أنَّ القائمَ قد ماتَ وأنهُ يقومُ روحانيًّا ، وأنَّ الخلقَ يرجعونَ إليه بصورةٍ روحانيةٍ تفصلُ بينَ العبادِ بأمر اللهِ عزَّ وجلَّ، ويستصفي المؤمنينَ من الكافرينَ بصورةٍ روحانيةٍ، فإنَّ ذلكَ يكونُ أيضاً عوناً لك عندَ إبلاغهِ إلى إبطالِ المعادِ الذي يزعمونَهُ ، والنشورِ منَ القبرِ، وآخرُ ترقيةٍ من هذا إلى إبطالِ أمرِ الملائكةِ في السماءِ والجنِّ في الأرضِ، وأنه كانَ قبل آدمَ بشرٌ كثيرٌ ، وتقيمُ على ذلك الدلائلَ المرسومةَ في كتبِنا ، فإنَّ ذلك مما يعينكَ وقتَ بلاغهِ على تسهيلِ التعطيلِ للوحيِ والإرسالِ إلى البشرِ بملائكةٍ والرجوعِ إلى الحقِّ، والقولِ بقدمِ العالمِ ،وآخرُ ترقيةٍ إلى أوائلِ درجةِ التوحيدِ وتدخلُ عليه بما تضمنهُ كتابُهم المترجمُ بكتابِ الدرسِ الشافعيِّ للنفسِ ، من أنه لا إلهَ ولا صفةَ ولا موصوفَ، فإن ذلكَ يعينُك على القولِ بالإلهيةِ لمستحقِّها عند البلاغِ وإلى ذلكَ يعنونَ بهذا أنَّ كلَّ داعٍ منهُم يترقَّى درجةً درجةً إلى أن يصيرَ إماماً ناطقاً، ثم ينقلبُ إلهاً روحانيًّا على ما سنشرحُ قولهِم فيهِ من بعدُ، قالوا : ومن بلَّغتهُ إلى هذا المنزلةِ فعرفْهُ حسبَ ما عرَّفناكَ من حقيقةِ أمرِ الإمامِ، وأن إسماعيلَ وأباهُ محمداً كانا من نوابهِ، ففي ذلك عونٌ لكَ على إبطالِ إمامةِ عليٍّ وولدهِ عند البلاغِ والرجوعِ إلى القولِ بالحقِّ، ثم لا يزالُ كذلك شيئاً فشيئاً حتى يبلغَ الغايةَ القُصوى على تدريجِ يصفهُ عنهم فيما بعدُ، قال القاضي: فهذهِ وصيتُهُم جميعاً(1/173)
للداعي إلى مذاهبِهم، وفيها أوضحُ دليلٍ لكلِّ عاقلٍ على كفرِ القومِ وإلحادهِم وتصريحِهم بإبطالِ حدوثِ العالمِ ومحدثِه وتكذيبِ ملائكتهِ ورسلهِ وجحدِ المعادِ والثوابِ والعقابِ، وهذا هو الأصلُ لجميعِهم ،وإنما يتمحرقونَ بذكرِ الأولِ والثاني والناطقِ والأساسِ إلى غير ِ ذلك، ويخدعونَ به الضعفاءَ حتى إذا استجابَ لهمْ مستجيبٌ أخذوهُ بالقول بالدهرِ والتعطيلِ، وسأصفُ من بعدُ من عظيمِ سبِّهم لجميعِ الرسلِ صلوات الله وسلامهُ عليهم وتجريدِهم القولُ بالاتحادِ، وأنهُ نهايةُ دعوتهِم ما يعلمُ به كلُّ قارئٍ لهُ عظيمَ كفرهِم وعنادهِم للدِّينِ.
قلتُ: وهذا بيِّنٌ فإنَّ الملاحدةَ من الباطنيةِ الإسماعيليةِ وغيرهم والغلاةَ النصيريةَ وغيرَ النصيريةِ إنما يظهرونَ التشيعَ وهم في الباطنِ أكفرُ منَ اليهود ِ والنصارى ، فدلَّ ذلكَ على أنَّ التشيعَ دهليزُ الكفرِ والنفاقِ، والصِّديقُ رضي الله عنه هو الإمامُ في قتالِ المرتدينَ، وهؤلاءِ مرتدونَ.123
63- الفرق بين الخوارج والرافضة(1/174)
ج- إنَّ دِينَ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ ، وَالْجَافِي عَنْهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفِرَ : إمَّا إفْرَاطٌ فِيهِ وَإِمَّا تَفْرِيطٌ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ قَدْ اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ ؛ حَتَّى أَخْرَجَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ ؛ بَلْ أَخْرَجَ طَوَائِفَ مِنْ أَعْبَدْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَوْرَعِهَا عَنْهُ حَتَّى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ . وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْهُ ؛ فَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَسَهْلِ بْن حنيف وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أَوْ فَقَاتِلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَفِي رِوَايَةٍ { شَرُّ قَتِيلٍ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ }(1/175)
وَفِي رِوَايَةٍ { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَا زُوِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ }124 . وَهَؤُلَاءِ لَمَّا خَرَجُوا فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْضِيضِهِ عَلَى قِتَالِهِمْ . وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ . وَلِهَذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا " الرَّافِضَةَ " الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُمْ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ سِوَاهُمْ كَافِرٌ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ يُؤْمِنُ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا . فَإِنَّهُمْ يَمْسَحُونَ الْقَدَمَيْنِ وَلَا يَمْسَحُونَ عَلَى الْخُفِّ وَيُؤَخِّرُونَ الْفُطُورَ وَالصَّلَاةَ إلَى طُلُوعِ النَّجْمِ وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَيَقْنُتُونَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَيُحَرِّمُونَ الْفُقَّاعَ وَذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ وَيَقُولُونَ عَلَى(1/176)
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَقْوَالًا عَظِيمَةً لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا هُنَا إلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ ، فَقَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَإِذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَدْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَنْ مَرَقَ مِنْهُ مَعَ عِبَادَتِهِ الْعَظِيمَةِ ؛ حَتَّى أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُنْتَسِبَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَدْ يَمْرُقُ أَيْضًا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَدَّعِيَ السُّنَّةَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بَلْ قَدْ مَرَقَ مِنْهَا وَذَلِكَ " بِأَسْبَابِ " : - مِنْهَا الْغُلُوُّ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) [النساء/171] } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) [المائدة/77] }، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ(1/177)
فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِى الدِّينِ ". وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ125 . وَمِنْهَا التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : وَمِنْهَا أَحَادِيثُ تُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ يَسْمَعُهَا الْجَاهِلُ بِالْحَدِيثِ فَيُصَدِّقُ بِهَا لِمُوَافَقَةِ ظَنِّهِ وَهَوَاهُ .
س64- ماذا ينسب الرافضة لمشايخهم؟(1/178)
ج- وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا يَنْسُبُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ وَالصُّوفِيَّةِ إلَى الْمَشَايِخِ الصَّادِقِينَ : مِنْ الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ أَوْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِهِمْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ يَكُونُ مِنْ غَلَطَاتِ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَزَلَّاتِهِمْ أَوْ مِنْ ذُنُوبِ بَعْضِهِمْ وَخَطَئِهِمْ مِثْلُ : كَثِيرٍ مِنْ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ أَوْ بِوَجْهِ غَيْرِ سَائِغٍ فَيُعْفَى عَنْهُ أَوْ يَتُوبُ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ يُغْفَرُ لَهُ بِهَا أَوْ مَصَائِبُ يُكَفَّرُ عَنْهُ بِهَا أَوْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ ذَوِي الزهادات وَالْعِبَادَاتِ وَالْمَقَامَاتِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ مِنْ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ أَوْ الْمُنَافِقِينَ أَوْ الْكَافِرِينَ . وَهَذَا كَثِيرٌ مَلَأَ الْعَالَمَ تَجِدُ كُلَّ قَوْمٍ يَدَّعُونَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ مَا لَا يَدَّعِي الْمُرْسَلُونَ وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ خَوَاصِّهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلَ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَيَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ وَتَفْسِيرَاتٍ بَاطِلَةٍ . مِثْلُ قَوْلِهِمْ عَنْ عُمَرَ : " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ بِحَدِيثِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا " فَيَجْعَلُونَ عُمَرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدِيقِهِ كَالزِّنْجِيِّ وَهُوَ حَاضِرٌ يَسْمَعُ الْكَلَامَ . ثُمَّ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِمَا قُذِفَ فِي قَلْبِهِ وَيَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمْ : أَنَّ ذَلِكَ(1/179)
هُوَ مَا يَقُولُهُ مِنْ الزُّورِ وَالْبَاطِلِ وَلَوْ ذَكَرْت مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَصْنَافِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ لَطَالَ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لِلشَّيْخِ قَصَائِدَ يُسَمِّيهَا " جَنِيبَ الْقُرْآنِ " وَيَكُونُ وَجْدُهُ بِهَا وَفَرَحُهُ بِمَضْمُونِهَا أَعْظَمَ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ أُمُورٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَهُ قَصَائِدَ فِي الِاتِّحَادِ وَأَنَّهُ خَالِقُ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ وَيَعْبُدُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُ رَبَّهُ فِي قَصَائِدِهِ بِمَا نُقِلَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ أَصْنَافِ التَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّجْسِيمِ الَّتِي هِيَ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَكُفْرٌ صَرِيحٌ : مِثْلُ مُوَاكَلَتِهِ وَمُشَارَبَتِهِ وَمُمَاشَاتِهِ وَمُعَانَقَتِهِ وَنُزُولِهِ إلَى الْأَرْضِ وَقُعُودِهِ فِي بَعْضِ رِيَاضِ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيَجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَخْزُونَةِ وَالْعُلُومِ الْمَصُونَةِ الَّتِي تَكُونُ لِخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ : أَنَّك تَجِدُ عِنْدَ الرَّافِضَةِ وَالْمُتَشَيِّعَةِ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ مِنْ دَعْوَى عُلُومِ الْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ الَّتِي يَدَّعُونَ أَخْذَهَا عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إمَّا مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَإِمَّا مِنْ عِلْمِ الْحَوَادِثِ الْكَائِنَةِ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ التَّوَاصِي بِكِتْمَانِهَا وَالْإِيمَانِ بِمَا لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَجَمِيعُهَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَإِفْكٌ مُفْتَرًى . فَإِنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ " الرَّافِضَةَ " مِنْ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَادِّعَاءً لِلْعِلْمِ(1/180)
الْمَكْتُومِ وَلِهَذَا انْتَسَبَتْ إلَيْهِمْ الْبَاطِنِيَّةُ وَالْقَرَامِطَةُ . وَهَؤُلَاءِ خَرَجَ أَوَّلُهُمْ فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَارُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُ خُصَّ بِأَسْرَارِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْوَصِيَّةِ حَتَّى كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ فَيُخْبِرُهُمْ بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ . وَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ قِيلَ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَنْفِي ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ . وَقَدْ خَرَّجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَلَامَ عَلِيٍّ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ " أَبِي جحيفة " قَالَ : " سَأَلْت عَلِيًّا هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ الرَّجُلَ فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ . قُلْت : وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ ؟ قَالَ : الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنَّ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ " وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ " هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ غَيْرُ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ "126 . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي عَنْ أَبِيهِ - وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ إسْنَادٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ - عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ مَا عِنْدَنَا شَىْءٌ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ ، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - " الْمَدِينَةُ حَرَمٌ ، مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا ، أَوْ آوَى مُحْدِثًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ(1/181)
وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ " . وَقَالَ " ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ ، وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ "127.
65- أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسَّابِقِينَ الأولين وَأَتْبَعُهُمْ لَهُمْ(1/182)
ج-أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسَّابِقِينَ وَأَتْبَعُهُمْ لَهُمْ : هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ . وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَةِ عبدوس بْنِ مَالِكٍ : " أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا : التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ .128 وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا : آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَهِيَ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ أَيْ دَلَالَاتٌ عَلَى مَعْنَاهُ . وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ : أَنَّ الرَّفْضَ أَسَاسُ الزَّنْدَقَةِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ إنَّمَا كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ فَإِنَّهُ إذَا قَدَحَ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ فَقَدْ قَدَحَ فِي نَقْلِ الرِّسَالَةِ أَوْ فِي فَهْمِهَا أَوْ فِي اتِّبَاعِهَا . فَالرَّافِضَةُ تَقْدَحُ تَارَةً فِي عِلْمِهِمْ بِهَا وَتَارَةً فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهَا - وَتُحِيلُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَعَلَى الْمَعْصُومِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْوُجُودِ . وَالزَّنَادِقَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والنصيرية وَغَيْرِهِمْ : يَقْدَحُونَ تَارَةً فِي النَّقْلِ : وَهُوَ قَوْلُ جُهَّالِهِمْ . وَتَارَةً يَقْدَحُونَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ : وَهُوَ قَوْلُ حُذَّاقِهِمْ كَمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ والاتحادية وَنَحْوِهِمْ . حَتَّى كَانَ التلمساني مَرَّةً مَرِيضًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَمَعَهُ بَعْضُ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ فَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي الْفِكْرِ : أَنَّهُ حِجَابٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ مَدَارُهُ عَلَى الْكَشْفِ وَغَرَضُهُ كَشْفُ الْوُجُودِ(1/183)
الْمُطْلَقِ فَقَالَ ذَلِكَ الطَّالِبُ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ : " أَفْضَلُ عَمَلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ : التَّفَكُّرُ ؟ 129" فَتَبَرَّمَ بِدُخُولِ مِثْلِ هَذَا عَلَيْهِ وَقَالَ لِلَّذِي جَاءَ بِهِ : كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا ؟ ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرِي يَا بُنَيَّ مَا مِثْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَمْثَالِهِ ؟ مَثَلُهُمْ : مَثَلُ أَقْوَامٍ سَمِعُوا كَلَامًا وَحَفِظُوهُ لَنَا حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِينَ نَفْهَمُهُ وَنَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِهِ وَمَثَلُ بَرِيدٍ حَمَلَ كِتَابًا مِنْ السُّلْطَانِ إلَى نَائِبِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَقَدْ طَالَ عَهْدِي بِالْحِكَايَةِ حَدَّثَنِي بِهَا الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ثِقَةٌ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ فِي هَذَا . وَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْفُنُونِ جَوَلَانٌ كَثِيرٌ . وَكَذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ : يَذْكُرُ مِنْ التَّنَقُّصِ بِالصَّحَابَةِ مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَشِيعَتِهِ الْقَرَامِطَةِ ؛ حَتَّى تَجِدَهُمْ إذَا ذَكَرُوا فِي آخِرِ الْفَلْسَفَةِ حَاجَةَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إلَى الْإِمَامَةِ عَرَّضُوا بِقَوْلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ لَكِنَّ أُولَئِكَ يُصَرِّحُونَ مِنْ السَّبِّ بِأَكْثَرِ مِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ " الرَّافِضَةِ " " وَالْقَرَامِطَةِ " " والاتحادية " اقْتِرَانًا وَاشْتِبَاهًا . يَجْمَعُهُمْ أُمُورٌ . مِنْهَا : الطَّعْنُ فِي خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفِيمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَيَدَعُونَ بَاطِنًا امْتَازُوا بِهِ وَاخْتَصُّوا بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَلَاعِنُونَ مُتَبَاغِضُونَ مُخْتَلِفُونَ كَمَا رَأَيْت وَسَمِعْت مِنْ ذَلِكَ مَا لَا(1/184)
يُحْصَى كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) [المائدة/14، 15] } وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) [المائدة/64] } . وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ المخلطون الَّذِينَ يَكُونُونَ تَارَةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ - وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعِينَ - وَتَارَةً مَعَ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ . وَتَارَةً مَعَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ . وَتَارَةً يُقَابِلُونَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَيَنْتَظِرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ . وَتَارَةً يَتَحَيَّرُونَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ . وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْأَخِيرَةُ قَدْ كَثُرَتْ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا لَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ التُّرْكِ عَلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ .
66- قول الرافضة في عصمة الأنبياء من الصغائر(1/185)
ج- إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَجَمِيعِ الطَّوَائِفِ حَتَّى إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَ " أَبُو الْحَسَنِ الآمدي " أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ بَلْ هُوَ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُمْ مَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ . وَإِنَّمَا نُقِلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ الرَّافِضَةِ ثُمَّ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَعَامَّةُ مَا يُنْقَلُ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ عَنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا لَا تَقَعُ بِحَالِ وَأَوَّلُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ الْقَوْلُ بِالْعِصْمَةِ مُطْلَقًا وَأَعْظَمُهُمْ قَوْلًا لِذَلِكَ : الرَّافِضَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ حَتَّى مَا يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ وَالسَّهْوِ وَالتَّأْوِيلِ . وَيَنْقُلُونَ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ إمَامَتَهُ وَقَالُوا بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ وَالِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ " الإسماعيلية " الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْقَاهِرَةِ وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خُلَفَاءُ عَلَوِيُّونَ فَاطِمِيُّونَ وَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ ذُرِّيَّةِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ كَانُوا هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ يَقُولُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ لِأَئِمَّتِهِمْ وَنَحْوِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ(1/186)
كَمَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ - قَالَ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَقَدْ صَنَّفَ " الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى " وَصْفَ مَذَاهِبِهِمْ فِي كُتُبِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْغُلَاةِ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ وَقَدْ يُكَفِّرُونَ مَنْ يُنْكِرُ الْقَوْلَ بِهَا وَهَؤُلَاءِ الْغَالِيَةُ هُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ كَفَّرَ الْقَائِلِينَ بِتَجْوِيزِ الصَّغَائِرِ عَلَيْهِمْ كَانَ مُضَاهِيًا لِهَؤُلَاءِ الإسماعيلية والنصيرية وَالرَّافِضَةِ وَالِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ . لَيْسَ هُوَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٍ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا الْمُتَكَلِّمِينَ - الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ الْمَشْهُورِينَ - كَأَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَلَا أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ وَلَا الْحَدِيثِ وَلَا التَّصَوُّفِ
67- أيهما أفضل أبو بكر أم عليٍّ رضي الله عنهما؟(1/187)
ج- يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ التَّفْضِيلَ إذَا ثَبَتَ لِلْفَاضِلِ مِنْ الْخَصَائِصِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِلْمَفْضُولِ فَإِذَا اسْتَوَيَا وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِخَصَائِصَ كَانَ أَفْضَلَ وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ فَلَا تُوجِبُ تَفْضِيلَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفَضَائِلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ وَفَضَائِلُ عَلِيٍّ مُشْتَرَكَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: " " لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِى قُحَافَةَ خَلِيلاً وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ "130 وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: " " إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ، إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِى بَكْرٍ "131 وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ : " " إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ " . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَقُلْتُ فِى نَفْسِى مَا يُبْكِى هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْعَبْدَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا . قَالَ " يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ(1/188)
الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِى بَكْرٍ " "132
وَهَذَا فِيهِ ثَلَاثُ خَصَائِصَ لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ :
( الْأُولَى : أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ مِثْلُ مَا لِأَبِي بَكْرٍ .
( الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : " { لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ } . . . إلَخْ " وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَهُ دُونَ سَائِرِهِمْ ؛ وَأَرَادَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنْ يَرْوِيَ لِعَلِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَوْضُوعُ(1/189)
( الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : " { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا } نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنْ الْبَشَرِ اسْتَحَقَّ الْخَلَّةَ لَوْ أَمْكَنْت إلَّا هُوَ وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَكَانَ أَحَقَّ بِهَا لَوْ تَقَعُ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مُدَّةَ مَرَضِهِ مِنْ الْخَصَائِصِ ؛ وَكَذَلِكَ تَأْمِيرُهُ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى الْحَجِّ لِيُقِيمَ السُّنَّةَ وَيَمْحَقَ آثَارَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْيَوْمِ الَّذِى بُدِئَ فِيهِ فَقُلْتُ وَارَأْسَاهُ. فَقَالَ " وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ فَهَيَّأْتُكِ وَدَفَنْتُكِ ". قَالَتْ فَقُلْتُ غَيْرَى كَأَنِّى بِكَ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ عَرُوساً بِبَعْضِ نِسَائِكَ ". قَالَ " وَأَنَا وَارَأْسَاهُ ادْعُو إِلَىَّ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لأَبِى بَكْرٍ كِتَاباً فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَيَتَمَنَّى مُتَمَنِّى أَنَا أَوْلَى. وَيَأْبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ "133 وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُسَاوِيهِ .(1/190)
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِعَلِىٍّ رضي الله عنه : " { أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك } فَقَدْ قَالَهَا لِغَيْرِهِ ، وَقَالَهَا لِسَلْمَانَ134 والأشعريين135 . وَقَالَ تَعَالَى عن المنافقينَ : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) [التوبة/56] } ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا "136 يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ الْكَبَائِرَ يَكُونُ مِنَّا فَكُلُّ مُؤْمِنٍ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ النَّبِيِّ وَالنَّبِيُّ مِنْهُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لعليٍّ فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ : { أَنْتِ مِنِّي وَأَنَا مِنْك } وَقَوْلُهُ لِزَيْدِ : { أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا } لَا يَخْتَصُّ بِزَيْدِ بَلْ كُلُّ مَوَالِيهِ كَذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يومَ خيبرٍ: " " لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ " . فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى ، فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى فَقَالَ " أَيْنَ عَلِىٌّ " . فَقِيلَ يَشْتَكِى عَيْنَيْهِ ، فَأَمَرَ فَدُعِىَ لَهُ ، فَبَصَقَ فِى عَيْنَيْهِ ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ شَىْءٌ فَقَالَ نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا . فَقَالَ " عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ " 137" هُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي فَضْلِهِ وَزَادَ فِيهِ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنَّهُ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ(1/191)
وَعُمَرُ فَهَرَبَا ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ " لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ " . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا أَحْبَبْتُ الإِمَارَةَ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ - قَالَ - فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا - قَالَ - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَقَالَ " امْشِ وَلاَ تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ " . قَالَ فَسَارَ عَلِىٌّ شَيْئاً ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَصَرَخَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ قَالَ " قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ "138 ، فَهَذَا الْحَدِيثُ رَدٌّ عَلَى النَّاصِبَةِ139 الْوَاقِعِينَ فِي عَلِيٍّ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ بَلْ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَامِلُ الْإِيمَانِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) [المائدة/54] } ، وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَإِمَامُهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضيَ اللهُ عنهُ ،وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ(1/192)
حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَىُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ " عَائِشَةُ " . فَقُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ فَقَالَ " أَبُوهَا " . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ " ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " . فَعَدَّ رِجَالاً140 ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لعليٍّ رضي الله عنه : " " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى "141 قَالَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقِيلَ اسْتَخْلَفَهُ لِبُغْضِهِ إيَّاهُ ،وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا اسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِهِ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِينَ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ إلَّا لِعُذْرِ أَوْ عَاصٍ . فَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِخْلَافُ ضَعِيفًا فَطَعَنَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ بِهَذَا السَّبَبِ فَبَيَّنَ لَهُ أَنِّي لَمْ أَسْتَخْلِفْك لِنَقْصِ عِنْدِي ؛ فَإِنَّ مُوسَى اسْتَخْلَفَ هَارُونَ وَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الرِّسَالَةِ أَفَمَا تَرْضَى بِذَلِكَ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ قَبْلَهُ وَكَانُوا مِنْهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يُخْفِ عَلَى عَلِيٍّ وَلَحِقَهُ يَبْكِي . وَمِمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ هَذَا أَمَّرَ عَلَيْهِ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَكَوْنُهُ بَعَثَهُ لِنَبْذِ الْعُهُودِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمَّا جَرَتْ أَنَّهُ لَا(1/193)
يَنْبِذُ الْعُهُودَ وَلَا يَعْقِدُهَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ : فَأَيُّ شَخْصٍ مِنْ عِتْرَتِهِ نَبَذَهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ بَنِي هَاشِمٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ سَائِرِهِمْ فَلَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " { أَمَا تَرْضَى } . . . إلَخْ " عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِهِ فِي الِاسْتِخْلَافِ خَاصَّةً وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَشَبَّهَ عُمَرَ بِنُوحِ وَمُوسَى - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَشَارَا فِي الْأَسْرَى وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَشْبِيهِ عَلِيٍّ بِهَارُونَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لِمُشَابَهَتِهِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ : " { مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ }142 . . . إلَخْ " فَهَذَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُمَّهَاتِ ؛ إلَّا فِي التِّرْمِذِيِّ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا : " " مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاَهُ "143 وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ . وَسُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ أَحْمَد فَقَالَ : زِيَادَةٌ كُوفِيَّةٌ
وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا كَذِبٌ لِوُجُوهِ :(1/194)
( أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَقَّ لَا يَدُورُ مَعَ مُعَيَّنٍ إلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا يُنَازِعُهُ الصَّحَابَةُ وَأَتْبَاعُهُ فِي مَسَائِلَ وُجِدَ فِيهَا النَّصُّ يُوَافِقُ مَنْ نَازَعَهُ : كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ . وَقَوْلُهُ : " " اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ "144 " خِلَافُ الْوَاقِعِ ؛ قَاتَلَ مَعَهُ أَقْوَامٌ يَوْمَ " صفين " فَمَا انْتَصَرُوا وَأَقْوَامٌ لَمْ يُقَاتِلُوا فَمَا خُذِلُوا : " كَسَعْدِ " الَّذِي فَتَحَ الْعِرَاقَ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ وَبَنِيَّ أُمَيَّةَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ وَنَصَرَهُمْ اللَّهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: " { اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ }145 مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ مَعَ قِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَوْلُهُ : " { مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ } فَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ حَسَّنَهُ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ فَلَمْ يُرِدْ بِهِ وِلَايَةً مُخْتَصًّا بِهَا ؛ بَلْ وِلَايَةً مُشْتَرِكَةً وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِيمَانِ الَّتِي لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سِوَاهُمْ فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّوَاصِبِ .(1/195)
وَحَدِيثُ " { التَّصَدُّقِ بِالْخَاتَمِ فِي الصَّلَاةِ } كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ بِوُجُوهِ كَثِيرَةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ146 .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ : " أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِىَ رَسُولُ رَبِّى فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ ". فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ " وَأَهْلُ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى ". فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ وَمَنْ هُمْ قَالَ هُمْ آلُ عَلِىٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ . قَالَ كُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ قَالَ نَعَمْ.147(1/196)
فَلَيْسَ مِنْ الْخَصَائِصِ بَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الرَّافِضَةُ ؛ فَإِنَّهُمْ يُعَادُونَ الْعَبَّاسَ وَذُرِّيَّتَهُ ؛ بَلْ يُعَادُونَ جُمْهُورَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَيُعِينُونَ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا آيَةُ " الْمُبَاهَلَةِ148 " فَلَيْسَتْ مِنْ الْخَصَائِصِ بَلْ دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَلْ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ أَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْكِسَاءِ : " عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ جَاءَ عَلِىٌّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ قَالَ ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ). فَدَعَا لَهُمْ وَخَصَّهُمْ149 . وَ " الْأَنْفُسُ " يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالنَّوْعِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) [النور/11-13] } وَقَالَ : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ(1/197)
بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) [البقرة/54] } أَيْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم: " { أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك }150 لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَعْظَمُ النَّاسِ قَدْرًا مِنْ الْأَقَارِبِ ؛ فَلَهُ مِنْ مَزِيَّةِ الْقَرَابَةِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يُوجَدُ لِبَقِيَّةِ الْقَرَابَةِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُبَاهَلَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْأَقَارِبِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُبَاهَلَةَ وَقَعَتْ فِي الْأَقَارِبِ وَقَوْلُهُ تعالى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) [الحج/19-23] } فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بَلْ وَسَائِرُ الْبَدْرِيِّينَ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا151 . وَأَمَّا سُورَةُ : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) [الإنسان/1، 2] } فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي فَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا فَهَذَا كَذِبٌ ؛ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ إنَّمَا وُلِدَا فِي الْمَدِينَةِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ(1/198)
مَنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ بَلْ الْآيَةُ عَامَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ فِيمَنْ فَعَلَ هَذَا وَتَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلثَّوَابِ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ .152
68- الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر وعمر على عثمان وعثمان على عليٍّ رضي الله عنهم أجمعين(1/199)
ج- أَمَّا تَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَهْلِ مِصْرَ والأوزاعي وَأَهْلِ الشَّامِ ؛ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ : مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ . وَحَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِمَّنْ أَقْتَدِي بِهِ يَشُكُّ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْتُ لأَبِى أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أَبُو بَكْرٍ . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ . وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ قُلْتُ ثُمَّ أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .153 وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ ؛ بَلْ قَالَ : لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي154 . فَمَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما جُلِدَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَمَانِينَ سَوْطًا . وَكَانَ(1/200)
سُفْيَانُ يَقُولُ مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْر فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ ؛ وَمَا أَرَى أَنَّهُ يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ - وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ . 155وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ رُوِيَ هَذَا التَّفْضِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ " هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلاَّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ "156. وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ }157 يَعْنِي نَفْسَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ خَطَبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ " . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَقُلْتُ فِى نَفْسِى مَا يُبْكِى هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْعَبْدَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا . قَالَ " يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ(1/201)
الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِى بَكْرٍ "158 وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُخَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً مِنْ الْمَخْلُوقِينَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَىُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ " عَائِشَةُ " . فَقُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ فَقَالَ " أَبُوهَا " . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ " ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " . فَعَدَّ رِجَالاً159. وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى مَرَضِهِ " ادْعِى لِى أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَاباً فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولَ قَائِلٌ أَنَا أَوْلَى . وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ "160.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ قَالَ أَبِى كَأَنَّهَا تَعْنِى الْمَوْتَ. قَالَ " فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِى فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ "161.
وَفِي السُّنَنِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ "162.(1/202)
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ : { إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا }163 . وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِى بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا ". فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا رَأَيْتُ كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكْرٍ فَرُجِحْتَ أَنْتَ بِأَبِى بَكْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ فَرُجِحَ أَبُو بَكْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرُجِحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ فَرَأَيْنَا الْكَرَاهِيَةَ فِى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.164(1/203)
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ - رضى الله عنه - قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - " أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ " . فَسَلَّمَ ، وَقَالَ إِنِّى كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَىْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِى فَأَبَى عَلَىَّ ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ " يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ " . ثَلاَثًا ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِى بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لاَ . فَأَتَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِى إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ . وَوَاسَانِى بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِى صَاحِبِى " . مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِىَ بَعْدَهَا 165.
وَقَدْ تَوَاتَرَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ قَالَ : " { مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ: مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ } . 166(1/204)
فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّكْرِيرُ وَالتَّوْكِيدُ : فِي تَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ مَعَ حُضُورِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ تَقَدُّمَهُ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غَيْرِهِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ إِنِّى لَوَاقِفٌ فِى قَوْمٍ ، فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ ، إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِى قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنْكِبِى ، يَقُولُ رَحِمَكَ اللَّهُ ، إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ ، لأَنِّى كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا . فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ ..167(1/205)
فَهَذَا يُبَيِّنُ مُلَازَمَتَهُمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَذَهَابِهِ . وَلِذَلِكَ قَالَ " مَالِكٌ " لِلرَّشِيدِ : لَمَّا قَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ ؟ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا مِنْ اخْتِصَاصِهِمَا بِصُحْبَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِمَا لَهُ عَلَى أَمْرِهِ ومباطنتهما : مِمَّا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ . وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَأَخْلَاقِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْفِي هَذَا أَوْ يَقِفُ فِيهِ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ أُمُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِقْهٍ أَوْ حِسَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - أَوْ مَنْ يَكُونُ قَدْ سَمِعَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً : تُنَاقِضُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَتَوَقَّفَ فِي الْأَمْرِ أَوْ رَجَّحَ غَيْرَ أَبِي بَكْر . وَهَذَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يَنْفِيهَا : كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُمْ فِي شَفَاعَتِهِ وَحَوْضِهِ وَخُرُوجِ أَهْلِ(1/206)
الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُمْ : فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ كَمَا تَوَاتَرَتْ عِنْدَهُمْ عَنْهُ ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ - مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ - الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُنَازِعُهُمْ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَنْ خَالَفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ نَازَعَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عَنْهُ : كَالتَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَفِي الْقُسَامَةِ وَالْقُرْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ .(1/207)
وَأَمَّا " عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ " رضي الله عنهما : فَهَذِهِ دُونَ تِلْكَ . فَإِنَّ هَذِهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيهَا نِزَاعٌ فَإِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : رَجَّحُوا عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ . وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَوَقَّفَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ : كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ . حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ هَلْ يُعَدُّ مَنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السختياني وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ والدارقطني : مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَأَيُّوبُ هَذَا إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِمَامُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ ؛ وَكَانَ لَا يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَقَالَ : مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : لَقَدْ رَأَيْته قَعَدَ مَقْعَدًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرْته إلَّا اقْشَعَرَّ جِسْمِي . وَالْحُجَّةُ لِهَذَا مَا أَخْرَجَه البخاري عن ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا فِى زَمَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ نَعْدِلُ بِأَبِى بَكْرٍ أَحَدًا ثُمَّ عُمَرَ(1/208)
ثُمَّ عُثْمَانَ ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ168 .
وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ يَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنْكِرُهُ }169 . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ ، قَالَ كَيْفَ فَعَلْتُمَا أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ قَالاَ حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِىَ لَهُ مُطِيقَةٌ ، مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ . قَالَ انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ ، قَالَ قَالاَ لاَ . فَقَالَ عُمَرُ لَئِنْ سَلَّمَنِى اللَّهُ لأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِى أَبَدًا . قَالَ فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ . قَالَ إِنِّى لَقَائِمٌ مَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلاَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَالَ اسْتَوُوا . حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلاً تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ ، أَوِ النَّحْلَ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، فِى الرَّكْعَةِ الأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ ، فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قَتَلَنِى - أَوْ أَكَلَنِى - الْكَلْبُ . حِينَ طَعَنَهُ ، فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ لاَ يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلاَ شِمَالاً إِلاَّ طَعَنَهُ حَتَّى طَعَنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً ، مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ(1/209)
رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا ، فَلَمَّا ظَنَّ الْعِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ ، فَمَنْ يَلِى عُمَرَ فَقَدْ رَأَى الَّذِى أَرَى ، وَأَمَّا نَوَاحِى الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ وَهُمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ . فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلاَةً خَفِيفَةً ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا . قَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِى . فَجَالَ سَاعَةً ، ثُمَّ جَاءَ ، فَقَالَ غُلاَمُ الْمُغِيرَةِ . قَالَ الصَّنَعُ قَالَ نَعَمْ . قَالَ قَاتَلَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِى بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِى الإِسْلاَمَ ، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ { الْعَبَّاسُ } أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا . فَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ . أَىْ إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا . قَالَ كَذَبْتَ ، بَعْدَ مَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ ، وَصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ وَحَجُّوا حَجَّكُمْ فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ ، وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ ، فَقَائِلٌ يَقُولُ لاَ بَأْسَ . وَقَائِلٌ يَقُولُ أَخَافُ عَلَيْهِ ، فَأُتِىَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ ، ثُمَّ أُتِىَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ، وَجَاءَ النَّاسُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ ، فَقَالَ أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدَمٍ فِى(1/210)
الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ ، ثُمَّ شَهَادَةٌ . قَالَ وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَىَّ وَلاَ لِى . فَلَمَّا أَدْبَرَ ، إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ . قَالَ رُدُّوا عَلَىَّ الْغُلاَمَ قَالَ ابْنَ أَخِى ارْفَعْ ثَوْبَكَ ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ وَأَتْقَى لِرَبِّكَ ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ انْظُرْ مَا عَلَىَّ مِنَ الدَّيْنِ . فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهُ ، قَالَ إِنْ وَفَى لَهُ مَالُ آلِ عُمَرَ ، فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَإِلاَّ فَسَلْ فِى بَنِى عَدِىِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ فَسَلْ فِى قُرَيْشٍ ، وَلاَ تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ ، فَأَدِّ عَنِّى هَذَا الْمَالَ ، انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلاَمَ . وَلاَ تَقُلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنِّى لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا ، وَقُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ . فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا ، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِى فَقَالَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلاَمَ وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ . فَقَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِى ، وَلأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِى . فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ . قَالَ ارْفَعُونِى ، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ ، فَقَالَ مَا لَدَيْكَ قَالَ الَّذِى تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَذِنَتْ . قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا كَانَ مِنْ شَىْءٍ أَهَمُّ إِلَىَّ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِى ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ(1/211)
، فَإِنْ أَذِنَتْ لِى فَأَدْخِلُونِى ، وَإِنْ رَدَّتْنِى رُدُّونِى إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ . وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا ، فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا ، فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ ، فَوَلَجَتْ دَاخِلاً لَهُمْ ، فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ . فَقَالُوا أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ . قَالَ مَا أَجِدُ أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ أَوِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ عَنْهُمْ رَاضٍ . فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ وَقَالَ يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ - كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ - فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهْوَ ذَاكَ ، وَإِلاَّ فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ ، فَإِنِّى لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلاَ خِيَانَةٍ وَقَالَ أُوصِى الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِى بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا ، الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ ، وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ ، وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الإِسْلاَمِ ، وَجُبَاةُ الْمَالِ ، وَغَيْظُ الْعَدُوِّ ، وَأَنْ لاَ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلاَّ فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ ، وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا ، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الإِسْلاَمِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِى أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ(1/212)
اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ . فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نَمْشِى فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ . قَالَتْ أَدْخِلُوهُ . فَأُدْخِلَ ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلاَثَةٍ مِنْكُمْ . فَقَالَ الزُّبَيْرُ قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِى إِلَى عَلِىٍّ . فَقَالَ طَلْحَةُ قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِى إِلَى عُثْمَانَ . وَقَالَ سَعْدٌ قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِى إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالإِسْلاَمُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِى نَفْسِهِ . فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَىَّ ، وَاللَّهُ عَلَىَّ أَنْ لاَ آلُوَ عَنْ أَفْضَلِكُمْ قَالاَ نَعَمْ ، فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقَدَمُ فِى الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ ، فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ . ثُمَّ خَلاَ بِالآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ . فَبَايَعَهُ ، فَبَايَعَ لَهُ عَلِىٌّ ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ 170: بَيْعَةَ رِضًى وَاخْتِيَارٍ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ أَعْطَاهُمْ إيَّاهَا وَلَا رَهْبَةٍ خَوَّفَهُمْ بِهَا . وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ(1/213)
عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ . فَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ والدارقطني " مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُثْمَانُ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ وَقَدْ قَدَّمُوهُ كَانُوا إمَّا جَاهِلِينَ بِفَضْلِهِ وَإِمَّا ظَالِمِينَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ دِينِيٍّ . وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ . وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا عُثْمَانَ لِضَغَنِ كَانَ فِي نَفْسِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَّ أَهْلَ الضَّغَنِ كَانُوا ذَوِي شَوْكَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ : فَقَدْ نَسَبَهُمْ إلَى الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَظُهُورِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ . هَذَا وَهْمٌ فِي أَعَزِّ مَا كَانُوا وَأَقْوَى مَا كَانُوا . فَإِنَّهُ حِينَ مَاتَ عُمَرُ كَانَ ( الْإِسْلَامُ : مِنْ الْقُوَّةِ وَالْعِزِّ وَالظُّهُورِ وَالِاجْتِمَاعِ والائتلاف فِيمَا لَمْ يَصِيرُوا فِي مِثْلِهِ قَطُّ . وَكَانَ ( عُمَرُ أَعَزَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَأَذَلَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ إلَى حَدٍّ بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ مَبْلَغًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأُمُورِ . فَمَنْ جَعَلَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ جَاهِلِينَ أَوْ ظَالِمِينَ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْ الْحَقِّ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ وَجَعَلَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ عَلَى خِلَافِ مَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ لَهُمْ . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ " مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ " فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ يَهُودِيًّا أَظْهَر الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَدَسَّ إلَى الْجُهَّالِ دَسَائِسَ يَقْدَحُ(1/214)
بِهَا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ أَعْظَمَ أَبْوَابِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ . فَإِنَّهُ يَكُونُ الرَّجُلُ وَاقِفًا ثُمَّ يَصِيرُ مُفَضِّلًا ثُمَّ يَصِيرُ سَبَّابًا ثُمَّ يَصِيرُ غَالِيًا ثُمَّ يَصِيرُ جَاحِدًا مُعَطِّلًا . وَلِهَذَا انْضَمَّتْ إلَى الرَّافِضَةِ " أَئِمَّةُ الزَّنَادِقَةِ " مِنْ الإسماعيلية والنصيرية وَأَنْوَاعِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالدُّرْزِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ . فَإِنَّ الْقَدْحَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ صَحِبُوا الرَّسُولَ قَدْحٌ فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ : هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا طَعَنُوا فِي أَصْحَابِهِ لِيَقُولَ الْقَائِلُ : رَجُلُ سَوْءٍ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ سَوْءٍ وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ صَالِحِينَ . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فَالْقَدْحُ فِيهِمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا نَقَلُوهُ مِنْ الدِّينِ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَثْبُتُ فَضِيلَةٌ ؛ لَا لِعَلِيِّ وَلَا لِغَيْرِهِ وَ " الرَّافِضَةُ " جُهَّالٌ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ . فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَ مِنْهُمْ الناصبي - الَّذِي يُبْغِضُ عَلِيًّا ؛ وَيَعْتَقِدُ فِسْقَهُ أَوْ كُفْرَهُ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا إيمَانَ عَلِيٍّ ؛ وَفَضْلَهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ بَلْ تَغْلِبُهُمْ الْخَوَارِجُ . فَإِنَّ فَضَائِلَ عَلِيٍّ إنَّمَا(1/215)
نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَقْدَحُ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ . فَلَا يَتَيَقَّنُ لَهُ فَضِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ . فَإِذَا طَعَنُوا فِي بَعْضِ الْخُلَفَاءِ - بِمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الرِّيَاسَةَ وَقَاتَلُوا عَلَى ذَلِكَ - كَانَ طَعْنُ الْخَوَارِجِ فِي عَلِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأَضْعَافُهُ أَقْرَبُ مِنْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُطِيعَ بِلَا قِتَالٍ . وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ جُهَّالٌ مُتَّبِعُونَ الزَّنَادِقَةِ .
69- أعداء الخلفاء الراشدين(1/216)
ج- الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ اُبْتُلُوا بِمُعَادَاةِ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَعْنِهِمْ وَبُغْضِهِمْ وَتَكْفِيرِهِمْ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَبْغَضَتْهُمَا الرَّافِضَةُ وَلَعَنَتْهُمَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد : مَنْ الرافضي ؟ قَالَ : الَّذِي يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَبِهَذَا سُمِّيَتْ الرَّافِضَةُ ؛ فَإِنَّهُمْ رَفَضُوا زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا تَوَلَّى الْخَلِيفَتَيْنِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لِبُغْضِهِمْ لَهُمَا فَالْمُبْغِضُ لَهُمَا هُوَ الرافضي وَقِيلَ : إنَّمَا سُمُّوا رَافِضَةً لِرَفْضِهِمْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ . " وَأَصْلُ الرَّفْضِ " مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ فَإِنَّهُ ابْتَدَعَهُ ابْنُ سَبَأٍ الزِّنْدِيقُ وَأَظْهَرَ الْغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ بِدَعْوَى الْإِمَامَةِ وَالنَّصِّ عَلَيْهِ وَادَّعَى الْعِصْمَةَ لَهُ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ النِّفَاقِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إيمَانٌ وَبُغْضُهُمَا نِفَاقٌ وَحُبُّ بَنِي هَاشِمٍ إيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمَا مِنْ السُّنَّةِ171 أَيْ مِنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أُمِرَ بِهَا فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ "172. وَلِهَذَا كَانَ مَعْرِفَةُ فَضْلِهِمَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمَا وَاجِبًا لَا يَجُوزُ التَّوَقُّفُ فِيهِ بِخِلَافِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَفِي جَوَازِ التَّوَقُّفِ فِيهِمَا قَوْلَانِ : وَكَذَلِكَ هَلْ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي(1/217)
تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ ؟
فِيهِ رِوَايَتَانِ :
( إحْدَاهُمَا : لَا يَسُوغُ ذَلِكَ فَمَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ خَرَجَ مِنْ السُّنَّةِ إلَى الْبِدْعَةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ : مِنْهُمْ أَيُّوبُ السختياني وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ والدارقطني .
( وَالثَّانِيَةُ : لَا يُبَدَّعُ مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا لِتَقَارُبِ حَالِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أُمِرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَلَا يَجُوزُ اعْتِقَادُ ضِدِّ ذَلِكَ لَكِنْ يَجُوزُ تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجُوزَ اعْتِقَادُ تَرْكِ اسْتِحْبَابِهِ ؛ وَمَعْرِفَةُ اسْتِحْبَابِهِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ . فَلَمَّا قَامَتْ " الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ " عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَقْدِيمِهِمَا لَمْ يَجُزْ تَرْكُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا ( عُثْمَانُ فَأَبْغَضَهُ أَوْ سَبَّهُ أَوْ كَفَّرَهُ أَيْضًا - مَعَ الرَّافِضَةِ - طَائِفَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ الزَّيْدِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ .(1/218)
وَأَمَّا ( عَلِيٌّ فَأَبْغَضَهُ وَسَبَّهُ أَوْ كَفَّرَهُ الْخَوَارِجُ وَكَثِيرٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَشِيعَتِهِمْ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ وَسَبُّوهُ . فَالْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَسَائِرَ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ . وَأَمَّا " شِيعَةُ عَلِيٍّ " الَّذِينَ شَايَعُوهُ بَعْدَ التَّحْكِيمِ و " شِيعَةُ مُعَاوِيَةَ " الَّتِي شَايَعَتْهُ بَعْدَ التَّحْكِيمِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّقَابُلِ وَتَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ وتكافر بَعْضُهُمْ مَا كَانَ وَلَمْ تَكُنْ الشِّيعَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ عَلِيٍّ يَظْهَرُ مِنْهَا تَنَقُّصٌ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَا فِيهَا مَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَا كَانَ سَبُّ عُثْمَانَ شَائِعًا فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ بَعْضُهُمْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ آخَرُ . وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فِيهَا بِخِلَافِ سَبِّ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِي أَتْبَاعِ مُعَاوِيَةَ173 ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَأَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ كَمَا فِي صحيح مسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ "174 .
وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا : أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ قَوْماً يَكُونُونَ فِى أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِى فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ سِيمَاهُمُ التَّحَالُقُ قَالَ " هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ - أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ - يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ "175.(1/219)
وَكَانَ سَبُّ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَلَعْنُهُ مِنْ الْبَغْيِ الَّذِي اسْتَحَقَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ أَنْ يُقَالَ لَهَا : الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ ؛ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ وَلاِبْنِهِ عَلِىٍّ انْطَلِقَا إِلَى أَبِى سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ . فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِى حَائِطٍ يُصْلِحُهُ ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً ، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ ، فَرَآهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ " وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ " . قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ176 .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ جَعَلَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ وَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ " بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ فِئَةٌ بَاغِيةٌ "177
. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " تَقْتُلُ عَمَّاراً الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ "178.(1/220)
وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ عَلِيٍّ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى طَاعَتِهِ دَاعٍ إلَى الْجَنَّةِ وَالدَّاعِي إلَى مُقَاتَلَتِهِ دَاعٍ إلَى النَّارِ - وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا - وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ قِتَالُ عَلِيٍّ وَعَلَى هَذَا فَمُقَاتِلُهُ مُخْطِئٌ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا أَوْ بَاغٍ بِلَا تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَصَحُّ ( الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ قِتَالَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ . وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالَهُ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَالَ : أَيُجْعَلُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بُغَاةً ؟ رَدَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فَقَالَ وَيْحَك وَأَيُّ شَيْءٍ يَسَعُهُ أَنْ يَضَعَ فِي هَذَا الْمَقَامِ : يَعْنِي إنْ لَمْ يَقْتَدِ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سُنَّةٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُصِيبٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ . وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ : أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا . وَهَذَا الْقَوْلُ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُتَوَقِّفِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ : كالكرامية الَّذِينَ يَقُولُونَ : كِلَاهُمَا كَانَ إمَامًا وَيُجَوِّزُونَ عَقْدَ(1/221)
الْخِلَافَةِ لِاثْنَيْنِ . لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد تَبْدِيعُ مَنْ تَوَقَّفَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ وَقَالَ : هُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِ وَنَهَى عَنْ مُنَاكَحَتِهِ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ أَحْمَد وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ غَيْرُ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُ وَلَا شَكُّوا فِي ذَلِكَ . فَتَصْوِيبُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ تَجْوِيزٌ لِأَنْ يَكُونَ غَيْرُ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَقِّ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ النَّصْبِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا ؛ لَكِنْ قَدْ يَسْكُتُ بَعْضُهُمْ عَنْ تَخْطِئَةِ أَحَدٍ كَمَا يُمْسِكُونَ عَنْ ذَمِّهِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ إمْسَاكًا عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ يُصَوِّبُ الطَّائِفَتَيْنِ . وَلَمْ يَسْتَرِبْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ : أَنَّ عَلِيًّا أَوْلَى بِالْحَقِّ وَأَقْرَبُ إلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ ؛ وَإِنْ اسْتَرَابُوا فِي وَصْفِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى بِظُلْمِ أَوْ بَغْيٍ ؛ وَمَنْ وَصَفَهَا بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ - لِمَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ - جَعَلَ الْمُجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ .(1/222)
يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ فَيَكُونُ قِتَالُهَا كَانَ وَاجِبًا مَعَ عَلِيٍّ وَاَلَّذِينَ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ هُمْ جُمْلَةُ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ : كَسَعْدِ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأُسَامَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة وَأَبِي بَكْرَةَ وَهُمْ يَرْوُونَ النُّصُوصَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ؛ فعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " سَتَكُونُ فِتَنٌ ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِى ، وَالْمَاشِى فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِى ، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ "179
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ "180(1/223)
وَأَمْرِهِ لِصَاحِبِ السَّيْفِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ " فعَنْ عُدَيْسَةَ ابْنَةِ وُهْبَانَ بْنِ صَيْفِىٍّ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ أَبِيهَا فِى مَنْزِلِهِ فَمَرِضَ فَأَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ فَقَامَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ بِالْبَصْرَةِ فَأَتَاهُ فِى مَنْزِلِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ حُجْرَتِهِ فَسَلَّمَ وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ السَّلاَمَ فَقَالَ لَهُ عَلِىٌّ كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا مُسْلِمٍ قَالَ بِخَيْرٍ. فَقَالَ عَلِىٌّ أَلاَ تَخْرُجُ مَعِى إِلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَتُعِينَنِى. قَالَ بَلَى إِنْ رَضِيتَ بِمَا أُعْطِيكَ.قَالَ عَلِىٌّ وَمَا هُوَ فَقَالَ الشَّيْخُ يَا جَارِيَةُ هَاتِ سَيْفِى. فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ غِمْداً فَوَضَعَتْهُ فِى حِجْرِهِ فَاسْتَلَّ مِنْهُ طَائِفَةً ثُمَّ رَفَع رَأْسَهُ إِلَى عَلِىٍّ فَقَالَ إِنَّ خَلِيلِى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَابْنَ عَمِّكَ عَهِدَ إِلَىَّ إِذَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ أَتَّخِذَ سَيْفاً مِنْ خَشَبٍ فَهَذَا سَيْفِى فَإِنْ شِئْتَ خَرَجْتُ بِهِ مَعَكَ. فَقَالَ عَلِىٌّ لاَ حَاجَةَ لَنَا فِيكَ وَلاَ فِى سَيْفِكَ. فَرَجَعَ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ.181(1/224)
وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ لِيُقَاتِلَ مَعَ عَلِيٍّ فعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ . قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ " . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ " إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ ".182
وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى ذَلِكَ بحديث جرير وغيره ، فعَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ " اسْتَنْصِتِ النَّاسَ " فَقَالَ " لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ "183(1/225)
وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ حَتَّى قَالَ : لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ قُعُودَ عَلِيٍّ عَنْ الْقِتَالِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ لَوْ قَعَدَ وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ حَالِهِ فِي تَلَوُّمِهِ فِي الْقِتَالِ وَتَبَرُّمِهِ بِهِ وَمُرَاجَعَةِ الْحَسَنِ ابْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ لَهُ : أَلَمْ أَنْهَك يَا أَبَتِ ؟ وَقَوْلُهُ : لِلَّهِ دَرُّ مَقَامٍ قَامَهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إنْ كَانَ بَرًّا إنَّ أَجْرَهُ لَعَظِيمٌ وَإِنْ كَانَ إثْمًا إنَّ خَطَأَهُ لَيَسِيرٌ . وَهَذَا يُعَارِضُ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَبِهَذَا احْتَجُّوا عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فِي تَرْكِ التَّرْبِيعِ بِخِلَافَتِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ : إذَا قُلْت كَانَ إمَامًا وَاجِبَ الطَّاعَةِ فَفِي ذَلِكَ طَعْنٌ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ حَيْثُ لَمْ يُطِيعَاهُ بَلْ قَاتَلَاهُ فَقَالَ لَهُمْ : أَحْمَد : إنِّي لَسْت مِنْ حَرْبِهِمْ فِي شَيْءٍ : يَعْنِي أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ عَلِيٌّ وَإِخْوَانُهُ لَا أَدْخُلُ بَيْنَهُمْ فِيهِ ؛ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الَّتِي تَعْنِينِي حَتَّى أَعْرِفَ حَقِيقَةَ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَنَا مَأْمُورٌ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَأَنَّ يَكُونَ قَلْبِي لَهُمْ سَلِيمًا وَمَأْمُورٌ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَلَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا لَا يُهْدَرُ ؛ وَلَكِنَّ اعْتِقَادَ خِلَافَتِهِ وَإِمَامَتِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ تَرَكَهُ كَمَا أَنَّ إمَامَةَ " عُثْمَانَ " وَخِلَافَتَهُ ثَابِتَةٌ(1/226)
إلَى حِينِ انْقِرَاضِ أَيَّامِهِ وَإِنْ كَانَ فِي تَخَلُّفِ بَعْضِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ أَوْ نُصْرَتِهِ ؛ وَفِي مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ : مِنْ التَّأْوِيلِ مَا فِيهِ إذْ كَانَ أَهْوَنَ مَا جَرَى فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ اجْتِهَادُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَمِنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ : بِوُجُوبِ الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُ وَكَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الْقِتَالَ مَعَهُ ؛ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَوُجُوبِ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَمَبْدَأُ تَرْتِيبِ ذَلِكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَاتَّبَعَهُمْ آخَرُونَ .(1/227)
وَمِنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ : بَلْ الْمَشْرُوعُ تَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ الْمَشْهُورَةُ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْقَاعِدِينَ عَنْ الْقِتَالِ لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ خَيْرٌ } وَ " { أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ الْفِتَنِ بِاِتِّخَاذِ غَنَمٍ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ خَيْرٌ مِنْ الْقِتَالِ فِيهَا } وَكَنَهْيِهِ لِمَنْ نَهَاهُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا وَأَمَرَهُ بِاِتِّخَاذِ سَيْفٍ مِنْ خَشَبٍ وَلِكَوْنِ عَلِيٍّ لَمْ يَذُمَّ الْقَاعِدِينَ عَنْ الْقِتَالِ مَعَهُ بَلْ رُبَّمَا غَبَطَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ . وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّصُوصِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ تُرْكَ عَلِيٍّ الْقِتَالَ كَانَ أَفْضَلَ ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرَّحَتْ بِأَنَّ الْقَاعِدَ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْبُعْدَ عَنْهَا خَيْرٌ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهَا قَالُوا : وَرُجْحَانُ الْعَمَلِ يَظْهَرُ بِرُجْحَانِ عَاقِبَتِهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَبْدَءُوهُ بِقِتَالِ فَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ لَمْ يَقَعْ أَكْثَرُ مِمَّا وَوَقَعَ مِنْ خُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ لَكِنْ بِالْقِتَالِ زَادَ الْبَلَاءُ وَسُفِكَتْ الدِّمَاءُ وَتَنَافَرَتْ الْقُلُوبُ وَخَرَجَتْ عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَحُكِّمَ الْحَكَمَانِ حَتَّى سُمِّيَ مُنَازِعُهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَظَهَرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنَّ فَضَائِلَ الْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ بِنَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا وَالْقُرْآنُ إنَّمَا فِيهِ قِتَالُ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ بَعْدَ(1/228)
الِاقْتِتَالِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) [الحجرات/9] } الْآيَةَ . فَلَمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ؛ لَكِنْ أُمِرَ بِالْإِصْلَاحِ وَبِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ . وَ " إنْ قِيلَ " الْبَاغِيَةُ يَعُمُّ الِابْتِدَاءُ وَالْبَغْيُ بَعْدَ الِاقْتِتَالِ . قِيلَ : فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ لِأَحَدِهِمَا بِأَنْ تُقَاتِلَ الْأُخْرَى وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ وَالْكَلَامُ هُنَا : إنَّمَا هُوَ فِي أَنْ فِعْلَ الْقِتَالِ مِنْ عَلِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ بَلْ كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ وَأَمَّا إذَا قَاتَلَ لِكَوْنِ الْقِتَالِ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ أَوْ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ وَلَيْسَ بِجَائِزِ فِي الْبَاطِنِ : فَهُنَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقِتَالِ مَعَهُ لِلطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ أَوْ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَهُوَ مَوْضِعُ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُجَاهِدِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ وَشِيعَتُهُ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَيُمْكِنُ وَجْهَانِ :(1/229)
( أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ . إذْ لَيْسَ قِتَالُهُمْ بِأَوْلَى مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ فَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْمَشْرُوعَةُ أَحْيَانًا هِيَ التَّآلُفُ بِالْمَالِ وَالْمُسَالَمَةُ وَالْمُعَاهَدَةُ كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَالْإِمَامُ إذَا اعْتَقَدَ وُجُودَ الْقُدْرَةِ وَلَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً كَانَ التُّرْك فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَصْلَحَ . وَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا الْقِتَالَ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ : عُلِمَ أَنَّهُ قِتَالُ فِتْنَةٍ فَلَا تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِيهِ إذْ طَاعَتُهُ إنَّمَا تَجِبُ فِي مَا لَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ بِالنَّصِّ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ قِتَالُ الْفِتْنَةِ - الَّذِي تَرَكَهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ - لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ نَصٍّ مُعَيَّنٍ خَاصٍّ إلَى نَصٍّ عَامٍّ مُطْلَقٍ فِي طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِظُلْمِ الْأُمَرَاءِ بَعْدَهُ وَبَغْيِهِمْ وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ ؛ إذْ مَفْسَدَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ؛ كَمَا نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْقِتَالِ كَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ(1/230)
كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) [النساء/77] } وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَأْمُورِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ .184(1/231)
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا صَارَتْ بَاغِيَةً فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ نَصْبِ إمَامٍ وَتَسْمِيَتِهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ لَعْنِ إمَامِ الْحَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا بَغْيٌ بِخِلَافِ الِاقْتِتَالِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ قِتَالَ فِتْنَةٍ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ اقْتِتَالُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } فَلَمَّا أُمِرَ بِالْقِتَالِ إذَا بَغَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ المقتتلتين دَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ المقتتلتين قَدْ تَكُونُ إحْدَاهُمَا بَاغِيَةً فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ . فَمَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ بِتَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ : يَكُونُ قَبْلَ الْبَغْيِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الْوَصْفِ بِالْبَغْيِ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقِتَالُ مَعَ عَلِيٍّ وَاجِبًا لَمَّا حَصَلَ الْبَغْيُ وَعَلَى هَذَا يَتَأَوَّلُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ " { إذَا حَمَلَ عَلَى الْقِتَالِ فِي ذَلِكَ }185 وَحِينَئِذٍ فَبَعْدَ التَّحْكِيمِ وَالتَّشَيُّعِ وَظُهُورِ الْبَغْيِ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ وَلَمْ تُطِعْهُ الشِّيعَةُ فِي الْقِتَالِ وَمِنْ حِينَئِذٍ ذَمَّتْ الشِّيعَةُ بِتَرْكِهِمْ النَّصْرَ مَعَ وُجُوبِهِ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سُمُّوا شِيعَةً وَحِينَئِذٍ صَارُوا مَذْمُومِينَ بِمَعْصِيَةِ الْإِمَامِ الْوَاجِبِ الطَّاعَةِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَمَّا تَرَكُوا مَا يَجِبُ مِنْ نَصْرِهِ صَارُوا أَهْلَ بَاطِلٍ وَظُلْمٍ إذْ ذَاكَ يَكُونُ تَارَةً لِتَرْكِ الْحَقِّ وَتَارَةً لِتَعَدِّي الْحَقِّ . فَصَارَ حِينَئِذٍ شِيعَةَ ( عُثْمَانَ الَّذِينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا انْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ(1/232)
؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " لاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ " وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ سَمِعْتُ مُعَاذًا يَقُولُ وَهُمْ بِالشَّأْمِ .186 فَقَالَ مُعَاوِيَةُ هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ وَهُمْ بِالشَّأْمِ.
وَعَلِيٌّ هُوَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمُعَاوِيَةُ أَوَّلُ الْمُلُوكِ فَالْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ قِتَالُ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ مَعَ أَهْلِ عَدْلٍ وَاتِّبَاعٍ لِسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُبَادِرُ إلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ إقَامَةَ الْعَدْلِ وَيَغْفُلُ عَنْ كَوْن ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ بَلْ تَرْبُو مَفْسَدَتُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ ( أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْكَ الْخُرُوجِ بِالْقِتَالِ عَلَى الْمُلُوكِ الْبُغَاةِ وَالصَّبْرِ عَلَى ظُلْمِهِمْ إلَى أَنْ يَسْتَرِيحَ بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاحُ مِنْ فَاجِرٍ ؛ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً ؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَة الْبَاغِيَةِ بَعْدَ اقْتِتَالِ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ إذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ : كَقَيْسِ ويمن - إذْ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْبَاغِيَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ هَذَا الْوَاجِبِ وَهَذَا يُبَيِّنُ(1/233)
رُجْحَانَ الْقَوْلِ ابْتِدَاءً فَفِي الْحَالِ الْأَوَّلِ لَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ تَامَّةً عَلَى الْقِتَالِ وَلَا الْبَغْيِ حَاصِلًا ظَاهِرًا وَفِي الْحَالِ الثَّانِي حَصَلَ الْبَغْيُ وَقَوِيَ الْعَجْزُ وَهُوَ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَأَقْرَبُهُمَا إلَيْهِ مُطْلَقًا وَالْأُخْرَى مَوْصُوفَةٌ بِالْبَغْيِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ وَالْمُغِيرَةُ وَغَيْرُهُمَا يَحْتَجُّونَ لِرُجْحَانِ الطَّائِفَةِ الشَّامِيَّةِ بِمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّه لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } فَقَامَ مَالِك بْنُ يخامر فَقَالَ : سَمِعْت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ : " { وَهُمْ بِالشَّامِ } فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : وَهَذَا مَالِكُ بْنُ يخامر يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ . وَهُمْ بِالشَّامِ187 وَهَذَا الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ فِيهِمَا أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ "188
وَهَذَا يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي رُجْحَانِ أَهْلِ الشَّامِ بِوَجْهَيْنِ :(1/234)
" أَحَدُهُمَا " : أَنَّهُمْ الَّذِينَ ظَهَرُوا وَانْتَصَرُوا وَصَارَ الْأَمْرُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الِاقْتِتَالِ وَالْفِتْنَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الطَّائِفَةَ الْقَائِمَةَ بِالْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هِيَ الظَّاهِرَةُ الْمَنْصُورَةُ فَلَمَّا انْتَصَرَ هَؤُلَاءِ كَانُوا أَهْلَ الْحَقِّ
" وَالثَّانِي " أَنَّ النُّصُوصَ عَيَّنَتْ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ كَقَوْلِ مُعَاذٍ وَكَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " لاَ يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ "189. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : وَأَهْلُ الْغَرْبِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ فَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَهُوَ غَرْبُهُ وَمَا يَشْرَقُ عَنْهَا فَهُوَ شَرْقُهُ وَكَانَ يُسَمِّي أَهْلَ نَجْدٍ وَمَا يُشْرِقُ عَنْهَا أَهْلَ الْمَشْرِقِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلاَنِ مِنَ الْمَشْرِقِ ، فَخَطَبَا ، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا - أَوْ - إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ ".190(1/235)
وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الشَّرِّ " أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ الْمَشْرِقِ : فعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " الْفِتْنَةُ مِنْ هَا هُنَا " . وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ191، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوُ الْمَشْرِقِ }192 وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْحَقِّ مِنْ أُمَّتِهِ بِالْمَغْرِبِ وَهُوَ الشَّامُ وَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا وَالْفِتْنَةُ وَرَأْسُ الْكُفْرِ بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الشَّامِ أَهْلَ الْمَغْرِبِ وَيَقُولُونَ عَنْ الأوزاعي : أَنَّهُ إمَامُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَيَقُولُونَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِ : إنَّهُ مَشْرِقِيٌّ إمَامُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَهَذَا لِأَنَّ مُنْتَهَى الشَّامِ عِنْدَ الْفُرَاتِ هُوَ عَلَى مُسَامَتَةِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَبَعْدَ ذَلِكَ حَرَّانَ وَالرِّقَّةُ وَنَحْوُهُمَا عَلَى مُسَامَتَةِ مَكَّةَ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ قِبْلَتُهُمْ أَعْدَلَ الْقِبْلَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ الرُّكْنَ الشَّامِيَّ وَيَسْتَدْبِرُونَ الْقُطْبَ الشَّامِيَّ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ إلَى ذَاتِ الْيَمِينِ كَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَلَا إلَى ذَاتِ الشِّمَالِ : كَأَهْلِ الشَّامِ . قَالُوا : فَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْقَائِمَةَ بِالْحَقِّ مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي لَا يَضُرُّهَا خِلَافُ الْمُخَالِفِ وَلَا خِذْلَانُ الْخَاذِلِ هِيَ بِالشَّامِ كَانَ هَذَا مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ : " { تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ(1/236)
}193 وَلِقَوْلِهِ : " { تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ }194 وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ يَجْعَلُ الْجَمِيعَ سَوَاءً وَالْجَمِيعَ مُصِيبِينَ أَوْ يُمْسِكُ عَنْ التَّرْجِيحِ وَهَذَا أَقْرَبُ . وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْغُوبٌ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ أَقْوَالِ النَّوَاصِبِ فَهُوَ مُقَابَلٌ بِأَقْوَالِ الشِّيعَةِ وَالرَّوَافِضِ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ هُنَا مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَالتَّأْلِيفِ فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ أَهْلِ الشَّامِ وَانْتِصَارِهِمْ فَهَكَذَا وَقَعَ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ ؛ فَإِنَّهُمْ مَا زَالُوا ظَاهِرِينَ مُنْتَصِرِينَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ } وَمَنْ هُوَ ظَاهِرٌ فَلَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ بَغْيٌ وَمَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُمْ بَلْ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " { تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ كَانَ أَوْلَى بِالْحَقِّ إذْ ذَاكَ مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ أَوْ الطَّائِفَةُ مَرْجُوحًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِأَمْرِ اللَّه وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ طَاعَةً وَغَيْرُهُ أَطْوَعَ مِنْهُ . وَأَمَّا كَوْنُ(1/237)
بَعْضِهِمْ بَاغِيًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ؛ مَعَ كَوْنِ بَغْيِهِ خَطَأً مَغْفُورًا أَوْ ذَنْبًا مَغْفُورًا : فَهَذَا أَيْضًا لَا يَمْنَعُ مَا شَهِدَتْ بِهِ النُّصُوصُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَظَمَتِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنْ جُمْلَتَهُمْ كَانُوا أَرْجَحَ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُفَضِّلُهُمْ فِي مُدَّةِ خِلَافَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَامْتَنَعَ مِنْ الذَّهَابِ إلَى الْعِرَاقِ وَاسْتَشَارَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا وَكَذَلِكَ حِينَ وَفَاتِهِ لَمَّا طُعِنَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ( أَوَّلًا وَهُمْ كَانُوا إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ الشَّامِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَكَانُوا آخِرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ - هَكَذَا فِي الصَّحِيحِ . وَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُ كَانَتْ عِنَايَتُهُ بِفَتْحِ الشَّامِ أَكْثَرَ مِنْ عِنَايَتِهِ بِفَتْحِ الْعِرَاقِ حَتَّى قَالَ : لَكَفْرٌ مِنْ كُفُورِ الشَّامِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَتْحِ مَدِينَةٍ بِالْعِرَاقِ . ( وَالنُّصُوصُ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي فَضْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْغَرْبِ عَلَى نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا بَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَمِّ الْمَشْرِقِ وَأَخْبَارِهِ " { بِأَنَّ الْفِتْنَةَ وَرَأْسَ الْكُفْرِ مِنْهُ } مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا كَانَ فَضْلُ الْمَشْرِقِ عَلَيْهِمْ بِوُجُودِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَذَاكَ كَانَ(1/238)
أَمْرًا عَارِضًا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَهَبَ عَلِيٌّ ظَهَرَ مِنْهُمْ مَنْ الْفِتَنِ وَالنِّفَاقِ وَالرِّدَّةِ وَالْبِدَعِ : مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا أَرْجَحَ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا رَيْبَ أَنَّ فِي أَعْيَانِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ كَمَا كَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ وَحُذَيْفَةُ وَنَحْوُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ بِالشَّامِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَكِنَّ مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ وَتَرْجِيحَهَا لَا يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى بِأَمْرِ رَاجِحٍ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ أَهْلَ الشَّامِ بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ دَائِمًا إلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَبِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ فِيهِمْ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ دَائِمٍ مُسْتَمِرٍّ فِيهِمْ مَعَ الْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَهَذَا الْوَصْفُ لَيْسَ لِغَيْرِ الشَّامِ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْحِجَازَ - الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ نَقَصَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ : مِنْهَا الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ وَالنَّصْرُ وَالْجِهَادُ وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَالْعِرَاقُ وَالْمَشْرِقُ .(1/239)
وَأَمَّا الشَّامُ فَلَمْ يَزَلْ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ وَمَنْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ مَنْصُورًا مُؤَيَّدًا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَذَا يُبَيِّنُ رُجْحَانَ الطَّائِفَةِ الشَّامِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَعَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِمَّنْ فَارَقَهُ وَمَعَ أَنَّ عَمَّارًا قَتَلَتْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنُقِرُّ بِالْحَقِّ كُلِّهِ وَلَا يَكُونُ لَنَا هَوًى وَلَا نَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ بَلْ نَسْلُكُ سُبُلَ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِبَعْضِ الْحَقِّ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا مَنْشَأُ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ . وَلِهَذَا لَمَّا اعْتَقَدَتْ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وُجُوبَ الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ جَعَلُوا ذَلِكَ " قَاعِدَةً فِقْهِيَّةً " فِيمَا إذَا خَرَجَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ وَهِيَ عِنْدُهُ رَاسَلَهُمْ الْإِمَامُ فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا عَنْهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا فَإِنْ رَجَعُوا وَإِلَّا وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ إنَّهُمْ أَدْخَلُوا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " قِتَالَ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ " وَ " قِتَالَ عَلِيٍّ لِلْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ " ؛ وَصَارُوا فِيمَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ مَنْ اعْتَقَدُوهُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْمُقَاتِلِينَ لَهُ بُغَاةً لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ قِتَالِ الْفِتْنَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاَلَّذِي تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا(1/240)
يَقَعُ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ : كَاقْتِتَالِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَبَيْنَ قِتَالِ " الْخَوَارِجِ " الحرورية وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْمُنَافِقِينَ " كالمزدكية " وَنَحْوِهِمْ . وَهَذَا تَجِدُهُ فِي الْأَصْلِ مِنْ رَأْيِ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ ثُمَّ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ثُمَّ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد الَّذِينَ صَنَّفُوا ( بَابَ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ نَسَجُوا عَلَى مِنْوَالِ أُولَئِكَ تَجِدُهُمْ هَكَذَا فَإِنَّ الخرقي نَسَجَ عَلَى مِنْوَالِ المزني والمزني نَسَجَ عَلَى مِنْوَالِ مُخْتَصَرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ التَّبْوِيبِ وَالتَّرْتِيبِ . وَالْمُصَنِّفُونَ فِي الْأَحْكَامِ : يَذْكُرُونَ قِتَالَ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ جَمِيعًا وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " قِتَالِ الْبُغَاةِ " حَدِيثٌ إلَّا حَدِيثَ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ وَهُوَ مَوْضُوعٌ . وَأَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ الْمُصَنَّفَةُ مِثْلُ : صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَالسُّنَنِ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَكَذَلِكَ كُتُبُ السُّنَّةِ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِ . وَكَذَلِكَ - فِيمَا أَظُنُّ - كُتُبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لَيْسَ فِيهَا ( بَابُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الثَّابِتُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِتَالِ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا الْقِتَالُ(1/241)
لِمَنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا عَنْ طَاعَةِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ أَمْرٌ بِذَلِكَ فَارْتَكَبَ الْأَوَّلُونَ ثَلَاثَةَ مَحَاذِيرَ :
- ( الْأَوَّلُ : قِتَالُ مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ مَلِكٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ وَمِثْلُهُ - فِي السُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ - لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ وَالِافْتِرَاقُ هُوَ الْفِتْنَةُ .
( وَالثَّانِي : التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ .(1/242)
( وَالثَّالِثُ : التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ قِتَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ تِلْكَ الطَّائِفَةِ يَدْخُلُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْوَاءِ الْمُلُوكِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَيَأْمُرُونَ بِالْقِتَالِ مَعَهُمْ لِأَعْدَائِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَأُولَئِكَ الْبُغَاةُ ؛ وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ أَوْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ أَوْ أَئِمَّةِ الْمَشْيَخَةِ عَلَى نُظَرَائِهِمْ مُدَّعِينَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ أَرْجَحُ بِهَوَى قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَأْوِيلٌ بِتَقْصِيرِ لَا بِالِاجْتِهَادِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُبَّادِهَا وَأُمَرَائِهَا وَأَجْنَادِهَا وَهُوَ مِنْ الْبَأْسِ الَّذِي لَمْ يُرْفَعْ مِنْ بَيْنِهَا ؛ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَدْلَ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الطَّوَائِفِ " أَهْلَ السُّنَّةِ " أَصْحَابَ الْحَدِيثِ . وَتَجِدُ هَؤُلَاءِ إذَا أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ مَرَقَ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ ارْتَدَّ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ يَأْمُرُونَ أَنْ يُسَارَ فِيهِ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛ لَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُغْنَمُ لَهُمْ مَالٌ وَلَا يُجْهَزُ لَهُمْ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ لَهُمْ أَسِيرٌ وَيَتْرُكُونَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَارَ بِهِ عَلِيٌّ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَسَارَ بِهِ الصِّدِّيقُ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ فَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمَارِقِينَ(1/243)
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُسِيئِينَ ؛ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُتَقَاتِلِينَ عَلَى الْمُلْكِ وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
70- فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما بتسليم الخلافة لمعاوية رضي الله عنه ، وما موقف النواصب والرافضة من ذلك
ج- إنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا أَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِنِّى لأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّى حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا . فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ - وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ - أَىْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِى بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِى بِنِسَائِهِمْ ، مَنْ لِى بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِى عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ، فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ ، وَقُولاَ لَهُ ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ . فَأَتَيَاهُ ، فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا ، وَقَالاَ لَهُ ، فَطَلَبَا إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِى دِمَائِهَا . قَالاَ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ . قَالَ فَمَنْ لِى بِهَذَا قَالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ . فَمَا(1/244)
سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلاَّ قَالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ . فَصَالَحَهُ ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ إِلَى جَنْبِهِ ، وَهْوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ " إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " }195 ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَثْنَى بِهِ عَلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَمَدَحَهُ عَلَى أَنْ أَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ حِينَ سَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَكَانَ قَدْ سَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ بِعَسَاكِرَ عَظِيمَةٍ . فَلَمَّا أَثْنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَسَنِ بِالْإِصْلَاحِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ تِلْكَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِتَالَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ وَلَوْ كَانَ مُعَاوِيَةُ كَافِرًا لَمْ تَكُنْ تَوْلِيَةُ كَافِرٍ وَتَسْلِيمُ الْأَمْرِ إلَيْهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ بَلْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ؛ كَمَا كَانَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ مُؤْمِنِينَ ؛ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا مُرْضِيًا لَهُ وَلِرَسُولِهِ . وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "(1/245)
تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ "196 ، فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ المُقْتَتِلَتَيْنِ - عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ وَمُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ - عَلَى حَقٍّ وَأَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ . فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الَّذِي قَاتَلَ الْمَارِقِينَ وَهُمْ " الْخَوَارِجُ الحرورية " الَّذِينَ كَانُوا مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ ثُمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَكَفَّرُوهُ وَكَفَّرُوا مَنْ وَالَاهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ وَقَاتَلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ . وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ ؛ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِمْ : " " يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ - وَهْوَ قِدْحُهُ - فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ " 197"(1/246)
وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ نَصَبُوا الْعَدَاوَةَ لِعَلِيِّ وَمَنْ وَالَاهُ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا قَتْلَهُ وَجَعَلُوهُ كَافِرًا وَقَتَلَهُ أَحَدُ رُءُوسِهِمْ " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيَّ " فَهَؤُلَاءِ النَّوَاصِبُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ إذْ قَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُمَا كَانُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ [ فَإِنَّ مِنْ ] حُجَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ مَا تَوَاتَرَ مِنْ إيمَانِ الصَّحَابَةِ وَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ مَدْحِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَثَنَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ هَذِهِ الْحُجَجَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُثْبِتَ إيمَانَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمْثَالِهِ . فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا النَّاصِبِيَّ للرافضي : إنَّ عَلِيًّا كَانَ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا ظَالِمًا وَأَنَّهُ قَاتَلَ عَلَى الْمُلْكِ : لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ ؛ لَا لِلدِّينِ وَأَنَّهُ قَتَلَ " مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ " مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَمَلِ وصفين وَحَرُورَاءَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً وَلَمْ يُقَاتِلْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِرًا وَلَا فَتَحَ مَدِينَةً بَلْ قَاتَلَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ - الَّذِي تَقَوَّلَهُ النَّوَاصِبُ الْمُبْغِضُونَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجِيبَ هَؤُلَاءِ النَّوَاصِبَ إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ الَّذِينَ يُحِبُّونَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كُلَّهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ . فَيَقُولُونَ لَهُمْ : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ(1/247)
وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَنَحْوُهُمْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ إيمَانُهُمْ وَهِجْرَتُهُمْ وَجِهَادُهُمْ . وَثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالرِّضَى عَنْهُمْ وَثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ثَنَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا وَعُمُومًا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَفِيضِ عَنْهُ : " { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا }198 " وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " قَدْ كَانَ يَكُونُ فِى الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِى أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ " . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ مُلْهَمُونَ }199 " وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عُثْمَانَ : " " أَلاَ أَسْتَحِى مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِى مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ ".؟200 وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ : " { لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ }201 " وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " { لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيُّونَ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ }202 " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الرافضي فَلَا يُمْكِنْهُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا مِنْ النَّوَاصِبِ كَمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْجَمِيعَ .
فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : إسْلَامُ عَلِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ . قَالَ لَهُ : وَكَذَلِكَ إسْلَامُ أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْتَ تَطْعَنُ فِي هَؤُلَاءِ إمَّا فِي إسْلَامِهِمْ ؛ وَإِمَّا فِي عَدَالَتِهِمْ .(1/248)
فَإِنْ قَالَ : إيمَانُ عَلِيٍّ ثَبَتَ بِثَنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْنَا لَهُ : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إنَّمَا نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَطْعَنُ أَنْتَ فِيهِمْ وَرُوَاةُ فَضَائِلِهِمْ : سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِشَةُ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ الساعدي وَأَمْثَالُهُمْ وَالرَّافِضَةُ تَقْدَحُ فِي هَؤُلَاءِ . فَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ ضَعِيفَةً بَطَلَ كُلُّ فَضِيلَةٍ تُرْوَى لِعَلِيِّ وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّافِضَةِ حُجَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ صَحِيحَةً ثَبَتَتْ فَضَائِلُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ ؛ مِمَّنْ رَوَى هَؤُلَاءِ فَضَائِلَهُ : كَأَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ الرافضي : فَضَائِلُ عَلِيٍّ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الشِّيعَةِ - كَمَا يَقُولُونَ : إنَّ النَّصَّ عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ مُتَوَاتِرٌ - قِيلَ لَهُ أَمَّا " الشِّيعَةُ " الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الصَّحَابَةِ : فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَمِعُوا كَلَامَهُ وَنَقْلَهُمْ نَقْلَ مُرْسَلٍ مُنْقَطِعٍ إنْ لَمْ يُسْنِدْهُ إلَى الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا . وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ تُوَالِيهِمْ الرَّافِضَةُ نَفَرٌ قَلِيلٌ - بِضْعَةَ عَشَرَ وَإِمَّا نَحْوَ ذَلِكَ - وَهَؤُلَاءِ لَا يَثْبُتُ التَّوَاتُرُ بِنَقْلِهِمْ لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَدَدِ الْقَلِيلِ ، وَالْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَهُمْ تَقْدَحُ الرَّافِضَةُ فِيهِمْ ؛ ثُمَّ إذَا جَوَّزُوا عَلَى الْجُمْهُورِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ الْكَذِبَ وَالْكِتْمَانَ فَتَجْوِيزُ ذَلِكَ عَلَى نَفَرٍ قَلِيلٍ أَوْلَى وأجوز .(1/249)
وَأَيْضًا فَإِذَا قَالَ الرافضي : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَ قَصْدُهُمْ الرِّيَاسَةَ وَالْمُلْكَ فَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِالْوِلَايَةِ . قَالَ لَهُمْ : هَؤُلَاءِ لَمْ يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا عَلَى الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا قَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ وَالْكُفَّارَ وَهُمْ الَّذِينَ كَسَرُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَفَتَحُوا بِلَادَ فَارِسَ وَأَقَامُوا الْإِسْلَامَ وَأَعَزُّوا الْإِيمَانَ وَأَهْلَهُ وَأَذَلُّوا الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ . وَعُثْمَانُ هُوَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْمَنْزِلَةِ . وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ طَلَبُوا قَتْلَهُ وَهُوَ فِي وِلَايَتِهِ فَلَمْ يُقَاتِلْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا قَتَلَ مُسْلِمًا عَلَى وِلَايَتِهِ ؛ فَإِنْ جَوَّزْت عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ أَعْدَاءَ الرَّسُولِ : كَانَتْ حُجَّةُ الناصبي عَلَيْك أَظْهَرَ . وَإِذَا أَسَأْت الْقَوْلَ فِي هَؤُلَاءِ وَنَسَبْتهمْ إلَى الظُّلْمِ وَالْمُعَادَاةِ لِلرَّسُولِ وَطَائِفَتِهِ : كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً لِلْخَوَارِجِ النَّوَاصِبِ الْمَارِقِينَ عَلَيْك . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : أَيُّمَا أَوْلَى أَنْ يُنْسَبَ إلَى طَلَبِ الرِّيَاسَةِ : مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وِلَايَتِهِ - وَلَمْ يُقَاتِلْ الْكُفَّار - وَابْتَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ لِيُطِيعُوهُ ؛ وَهُمْ لَا يُطِيعُونَهُ وَقَتَلَ مِنْ " أَهْلِ الْقِبْلَةِ " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ؛ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً ؛ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مُسْلِمًا ؛ بَلْ أَعَزُّوا أَهْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَصَرُوهُمْ وَآوَوْهُمْ أَوْ مَنْ قَتَلَ وَهُوَ فِي وِلَايَتِهِ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْ نَفْسِهِ(1/250)
حَتَّى قُتِلَ فِي دَارِهِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ فَإِنْ جَوَّزْت عَلَى مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِلْمُلْكِ ظَالِمًا لِلْمُسْلِمِينَ بِوِلَايَتِهِ فَتَجْوِيزُ هَذَا عَلَى مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْوِلَايَةِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا أَوْلَى وَأَحْرَى . وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرَّافِضَةَ أُمَّةٌ لَيْسَ لَهَا عَقْلٌ صَرِيحٌ ؛ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا دِينٌ مَقْبُولٌ ؛ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ بَلْ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَجَهْلًا وَدِينُهُمْ يُدْخِلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ زِنْدِيقٍ وَمُرْتَدٍّ كَمَا دَخَلَ فِيهِمْ النصيرية ؛ وَالْإسْماعيليَّةُ وَغَيْرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إلَى خِيَارِ الْأُمَّةِ يُعَادُونَهُمْ وَإِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ يُوَالُونَهُمْ وَيَعْمِدُونَ إلَى الصِّدْقِ الظَّاهِرِ الْمُتَوَاتِرِ يَدْفَعُونَهُ وَإِلَى الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ الَّذِي يُعْلَمُ فَسَادُهُ يُقِيمُونَهُ ؛ فَهُمْ كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ - لَوْ كَانُوا مِنْ الْبَهَائِمِ لَكَانُوا حُمْرًا وَلَوْ كَانُوا مِنْ الطَّيْرِ لَكَانُوا رَخَمًا . وَلِهَذَا كَانُوا أَبْهَتْ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ فِرْيَةً مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ عَنْ مُعَاوِيَةَ . فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَمَرَ غَيْرَهُ وَجَاهَدَ مَعَهُ وَكَانَ أَمِينًا عِنْدَهُ يَكْتُبُ لَهُ الْوَحْيَ وَمَا اتَّهَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ . وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالرِّجَالِ وَقَدْ ضَرَبَ(1/251)
اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي وِلَايَتِهِ . وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاهُ أَبَا سُفْيَانَ إلَى أَنْ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ فَمُعَاوِيَةُ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ وَأَحْسَنُ إسْلَامًا مِنْ أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَّى أَبَاهُ فَلَأَنْ تَجُوزُ وِلَايَتُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ قَطُّ وَلَا نَسَبَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى الرِّدَّةِ فَاَلَّذِينَ يَنْسُبُونَ هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ هُمْ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَامَّةَ أَهْلِ بَدْرِ وَأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ . وَاَلَّذِينَ نَسَبُوا هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ مَاتَ وَوَجْهُهُ إلَى الشَّرْقِ وَالصَّلِيبُ عَلَى وَجْهِهِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا فِيمَنْ هُوَ دُونَ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ كَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَأَوْلَادِهِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَوَلَدَيْهِ - الْمُلَقَّبَيْنِ بِالْمَهْدِيِّ وَالْهَادِي - وَالرَّشِيدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الْخِلَافَةَ وَأَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَمَنْ نَسَبَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ وَإِلَى أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِ النَّصَارَى لَعَلِمَ كُلُّ(1/252)
عَاقِلٍ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرْيَةً فَكَيْفَ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِي مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ . بَلْ يَزِيدُ ابْنُهُ مَعَ مَا أَحْدَثَ مِنْ الْأَحْدَاثِ مَنْ قَالَ فِيهِ : إنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ . بَلْ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرُ الْمُلُوكِ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَلَهُمْ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتُهُمْ عَظِيمَةٌ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَظِيمَةٌ فَالطَّاعِنُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ نُظَرَائِهِ إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مَا لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ تَابَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُعَاقِبُهُ لِسَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ فِيهِ شَفَاعَةَ نَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّفَعَاءِ فَالشَّهَادَةُ لِوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالنَّارِ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ . وَكَذَلِكَ قَصْدُ لَعْنَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّالِحِينَ وَالْأَبْرَارِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ ".203 " . وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ(1/253)
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ ، فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - " لاَ تَلْعَنُوهُ ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " "204 . وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا وَنَهَى عَنْ لَعْنَةِ الْمُؤْمِنِ الْمُعَيَّنِ . كَمَا أَنَّا نَقُولُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) [النساء/10] }، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَشْهَدَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَغْفِرَ لَهُ اللَّهُ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ أَوْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . فَهَكَذَا الْوَاحِدُ مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِ الْمُلُوكِ وَإِنْ كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ نَلْعَنَهُ وَنَشْهَدَ لَهُ بِالنَّارِ . وَمَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ حَسَنَاتٌ عَظِيمَةٌ يُرْجَى لَهُ بِهَا الْمَغْفِرَةُ مَعَ ظُلْمِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ الأَسْوَدِ الْعَنْسِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهْوَ نَازِلٌ فِى سَاحِلِ حِمْصَ ، وَهْوَ فِى بِنَاءٍ لَهُ وَمَعَهُ أُمُّ حَرَامٍ ، قَالَ(1/254)
عُمَيْرٌ فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا " . قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ . قَالَ " أَنْتِ فِيهِمْ " . ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - " أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ " . فَقُلْتُ أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ " لاَ "205(1/255)
وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ " يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ " وَكَانَ مَعَهُ فِي الْغُزَاةِ أَبُو أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيُّ وَتُوُفِّيَ هُنَاكَ وَقَبْرُهُ هُنَاكَ إلَى الْآنِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَقُولُونَ فِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ : إنَّا لَا نَسُبُّهُمْ وَلَا نُحِبُّهُمْ أَيْ لَا نُحِبُّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ ظُلْمٍ . وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَجْتَمِعُ فِيهِ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَطَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَبِرٌّ وَفُجُورٌ وَشَرٌّ فَيُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ إنْ شَاءَ أَوْ يَغْفِرُ لَهُ وَيُحِبُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَيُبْغِضُ مَا فَعَلَهُ مِنْ الشَّرِّ . فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ صَغَائِرَ فَقَدْ وَافَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا . وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنَّارِ بَلْ يُجَوِّزُونَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) [النساء/48] }، فَهَذِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ فَإِنَّهُ قَيَّدَهَا بِالْمَشِيئَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) [الزمر/53] }، فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَابَ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ وَعَمَّ .(1/256)
وَالْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ : إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يَتَوَهَّمُونَ فِي بَعْضِ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ كَمَا تَتَوَهَّمُ الْخَوَارِجُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَتْبَاعِهِمَا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَأَمْثَالِهِمَا وَيَبْنُونَ مَذَاهِبَهُمْ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ :
( إحْدَاهُمَا : أَنَّ فُلَانًا مَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ .(1/257)
( وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ يَخْلُدُ فِي النَّارِ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ . وَأَمَّا الثَّانِي فَبَاطِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ . وَمَنْ قَالَ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ ؛ مِمَّنْ ظَهَرَ إسْلَامُهُ وَصَلَاتُهُ وَحَجُّهُ وَصِيَامُهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ وَأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ ذَلِكَ فِي الْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ وَفِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ . وَكَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ لَيْسَا وَلَدَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إنَّمَا هُمَا أَوْلَادُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَمْ يُزَوِّجْ بِنْتَيْهِ عُثْمَانَ ؛ بَلْ إنْكَارُ إسْلَامِ مُعَاوِيَةَ أَقْبَحُ مِنْ إنْكَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ . وَأَمَّا إسْلَامُ مُعَاوِيَةَ وَوِلَايَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَارَةِ وَالْخِلَافَةِ فَأَمْرٌ يَعْرِفُهُ جَمَاهِيرُ الْخَلْقِ وَلَوْ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ إسْلَامَ عَلِيٍّ أَوْ ادَّعَى بَقَاءَهُ عَلَى الْكُفْرِ ؛ لَمْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِ إلَّا بِمَثَلِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إسْلَامَ أَبِي بَكْر ؛ وَعُمَر ؛ وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فَتَفَاضُلُهُمْ لَا يَمْنَعُ اشْتِرَاكَهُمْ فِي ظُهُورِ إسْلَامِهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إيمَانُ مُعَاوِيَةَ كَانَ نِفَاقًا ؛ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ .(1/258)
فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ اتَّهَمَ مُعَاوِيَةَ بِالنِّفَاقِ ؛ بَلْ الْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ ؛ وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي حُسْنِ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ - أَبِيهِ - وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ ؛ وَأَخُوهُ يَزِيدُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُسْنِ إسْلَامِهِمَا كَمَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُسْنِ إسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَكَيْفَ يَكُونُ رَجُلًا مُتَوَلِّيًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَائِبًا وَمُسْتَقِلًّا يُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَخْطُبُ وَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُ فِيهِمْ الْحُدُودَ وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ فَيْأَهُمْ وَمَغَانِمَهُمْ وَصَدَقَاتِهِمْ وَيَحُجُّ بِهِمْ وَمَعَ هَذَا يُخْفِي نِفَاقَهُ عَلَيْهِمْ كُلَّهُمْ ؟ وَفِيهِمْ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَمْ يَكُنْ مِنْ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ أَحَدٌ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَبَنُو أُمَيَّةَ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُنْسَبُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْبِدْعَةِ أَوْ نَوْعٍ مِنْ الظُّلْمِ لَكِنْ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى زَنْدَقَةٍ وَنِفَاقٍ . وَإِنَّمَا كَانَ الْمَعْرُوفُونَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَدَّاحَ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَكَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَوِيُّونَ(1/259)
وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ الْكُفَّار فَهَؤُلَاءِ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَكَذَلِكَ رُمِيَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ قَوْمٌ مِنْ مُلُوكِ النَّوَاحِي الْخُلَفَاءُ مِنْ بَنِي بويه وَغَيْرِ بَنِي بويه ؛ فَأَمَّا خَلِيفَةٌ عَامُّ الْوِلَايَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ طَهَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ أَمْرِهِمْ زِنْدِيقًا مُنَافِقًا فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ وَيُعْرَفَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي هَذَا الْبَابِ .(1/260)
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ ؛ كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :" أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ ، ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ ، ثُمَّ مُلْكٌ أَعْفَرُ ، ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبَرُوتٌ يُسْتَحَلُّ فِيهَا الْخَمْرُ وَالْحَرِيرُ ". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : الأَعْفَرُ شِبْهُ التُّرَابِ وَلَيْسَ فِيهِ طَمَعُ مُلْكٍ "206 وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحُلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ207 . وَأَمَّا مَنْ قَبْلَهُ فَكَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " " خِلاَفَةُ النُّبُوَّةِ ثَلاَثُونَ سَنَةً ثُمَّ يُؤْتِى اللَّهُ الْمُلْكَ - أَوْ مُلْكَهُ - مَنْ يَشَاءُ "208 " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ " 209" .(1/261)
وَقَدْ تَنَازَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ ؛ وَقَالُوا : زَمَانُهُ زَمَانُ فِتْنَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ جَمَاعَةٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى خَلِيفَتَانِ فَهُوَ خَلِيفَةٌ وَمُعَاوِيَةُ خَلِيفَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَتَّفِقْ عَلَيْهِ وَلَمْ تَنْتَظِمْ فِي خِلَافَتِهِ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ : أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَزَمَانُ عَلِيٍّ كَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّحَابَةُ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : " مَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ " وَمَعَ هَذَا فَلِكُلِّ خَلِيفَةٍ مَرْتَبَةٌ . فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَا يُوَازِنُهُمَا أَحَدٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ ". "210(1/262)
وَلَمْ يَكُنْ نِزَاعٌ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا أوتى بِرَجُلِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي 211. وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَكِنْ ثَبَتَ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ السَّابِقِينَ عَلَى مُبَايَعَةِ ( عُثْمَانَ طَوْعًا بِلَا كُرْهٍ ؛ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ عُمَر الشُّورَى فِي سِتَّةٍ : عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . وَتَرَكَهَا " ثَلَاثَةٌ " وَهُمْ : طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ . فَبَقِيَتْ فِي " ثَلَاثَةٍ " عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ . فَوُلِّيَ أَحَدُهُمَا فَبَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا بِعُثْمَانِ . وَنَقَلَ وَفَاتَهُ وَوِلَايَتَهُ : حَدِيثٌ طَوِيلٌ فَمَنْ أَرَادَهُ فَعَلَيْهِ بِأَحَادِيثِ الثِّقَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ .
71-رأيه في يزيد بن معاوية
ج- افْتَرَقَ النَّاسُ فِي " يَزِيدَ " بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ( ثَلَاثُ فِرَقٍ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ .(1/263)
( فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ قَالُوا : إنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا وَأَنَّهُ سَعَى فِي قَتْلِ سَبْطِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَفِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِقَامًا مِنْهُ وَأَخْذًا بِثَأْرِ جَدِّهِ عتبة وَأَخِي جَدِّهِ شَيْبَةَ وَخَالِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عتبة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا ؛ وَقَالُوا : تِلْكَ أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وَآثَارُ جَاهِلِيَّةٍ وَأَنْشَدُوا عَنْهُ : لَمَّا بَدَتْ تِلْكَ الْحُمُولُ وَأَشْرَفَتْ تِلْكَ الرُّءُوسُ عَلَى رَبِّي جيروني نَعَقَ الْغُرَابُ فَقُلْت نُحْ أَوْ لَا تَنُحْ فَلَقَدْ قَضَيْت مِنْ النَّبِيِّ دُيُونِي وَقَالُوا : إنَّهُ تَمَثَّلَ بِشِعْرِ ابْنِ الزبعرى الَّذِي أَنْشَدَهُ يَوْمَ أُحُدٍ : - لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرِ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلِ قَدْ قَتَلْنَا الْكَثِيرَ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ وَعَدَلْنَاهُ بِبَدْرِ فَاعْتَدَلَ وَأَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ . وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْلٌ عَلَى الرَّافِضَةِ ؟ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ؛ فَتَكْفِيرُ يَزِيدَ أَسْهَلُ بِكَثِيرِ .(1/264)
( وَالطَّرَفُ الثَّانِي يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَإِمَامٌ عَدْلٌ وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ " الصَّحَابَةِ " الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَرُبَّمَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَبِيًّا وَيَقُولُونَ عَنْ " الشَّيْخِ عَدِيٍّ " أَوْ حَسَنٍ الْمَقْتُولِ - كَذِبًا عَلَيْهِ - إنَّ سَبْعِينَ وَلِيًّا صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ عَنْ الْقِبْلَةِ لِتَوَقُّفِهِمْ فِي يَزِيدَ . وَهَذَا قَوْلُ غَالِيَةِ العدوية وَالْأَكْرَادِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الضُّلَّالِ . فَإِنَّ الشَّيْخَ عَدِيًّا كَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا فَاضِلًا وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إلَّا إلَى السُّنَّةِ الَّتِي يَقُولُهَا غَيْرُهُ كَالشَّيْخِ " أَبِي الْفَرَجِ " المقدسي فَإِنَّ عَقِيدَتَهُ مُوَافِقَةٌ لِعَقِيدَتِهِ ؛ لَكِنْ زَادُوا فِي السُّنَّةِ أَشْيَاءَ كَذِبٌ وَضَلَالٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّشْبِيهِ الْبَاطِلِ وَالْغُلُوِّ فِي الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَفِي يَزِيدَ وَالْغُلُوَّ فِي ذَمِّ الرَّافِضَةِ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ تَوْبَةٌ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَعِلْمٌ بِالْأُمُورِ وَسَيْرُ الْمُتَقَدِّمِينَ ؛ وَلِهَذَا لَا يُنْسَبُ إلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَلَا إلَى ذِي عَقْلٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ رَأْيٌ وَخِبْرَةٌ .(1/265)
( وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَلَمْ يُولَدْ إلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا ؛ وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِنْ مَصْرَعِ " الْحُسَيْنِ " وَفِعْلِ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبًا وَلَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . ثُمَّ افْتَرَقُوا ( ثَلَاثَ فِرَقٍ : فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَلَيْهِ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يُحِبُّونَ يَزِيدَ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؟ فَقُلْت : يَا أَبَتِ فَلِمَاذَا لَا تَلْعَنُهُ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ وَمَتَى رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا . وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ . فَقَالَ : هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِالْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ قُلْت : وَمَا فَعَلَ ؟ قَالَ : قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَ . قُلْت : وَمَا فَعَلَ ؟ قَالَ : نَهَبَهَا قُلْت : فَيُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ ؟ قَالَ : لَا يُذْكَرُ عَنْهُ حَدِيثٌ . وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي لَمَّا سُئِلَ عَنْ يَزِيدَ : فِيمَا بَلَغَنِي لَا يُسَبُّ وَلَا يُحَبُّ . وَبَلَغَنِي أَيْضًا أَنَّ جَدَّنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنَ تيمية(1/266)
سُئِلَ عَنْ يَزِيدَ . فَقَالَ : لَا تُنْقِصْ وَلَا تَزِدْ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ وَأَحْسَنِهَا . أَمَّا تَرْكُ سَبِّهِ وَلَعْنَتِهِ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ الَّذِي يَقْتَضِي لَعْنَهُ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الْمُعَيَّنَ لَا يُلْعَنُ بِخُصُوصِهِ إمَّا تَحْرِيمًا وَإِمَّا تَنْزِيهًا . فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَر فِي قِصَّةِ " حِمَارٍ " الَّذِي تَكَرَّرَ مِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَجَلْدِهِ لَمَّا لَعَنَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }212 " وَقَالَ : " { لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ213 . هَذَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ لَعَنَ عُمُومًا شَارِبَ الْخَمْرِ وَنَهَى فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ لَعْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ نُصُوصَ الْوَعِيدِ عَامَّةٌ فِي أَكَلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فَلَا نَشْهَدُ بِهَا عَامَّةً عَلَى مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ؛ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ : إمَّا تَوْبَةٍ ؛ وَإِمَّا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ ؛ وَإِمَّا مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ ؛ وَإِمَّا شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ ؛ وَإِمَّا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ . وَمِنْ اللَّاعِنِينَ مَنْ يَرَى أَنَّ تَرْكَ لَعْنَتِهِ مِثْلُ تَرْكِ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ مِنْ فُضُولِ الْقَوْلِ لَا لِكَرَاهَةِ فِي اللَّعْنَةِ . وَأَمَّا تَرْكُ(1/267)
مَحَبَّتِهِ فَلِأَنَّ الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ }214 " وَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ : لَا يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مَعَ يَزِيدَ وَلَا مَعَ أَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلُوكِ ؛ الَّذِينَ لَيْسُوا بِعَادِلِينَ . وَلِتَرْكِ الْمَحَبَّةِ " مَأْخَذَانِ " :
( أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يُوجِبُ مَحَبَّتَهُ فَبَقِيَ وَاحِدًا مِنْ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ . وَمَحَبَّةُ أَشْخَاصِ هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً ؛ وَهَذَا الْمَأْخَذُ وَمَأْخَذُ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِسْقُهُ اعْتَقَدَ تَأْوِيلًا .(1/268)
( وَالثَّانِي : أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ مَا يَقْتَضِي ظُلْمَهُ وَفِسْقَهُ فِي سِيرَتِهِ ؛ وَأَمْرُ الْحُسَيْنِ وَأَمْرُ أَهْلِ الْحَرَّةِ . وَأَمَّا الَّذِينَ لَعَنُوهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ وإلكيا الْهَرَّاسِ وَغَيْرِهِمَا : فَلَمَّا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُبِيحُ لَعْنَتَهُ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ هُوَ فَاسِقٌ وَكُلُّ فَاسِقٍ يُلْعَنُ . وَقَدْ يَقُولُونَ بِلَعْنِ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِفِسْقِهِ كَمَا لَعَنَ أَهْلُ صفين بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْقُنُوتِ فَلَعَنَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ فِي قُنُوتِ الصَّلَاةِ رِجَالًا مُعَيَّنِينَ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ لَعَنُوا مَعَ أَنَّ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ السَّائِغِ : الْعَادِلِينَ وَالْبَاغِينَ : لَا يَفْسُقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ . وَقَدْ يُلْعَنُ لِخُصُوصِ ذُنُوبِهِ الْكِبَارِ ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُلْعَنُ سَائِر الْفُسَّاقِ كَمَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَاعًا مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَأَشْخَاصًا مِنْ الْعُصَاةِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَلْعَنْ جَمِيعَهُمْ فَهَذِهِ ( ثَلَاثَةُ مَآخِذَ لِلَعْنَتِهِ . وَأَمَّا الَّذِينَ سَوَّغُوا مَحَبَّتَهُ أَوْ أَحَبُّوهُ كَالْغَزَالِيِّ والدستي فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ :(1/269)
( أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْلِمٌ وُلِّيَ أَمْرَ الْأُمَّةِ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَتَابَعَهُ بَقَايَاهُمْ وَكَانَتْ فِيهِ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِيمَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ وَغَيْرِهِ فَيَقُولُونَ : هُوَ مُجْتَهِدٌ مُخْطِئٌ وَيَقُولُونَ : إنَّ أَهْلَ الْحَرَّةِ هُمْ نَقَضُوا بَيْعَتَهُ أَوَّلًا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ابْنُ عُمَر وَغَيْرُهُ وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ التَّأَلُّمُ لِقَتْلِهِ وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يُحْمَلْ الرَّأْسُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا حُمِلَ إلَى ابْنِ زِيَادٍ .
( وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسطَنْطينيّةَ مَغْفُورٌ لَهُ }215 " وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُ يَزِيدَ .(1/270)
" وَالتَّحْقِيقُ " . أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَسُوغُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ ؛ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ لِمَنْ يَعْمَلُ الْمَعَاصِيَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ مَنْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ بَلْ لَا يَتَنَافَى عِنْدَنَا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الرَّجُلِ الْحَمْدُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ؛ كَذَلِكَ لَا يَتَنَافَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ وَأَنَّ يُلْعَنَ وَيُشْتَمَ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ وَجْهَيْنِ . فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ : مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الْمِلَّةِ - وَإِنْ دَخَلُوا النَّارَ أَوْ اسْتَحَقُّوا دُخُولَهَا فَإِنَّهُمْ - لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَجْتَمِعُ فِيهِمْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ؛ وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَتَرَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَمَنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ . وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ ؛ وَتَقْرِيرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلرَّجُلِ وَعَلَيْهِ فَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَنَائِزِ فَإِنَّ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ وَإِنْ لُعِنَ الْفَاجِرُ مَعَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِنَوْعِهِ لَكِنَّ الْحَالَ الْأَوَّلَ أَوْسَطُ وَأَعْدَلُ ؛ وَبِذَلِكَ أَجَبْت مقدم المغل بولاي ؛ لَمَّا قَدِمُوا دِمَشْقَ فِي الْفِتْنَةِ الْكَبِيرَةِ وَجَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مُخَاطَبَاتٌ ؛ فَسَأَلَنِي . فِيمَا سَأَلَنِي : مَا تَقُولُونَ فِي يَزِيدَ ؟ فَقُلْت : لَا نَسُبُّهُ وَلَا نُحِبُّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا صَالِحًا فَنُحِبُّهُ وَنَحْنُ لَا نَسُبُّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ(1/271)
بِعَيْنِهِ . فَقَالَ : أَفَلَا تَلْعَنُونَهُ ؟ أَمَا كَانَ ظَالِمًا ؟ أَمَا قَتَلَ الْحُسَيْنَ ؟ . فَقُلْت لَهُ : نَحْنُ إذَا ذَكَرَ الظَّالِمُونَ كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ : نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ : أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَلَا نُحِبُّ أَنْ نَلْعَنَ أَحَدًا بِعَيْنِهِ ؛ وَقَدْ لَعَنَهُ قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهَذَا مَذْهَبٌ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَحَبُّ إلَيْنَا وَأَحْسَنُ . وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ " الْحُسَيْنَ " أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ؛ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا .
قَالَ : فَمَا تُحِبُّونَ أَهْلَ الْبَيْتِ ؟(1/272)
قُلْت : مَحَبَّتُهُمْ عِنْدَنَا فَرْضٌ وَاجِبٌ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَم قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ " أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِىَ رَسُولُ رَبِّى فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ ". فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ " وَأَهْلُ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى ". فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ وَمَنْ هُمْ قَالَ هُمْ آلُ عَلِىٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ . قَالَ كُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ قَالَ نَعَمْ.216 " قُلْت لِمُقَدَّمٍ : وَنَحْنُ نَقُولُ فِي صِلَاتِنَا كُلَّ يَوْمٍ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ "
قَالَ مُقَدَّمٌ : فَمَنْ يُبْغِضُ أَهْلَ الْبَيْتِ ؟(1/273)
قُلْت : مَنْ أَبْغَضَهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا . ثُمَّ قُلْت لِلْوَزِيرِ الْمَغُولِيِّ لِأَيِّ شَيْءٍ قَالَ عَنْ يَزِيدَ وَهَذَا تتري ؟ قَالَ : قَدْ قَالُوا لَهُ إنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ نَوَاصِبُ قُلْت بِصَوْتِ عَالٍ : يَكْذِبُ الَّذِي قَالَ هُنَا وَمَنْ قَالَ هَذَا : فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ ، وَاَللَّهِ مَا فِي أَهْلِ دِمَشْقَ نَوَاصِبُ وَمَا عَلِمْت فِيهِمْ ناصبيا وَلَوْ تَنَقَّصَ أَحَدٌ عَلِيًّا بِدِمَشْقَ لَقَامَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَكِنْ كَانَ - قَدِيمًا لَمَّا كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ وُلَاةَ الْبِلَادِ - بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْصِبُ الْعَدَاوَةَ لِعَلِيِّ وَيَسُبُّهُ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا بَقِيَ مِنْ أُولَئِكَ أَحَدٌ .217
س72- رأيه بمن يقول : إنَّ الدِّينَ فَسَدَ مِنْ قَبْلِ " هَذِهِ " وَهُوَ مِنْ حِينِ أُخِذَتْ الْخِلَافَةُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مَكَانَهُ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَلَمْ تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُمْ وَلَمْ يَصِحَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ عَقْدٌ مِنْ عُقُودِهِمْ لَا عَقْدُ نِكَاحٍ وَلَا غَيْرُهُ وَأَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَزَوَّجَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَنِكَاحُهُ فَاسِدٌ ؛ وَكَذَلِكَ الْعُقُودُ جَمِيعُهَا فَاسِدَةٌ وَالْوِلَايَاتُ وَغَيْرُهَا(1/274)
ج- أَمَّا هَذَا الْجَاهِلُ فَهُوَ شَبِيهٌ فِي جَهْلِهِ بِالرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ ؛ وَخُرَافَاتُهُمْ الَّتِي لَا تَرُوجُ إلَّا عَلَى جَاهِلٍ لَا يَعْرِفُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ كَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ . وَقِيلَ إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الدِّينَ فَسَدَ مِنْ حِينِ أُخِذَتْ الْخِلَافَةُ مِنْ عَلِيٍّ وَذَلِكَ مِنْ حِينِ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَأَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ بَاطِلَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ صَلِيبٌ وَيُقَرِّرُ دَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ : فَإِنَّ هَذَا زِنْدِيقٌ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ مِنْ جِنْسِ قَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ كالنصرية وَالْإسْماعيليَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ . وَلِهَذَا يَتَكَلَّمُ بِالتَّنَاقُضِ فَإِنَّ مَنْ يُقَرِّرُ دَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَيَطْعَنُ فِي دِينِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَأَنَّ خَيْرَ الْأُمَّةِ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُ ؛ لِمَا كَانَ مُقَرَّرًا لِدِينِ الْكُفَّارِ طَاعِنًا فِي دِينِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالرَّدُّ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَقُولُهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ(1/275)
فَنُجِيبُ مَنْ يُقِرُّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَنُبَيِّنُ لَهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ فَأَمَّا مَنْ يَطْعَنُ فِي نُبُوَّتِهِ فَنُكَلِّمُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ .
73- رأيه بمقتل الحسين رضي الله عنه ؟
ج- وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلُعِنَ مَنْ قَتَلَهُ وَرَضِيَ بِقَتْلِهِ - قُتِلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ إحْدَى وَسِتِّينَ218 . وَكَانَ الَّذِي حَضَّ عَلَى قَتْلِهِ الشِّمْرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ صَارَ يَكْتُبُ فِي ذَلِكَ إلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ عَلَى الْعِرَاقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ ؛ وَعُبَيْدُ اللَّهِ هَذَا أَمَرَ - بِمُقَاتَلَةِ الْحُسَيْنِ - نَائِبَهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بَعْدَ أَنْ طَلَبَ الْحُسَيْنُ مِنْهُمْ مَا طَلَبَهُ آحَادُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجِئْ مَعَهُ مُقَاتِلَةٌ ؛ فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ يُرْسِلُوهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ عَمِّهِ أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ يُقَاتِلُ الْكُفَّار فَامْتَنَعُوا إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ أَوْ يُقَاتِلُوهُ219 فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ حَمَلُوا ثِقْلَهُ وَأَهْلَهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إلَى دِمَشْقَ وَلَمْ يَكُنْ يَزِيدُ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ وَلَا ظَهَرَ مِنْهُ سُرُورٌ بِذَلِكَ وَرِضًى بِهِ بَلْ قَالَ كَلَامًا فِيهِ ذَمٌّ لَهُمْ ؛ حَيْثُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ وَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مرجانة - يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ - وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمٌ لَمَا قَتَلَهُ - يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّعْنَ(1/276)
فِي اسْتِلْحَاقِهِ حَيْثُ كَانَ أَبُوهُ زِيَادٌ اُسْتُلْحِقَ حَتَّى كَانَ يَنْتَسِبُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ - وَبَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو هَاشِمٍ كِلَاهُمَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ ثِقْلُ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِهِ ظَهَرَ فِي دَارِهِ الْبُكَاءُ وَالصُّرَاخُ لِذَلِكَ وَأَنَّهُ أَكْرَمَ أَهْلَهُ وَأَنْزَلَهُمْ مَنْزِلًا حَسَنًا وَخَيَّرَ ابْنَهُ عَلِيًّا بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَارَ الْمَدِينَةَ220 . وَالْمَكَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سِجْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ . لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا انْتَصَرَ لَهُ بَلْ قَتَلَ أَعْوَانَهُ لِإِقَامَةِ مُلْكِهِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَثَّلَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ بِأَبْيَاتِ تَقْتَضِي مِنْ قَائِلِهَا الْكُفْرَ الصَّرِيحَ كَقَوْلِهِ : لَمَّا بَدَتْ تِلْكَ الْحُمُولُ وَأَشْرَفَتْ تِلْكَ الرُّءُوسُ إلَى رَبِّي جيروني نَعَقَ الْغُرَابُ فَقُلْت نُحْ أَوْ لَا تَنُحْ فَلَقَدْ قَضَيْت مِنْ النَّبِيِّ دُيُونِي وَهَذَا الشِّعْرُ كُفْرٌ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ " يَزِيدَ " تَفَاوَتَ النَّاسُ فِيهِ فَطَائِفَةٌ تَجْعَلُهُ كَافِرًا ؛ بَلْ تَجْعَلُهُ هُوَ وَأَبَاهُ كَافِرَيْنِ ؛ بَلْ يُكَفِّرُونَ مَعَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَيُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَجُمْهُورَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ مِنْ أَجْهَلِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَضَلِّهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ وَالصَّحَابَةِ وَالْقُرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَكَذِبُهُمْ عَلَى يَزِيدَ مِثْلُ كَذِبِهِمْ عَلَى(1/277)
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ؛ بَلْ كَذِبُهُمْ عَلَى يَزِيدَ أَهْوَنُ بِكَثِيرِ . وَطَائِفَةٌ تَجْعَلُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَخُلَفَاءِ الْعَدْلِ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ يَجْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا . وَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَبْيَنِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ ؛ وَأَقْبَحِ الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ بَلْ كَانَ مَلِكًا مَنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلُوكِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ قَرِيبٌ مِنْ الْفُرَاتِ وَدُفِنَ جَسَدُهُ حَيْثُ قُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إلَى قُدَّامِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا حَمْلُهُ إلَى الشَّامِ إلَى يَزِيدَ : فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُنْقَطِعَةٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا بَلْ فِي الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا أَنَّ " يَزِيدَ " جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ ؛ وَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَضَرُوهُ - كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي بَرْزَةَ - أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهَذَا تَلْبِيسٌ . فَإِنَّ الَّذِي جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ إنَّمَا كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ ؛ هَكَذَا فِي الصَّحِيحِ وَالْمَسَانِدِ . وَإِنَّمَا جَعَلُوا مَكَانَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ " يَزِيدَ " وَعُبَيْدُ اللَّهِ لَا رَيْبَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَحَمْلِ الرَّأْسِ إلَى بَيْنِ يَدَيْهِ . ثُمَّ إنَّ ابْنَ زِيَادٍ قُتِلَ بَعْدَ(1/278)
ذَلِكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْمَذْكُورِينَ كَأَنَسِ وَأَبِي بَرْزَةَ لَمْ يَكُونُوا بِالشَّامِ وَإِنَّمَا كَانُوا بِالْعِرَاقِ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا الْكَذَّابُونَ جُهَّالٌ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَذِبِهِمْ . وَأَمَّا حَمْلُهُ إلَى مِصْرَ فَبَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ الَّذِي بِقَاهِرَةِ مِصْرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ " مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ " بَاطِلٌ لَيْسَ فِيهِ رَأْسُ الْحُسَيْنِ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ " بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَدَّاحِ " الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكًا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِائَتَيْ عَامٍ إلَى أَنْ انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي أَيَّامِ " نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ " وَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ وَيَدَّعُونَ الشَّرَفَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ يَقُولُونَ لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ وَيُقَالُ : إنَّ جَدَّهُمْ كَانَ رَبِيبَ الشَّرِيفِ الْحُسَيْنِيِّ فَادَّعُوا الشَّرَفَ لِذَلِكَ . فَأَمَّا مَذَاهِبُهُمْ وَعَقَائِدُهُمْ فَكَانَتْ مُنْكَرَةً بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانُوا يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ يُبْطِنُونَ مَذْهَبَ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَهُوَ مِنْ أَخْبَثِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ أَفْسَدُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَنْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ : الْمُتَفَلْسِفَةُ والمباحية وَالرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يَسْتَرِيبُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ(1/279)
وَالْإِيمَانِ . فَأُحْدِثَ هَذَا " الْمَشْهَدُ " فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ نَقْلٌ مِنْ عَسْقَلَانَ . وَعَقِيبَ ذَلِكَ بِقَلِيلِ انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ بِمَوْتِ الْعَاضِدِ آخِرِ مُلُوكِهِمْ . وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعِ رَأْسِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بكار فِي كِتَابِ " أَنْسَابِ قُرَيْشٍ " وَالزُّبَيْرُ بْنُ بكار هُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَوْثَقُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ذَكَرَ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدُفِنَ هُنَاكَ وَهَذَا مُنَاسِبٌ . فَإِنَّ هُنَاكَ قَبْرَ أَخِيهِ الْحَسَنِ وَعَمِّ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ وَابْنِهِ عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِمْ . قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ - الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ : " ذُو النَّسَبَيْنِ بَيْنَ دِحْيَةَ وَالْحُسَيْنِ " فِي كِتَابِ " الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ فِي فَضْلِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ " - لِمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بكار عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ : أَنَّهُ قَدِمَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ وَبَنُو أُمَيَّةَ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَسَمِعُوا الصِّيَاحَ فَقَالُوا : مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ : نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ يَبْكِينَ حِينَ رَأَيْنَ رَأْسَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : وَأَتَى بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى عَمْرٍو فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْعَثْ بِهِ إلَيَّ قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ : فَهَذَا الْأَثَرُ يَدُلُّ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ سِوَاهُ وَالزُّبَيْرُ أَعْلَمُ أَهْلِ النَّسَبِ وَأَفْضَلُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا السَّبَبِ قَالَ : وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ(1/280)
فِي عَسْقَلَانَ فِي مَشْهَدٍ هُنَاكَ فَشَيْءٌ بَاطِلٌ لَا يَقْبَلُهُ مَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ فَإِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ - مَعَ مَا أَظْهَرُوهُ مِنْ الْقَتْلِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْأَحْقَادِ - لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَبْنُوا عَلَى الرَّأْسِ مَشْهَدًا لِلزِّيَارَةِ . هَذَا ؛ وَأَمَّا مَا افْتَعَلَهُ " بَنُو عُبَيْدٍ " فِي أَيَّامِ إدْبَارِهِمْ وَحُلُولِ بَوَارِهِمْ وَتَعْجِيلِ دَمَارِهِمْ ؛ فِي أَيَّامِ الْمُلَقَّبِ " بِالْقَاسِمِ عِيسَى بْنِ الظَّافِرِ " وَهُوَ الَّذِي عُقِدَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَأَيَّامٍ لِأَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْحَادِي مِنْ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وخمسمائة وَبُويِعَ لَهُ صَبِيحَةَ قَتْلِ أَبِيهِ الظَّافِرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلَهُ مِنْ الْعُمْرِ مَا قَدَّمْنَا فَلَا تَجُوزُ عُقُودُهُ وَلَا عُهُودُهُ وَتُوُفِّيَ وَلَهُ مِنْ الْعُمْرِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهَر وَأَيَّامٌ لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ لِلَيْلَةِ الْجُمْعَةِ لثلاث عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فَافْتَعَلَ فِي أَيَّامِهِ بِنَاءَ الْمَشْهَدِ الْمُحْدَثِ بِالْقَاهِرَةِ وَدُخُولَ الرَّأْسِ مَعَ الْمَشْهَدَيْ الْعَسْقَلَانِيِّ أَمَامَ النَّاسِ لِيَتَوَطَّنَ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ مَا أَوْرَدَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ شَيْءٌ اُفْتُعِلَ قَصْدًا أَوْ نُصِبَ غَرَضًا وَقَضَوْا مَا فِي نُفُوسِهِمْ لِاسْتِجْلَابِ الْعَامَّةِ عَرْضًا وَاَلَّذِي بَنَاهُ " طَلَائِعُ بْنُ رزيك " الرافضي . وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمِيعُ مَنْ أَلَّفَ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ أَنَّ الرَّأْسَ الْمُكَرَّمَ مَا غَرُبَ(1/281)
قَطُّ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ فِي أَمْرِ هَذَا الْمَشْهَدِ وَأَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى هُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَشْبَاهِهِ مُتَّسِعٌ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا جَرَتْ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ ؛ وَأَكَاذِيبُ وَأَهْوَاءٌ ؛ وَوَقَعَ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَكُذِبَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَكَاذِيبِ يُكَذِّبُ بَعْضَهَا شِيعَتُهُمْ وَنَحْوُهُمْ وَيُكَذِّبُ بَعْضَهَا مُبْغِضُوهُمْ لَا سِيَّمَا بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فَإِنَّهُ عَظُمَ الْكَذِبُ وَالْأَهْوَاءُ . وَقِيلَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَقَالَاتٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ عَلِيٌّ بَرِيءٌ مِنْهَا . وَصَارَتْ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ وَالْكَذِبُ تَزْدَادُ حَتَّى حَدَثَ أُمُورٌ يَطُولُ شَرْحُهَا ، مِثْلُ مَا ابْتَدَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَوْمَ عَاشُورًا فَقَوْمٌ يَجْعَلُونَهُ مَأْتَمًا يُظْهِرُونَ فِيهِ النِّيَاحَةَ وَالْجَزَعَ وَتَعْذِيبَ النُّفُوسِ وَظُلْمَ الْبَهَائِمِ وَسَبَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَأَهَانَ بِذَلِكَ مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ رَضِيَ بِقَتْلِهِ وَلَهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِمَنْ سَبَقَهُ مِنْ(1/282)
الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُ وَأَخُوهُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكَانَا قَدْ تَرَبَّيَا فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ لَمْ يَنَالَا مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي اللَّهِ مَا نَالَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ فَأَكْرَمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ تَكْمِيلًا لِكَرَامَتِهِمَا وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمَا وَقَتْلُهُ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ شَرَعَ الِاسْتِرْجَاعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) [البقرة221/155-157] } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " " مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِى فِى مُصِيبَتِى وَأَخْلِفْ لِى خَيْرًا مِنْهَا. إِلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا " " . وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُذْكَرُ هُنَا : أَنَّهُ قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ ماجه عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلاَ مَسْلِمَةٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا - قالَ عَبَّادٌ قَدِمَ عَهْدُهَا - فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعاً إِلاَّ جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ(1/283)
مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا " 222" هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عَنْ الْحُسَيْنِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ الَّتِي شَهِدَتْ مَصْرَعَهُ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُصِيبَةَ بِالْحُسَيْنِ تُذْكَرُ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَكَانَ فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَنْ بَلَّغَ هُوَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ يَسْتَرْجِعُ لَهَا فَيَكُونُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ الْأَجْرِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ . وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ بِهَا مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالْمُصِيبَةِ فَعُقُوبَتُهُ أَشَدُّ مِثْلَ لَطْمِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَالدُّعَاءِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ " "223 . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : أَنَا بَرِىءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ "224 . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيِّ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَرْبَعٌ فِى أُمَّتِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِى الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِى الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ ". وَقَالَ "(1/284)
النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ ". 225" . وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ ظُلْمُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَعْنُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَإِعَانَةُ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالْإِلْحَادِ عَلَى مَا يَقْصِدُونَهُ لِلدِّينِ مِنْ الْفَسَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . وَقَوْمٌ مِنْ الْمُتَسَنِّنَةِ رَوَوْا وَرُوِيَتْ لَهُمْ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ بَنَوْا عَلَيْهَا مَا جَعَلُوهُ شِعَارًا فِي هَذَا الْيَوْمِ يُعَارِضُونَ بِهِ شِعَارَ ذَلِكَ الْقَوْمِ فَقَابَلُوا بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَرَدُّوا بِدْعَةً بِبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَعْظَمَ فِي الْفَسَادِ وَأَعْوَنَ لِأَهْلِ الْإِلْحَادِ مِثْلَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ : " { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامَ وَمَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ ذَلِكَ الْعَامَ } " وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ " الْخِضَابُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالْمُصَافَحَةُ فِيهِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ : إنَّهُ صَحِيحٌ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَهَذَا مِنْ الْغَلَطِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الِاغْتِسَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَلَا الْكُحْلَ فِيهِ وَالْخِضَابَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ وَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ فِي(1/285)
مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا أَبُو بَكْر وَلَا عُمَر وَلَا عُثْمَانُ وَلَا عَلِيٌّ . وَلَا ذَكَرَ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدَّوَاوِينِ الَّتِي صَنَّفَهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ لَا فِي الْمُسْنِدَاتِ : كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَحْمَد بْنِ مَنِيعٍ الحميدي والدالاني وَأَبُو يَعْلَى الموصلي ؛ وَأَمْثَالِهَا . وَلَا فِي الْمُصَنَّفَاتِ عَلَى الْأَبْوَابِ : كَالصِّحَاحِ ؛ وَالسُّنَنِ . وَلَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْجَامِعَةِ لِلْمُسْنَدِ وَالْآثَارِ مِثْلِ مُوَطَّأِ مَالِك وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ؛ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ؛ وَأَمْثَالِهَا . ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ ظَنَّتْ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا أَنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى سَبِيلِ نَصْبِ الْعَدَاوَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَالِاشْتِفَاءِ مِنْهُمْ فَعَارَضَهُمْ مَنْ تَسَنَّنَ وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِإِجَابَةِ بَيَّنَ فِيهَا بَرَاءَتَهُمْ مِنْ النَّصْبِ وَاسْتِحْقَاقَهُمْ لِمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَهَذَا حَقٌّ . لَكِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّبْهَةُ وَالْغَلَطُ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ حَسَنَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ابْتَدَأَ وَضْعَ ذَلِكَ وَابْتِدَاعَهُ هَلْ كَانَ قَصْدُهُ عَدَاوَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ عَدَاوَةَ غَيْرِهِمْ ؟ فَالْهُدَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ - أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - ضَلَالَةٌ . وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَنَلْزَمَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ(1/286)
؛ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ؛ وَالصَّالِحِينَ . وَنَعْتَصِمُ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا نَتَفَرَّقُ ؛ وَنَأْمُرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ " الْمَعْرُوفُ " وَنَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَهُوَ " الْمُنْكَرُ " ؛ وَأَنَّ نَتَحَرَّى الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ فِي أَعْمَالِنَا ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ دِينُ " الْإِسْلَامِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) [البقرة/111، 112] }، وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) [النساء/125] } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) [الأعراف/28-30] } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ(1/287)
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) [آل عمران/102-108] } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) [الأنعام/159، 160] } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)(1/288)
[البينة/4-6] } . وَلَيْسَ الْكَذِبُ فِي هَذَا " الْمَشْهَدِ " وَحْدَهُ ؛ بَلْ الْمَشَاهِدُ الْمُضَافَةُ إلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَذِبٌ مِثْلُ الْقَبْرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : " قَبْرُ نُوحٍ " قَرِيبٌ مِنْ بَعْلَبَكَّ فِي سَفْحِ جَبَلِ لُبْنَانَ وَمِثْلَ الْقَبْرِ الَّذِي فِي قِبْلَةِ مَسْجِدِ جَامِعِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : " قَبْرُ هُودٍ " فَإِنَّمَا هُوَ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمِثْلَ الْقَبْرِ الَّذِي فِي شَرْقِيِّ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : " قَبْرُ أبي بْنِ كَعْبٍ " فَإِنَّ أبيا لَمْ يَقْدَمْ دِمَشْقَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ فِي دِمَشْقَ مِنْ قُبُورِ " أَزْوَاجِ النَّبِيِّ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تُوُفِّينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ . وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ فِي مِصْرَ مِنْ قَبْرِ " عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ " أَوْ " جَعْفَرٍ الصَّادِقِ " أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ وَجَعْفَرًا الصَّادِقَ إنَّمَا تُوُفِّيَا بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ : - الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ - لَيْسَ فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا ثَبَتَ إلَّا قَبْرُ " نَبِيِّنَا " قَالَ غَيْرُهُ : وَقَبْرُ " الْخَلِيلِ " أَيْضًا . وَسَبَبُ اضْطِرَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَمْرِ الْقُبُورِ أَنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْقُبُورُ مَسَاجِدَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَجِبْ ضَبْطُهُ . فَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَضْبُوطٌ وَمَحْرُوسٌ كَمَا(1/289)
قَالَ تَعَالَى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) [الحجر/9] } وَفِي الصِّحَاحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ }226 " . وَأَصْلُ هَذَا الْكَذِبِ هُوَ الضَّلَالُ وَالِابْتِدَاعُ وَالشِّرْكُ فَإِنَّ الضُّلَّالَ ظَنُّوا أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى هَذِهِ الْمَشَاهِدِ ؛ وَالصَّلَاةَ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءَ وَالنَّذْرَ لَهَا ؛ وَتَقْبِيلَهَا وَاسْتِلَامَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالدِّينِ حَتَّى رَأَيْت كِتَابًا كَبِيرًا قَدْ صَنَّفَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الرَّافِضَةِ " مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ " الْمُلَقَّبُ بِالشَّيْخِ الْمُفِيدِ شَيْخِ الْمُلَقَّبِ بِالْمُرْتَضَى وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي سَمَّاهُ " الْحَجُّ إلَى زِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ " ذَكَرَ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَزِيَارَةِ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ وَالْحَجِّ إلَيْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ . وَعَامَّةُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَوْضَحِ الْكَذِبِ وَأَبْيَنِ الْبُهْتَانِ حَتَّى أَنِّي رَأَيْت فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْته مِنْ الْكَذِبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَذَا إنَّمَا ابْتَدَعَهُ وَافْتَرَاهُ فِي الْأَصْلِ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالزَّنَادِقَةِ ؛ لِيَصُدُّوا بِهِ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَيُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ وَابْتَدَعُوا لَهُمْ أَصْلَ الشِّرْكِ الْمُضَادَّ لِإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ كَمَا ذَكَرَهُ(1/290)
ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) [نوح/23-25] } قَالُوا هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَبَسَطَهُ وَبَيَّنَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهَا . وَلِهَذَا صَنَّفَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الشِّرْكِ مَا صَنَّفُوهُ وَاتَّفَقُوا هُمْ وَالْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ عَلَى الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ حَتَّى فَتَنُوا أُمَمًا كَثِيرَةً وَصَدُّوهُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ . وَأَقَلُّ مَا صَارَ شِعَارًا لَهُمْ تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَتَعْظِيمُ الْمَشَاهِدِ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَشَاهِدِ وَحَجِّهَا وَالْإِشْرَاكِ بِهَا مَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ بَلْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَيُخَرِّبُونَهَا فَتَارَةً لَا يُصَلُّونَ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً بِنَاءً عَلَى مَا أَصَّلُوهُ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ مَعْصُومٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ . وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الْقَوْلَ بِالْعِصْمَةِ لِعَلِيِّ وَبِالنَّصِّ عَلَيْهِ فِي الْخِلَافَةِ : هُوَ رَأْسُ هَؤُلَاءِ(1/291)
الْمُنَافِقِينَ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ " الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَرَادَ فَسَادَ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَفْسَدَ بولص دِينَ النَّصَارَى وَقَدْ أَرَادَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَتْلَ هَذَا لِمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَسُبُّ أَبَا بَكْر وَعُمَر حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ كَمَا أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ الْغَالِيَةَ الَّذِينَ ادَّعُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَقَالَ فِي الْمُفَضِّلَةِ : لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْر وَعُمَر إلَّا جَلَدْته جَلْدَ الْمُفْتَرِي . فَهَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الْمُفْتَرُونَ أَتْبَاعُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقُونَ يُعَطِّلُونَ شِعَارَ الْإِسْلَامِ وَقِيَامَ عَمُودِهِ وَأَعْظَمُهُ سُنَنُ الْهُدَى الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ فَلَا يُصَلُّونَ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً . وَمَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا فَقَدْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَشَاهِدِ وَالْمَسَاجِدِ حَتَّى يَجْعَلَ الْعِبَادَةَ : كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْمَقَابِرِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرُبَّمَا فَضَّلَ بِحَالِهِ أَوْ بِقَالِهِ : الْعِبَادَةُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْمَسَاجِدُ حَتَّى تَجِدَ أَحَدُهُمْ إذَا أَرَادَ الِاجْتِهَادَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَصَدَ قَبْرَ مَنْ يُعَظِّمُهُ كَشَيْخِهِ أَوْ غَيْرِ شَيْخِهِ فَيَجْتَهِدُ عِنْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْأَسْحَارِ وَلَا فِي سُجُودِهِ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(1/292)
. وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرِ مِنْ جُهَّالِهِمْ إلَى أَنْ صَارُوا يَدْعُونَ الْمَوْتَى وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ كَمَا تَسْتَغِيثُ النَّصَارَى بِالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ فَيَطْلُبُونَ مِنْ الْأَمْوَاتِ تَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ وَتَيْسِيرَ الطَّلَبَاتِ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَرَفْعَ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ . حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ هَمِّهِ الْفَرْضَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ " حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ " وَهُوَ شِعَارُ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إمَامِ أَهْلِ دِينِ اللَّهِ بَلْ يَقْصِدُ الْمَدِينَةَ . وَلَا يَقْصِدُ مَا رَغِبَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " " صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " 227" ؛ وَلَا يَهْتَمُّ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهِ حَيْثُ كَانَ وَمِنْ طَاعَةِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ بَلْ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ؛ بَلْ يَقْصِدُ مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَوْ قَبْرِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَا فَعَلَهُ أَصْحَابُهُ وَلَا اسْتَحْسَنَهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ . وَرُبَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ بِالْحَجِّ مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقْصُودِهِ بِالْحَجِّ وَرُبَّمَا سَوَّى بَيْنَ الْقَصْدَيْنِ وَكُلُّ هَذَا ضَلَالٌ عَنْ الدِّينِ بِاتِّفَاقِ(1/293)
الْمُسْلِمِينَ بَلْ نَفْسُ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرٍ مِنْ الْقُبُورِ - قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ - مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ قَصْدَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ ؛ لِقَوْلِهِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ : " " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسْجِدِ الأَقْصَى " 228" وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَكُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي زِيَارَةِ الْقَبْرِ فَهُوَ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ229 بَلْ قَدْ كَرِهَ مَالِك وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا الْمُسِنُّونَ السَّلَامَ عَلَيْهِ إذَا أَتَى قَبْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَفْعَلُونَ إذَا أَتَوْا قَبْرَهُ ؛ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ ذَلِكَ الطَّوَافُ بِغَيْرِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ الطَّوَافُ إلَّا بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَلَا يَجُوزُ الطَّوَافُ بِصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِالْقُبَّةِ الَّتِي فِي جَبَلِ عَرَفَاتٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الِاسْتِلَامُ وَلَا التَّقْبِيلُ إلَّا لِلرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ230 ؛ فَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ وَالْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُقَبَّلُ وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا(1/294)
يُشْرَعُ اسْتِلَامُهُ وَلَا تَقْبِيلُهُ ؛ كَجَوَانِبِ الْبَيْتِ وَالرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ ؛ وَمَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَالصَّخْرَةِ وَالْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَسَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " 231" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : " " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " 232" . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالاَ لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ ، فَقَالَ وَهْوَ كَذَلِكَ " لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. 233(1/295)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى مَرَضِهِ الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " . لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِىَ أَوْ خُشِىَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.234 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى جُنْدَبٌ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ " إِنِّى أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِى مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِى خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ". "235
. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا ". 236"
. وَ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- - وَقَالَ مُوسَى فِى حَدِيثِهِ فِيمَا يَحْسَبُ عَمْرٌو - أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ وَالْمَقْبُرَةَ ". " رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ ؛ كَأَبِي داود والترمذي وَابْنِ ماجه وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ .237(1/296)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَمَّا اشْتَكَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ - رضى الله عنهما - أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ " أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ " " 238
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : " { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } "239 . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : كَأَبِي داود والنسائي والترمذي . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ صَحِيحٌ . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِك عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِى وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ". 240" ؛ وَفِي مسند أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِى عِيداً وَلاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُوراً وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِى ".241(1/297)
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ : كَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) [البقرة/114] } وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) [التوبة/18] } الْآيَةَ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) "..242 وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) [الأعراف/29، 30] } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى . { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) [الجن/18] } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) [النور/36] } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ(1/298)
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) [البقرة/187] } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً "243 وَفِي لَفْظٍ - " صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " 244 " .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " إِنَّ أَثْقَلَ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً وَلَوْ عَلِمَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ عَرْقاً مِنْ شَاةٍ سَمِينَةٍ أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لأَتَيْتُمُوهَا أَجْمَعِينَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّى بِالنَّاسِ ثُمَّ آخُذَ حُزَماً مِنْ حَطَبٍ فَآتِىَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الصَّلاَةِ فَأُحْرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ "245.(1/299)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِى قَائِدٌ يَقُودُنِى إِلَى الْمَسْجِدِ . فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّىَ فِى بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ " . فَقَالَ نَعَمْ . قَالَ " فَأَجِبْ " " 246. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَداً مُسْلِماً فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِى بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِى الصَّفِّ247. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ نَبَّهْنَا بِمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِي هَذَا الْأَمْرِ الْفَارِقِ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ الْحُنَفَاءِ أَهْلِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الْمُتَّبِعِينَ لِدِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَبَيَّنَ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَشَابَ(1/300)
الْحَنِيفِيَّةَ بِالْإِشْرَاكِ . قَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) [الزخرف/45] } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء/25] } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) [النحل/36] } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) [البينة/4-6] } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) [الروم/30-32] } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.248
74- أهم صفات أولياء الله(1/301)
ج- الْمُتَّقُونَ249 " هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا . وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَان . وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ الْغَالِيَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَأَشْبَاهُ الرَّافِضَةِ مِنْ الْغَالِيَةِ فِي بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ . فَالرَّافِضَةُ تَزْعُمُ أَنَّ " الِاثْنَيْ عَشَرَ " مَعْصُومُونَ مِنْ الْخَطَأِ وَالذَّنْبِ . وَيَرَوْنَ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَالْغَالِيَةُ فِي الْمَشَايِخِ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ وَالنَّبِيَّ مَعْصُومٌ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ ؛ فَحَالُهُ حَالُ مَنْ يَرَى أَنَّ الشَّيْخَ وَالْوَلِيَّ لَا يُخْطِئُ وَلَا يُذْنِبُ . وَقَدْ بَلَغَ الْغُلُوُّ بِالطَّائِفَتَيْنِ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَ مَنْ غَلَوْا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ وَأَفْضَلَ مِنْهُ وَإِنْ زَادَ الْأَمْرُ جَعَلُوا لَهُ نَوْعًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَكُلُّ هَذَا مِنْ الضَّلَالَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُضَاهِيَةِ لِلضَّلَالَاتِ النَّصْرَانِيَّةِ . فَإِنَّ فِي النَّصَارَى مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْمَسِيحِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَجَعَلَ ذَلِكَ عِبْرَةً لَنَا ؛ لِئَلَّا نَسْلُكَ سَبِيلَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ صلى الله عليه وسلم : " لاَ تُطْرُونِى كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ".250
75- معنى قوله صلى الله عليه وسلم الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ(1/302)
ج- أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ }251 " فَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ " وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ". قَالَ لاَ إِلاَّ أَنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ " فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ". قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَىْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- " إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ". قَالَ فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ لِحُبِّى إِيَّاهُمْ وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلُ بِعَمَلِهِم.252(1/303)
وَكَذَلِكَ قوله صلى الله عليه وسلم " { أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } 253" لَكِنَّ هَذَا بِحَيْثُ أَنْ يُحِبُّ الْمَرْءَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَنْ يُحِبُّ اللَّهَ فَيُحِبُّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ كُلَّهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّهُمْ كَاَلَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ . فَمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ شَهِدْنَا لَهُ بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِالْجَنَّةِ . فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا نَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَلَا نَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَقَالَ طَائِفَةٌ : بَلْ مَنْ استفشى مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد والفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الكرخي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ . شَهِدْنَا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقَالَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ". وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقَالَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ". قَالَ عُمَرُ(1/304)
فِدًى لَكَ أَبِى وَأُمِّى مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ. وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ ".254(1/305)
وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْمَشْيَخَةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ مَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ النَّاسِ لَهُمْ بِذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ الْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ كَمَا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ كَمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَشَايِخِ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالتُّجَّارُ وَالْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ [ هَذِهِ ] الْأَصْنَافِ . إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ شَيْخٍ لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ كَانَ ضَالًّا ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَعْلَمُ ؛ فَيَطْلُبُ أَنْ يَحْشُرَهُ اللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم/4] } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) [المائدة/55، 56] } وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْخًا مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ كَانَ مَعَهُ ؛ فَإِذَا دَخَلَ الشَّيْخُ النَّارَ كَانَ مَعَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّيُوخَ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ كَانَ مَصِيرُهُ مَصِيرَ أَهْلِ(1/306)
الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ : كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَمَحَبَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ ؛ وَأَعْظَمِ حَسَنَاتِ الْمُتَّقِينَ . وَلَوْ أَحَبَّ الرَّجُلَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ بَاطِنِهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَحُبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَأَحَبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ .(1/307)
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) [آل عمران/31] } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ تَقْتَضِي فِعْلَ مَحْبُوبَاتِهِ وَتَرْكَ مَكْرُوهَاتِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي هَذَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا فَمَنْ كَانَ أَعْظَمَ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ . وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ شَخْصًا لِهَوَاهُ مِثْلُ أَنْ يُحِبَّهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا مِنْهُ أَوْ لِحَاجَةِ يَقُومُ لَهُ بِهَا أَوْ لِمَالِ يتآكله بِهِ . أَوْ بِعَصَبِيَّةٍ فِيهِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مَحَبَّةً لِلَّهِ ؛ بَلْ هَذِهِ مَحَبَّةٌ لِهَوَى النَّفْسِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُوقِعُ أَصْحَابَهَا فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَدَّعِي حُبَّ مَشَايِخَ لِلَّهِ وَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُمْ لِلَّهِ لَأَطَاعَ اللَّهَ الَّذِي أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ . وَكَيْفَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ مَنْ لَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مَنْ يَكُونُ مُعْرِضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلِ اللَّهِ . وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُحِبُّ شُيُوخًا أَوْ مُلُوكًا أَوْ غَيْرَهُمْ فَيَتَّخِذُهُمْ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ(1/308)
كَحُبِّ اللَّهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَالْمَحَبَّةِ مَعَ اللَّهِ ظَاهِرٌ فَأَهْلُ الشِّرْكِ يَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ يُحِبُّونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَصْلُ حُبِّهِمْ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَمَحْبُوبُ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ وَمَحْبُوبُ اللَّهِ يُحِبُّ اللَّهَ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَيُحِبُّهُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ . وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ فَيَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا أَوْ شُفَعَاءَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) [الأنعام/94] } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) [يس/22-25] } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) [الأنعام/51] َ }، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ(1/309)
كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) [آل عمران/79، 80] } .
وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ "255 " فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء/25، 26] } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) [الزخرف/45] }، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) [النحل/36] } .(1/310)
وَمِنْ حِينِ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إلَّا الدِّينَ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) [سبأ/28، 29] } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ " 256" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)(1/311)
[الأعراف/156-159] }. فَعَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِغَيْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) [الجاثية/18] } .
وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَتَفَرَّقُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثاً وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثاً فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " .257"(1/312)
وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَمَالَ الذُّلِّ لِلَّهِ فَأَصْلُ الدِّينِ وَقَاعِدَتُهُ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الَّذِي تُحِبُّهُ الْقُلُوبُ وَتَخْشَاهُ وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَهٌ سِوَاهُ وَالْإِلَهُ مَا تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَتَخْلُو الْقُلُوبُ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ [ بِمَحَبَّتِهِ وَعَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ ] بِرَجَائِهِ وَعَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ بِسُؤَالِهِ وَعَنْ الْعَمَلِ لِمَا سِوَاهُ بِالْعَمَلِ لَهُ وَعَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِمَا سِوَاهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ وَسَطُ الْفَاتِحَةِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِى عَبْدِى وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِى . وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . قَالَ مَجَّدَنِى عَبْدِى - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَىَّ عَبْدِى - فَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . قَالَ هَذَا بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ . قَالَ هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ " .258(1/313)
فَالدِّينُ أَنْ لَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا إيَّاهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ عِبَادُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) [النساء/172-174] }.(1/314)
فَالْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَحُبِّ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَحُبِّ الْيَهُودِ لِمُوسَى وَحُبِّ الرَّافِضَةِ لِعَلِيِّ وَحُبِّ الْغُلَاةِ لِشُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ : مِثْلُ مَنْ يُوَالِي شَيْخًا أَوْ إمَامًا وَيَنْفِرُ عَنْ نَظِيرِهِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَوْ مُتَسَاوِيَانِ فِي الرُّتْبَةِ فَهَذَا مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَحَالِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَيُعَادُونَ بَعْضَهُمْ وَحَالِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ وَزُهْدٍ : الَّذِينَ يُوَالُونَ [ بَعْضَ ] الشُّيُوخِ وَالْأَئِمَّةِ دُونَ الْبَعْضِ . وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ يُوَالِي جَمِيعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) [الحجرات/10] } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " . وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ 259 - وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى "260 . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ و السَّلَامُ : " لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ "261 .(1/315)
وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْحُبَّ لِلَّهِ وَالْحُبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضيَ اللهُ عنهُ كَانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصًا لِلَّهِ ، وَأَبُو طَالِبٍ عَمُّهُ كَانَ يُحِبُّهُ وَيَنْصُرُهُ لِهَوَاهُ لَا لِلَّهِ . فَتَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَ أَبِي بَكْرٍ وَأَنْزَلَ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( [الليل/17-21] }، وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يُتَقَبَّلْ عَمَلُهُ ؛ بَلْ أَدْخَلَهُ النَّارَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا عَامِلًا لِغَيْرِ اللَّهِ . وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَطْلُبْ أَجْرَهُ مِنْ الْخَلْقِ لَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ بَلْ آمَنَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَكَلَأَهُ وَأَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَطَالِبًا الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ . وَرَسُولُهُ يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) [الرعد/40] } . وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ . وَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ فَهَذَا يَسْلُكُ وَأَمَّا مَا يُنْهَى عَنْهُ نَهْيًا خَالِصًا أَوْ كَانَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا فَهَذَا لَا يَسْلُكُ . قَالَ(1/316)
تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) [سبأ/22-23] }، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ ضَلَالَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُبَيَّنِ أَنَّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَوْنَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ يُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ . كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ : إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ اسْتَوْصِي الشَّيْخَ فُلَانٍ فَإِنَّك تَجِدُهُ أَوْ تَوَجَّهْ إلَى ضَرِيحِهِ خُطُوَاتٍ وَنَادِهِ يَا شَيْخُ يَقْضِي حَاجَتَك وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّاعِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَنْ يَرَى صُورَةَ الْمَدْعُوِّ أَحْيَانًا فَذَلِكَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ لَهُ . كَمَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعَدَدِ كَثِيرٍ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ كُلُّ رِزْقٍ لَا يَجِيءُ عَلَى يَدِ الشَّيْخِ لَا أُرِيدُهُ . وَالْعَجَبُ مِنْ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ يَسْتَوْصِي مَنْ هُوَ مَيِّتٌ يَسْتَغِيثُ بِهِ وَلَا يَسْتَغِيثُ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَيَقْوَى الْوَهْمُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِغَاثَتُهُ بِالشَّيْخِ الْمَيِّتِ لَمَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ . فَهَذَا حَرَامٌ فِعْلُهُ .(1/317)
وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ إلَى مَلِكٍ تَوَسَّلْت إلَيْهِ بِأَعْوَانِهِ فَهَكَذَا يُتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالشُّيُوخِ . وَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ حَوَائِجَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَحْدَهُ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ إلَّا لِغَرَضِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَالْأَسْبَابُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَمَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا دَائِرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى أَسْبَابٍ أُخْرَى وَلَهُ مُعَارَضَاتٌ . فَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا فَلَا تُحْرِقُ السمندل وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مَنَعَ أَثَرَهَا كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَأَمَّا مَشِيئَةُ الرَّبِّ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا مَانِعَ لَهَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا : يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيَكْشِفُ ضُرَّهُمْ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَافْتِقَارِهِمْ إلَيْهِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى/11] } . فَنَفَى الرَّبُّ هَذَا كُلَّهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ . فَقَالَ : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) [سبأ/23] } وَقَالَ : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا(1/318)
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة/255] } فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهَا فَالْجَمِيعُ مِنْهُ وَحْدَهُ وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ إخْلَاصًا : كَانَتْ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ أَقْرَبَ إلَيْهِ . و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِى عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ " 262" . وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى فُلَانٍ لِيَشْفَعَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَعَلَّقُونَ بِفُلَانِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) [الزمر/43، 44] }، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ(1/319)
اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) [يونس/3، 4] }، وَقَالَ تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) [الإسراء/56، 57] } .(1/320)
قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عِبَادُهُ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عِبَادُهُ وَهَؤُلَاءِ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَخَافُونَ عَذَابَ اللَّهِ . فَالْمُشْرِكُونَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ؛ وَاِتَّخَذُوا شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَفِيهِمْ مَحَبَّةٌ لَهُمْ وَإِشْرَاكٌ بِهِمْ وَفِيهِمْ مِنْ جِنْسِ مَا فِي النَّصَارَى مِنْ حُبِّ الْمَسِيحِ وَإِشْرَاكٌ بِهِ ؛ وَالْمُؤْمِنُونَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ : فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَجْعَلُونَ مَعَهُ شَيْئًا يُحِبُّونَهُ كَمَحَبَّتِهِ لَا أَنْبِيَائِهِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ بَلْ أَحَبُّوا مَا أَحَبَّهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ ؛ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ؛ فَأَحَبُّوا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُبِّ اللَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ وَصَدَّقُوهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَلَمْ يَرْجُوا إلَّا اللَّهَ ؛ وَلَمْ يَخَافُوا إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَسْأَلُوا إلَّا اللَّهَ وَشَفَاعَتُهُ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ رَجَاؤُنَا لِلشَّفِيعِ وَلَا مَخَافَتُنَا لَهُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُ تَوْحِيدُنَا وَإِخْلَاصُنَا لِلَّهِ وَتَوَكُّلُنَا عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِلشَّفِيعِ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَدِينِهِمْ وَمَحَبَّةِ النَّصَارَى(1/321)
وَالْمُشْرِكِينَ وَدِينِهِمْ وَيَتَّبِعُ أَهْلَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ . وَيَخْرُجُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الصُّلْبَانِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ "263. وَقَالَ تَعَالَى: { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) [التوبة/24، 25] } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) [المائدة/54، 55] } ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْقُرْآنُ يَدُورُ عَلَيْهِ .
76- رأيه بمن يقول بأن للقرآن ظاهرا وباطنا يخالفه(1/322)
ج- جِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فَظَاهِرُ الْقَوْلِ لَفْظُ اللِّسَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَعَانِيهِ بِالْجَنَانِ وَظَاهِرُ الْعَمَلِ حَرَكَاتُ الْأَبْدَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَقَاصِدِ الْإِنْسَانِ . فَالْمُنَافِقُ لَمَّا أَتَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْخُسْرَانِ ؛ بَلْ كَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) [البقرة/8-16] } ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ(1/323)
الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) [المنافقون/1-4] }، وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) [المائدة/41] } . وَالْمَلَاحِدَةُ يُظْهِرُونَ مُوَافَقَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ وَلَا يَدَّعِي أَنَّ(1/324)
الْبَاطِنَ الَّذِي يُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَالْمَلَاحِدَةُ تَدَّعِي أَنَّ مَا تُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ هُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ يُبْطِنُونَ مَا يُبْطِنُونَهُ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ وَتَعْطِيلٌ فَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ إبْطَانِ الْكُفْرِ وَبَيْنَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَاطِنَ هُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرْفَانِ فَلَا يُظْهِرُونَ لِلْمُسْتَجِيبِ لَهُمْ أَنَّ بَاطِنَهُ طَعْنٌ فِي الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَكْذِيبٌ لَهُ ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الرَّسُولِ وَتَمَامِ حَالِهِ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا أَكْمَلُ الرِّجَالِ مِنْ سِيَاسَةِ النَّاسِ عَلَى السِّيرَةِ الْعَادِلَةِ وَعِمَارَةِ الْعَالَمِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْفَاضِلَةِ وَهَذَا قَدْ يَظُنُّهُ طَوَائِفُ حَقًّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى أَنْ يَكُونَ النِّفَاقُ عِنْدَهُمْ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَقَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النِّفَاقَ ضِدُّ الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُونَ مِنْهَا بَابَ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ ؛ لِأَنَّ الرَّافِضَةَ هُمْ أَجْهَلُ الطَّوَائِفِ وَأَكْذَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ التَّقِيَّةَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَيَكْذِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ كَذِبًا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَرْوُوا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ دِينِي وَدِينُ آبَائِي . و " التَّقِيَّةُ " هِيَ شِعَارُ النِّفَاقِ ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي(1/325)
قُلُوبِهِمْ وَهَذَا حَقِيقَةُ النِّفَاقِ . ثُمَّ إذَا كَانَ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ صَارَ كُلُّ مَا يَنْقُلُهُ النَّاقِلُونَ عَنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِمَّا فِيهِ مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ : هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ النِّفَاقِ لِلْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ الإسماعيلية والنصيرية وَنَحْوِهِمْ ؛ فَجَعَلُوا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَظْهَرَ بِهِ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ وَأَسَرَّ بِهِ خِلَافَ مَا أَعْلَنَ فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ إمَامُ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إلَيْهِمْ الْمُبَلِّغُ لِرِسَالَةِ رَبِّهِ الْمُخَاطِبُ لَهُمْ بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) [إبراهيم/4، 5] } وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) [الزخرف/3] } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) [القمر/17، 18] } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) [مريم/97، 98] } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [النحل/103] }، وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ(1/326)
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل/44] } ، وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [القيامة/17-19] }، وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) [ص/29] } ، وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) [محمد/24] } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) [النحل/35] } ، وَقَالَتْ الرُّسُلُ { قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) [يس/16، 17] } ، وَقَالَ : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) [النور/54، 55] } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) [التغابن/12، 13] } ، وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) [المائدة/67،(1/327)
68] } .
فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا الْبَلَاغَ الْمُبِينَ يُقَالُ : بَانَ الشَّيْءُ وَأَبَانَ وَاسْتَبَانَ وَتَبَيَّنَ وَبَيَّنَ كُلُّهَا أَفْعَالٌ لَازِمَةٌ . وَقَدْ يُقَالُ : أَبَانَ غَيْرُهُ وَبَيَّنَهُ وَتَبَيَّنَهُ وَاسْتَبَانَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّسُلَ فَعَلُوا مَا عَلَيْهِمْ ؛ بَلْ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْمِيثَاقَ بِأَنْ يُبَيِّنُوا الْعِلْمَ وَلَا يَكْتُمُوهُ وَذَمَّ كَاتِمِيهِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) [آل عمران/187] } ، وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) [البقرة/140] } وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) [البقرة/159، 160] }، فَقَدْ لَعَنَ كَاتِمَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ قَدْ كَتَمَ الْحَقَّ وَأَخْفَاهُ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ ؟ فَلَوْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ(1/328)
الْحَقِّ كَانَ كَاتِمًا وَمَنْ نَسَبَ الْأَنْبِيَاءَ إلَى الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَعَ كَوْنِهِ يَقُولُ إنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنْ أَشَرِّ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَبْيَنِهِمْ تَنَاقُضًا . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَا فِي جَمِيعِهَا حَتَّى يَرَى بَعْضُهُمْ سُقُوطَ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضِ الْخَوَاصِّ أَوْ حِلَّ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُمْ أَوْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ
77- الفرق بين بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان غيره(1/329)
ج- إِنَّ الْوَاجِبَ طَلَبُ عِلْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ بِذَلِكَ كَمَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا فَكَيْفَ بِأُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ إذَا عُرِفَ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ نُظِرَ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ وَمَا أَرَادُوهُ بِهَا فَعُرِضَتْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ دَائِمًا مُوَافِقٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَالِفُهُ قَطُّ فَإِنَّ الْمِيزَانَ مَعَ الْكِتَابِ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ ؛ لَكِنْ قَدْ تَقْصُرُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ فَيَأْتِيهِمْ الرَّسُولُ بِمَا عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَحَارُوا فِيهِ لَا بِمَا يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ بُطْلَانَهُ فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ تُخْبِرُ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا تُخْبِرُ بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ فَهَذَا سَبِيلُ الْهُدَى وَالسُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَأَمَّا سَبِيلُ الضَّلَالِ وَالْبِدْعَةِ وَالْجَهْلِ فَعَكْسُ ذَلِكَ : أَنْ يَبْتَدِعَ بِدْعَةٌ بِرَأْيِ رِجَالٍ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَبَعًا لَهَا وَيُحَرَّفَ أَلْفَاظَهُ وَيَتَأَوَّلُ عَلَى وَفْقٍ مَا أَصَّلُوهُ . وَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا يَتَلَقَّوْنَ الْهُدَى مِنْهُ وَلَكِنْ مَا وَافَقَهُمْ مِنْهُ قَبِلُوهُ وَجَعَلُوهُ حُجَّةً لَا عُمْدَةً(1/330)
وَمَا خَالَفَهُمْ تَأَوَّلُوهُ كَاَلَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ فَوَّضُوهُ كَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : إمَّا عَجْزًا وَإِمَّا تَفْرِيطًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ كَذَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَذَا
أَمَّا الْأُولَى فَعَامَّتُهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّهُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غُلَاةِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ يَرْتَابُ فِي بَعْضِهِ لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ عَامَّةٌ أَهْلُ الْبِدَعِ جُهَّالٌ بِهَا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ رَوَاهَا آحَادٌ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَالْخَطَأَ وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ كَثْرَةِ طُرُقِهَا وَصِفَاتِ رِجَالِهَا وَالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصْدِيقِ بِهَا مَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقْطَعُونَ قَطْعًا يَقِينًا بِعَامَّةِ الْمُتُونِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .(1/331)
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْأَدِلَّةُ اللَّفْظِيَّةُ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا يَقُولُهُ مُوَافِقُوهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَيَتَأَوَّلُ تَأْوِيلَاتِهِمْ فَالنُّصُوصُ الَّتِي تُوَافِقُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَا وَاَلَّتِي تُخَالِفُهُمْ يَتَأَوَّلُونَهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عُمْدَتُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اتِّبَاعَ نَصٍّ أَصْلًا وَهَذَا فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ مِثْلَ الرَّافِضَةِ والجهمية فَإِنَّ الَّذِي وَضَعَ الرَّفْضَ كَانَ زِنْدِيقًا ابْتَدَأَ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ الصَّرِيحِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ثُمَّ جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ ظَنَّ صِدْقَ مَا افْتَرَاهُ أُولَئِكَ وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ(1/332)
مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) [الشورى/13-15] }، وَكَذَلِكَ الجهمية لَيْسَ مَعَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَصٌّ أَصْلًا لَا آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ الَّذِي ابْتَدَأَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ وَضَعَ ذَلِكَ كَمَا وُضِعَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَدْيَانِ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلرُّسُلِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ مُبَدِّلَةِ الْيَهُودِ ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا أَصْلَ ذَلِكَ . وَهَذَا بِخِلَافِ بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا مَا فَهِمُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ فَغَلِطُوا فِي فَهْمِهِ وَمَقْصُودُهُمْ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَيْسُوا زَنَادِقَةً . وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلَ وَيَتَّبِعُونَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ . فَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ مُعَانَدَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاَلَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ . وَكَذَلِكَ الْإِرْجَاءُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ قَوْمٌ قَصْدُهُمْ جَعْلُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا قَابَلُوا الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ فَصَارُوا فِي طَرَفٍ آخَرَ(1/333)
. وَكَذَلِكَ التَّشَيُّع الْمُتَوَسِّطُ - الَّذِي مَضْمُونُهُ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ بِخِلَافِ دَعْوَى النَّصِّ فِيهِ وَالْعِصْمَةِ فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ ذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا وَلِهَذَا قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَغَيْرُهُمَا : أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ : الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ . قَالُوا : والجهمية لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا . وَهَذَا أَرَادُوا بِهِ التَّجَهُّمَ الْمَحْضَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَهْمٌ نَفْسُهُ وَمُتَّبِعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْيُ الْأَسْمَاءِ مَعَ نَفْيِ الصِّفَاتِ بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا مَوْجُودًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهِ قَادِرًا - لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ يُسَمَّى بِهَا الْخَلْقُ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهَا التَّشْبِيهُ بِخِلَافِ الْقَادِرِ - فَإِنَّهُ كَانَ رَأْسَ الْجَبْرِيَّةِ وَعِنْدَهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا يُسَمَّى غَيْرُ اللَّهِ قَادِرًا ؛ فَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّى اللَّهَ قَادِرًا . وَشَرٌّ مِنْهُ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُمْ الْمَلَاحِدَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ قَاطِبَةً مَلَاحِدَةً مُنَافِقِينَ بَلْ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى(1/334)
وَهَؤُلَاءِ لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ بِرَفْعِهَا فَلَا صَوْمَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا حَجَّ وَلَا زَكَاةَ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ أُولَئِكَ كَانُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالرِّسَالَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ بِبَعْضِ التَّجَهُّمِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ كالكلابية والكرامية . وَكَذَلِكَ الشِّيعَةُ الْمُفَضِّلِينَ لِعَلِيِّ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِالنَّصِّ وَالْعِصْمَةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَظَنِّهِ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ لَيْسُوا خَارِجِينَ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُمْ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَتَّبِعُ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْقُرْآنِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ كَمَا أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : كَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ : هُمْ النَّصَارَى(1/335)
كَنَصَارَى نَجْرَانَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَالْكَلْبِيِّ : هُمْ الْيَهُودُ : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَابْنِ جريج : هُمْ الْمُنَافِقُونَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَالْحَسَنِ هُمْ الْخَوَارِجُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كقتادة : هُمْ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ . وَكَانَ قتادة إذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } يَقُولُ إنْ لَمْ يَكُونُوا الحرورية وَالسَّبَئِيَّةَ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ . وَالسَّبَئِيَّةُ نِسْبَةً إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ رَأْسِ الرَّافِضَةِ
78- ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كاف لإصلاح الناس في المعاش والمعاد
ج- لقدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ بِرُسُلِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) [النساء/163-165] } . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ بَعْدَ الرُّسُلِ بِحَالِ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُمْ حُجَّةٌ قَبْلَ الرُّسُلِ .
ف " الْأَوَّلُ " يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَحْوَجَ الْخَلْقَ إلَى غَيْرِ الرُّسُلِ حَاجَةً عَامَّةً كَالْأَئِمَّةِ .(1/336)
و " الثَّانِي " يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الرُّسُلِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء/59] } فَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ وَأَمْرَهُمْ بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَأَبْطَلَ الرَّدَّ إلَى إمَامٍ مُقَلِّدٍ أَوْ قِيَاسٍ عَقْلِيٍّ فَاضِلٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) [البقرة/213] }264، فَبَيَّنَ أَنَّهُ بِالْكِتَابِ يَحْكُمُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) [الشورى/10] }، وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا(1/337)
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) [الأعراف/2-4] }، فَفَرَضَ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَحَظَّرَ اتِّبَاعَ أَحَدٍ مِنْ دُونِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) [العنكبوت/51] } ، فَزَجَرَ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) [الأنعام/130، 131] }. وَقَالَ تَعَالَى : { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء/15، 16] }، وَقَالَ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) [الزمر/71، 72] }. وَقَالَ تَعَالَى : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ(1/338)
الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) [الملك/8-11] }. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ الرَّسُولُ فَخَالَفَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ إمَامٌ وَلَا قِيَاسٌ . وَأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ الرَّسُولُ وَإِنْ أَتَاهُ إمَامٌ أَوْ قِيَاسٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) [النساء/69، 70] } ، وقال تعالى :{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) [النساء/13-15] } . وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَبَيَّنَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوجِبَةٌ لِلسَّعَادَةِ وَأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ لِلشَّقَاوَةِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَاعَةِ إمَامٍ أَوْ قِيَاسٍ وَمَعَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَنْفَعُ طَاعَةُ إمَامٍ أَوْ قِيَاسٍ(1/339)
. وَدَلِيلُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ " شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا ؛ وَإِنْ خَالَفَهُ بَعْضُهُمْ عَمَلًا وَحَالًا . فَلَيْسَ عَالِمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشُكُّ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ مَا سِوَاهُ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ حَيْثُ أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ ؛ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَأْمُورِهِ وَبِخَبَرِهِ كُلِّهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ وَالْمُبَلِّغُ عَنْهُ إمَّا مُبَلِّغٌ أَمْرَهُ وَكَلِمَاتِهِ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ وَتَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ وَأَخْبَرَ وَإِمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُطَاعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَالْمَأْمُورِ فِيمَا أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغِينَ عَنْ اللَّهِ أَوْ مُجْتَهِدِينَ اجْتِهَادًا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهِ عَلَى الْمُقَلِّدِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَشَايِخُ الدِّينِ وَرُؤَسَاءِ الدُّنْيَا حَيْثُ أُمِرَ بِطَاعَتِهِمْ كَاتِّبَاعِ أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَاتِّبَاعِ أَئِمَّةِ الْحَجِّ فِيهِ وَاتِّبَاعِ أُمَرَاءِ الْغَزْوِ فِيهِ وَاتِّبَاعِ الْحُكَّامِ فِي أَحْكَامِهِمْ وَاتِّبَاعِ الْمَشَايِخِ الْمُهْتَدِينَ فِي هَدْيِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ مَنْ نُصِبَ إمَامًا(1/340)
فَأَوْجَبَ طَاعَتَهُ مُطْلَقًا اعْتِقَادًا أَوْ حَالًا فَقَدْ ضَلَّ فِي ذَلِكَ كَأَئِمَّةِ الضَّلَالِ الرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا فِي كُلِّ وَقْتٍ إمَامًا مَعْصُومًا تَجِبُ طَاعَتُهُ فَإِنَّهُ لَا مَعْصُومَ بَعْدَ الرَّسُولِ وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ أَحَدٍ بَعْدَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَاَلَّذِينَ عَيَّنُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ خَلِيفَةً رَاشِدًا تَجِبُ طَاعَتُهُ كَطَاعَةِ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَهُوَ عَلِيٌّ . وَمِنْهُمْ أَئِمَّةٌ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَجِبُ لَهُمْ مَا يَجِبُ لِنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ . وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ ؛ وَجَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ . وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا لِاتِّبَاعِ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ فِي كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ وَأَفْرَدَهُ عَنْ نُظَرَائِهِ كَالشَّيْخِ عَدِيٍّ ؛ وَالشَّيْخِ أَحْمَد ؛ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ ؛ وَالشَّيْخِ حيوة ؛ وَنَحْوِهِمْ . وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا إلَى اتِّبَاعِ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ وَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مُطْلَقًا كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَ بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَدَّعُونَ الْعِصْمَةَ لِمَتْبُوعِيهِمْ إلَّا غَالِيَةَ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ كَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَسَعْدٍ الْمَدِينِيّ بْن حَمَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا ؛ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ فِيهِمْ نَحْوًا مِمَّا تَدَّعِيه الْغَالِيَةُ فِي أَئِمَّةِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْعِصْمَةِ ثُمَّ مِنْ(1/341)
التَّرْجِيحِ عَلَى النُّبُوَّةِ ثُمَّ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ . وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَمَشَايِخِ الدِّينِ فَحَالُهُمْ وَهَوَاهُمْ يُضَاهِي حَالَ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَتْبُوعِهِ لَكِنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَلَا يَعْتَقِدُهُ عِلْمًا فَحَالُهُ يُخَالِفُ اعْتِقَادَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُصَاةِ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ وَهَؤُلَاءِ أَصْلَحُ مِمَّنْ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُهُ . وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ هُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) [الأحزاب/64-68] } ، فَهُمْ مُطِيعُونَ حَالًا وَعَمَلًا وَانْقِيَادًا وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ غَيْرِ عَقِيدَةٍ دِينِيَّةٍ وَفِيهِمْ مَنْ يَقْرِنُ بِذَلِكَ عَقِيدَةً دِينِيَّةً . وَلَكِنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ إنَّمَا تُمْكِنُ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ صَارَ الْوَقْتُ وَقْتَ فَتْرَةٍ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ فَكَانَ وَقْتَ دَعْوَةٍ وَنُبُوَّةٍ فِي غَيْرِهِ فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَكَذَا مَنْ نَصَبَ الْقِيَاسَ أَوْ الْعَقْلَ أَوْ الذَّوْقَ مُطْلَقًا مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ أَوْ قَدَّمَهُ بَيْنَ(1/342)
يَدَيْ الرَّسُولِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَصَبَ شَخْصًا . فَالِاتِّبَاعُ الْمُطْلَقُ دَائِرٌ مَعَ الرَّسُولِ وُجُودًا وَعَدَمًا .
79- أعداء الدين
ج- أَعْدَاءُ الدِّينِ نَوْعَانِ : الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِجِهَادِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) [التوبة/73] والتحريم 9} فِي آيَتَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ . فَإِذَا كَانَ أَقْوَامٌ مُنَافِقُونَ يَبْتَدِعُونَ بِدَعًا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَيُلْبِسُونَهَا عَلَى النَّاسِ وَلَمْ تُبَيَّنْ لِلنَّاسِ : فَسَدَ أَمْرُ الْكِتَابِ وَبُدِّلَ الدِّينُ ؛ كَمَا فَسَدَ دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّبْدِيلِ الَّذِي لَمْ يُنْكَرْ عَلَى أَهْلِهِ . وَإِذَا كَانَ أَقْوَامٌ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ لَكِنَّهُمْ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ : قَدْ الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ حَتَّى ظَنُّوا قَوْلَهُمْ حَقًّا ؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَصَارُوا دُعَاةً إلَى بِدَعِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) [التوبة/47] } ، فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ ؛ بَلْ الْفِتْنَةُ بِحَالِ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ فَإِنَّ فِيهِمْ إيمَانًا يُوجِبُ مُوَالَاتَهُمْ وَقَدْ دَخَلُوا فِي بِدَعٍ مِنْ بِدَعِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي تُفْسِدُ الدِّينَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْذِيرِ مِنْ تِلْكَ(1/343)
الْبِدَعِ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَهُمْ وَتَعْيِينَهُمْ ؛ بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الْبِدْعَةَ عَنْ مُنَافِقٍ ؛ لَكِنْ قَالُوهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا هُدًى وَأَنَّهَا خَيْرٌ وَأَنَّهَا دِينٌ ؛ وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بَيَانُ حَالِهَا . وَلِهَذَا وَجَبَ بَيَانُ حَالِ مَنْ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ وَمَنْ يَغْلَطُ فِي الرَّأْيِ وَالْفُتْيَا وَمَنْ يَغْلَطُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُخْطِئُ الْمُجْتَهِدُ مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ . فَبَيَانُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاجِبٌ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ . وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ السَّائِغُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّأْثِيمِ لَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ ؛ بَلْ يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مُوَالَاتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهِ : مِنْ ثَنَاءٍ وَدُعَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ كَمَا عُرِفَ نِفَاقُ جَمَاعَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَذَوِيهِ وَكَمَا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ نِفَاقَ سَائِرِ الرَّافِضَةِ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ وَأَمْثَالِهِ : مِثْلَ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبِ ؛ فَهَذَا يُذْكَرُ بِالنِّفَاقِ . وَإِنْ أَعْلَنَ بِالْبِدْعَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا ذُكِرَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْفُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا(1/344)
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ كَانَ آثِمًا . وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَالشَّاهِدُ وَالْمُفْتِي كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ "265، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) [النساء/135، 136] } وَ " اللَّيُّ " هُوَ الْكَذِبُ وَ " الْإِعْرَاضُ " كِتْمَانُ الْحَقِّ ؛ وَمِثْلُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا "266. ثُمَّ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ فَلَوْ تَكَلَّمَ بِحَقِّ لَقَصَدَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ أَوْ الْفَسَادَ كَانَ(1/345)
بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَرِيَاءً . وَإِنْ تَكَلَّمَ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ كَانَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ . وَلَيْسَ هَذَا الْبَابُ مُخَالِفًا لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ". قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ". قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِى أَخِى مَا أَقُولُ قَالَ " إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ "267. فَإِنَّ الْأَخَ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْأَخُ الْمُؤْمِنُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي إيمَانِهِ لَمْ يَكْرَهْ مَا قُلْته مِنْ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَوِيهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ وَيَكُونُ شَاهِدًا لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ أَقْرَبَيْهِ وَمَتَى كَرِهَ هَذَا الْحَقَّ كَانَ نَاقِصًا فِي إيمَانِهِ يَنْقُصُ مِنْ أُخُوَّتِهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ كَرَاهَتَهُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي نَقَصَ مِنْهَا إيمَانُهُ ؛ إذْ كَرَاهَتُهُ لِمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تُوجِبُ تَقْدِيمَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عن المنافقين : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) [التوبة/62] } . ثُمَّ قَدْ يُقَالُ : هَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِيثِ الْغِيبَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَقَدْ يُقَالُ : دَخَلَ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ خَصَّ مِنْهُ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ(1/346)
وَالْعُمُومَ الْمَعْنَوِيَّ وَسَوَاءٌ زَالَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعِهِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ . وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ يُؤَوَّلُ إلَى اللَّفْظِ ؛ إذْ الْعِلَّةُ قَدْ يَعْنِي بِهَا التَّامَّةَ وَقَدْ يَعْنِي بِهَا الْمُقْتَضِيَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
80-من الزنادقة ؟
ج- إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْذُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعَزَّهُ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ صَارَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
قِسْمًا مُؤْمِنِينَ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا .
وَقِسْمًا كُفَّارًا وَهُمْ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بِهِ .(1/347)
وَقِسْمًا مُنَافِقِينَ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا . وَلِهَذَا افْتَتَحَ " سُورَةَ الْبَقَرَةِ " بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ268 وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ269 . وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ270 . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ لَهُ دَعَائِمُ وَشُعَبٌ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَمَا فَسَّرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ فِي الْإِيمَانِ وَدَعَائِمِهِ وَشُعَبِهِ . فَمِنْ النِّفَاقِ مَا هُوَ أَكْبَرُ وَيَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ؛ كَنِفَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَغَيْرِهِ ؛ بِأَنْ يُظْهِرَ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ أَوْ جُحُودَ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ بُغْضَهُ أَوْ عَدَمَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ أَوْ الْمَسَرَّةِ بِانْخِفَاضِ دَيْنِهِ أَوْ الْمُسَاءَةِ بِظُهُورِ دِينِهِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ : مِمَّا لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ إلَّا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذَا الْقَدْرُ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا زَالَ بَعْدَهُ ؛ بَلْ هُوَ بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِهِ ؛ لِكَوْنِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ عَلَى عَهْدِهِ أَقْوَى . فَإِذَا كَانَتْ مَعَ قُوَّتِهَا وَكَانَ النِّفَاقُ مَعَهَا مَوْجُودًا فَوُجُودُهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى . وَكَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَعْلَمُ بَعْضَهُمْ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا(1/348)
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) [التوبة/101] }، كَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ وَوَرَثَتُهُ : قَدْ يَعْلَمُونَ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَعْلَمُونَ بَعْضَهُمْ .
وَفِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ . وَيُسَمَّوْنَ " الزَّنَادِقَةَ " . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إذْ هُمْ دَائِمًا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ . وَهَؤُلَاءِ يَكْثُرُونَ فِي الْمُتَفَلْسِفَةِ : مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ . ثُمَّ فِي الْأَطِبَّاءِ . ثُمَّ فِي الْكُتَّابِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ . وَيُوجِدُونَ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَفِي الْمُقَاتِلَة وَالْأُمَرَاءِ وَفِي الْعَامَّةِ أَيْضًا . وَلَكِنْ يُوجِدُونَ كَثِيرًا فِي نِحَلِ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ لَا سِيَّمَا الرَّافِضَةُ . فَفِيهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النِّحَلِ . وَلِهَذَا كَانَتْ الخرمية271 وَالْبَاطِنِيَّةُ وَالْقَرَامِطَةُ والْإسْماعيليَّةُ والنصيرية وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ : مُنْتَسِبَةٍ إلَى الرَّافِضَةِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِكَثِيرِ مِنْهُمْ مَيْلٌ إلَى دَوْلَةِ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ ؛ لِكَوْنِهِمْ لَا يُلْزِمُونَهُمْ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ يَتْرُكُونَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ . وَبَعْضُهُمْ إنَّمَا يَنْفِرُونَ عَنْ التَّتَارِ لِفَسَادِ سِيرَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى الدِّمَاءِ وَالسَّبْيِ ؛ لَا لِأَجْلِ الدِّينِ . فَهَذَا ضَرْبُ(1/349)
النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ .
81- وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ عَمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَقَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى إمَامَتِهِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ ظَلَمُوهُ وَمَنَعُوهُ حَقَّهُ وَأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ . فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ ؟ وَيَكْفُرُونَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ أَمْ لَا ؟(1/350)
ج- فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَلَوْ قَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي أَوْ نُصَلِّي الْخَمْسَ وَلَا نُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ أَوْ نَقُومُ بِمَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَلَا نُحَرِّمُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ أَوْ لَا نَتْرُكُ الرِّبَا وَلَا الْخَمْرَ وَلَا الْمَيْسِرَ أَوْ نَتَّبِعُ الْقُرْآنَ وَلَا نَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْمَلُ بِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ أَوْ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ قَدْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ إلَّا طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ أَوْ قَالُوا : إنَّا لَا نُجَاهِدُ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُ هَذِهِ الطَّوَائِفِ جَمِيعِهَا كَمَا جَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَجَاهَدُوا الْخَوَارِجَ وَأَصْنَافَهُمْ وَجَاهَدُوا الخرمية وَالْقَرَامِطَةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ(1/351)
إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) [البقرة/193] } . فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) [التوبة/5، 6] }، فَلَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَبَعْدَ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) [البقرة/278، 279] }، فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا لَمْ تَنْتَهِ عَنْ الرِّبَا فَقَدْ حَارَبَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَمَا حَرَّمَهُ قَبْلَهُ أَوْكَدُ . وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)(1/352)
[المائدة/33-35] } .
فَكُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَهْلِ الشَّوْكَةِ عَنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ عَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلَ السَّلَفُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ حَتَّى أَدْخَلَ عَامَّةُ الْأَئِمَّةِ فِيهَا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ لِمُجَرَّدِ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَجَعَلُوهُمْ بِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْقِتَالِ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا . وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ مَا فَعَلُوهُ وَيُقِرُّونَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ حِلَّ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَسْتَحِلُّ قِتَالَهُمْ . أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنْ هَؤُلَاءِ . كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَرَى جَوَازَ قِتَالِهِمْ : أَوْلَى بِالْمُحَارَبَةِ مِنْ الْفَاسِقِ الَّذِي يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ .(1/353)
وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ الَّذِي خَرَجَ عَنْ بَعْضِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ وَأَمْوَالِهِمْ : هُوَ أَوْلَى بِالْمُحَارَبَةِ مِنْ الْفَاسِقِ وَإِنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دِينًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ . كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَتَّخِذُ مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ دِينًا تَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ الْمُغَلَّظَةَ شَرٌّ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي يَعْتَقِدُ أَصْحَابُهَا أَنَّهَا ذُنُوبٌ . وَبِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ عَنْ السُّنَّةِ وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَظُلْمِهِمْ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ مَعَ ذُنُوبِهِمْ وَشَهِدَ لِبَعْضِ الْمُصِرِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَهَى عَنْ لَعْنَتِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ ذِي الخويصرة وَأَصْحَابِهِ - مَعَ عِبَادَتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ - أَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ272 . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء/65] } . فَكَلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَرْضَى بِحُكْمِ(1/354)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا يَشْجُرُ بَيْنَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَحَتَّى لَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمْ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ . وَدَلَائِلُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ . وَبِذَلِكَ جَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ " فَقَالَ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه - فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ . " 273.(1/355)
فَاتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ إذَا امْتَنَعُوا عَنْ بَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ . وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ صِدِّيقِ الْأُمَّةِ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " 274، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَصْحَابُ الصَّحِيحِ عَشَرَةَ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْبُخَارِيُّ غَيْرَ وَجْهٍ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". لَوْ(1/356)
يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِىَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صلى الله عليه وسلم- لاَتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ "275. وَفِي رِوَايَةٍ " إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ "276 وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِى غَالِبٍ قَالَ رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ " كِلاَبُ النَّارِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ ". ثُمَّ قَرَأَ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ قُلْتُ لأَبِى أُمَامَةَ أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلاَّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ. }277 . وَهَؤُلَاءِ أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ بحرورا لَمَّا خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خباب وَأَغَارُوا عَلَى مَاشِيَةِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَخَطَبَ النَّاسَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ فَاسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ وَفَرِحَ بِقَتْلِهِمْ فَرَحًا عَظِيمًا وَلَمْ يَفْعَلْ فِي خِلَافَتِهِ أَمْرًا(1/357)
عَامًّا كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ . وَهُمْ كَانُوا يُكَفِّرُونَ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا . وَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْقُرْآنِ فِي زَعْمِهِمْ وَلَا يَتَّبِعُونَ سُنَّةَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ . كَمَا يَفْعَلُهُ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ - مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا : أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّقَ غَالِيَةَ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ . وَرُوِيَ عَنْهُ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَوُتَى بِأَحَدِ يَفْضُلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي278 . وَعَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِرَجُلِ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُجْلَدَ لِذَلِكَ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَبِيغِ بْنِ عِسْلٍ ؛ لَمَّا ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ الْخَوَارِجِ : لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك 279. فَهَذِهِ سُنَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ قَدْ أَمَرَ بِعُقُوبَةِ الشِّيعَةِ : الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ وَأَخَفُّهُمْ الْمُفَضِّلَةُ . فَأَمَرَ هُوَ وَعُمَرُ بِجِلْدِهِمْ .(1/358)
وَالْغَالِيَةُ يُقْتَلُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ الْإِلَهِيَّةَ وَالنُّبُوَّةَ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِثْلَ النصيرية والْإسْماعيليَّةُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ : بَيْتُ صَادٍ وَبَيْتُ سِينٍ وَمَنْ دَخَلَ فِيهِمْ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الصَّانِعِ أَوْ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ أَوْ يُنْكِرُونَ ظَوَاهِرَ الشَّرِيعَةِ : مِثْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَيَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِمْ وَكِتْمَانِ أَسْرَارِهِمْ وَزِيَارَةِ شُيُوخِهِمْ . وَيَرَوْنَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُمْ وَنِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ حَلَالٌ لَهُمْ . فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَنْ أَحَدِهِمْ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَمَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ مِنْ الْكَافِرِينَ كُفْرًا . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا ذِمَّةٍ وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ مِنْ شَرِّ الْمُرْتَدِّينَ . فَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً وَجَبَ قِتَالُهُمْ كَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ أَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَإِذَا كَانُوا فِي قُرَى الْمُسْلِمِينَ فُرِّقُوا وَأُسْكِنُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَأُلْزِمُوا بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِغَالِيَةِ الرَّافِضَةِ بَلْ مَنْ غَلَا فِي أَحَدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَقَالَ : إنَّهُ(1/359)
يَرْزُقُهُ أَوْ يُسْقِطُ عَنْهُ الصَّلَاةَ أَوْ أَنَّ شَيْخَهُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ لَهُ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمَشَايِخِ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلُ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ . وَأَمَّا الْوَاحِدُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا - أَعْنِي عُمَرَ وَعَلِيًّا - قَتْلُهُمَا أَيْضًا .(1/360)
وَالْفُقَهَاءُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قَتْلِهِمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ . فَإِنَّ الْقِتَالَ أَوْسَعُ مِنْ الْقَتْلِ كَمَا يُقَاتَلُ الصَّائِلُونَ الْعُدَاةُ وَالْمُعْتَدُونَ الْبُغَاةُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعَاقَبْ إلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ . وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ قَدْ أَدْخَلَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ لَفْظًا أَوْ مَعْنَى مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية ؛ مِثْلُ الخرمية وَالْقَرَامِطَةِ والنصيرية وَكُلِّ مِنْ اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَاتَلَ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ : فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَكَرَ الْخَوَارِجَ الحرورية لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ خَرَجُوا بَعْدَهُ ؛ بَلْ أَوَّلُهُمْ خَرَجَ فِي حَيَاتِهِ . فَذَكَرَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْ زَمَانِهِ كَمَا خَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَشْيَاءَ بِالذِّكْرِ لِوُقُوعِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) [الإسراء/31، 32] } . وَقَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ(1/361)
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) [المائدة/54] } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَمِثْلَ تَعْيِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَائِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَتَخْصِيصَهُ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَجُهَيْنَةَ وَتَمِيمًا وَأَسَدًا وغطفان وَغَيْرَهُمْ بِأَحْكَامِ ؛ لِمَعَانٍ قَامَتْ بِهِمْ وَكُلُّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْمَعَانِي أُلْحِقَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحُكْمِ ؛ بَلْ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إذْ ذَاكَ إلَى تَعْيِينِهِمْ ؛ هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَلْفَاظُهُ شَامِلَةً لَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ إنْ لَمْ يَكُونُوا شَرًّا مِنْ الْخَوَارِج المنصوصين فَلَيْسُوا دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأَتْبَاعَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَقَطْ ؛ دُونَ مَنْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَالرَّافِضَةُ كَفَّرَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَامَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَكَفَّرُوا جَمَاهِيرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين . فَيُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ اعْتَقَدَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْعَدَالَةَ أَوْ تَرَضَّى عَنْهُمْ كَمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَلِهَذَا يُكَفِّرُونَ أَعْلَامَ الْمِلَّةِ : مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ(1/362)
وَأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني وَأُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النخعي وَمِثْلِ مَالِكٍ والأوزاعي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الكرخي والجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ وَيُسَمُّونَ مَذْهَبَهُمْ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ كَمَا يُسَمِّيهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ بِذَلِكَ وَكَمَا تُسَمِّيهِ الْمُعْتَزِلَةُ مَذْهَبَ الْحَشْوِ وَالْعَامَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ . وَيَرَوْنَ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْمَغْرِبِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَسَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ هَؤُلَاءِ وَلَا ذَبَائِحُهُمْ وَأَنَّ الْمَائِعَاتِ الَّتِي عِنْدَهُمْ مِنْ الْمِيَاهِ وَالْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا نَجِسَةٌ وَيَرَوْنَ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . لِأَنَّ أُولَئِكَ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ أَصْلِيُّونَ وَهَؤُلَاءِ . مُرْتَدُّونَ وَكُفْرُ الرِّدَّةِ أَغْلَظُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ .(1/363)
وَلِهَذَا السَّبَبِ يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْجُمْهُورِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُعَاوِنُونَ التَّتَارَ عَلَى الْجُمْهُورِ . وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي خُرُوجِ جنكيزخان مَلِكِ الْكُفَّارِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَفِي قُدُومِ هُولَاكُو إلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ ؛ وَفِي أَخْذِ حَلَبَ وَنَهْبِ الصالحية وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخُبْثِهِمْ وَمَكْرِهِمْ ؛ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ مَنْ تَوَزَّرَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُ مَنْ تَوَزَّرَ مِنْهُمْ . وَبِهَذَا السَّبَبِ نَهَبُوا عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا مَرَّ عَلَيْهِمْ وَقْتُ انْصِرَافِهِ إلَى مِصْرَ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى . وَبِهَذَا السَّبَبِ يَقْطَعُونَ الطُّرُقَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَبِهَذَا السَّبَبِ ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ التَّتَارِ وَالْإِفْرِنْجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْكَآبَةِ الشَّدِيدَةِ بِانْتِصَارِ الْإِسْلَامِ مَا ظَهَرَ وَكَذَلِكَ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ السَّاحِلَ - عَكَّةَ وَغَيْرَهَا - ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ الِانْتِصَارِ لِلنَّصَارَى وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ سَمِعَهُ النَّاسُ مِنْهُمْ . وَكُلُّ هَذَا الَّذِي وَصَفْت بَعْضَ أُمُورِهِمْ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْوَالِ ؛ أَنَّ أَعْظَمَ السُّيُوفِ الَّتِي سُلَّتْ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهَا وَأَعْظَمَ الْفَسَادِ الَّذِي جَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ : إنَّمَا هُوَ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَيْهِمْ . فَهُمْ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَأَبْعَدُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْخَوَارِجِ الحرورية وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ فِرَقِ الْأُمَّةِ .(1/364)
فَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَلَا أَكْثَرُ تَصْدِيقًا لِلْكَذِبِ وَتَكْذِيبًا لِلصِّدْقِ مِنْهُمْ وَسِيَّمَا النِّفَاقُ فِيهِمْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ ؛ وَهِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " 280وَفِي رِوَايَةٍ : " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ "281. وَكُلُّ مَنْ جَرَّبَهُمْ يَعْرِفُ اشْتِمَالَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ ؛ وَلِهَذَا يَسْتَعْمِلُونَ التَّقِيَّةَ الَّتِي هِيَ سِيمَا الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ ويَسْتَعْمِلونها مَعَ الْمُسْلِمِينَ { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) [الفتح/11، 12] } وَيَحْلِفُونَ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لِيَرْضَوْا الْمُؤْمِنِينَ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يَرْضَوْهُ . وَقَدْ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا سِيَّمَا السَّامِرَةُ مِنْ الْيَهُودِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَشْبَهُ بِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ : يُشَبِّهُونَهُمْ فِي دَعْوَى الْإِمَامَةِ فِي شَخْصٍ أَوْ بَطْنٍ بِعَيْنِهِ وَالتَّكْذِيبِ لِكُلِّ مَنْ(1/365)
جَاءَ بِحَقِّ غَيْرِهِ يَدْعُونَهُ وَفِي اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ أَوْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْخِيرِ الْفِطْرِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِ ذَبَائِحِ غَيْرِهِمْ . وَيُشْبِهُونَ النَّصَارَى فِي الْغُلُوِّ فِي الْبَشَرِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ وَفِي الشِّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَهُمْ يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ شِيَمُ الْمُنَافِقِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) [المائدة/51] }، وَقَالَ تَعَالَى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) [المائدة/80، 81] } . وَلَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً - وَالْخَوَارِجُ كَانُوا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَجَمَاعَةً - وَهُمْ لَا يَرَوْنَ جِهَادَ الْكُفَّارِ مَعَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ وَلَا طَاعَتَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا تَنْفِيذَ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ [ أَنَّ ذَلِكَ ] لَا يَسُوغُ إلَّا خَلَفَ إمَامٍ مَعْصُومٍ . وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَعْصُومَ قَدْ دَخَلَ فِي السِّرْدَابِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ(1/366)
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً . وَهُوَ إلَى الْآنِ لَمْ يَخْرُجْ وَلَا رَآهُ أَحَدٌ وَلَا عَلَّمَ أَحَدًا دِينًا وَلَا حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ بَلْ مَضَرَّةٌ . وَمَعَ هَذَا فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا أَتْبَاعُهُ : مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ مِنْ سُكَّانِ الْجِبَالِ وَالْبَوَادِي أَوْ مَنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ : مِثْلُ ابْنِ الْعُود وَنَحْوِهِ مِمَّنْ قَدْ كَتَبَ خَطَّهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ . مِنْ الْمُخَازِي عَنْهُمْ وَصَرَّحَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُمْ وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ . وَهُمْ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَنْ آمَنَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ : فَآمَنَ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ . وَأَكْثَرُ مُحَقِّقِيهِمْ عِنْدَهُمْ - يَرَوْنَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَكْثَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ؛ مَا آمَنُوا بِاَللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكَفْرُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بَاطِلًا مِنْ أَصْلِهِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ فَرْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي جَامَعَ بِهِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ لِيُطَهَّرَ بِذَلِكَ مِنْ وَطْءِ الْكَوَافِرِ عَلَى زَعْمِهِمْ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْكَوَافِرِ حَرَامٌ عِنْدِهِمْ .(1/367)
وَمَعَ هَذَا يَرُدُّونَ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلَ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَيَرَوْنَ أَنَّ شِعْرَ شُعَرَاءِ الرَّافِضَةِ : مِثْلُ الْحِمْيَرِيِّ وكوشيار الدَّيْلَمِيَّ وَعِمَارَةَ الْيَمَنِيِّ خَيْرًا مِنْ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَقَدْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْنَا مِنْ الْكَذِبِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .
وَهُمْ مَعَ هَذَا يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَلَا يُقِيمُونَ فِيهَا جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً وَيَبْنُونَ عَلَى الْقُبُورِ الْمَكْذُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْذُوبَةِ مَسَاجِدَ يَتَّخِذُونَهَا مَشَاهِدَ . وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ وَنَهَى أُمَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ "282.
وَيَرَوْنَ أَنَّ حَجَّ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الْمَكْذُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْذُوبَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ حَتَّى أَنَّ مِنْ مَشَايِخِهِمْ مَنْ يُفَضِّلُهَا عَلَى حَجِّ الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَوَصْفُ حَالِهِمْ يَطُولُ . فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَحَقُّ بِالْقِتَالِ مِنْ الْخَوَارِجِ .(1/368)
وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِيمَا شَاعَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ : أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ هُمْ الرَّافِضَةُ : فَالْعَامَّةُ شَاعَ عِنْدَهَا أَنَّ ضِدَّ السُّنِّيِّ هُوَ الرافضي فَقَطْ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُ مُعَانَدَةً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَائِعِ دِينِهِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ كَانُوا يَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ بِمُقْتَضَى فَهْمِهِمْ وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ عِنْدَهُمْ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ . فَمُسْتَنَدُ الْخَوَارِجِ خَيْرٌ مِنْ مُسْتَنَدِهِمْ . وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ زِنْدِيقٌ وَلَا غَالٍ وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ وَالْغَالِيَةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَبْدَأَ الرَّفْضِ إنَّمَا كَانَ مِنْ الزِّنْدِيقِ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْيَهُودِيَّةَ وَطَلَبَ أَنْ يُفْسِدَ الْإِسْلَامَ كَمَا فَعَلَ بولص النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى . وَأَيْضًا فَغَالِبُ أَئِمَّتِهِمْ زَنَادِقَةٌ ؛ إنَّمَا يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ . لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا فَعَلَتْهُ أَئِمَّةُ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ فِي زَمَنِ الْمُعْتَصِمِ مَعَ بَابك الخرمي وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ " الخرمية " وَ " الْمُحَمِّرَةَ " " وَالْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ " الَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخَذُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ مَعَهُمْ مُدَّةً . كَأَبِي سَعِيدٍ الجنابي وَأَتْبَاعِهِ . وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ جَاوَزُوا إلَى(1/369)
مِصْرَ وَبَنَوْا الْقَاهِرَةَ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ أَنَّهُمْ بَرِيئُونَ مِنْ نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ نَسَبَهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَبْعَدُ عَنْ دِينِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . بَلْ الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ . وَمِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ دُورِ الدَّعْوَةِ : الَّذِينَ كَانُوا بِخُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَنْ أَعَانَ التَّتَارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ : بِالْمُؤَازَرَةِ وَالْوِلَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِمُبَايَنَةِ قَوْلِهِمْ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَلِكُ الْكُفَّارِ هُولَاكُو " يُقَرِّرُ أَصْنَامَهُمْ .(1/370)
وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَوْفَاهُمْ بِالْعَهْدِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وأنقضهم لِلْعَهْدِ . وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا عَيْنُ الْكَذِبِ ؛ بَلْ كَفَرُوا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ : فَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِمَعَانِي التَّنْزِيلِ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ نُذْكَرْهُ مِنْ مَخَازِيهِمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالرِّضْوَانِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِحَقِيقَتِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَبِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُوَادَّتِهِمْ وَمُؤَاخَاتِهِمْ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ مَا هُمْ عَنْهُ خَارِجُونَ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَمُوَادَّتِهِمْ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَحْرِيمِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَتَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ : مَا هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ اسْتِحْلَالًا لَهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَالنَّهْيِ عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(1/371)
وَسَلَّمَ وَمَحَبَّتِهِ وَاتِّبَاعِ حُكْمِهِ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ حُقُوقِ أَزْوَاجِهِ مَا هُمْ بَرَاءٌ مِنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الْمُلْكِ لَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْمَقَابِرِ الَّتِي اُتُّخِذَتْ أَوْثَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ : مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَلَا تَحْتَمِلُ الْفَتْوَى إلَّا الْإِشَارَةَ الْمُخْتَصَرَةَ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ إيمَانَ الْخَوَارِجِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ إيمَانِهِمْ . فَإِذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قَتَلَهُمْ وَنَهَبَ عَسْكَرَهُ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَمْوَالِ فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ يُقَاتَلُوا وَتُؤْخَذَ أَمْوَالُهُمْ كَمَا أَخَذَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمْوَالَ الْخَوَارِجِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ قِتَالَ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ كَقِتَالِ أَمِيرِ(1/372)
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وصفين : فَهُوَ غالط جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَتَخْصِيصِهِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْهَا . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ سَاسُوا الْبِلَادَ الَّتِي يَغْلِبُونَ عَلَيْهَا بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مُلُوكًا كَسَائِرِ الْمُلُوكِ ؛ وَإِنَّمَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْ نَفْسِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ شَرًّا مِنْ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ الحرورية وَلَيْسَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ السَّائِغَ هُوَ الْجَائِزُ الَّذِي يُقِرُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ جَوَابٌ كَتَأْوِيلِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّ لَهُمْ تَأْوِيلٌ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَتَأْوِيلُهُمْ شَرُّ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَقِّهَةِ لَمْ يَجِدُوا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُخْتَصَرَاتِهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنَّفِينَ فِي الشَّرِيعَةِ لَمْ يَذْكُرُوا فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ قِتَالَ الْخَارِجِينَ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ إلَّا مِنْ جِنْسِ قِتَالِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ كَأَهْلِ الْجَمَل وصفين . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَتْ(1/373)
النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَشْمَلُهُمْ وَغَيْرَهُمْ ؛ مِثْلَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ " مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِى يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِى لِذِى عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَلَسْتُ مِنْهُ ".283 فَقَدْ ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُغَاةَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ وَعَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةً ؛ بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ تُغَالِبُ الْأُخْرَى . ثُمَّ ذَكَرَ قِتَالَ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ كَاَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْأَنْسَابِ مِثْلَ قَيْسٍ وَيُمَنِّ وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَاتِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ قِتَالَ الْعُدَاةِ الصَّائِلِينَ وَالْخَوَارِجَ وَنَحْوَهُمْ وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَلَيْسَ مِنْهُ . وَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَوْصَافَ وَزَادُوا عَلَيْهَا . فَإِنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ : يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَالْمُعَاهِدَ لَا يَرَوْنَ لِأَحَدِ مِنْ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةً سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ إلَّا لِمَنْ لَا وُجُودَ لَهُ . وَهُمْ يُقَاتِلُونَ لِعَصَبِيَّةٍ شَرٍّ مِنْ عَصَبِيَّةِ(1/374)
ذَوِي الْأَنْسَابِ : وَهِيَ الْعَصَبِيَّةُ لِلدِّينِ الْفَاسِدِ ؛ فَإِنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِلِّ وَالْغَيْظِ عَلَى كِبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَصِغَارِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ وَغَيْرِ صَالِحِيهِمْ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ . وَأَعْظَمُ عِبَادَتِهِمْ عِنْدَهُمْ لَعْنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ : مُسْتَقْدِمُهُمْ وَمُسْتَأْخِرُهُمْ . وَأَمْثَلُهُمْ عِنْدَهُمْ الَّذِي لَا يَلْعَنُ وَلَا يَسْتَغْفِرُ . وَأَمَّا خُرُوجُهُمْ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَالْمُعَاهِدَ : فَهَذَا أَيْضًا حَالُهُمْ ؛ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ كُفَّارٌ . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَرْفَجَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهْىَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ "284. وَفِي لَفْظٍ : " مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ "285. .(1/375)
وَهَؤُلَاءِ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى تَفْرِيقِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ لِوَلِيِّ أَمْرٍ بِطَاعَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ وَلَا يُطِيعُونَهُ لَا فِي طَاعَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا ؛ بَلْ أَعْظَمُ أُصُولِهِمْ عِنْدَهُمْ التَّكْفِيرُ وَاللَّعْنُ وَالسَّبُّ لِخِيَارِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فَمَا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَإِنَّمَا كَانَ هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ الْخَوَارِج الحرورية وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِاشْتِمَالِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى شَرٍّ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ الْخَوَارِجِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ الحرورية كَانُوا أَوَّلَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خُرُوجًا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ مَعَ وُجُودِ بَقِيَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَقَايَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ فِي الْأُمَّةِ وَإِشْرَاقِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَسُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَسُلْطَانِ الْقُدْرَةِ ؛ حَيْثُ أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقُدْرَةِ . وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ مَا فَعَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِيهَا تَأْوِيلٌ فَلَمْ يَحْتَمِلُوا ذَلِكَ وَجَعَلُوا مَوَارِدَ الِاجْتِهَادِ . بَلْ الْحَسَنَاتِ ذُنُوبًا وَجَعَلُوا الذُّنُوبَ كُفْرًا وَلِهَذَا لَمْ يَخْرُجُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لِانْتِفَاءِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ وَضَعْفِهِمْ .(1/376)
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُلَّمَا ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ كَانَتْ الْبِدْعَةُ الْمُخَالِفَةُ أَضْعَفَ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدْعَةُ الْأَوْلَى أَخَفَّ مِنْ الثَّانِيَةِ والمستأخرة تَتَضَمَّنُ مَنْ جِنْسِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأُولَى وَزِيَادَةً عَلَيْهَا . كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ كُلَّمَا كَانَ أَصْلُهَا أَقْرَبَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَفْضَلَ . فَالسُّنَنُ ضِدُّ الْبِدَعِ فَكُلُّ مَا قَرُبَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا تَأَخَّرَ كَسِيرَةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْبِدَعُ بِالضِّدِّ كُلُّ مَا بَعُدَ عَنْهُ كَانَ شَرًّا مِمَّا قَرُبَ مِنْهُ وَأَقْرَبُهَا مِنْ زَمَنِهِ الْخَوَارِجُ . فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِبِدْعَتِهِمْ ظَهَرَ فِي زَمَانِهِ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا وَتَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةٌ إلَّا فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . ثُمَّ ظَهَرَ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ التَّكَلُّمُ بِالرَّفْضِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا وَيَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةٌ إلَّا بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ لَمْ يَظْهَرْ اسْمُ الرَّفْضِ إلَّا حِينَ خُرُوجِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى لَمَّا أَظْهَرَ التَّرَحُّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَضَتْهُ الرَّافِضَةُ فَسُمُّوا " رَافِضَةً " وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ هُوَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ . وَاتَّبَعَهُ آخَرُونَ فَسُمُّوا " زَيْدِيَّةً " نِسْبَةً إلَيْهِ . ثُمَّ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ نَبَغَ التَّكَلُّمُ بِبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَرَدَّهَا بَقَايَا الصَّحَابَةِ ؛ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ(1/377)
وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلَمْ يَصِرْ لَهُمْ سُلْطَانٌ وَاجْتِمَاعٌ حَتَّى كَثُرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُرْجِئَةُ بَعْدَ ذَلِكَ . ثُمَّ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ ظَهَرَ التَّكَلُّمُ بِبِدْعَةِ الجهمية نفاة الصِّفَاتِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ اجْتِمَاعٌ وَسُلْطَانٌ إلَّا بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فِي إمَارَةِ أَبَى الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ بِالْمَأْمُونِ ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ التَّجَهُّمَ وَامْتَحَنَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَعَرَّبَ كُتُبَ الْأَعَاجِمِ : مِنْ الرُّومِ واليونانيين وَغَيْرِهِمْ . وَفِي زَمَنِهِ ظَهَرَتْ " الخرمية " . وَهُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَتَفَرَّعُوا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ والْإِسْماعيليَّة . وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَنْتَحِلُونَ الرَّفْضَ فِي الظَّاهِرِ . وَصَارَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ فِي زَمَنِ بَنِي بويه بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ فِيهِمْ عَامَّةً هَذِهِ الْأَهْوَاءُ الْمُضِلَّةُ : فِيهِمْ الْخُرُوجُ وَالرَّفْضُ وَالْقَدَرُ وَالتَّجَهُّمُ .(1/378)
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَالِمُ مَا نَاقَضُوهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ فِيهِمْ مَا فِي الْخَوَارِج الحرورية وَزِيَادَاتٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخَوَارِج الحرورية كَانُوا يَنْتَحِلُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ بِآرَائِهِمْ وَيَدَّعُونَ اتِّبَاعَ السُّنَنِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ . وَالرَّافِضَةُ تَنْتَحِلُ اتِّبَاعِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَتَزْعُمُ أَنَّ فِيهِمْ الْمَعْصُومَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يُخْطِئُ . لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا رُشْدًا . وَاتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ ؛ بَلْ هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُدَى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجِبُ مَحَبَّتُهُمْ " وَمُوَالَاتُهُمْ وَرِعَايَةُ حَقِّهِمْ . وَهَذَانِ الثَّقَلَان اللَّذَانِ وَصَّى بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً فِينَا خَطِيباً بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ " أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِىَ رَسُولُ رَبِّى فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ " . فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ " وَأَهْلُ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ(1/379)
اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى " . فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ . قَالَ وَمَنْ هُمْ قَالَ هُمْ آلُ عَلِىٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ . قَالَ كُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ قَالَ نَعَمْ.286(1/380)
وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ أَنَّ تُذْكَرَ هُنَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ : { لا يَبْلُغُوا الْخَيْرَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي، أَتَرْجُو سلهبُ شَفَاعَتِي حَيٌّ مِنْ مُرَادٍ، وَلا يَرْجُوهَا بنو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. }287 وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَطَهَّرَهُمْ مِنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا فِي الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى عَمَّارٍ شَدَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ " .288 . وَلَوْ ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ فِي حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَحُقُوقِ الصَّحَابَةِ لَطَالَ الْخِطَابُ فَإِنَّ دَلَائِلَ هَذَا كَثِيرَةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ وَتَبَرَّءُوا مِنْ النَّاصِبَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَيُفَسِّقُونَهُ وَيَنْتَقِصُونَ بِحُرْمَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ ؛ مِثْلَ مَنْ كَانَ يُعَادِيهِمْ عَلَى الْمُلْكِ أَوْ يُعْرِضُ عَنْ حُقُوقِهِمْ الْوَاجِبَةِ أَوْ يَغْلُو فِي تَعْظِيمِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِغَيْرِ الْحَقِّ . وَتَبَرَّءُوا مِنْ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ ؛(1/381)
وَيُكَفِّرُونَ عَامَّةَ صَالِحِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ ذَنْبًا وَضَلَالًا مِنْ أُولَئِكَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةَ الْمُحَارِبِينَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ انْتَحَلَتْ إحْدَى الثَّقَلَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ . فَلِهَذَا كَانَتْ الْخَوَارِجُ أَقَلَّ ضَلَالًا مِنْ الرَّوَافِضِ ؛ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُخَالَفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمُخَالَفَةٌ لِصَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ وَمُخَالِفُونَ لِسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلِعِتْرَتِهِ أَهْلِ بَيْتِهِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ وَفِي إجْمَاعِ الْعِتْرَةِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا ؟(1/382)
وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا حُجَّةٌ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي السُّنَنِ289 . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ : كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي وَأَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ }290 رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ . وَكَذَلِكَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ291 .(1/383)
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ الْمُحَارِبِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَرَغَّبَ فِيهِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَارِفِينَ بِحَقِيقَتِهِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَمَلَ الْجَمِيعَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى أَوْ مِنْ بَابِ كَوْنِهِمْ فِي مَعْنَاهُمْ . فَإِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ بِأَلْفَاظِ مُتَنَوِّعَةٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عن عَلِىّ قَالَ عَلِيٍّ- رضى الله عنه - إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا فَوَاللَّهِ ، لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ ، وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِى آخِرِ الزَّمَانِ ، حُدَّاثُ الأَسْنَانِ ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ فِى قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "292 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِىُّ أَنَّهُ كَانَ فِى الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِىٌّ رضى الله عنه(1/384)
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِىَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صلى الله عليه وسلم- لاَتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْىِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاَءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِى ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِى سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ فَنَزَّلَنِى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً حَتَّى قَالَ مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِىُّ فَقَالَ لَهُمْ أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ. فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ - قَالَ - وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ رَجُلاَنِ فَقَالَ عَلِىٌّ(1/385)
رضى الله عنه الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ أَخِّرُوهُمْ. فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِى الأَرْضَ فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ - قَالَ - فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِىُّ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِى وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلاَثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ. 293.
وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - قَالُوا لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ. قَالَ عَلِىٌّ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفَ نَاسًا إِنِّى لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِى هَؤُلاَءِ " يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْىُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْىٍ ". فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - قَالَ انْظُرُوا. فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَالَ ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِبْتُ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ وَجَدُوهُ فِى خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ.294 "(1/386)
وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ عَلَامَةُ أَوَّلِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ . فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ إلَى زَمَنِ الدَّجَّالِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ لَيْسُوا مُخْتَصِّينَ بِذَلِكَ الْعَسْكَرِ . وَأَيْضًا فَالصِّفَاتُ الَّتِي وَصَفَهَا تَعُمُّ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَرْوُونَ الْحَدِيثَ مُطْلَقًا مِثْلَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ فَسَأَلاَهُ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ أَسَمِعْتَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ لاَ أَدْرِى مَا الْحَرُورِيَّةُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " يَخْرُجُ فِى هَذِهِ الأُمَّةِ - وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا - قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ - أَوْ حَنَاجِرَهُمْ - يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، فَيَنْظُرُ الرَّامِى إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ ، فَيَتَمَارَى فِى الْفُوقَةِ ، هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَىْءٌ "295 ..(1/387)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِى الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِىُّ فَقَالَ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ " وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ " . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ . قَالَ " دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يُنْظَرُ فِى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، يُنْظَرُ فِى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى رِصَافِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَضِيِّهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ - أَوْ قَالَ ثَدْيَيْهِ - مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ - أَوْ قَالَ مِثْلُ الْبَضْعَةِ - تَدَرْدَرُ ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ " . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَشْهَدُ سَمِعْتُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ ، جِىءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِى نَعَتَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ فَنَزَلَتْ فِيهِ ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَاتِ ).296(1/388)
فَهَؤُلَاءِ أَصْلُ ضَلَالِهِمْ : اعْتِقَادُهُمْ فِي أَئِمَّةِ الْهُدَى وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الْعَدْلِ وَأَنَّهُمْ ضَالُّونَ وَهَذَا مَأْخَذُ الْخَارِجِينَ عَنْ السُّنَّةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ ثُمَّ يَعُدُّونَ مَا يَرَوْنَ أَنَّهُ ظُلْمٌ عِنْدَهُمْ كُفْرًا . ثُمَّ يُرَتَّبُونَ عَلَى الْكُفْرِ أَحْكَامًا ابْتَدَعُوهَا . فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ لِلْمَارِقِينَ مِنْ الحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ . فِي كُلِّ مَقَامٍ تَرَكُوا بَعْضَ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا مَرَقَ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَرْبَعَةِ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِىِّ ثُمَّ الْمُجَاشِعِىِّ ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِىِّ ، وَزَيْدٍ الطَّائِىِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِى نَبْهَانَ ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ الْعَامِرِىِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِى كِلاَبٍ ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ ، قَالُوا يُعْطِى صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا . قَالَ " إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ " . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاتِئُ الْجَبِينِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقٌ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ . فَقَالَ " مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ ، أَيَأْمَنُنِى اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَلاَ تَأْمَنُونِى " . فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ - أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - فَمَنَعَهُ ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ " إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا - أَوْ فِى عَقِبِ هَذَا - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ،(1/389)
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ "297 وَهَذَا نَعْتُ سَائِرِ الْخَارِجِينَ كَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ دِمَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ شَرٌّ مَنْ غَيْرِهِ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ " . قِيلَ مَا سِيمَاهُمْ . قَالَ " سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ " . أَوْ قَالَ " التَّسْبِيدُ " .298(1/390)
وَهَذِهِ السِّيمَا سِيمَا أَوَّلِهِمْ كَمَا كَانَ ذُو الثدية ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُمْ . وَأَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثَهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حنيف بِهَذَا الْمَعْنَى وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَرَافِعِ بْنِ عَمْرٍو وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ وَرَوَى النِّسَائِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ أَلْقَى رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَسْأَلُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ فَلَقِيتُ أَبَا بَرْزَةَ فِى يَوْمِ عِيدٍ فِى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقُلْتُ لَهُ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ فَقَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِأُذُنِى وَرَأَيْتُهُ بِعَيْنِى أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَالٍ فَقَسَمَهُ فَأَعْطَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ شِمَالِهِ وَلَمْ يُعْطِ مَنْ وَرَاءَهُ شَيْئًا فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَا عَدَلْتَ فِى الْقِسْمَةِ. رَجُلٌ أَسْوَدُ مَطْمُومُ الشَّعْرِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ " وَاللَّهِ لاَ تَجِدُونَ بَعْدِى رَجُلاً هُوَ أَعْدَلُ مِنِّى ". ثُمَّ قَالَ " يَخْرُجُ فِى آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَأَنَّ هَذَا مِنْهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ لاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ(1/391)
وَالْخَلِيقَةِ ".299
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ } . قَالَ ابْنُ الصَّامِتِ : فَلَقِيت رَافِعَ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ أَخَا الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ قُلْت : مَا حَدِيثٌ سَمِعْته مِنْ أَبِي ذَرٍّ كَذَا وَكَذَا ؟ فَذَكَرْت لَهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ : وَأَنَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي غَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا قَوْلُنَا : إنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا يُقَالُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ الْكُفَّارَ أَيْ قَاتَلَ جِنْسَ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً . وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْبُدُهَا هِيَ الَّتِي تَعْبُدُهَا الْهِنْدُ وَالصِّينُ وَالتُّرْكُ ؛ لَكِنْ يَجْمَعُهُمْ لَفْظُ الشِّرْكِ وَمَعْنَاهُ . وَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ وَالْمُرُوقُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَى أُولَئِكَ وَيَجِبُ قِتَالُهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَجَبَ قِتَالُ أُولَئِكَ . وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ عَنْ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ(1/392)
أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خُرُوجَ الرَّافِضَةِ وَمُرُوقَهُمْ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ .
فَأَمَّا قَتْلُ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَارِجِ ؛ كالحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ؛ كَالدَّاعِيَةِ إلَى مَذْهَبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ فِيهِ فَسَادٌ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَأْتِى فِى آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".300
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا - أَوْ فِى عَقِبِ هَذَا - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ ".301(1/393)
وَقَالَ عُمَرُ لِصَبِيغِ بْنِ عِسْلٍ : لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك . وَلِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ طَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ أَوَّلَ الرَّافِضَةِ حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ . وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ . فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُمْ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلُوا وَلَا يَجِبُ قَتْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يَظْهَرْ هَذَا الْقَوْلُ أَوْ كَانَ فِي قَتْلِهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ . وَلِهَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ ذَلِكَ الْخَارِجِيِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ " وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ فِيهِ فَسَادٌ عَامٌّ ؛ وَلِهَذَا تَرَكَ عَلِيٌّ قَتْلَهُمْ أَوَّلَ مَا ظَهَرُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَكَانُوا دَاخِلِينَ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ظَاهِرًا لَمْ يُحَارِبُوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَكُنْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُمْ هُمْ .(1/394)
وَأَمَّا تَكْفِيرُهُمْ وَتَخْلِيدُهُمْ : فَفِيهِ أَيْضًا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ : وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَالْقَوْلَانِ فِي الْخَوَارِجِ وَالْمَارِقِينَ مِنْ الحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي يَقُولُونَهَا الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كُفْرٌ وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ هِيَ كُفْرٌ أَيْضًا . وَقَدْ ذَكَرْت دَلَائِلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لَكِنْ تَكْفِيرُ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمُ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِ التَّكْفِيرِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ . فَإِنَّا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِنُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَلَا نَحْكُمُ لِلْمُعَيَّنِ بِدُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْعَامِّ حَتَّى يَقُومَ فِيهِ الْمُقْتَضَى الَّذِي لَا مَعَارِضَ لَهُ . وَقَدْ بَسَطْت هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي " قَاعِدَةِ التَّكْفِيرِ " .(1/395)
وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُفْرِ الَّذِي قَالَ302 : إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَأَنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ مَعَ شَكِّهِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِعَادَتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُكَفِّرُ الْعُلَمَاءُ مِنْ اسْتَحَلَّ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لِنَشْأَتِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ ؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَكُونُ قَدْ بَلَغَتْهُ النُّصُوصُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا يَرَاهُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ بَعَثَ بِذَلِكَ فَيُطْلِقُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَيُكَفِّرُ مَتَى قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا ؛ دُونَ غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؟ .303
82- حكم قتال الطائفة الممتنعة(1/396)
ج- الْحَمْدُ لِلَّهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ؛ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ نَاطِقِينَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمُلْتَزِمِينَ بَعْضَ شَرَائِعِهِ كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَانِعِي الزَّكَاةَ . وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ بَعْدَ سَابِقَةِ مُنَاظَرَةِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الْقِتَالِ عَلَى حُقُوقِ الْإِسْلَامِ عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ الْحَدِيثُ عَنْ الْخَوَارِجِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ مَعَ قَوْلِهِ : { تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ }304 فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِصَامِ بِالْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الْتِزَامِ شَرَائِعِهِ لَيْسَ بِمُسْقِطِ لِلْقِتَالِ . فَالْقِتَالُ وَاجِبٌ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ . فَمَتَى كَانَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَالْقِتَالُ وَاجِبٌ . فَأَيُّمَا طَائِفَةٍ امْتَنَعَتْ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ عَنْ الْتِزَامِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْمَيْسِرِ أَوْ عَنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَوْ عَنْ الْتِزَامِ جِهَادِ الْكُفَّارِ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الدِّينِ(1/397)
وَمُحَرَّمَاتِهِ - الَّتِي لَا عُذْرَ لِأَحَدِ فِي جُحُودِهَا وَتَرْكِهَا - الَّتِي يَكْفُرُ الْجَاحِدُ لِوُجُوبِهَا . فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ تُقَاتَلُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُقِرَّةٌ بِهَا . وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ إذَا أَصَرَّتْ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ السُّنَنِ كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ - عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِوُجُوبِهَا - وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشَّعَائِرِ . هَلْ تُقَاتَلُ الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ عَلَى تَرْكِهَا أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَنَحْوُهَا فَلَا خِلَافَ فِي الْقِتَالِ عَلَيْهَا . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ ؛ كَأَهْلِ الشَّامِ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَإِنَّ أُولَئِكَ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْ خَارِجُونَ عَلَيْهِ لِإِزَالَةِ وِلَايَتِهِ . وَأَمَّا الْمَذْكُورُونَ فَهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَبِمَنْزِلَةِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَلِهَذَا افْتَرَقَتْ سِيرَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِتَالِهِ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَفِي قِتَالِهِ لِأَهْلِ النهروان : فَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِيِّينَ سِيرَةَ الْأَخِ مَعَ أَخِيهِ وَمَعَ الْخَوَارِجِ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَثَبَتَتْ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا(1/398)
اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِنْ قِتَالِ الصِّدِّيقِ وَقِتَالِ الْخَوَارِجِ ؛ بِخِلَافِ الْفِتْنَةِ الْوَاقِعَةِ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ فِيهَا بِمَا دَلَّتْ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ اخْتَلَفُوا فِيهَا . عَلَى أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ الَّذِينَ يَجِبُ قِتَالُهُمْ هُمْ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ ؛ لَا الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ . وَآخَرُونَ يَجْعَلُونَ الْقِسْمَيْنِ بُغَاةً وَبَيْنَ الْبُغَاةِ وَالتَّتَارِ فَرْقٌ بَيِّنٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ ؛ فَلَا أَعْلَمُ فِي وُجُوبِ قِتَالِهِمْ خِلَافًا .(1/399)
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمَسْئُولُ عَنْهُمْ( أي التتار ) عَسْكَرُهُمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ مِنْ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَعَلَى قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ - وَهُمْ جُمْهُورُ الْعَسْكَرِ - يَنْطِقُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُمْ وَيُعَظِّمُونَ الرَّسُولَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي إلَّا قَلِيلًا جِدًّا وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَكْثَرُ فِيهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِ وَلِلصَّالِحِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ قَدْرٌ وَعِنْدَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْضُهُ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ ؛ لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّتُهُمْ وَاَلَّذِي يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ مُتَضَمِّنٌ لِتَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ أَوَّلًا يُوجِبُونَ الْإِسْلَامَ وَلَا يُقَاتِلُونَ مَنْ تَرَكَهُ ؛ بَلْ مَنْ قَاتَلَ عَلَى دَوْلَةِ الْمَغُولِ عَظَّمُوهُ وَتَرَكُوهُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ دَوْلَةِ الْمَغُولِ أَوْ عَلَيْهَا اسْتَحَلُّوا قِتَالَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ . فَلَا يُجَاهِدُونَ الْكُفَّارَ وَلَا يُلْزِمُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ وَلَا يَنْهَوْنَ أَحَدًا مِنْ عَسْكَرِهِمْ أَنْ يَعْبُدَ مَا شَاءَ مِنْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ سِيرَتِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ أَوْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَوْ الْمُتَطَوِّعِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ فِي الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ التَّطَوُّعِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا عَامَّتُهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ(1/400)
دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ إلَّا أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا سُلْطَانُهُمْ أَيْ لَا يَلْتَزِمُونَ تَرْكَهَا وَإِذَا نَهَاهُمْ عَنْهَا أَوْ عَنْ غَيْرِهَا أَطَاعُوهُ لِكَوْنِهِ سُلْطَانًا لَا بِمُجَرَّدِ الدِّينِ . وَعَامَّتُهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ ؛ لَا مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ الزَّكَاةِ وَلَا مِنْ الْحَجِّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَلْتَزِمُونَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ ؛ بَلْ يَحْكُمُونَ بِأَوْضَاعِ لَهُمْ تُوَافِقُ الْإِسْلَامَ تَارَةً وَتُخَالِفُهُ أُخْرَى . وَإِنَّمَا كَانَ الْمُلْتَزِمُ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الشيزبرون وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَفَاضَ عِنْدَ النَّاسِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَدَخَلُوا فِيهِ وَمَا الْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ . وَقِتَالُ هَذَا الضَّرْبِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ مَنْ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَعَرَفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا السِّلْمَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَدِينَ الْإِسْلَامِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . وَإِذَا كَانَ الْأَكْرَادُ وَالْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهُمْ إلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ . نَعَمْ يَجِبُ أَنْ يُسْلَكَ فِي قِتَالِهِ الْمَسْلَكُ الشَّرْعِيُّ مِنْ دُعَائِهِمْ إلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إنْ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَةُ إلَى الشَّرَائِعِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ كَمَا كَانَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ يُدْعَى أَوَّلًا إلَى الشَّهَادَتَيْنِ إنْ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُ . فَإِنْ اتَّفَقَ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ فَهُوَ الْغَايَةُ(1/401)
فِي رِضْوَانِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ فُجُورٌ وَفَسَادُ نِيَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ يُقَاتِلُ عَلَى الرِّيَاسَةِ أَوْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَكَانَتْ مَفْسَدَةُ تَرْكِ قِتَالِهِمْ أَعْظَمُ عَلَى الدِّينِ مِنْ مَفْسَدَةِ قِتَالِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ : كَانَ الْوَاجِبُ أَيْضًا قِتَالَهُمْ دَفْعًا لِأَعْظَمِ الْمُفْسِدَتَيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْغَزْوُ مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَّفِقْ الْغَزْوُ إلَّا مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُجَّارِ أَوْ مَعَ عَسْكَرٍ كَثِيرِ الْفُجُورِ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الْغَزْوِ مَعَهُمْ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِيلَاءُ الْآخَرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ ضَرَرًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَإِمَّا الْغَزْوُ مَعَ الْأَمِيرِ الْفَاجِرِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ دَفْعُ الْأَفْجَرِينَ وَإِقَامَةُ أَكْثَرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ؛ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إقَامَةُ جَمِيعِهَا . فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَكُلِّ مَا أَشْبَهَهَا ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْغَزْوِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَقَعْ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَجْرُ(1/402)
وَالْمَغْنَمُ " .305
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا رَوَاهُ أَبُو داود فِي سُنَنِهِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَلاَثَةٌ مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ : الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ تُكَفِّرْهُ بِذَنْبٍ وَلاَ تُخْرِجْهُ مِنَ الإِسْلاَمِ بِعَمَلٍ وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِىَ اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِى الدَّجَّالَ لاَ يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ وَالإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ ".306(1/403)
وَمَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }307 إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا فِي جِهَادِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجِهَادَ مَعَ الْأُمَرَاءِ أَبْرَارِهِمْ وَفُجَّارِهِمْ ؛ بِخِلَافِ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ الْخَارِجِينَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . هَذَا مَعَ إخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ " سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لاَ يَفْعَلُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّى وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَنْ يَرِدَ عَلَىَّ الْحَوْضَ ".308 فَإِذَا أَحَاطَ الْمَرْءُ عِلْمًا بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِهَادِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْأُمَرَاءُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ إعَانَةِ الظَّلَمَةِ عَلَى ظُلْمِهِمْ : عَلِمَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ جِهَادُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجِهَادَ كَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ وَطَائِفَةٍ هِيَ أَوْلَى بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ جِهَادُهُمْ إلَّا كَذَلِكَ وَاجْتِنَابُ إعَانَةِ الطَّائِفَةِ الَّتِي يَغْزُو مَعَهَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ؛ بَلْ يُطِيعُهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يُطِيعُهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَهِيَ(1/404)
وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ . وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ طَرِيقِ الحرورية وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يسلك مَسْلَكَ الْوَرِعِ الْفَاسِدِ النَّاشِئِ عَنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طَرِيقَةِ الْمُرْجِئَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَسْلُكُ مَسْلَكَ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَبْرَارًا . وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
83- هل يجب قتال التتار ومن في حكمهم ؟(1/405)
ج- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَعَمْ يَجِبُ قِتَالُ هَؤُلَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ؛ وَاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْمَعْرِفَةُ بِحَالِهِمْ . وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي مَثَلِهِمْ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَنْ بَاشَرَ الْقَوْمَ يَعْلَمُ حَالَهُمْ وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَخْبَارِ الصَّادِقِينَ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ جُلَّ أُمُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ نُبَيِّنَ الْأَصْلَ الْآخَرَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ : كُلُّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ تَكَلَّمَتْ بِالشَّهَادَتَيْنِ . فَإِذَا أَقَرُّوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا . وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الزَّكَاةِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ أَوْ الزِّنَا أَوْ الْمَيْسِرِ أَوْ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْحُكْمِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْضَاعِ وَنَحْوِهَا بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا وَيُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ(1/406)
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرُوا الْبِدَعَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ مِثْلَ أَنْ يُظْهِرُوا الْإِلْحَادَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ الطَّعْنِ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ أَوْ مُقَاتَلَةَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ الَّتِي تُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) [الأنفال/39] } فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) [البقرة/278، 279] } . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَصَامُوا لَكِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا . وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا(1/407)
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَقَدْ قُرِئَ ( فَأْذَنُوا وَآذِنُوا ) وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ . وَالرِّبَا آخِرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِتَرَاضِي الْمُتَعَامِلِينَ . فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَقُ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُ تَحْرِيمًا . وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : حَدِيثَ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَسَهْلِ بْنِ حنيف . وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ طُرُقُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَتِهِمْ { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ }309 . وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا ؛ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي قِتَالِهِمْ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْقِتَالِ(1/408)
يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : قَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ مَنْ قَاتَلَهُ . وَقَوْمٌ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ لَمْ يُقَاتِلُوا الْوَاحِدَةَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا نَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ ".. وَفِي لَفْظٍ " يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ "310 فَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَإِنَّ تِلْكَ الْمَارِقَةَ الَّتِي مَرَقَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ؛ بَلْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ هَذِهِ الْمَارِقَةِ وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِقِتَالِهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ هَذِهِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ : " إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ "311 فَمَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَقَدْ بُويِعَ لَهُ وَاخْتَارَ الْأَصْلَحَ وَحَقَنَ الدِّمَاءَ مَعَ نُزُولِهِ عَنْ الْأَمْرِ . فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ مَأْمُورًا(1/409)
بِهِ لَمْ يَمْدَحْ الْحَسَنَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي قِتَالِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ طَرِيقَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرَى قِتَالًا عَلَى يَوْمِ حَرُورَاءَ وَيَوْمِ الْجَمَلِ وصفين كُلُّهُ مِنْ بَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَكَذَلِكَ يَجْعَلُ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ قِتَالُ سَائِرِ مَنْ قُوتِلَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا بَلْ هُمْ عُدُولٌ : فَقَالُوا إنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ عُدُولٌ مَعَ قِتَالِهِمْ وَهُمْ مُخْطِئُونَ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ . وَخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَذَهَبُوا إلَى تَفْسِيقِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَنْ عَدُّوهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغِيِّ فِي زَمَنِهِمْ فَرَأَوْهُمْ فُسَّاقًا وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يُدْخِلُونَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ - وَإِنَّمَا يُفَسِّقُ الصَّحَابَةَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ كَمَا يُكَفِّرُهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَلَا يَقُولُونَ إنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعْصُومَةٌ كَمَا كَانَتْ وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِعَيْنِهِ رَدٌّ إلَى صَاحِبِهِ وَمَا أُتْلِفَ فِي حَالِ الْقِتَالِ لَمْ يَضْمَنْ حَتَّى أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : لَا يَضْمَنُ لَا هَؤُلَاءِ(1/410)
وَلَا هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْ دَمٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ هَدَرٌ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِسِلَاحِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد يَجُوزُ وَالْمَنْعُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالرُّخْصَةُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرَهُمْ وَالتَّذْفِيفِ عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا . فَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَفِي مَذْهَبِهِ وَجْهٌ : أَنَّهُ يَتْبَعُ مُدْبَرَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ كَمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ عن علي بن حسين ، أن مروان بن الحكم ، قال له وهو أمير بالمدينة : ما رأيت أحدا أحسن غلبة من أبيك علي بن أبي طالب ، ألا أحدثك ، عن غلبته إيانا يوم الجمل ؟ قلت : الأمير أعلم ، قال : لما التقينا يوم الجمل توافقنا ، ثم حمل بعضنا على بعض ، فلم ينشب أهل البصرة أن انهزموا ، فصرخ صارخ لعلي : لا يقتل مدبر ، ولا يذفف على جريح ، ومن أغلق عليه باب داره فهو آمن ، ومن طرح السلاح آمن ، قال مروان : وقد كنت دخلت دار فلان ، ثم أرسلت إلى حسن وحسين ابني علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر فكلموه ، قال : هو آمن فليتوجه حيث شاء ، فقلت : لا والله ما تطيب نفسي حتى أبايعه فبايعته ، ثم قال : اذهب حيث شئت.312 فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَارَ مِنْ أَهْلِ(1/411)
الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَيُحْكَمُ فِيهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَمَا أَدْخَلَ مَنْ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجَ . وَسَنُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا التَّوَهُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ لَيْسَ كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَصُّوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى فِي الْأَمْوَالِ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ غَنِيمَةَ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي حرورية كَانَ لَهُمْ سَهْمٌ فِي قَرْيَةٍ فَخَرَجُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَرْضُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْسَمُ خُمُسُهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلَّذِينَ قَاتَلُوا يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَوْ يَجْعَلُ الْأَمِيرُ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْسَمُ مِثْلُ مَا أَخَذَ عُمَرُ السَّوَادَ عَنْوَةً وَوَقَفَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلَ أَحْمَد الْأَرْضَ الَّتِي لِلْخَوَارِجِ إذَا غُنِمَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا غُنِمَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ . فَإِنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَسِيرَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَفَرُّقٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِنَصِّ(1/412)
رَسُولِ اللَّهِ وَفَرِحَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا الْقِتَالُ يَوْمَ صفين فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَالذَّمِّ عَلَيْهِ مَا ظَهَرَ . وَقَالَ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ وَغَيْرِهِمْ : إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا فَقَاتَلْنَاهُمْ وَقَدْ فَاءُوا وَقَدْ قَبِلْنَا مِنْهُمْ.313 وَصَلَّى عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ : يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }314 . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن زَيْدَ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِىُّ أَنَّهُ كَانَ فِى الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِىٌّ رضى الله عنه أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِىَ(1/413)
لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صلى الله عليه وسلم- لاَتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْىِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاَءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِى ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِى سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ فَنَزَّلَنِى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً حَتَّى قَالَ مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِىُّ فَقَالَ لَهُمْ أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ. فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ - قَالَ - وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ رَجُلاَنِ فَقَالَ عَلِىٌّ رضى الله عنه الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ أَخِّرُوهُمْ. فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِى الأَرْضَ فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ - قَالَ - فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِىُّ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِى وَاللَّهِ الَّذِى(1/414)
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلاَثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ.315.
فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الْخَوَارِجِ وَتَضْلِيلِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِهِمْ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا نِزَاعٌ فِي كُفْرِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ بُغَاةٌ . وَالثَّانِي أَنَّهُمْ كُفَّارٌ كَالْمُرْتَدِّينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ اُسْتُتِيبَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ : كَمَا أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا هَلْ يَكْفُرُونَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قِتَالَ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِلْخَوَارِجِ لَيْسَ مِثْلَ الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين . فَكَلَامُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي الْخَوَارِجِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا كَالْمُرْتَدِّينَ عَنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين بَلْ هُمْ نَوْعٌ ثَالِثٌ . وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ . وَمِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصَّحَابَةُ - مَعَ إقْرَارِهِمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - مَانِعِي الزَّكَاةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله(1/415)
عنه - قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ " فَقَالَ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه - فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ . "316 .(1/416)
وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْخَمْسَ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ سَائِغَةٌ فَلِهَذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ وَهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَى مَنْعِهَا وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) [التوبة/103] } وَقَدْ سَقَطَتْ بِمَوْتِهِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ . وَأَمَّا الْأَصْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَحْوَالِهِمْ . فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ جَازُوا عَلَى الشَّامِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى : عَامَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَأَعْطَوْا النَّاسَ الْأَمَانَ وَقَرَءُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدِمَشْقَ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سَبَوْا مِنْ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ مَا يُقَالُ إنَّهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَفَعَلُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِجَبَلِ الصالحية ونابلس وَحِمْصَ وَدَارِيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُمْ سَبَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَجَعَلُوا يَفْجُرُونَ بِخِيَارِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا كَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالْأُمَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَجَعَلُوا الْجَامِعَ الَّذِي بالعقيبة دَكًّا . وَقَدْ شَاهَدْنَا عَسْكَرَ الْقَوْمِ فَرَأَيْنَا(1/417)
جُمْهُورَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَلَمْ نَرَ فِي عَسْكَرِهِمْ مُؤَذِّنًا وَلَا إمَامًا وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ وَخَرَّبُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي دَوْلَتِهِمْ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . إمَّا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ لَا يَعْتَقِدُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ وَإِمَّا مَنْ هُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ والجهمية والاتحادية وَنَحْوِهِمْ وَأَمَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَأَفْسَقِهِمْ . وَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ لَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي وَيَصُومُ فَلَيْسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ إقَامَ الصَّلَاةِ وَلَا إيتَاءَ الزَّكَاةِ . وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى مُلْكِ جنكسخان . فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ جَعَلُوهُ وَلِيًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ جَعَلُوهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يُقَاتِلُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَضَعُونَ الْجِزْيَةَ وَالصَّغَارَ . بَلْ غَايَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِمْ وَوُزَرَائِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ كَمَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا قَالَ أَكْبَرُ مُقَدِّمِيهِمْ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى الشَّامِ وَهُوَ يُخَاطِبُ رُسُلَ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . فَقَالَ هَذَانِ آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ وجنكسخان . فَهَذَا غَايَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ أَكْبَرُ مُقَدِّمِيهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ(1/418)
عَلَيْهِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَبَيْنَ مَلِكٍ كَافِرٍ مُشْرِكٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمُشْرِكِينَ كُفْرًا وَفَسَادًا وَعُدْوَانًا مِنْ جِنْسِ بُخْتِ نَصَّرَ وَأَمْثَالِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ اعْتِقَادَ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ كَانَ فِي جنكسخان عَظِيمًا فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْتَقِدُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَيَقُولُونَ إنَّ الشَّمْسَ حَبَّلَتْ أُمَّهُ وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي خَيْمَةٍ فَنَزَلَتْ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةِ الْخَيْمَةِ فَدَخَلَتْ فِيهَا حَتَّى حَبِلَتْ . وَمَعْلُومٌ عِنْد كُلِّ ذِي دِينٍ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا وَأَنَّ أَمَّهُ زَنَتْ فَكَتَمَتْ زِنَاهَا وَادَّعَتْ هَذَا حَتَّى تَدْفَعَ عَنْهَا مَعَرَّةَ الزِّنَا وَهُمْ مَعَ هَذَا يَجْعَلُونَهُ أَعْظَمَ رَسُولٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي تَعْظِيمِ مَا سَنَّهُ لَهُمْ وَشَرَعَهُ بِظَنِّهِ وَهَوَاهُ حَتَّى يَقُولُوا لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَالِ . هَذَا رِزْقُ جنكسخان وَيَشْكُرُونَهُ عَلَى أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ مَنْ عَادَى مَا سَنَّهُ لَهُمْ هَذَا الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ الْمُعَادِي لِلَّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُقَدِّمِيهِمْ كَانَ غَايَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَجْعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْمَلْعُونِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ كَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُ مُحَمَّدٍ فِي الرِّسَالَةِ وَبِهَذَا اسْتَحَلَّ الصَّحَابَةُ قِتَالَهُ وَقِتَالَ أَصْحَابِهِ الْمُرْتَدِّينَ . فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ فِيمَا يُظْهِرُهُ مِنْ(1/419)
الْإِسْلَامِ يَجْعَلُ مُحَمَّدًا كجنكسخان وَإِلَّا فَهُمْ مَعَ إظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ جنكسخان عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُقَاتِلُونَ أُولَئِكَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا سَنَّهُ جنكسخان كَمَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْظَمُ . أُولَئِكَ الْكُفَّارِ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ وَيَحْمِلُونَ إلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَيُقِرُّونَ لَهُ بِالنِّيَابَةِ وَلَا يُخَالِفُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ إلَّا كَمَا يُخَالِفُ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِلْإِمَامِ . وَهُمْ يُحَارِبُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَادُونَهُمْ أَعْظَمَ مُعَادَاةٍ وَيَطْلُبُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الطَّاعَةَ لَهُمْ وَبَذْلَ الْأَمْوَالِ وَالدُّخُولَ فِيمَا وَضَعَهُ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ الْمُشْرِكُ الْمُشَابِهُ لِفِرْعَوْنَ أَوْ النمروذ وَنَحْوِهِمَا ؛ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ مِنْهُمَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) [القصص/4، 5] } .(1/420)
وَهَذَا الْكَافِرُ عَلَا فِي الْأَرْضِ : يَسْتَضْعِفُ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ وَسَبِّي الْحَرِيمِ وَبِأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَبَهْلِك الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وَيَرُدُّ النَّاسَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إلَى أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرِيعَتِهِ الكفرية . فَهُمْ يَدَّعُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيُعَظِّمُونَ دِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحُكْمُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَ أَكَابِرِهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ مِنْ وُزَرَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا طُرُقٌ إلَى اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْيَهُودِ أَوْ دِينَ النَّصَارَى وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ فَاشٍ غَالِبٌ فِيهِمْ حَتَّى فِي فُقَهَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ لَا سِيَّمَا الجهمية مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الْفَلْسَفَةُ . وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ النَّصَارَى أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ أَيْضًا ؛ بَلْ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ غَالِبَ خَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ وَالْعِبَادِ(1/421)
عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لِمَا أَبْعَدَ . وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ وَسَمِعْت مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ سَوَّغَ اتِّبَاعَ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ اتِّبَاعَ شَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ كَكُفْرِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) [النساء/150، 151] } . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضِ . وَمَنْ تَفَلْسَفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَبْقَى كُفْرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ وُزَرَائِهِمْ الَّذِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ رَأْيِهِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ فَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا مُتَفَلْسِفًا ثُمَّ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالتَّفَلْسُفِ وَضَمَّ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ . فَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَفْلَامِ وَذَاكَ أَعْظَمُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي السَّيْفِ . فَلْيَعْتَبِرْ الْمُؤْمِنُ بِهَذَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا مِنْ نِفَاقٍ وَزَنْدَقَةٍ وَإِلْحَادٍ إلَّا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي اتِّبَاعِ التَّتَارِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَقَلِّهِمْ(1/422)
مَعْرِفَةً بِالدِّينِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ اتِّبَاعِهِ وَأَعْظَمِ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَقَدْ قَسَّمُوا النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : يال وَبَاعَ وداشمند وطاط - أَيْ صَدِيقُهُمْ وَعَدُوُّهُمْ وَالْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ - فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ الْجَاهِلِيَّةِ وَسُنَّتِهِمْ الكفرية كَانَ صَدِيقَهُمْ . وَمَنْ خَالَفَهُمْ كَانَ عَدُوَّهُمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ . وَكُلُّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ سَمَّوْهُ " داشمند " كَالْفَقِيهِ وَالزَّاهِدِ وَالْقِسِّيسِ وَالرَّاهِبِ وَدَنَّانِ الْيَهُودِ وَالْمُنَجِّمِ وَالسَّاحِرِ وَالطَّبِيبِ وَالْكَاتِبِ وَالْحَاسِبِ فَيُدْرِجُونَ سَادِنَ الْأَصْنَامِ . فَيُدْرِجُونَ فِي هَذَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَيَجْعَلُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ نَوْعًا وَاحِدًا . بَلْ يَجْعَلُونَ الْقَرَامِطَةَ الْمَلَاحِدَةَ الْبَاطِنِيَّةَ الزَّنَادِقَةَ الْمُنَافِقِينَ كالطوسي وَأَمْثَالِهِ هُمْ الْحُكَّامُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَكَذَلِكَ وَزِيرُهُمْ السَّفِيهُ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ يَحْكُمُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَيُقَدِّمُ شِرَارَ الْمُسْلِمِينَ كَالرَّافِضَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ عَلَى خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ حَتَّى تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالرَّافِضَةِ عَلَى مَا(1/423)
يُرِيدُونَهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ . وَيَتَظَاهَرُ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِأَجْلِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . حَتَّى أَنَّ وَزِيرَهُمْ هَذَا الْخَبِيثَ الْمُلْحِدَ الْمُنَافِقَ صِنْفٌ مُصَنَّفًا ؛ مَضْمُونُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُذَمُّونَ وَلَا يُنْهَوْنَ عَنْ دِينِهِمْ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَاسْتَدَلَّ الْخَبِيثُ الْجَاهِلُ بِقَوْلِهِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) سورة الكافرون} وَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَرْضَى دِينَهُمْ قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ مَحْكَمَةٌ ؛ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً . وَجَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أُمُورٌ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْهُ . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ دِينُ الْكُفَّارِ حَقًّا وَلَا مَرْضِيًّا لَهُ ؛ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَبَرُّئِهِ مِنْ دِينِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { إنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ }317 كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) [يونس/41، 42] } فَقَوْلُهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } كَقَوْلِهِ : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } وَقَدْ(1/424)
اتَّبَعَ ذَلِكَ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ حَيْثُ قَالَ : { أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ دِينِهِمْ فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ .
وَقَدْ أَظْهَرُوا الرَّفْضَ وَمَنَعُوا أَنْ نَذْكُرَ عَلَى الْمَنَابِرِ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَذَكَرُوا عَلِيًّا وَأَظْهَرُوا الدَّعْوَةَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ ؛ الَّذِينَ تَزْعُمُ الرَّافِضَةُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَعْصُومُونَ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كُفَّارٌ وَفُجَّارٌ ظَالِمُونَ ؛ لَا خِلَافَةَ لَهُمْ وَلَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ . وَمَذْهَبُ الرَّافِضَةِ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ غَايَتُهُمْ تَكْفِيرُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَشِيعَتِهِمَا .
وَالرَّافِضَةُ تَكْفِيرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَجُمْهُورِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَجْحَدُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِمَّا جَحَدَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغُلُوِّ وَالْإِلْحَادِ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ وَفِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ .
وَالرَّافِضَةِ تُحِبُّ التَّتَارَ وَدَوْلَتَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ الْعِزِّ مَا لَا يَحْصُلُ بِدَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ .(1/425)
وَالرَّافِضَةُ هُمْ مُعَاوِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دُخُولِ التَّتَارِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ إلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً لَهُمْ عَلَى أَخْذِهِمْ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ حَرِيمِهِمْ . وَقَضِيَّةُ ابْنِ العلقمي وَأَمْثَالِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَقَضِيَّتِهِمْ فِي حَلَبَ مَعَ صَاحِبِ حَلَبَ : مَشْهُورَةٌ يَعْرِفُهَا عُمُومُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ النَّصَارَى بِسَوَاحِلِ الشَّامِ : قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَكُونُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ عَاوَنُوهُمْ عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ وَعَزَّ عَلَى الرَّافِضَةِ فَتْحُ عُكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّوَاحِلِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ ذَلِكَ غُصَّةً عِنْد الرَّافِضَةِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ عِيدًا وَمَسَرَّةً عِنْدَ الرَّافِضَةِ . وَدَخَلَ فِي الرَّافِضَةِ أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ مِنْ " النصيرية " وَ " الإسْماعيليَّة " وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ " الْقَرَامِطَةِ " وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالرَّافِضَةُ جهمية قَدَرِيَّةٌ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبِدَعِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى(1/426)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ . وَمِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ قَوْلُهُ فِيهِمْ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ }318 كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : { بَعَثَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ - يَعْنِي مِنْ أُمَرَاءِ نَجْدٍ - فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ . قَالُوا : يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا . قَالَ : إنَّمَا أَتَأَلَّفَهُمْ . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ . فَقَالَ : مَنْ يُطِعْ اللَّهَ إذَا عَصَيْته أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي ؟ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ . فَلَمَّا وَلَّى قَالَ : إنَّ مِنْ ضئضئ هَذَا - أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا - قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ { : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْسِمُ قَسَمًا - أَتَاهُ ذُو الخويصرة - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ . فَقَالَ : وَيْلك فَمَنْ(1/427)
يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلُ قَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ . يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ إلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نَضْيِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ . آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ . يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَأَشْهَدْ أَنِّي سَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ . فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتَمَسَ فَأَتَى بِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ319 .(1/428)
فَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ مِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ وَذَكَرَ : أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ وَالْخَوَارِجُ مَعَ هَذَا لَمْ يَكُونُوا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّافِضَةِ يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فَكَانُوا أَعْظَمَ مُرُوقًا عَنْ الدِّينِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ .(1/429)
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَنَحْوِهِمْ إذَا فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَيْفَ إذَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ - كنائسا - وجنكسخان مَلِكِ الْمُشْرِكِينَ : مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَادَّةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَكُلُّ مَنْ قَفَزَ إلَيْهِمْ مِنْ أُمَرَاءِ الْعَسْكَرِ وَغَيْرُ الْأُمَرَاءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ وَفِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا ارْتَدَّ عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ قَدْ سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ مُرْتَدِّينَ - مَعَ كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ . وَيُصَلُّونَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ - فَكَيْفَ بِمَنْ صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُعَادُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِ شَرَائِعِهِ . أَمَّا الطَّائِفَةُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَنَحْوِهِمَا فَهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ دُخُولًا فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ }320 وَفِي(1/430)
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ }321 وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِمَدِينَتِهِ النَّبَوِيَّةِ فَغَرْبُهُ مَا يَغْرُبُ عَنْهَا وَشَرْقُهُ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا ؛ فَإِنَّ التَّشْرِيقَ وَالتَّغْرِيبَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ ؛ إذْ كَلُّ بَلَدٍ لَهُ شَرْقٌ وَغَرْبٌ ؛ وَلِهَذَا إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ إلَى الإسْكَنْدَريَّة مِنْ الْغَرْبِ يَقُولُونَ : سَافَرَ إلَى الشَّرْقِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ : أَهْلَ الْغَرْبِ وَيُسَمُّونَ أَهْلَ نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ : أَهْلَ الشَّرْقِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ - وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : " أَهْلُ الْغَرْبِ " هُمْ أَهْلُ الشَّامِ - يَعْنِي هُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ - كَمَا أَنَّ نَجْدًا وَالْعِرَاقَ أَوَّلُ الشَّرْقِ وَكُلُّ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا فَهُوَ مِنْ الشَّرْقِ وَكُلُّ مَا يَغْرُبُ عَنْ الشَّامِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغَرْبِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ : فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ : وَهُمْ بِالشَّامِ 322. فَإِنَّهَا أَصْلُ الْمَغْرِبِ وَهُمْ فَتَحُوا سَائِرَ الْمَغْرِبِ كَمِصْرِ وَالْقَيْرَوَانَ وَالْأَنْدَلُسَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ غَرْبُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَالْبِيرَةُ وَنَحْوُهَا عَلَى مُسَامَتَةِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَنَّ حَرَّانَ وَالرَّقَّةَ وسميساط وَنَحْوَهَا عَلَى مُسَامَتَةِ مَكَّةَ فَمَا يَغْرُبُ عَنْ الْبِيرَةِ فَهُوَ مِنْ الْغَرْبِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا(1/431)
تَقَدَّمَ . وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي صِفَةِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ { أَنَّهُمْ بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ }323 وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ الْيَوْمَ . وَمَنْ يَتَدَبَّرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هِيَ أَقْوَمُ الطَّوَائِفِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ : عِلْمًا وَعَمَلًا وَجِهَادًا عَنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمُغَازِيهِمْ مَعَ النَّصَارَى وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَمَعَ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الدَّاخِلِينَ فِي الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ كالإسْماعيليَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ مَعْرُوفَةٌ : مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَالْعِزُّ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا هُوَ بِعِزِّهِمْ وَلِهَذَا لَمَّا هَزَمُوا سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الذُّلِّ وَالْمُصِيبَةِ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَالْحِكَايَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَذَلِكَ أَنَّ سُكَّانَ الْيَمَنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ضِعَافٌ عَاجِزُونَ عَنْ الْجِهَادِ أَوْ مُضَيِّعُونَ لَهُ ؛ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِمَنْ مَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِهَؤُلَاءِ وَمَلِكُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا جَاءَ إلَى حَلَبَ جَرَى بِهَا مِنْ الْقَتْلِ مَا جَرَى . وَأَمَّا سُكَّانُ الْحِجَازِ فَأَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ(1/432)
وَالضَّلَالِ وَالْفُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفُونَ عَاجِزُونَ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْقُوَّةُ وَالْعِزَّةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِلَادِ فَلَوْ ذَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - لَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحِجَازِ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ غَلَبَ فِيهِمْ الرَّفْضُ وَمُلْكُ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْآنَ مَرْفُوضٌ فَلَوْ غَلَبُوا لَفَسَدَ الْحِجَازُ بِالْكُلِّيَّةِ . وَأَمَّا بِلَادُ إفْرِيقِيَّةَ فَأَعْرَابُهَا غَالِبُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ ؛ بَلْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ الْأَقْصَى فَمَعَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ لَا يَقُومُونَ بِجِهَادِ النَّصَارَى هُنَاكَ ؛ بَلْ فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الصُّلْبَانَ خَلْقٌ عَظِيمٌ . لَوْ اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مَعَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ لَا سِيَّمَا وَالنَّصَارَى تَدْخُلُ مَعَ التَّتَارِ فَيَصِيرُونَ حِزْبًا عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ . فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ الَّتِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُمْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَعِزُّهُمْ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَذُلُّهُمْ ذُلُّ الْإِسْلَامِ324 . فَلَوْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ التَّتَارُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِسْلَامِ عِزٌّ وَلَا كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ وَلَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَالِيَةٌ يَخَافُهَا أَهْلُ الْأَرْضِ تُقَاتِلُ مِنْهُ . فَمَنْ قَفَزَ عَنْهُمْ إلَى التَّتَارِ كَانَ أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْ(1/433)
كَثِيرٍ مِنْ التَّتَارِ ؛ فَإِنَّ التَّتَارَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ .
وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . مِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ وَلَا يُنَاكِحُ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ بِأَصْلِ الدِّينِ فَالرِّدَّةُ عَنْ شَرَائِعِهِ أَعْظَمُ مِنْ خُرُوجِ الْخَارِجِ الْأَصْلِيِّ عَنْ شَرَائِعِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ التَّتَارِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ مِنْ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ وَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِهِمْ لِكَثِيرِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمَ الْأَصْلِ هُوَ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا(1/434)
كُفَّارًا ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ إذَا ارْتَدَّ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ كَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ مِثْلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ . وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ مُتَفَقِّهًا أَوْ مُتَصَوِّفًا أَوْ تَاجِرًا أَوْ كَاتِبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ . وَلِهَذَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَلَى الدِّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ وَيَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِنْ انْقِيَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِ الدِّينِ وَنَافَقُوا فِي بَعْضِهِ وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالِانْتِسَابِ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُلْحِدًا : نصيريا أَوْ إسْمَاعِيلِيًّا أَوْ رافضيا . وَخِيَارُهُمْ يَكُونُ جهميا اتِّحَادِيًّا أَوْ نَحْوَهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْضَمُّ إلَيْهِمْ طَوْعًا مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ زِنْدِيقٌ أَوْ فَاسِقٌ فَاجِرٌ . وَمَنْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ عَلَى نِيَّتِهِ . وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ إذْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ حَدَّثَتْنِى عَائِشَةُ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ " . قَالَتْ قُلْتُ يَا(1/435)
رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ . قَالَ " يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ "325. وَالْحَدِيثُ مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَخْرَجَهُ أَرْبَابُ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ قَالَ دَخَلَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ وَأَنَا مَعَهُمَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلاَهَا عَنِ الْجَيْشِ الَّذِى يُخْسَفُ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِى أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ ". فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا قَالَ " يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ هِىَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ.326 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ عَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى مَنَامِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئًا فِى مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. فَقَالَ " الْعَجَبُ إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِى يَؤُمُّونَ بِالْبَيْتِ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ ". فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ. قَالَ " نَعَمْ فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ(1/436)
وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ".327 وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ حَدَّثَتْنِى عَائِشَةُ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ " . قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ . قَالَ " يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ "328 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ - يَعْنِى الْكَعْبَةَ - قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلاَ عَدَدٌ وَلاَ عُدَّةٌ يُبْعَثُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ ". قَالَ يُوسُفُ وَأَهْلُ الشَّأْمِ يَوْمَئِذٍ يَسِيرُونَ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهَذَا الْجَيْشِ. 329.(1/437)
فَاَللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ الْجَيْشَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْتَهِكَ حُرُمَاتِهِ - الْمُكْرَهُ فِيهِمْ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ مَعَ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بَلْ لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ كَمَا رُوِيَ : { أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت مُكْرَهًا . فَقَالَ : أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ }330 . بَلْ لَوْ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُمْ إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُمْ وَنَقْصِدَ الْكُفَّارَ . وَلَوْ لَمْ نَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَازَ رَمْيُ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ قُتِلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - هُوَ فِي الْبَاطِنِ مَظْلُومٌ - كَانَ شَهِيدًا وَبُعِثَ عَلَى نِيَّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ . وَإِذَا كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا وَإِنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا شَاءَ اللَّهُ . فَقَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ فِي صَفِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ(1/438)
لِحَاجَةِ الْجِهَادِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ؛ بَلْ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكْرَهَ فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ بِكَسْرِ سَيْفِهِ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ؛ وَإِنْ قُتِلَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن عُثْمَانَ الشَّحَّامِ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَرْقَدٌ السَّبَخِىُّ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ وَهُوَ فِى أَرْضِهِ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ فِى الْفِتَنِ حَدِيثًا قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يُحَدِّثُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلاَ ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِى فِيهَا وَالْمَاشِى فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِى إِلَيْهَا أَلاَ فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ ". قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلاَ غَنَمٌ وَلاَ أَرْضٌ قَالَ " يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لْيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ". قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِى إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَضَرَبَنِى رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِىءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِى قَالَ " يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ "331..(1/439)
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ ؛ بَلْ أَمَرَ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِتَالُ مِنْ الِاعْتِزَالِ أَوْ إفْسَادِ السِّلَاحِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُهُ . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا قُتِلَ ظُلْمًا كَانَ الْقَاتِلُ قَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمَ الْمَقْتُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ عَنْ الْمَظْلُومِ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) [المائدة/27-30] } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَالَ صَائِلٌ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْقِتَالِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : ( إحْدَاهُمَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ .(1/440)
وَ ( الثَّانِيَةُ يَجُوزُ لَا الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ . وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ بِلَا رَيْبٍ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ إفْسَادُ سِلَاحِهِ وَأَنْ يَصْبِرْ حَتَّى يُقْتَلَ مَظْلُومًا فَكَيْفَ بِالْمُكْرَهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَنَحْوِهِمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحُضُورِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى حُضُورِ صَفِّهِمْ لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ وَكَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ . فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ فَيَقْتُلُهُ لِئَلَّا يُقْتَلَ هُوَ ؛ بَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي الْآخَرِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ فَقَطْ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ . وَقِيلَ : الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زُفَرَ . وَأَبُو يُوسُفَ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالدِّيَةِ بَدَلَ الْقَوَدِ وَلَمْ يُوجِبْهُ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ332 عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَفِيهَا : { أَنَّ(1/441)
الْغُلَامَ أُمِرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ ظُهُورِ الدِّينِ } ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبِعَةُ أَنْ يَنْغَمِسَ الْمُسْلِمُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ ؛ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ333 . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ : كَانَ مَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ وَدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى . وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّ الصَّائِلَ الْمُسْلِمَ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ صَوْلُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ قِيرَاطًا مِنْ دِينَارٍ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ "334، فَكَيْفَ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ صُوَلُهُمْ وَبَغْيُهُمْ أَقَلُّ مَا فِيهِمْ . فَإِنَّ قِتَالَ الْمُعْتَدِينَ الصَّائِلِينَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ صَائِلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحَرَمِهِمْ وَدِينِهِمْ . وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ يُبِيحُ(1/442)
قِتَالَ الصَّائِلِ عَلَيْهَا . وَمَنْ قُتِلَ دُونَهَا فَهُوَ شَهِيدٌ فَكَيْفَ بِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا كُلِّهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ الظَّالِمِينَ . لَكِنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً قَبِيحًا وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ؛ فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ خَرَجُوا بِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسِلُهُمْ فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا . فَأَيُّ شُبْهَةٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَقْوَمُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ ؛ بَلْ هُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْإِسْلَامَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَعْلَمُ بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ وَأَتْبَعُ لَهُ مِنْهُمْ . وَكُلُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُنْذِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شُبْهَةٌ بَيِّنَةٌ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَهَمَ قَدْ سَبُّوا غَالِبَ حَرِيمِ الرَّعِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى أَنَّ النَّاسَ قَدْ رَأَوْهُمْ يُعَظِّمُونَ الْبُقْعَةَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَيُعَظِّمُونَ الرَّجُلَ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَسْلُبُونَهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ وَيَسُبُّونَ حَرِيمَهُ وَيُعَاقِبُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَا يُعَاقَبُ بِهَا إلَّا أَظْلَمُ النَّاسِ(1/443)
وَأَفْجَرُهُمْ وَالْمُتَأَوِّلُ تَأْوِيلًا دِينِيًّا لَا يُعَاقَبُ إلَّا مَنْ يَرَاهُ عَاصِيًا لِلدِّينِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مَنْ يُعَاقِبُونَهُ فِي الدِّينِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْهُمْ . فَأَيُّ تَأْوِيلٍ بَقِيَ لَهُمْ ثُمَّ لَوْ قَدَرَ أَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُهُمْ سَائِغًا ؛ بَلْ تَأْوِيلُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ أَوْجَهُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ . أَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ وَإِنَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ . وَأَمَّا مَانَعُوا الزَّكَاةِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) [التوبة/103] } وَهَذَا خِطَابٌ لِنَبِيِّهِ فَقَطْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَدْفَعَهَا لِغَيْرِهِ . فَلَمْ يَكُونُوا يَدْفَعُونَهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا يُخْرِجُونَهَا لَهُ . وَالْخَوَارِجُ لَهُمْ عِلْمٌ وَعِبَادَةٌ وَلِلْعُلَمَاءِ مَعَهُمْ مُنَاظَرَاتٌ كَمُنَاظَرَتِهِمْ مَعَ الرَّافِضَةِ والجهمية . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يُنَاظَرُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ . وَقَدْ خَاطَبَنِي بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : مَلِكُنَا مَلِكٌ ابْنُ مَلِكٍ ابْنُ مَلِكٍ إلَى سَبْعَةِ أَجْدَادٍ وَمَلِكِكُمْ ابْنُ مَوْلًى . فَقُلْت لَهُ : آبَاءُ ذَلِكَ الْمَلِكِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ وَلَا فَخْرَ بِالْكَافِرِ ؛ بَلْ الْمَمْلُوكُ الْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَلِكِ الْكَافِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ(1/444)
حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) [البقرة/221] } . فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا حُجَجُهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مُسَلِّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُسْلِمَ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا وَلَا يُطِيعَ الْكَافِرَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَت َمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "335. إنَّمَا يُفَضَّلُ الْإِنْسَانُ بِإِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ؛ لَا بِآبَائِهِ ؛ وَلَوْ كَانُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) [الحجرات/13، 14] } وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِى نَضْرَةَ حَدَّثَنِى مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ " يَا(1/445)
أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِىٍّ عَلَى أَعْجَمِىٍّ وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلَى عَرَبِىٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ "336. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ " أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِى - يَعْنِى فُلاَنًا - لَيْسُوا لِى بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّىَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ "337. فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُوَالَاتَهُ لَيْسَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ ؛ بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي قَرَابَةِ الرَّسُولِ فَكَيْفَ بِقُرَابَةِ جنكسخان الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَسْوَدَ حَبَشِيًّا وَالثَّانِي عَلَوِيًّا أَوْ عَبَّاسِيًّا .
84- هل يصح الزواج من الرافضية ؟
ج- الرَّافِضَةُ الْمَحْضَةُ هُمْ أَهْلُ أَهْوَاءٍ وَبِدَعٍ وَضَلَالٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ رافضي وَإِنْ تَزَوَّجَ هُوَ رافضية صَحَّ النِّكَاحُ إنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ تَتُوبَ وَإِلَّا فَتَرْكُ نِكَاحِهَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تُفْسِدَ عَلَيْهِ وَلَدَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
85- رأي أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي " قِتَالِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَمَنْ حَارَبَهُ
ج- عَلَى أَقْوَالٍ :
أَمَّا " الْخَوَارِجُ " فَتُكَفِّرُ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن جَمِيعًا .(1/446)
وَأَمَّا " الرَّافِضَةُ " فَتُكَفِّرُ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا ؛ مَعَ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنَعَ مِنْ تَكْفِيرِهِمْ . وَلَهُمْ فِي قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛ وَعَائِشَةَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " تَفْسِيقُ [ إحْدَى ] الطَّائِفَتَيْنِ ؛ لَا بِعَيْنِهَا . وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ . و " الثَّانِي " تَفْسِيقُ مَنْ قَاتَلَهُ إلَّا مَنْ تَابَ وَيَقُولُونَ : إنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ تَابُوا وَهَذَا مُقْتَضَى مَا حُكِيَ عَنْ جُمْهُورِهِمْ ؛ كَأَبِي الهذيل وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ . وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى تَخْطِئَتِهِ فِي قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛ دُونَ قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ .
فَفِي الْجُمْلَةِ " أَهْلُ الْبِدَعِ " : مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ؛ وَنَحْوِهِمْ : يَجْعَلُونَ الْقِتَالَ مُوجِبًا لِكُفْرِ أَوْ لِفِسْقِ .(1/447)
وَأَمَّا " أَهْلُ السُّنَّةِ " فَمُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَالَةِ الْقَوْمِ ؛ ثُمَّ لَهُمْ فِي التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ مَذَاهِبُ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْمُصِيبَ عَلِيٌّ فَقَطْ . و " الثَّانِي " الْجَمِيعُ مُصِيبُونَ . و " الثَّالِثُ " الْمُصِيبُ وَاحِدٌ ؛ لَا بِعَيْنِهِ . و " الرَّابِعُ " الْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مُطْلَقًا ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه وَأَصْحَابَهُ هُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي حَدِيث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ "338. وَهَذَا فِي حَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَرْبَ الْجَمَلِ فِتْنَةٌ وَأَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ فِيهَا أَوْلَى فَعَلَى هَذَا نُصُوصُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَذَلِكَ الشِّجَارُ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْأَيْدِي أَصْلٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ الْأُمَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَلْيَعْتَبِرْ الْعَاقِلُ بِذَلِكَ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ .
86- الفرق بين البغاة والخوارج(1/448)
ج- الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ الْأَئِمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الِاسْمِ . فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ وَمُدَّعِيهَا مُجَازِفٌ فَإِنَّ نَفْيَ الْفَرْقِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ " فَإِنَّهُمْ قَدْ يَجْعَلُونَ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ وَقِتَالَهُ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وصفين إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ . مِنْ بَابِ " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ " ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِ وَلَا فِسْقٍ ؛ بَلْ مُجْتَهِدُونَ : إمَّا مُصِيبُونَ وَإِمَّا مُخْطِئُونَ . وَذُنُوبُهُمْ مَغْفُورَةٌ لَهُمْ . وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبُغَاةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا فَإِذَا جُعِلَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ سَوَاءً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْخَوَارِجُ وَسَائِرُ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْبَاقِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ [ سَوَاءً ] ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ بِفِسْقِ الْبُغَاةِ وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ .(1/449)
وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ " الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ " وَبَيْنَ " أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين " وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين . مِمَّنْ يُعَدُّ مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ والمتكلمين وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ }339 وَهَذَا الْحَدِيث يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمَارِقِينَ نَوْعٌ ثَالِثٌ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ ؛ فَإِنَّ طَائِفَةَ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ طَائِفَةِ مُعَاوِيَةَ . وَقَالَ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ : " يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِىَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صلى الله عليه وسلم- لاَتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ".340(1/450)
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَحَادِيثَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ وَرَوَى هَذَا الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ ؛ وَهِيَ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ أَجْمَعَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجِ .(1/451)
وَأَمَّا " أَهْلُ الْجَمَلِ وصفين " فَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَأَكْثَرُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَلَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَاسْتَدَلَّ التَّارِكُونَ لِلْقِتَالِ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا قِتَالُ فِتْنَةٍ . وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ ؛ وَأَمَّا قِتَالُ " صَفِّينَ " فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ }341 فَقَدْ مَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِصْلَاحِ اللَّهِ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ : أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْقِتَالُ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا . " وَقِتَالُ الْخَوَارِجِ " قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُسَوِّي بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا مَدَحَ تَارِكَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا بِالْجَمَلِ وصفين وَبَيْنَ قِتَالِ ذِي الخويصرة التَّمِيمِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ والحرورية الْمُعْتَدِينَ :(1/452)
كَانَ قَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الْمُبِينِ . وَلَزِمَ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ جِنْسِ الرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَوْ يُفَسِّقُونَ الْمُتَقَاتِلَيْنِ بِالْجَمَلِ وصفين كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي كُفْرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُقْتَتِلِينَ بِالْجَمَلِ وصفين وَالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ . فَكَيْفَ نِسْبَةُ هَذَا بِهَذَا وَأَيْضًا { فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوا } .(1/453)
وَأَمَّا " أَهْلُ الْبَغْيِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) [الحجرات/9، 10] }، فَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ ابْتِدَاءً . فَالِاقْتِتَالُ ابْتِدَاءً لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ ؛ وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلُوا أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ ؛ ثُمَّ إنْ بَغَتْ الْوَاحِدَةُ قُوتِلَتْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْبُغَاةَ لَا يُبْتَدَءُونَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُقَاتِلُوا . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ : " فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ فِى قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "342 وَقَالَ : " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ "343 .(1/454)
وَكَذَلِكَ مَانِعُو الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ وَالصَّحَابَةَ ابْتَدَءُوا قِتَالَهُمْ قَالَ الصِّدِّيقُ : وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ . وَهُمْ يُقَاتَلُونَ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ . ثُمَّ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي كُفْرِ مَنْ مَنَعَهُمَا وَقَاتَلَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد كَالرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُجَرِّدِ فَلَا يَكْفُرُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَصَّ عَلَى إيمَانِهِمْ وَإِخْوَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
انتهى
المراجع
1. القرآن الكريم بالرسم العادي
2. تفسير الطبري الشاملة 2
3. تفسير ابن كثير الشاملة 2
4. تفسير البغوي الشاملة 2
5. تفسير الدر المنثور للسيوطي الشاملة 2
6. في ظلال القرآن للسيد قطب رحمه الله الشاملة 2
7. تفسير السعدي الشاملة 2
8. معالم في الطريق له الشاملة 2
9. واقعنا المعاصر محمد قطب الشاملة 2
10. صحيح البخاري ترقيم فتح الباري
11. صحيح مسلم فؤاد عبد الباقي
12. سنن أبي داود ط المكنز
13. سنن الترمذي ط المكنز
14. سنن النسائي الصغرى ط المكنز
15. سنن النسائي الكبرى ط مؤسسة الرسالة
16. سنن ابن ماجة القزويني ط المكنز
17. موطأ الإمام مالك ط المكنز
18. مسند أحمد بن حنبل ط المكنز
19. المستدرك للحاكم الشاملة 2
20. صحيح ابن حبان الشاملة 2
21. مستخرج أبي عوانة الشاملة 2
22. سنن سعيد بن منصور الشاملة 2
23. سنن البيهقي الكبرى ط المكنز
24. سلسلة الأحاديث الصحيحة الألباني دار المعارف(1/455)
25. مصنف عبد الرزاق المكتب الإسلامي
26. مصنف ابن أبي شيبة
27. الاعتقاد للبيهقي الشاملة 2
28. السنة لعبد الله الشاملة 2
29. فضائل الصحابة لعبد الله الشاملة 2
30. الكفاية في علوم الرواية للخطيب الشاملة 2
31. البداية والنهاية لابن كثير العلمية
32. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي الشاملة 2
33. مقالات الإسلاميين للأشعري الشاملة 2
34. شرح الطحاوية في العقيدة السلفية الشاملة 2
35. ميزان الاعتدال للذهبي دار المعرفة - الشاملة 2
36. لسان الميزان الحافظ ابن حجر الشاملة 2
37. عقائد الشيعة في ميزان الشريعة
38. صحيح ابن خزيمة الشاملة 2
39. مسند الحميدي ط المكنز
40. سنن الدارمي ط المكنز
41. معجم الطبراني الكبير الشاملة 2
42. المعجم الأوسط للطبراني الشاملة 2
43. مسند البزار الشاملة 2
44. مشكل الآثار للطحاوي الشاملة 2
45. المختارة للضياء المقدسي الشاملة 2
46. الإبانة الكبرى لابن بطة الشاملة 2
47. السنة لابن أبي عاصم الشاملة 2
48. مسند أبي يعلى الموصلي الشاملة 2
49. موسوعة عاشوراء
50. طبقات ابن سعد الشاملة 2
51. تاريخ دمشق لابن عساكر الشاملة 2
52. كتاب السياط اللاذعات في كشف كذب وتدليس صاحب المراجعات
53. كتاب التوحيد لابن خزيمة الشاملة 2
54. منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية الشاملة 2
55. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الشاملة 2
56. العواصم من القواصم لابن العربي الشاملة 2
57. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر/مؤسسة الأعلمي بيروت
58. نظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني الشاملة 2
59. تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر الشاملة 2
60. الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة
61. إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الشاملة 2
62. مواقع نت كثيرة جدا كالبرهان وموقع فيصل نور
63. مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع(1/456)
64. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
65. تاريخ الطبري الشاملة 2
66. الموسوعة الفقهية الكويت
67. أخبار مكة للفاكهي الشاملة 2
68. الفصول في الأصول للجصاص الشاملة 2
69. شرح السير الكبير للسرخسي الشاملة 2
70. موسوعة الرد على الرافضة
الفهرس العام
أولا- تقديم…2
ثانيا- طريقة عملي في هذا الكتاب…5
ثانيا- المقدمات…7
خيانة الرافضة لأهل السنة…7
رِسَالَةٌ أَرْسَلَهَا إِلَى المَلِكِ النَّاصِرِ .…8
أثر الشيعة في العالم الإسلامي…16
المجال العقدي والفكري…18
الصد عن دين الله:…18
ظهور فرق الزندقة والإلحاد:…21
محاولة إضلال المسلمين في سنة نبيهم:…22
دخولهم في مذهب أهل السنة - في الظاهر - للإضلال:…23
نشر الرفض في العالم الإسلامي:…26
ظهور اتجاه رافضي عند بعض الكتاب المنتسبين للسنة:…31
تشويه تاريخ المسلمين:…33
أثرهم في الأدب العربي:…35
أثرهم في المجال السياسي…36
مؤامرة ابن العلقمي الرافضي:…41
أثرهم في الفتن الداخلية:…47
أثرهم في نشر الإباحية:…48
عقيدة الرافضة في أهل السنة أو كما يسمونهم ( النواصب ) !…52
نجاسة أهل السُّنّة عند الرافضة:…53
حكم من لا يقول بإمامة الاثني عشر عند الشيعة:…54
جواز اغتياب المخالفين:…56
عقيدة الطينة عند الشيعة الرافضة…58
هل يجوز التعبد بمذهب الاثنى عشرية ؟…63
الخلاصة في بيان رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالرافضة…66
1- قوله في الرافضة ؟…66
2- هل هم متعاونون مع اليهود والنصارى ؟…66
3- يدعي البعض أنّ قلوبهم طيبة هل صحيح هذا ؟…66
4- متى أطلق عليهم لقب الرافضة ، ولماذا ، ومن أطلقه ؟…67
5- ممن يتبرأ الرافضة ؟…67
6- لماذا يكثر فيهم الكذب والجهل ؟…68
7- بماذا امتاز الروافض ؟…68
8- هل صحيح أنهم يقدسون الكذب والخداع وماذا يسمونه ؟…70
9- ما هو موقف الرافضة من ولاة أمور المسلمين ؟…70
10- كيف ينظر إلى أعمالهم ؟…70(1/457)
11- إلى أي حدٍ بلغ الغلو عندهم فيمن زعموا أنهم أئمة لهم ؟…71
12- هل الروافض من عبّاد القبور ؟…76
13- هل من أصولهم الكذب والنفاق ؟…79
14- في أي أصناف الناس يوجد الرافضة ؟…82
15- هل عند الرافضة زهد وجهاد إسلامي صحيح ؟…84
16- هل هم من الضالين ؟…89
17- ما موقفهم من المنكرات ؟…90
18- ما موقفهم من الكفار ؟…90
19- ماذا أدخلوا في دين الله ؟…91
20- دعوى الرافضة متابعتهم لإجماع أهل البيت ما مدى صحتها ؟…92
21- بعض الصفات الخاصة بطائفتهم ؟…93
22- لماذا يطعنون في الصحابة ؟…93
23- من الذي يوجّه الشيعة ؟…102
24- بماذا يأمُرُ شيوخُ الرافضة أتباعهم ؟…102
25- حالهم مع الشهادة ؟…106
26- أصول الرافضة هل وضعها أهل البيت ؟…106
27- ما تنسبه الرافضة إلى جعفر الصادق رحمه الله ؟…108
28- هل صحيح انتساب الرافضة لآل البيت ؟…113
29- بِمَ يحتجُ الرافضة لإثبات دينهم ومذهبهم ؟…113
30- إنَّ للشعر دوراً في خدمة الإسلام فهل أثبت شيخ الإسلام شيئا منه ؟…114
31- ماذا جمع مذهب الرافضة ؟…114
32- هل يشتمل مذهب الرافضة على المتناقضات ؟…116
33- هل الرافضة مُحبّون لعلي - رضي الله عنه - حقاً وصدقاً ؟…116
34- موقفهم من أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ؟…124
35- هل يعتبر صنيعُهم هذا أذىً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؟…130
36- من الذي ابتدع مذهب الرافضة ؟…136
37- بماذا يصفون علياً - رضي الله عنه - ؟…139
38- الرافضة يجعلون الصحابة شراً من إبليس…140
39- حال شيوخهم…140
40- رأيه في أبي جعفر الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق ؟…140
41- نظرة أهل السنة إلى عليٍّ - رضي الله عنه -…141
42- الرافضة ماذا يسمون الفاروق - رضي الله عنه - ؟…141
43- موقف علي من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - ؟…141
44- هل الرافضة من الزائغين ؟…143
45- كلام الرافضة المشتمل على رواياتهم وأقوالهم هل هو متناقض ؟…144
46- من أين ظهرت الفتنة في الإسلام ؟…144(1/458)
47- لمن يوجهون سيوفهم ؟…159
48- ماذا يقول لكل مخدوع بالرافضة ؟…161
49- ماذا يفعل الرافضة بأهل السنة إذا تمكنوا في الأرض ؟…164
50- الرافضة ينافقون أهل السنة ويخادعونهم…164
51-معاشرة الرافضة لغيرهم…166
52- هل تكثر فيهم صفاتُ المنافقين ؟…167
53- مذهب الرافضة معادٍ للإسلام…171
54- إلى ماذا ينتهي بأصحابه ؟…172
55- من أين كان اشتقاقه وخروجه ؟…172
56- الهدف من ابتداع هذا المذهب…177
57- هل لأهل البيت علاقة بمذهب الرافضة ؟…178
58- النقل الثابت عن أهل البيت تجاه الخلفاء الراشدين…178
59- الرافضة تزعُم أنها تُبجِّلُ أهلَ البيت ، فهل هذا صحيحٌ ؟…178
60- مُنتَهى أمرُ الرافضةِ…178
61- ما الذي تسعَى إليه الرافضةُ ؟…183
62- هل لمذهبِ الرافضة علاقةٌ بالإسلام ؟…185
63- الفرق بين الخوارج والرافضة…195
س64- ماذا ينسب الرافضة لمشايخهم؟…197
65- أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسَّابِقِينَ الأولين وَأَتْبَعُهُمْ لَهُمْ…198
66- قول الرافضة في عصمة الأنبياء من الصغائر…200
67- أيهما أفضل أبو بكر أم عليٍّ رضي الله عنهما؟…201
68- الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر وعمر على عثمان وعثمان على عليٍّ رضي الله عنهم أجمعين…210
69- أعداء الخلفاء الراشدين…219
70- فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما بتسليم الخلافة لمعاوية رضي الله عنه ، وما موقف النواصب والرافضة من ذلك…232
71-رأيه في يزيد بن معاوية…241(1/459)
س72- رأيه بمن يقول : إنَّ الدِّينَ فَسَدَ مِنْ قَبْلِ " هَذِهِ " وَهُوَ مِنْ حِينِ أُخِذَتْ الْخِلَافَةُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مَكَانَهُ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَلَمْ تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُمْ وَلَمْ يَصِحَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ عَقْدٌ مِنْ عُقُودِهِمْ لَا عَقْدُ نِكَاحٍ وَلَا غَيْرُهُ وَأَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَزَوَّجَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَنِكَاحُهُ فَاسِدٌ ؛ وَكَذَلِكَ الْعُقُودُ جَمِيعُهَا فَاسِدَةٌ وَالْوِلَايَاتُ وَغَيْرُهَا…255
73- رأيه بمقتل الحسين رضي الله عنه ؟…256
74- أهم صفات أولياء الله…278
75- معنى قوله صلى الله عليه وسلم الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ…280
76- رأيه بمن يقول بأن للقرآن ظاهرا وباطنا يخالفه…289
77- الفرق بين بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان غيره…292
78- ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كاف لإصلاح الناس في المعاش والمعاد…295
79- أعداء الدين…300
80-من الزنادقة ؟…302
81- وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ عَمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَقَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى إمَامَتِهِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ ظَلَمُوهُ وَمَنَعُوهُ حَقَّهُ وَأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ . فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ ؟ وَيَكْفُرُونَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ أَمْ لَا ؟…303
82- حكم قتال الطائفة الممتنعة…332
83- هل يجب قتال التتار ومن في حكمهم ؟…336
84- هل يصح الزواج من الرافضية ؟…359(1/460)
85- رأي أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي " قِتَالِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَمَنْ حَارَبَهُ…359
86- الفرق بين البغاة والخوارج…360
1 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي رقم (1950و2332) وفي الرواية الثانية : قال الشعبي : يا مالك ، لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا أو أن يملؤوا بيتي ذهبا على أن أكذب لهم على علي لفعلوا ، ولكن والله لا كذبت عليه أبدا ، يا مالك ، إنني قد درست الأهواء كلها ، فلم أر قوما هم أحمق من الخشبية ، لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ، ولو كانوا من الطير لكانوا رخما ، وقال : أحذرك الأهواء المضلة ، وشرها الرافضة ، وذلك أن منهم يهود يغمصون الإسلام لتحيا ضلالتهم كما يغمص بولس بن شاؤل ، ملك ، ليغلبوا ، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله ، ولكن مقتا لأهل الإسلام وطعنا عليهم ، فأحرقهم علي بن أبي طالب بالنار ، ونفاهم من البلدان ، منهم عبد الله بن سبإ ، نفاه إلى ساباط ، وعبد الله بن شباب نفاه إلى جازت ، وأبو الكروش وابنه ، وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود ، قالت اليهود : لا يصلح الملك إلا في آل داود ، وقالت الرافضة : لا تصلح الإمارة إلا في آل علي ، وقالت اليهود : لا جهاد في سبيل حتى يخرج المسيح الدجال ، أو ينزل عيسى من السماء ، وقالت الرافضة : لا جهاد حتى يخرج المهدي ، ثم ينادي مناد من السماء ، واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم ، وكذلك الرافضة ، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم " ، واليهود يولون عن القبلة شيئا ، وكذلك الرافضة ، واليهود تسدل أثوابها ، وكذلك الرافضة ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد سدل (1) ثوبه فقمصه عليه ، واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفوا القرآن ، واليهود يستحلون دم كل مسلم ، وكذلك الرافضة ، واليهود لا يرون الطلاق ثلاثا شيئا ، وكذلك الرافضة ،(1/461)
واليهود لا يرون على النساء عدة ، وكذلك الرافضة ، واليهود يبغضون جبريل ، ويقولون : هو عدونا من الملائكة ، وكذلك صنف من الرافضة ، يقولون : غلط بالوحي إلى محمد ، وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين : سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب محمد ، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : حواري عيسى ، وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ قالوا : حواري محمد ، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة ، لا يثبت لهم قدم ، ولا تقوم لهم راية ، ولا تجتمع لهم كلمة ، دعوتهم مدحوضة ، وجمعهم متفرق ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله عز وجل
2 -مقالات الإسلاميين للشعري 1/18 الشاملة 2
3 - شرح الطحاوية في العقيدة السلفية - (ج 3 / ص 187)
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ وَتَقْدِيمِهِمْ ، لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ . وَمَنْ أَجْهَلُ مِمَّنْ يَكْرَهُ [التَّكَلُّمَ بِلَفْظِ] الْعَشَرَةِ ، أَوْ فِعْلَ شَيْءٍ يَكُونُ عَشَرَةً !! لِكَوْنِهِمْ يُبْغِضُونَ خِيَارَ الصَّحَابَةِ ، وَهُمُ الْعَشَرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ، وَهُمْ يَسْتَثْنُونَ مِنْهُمْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ! فَمِنَ الْعَجَبِ : أَنَّهُمْ يُوَالُونَ لَفْظَ التِّسْعَةِ ! وَهُمْ يُبْغِضُونَ التِّسْعَةَ مِنَ الْعَشَرَةِ ! وَيُبْغِضُونَ سَائِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ ، الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ ، وَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } الْفَتْحِ : 18.(1/462)
4 -رواه مسلم (2195)
5 - ذكره الذهبي في الميزان ترجمة رقم( 73)
6 - رواه عدة بسند صحيح عنه ومنهم البيهقي في السنن الكبرى (21433) والإبانة(696)
7 وفي ميزان الاعتدال للذهبي - (ج 1 / ص 27)
قلت: قد اختلف الناس في الاحتجاج برواية الرافضة على ثلاثة أقوال: أحدها - المنع مطلقا.
الثاني - الترخص مطلقا إلا فيمن يكذب ويضع.
الثالث - التفصيل، فتقبل رواية الرافضى الصدوق العارف بما يحدث، وترد رواية الرافضى الداعية ولو كان صدوقا.
قال أشهب: سئل مالك عن الرافضة.
فقال: لا تكلمهم ولا تروعنهم، فإنهم يكذبون.
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: لم أر أشهد بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون.
وقال محمد بن سعيد بن الاصبهاني: سمعت شريكا يقول: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة يضعون الحديث ويتخذونه دينا.
وفي لسان الميزان - (ج 1 / ص 5)
قلت: فالمنع من قبول رواية المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالرافضة والخوارج ونحوهم ذهب إليه مالك وأصحابه والقاضي أبو بكر الباقلاني واتباعه والقبول مطلقا إلا فيمن يكفر ببدعة وإلا فيمن يستحل الكذب ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف وطائفة وروي عن الشافعي أيضاً وأما التفصيل فهو الذي عليه أكثر أهل الحديث بل نقل فيه ابن حبان أجماعهم ووجه ذلك أن المبتدع إذا كان داعية كان عنده باعث على رواية ما يشيد به بدعته(1/463)
8 - والآن ناف على غيبته أكثر من ألف ومائتي سنة ، والمهدي المنتظر حسب مفهوم الرافضة شخصية وهمية لا أساس لها من الوجود ، وذلك لأن أبا الحسن العسكري مات ولم يخلف ، فليس عنده ولد أصلا ، وكل ما يرويه الرافضة في ذلك كذب محض ، لا أصل له ، وإنما هو حسب ما ورد في كتب أهل السنة والجماعة حقيقة وليس وهما ولكنه لا يوجد فيه من الصفات التي يذكرها الرافضة إلا الاسم ، ولي كتاب في هذا الموضوع فيه خلاصة الأحاديث الصحيحة والحسنة التي وردت في المهدي وقد نافت على الخمسين
9 - وفي البداية والنهاية لابن كثير - (ج 12 / ص 116)
وأما أبو الحسن علي الهادي فهو ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أحد الأئمة الاثني عشرية، وهو والد الحسن بن علي العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الكاذبة الخاطئة.
10 - · يقول الخميني ( عليه من الله ما يستحق) في بيان منزلة الأئمة : فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون .
- يقول : " والأئمة الذين لا نتصور فيهم السهو أو الغلة " .
- ويقول : " ومن ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل " .
- وأن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن يجب تنفيذها واتباعها .
وهو بهذا يرفع الأئمة إلى مقام فوق مقام البشر والعياذ بالله .
· الولاء والبراء عند الشيعة بشكل عام هو : الولاء للأئمة والبراء من أعدائهم وأعداء الأئمة في اعتقادهم جيل الصحابة رضي الله عنهم ، والخميني يجعل السجود موضع دعاء التولي والتبري وصيغته : " الإسلام ديني ومحمد نبي وعلي والحسن والحسين . ( يعدهم لآخرهم ) أئمتي ، بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرى "
----------
عقائد الشيعة في ميزان الشريعة
الغلو في الأئمة عند الشيعة(1/464)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
ففي سلسلة حديثنا عن الشيعة وخطرهم على الأمة تحدثنا في الحلقة السابقة عن اعتقاداتهم الفاسدة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه الحلقة نتحدث عن صور من غلوهم في الأئمة، من خلال كتبهم وكلام شيوخهم، وذلك تحذيرًا للأمة وإبراءً للذمة، ولتستبين سبيل المجرمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، فنقول مستعينين بالله:
أولا: عصمة الأئمة عند الشيعة:
يعتقد الشيعة أن أئمتهم معصومون من جميع المعاصي صغيرها وكبيرها حتى السهو والنسيان، فإنهم معصومون من كل ذلك من ولادتهم إلى وفاتهم.
قال محمد رضا المظفر في كتابه عقائد الإمامية ص19: "ونعتقد أن الإمام كالنبي، يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت عمدًا وسهوًا، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو والخطأ والنسيان".
ويقول أيضًا: "بل نعتقد أن أمرهم أمر الله تعالى، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه وعدوهم عدوه، ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على رسول الله، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى".
ويقول الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية ص19: "نحن نعتقد أن المنصب الذي منحه الأئمة للفقهاء لا يزال محفوظًا لهم، لأن الأئمة الذين لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة، ونعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة للمسلمين، كانوا على علم بأن هذا المنصب لا يزول عن الفقهاء من بعدهم بمجرد وفاتهم".
ويقول عالمهم الزنجاني في كتابه عقائد الاثنى عشر 2/751 ما نصه: اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة أنهم معصومون، مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون لا صغيرا ولا كبيرا، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، ومن جهلهم فهو كافر".(1/465)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والقاعدة الكلية في هذا: ألا نعتقد أن أحدًا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بل الخلفاء يجوز عليهم الخطأ". [مفتاح السنة (6/691)]
ثانيًا: تفضيل الأئمة الاثني عشر على الأنبياء عليهم السلام:
إنهم لا ينظرون إلى أهل البيت رضي الله عنهم كما ينظر إليهم أهل السنة، فأهل البيت عندهم هم الأئمة الاثنا عشر حيث يفضلونهم على الأنبياء نعم يفضلونهم على أنبياء الله عليهم السلام!!
يقول أحد مشايخهم وهو السيد أمير محمد الكاظمي القزويني في كتابه "الشيعة في عقائدهم وأحكامهم" ص37 : "الأئمة من أهل البيت عليهم السلام أفضل من الأنبياء".
ويقول آية الله السيد عبد الحسين وهو أحد أعوان الخميني في كتابه (اليقين ص64): "وأئمتنا الاثنا عشر عليهم السلام أفضل من جميع الأنبياء باستثناء خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ولعل أحد أسباب ذلك هو أن اليقين لديهم أكثر".
والخميني (في كتابه الحكومة الإسلامية ص25) يعتقد أن لهم مقامًا لا يصله ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقد نقل عبارته غير واحد من كتاب ومفكري أهل السنة، وقبل هؤلاء شيخهم محمد بن عليّ بن الحسين القمى الملقب عندهم بالصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا وشيخهم محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب الفصول المهمة.
وهذا نص كلام الخميني "فإن للإمام مقامًا محمودًا، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون. وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل".
لاحظ أيها القارئ أن كلامهم كله مجرد زعم ليس فيه مقال الله أو قال الرسول.
ويقول العاملي النباطي البياضي في كتابه "الصراط المستقيم" (1/101): في مساواة أمير المؤمنين لجماعة النبيين: "موسى أحيا الله بدعائه قومًا في قوله تعالى: ثم بعثناكم من بعد موتكم [البقرة: 65]، وأحىا لعليِّ أهل الكهف وروي أنه أحيا سام بن نوح وأحيا له جمجمة الجلندى ملك الحبشة".(1/466)
ويقول البياضي (1/201): "وعليّ سلَّمتْ عليه الحيتان وجعله الله إمام الإنس والجان".
ويقول أيضًا في صراطه (1/501): "قال له أصحابه ـ أي عليّ ـ: إن موسى وعيسى كانا يُريان المعجزات فلو أريتنا شيئا لنطمئن إليه فأراهم عليه السلام جنات من جانب وسعيرًا من جانب وقال أكثرهم: سحر، وثبت اثنان فأراهم حصى مسجد الكوفة ياقوتا فكفر أحدهما وبقى الآخر".
وفي الموضع المذكور من صراطه المستقيم!!! قال: "اختصم خارجي وامرأة فعلى صوته فقال له عليه السلام: اخسأ فإذا رأسه رأس كلب".
وقال البياضي (1/701): "لما رجع من صفين كلم الفرات فاضطربت وسمع الناس صوتها بالشهادتين والإقرار له بالخلافة، وفي رواية عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أنه ضربها بقضيب فانفجرت وسلمت عليه حيتانها وأقرت له بأنه الحجة".
وأورد البياضي (1/501) رواية طريفة أيضا إليك نصها: "قال عليّ لرجل قد حمل جروا: قد حمل هذا إسرائيليا فقال الرجل: متى صار الجُرَيّ (تصغير جرو وهو ولد الكلب) إسرائيليًا؟ فقال عليه السلام: إن الرجل يموت في اليوم الخامس فمات فيه ودفن فيه فرفس عليه السلام قبره برجله فقام قائلا: "الراد على عليّ كالراد على الله ورسوله فقال: عد في قبرك فعاد فانطبق عليه".
وهذه من المصائب والبلايا التي أوردها زين الدين العاملي النباطي البياضي والتي لم ينكرها عليه آية الله المرعشي وهو أحد مراجع الشيعة المعاصرين وهو يقدم للكتاب ويترجم للمؤلف مما يدل على قبوله لها ولغيرها من الخرافات التي لم يتعقبه عليها.(1/467)
فقال مادحًا كتاب "الصراط المستقيم" الذي أخذنا منه النقول السابقة: "ومن أحسن ما رأيته في هذا المضمار بحيث لا يُعد في عَدّه من النمط الأول والصف المقدم، هو كتاب "الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم" للعلامة البحاثة المتكلم النحرير الشيخ زين الدين أبي محمد عليّ بن يونس العاملي النباطي البياضي قدس الله لطيفه وأجزل تشريفه.. ولعمري إنه الكتاب العجيب في موضوعه.
وصدق فهو كتاب عجيب بالفعل في ضلالاته وانحرافاته عن الصراط المستقيم الذي سمى به كتابه زورًا وبهتانًا.
ثالثًا: صفة خلق الأئمة عند الشيعة:
قال الخميني في (كتابه زبدة الأربعين حديثًا ص232: "اعلم أيها الحبيب، أن أهل بيت العصمة عليهم السلام، يشاركون النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه الروحاني الغيبي قبل خلق العالم، وأنوارهم كانت تسبح وتقدس منذ ذلك الحين وهذا يفوق قدرة استيعاب الإنسان، حتى من الناحية العلمية.
قال: وورد في النص الشريف "يا محمد، إن الله تبارك وتعالى، لم يزل منفردًا بوحدانيته، ثم خلق محمدًا وعليا وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون أو يحرمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تعالى، ثم قال: يا محمد، هذه الديانة التي من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد".
وسئل التبريزي في تعليقاته وفتاويه جـ3 ص438: هل هناك خصوصية للزهراء عليها السلام في خلقتها؟
أجاب التبريزي: نعم، فإن خلقتها كخلقة سائر الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) بلطف من الله سبحانه وتعالى، حيث ميزهم في خلقهم عن سائر الناس.. وكانت فاطمة (ع) في بطن أمها محدثة وكانت تنزل عليها الملائكة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
من الفتاوى المضلة للشيعة(1/468)
وسئل المرجع الشيعي الميرزا حسن الحائري في كتابه الدين بين السائل والمجيب ج2 ص912: ما حكم المتقدم على ضريح المعصوم (ع) في الصلاة، أي يكون الضريح خلف المصلي في داخل الحرم الشريف؟ وما رأيكم بالنسبة إلى الشهداء والصالحين من أبناء المعصومين؟ وما الحكم إذا صلى جنب الضريح المقدس؟
أجاب الحائري: "لا يجوز التقدم على ضريح المعصوم في الصلاة، والصلاة باطلة، باتفاق من علماء الإمامية، لأن الحكم بعد وفاتهم كما كان حال حياتهم، وأما الصلاة أمام ضريح أبي الفضل العباس (ع) مثلا، خلاف احترامه، وجسارة بمقامه. ولا بأس بالصلاة في جانبي ضريح المعصوم، ما لم يتقدم على قبره المطهر الذي في داخل ضريحه...".
رابعًا: الشيعة يخلعون على أئمتهم صفات الألوهية
لم تتوقف ضلالات الشيعة عند جعل الأئمة فوق الأنبياء والرسل وأنهم معصومون متميزون في خلقتهم عن بقية البشر، بل وصل جرمهم إلى حدٍ خلعوا فيه على أئمتهم صفات الألوهية فزعموا أنهم يعلمون أعمار الناس وآجالهم، وأنهم يعلمون علم ما كان وما يكون، ولا تخفى عليهم خافية، إلى غير ذلك من الطامات التي تزلزل لها قلوب الموحدين.
وفي هذه المسألة بالذات لن نكتب نقولاً عن هؤلاء الضَّلاَّل من الشيعة لكثرتها لأن جرمهم وضلالهم تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا، ولكننا سنكتفي فقط ونطلب من القارئ الكريم أن يطالع بنفسه عناوين بعض الأبواب من فهارس الكتب المعتبرة عند الشيعة والتي تمثل الحجة لديهم، ليتعرف القارئ على مصائب القوم وعقائدهم الفاسدة، ونترك له الحكم في النهاية، وإلى البيان:
1 ـ بعض الأبواب من فهرس كتاب أصول الكافي للكليني ج1:
باب أن الأئمة (ع) نور الله عز وجل.
باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة.
باب أن الأئمة (ع) إذا شاؤوا أن يعلموا علموا.
باب أن الأئمة (ع) يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.(1/469)
باب أن الأئمة (ع) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء صلوات الله عليهم.
باب أن الله عز وجل لم يُعلم نبيه علمًا إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين (ع) وأنه كان شريكه في العلم.
باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة.
باب أن الأئمة (ع) عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها.
باب أن الأئمة (ع) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل (ع).
2 ـ بعض الأبواب في فهرس بحار الأنوار لخاتمة المجتهدين محمد باقر المجلسي جـ32 - 72 كتاب الإمامة.
باب: أنه لا يحجب عنهم شيء من أحوال شيعتهم وما تحتاج إليه الأئمة من جميع العلوم، وأنهم يعلمون ما يصيبهم من البلايا ويصبرون عليها، ولو دعوا الله في دفعها لأجيبوا، وأنهم يعلمون ما في الضمائر وعلم المنايا والبلايا وفصل الخطاب والمواليد.
باب: أن عندهم جميع علوم الملائكة والأنبياء، وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء، وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله، ولا يبقي الأرض بغير عالم.
باب: أنهم أعلم من الأنبياء عليهم السلام.
باب: أحوالهم بعد الموت وأن لحومهم حرام على الأرض وأنهم يرفعون إلى السماء.
باب: أن أسماءهم عليهم السلام مكتوبة على العرش والكرسي واللوح وجباه الملائكة وباب الجنة وغيرها.
باب: أنهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء عليهم السلام.
باب: أنهم عليهم السلام سخر لهم السحاب ويسر لهم الأسباب.
باب: أنهم عليه السلام لا يحجب عنهم علم السماء والأرض والجنة والنار، وأنه عرض عليهم ملكوت السموات والأرض ويعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
غلو الشيعة في قبور أئمتهم
3 ـ بعض أبواب من فهرس كتاب (كامل الزيارات) لأبي القاسم جعفر بن محمد بن قلوية.
الباب (19): ما يستحب من طين قبر الحسين عليه السلام وأنه شفاء.(1/470)
الباب (39): من أين يؤخذ طين قبر الحسين عليه السلام وكيف يؤخذ.
الباب (49): ما يقول الرجل إذا أكل طين قبر الحسين عليه السلام.
"وقد صنَّف شيخهم ابن النعمان، المعروف عندهم بالمفيد ـ وهو شيخ الموسوي والطوسي ـ كتابًا سماه: (مناسك المشاهد)!!، جعل قبور المخلوقين تُحج كما تحج الكعبة.
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد، ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين، بل هذا من دين المشركين". [1/474-647 منهاج السنة لابن تيمية]
وهكذا يظهر لك أن تأليه الأئمة وتقديس القبور والمشاهد ركن من أركان المعتقد الشيعي، فالشيعة أول من بنى مشاهد على القبور وجعلوها شعارهم.
فهؤلاء هم القوم وهذه عقائدهم أعاذنا الله منها ومنهم، وهم بذلك يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون [التوبة:03].
نداء إلى دعاة التقريب
وفي الختام نقول لدعاة التقريب المتباكين على وحدة الأمة ما رأيكم بعدما قرأتم ما سطر في كتب القوم من ضلالات وانحرافات وشركيات؟، آما زلتم مصرون على دعوتكم إلى التقريب والوحدة، وأنه لا فرق بين شيعة وسنة، أترضون أن تتحد الأمة على ضلال؟ فترضون بذلك الناس وتسخطون عليكم رب الناس، ما للعقول أين ذهبت وما للتفكير كيف غاب.
إن وحدة الأمة لا تكون إلا في الاعتصام بالكتاب والسنة، يا دعاة التقريب اتقوا الله وكفاكم تزييفًا للحقائق وتضليلاً للأمة، فكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة. والله من وراء القصد.
11 - رواه البخاري (435و436و1390..) ومسلم (531) من طرق
12 - رقم (532)
13 رواه أحمد في مسنده ( 3921) وابن خزيمة في صحيحه (767) وغيرهما وهو حديث صحيح
14 - برقم(419) مرسلا ووصله أحمد في المسند( 7561) عن أبي هريرة والحميدي(1073) وهو حديث صحيح(1/471)
15 - قال تعالى : { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) [المائدة/97] }
16 - قال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) [آل عمران/96، 97] }
17 - قال تعالى { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) [آل عمران/96، 97] }
18 - تفسير الطبري - (ج 23 / ص 639)
عن محمد بن قيس( وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) قال: كانوا قومًا صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم.
تفسير البغوي - (ج 8 / ص 232)
قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة، ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك )) عزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 294 لعبد بن حميد
19 - رواه مسلم(972)
20 - برقم (969)
21 - رواه البخاري (1341) ومسلم ( 528)(1/472)
22 - قال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) [التوبة/18] }
23 روى ابن أبي شيبة بسند صحيح (33813) عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ لَمَّا فَتَحُوا تُسْتَرَ ، قَالَ : فَوَجَدَ رَجُلاً أَنْفُهُ ذِرَاعٌ فِي التَّابُوتِ , كَانُوا يَسْتَظْهِرُونَ وَيَسْتَمْطِرُونَ بِهِ , فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ , فَكَتَبَ عُمَرُ : إنَّ هَذَا نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّارُ لاَ تَأْكُلُ الأَنْبِيَاءَ , وَالأَرْضُ لاَ تَأْكُلُ الأَنْبِيَاءَ , فَكَتَبَ أَنْ اُنْظُرْ أَنْتَ وَأَصْحَابُك ، يَعَنْي أَصْحَابَ أَبِي مُوسَى فَادْفِنُوهُ فِي مَكَان لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُكُمَا قَالَ : فَذَهَبْت أَنَا ، وَأَبُو مُوسَى فَدَفَنَّاهُ .
24 - عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد ، قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عُمَرَ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا فَقَرَأَ بِنَا فِي الْفَجْرِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ وَ لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّهُ وَرَجَعَ وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : مَسْجِدٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : هَكَذَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ بِيَعًا مَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْكُمْ فِيهِ الصَّلاَة فَلْيُصَلِّ وَمَنْ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ مِنْكُمْ فِيهِ الصَّلاَة فَلاَ يُصَلِّ.رواه ابن أبي شيبة في مصنفه(754) بسند صحيح
25 - قال تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) [المنافقون/8] }(1/473)
26 - قال تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) [آل عمران/167] }
27 عن معلى بن خنيس، قال: قال أبوعبدالله : يا معلى ان التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له [65][65]- المحاسن، 255 البحار، 2/73 وهذه الرواية عنه كذب قطعاً
28 - والمعنى : لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء ونصراء ، بل عليهم أن يراعوا ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين ، وأن يقدموها على ما بينهم وبين الكفار من قرابة أو صداقة أو غير ذلك من ألوان الصلات لأن في تقديم مصلحة الكافرين على مصلحة المؤمنين تقديما للكفر على الإيمان ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يصدر منه ذلك .
وقد ورد مثل هذا النهى فى كثير من الآيات ومن ذلك قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } وقوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال الأوسي : وقوله { مِن دُونِ المؤمنين } حال من الفاعل ، أى متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ، ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والَوْا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع . أو لأن ذكره للإشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون ، وفى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار " .(1/474)
قالوا : والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم ، وأما ما عدا ذلك كالتجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهي ، لأنها ليس معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين " .
وكرر - سبحانه - لفظ " المؤمنين " بأداة التعريف أل للإشارة إلى أن الثاني هو عين الأول ، وفي ذلك إشعار بأن المؤمنين الذين يتخذون الكافرين أولياء ونصراء ، يتركون أنفسهم ويهملونها ويتخذون من عدونهم نهاية لها .
ثم قال - تعالى - { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أى : ومن يتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين ، فإنه في هذه الحالة يكون بعيدا عن ولايته لله ، ومنسلخا منها رأسا وليس بينه وبين الله صلة تذكر .
29 - النواصب جمع ناصبي ، وهم من كان يسب عليا رضي الله عنه ويعاديه ، وهم مبتدعون زائغون عن الحق ، ولكن الرافضة تسمي أهل السنة والجماعة قاطبة أنهم ناصبة لأنهم لم يعترفوا بأكاذيب وخرافات الرافضة من الوصية وعصمة الأئمة وغير ذلك ،و هذا وبين أن القوم ليسوا على شيء ، وهم حاقدون على جميع أهل السنة والجماعة قاطبة
30 - عَنْ وَهْبٍ السُّوَائِىِّ قَالَ خَطَبَنَا عَلِىٌّ فَقَالَ مَنْ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا فَقُلْتُ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ لاَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَمَا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. رواه أحمد في مسنده(846) بسند صحيح
وعَنْ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ قَالَ عَلِىٌّ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَبَعْدَ أَبِى بَكْرٍ عُمَرُ وَلَوْ شِئْتُ أَخْبَرْتُكُمْ بِالثَّالِثِ لَفَعَلْتُ.رواه أحمد (848) وسنده صحيح(1/475)
وعن عَوْنَ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ كَانَ أَبِى مِنْ شُرَطِ عَلِىٍّ وَكَانَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ فَحَدَّثَنِى أَبِى أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَعْنِى عَلِيًّا فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَالثَّانِى عُمَرُ . وَقَالَ يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى الْخَيْرَ حَيْثُ أَحَبَّ.رواه أحمد في مسنده(849) بسند صحيح
و عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَامَ عَلِىٌّ فَقَالَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِنَّا قَدْ أَحْدَثْنَا بَعْدَهُمْ أَحْدَاثاً يَقْضِى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَا شَاءَ رواه أحمد برقم(938) بسند صحيح
والحديث روي من طرق كثيرة وقد بلغ حد التواتر
31 - رواه أحمد (7322) وغيره من طرق كثيرة وهو متواتر
32 - الصحابة هم خير القرون ، وصفوة هذه الأمة وأفضل هذه الأمة بعد نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ، ويجب علينا أن نتولاهم ونحبهم ونترضى عنهم وننزلهم منازلهم ، فإن محبتهم واجبة على كل مسلم ، وحبهم دين وإيمان وقربى إلى الرحمن ، وبغضهم كفر وطغيان . فهم حملة هذا الدين ، فالطعن فيهم طعن في الدين كله لأنه وصلنا عن طريقهم بعد أن تلقوه غضًّا طريًّا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم مشافهة ونقلوه لنا بكل أمانة وإخلاص ونشروا الدين في كافة ربوع الأرض في أقل من ربع قرن وفتح الله على أيديهم بلاد الدنيا فدخل الناس في دين الله أفواجًا .(1/476)
وقد دل الكتاب والسنة على وجوب موالاة الصحابة ومحبتهم وأنها دليل صدق إيمان الرجل . فمن الكتاب قوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) . وإذا كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم مقطوعًا بإيمانهم بل هم أفضل المؤمنين لتزكية الله ورسوله لهم فإن موالاتهم ومحبتهم دليل إيمان من قامت به هذه الصفة .أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة - (ج 1 / ص 357)
33 - رواه البخاري ( 33 ) ومسلم( 59)
34 -قال الشيخ جواد محدثي : " اشتهر أهل الكوفة تاريخياً بالغدر ونقض العهد ... وعلى كل حال فإن تاريخ الإسلام لا يحمل نظرة طيبة عن عهد والتزام أهل الكوفة " .موسوعة عاشوراء ص 59.
ويقول أيضاً : " ومن جملة الخصائص النفسية والخلقية التي يتصف بها أهل الكوفة يمكن الإشارة إلى ما يلي : تناقض السلوك والتحايل والتلون والتمرد على الولاة والانتهازية وسوء الخلق والحرص والطمع وتصديق الإشاعات والميول القبلية إضافة إلى أنهم يتألفون من قبائل مختلفة ، وقد أدت كل هذه الأسباب إلى أن يعاني منهم الإمام علي عليه السلام الأمرين ، وواجه الإمام الحسن عليه السلام منهم الغدر ، وقتل بينهم مسلم بن عقيل مظلوماً ، وقتل الحسين عطشانا في كربلاء قرب الكوفة ، وعلى يد جيش الكوفة " . موسوعة عاشوراء ص59.
35 - عن عبيدة قال: قال علي: ما يحبس أشقاكم أن يجيء فيقتلني؟ اللهم قد سئمتهم وسئموني فأرحهم مني وأرحني منهم.الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 3 / ص 34) وهو حديث صحيح(1/477)
عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول: كان أبي يريد أن يغزو معاوية وأهل الشام فجعل يعقد لواءه ثم يحلف لا يحله حتى يسير، فيأبى عليه الناس وينتشر رأيهم ويجبنون فيحله ويكفر عن يمينه، حتى فعل ذلك أربع مرات. وكنت أرى حاله فأرى ما لا يسرني، فكلمت المسور بن مخرمة يومئذ وقلت له: ألا تكلمه أين يسير بقوم لا والله ما أرى عندهم طائلا؟ فقال المسور: يا أبا القاسم يسير لأمر قد حسم، قد كلمته فرأيته يأبى إلا المسير.
قال محمد بن الحنفية: فلما رأى منهم ما رأى قال: اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني.الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 5 / ص 93) وهو حسن لغيره
عن عبيد الله بن أبي رافع قال لقد سمعت عليا وقد وطئ الناس على عقبيه حتى أدموهما وهو يقول اللهم إني قد مللتهم وملوني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني .تاريخ دمشق - (ج 42 / ص 534) وسنده صحيح
عن أبي صالح الحنفي قال رأيت علي بن أبي طالب آخذا بمصحف فوضعه على رأسه حتى إني لأرى ورقه تتقعقع ثم قال اللهم إنهم منعوني أن أقوم في الأمة بما فيه فأعطني ما فيه قال اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني وحملوني على غير طبيعتي وخلقي وأخلاق لم تكن تعرف لي فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني اللهم أمت قلوبهم ميت الملح في الماء قال إبراهيم يعني أهل الكوفة . تاريخ دمشق - (ج 42 / ص 534) وسنده حسن(1/478)
عن زهير بن الأقمر الزبيدي قال خطبنا علي فقال أنبئت بسرا قد اطلع اليمن وإني والله قد حسبت أن يدخل هؤلاء القوم عليكم وما بي أن يكونوا أولى بالحق منكم ولن تطيعوني في الحق كما يطيعون إمامهم في الباطل فأظهروا عليكم ولكن بصلاحهم في أرضهم وفسادكم في أرضكم وطواعيتهم إمامهم وعصيانكم إمامكم وبأدائهم الأمانة وخيانتكم استعملت فلانا فخان وغدر واستعملت فلانا فخان وغدر واستعملت فلانا فخان وغدر واستعملت فلانا فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية فوالله لو أني أمنت أحدكم على قدح لخشيت أن يذهب بعلاقته اللهم قد كرهتهم وكرهوني وسئمتهم وسأموني اللهم فأرحني منهم وأرحهم مني قال فما صلى الجمعة الأخرى حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه . تاريخ دمشق - (ج 42 / ص 535) وسنده حسن
وفي كتاب السياط اللاذعات في كشف كذب وتدليس صاحب المراجعات - (ج 1 / ص 122) :(1/479)
8- قال الرافضي المهِين طاعناً في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم : "...إلى كثير من أمثال هذه السنن التي لم يعمل كثير من الصحابة بشيء منها، وإنما عملوا بنقيضها تقديماً لأهوائهم, وإيثاراً لأغراضهم" وقال: "لكن الأغراض الشخصية كانت هي المقدمة عندهم على كل دليل" وقال: "أن كثيراً من الصحابة كانوا يبغضون علياً ويعادونه، وقد فارقوه وآذوه، وشتموه وظلموه, وناصبوه، وحاربوه، فضربوا وجهه ووجوه أهل بيته وأوليائه بسيوفهم كما هو معلوم بالضرورة من أخبار السلف.." [100/279-281] أبى الله إلاّ أن يظهر ما يخفيه قلب الموسوي: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ )) [محمد:29] وليس مقصودنا الرد عليه, ولكن نورد سؤالاً: أين شجاعة عليٍ رضي الله عنه والتي افتريتم فيها مئات الأخبار ثم يُفعل به كل هذا؟! بل إن التاريخ يشهد أنكم أنتم من فعل به هذا، وهاهي خطبه من كتبكم تشهد بذلك، حيث قال لأهل الكوفة: (..اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني, اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء)(1) وقال: (..لله أنتم أما دين يجمعكم ولا حمية تشحذكم، أو ليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغاة فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم - وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس - إلى المعونة أو طائفة من العطاء، فتفرقون عني وتختلفون عليّ؟...)(2) وقال الحسن رضي الله عنه عن الموسوي وشيعته: (أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وأخذوا مالي)(3) وقال: (عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي من كان منهم فاسداً، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل..)(4) هل رأيت من هم أصحاب الأهواء والأغراض الشخصية؟! بل المعلوم بالضرورة أنكم بيت المكر والخديعة والمواقف المتلونة التي لا تثبت على حال،
__________(1/480)
(1) نهج البلاغة (ص:66-67).(2) المصدر السابق (ص:258-259).(3) الاحتجاج للطبرسي (ص:148).
(4) المصدر السابق (ص:149).
36 - عَنِ ابْنِ أَبِى نُعْمٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَا جَالِسٌ فَسَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ فَقَالَ لَهُ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.قَالَ هَا انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " هُمَا رَيْحَانَتَىَّ مِنَ الدُّنْيَا " رواه أحمد في مسنده (5808) وهو حديث صحيح
37 - رواه الطبراني في الكبير (8681) وهو صحيح
38 - رواه مسلم (746)
39 - الإبانة الكبرى لابن بطة (245) وهو صحيح
40 - البخاري (34) ومسلم ( 58 )
41 - قلت : هذا يدل على نظرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المستقبلية حيث فهم من خلال النصوص الشرعية ، ومن خلال تعامله مع الرافضة أنه سوف يكون لليهود دولة إما في العراق أو في غيره ، وسيكون الرافضة أكثر الناس نصرة لهم ، وهذا الذي حدث بالفعل تماما ، فهذا ديدن الرافضة في التاريخ ، وهاهم اليوم لما صار لهم دولة في إيران كانوا من أعظم الناس مساعدة لأعداء الإسلام ضد أهل السنة والجماعة ، وخاصة في أفغانستان والعراق ، إذ لم يستطع أعداء الإسلام احتلالهما لولا مساعدة الرافضة ، والآن هم الذراع الأيمن للأمريكان يذبحون أهل السنة في العراق ، ويسلمونهم للكفار والفجار ، ويفعلون بهم الأفاعيل ، فهل أهل السنة ينتبهون لهذه الأخطار المحدقة بهم قبل فوات الأوان ؟؟!!!
42 - انظر على سبيل المثال تفسير الطبرسي
43 - ففي كتاب التوحيد - (ج 1 / ص 131)(1/481)
قال أبو زرعة وهو أجلّ شيوخ الإمام مسلم : إذا رأيت الرجل ينتقص امرأً من الصحابة فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن القرآن حق والرسول حق وما جاء به حق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة . فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة . فيكون الجرح به أليق والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق - قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : من سب أحدا من الصحابة مستحلا كفر ، وإن لم يستحل فسق ، وعنه يكفر مطلقا ، ومن فسقهم أو طعن في دينهم أو كفرهم كفر شرح عقيدة السفاريني ( 2 / 388 - 389 ) . والكفاية في علوم الرواية1/49
وقال العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله في مقاله النفيس :
حملة رسالة الإسلام الأولون وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم
روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".
وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.(1/482)
إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.
ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: "خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم .."؟!
في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).(1/483)
ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.
وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.
وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.(1/484)
هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.(1/485)
هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."(1/486)
ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.(1/487)
حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب.(1/488)
وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.
فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟(1/489)
لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: "ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة(1/490)
الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.(1/491)
وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.(1/492)
ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟
إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.(1/493)
ومع أن كثيراً من أمهات الكتب النفيسة فُقِدَت في كارثة هولاكو، ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيراً من تحقيقات لمحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجبهات.
وأعود بعد هذا إلى الأسئلة التي تقدمت آنفاً عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعليٍّ -كرم الله وجهه- ما لم يكن له به علم: زعموا أن النبي e عيّنه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحاً، وبعضهم يراه ضعيفاً، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب. ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله له أن يتوجّه نحو تبوك- أمر علياً بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون على الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد علي في نفسه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتجعلني مع الناس والأطفال والضعفة؟" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟" أي في استخلاف موسى أخاه هارونَ لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح. فهذا الاستخلاف لم يكن في نظر سيدنا علي -كرم الله وجهه- هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرماناً له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثواب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زِدْ على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم استخلاف ابن أم(1/494)
مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها. وقد ناظر كبارُ الشيعة في هذا الحديث علاَّمةَ العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156 هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم، كما ترى ذلك فيما دوَّنه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).
فالإمام علي كرم الله وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى إجماع إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدَّر الله لها بحكمته ما شاء، وقضي فيها بعدله ما أراد. وما كان لمسلم من عامة المسلمين -فضلاً عن مثل علي في عظيم مكانته في الأولين والآخرين- أن يسخط لقدر الله، أو يتمرد على قضاءه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي في إجماعه معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشكُّ في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق وصاحبيه من بعده عمرَ وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن المزايا التي تفرّد بها عليّ وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر واجباً يقوم به الواحد منهم إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها حقاً لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرّض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.(1/495)
وجميع الوقائع -إذا جرِّدت من زيادات أهل الأهواء- تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شُوِّهت الوقائع وأخبارها بما دسَّه فيها المتزيِّدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله، كانت بها لعلي وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع، وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة -الممتازة على جميع أمم الأرض بعفَّتها وطهارة نفوسها وترفُّعِها عن الصغائر- إنما كانت على عكس ذلك: تتنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاسف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين عِبئاً يتولَّى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداءً للواجب، ولم تكن عند أحد منهم متاعاً ولا مأكلة حتى يتنازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبقى الله من حياته بقيَّة يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض الصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر -ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين- رفض عمر ذلك وقال: "بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه." وعبد الله بن عمر نفسه عرضت عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 هـ فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولَّها عليٌّ إلا قياماً بواجب، ولم يستمدَّها من خرافات المتحزِّبين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين (الخميس ذي الحجة والجمعة منه) ما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليٌّ إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر على باله أن يجعل أحداً من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفَّة حول خلفاء نبيها صلى الله عليه(1/496)
وسلم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدَّثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به غير جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقضاً منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طُوِّق به عنقه من بيعة الإسلام لأصحابها. ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24هـ من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، وكان أهلاً لأن يستمر على ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة- بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضاً كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بأن يكون هو حاملَ هذا العبء القائمَ على المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه: فيقول علي لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فيقول له طلحة: أنت أحق، فأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك. وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعاً عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي (الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35هـ) فخطب خطبة حفظ الطبري لنا نصها، فقال: أيها الناس عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدتُ لكم، وإلا فلا أجد على أحد. وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.(1/497)
ومن مزايا الطبقة الأولى في الإسلام التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى الاعتدال ميزان الدين، والرفق جمال الإسلام؛ لأن نبيها صلى الله عليه وسلم كان يقول لها: إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزِع من شيء إلا شانه. وكان يقول لها: من يحرَم الرفق يحرَم الخير كله. ويقول: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق. ويقول: إياكم والغلوّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فيه. فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدَّب الآباء بنيهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشئة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شبَّ على الغلوِّ في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلُّط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادَّعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ يرمي شبكته في الحجاز والشام فلم يعلق بشيء بسبب تشبُّعهم بفطرة الإسلام في اعتداله ورفقه، وحذَرِهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلي التجربة من شبابها: عجباً لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذِّب بأن محمداً يرجع، وقد قال عز وجل: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان: كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن علياً وصي محمد. ويقول لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول لهم محرضاً على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30: ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على عليّ وصيِّ رسول الله وينتزع منه أمر الأمة. ويقول لهم: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس.(1/498)
إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرُّج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعوَّلوا على تحقيقها. واستكثر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلوَّ فضيلة والاعتدال تقصيراً. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار -ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة- وعُني بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلوّ من المتنطعين جماعاتٌ كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي التُّجيبي الشاعر، وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي، وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابنُ سبأ في الكوفة عمرو بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي، وحُكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح، والحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، وعمار بن ياسر. ومن دعاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي (وعلي لا يعلم ذلك)، وفي جماعة الكوفة الدعوةَ لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير، وليس هنا موضع تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذمَّ(1/499)
علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خُشُب والأعوص وذي المروة، وكيف زوَّر ابنُ سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا علياً بذلك قالوا له: أنت الذي كتبتَ إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سبباً ليقظتهم ويقظة علي أيضاً إلى أن بين المسلمين شيطاناً يزوِّر عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشرر المستطير، وكان ذلك كافياً لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زوَّرت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل إن حامله كان يتراءى لهم متعمِّداً ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحيةَ سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرناً تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.(1/500)
فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمتَ أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدَعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكان عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصاً على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما ادعوه عليه وعلى عمَّاله، كان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه، وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافاً بالحق واتباعاً للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله -وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفُّع عن شهوات النفس- فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على الاقتصاص من السبئيين الذي اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها -وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة- أنهم سائرون ليحاربوا علياً، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليهم. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة الذين انخدعوا بدعوة عبد الله ابن سبأ واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان،(2/1)
وكان علي -وهو ما هو في دينه وخلقه- ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلةُ عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن علياً لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري معتمداً على كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قولُ الملهب: ... إن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعَه مِن قَتْلِ قتلة عثمان وترك القصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتصَّ منه، فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نُسِبَ إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم (أي بين فريقي عائشة وعلي) إلى أن كان ما كان.(2/2)
ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان يتردد كثير منها في وقعة الجمل، وفيما بين الجمل وصفِّين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلوّ في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفننوا في مذاهبه، إلى أن انتهى بانشقاق الخوارج عن علي، وتميَّز فريق من المتخلِّفين مع علي باسم الشيعة، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37 هـ. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبداً، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالاً منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عندما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أوَّلاً: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم -كرم الله وجهه- سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعادوا من عادى على سنته صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي -وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين- فقال له علي: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال علي: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا على شيء من الحق. أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوباً فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله،(2/3)
فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.
هكذا كان أمير المؤمنين من أخويه وحبيبيه خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.
وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دسَّ السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمَّر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحى، ثم خلف خلْفٌ بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحِّصي الأخبار وصيارفة الرجال بأنه أخباريٌّ تالف لا يُوثَق به. نقل الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها الرازي رحمه الله أنه تركه وحذَّر الأمة من أخباره، وأن الدار قطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وأن ابن عدي وصفه بأنه شيعيٌّ محتَرق.(2/4)
ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهوائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إل حادثة وقعت بالفعل فيوردون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقاً من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين من بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصراً فيحكمون عليه بأنه ناقص، ويقولون: من حَفِظَ حُجَّةٌ على من لم يحفظ. ويتناولون الخبر بما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، ولم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الموهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاَّه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، قد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخَّر نبوغه للباطل والشر؛ فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك، وتحرِّي مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذَّابين ومفترياتهم، ولكن قلَّما يُجدي ذلك بعد أن يكون (قد قيل ما قيل إن صِدقاً وإن كَذباً).(2/5)
هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها، وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذه الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحاً لجانب الحق واختياراً لما دلَّه عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيِّفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلُّوا ما اشتُهر به عمرو من الدهاء استغلالاً تقرُّ به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.(2/6)
يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفَّى بالمغرب سنة 543) في كتابه (العواصم من القواصم) ص177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً: هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو(2/7)
بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.
فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضي أبو بكر بن العربي (ص174): وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.
وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالين.
44 - وفي منهاج السنة النبوية - (ج 3 / ص 403)(2/8)
الناس في يزيد طرفان ووسط قوم يعتقدون أنه كان من الصحابة أو من الخلفاء الراشدين المهديين أو من الأنبياء وهذا كله باطل وقوم يعتقدون أنه كان كافرا منافقا في الباطن وأنه كان له قصد في أخذ ثأر كفار أقاربه من أهل المدينة وبني هاشم و أنه أنشد لما بدت تلك الحمول وأشرفت تلك الرؤوس على ربى جيرون نعق الغراب فقلت نح أولا لا تنح فلقد قضيت من النبي ديوني وأنه تمثل بشعر ابن الزبعري :
ليث أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرن من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل
وكلا القولين باطل يعلم بطلانه كل عاقل فإن الرجل ملك من ملوك المسلمين وخليفة من الخلفاء الملوك لا هذا ولا هذا وأما مقتل الحسين رضي الله عنه فلا ريب أنه قتل مظلوما شهيدا كما قتل أشباهه من المظلومين الشهداء وقتل الحسين معصية لله ورسوله ممن قتله أو أعان على قتله أو رضى بذلك وهو مصيبة أصيب بها المسلمون من أهله وغير أهله وهو في حقه شهادة له ورفع حجة وعلو منزلة فإنه وأخاه سبقت لهما من الله السعادة التي لا تنال إلا بنوع من البلاء ولم يكن لهما من السوابق ما لأهل بيتهما فإنهما تربيا في حجر الإسلام في عز وأمان فمات هذا مسموما وهذا مقتولا لينالا بذلك منازل السعداء وعيش الشهداء وليس ما وقع من ذلك بأعظم من قتل الأنبياء فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق وقتل الأنبياء فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق وقتل النبي أعظم ذنبا ومصيبة وكذلك قتل علي رضي الله عنه أعظم ذنبا ومصيبة وكذلك قتل عثمان رضي الله عنه أعظم ذنبا ومصيبة(2/9)
-ثالثا: ها هي ذي أقوال بعض العلماء في وشهادتهم على قضية يزيد بن معاوية: الأول: شهادة محمد بن الحنفية رحمه الله في اتهام يزيد بشرب الخمر: هذه شهادة محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من أعمدة آل البيت يقول ابن كثير عنه: "ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب . فقال لهم : ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة . قالوا : فإن ذلك كان منه تصنعاً لك . فقال : وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا . قالوا : إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه . فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة . فقال : ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف : 86 ، ولست من أمركم في شيء . قالوا : فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا . قال : ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً ( قالوا : فقد قاتلت مع أبيك . قال : جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه . فقالوا : فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا . قال : لو أمرتهما قاتلت . قالوا : فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال . قال : سبحان الله ! ! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت لله في عباده . قالوا : إذاً نكرهك . قال : إذاً آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة" راجع: ابن كثير: البداية والنهاية/ج8/ص234، وص235. وهذا أبو جعفر الباقر: ينقل عنه ابن كثير: " وقال أبو جعفر الباقر : لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام(2/10)
الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه وأعطاه كتاب أمان " راجع: ابن كثير: البداية والنهاية/ج8/ص235.
موقف عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
"وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحداً بعد بيعته ليزيد . كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية، عن نافع . قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال : أما بعد، فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله يقول : (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الإشراك بالله، أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته ) فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه . وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية، وقال الترمذي : حسن صحيح . وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني : عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر فذكر مثله"راجع: ابن كثير: البداية والنهاية/ج8/ص233.
قول فقيه مصر الليث ابن سعد:
قال القاضي أبو بكر بن العربي: "فإن قيل: كان يزيد خماراً. قلنا: لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه؟ بل شهد العدول بعدالته: فروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد، قال الليث: (توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا) فسماه الليث ( أمير المؤمنين) بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ماقال إلا (توفي يزيد)" راجع: ابن العربي: العواصم من القواصم/تحقيق محب الدين الخطيب/دار الجيل بيروت/ص233، ص234.
رواية المدائني:(2/11)
"وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة، فلما أخبره بما وقع قال : وا قوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري فقال له : ترى ما لقي أهل المدينة ؟ فما الذي يجبرهم ؟ قال : الطعام والأعطية . فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته . وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكراً وأثراً شعر ابن الزبعري المتقدم ذكره" راجع: ابن كثير: البداية والنهاية/ج8/ص235.
كلام نفيس لا بن خلدون:
يقول أبو عبد الرحمن بن خلدون في فصل ولا ية العهد في مقدمته الماتعة: " والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم . فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك . وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة وليس معاوية ممن تأخذة العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه . وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه . ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير وندور المخالف معروف" راجع: ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر/مؤسسة الأعلمي بيروت/ج1/ص210. أقول: لكن ابن عمر رضي الله عنه بايع يزيد بن معاوية كما هو ثابت في رواية البخاري الآتية:
رواية البخاري عن موقف ابن عمر:(2/12)
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ : إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :" يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ غَدْراً أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ أَحَداً مِنْكُمْ خَلَعَهُ ، وَلاَ بَايَعَ فِى هَذَا الأَمْرِ ، إِلاَّ كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ" راجع: البخاري: الحديث رقم 7111
رأي ابن خلدون في يزيد بن معاوية:(2/13)
"وعرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها : فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته . فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك وأفضل بل كان يعزله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقل من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة . ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه . فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش وتستتبع عصبية مضر أجمع وهي أعظم من كل شوكة ولا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه وهذا كان شأن جمهور المسلمين . والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم " راجع: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر /ج1/ص212.
45 - قلت : حديث النزول متواتر
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ ".رواه مالك في الموطأ (502) والبخاري(1145) ومسلم (758) وغيرهما
والنزل ليس حسيا ، لأنه مستحيل على الله تعالى، فهو نزول يليق بذاته سبحانه وتعالى
46 - المقصود بالمشايخ هنا مشايخ الصوفية المخرفين وخاصة متأخريهم أمثال ابن عربي وابن سعين ، وليس المشايخ المتقدمين ، وكذلك مشايخ المذاهب الهادمة كالقرامطة والنصيرية والدروز
47 - قد مر تخريجه سابقا ،(2/14)
وقد حذر الله تعالى من شهادة الزور حيث قال : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) [الحج/30] }
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً " . أخرجه مسلم برقم ( 2607 )
48 -عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ قَالَ لِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم " فِيكَ مَثَلٌ مِنْ عِيسَى أَبْغَضَتْهُ الْيَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِى لَيْسَ بِهِ " . ثُمَّ قَالَ يَهْلِكُ فِىَّ رَجُلاَنِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يُقَرِّظُنِى بِمَا لَيْسَ فِىَّ وَمُبْغِضٌ يَحْمِلُهُ شَنَآنِى عَلَى أَنْ يَبْهَتَنِى رواه أحمد في مسنده (1392) فيه ضعف وورد مختصرا عند عبد الرزاق(20648) وابن أبي شيبة(32131)موقوفا عن علي وسنده صحيح
49 - وفي تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر - (ج 2 / ص 88)
وقال ابن عدي ولجعفر أحاديث ونسخ وهو من ثقات الناس كما قال يحيى بن معين وقال عمرو بن أبي المقدام كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين وقال علي بن الجعد عن زهير بن معاوية قال أبي لجعفر بن محمد إن لي جارا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر وعمر فقال جعفر برئ الله من جارك والله إني لارجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر.(2/15)
وقال حفص بن غياث سمعت جعفر بن محمد يقول ما أرجو من شفاعة علي شيئا إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله.
50 - يعني به ابن طاهر الحلي صاحب كتاب منهاج الكرامة في أصول الإمامة المردود عليه
51 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة - (ج 1 / ص 307)
الإسماعيلية
التعريف:
الإسماعيلية فرقة باطنية (*)، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلوِّ (*) الشديد لدرجة أن الشيعة الاثني عشرية يكفِّرون أعضاءَهَا.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
أولاً: الإسماعيلية القرامطية: (انظر بحث القرامطة من هذا الموقع).
• كان ظهورهم في البحرين والشام بعد أن شقُّوا عصا الطاعة على الإمام الإسماعيلي نفسه ونهبوا أمواله ومتاعه فهرب من سلمية في سوريا إلى بلاد ما وراء النهر خوفاً من بطشهم. ومن شخصياتهم:
ـ عبد الله بن ميمون القداح: ظهر في جنوبي فارس سنة 260ه.
ـ الفرج بن عثمان القاشاني (ذكرويه): ظهر في العراق وأخذ يدعو للإمام المستور.
ـ حمدان قرمط بن الأشعث (278ه(: جهر بالدعوة قرب الكوفة.
ـ أحمد بن القاسم: الذي بطش بقوافل التجار والحجاج.
ـ الحسن بن بهرام (أبو سعيد الجنابي): ظهر في البحرين ويعتبر مؤسس دولة القرامطة.
ـ ابنه سليمان بن الحسن بن بهرام (أبو طاهر): حكم ثلاثين سنة، وفي عهده حدث التوسع والسيطرة وقد هاجم الكعبة المشرفة سنة 319ه وسرق الحجر الأسود وأبقاه عنده لأكثر من عشرين سنة.
ـ الحسن الأعصم بن سليمان: استولى على دمشق سنة 360ه.
ثانياً: الإسماعيلية الفاطمية:
• وهي الحركة الإسماعيلية الأصلية وقد مرت بعدة أدوار:
ـ دور الستر: من موت إسماعيل سنة 143ه إلى ظهور عبيد الله المهدي. وقد اختلف في أسماء أئمة هذه الفترة بسبب السرية التي انتهجوها.(2/16)
ـ بداية الظهور: بدأ الظهور بالحسن بن حوشب الذي أسس دولة الإسماعيلية في اليمن سنة 266ه وامتد نشاطه إلى شمال أفريقيا واكتسب شيوخ كتامة. يلي ذلك ظهور رفيقه علي بن فضل الذي ادعى النبوة (*) وأعفى أنصاره من الصوم والصلاة.
ـ دور الظهور: يبدأ بظهور عبيد الله المهدي الذي كان مقيماً في سلمية بسوريا ثم هرب إلى شمال أفريقيا واعتمد على أنصاره هناك من الكتاميين.
• قتل عبيد الله داعيته أبا عبد الله الشيعي الصنعاني وأخاه أبا العباس لشكهما في شخصيته وأنه غير الذي رأياه في سلمية.
• أسس عبيد الله أول دولة إسماعيلية فاطمية في المهدية بإفريقية (تونس) واستولى على رقادة سنة 297ه وتتابع بعده الفاطميون وهم:
ـ المنصور بالله (أبو طاهر إسماعيل) 334 ـ 341هـ.
ـ المعز لدين الله (أبو تميم معد): وفي عهده فتحت مصر سنة 361ه وانتقل إليها المعز في رمضان سنة 362ه.
ـ العزيز بالله (أبو منصور نزار) ـ 365ـ 386هـ.
ـ الحاكم بأمر الله (أبو علي المنصور) ـ 386 ـ 411هـ.
ـ الظاهر (أبو الحسن علي) ـ 411 ـ 427هـ.
ـ المستنصر بالله (أبو تميم) وتوفي سنة 487هـ.
• وبوفاته انقسمت الإسماعيلية الفاطمية إلى نزارية شرقية ومستعلية غربية والسبب في هذا الانقسام أن الإمام المستنصر قد نص على أن يليه ابنه نزار لأنه الابن الأكبر. لكن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي نحَّى نزاراً وأعلن إمامة المستعلي وهو الابن الأصغر كما أنه في نفس الوقت ابن أخت الوزير. وقام بإلقاء القبض على نزار ووضعه في سجن وسدَّ عليه الجدران حتى مات.
• استمرت الإسماعيلية الفاطميَّة المستعلية تحكم مصر والحجاز واليمن بمساعدة الصليحيين والأئمة هم:
ـ المستعلي (أبو القاسم أحمد) ـ 487 ـ 495هـ.
ـ الآمر (أبو علي المنصور) ـ 495 ـ 525هـ.
ـ الظافر (أبو المنصور إسماعيل) ـ 544 ـ 549هـ.
ـ الفائز (أبو القاسم عيسى) ـ 549 ـ 555هـ.(2/17)
ـ العاضد (أبو محمد عبد الله) ـ من 555ه حتى زوال دولتهم على يدي صلاح الدين الأيوبي.
ثالثاً: الإسماعيلية الحشاشون:
• وهم إسماعيلية نزارية انتشروا بالشام، وبلاد فارس والشرق، ومن أبرز شخصياتهم:
• الحسن بن الصباح: وهو فارسي الأصل وكان يدين بالولاء للإمام المستنصر قام بالدعوة في بلاد فارس للإمام المستور ثم استولى على قلعة آلموت وأسس الدولة الإسماعيلية النزارية الشرقية ـ وهم الذين عرفوا بالحشاشين لإفراطهم في تدخين الحشيش، وقد أرسل بعض رجاله إلى مصر لقتل الإمام الآمر بن المستعلي فقتلوه مع ولديه عام 525ه. توفي الحسن بن الصباح عام 1124م.
• كيابزرك آميد توفي سنة 1135م.
• محمد بن كيابزرك آميد توفي سنة 1162م.
• الحسن الثاني بن محمد توفي سنة 1166م.
• محمد الثاني بن الحسن توفي سنة 1210م.
• الحسن الثالث بن محمد الثاني توفي سنة 1221م.
• محمد الثالث بن الحسن الثالث توفي سنة 1255م.
• ركن الدين خورشاه: من سنة 1255ه إلى أن انتهت دولتهم وسقطت قلاعهم أمام جيش هولاكو المغولي الذي قتل ركن الدين فتفرقوا في البلاد وما يزال لهم اتباع إلى الآن.
رابعاً: إسماعيلية الشام:
• وهم إسماعيلية نزارية، لقد أبقوا خلال هذه الفترات الطويلة على عقيدتهم يجاهرون بها في قلاعهم وحصونهم غير أنهم ظلوا طائفة دينية ليست لهم دولة بالرغم من الدور الخطير الذي قاموا به ولا يزالون إلى الآن في منطقة سلمية بالذات وفي مناطق القدموس ومصياف وبانياس والخوابي والكهف.
ـ ومن شخصياتهم (راشد الدين سنان) الملقب بشيخ الجبل، وهو يشبه في تصرفاته الحسن بن الصباح، ولقد كون مذهب (*) السنانية الذي يعتقد أتباعه بالتناسخ (*) فضلاًً عن عقائد الإسماعيلية الأخرى.
خامساً: الإسماعيلية البهرة:(2/18)
• وهم إسماعيلية مستعلية، يعترفون بالإمام المستعلي ومن بعده الآمر ثم ابنه الطيب ولذا يسمون بالطيبية، وهم إسماعيلية الهند واليمن، تركوا السياسة وعملوا بالتجارة فوصلوا إلى الهند واختلط بهم الهندوس الذين أسلموا وعرفوا بالبهرة، والبهرة لفظ هندي قديم بمعنى التاجر.
ـ الإمام الطيب دخل الستر سنة 525ه والأئمة المستورون من نسله إلى الآن لا يعرف عنهم شيئاً، حتى إن أسماءهم غير معروفة،وعلماء البهرة أنفسهم لا يعرفونهم.
• انقسمت البهرة إلى فرقتين:
ـ البهرة الداوودية: نسبة إلى قطب شاه داوود: وينتشرون في الهند وباكستان منذ القرن العاشر الهجري وداعيتهم يقيم في بومباي.
ـ البهرة السليمانية: نسبة إلى سليمان بن حسن وهؤلاء مركزهم في اليمن حتى اليوم.
سادساً: الإسماعيلية الأغاخانية:
• ظهرت هذه الفرقة في إيران في الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وترجع عقيدتهم إلى الإسماعيلية النزارية، ومن شخصياتهم:
ـ حسن علي شاه: وهو الأغاخان الأول: الذي استعمله الإنجليز لقيادة ثورة (*) تكون ذريعة لتدخلهم فدعا إلى الإسماعيلية النزارية، ونفي إلى أفغانستان منها إلى بومباي وقد خلع عليه الإنجليز لقب آغاخان،مات سنة1881م.
ـ أغا علي شاه وهو الأغاخان الثاني:1881م ـ 1885م
ـ يليه ابنه محمد الحسيني: وهو الآغاخان الثالث:1885م ـ 1957م، وكان يفضل الإقامة في أوروبا وقد رتع في ملاذ الدنيا وحينما مات أوصى بالخلافة من بعده لحفيده كريم مخالفاً بذلك القاعدة الإسماعيلية في تولية الابن الأكبر.
ـ كريم: وهو الآغاخان الرابع: من 1957م ، وقد درس في إحدى الجامعات الأمريكية.
سابعاً: الإسماعيلية الواقفة:
• وهي فرقة إسماعيلية وقفت عند إمامة محمد بن إسماعيل وهو أول الأئمة المستورين وقالت برجعته بعد غيبته.
الأفكار والمعتقدات:(2/19)
• ضرورة وجود إمام معصوم منصوص عليه من نسل محمد بن إسماعيل على أن يكون الابن الأكبر وقد حدث خروج على هذه القاعدة عدة مرات.
• العصمة لديهم ليست في عدم ارتكاب المعاصي والأخطاء بل إنهم يؤولون المعاصي والأخطاء بما يناسب معتقداتهم.
• من مات ولم يعرف إمام زمانه ولم يكن في عنقه بيعة (*) له مات ميتة جاهلية (*).
• يضفون على الإمام صفات ترفعه إلى ما يشبه الإله (*)، ويخصونه بعلم الباطن ويدفعون له خُمس ما يكسبون.
• يؤمنون بالتقية (*) والسرية ويطبقونها في الفترات التي تشتد عليهم فيها الأحداث.
• الإمام هو محور الدعوة الإسماعيلية، ومحور العقيدة يدور حول شخصيته.
• الأرض لا تخلو من إمام ظاهر مكشوف أو باطن مستور فإن كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً، وإن كان الإمام مستوراً فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين.
• يقولون بالتناسخ (*)، والإمام عندهم وارث الأنبياء جميعاً ووارث كل من سبقه من الأئمة.
• ينكرون صفات الله أو يكادون لأن الله ـ في نظرهم ـ فوق متناول العقل (*)، فهو لا موجود ولا غير موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا يقولون بالإثبات المطلق ولا بالنفي المطلق فهو إله المتقابلين وخالق المتخاصمين والحاكم بين المتضادين، ليس بالقديم وليس بالمحدث فالقديم أمره وكلمته والحديث خلقه وفطرته.
من عقائد البهرة:
• لا يقيمون الصلاة في مساجد المسلمين.
• ظاهرهم في العقيدة يشبه عقائد سائر الفرق الإسلامية المعتدلة.
• باطنهم شيء آخر فهم يصلون ولكن صلاتهم للإمام الإسماعيلي المستور من نسل الطيب بن الآمر.
• يذهبون إلى مكة للحج كبقية المسلمين لكنهم يقولون: إن الكعبة هي رمز على الإمام.
• كان شعار الحشاشين (لا حقيقة في الوجود وكل أمر مباح) ووسيلتهم الاغتيال المنظم والامتناع بسلسلة من القلاع الحصينة.(2/20)
• يقول أبو حامد الغزالي عنهم: (المنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها، وإنكار الشرائع، إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم).
• يعتقدون أن الله لم يخلق العالم خلقاً مباشراً بل كان ذلك عن طريق العقل الكلي الذي هو محل لجميع الصفات الإلهية ويسمونه الحجاب، وقد حل العقل الكلي في إنسان هو النبي وفي الأئمة المستورين الذين يخلفونه فمحمد هو الناطق وعلي هو الأساس الذي يفسر.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• لقد نشأ مذهبهم في العراق، ثم فروا إلى فارس وخراسان وما وراء النهر كالهند والتركستان فخالط مذهبهم آراء من عقائد الفرس القديمة والأفكار الهندية، وقام فيهم ذوو أهواء في انحرافهم بما انتحلوا من نحل.
• اتصلوا ببراهمة (*) الهند والفلاسفة الإشراقيين والبوذيين وبقايا ما كان عند الكلدانيين والفرس من عقائد وأفكار حول الروحانيات والكواكب والنجوم واختلفوا في مقدار الأخذ من هذه الخرافات وقد ساعدتهم سريتهم على مزيد من الانحراف.
• بعضهم اعتنق مذهب مزدك وزرادشت في الإباحية والشيوعية (القرامطة مثلاً).
• ليست عقائدهم مستمدة من الكتاب والسنة فقد داخلتهم فلسفات وعقائد كثيرة أثرت فيهم وجعلتهم خارجين عن الإسلام.
الانتشار ومواقع النفوذ:
• لقد اختلفت الأرض التي سيطر عليها الإسماعيليون مدًّا وجزراً بحسب تقلبات الظروف والأحوال خلال فترة طويلة من الزمن، وقد غطى نفوذهم العالم الإسلامي ولكن بتشكيلات متنوعة تختلف باختلاف الأزمان والأوقات:
ـ فالقرامطة سيطروا على الجزيرة وبلاد الشام والعراق وما وراء النهر.
ـ والعبيديون أسسوا دولة امتدت من المحيط الأطلسي وشمالي أفريقيا، وامتلكوا مصر والشام، وقد اعتنق مذهبهم أهل العراق وخُطب لهم على منابر بغداد سنة 540ه ولكن دولتهم زالت على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.(2/21)
ـ والآغاخانية يسكنون نيروبي ودار السلام وزنجبار ومدغشقر والكنغو البلجيكي والهند وباكستان وسوريا ومركز القيادة لهم في مدينة كراتشي بباكستان.
ـ والبهرة استوطنوا اليمن والهند والسواحل القريبة المجاورة لهذين البلدين.
ـ وإسماعيلية الشام: امتلكوا قلاعاً وحصوناً في طول البلاد وعرضها وما تزال لهم بقايا في مناطق سلمية والخوابي والقدموس ومصياف وبانياس والكهف.
ـ والحشاشون: انتشروا في إيران واستولوا على قلعة آلموت جنوب بحر قزوين واتسع سلطانهم واستقلوا بإقليم كبير وسط الدولة العباسية السُنية، كما امتلكوا القلاع والحصون ووصلوا بانياس وحلب والموصل، وولي أحدهم قضاء دمشق أيام الصليبين وقد اندحروا أمام هولاكو المغولي.
ـ المكارمة: وقد استقروا في نجران.
ويتضح مما سبق:
أن الإسماعيلية في بدايتها كانت إحدى الفرق الشيعية ولكنها غلت في أئمتها أشد من غلو الرافضة ، وتأثرت بمؤثرات كثيرة حتى وصل الأمر إلى أن اعتبرتها معظم الفرق الإسلامية كافرة وخارجة من الإسلام، لما أسبغوه على إمامهم من صفات تصل به إلى ما يشبه مقام الألوهية، ولقولهم بالتناسخ (*) وإنكارهم صفات الله سبحانه وتعالى، ولعدم استمدادهم عقيدتهم من خالص الكتاب والسُّنة.
مراجع للتوسع:
ـ تاريخ المذاهب الإسلامية ـ الجزء الأول، محمد أبو زهرة.
ـ إسلام بلا مذاهب ـ د. مصطفى الشكعة.
ـ طائفة الإسماعيلية، تاريخها، نظمها، عقائدها ـ د. محمد كامل حسين ـ مكتبة النهضة المصرية 1959م.
ـ دائرة المعارف الإسلامية ـ مادة الإسماعيلية.
ـ الملل والنحل، محمد عبد الكريم الشهرستاني ـ الطبعة الثانية ـ دار المعرفة.
ـ المؤامرة على الإسلام ـ أنور الجندي.
ـ تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة ـ محمد عبد الله عنان.
ـ أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية ـ لبرنارد لويس.
ـ كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة ـ محمد بن مالك اليماني الحمادي.
52 - شرروح الطحاوية - (ج 2 / ص 411)(2/22)
أما الجهمية ، الذي أسس عقيدة نفي الصفات والأسماء هو الجعد بن درهم وقاتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق ومشرق بن واصل ضحى به يوم الأضحى وسبب قتله أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه وهم من السلف الصالح الذي أظهر مقالة الجعد بعده هو الجهم بن صفوان وسبب ذلك مناظرته قوما من المشركين يقال لهم السمانية من فلاسفة الهند، وهم الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات وبعدها نفى الصفات.
واتصل بالجعد يعني الجهم اتصل بالسمانية وشككوه في الله، وقالوا له: إلهك هذا الذي تعبد هل تراه بعيونك؟ قال: لا ، قالوا هل تسمع بإذنك؟ قال: لا ، قالوا: هل تشمه بأنفك؟ قال: لا ، قالوا: هل تذوقه بلسانك؟ قال: لا ، قالوا: له هل تحسه بيدك؟ قال: لا ، قالوا: إذن هو معدوم.
فشك في ربه وترك الصلاة أربعين يوما فجهم ، ثم بعد الأربعين نقش الشيطان في ذهنه أن الله موجود وجودا ذهنيا فأثبت وجودا لله في الذهن وسلب عنه جميع الأسماء والصفات، نسأل الله السلامة والعافية فنسبت الجهمية إلى الجهم؛ لأنه هو الذي أظهر المذهب ونشره ودافع عنه والذي قتله هو سالم بن أحوذ أمير خراسان آخر ولاة بني أمية بعد أن فشت مقالته في الناس.
ثم تقلد نفي الصفات بعد الجهم المعتزلة ولكن الجهم أكثر في التعطيل منهم؛ لأنه ينكر الأسماء والصفات وهم لا ينكرون الأسماء بل الصفات فقط.
العقائد الذي اشتهر بها الجهم ، الجهم اشتهر بأربع عقائد خبيثة:
العقيدة الأولى: عقيدة نفي الصفات، وورثها عنه المعتزلة.
العقيدة الثانية: عقيدة الجبر وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز، وورثها عنه الجبرية.
العقيدة الثالثة: عقيدة الإرجاء، عقيدة الإرجاء، وأن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب وورثها عنه المرجئة.
العقيدة الرابعة: القول بفناء الجنة والنار.(2/23)
اشتهرت مقالة الجهمية حين امتُحن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وغيره من علماء السنة في فتنة القول بخلق القرآن وذلك في إمارة المأمون وخلافته، فإنهم قووا وكثروا فإنه أقام بخراسان مدة واجتمع بهم ، ثم كتب في المحنة من طراسوس بسبب بشر بن غياث المردي وطبقته.
سند مذهب الجهم: أصل مذهب الجهم مأخوذ عن المشركين والصابئة واليهود، إذ إن الجهم أخذ عن الجعد بن درهم، والجعد كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران، وأخذ شيئا من بعض اليهود المحرفين لدينهم المتصلين بلبيد فأخذ الجعد عن أبان بن سمعان، وأبان أخذ عن طالوس وطالوس أخذ عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم فصار سند المذهب يتصل باليهود.
نزاع العلماء في الجهمية:
هل هم من فرق الأمة الإسلامية أم لا؟
قد تنازع العلماء في الجهمية هل هم من الثنتين والسبعين فرقة فيكونون من المبتدعة أم ليسوا منها فيكونون كفرة من فرق الكفرة؟ قيل: منهم وقيل: ليسوا منهم، وقيل غلاة الجهمية كفرة وغير الغلاة مبتدعة
53 - شروح الطحاوية - (ج 2 / ص 167)(2/24)
المذهب الثاني: مذهب القدرية مذهب القدرية، ومن أصولهم نفي خلق الفعل مطلقا نفي خلق الفعل يقولون: أفعال العباد ليست مخلوقة لله أفعالهم من خير وشر وطاعة ومعصية لم يقدرها الله ولم يشأها ولم يخلقها، وغلاة القدرية والرافضة أنكروا أن الله عالم بالأزل، فالقدرية قسمان غلاة ومتوسطون، فالغلاة أنكروا المرتبتين الأوليين علم الله وكتابته، والمتوسطون أنكروا عموم المرتبتين الأخريين آمنوا بالعلم والكتابة اعترفوا صدقوا بالمرتبتين الأوليين ولكن جحدوا عموم المرتبتين الأخريين كما سيأتي، فغلاة القدرية القدامى -وهم قدامى- كمعبد الجهني الذي سأل ابن عمر عن مقالته وكعمرو بن عبيد، فإنهم ينكرون علم الله المتقدم وكتابته السابقة ويزعمون أن الله أمر ونهى وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف أي: مستأنف، وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وكان أول من أظهر ذلك بالبصرة معبد الجهني وأخذ عنه هذا المذهب غيلان الدمشقي فرد عليه بقية الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وواثلة بن الأسقع وغيرهم .
فالقدرية ينقسمون إلى فرقتين:
الأولى: تنكر أن الله سبق علمه بالأشياء مطلقا وتزعم أن الله لم يقدر الأمور أزلا ولم يتقدم علمه بها وإنما يعلمها إذا وقعت، وهؤلاء هم الغلاة قال العلماء: والمنكرون لهذا وهؤلاء الطائفة انقرضوا وهم الذين كفرهم الأئمة، مالك والشافعي وأحمد، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي -رحمه الله-: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصبوا وإن أنكروه كفروا.(2/25)
الفرقة الثانية: المتوسطون أو عامة القدرية الذين أقروا بالعلم والكتاب المقرون بالعلم، وإنما خالفوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال يعني: يقولون: أفعال الله أفعال العباد ما شاءها الله ولا خلقها فيقولون: إن مشيئة الله عامة إلا أفعال العباد وخلق الله لكل شيء عام إلا أفعال العباد، وهذا المذهب مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وهؤلاء مبتدعة ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد يعني: يوجد من العلماء من اعتنق هذا المذهب ومنهم من أخرج له البخاري ومسلم في صحيحهما لكن من كان داعية إلى بدعته لم يخرجوا له، وهذا مذهب فقهاء الحديث كأحمد وغيره ومن كان داعية إلى بدعته فإنه يستحق التعزير لدفع ضرره عن الناس وإن كان في الباطن مجتهدا فأقل عقوبته أن يهجر فلا يكون له مرتبة في الدين فلا يستقضى ولا تقبل شهادته . انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-.
54 - رحم الله شيخ الإسلام ابن فإنه كان من أهل الاستقراء التام
55 - قال تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) [الذاريات/8-10] }
56 - وفي إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 300)(2/26)
وَأَمَّا الْإِغْلَاقُ فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ ، وَالْوَاجِبُ حَمْلُ كَلَامِهِ فِيهِ عَلَى عُمُومِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ ؛ فَكُلُّ مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ قَصْدِهِ وَعِلْمِهِ كَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَالْغَضْبَانِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْإِغْلَاقِ ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْجُنُونِ أَوْ بِالسُّكْرِ أَوْ بِالْغَضَبِ أَوْ بِالْإِكْرَاهِ فَإِنَّمَا قَصَدَ التَّمْثِيلَ لَا التَّخْصِيصَ ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ اللَّفْظَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لَوَجَبَ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ تَعَدَّى بِتَعَدِّيهَا وَانْتَفَى بِانْتِفَائِهَا .
57 - البخاري برقم(6168)
58 - برقم (78)
59 - قلت ما زالت هذه الخرافات عند بعض المتصوفة ، حيث يعتقدون بشيخهم مثل هذه الأباطيل
60 - البخاري (17 و3784) ومسلم ( 74 ) من طرق
61 - رواه مسلم (76)
62 - أخرجه أحمد في مسنده (19000) بسند صحيح
63 - رواه مسلم برقم (2491)
64 - قلت : قد أخرجه الحاكم في المستدرك( 4643 )-حدثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد الحافظ بهمدان حَدَّثَنَا الحسن بن علي الفسوي حَدَّثَنَا إسحاق بن بشر الكاهلي حَدَّثَنَا شريك عن قيس بن مسلم عن أبي عبد الله الجدلي عن أبي ذر رضي الله عنه قال ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ على شرط مسلم ولم يخرجاه
وقال الإمام الذهبي في تعليقه عليه في التلخيص : بل إسحاق بن بشر متهم بالكذب(2/27)
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط ( 2214 )- حدثنا أحمد بن زهير قال : نا إسماعيل بن أبي الحارث قال : نا محمد بن القاسم الأسدي قال : نا زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : " ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم عليا رضي الله عنه " لم يرو هذا الحديث عن زهير إلا محمد القاسم
قلت : محمد بن القاسم الأسدي قال عنه الحافظ في التقريب : كذَّبوه
فالحديث قطعا كذب مفترى
65 - رواه البخاري(3784)
66 - رواه البخاري (33) ومسلم (59)
67 - قلت : لا فض فوك يا شيخ الإسلام والمسلمين
أم المؤمنين عائشة بنت أبى بكر
لما سأل عمرو بن العاص رسول اللَّه ( عن أحب الناس إليه قال: "عائشة" [متفق عليه].
وعندما جاءت أم المؤمنين أم سلمة -رضى اللَّه عنها- إلى النبي ( لتشتكى من أمر يتعلق بعائشة، قال لها النبي (: "يا أم سلمة لا تؤذينى في عائشة؛ فإنه -واللَّه- ما نزل على الوحى وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها" [متفق عليه].
وُلدت السيدة عائشة أم المؤمنين - رضى اللَّه عنها - قبل الهجرة بحوالى ثمانى سنوات، في بيت عامر بالإيمان، ممتلئ بنور القرآن، فأبوها الصديق أبو بكر صاحب رسول اللَّه (، وثانى اثنين إذ هما في الغار، وأول من آمن من الرجال، وأول خليفة للمسلمين بعد رسول اللَّه (، وأمها السيدة أم رومان بنت عامر، من أشرف بيوت قريش وأعرقها في المكانة.
وقد شاركت السيدة عائشة -رضى اللَّه عنها- منذ صباها في نصرة الإسلام، فكانت تساعد أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبى ( وأبيها وهما في الغار عند الهجرة.(2/28)
وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول اللَّه ( أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته: عائشة، وأسماء، وأم رومان، فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفى الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه وا عروساه. ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن، وكان في ركب الهجرة السيدة فاطمة الزهراء والسيدة أم كلثوم بنتا رسول اللَّه ( وأم المؤمنين السيدة سودة بنت زمعة، ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بنى الحارث بن الخزرج، ونزل آل النبي ( في منزل حارثة بن النعمان.
وبدأتْ مرحلة جديدة في حياة أم المؤمنين عائشة - رضى اللَّه عنها - فقد تزوجها النبي ( وهى بنت ست سنين، وبنى بها وهى بنت تسع سنين. [البخاري].
وكان بيت النبي ( الذي دخلت فيه أم المؤمنين عائشة -رضى اللَّه عنها- حجرة واحدة من الطوب اللَّبِن - النَّيِّئ - والطين ، ملحق بها حجرة من جريد مستورة بالطين، وكان باب حجرة السيدة عائشة مواجهًا للشام، وكان بمصراع واحد من خشب، سقفه منخفض وأثاثه بسيط: سرير من خشبات مشدودة بحبال من ليف عليه وسادة من جلد حَشْوُها ليف، وقربة للماء، وآنية من فخارٍ للطعام والوضوء.
وفى زواج النبي ( من السيدة عائشة -رضى اللَّه عنها- تقول: قال رسول اللَّه (: "أُرِيتُك في المنام مرتين: أرى أنك في سَرقة (قطعة) من حرير، ويقول: هذه امرأتك. فأكشف فإذا هي أنتِ، فأقول: إن يك هذا من عند اللَّه يُمضِه" [البخارى ومسلم وأحمد]. وانتظر رسول اللَّه ( فلم يخطب عائشة حتى جاءته خولة زوج صاحبه عثمان بن مظعون ترشحها له.
أحبت السيدة عائشة النبي حبَّا كبيرًا، ومن فرط هذا الحب كانت فطرتها - مثل النساء - تغلبها فتغار.(2/29)
ومرت الأيام بالسيدة عائشة هادئة مستقرة حتى جاءت غزوة بنى المصطلق، فأقرع النبي ( بين نسائه (أى أجرى القرعة بينهن لتخرج معه واحدة في السفر) وكان من عادته ( أن يفعل ذلك مع أزواجه إذا خرج لأمر، فخرج سهمها فخرجت معه (، حتى إذا فرغ النبي من غزوته، وعاد المسلمون منتصرين، استراح المسلمون لبعض الوقت في الطريق، فغادرت السيدة عائشة هودجها، فانسلّ عِقدها من جيدها (عنقها)، فأخذت تبحث عنه.. ولما عادت كانت القافلة قد رحلت دون أن يشعر الرَّكْبُ بتخلفها عنه، وظلَّت السيدة عائشة وحيدة في ذلك الطريق المقفر الخالى حتى وجدها أحد المسلمين - وهو الصحابى الجليل صفوان بن المعطل - رضى اللَّه عنه - فركبت بعيره، وسار بها، واللَّه ما كلمها ولاكلمته، حتى ألحقها برسول اللَّه (، إلا أن أعداء اللَّه تلقفوا الخبر ونسجوا حوله الخزعبلات التي تداعت إلى أُذن الرسول (، وأثرت في نفسه، ونزلت كالصاعقة عليه وعلى أبيها"أبى بكر" وأمها "أم رومان" وجميع المسلمين، لكن اللَّه أنزل براءتها من فوق سبع سماوات فنزل في أمرها إحدى عشرة آية؛ لأنه يعلم براءتها وتقواها، فقال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11].(2/30)
وتقول السيدة عائشة لما علمت بحديث الإفك: وبكيت يومى لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندى أبواى وقد بكيت ليلتى ويومًا، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنتْ امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكى معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول اللَّه (، فجلس - ولم يجلس عندى من يوم قيل في ما قيل قبلها- وقد مكث شهرًا لا يُوحى إليه في شأنى شيء، فتشهَّد، ثم قال: "يا عائشة، فإنه بلغنى عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى اللَّه وتوبى إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب اللَّه عليه". فلما قضى رسول الله ( مقالته، قَلَص دمعى حتى ما أُحِس منه قطرة، وقلتُ لأبي: أجب عنى رسول اللَّه ( فيما قال. قال: واللَّه لا أدرى ما أقول لرسول اللَّه (. فقلت لأمي: أجيبى عنى رسول اللَّه ( فيما قال. قالت: ما أدرى ما أقول لرسول اللَّه (، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن. إنى واللَّه لقد علمت أنكم سمعتم ما يُحَدِّثُ به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، وإن قلتُ لكم إنى بريئة - واللَّه يعلم أنى بريئة - لا تصدقوننى بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - واللَّه يعلم أنى بريئة - لتصدقني، واللَّه ما أجد لى ولكم مثلا إلا قول أبى يوسف: فّصّبًرِ جّمٌيلِ $ّاللَّهٍ بًمٍسًتّعّانٍ عّلّي" مّا تّصٌفٍون [يوسف:18]. ثم تحولت على فراشى وأنا أرجو أن يبرئنى الله، ولكن واللَّه ما ظننتُ أن يُنزِل في شأنى وحيًا، ولأنا أحقر في نفسى من أن يُتكلم بالقرآن في أمري، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه ( في النوم رؤيا تبرئني، فواللَّه ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أُنزل عليه الوحى ... فلما سُرِّى عن رسول الله ( إذا هو يضحك (أى انكشف عنه الوحى ثم ابتسم)، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "يا عائشة، احمدى الله، فقد برأك اللَّه". فقالت لى أمي: قومى إلى رسول(2/31)
الله (، فقلت: لا واللَّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا اللَّه، فأنزل اللَّه تعالي: إن الذين جاءوا بالإفك. [البخاري].
وأراد النبي ( أن يصالحها فقال لها ذات يوم : "إنى لأعلم إذا كنت عنى راضية، وإذا كنتِ على غَضْبَي". فقالت رضى اللَّه عنها: من أين تعرف ذلك؟ فقال : "أما إذا كنت عنى راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنتِ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم". فأجابت: أجل، واللَّه يا رسول اللَّه، ما أهجر إلا اسمك. [البخاري].
تلك هي المؤمنة ،لا يخرجها غضبها عن وقارها وأدبها، فلا تخرج منها كلمة نابية، أو لفظة سيئة.
ولما اجتمعت نساء النبي( ومعهن السيدة عائشة لطلب الزيادة في النفقة منه رغم علمهن بحاله، قاطعهن رسول اللَّه ( تسعة وعشرين يومًا حتى أنزل اللَّه تعالى قوله الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا.وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28-29]. فقام النبي ( بتخيير أزواجه فبدأ بعائشة فقال: "يا عائشة إنى ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن تستعجلى حتى تستأمرى أبويك".
قالت: وقد علم أن أبواى لم يكونا ليأمرانى بفراقه، قالت: ثم قال: "إن اللَّه تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ)[الأحزاب: 82]. حتى بلغ: (لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 29]. فقلت: في هذا أستأمر أبوي؟ فإنى أُريد اللَّه ورسوله والدار الآخرة. وكذا فعل أزواج النبي جميعًا.(2/32)
وعاشت السيدة عائشة مع رسول اللَّه حياة إيمانية يملأ كيانها نور التوحيد وسكينة الإيمان، وقد حازت -رضى اللَّه عنها- علمًا غزيرًا صافيًا من نبع النبوة الذي لا ينضب، جعلها من كبار المحدثين والفقهاء، فرُوى عنها من صحيح الحديث أكثر من ألفين ومائة حديث، فكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، حيثما سارت يسير في ركابها العلم والفضل والتقي، فقد ورد عن أبى موسى -رضى اللَّه عنه- قال: ما أُشْكِلَ علينا -أصحاب رسول اللَّه (- حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا.
وكان للسيدة عائشة -رضى الله عنها- علم بالشعر والطب، بالإضافة إلى علمها بالفقه وشرائع الدين.
وكان عروة بن الزبير -رضى الله عنه- يقول: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشِعْر من عائشة -رضى الله عنها-.
ومن جميل ما أسدته السيدة عائشة للمسلمين أنها كانت سببًا في نزول آية التيمم، يروى عنها أنها قالت: أقبلنا مع رسول اللَّه ( حتى إذا كان بِتُرْبان (بلد يبعد عن المدينة عدة أميال وهو بلد لا ماء به) وذلك وقت السحر، انسلت قلادة من عنقى فوقعت، فحبس على رسول اللَّه ( (أى أمر بالبقاء لالتماسها في الضوء) حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء، فلقيت من أبى ما اللَّه به عليم من التعنيف والتأفُّف، وقال: في كل سفر للمسلمين يلقون منك عناء وبلاء، فأنزل اللَّه الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلوا، قالت: يقول أبى حين جاء من اللَّه الرخصة للمسلمين: واللَّه ما علمت يا بنية إنك لمباركة !! ما جعل اللَّه للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر!! وفى رواية قال لها أُسيد بن حضير: جزاك اللَّه خيرًا، فواللَّه ما نزل بك أمر تكرهينه قط إلا جعل اللَّه لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركة.(2/33)
لم يتزوج رسول اللَّه ( بكرًا غيرها، فلقد تزوجها بعد أم المؤمنين خديجة وأم المؤمنين سودة بنت زمعة رضى اللَّه عنهن جميعًا-؛ رغبة منه في زيادة أواصر المحبة والصداقة بينه وبين الصدِّيق -رضى اللَّه عنه-. وكانت منزلتها عنده ( كبيرة، وفاضت روحه الكريمة في حجرها. وعاشت -رضى اللَّه عنها- حتى شهدت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان بن عفان - رضى اللَّه عنه - وحضرت معركة الجمل، وكانت قد خرجت للإصلاح.
واشتهرت - رضى اللَّه عنها - بحيائها وورعها، فقد قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول اللَّه ( وأبى - رضى اللَّه عنه - واضعة ثوبى وأقول إنما هو زوجى وهو أبي، فلما دُفِن عمر - رضى اللَّه عنه - (معهما) واللَّه ما دخلته إلا مشدودة على ثيابى حياءً من عمر - رضى اللَّه عنه-.
وكانت من فرط حيائها تحتجب من الحسن والحسين، في حين أن دخولهما على أزواج النبي ( حل لهما.
وكانت -رضى الله عنها- كريمة؛ فيُروى أن "أم درة" كانت تزورها، فقالت: بُعث إلى السيدة عائشة بمال في وعاءين كبيرين من الخيش: ثمانين أو مائة ألف، فَدَعت بطبق وهى يومئذ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك المال درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلُمى إفطاري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم درة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا لحمًا بدرهم فنفطر به. فقالت: لا تُعنِّفيني، لو كنتِ ذكَّرتينى لفعلت.
ومن أقوالها :
* لا تطلبوا ما عند اللَّه من عند غير اللَّه بما يسخط اللَّه.
* كل شرف دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به.
* إن للَّه خلقًا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح؛ خفقت معها، فَأفٍّ للجبناء، فأفٍّ للجبناء.
* أفضل النساء التي لا تعرف عيب المقال، ولا تهتدى لمكر الرجال، فارغة القلب إلا من الزينة لبعلها، والإبقاء في الصيانة على أهلها.
* التمسوا الرزق في خبايا الأرض.(2/34)
* رأت رجًلا متماوتًا فقالت: ماهذا؟ فقيل لها: زاهد. قالت: كان عمر بن الخطاب زاهدًا ولكنه كان إذا قال أسمع،وإذا مشى أسرع،وإذا ضرب في ذات اللَّه أوجع.
* علِّموا أولادكم الشعر تعذُب ألسنتهم.
هذه هي السيدة عائشة بنت الصديق -رضى اللَّه عنها- حبيبة رسول اللَّه (، والتى بلغت منزلتها عند رسول اللَّه ( مبلغًا عظيمًا، فقد رضى الله عنها لرضا رسوله ( عنها، فعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله ( يومًا: "يا عائش! هذا جبريل يقرئك السلام". فقلتُ: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته" [متفق عليه].
وفى ليلة الثلاثاء 17 من رمضان في السنة 57 من الهجرة توفيت أم المؤمنين السيدة عائشة وهى في سن السادسة والستين من عمرها، ودفنت في البقيع، وسارت خلفها الجموع باكية عليها في ليلة مظلمة حزينة، فرضى اللَّه عنها وأرضاها.(2/35)
68 - تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) [النور/11] }
وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 563)
{ 11 - 26 } { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } . إلى آخر الآيات(2/36)
وهو قوله: { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما ذكر فيما تقدم، تعظيم الرمي بالزنا عموما، صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة، التي وقعت على أشرف النساء، أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذه الآيات، نزلت في قصة الإفك المشهورة، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد.
وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض غزواته، ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت الصديق، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها، فلم يفقدوها، ثم استقل الجيش راحلا وجاءت مكانهم، وعلمت أنهم إذا فقدوها، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم، وكان صفوان بن المعطل السلمي، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قد عرس في أخريات القوم ونام، فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها، فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال، أشاع ما أشاع، ووشى الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة، فحزنت حزنا شديدا، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات، ووعظ الله المؤمنين، وأعظم ذلك، ووصاهم بالوصايا النافعة. فقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ } أي: الكذب الشنيع، وهو رمي أم المؤمنين { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادق [في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين] (1) ومنهم المنافق.(2/37)
{ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها، والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة، فكل هذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، واجتماعهم على مصالحهم، كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه، فليكره من كل أحد، أن يقدح في أخيه المؤمن، الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه.
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ } وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة، { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } أي: معظم الإفك، وهو المنافق الخبيث، عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.
ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو السلامة مما رموا به، وأن ما معهم من الإيمان المعلوم، يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل، { وَقَالُوا } بسبب ذلك الظن { سُبْحَانَكَ } أي: تنزيها لك من كل سوء، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة، { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي: كذب وبهت، من أعظم الأشياء، وأبينها. فهذا من الظن الواجب، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن، مثل هذا الكلام، أن يبرئه بلسانه، ويكذب القائل لذلك.(2/38)
{ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } أي: هلا جاء الرامون على ما رموا به، بأربعة شهداء أي: عدول مرضيين. { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك، فإنهم كاذبون في حكم الله، لأن الله حرم عليهم التكلم بذلك، من دون أربعة شهود، ولهذا قال: { فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ولم يقل " فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه، من دون نصاب الشهادة بالصدق.
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } بحيث شملكم إحسانه فيهما، في أمر دينكم ودنياكم، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ } أي: خضتم { فِيهِ } من شأن الإفك { عَذَابٌ عَظِيمٌ } لاستحقاقكم ذلك بما قلتم، ولكن من فضل الله عليكم ورحمته، أن [ ص 564 ] شرع لكم التوبة، وجعل العقوبة مطهرة للذنوب.
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي: تلقفونه، ويلقيه بعضكم إلى بعض، وتستوشون حديثه، وهو قول باطل. { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } والأمران محظوران، التكلم بالباطل، والقول بلا علم، { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا } فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين الذين تابوا منه، وتطهروا بعد ذلك، { وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } وهذا فيه الزجر البليغ، عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها، فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا، ولا يخفف من عقوبة الذنب، بل يضاعف الذنب، ويسهل عليه مواقعته مرة أخرى.(2/39)
{ ولَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي: وهلا إذ سمعتم -أيها المؤمنون- كلام أهل الإفك { قُلْتُمْ } منكرين لذلك، معظمين لأمره: { مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا } أي: ما ينبغي لنا، وما يليق بنا الكلام، بهذا الإفك المبين، لأن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح { هَذَا بُهْتَانٌ } أي: كذب عظيم. { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ } أي: لنظيره، من رمي المؤمنين بالفجور، فالله يعظكم وينصحكم عن ذلك، ونعم المواعظ والنصائح من ربنا فيجب علينا مقابلتها بالقبول والإذعان، والتسليم والشكر له، على ما بين لنا { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } دل ذلك على أن الإيمان الصادق، يمنع صاحبه من الإقدام على المحرمات. { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ } المشتملة على بيان الأحكام، والوعظ، والزجر، والترغيب، والترهيب، يوضحها لكم توضيحا جليا. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي: كامل العلم عام الحكمة، فمن علمه وحكمته، أن علمكم من علمه، وإن كان ذلك راجعا لمصالحكم في كل وقت.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة { فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟" وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة.
وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه.(2/40)
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } قد أحاط بكم من كل جانب { وَرَحْمَتُهُ } عليكم { وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ، والحكم الجليلة، ولما أمهل من خالف أمره، ولكن فضله ورحمته، وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم من الخير الدنيوي والأخروي، ما لن تحصوه، أو تعدوه.
ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه، نهى عن الذنوب عموما فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه ووساوسه.
وخطوات الشيطان، يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب، واللسان والبدن. ومن حكمته تعالى، أن بين الحكم، وهو: النهي عن اتباع خطوات الشيطان. والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه، من الشر المقتضي، والداعي لتركه فقال: { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ } أي: الشيطان { يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أي: ما تستفحشه العقول والشرائع، من الذنوب العظيمة، مع ميل بعض النفوس إليه. { وَالْمُنْكَرِ } وهو ما تنكره العقول ولا تعرفه. فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان، لا تخرج عن ذلك، فنهي الله عنها للعباد، نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه، لأن ذلك صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح، فمن إحسانه عليهم، أن نهاهم عنها، كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها، { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان، لأن الشيطان يسعى، هو وجنده، في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميالة إلى السوء أمارة به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، والإيمان غير قوي، فلو خلي وهذه الدواعي، ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء، ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى.(2/41)
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " ولهذا قال: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } من يعلم منه أن يزكى بالتزكية، ولهذا قال: { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
{ وَلا يَأْتَلِ } أي: لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال.
فنزلت هذه الآية، ينهاهم (2) عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال: [ ص 565 ] { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } إذا عاملتم عبيده، بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح، وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح، ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم.
ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أي: العفائف عن الفجور { الْغَافِلاتِ } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير.
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا زيادة على اللعنة، أبعدهم عن رحمته، وأحل بهم شدة نقمته.(2/42)
وذلك العذاب يوم القيامة { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فكل جارحة تشهد عليهم بما عملته، ينطقها الذي أنطق كل شيء، فلا يمكنه الإنكار، ولقد عدل في العباد، من جعل شهودهم من أنفسهم، { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } أي: جزاءهم على أعمالهم، الجزاء الحق، الذي بالعدل والقسط، يجدون جزاءها موفرا، لم يفقدوا منها شيئا، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ويعلمون في ذلك الموقف العظيم، أن الله هو الحق المبين، فيعلمون انحصار الحق المبين في الله تعالى.
فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ولقاؤه حق، ووعده ووعيده، وحكمه الديني والجزائي حق، ورسله حق، فلا ثم حق، إلا في الله وما من الله.
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } أي: كل خبيث من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال، مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، وكل طيب من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال، مناسب للطيب، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، فهذه كلمة عامة وحصر، لا يخرج منه شيء، من أعظم مفرداته، أن الأنبياء -خصوصا أولي العزم منهم، خصوصا سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الإطلاق لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء، فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود بهذا الإفك، من قصد المنافقين، فمجرد كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر القبيح.
ترجمة أم المؤمنين عائشة بنت أبى بكر رضي الله عنهما(2/43)
لما سأل عمرو بن العاص رسول اللَّه ( عن أحب الناس إليه قال: "عائشة" [متفق عليه].
وعندما جاءت أم المؤمنين أم سلمة -رضى اللَّه عنها- إلى النبي ( لتشتكى من أمر يتعلق بعائشة، قال لها النبي (: "يا أم سلمة لا تؤذينى في عائشة؛ فإنه -واللَّه- ما نزل على الوحى وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها" [متفق عليه].
وُلدت السيدة عائشة أم المؤمنين - رضى اللَّه عنها - قبل الهجرة بحوالى ثمانى سنوات، في بيت عامر بالإيمان، ممتلئ بنور القرآن، فأبوها الصديق أبو بكر صاحب رسول اللَّه (، وثانى اثنين إذ هما في الغار، وأول من آمن من الرجال، وأول خليفة للمسلمين بعد رسول اللَّه (، وأمها السيدة أم رومان بنت عامر، من أشرف بيوت قريش وأعرقها في المكانة.
وقد شاركت السيدة عائشة -رضى اللَّه عنها- منذ صباها في نصرة الإسلام، فكانت تساعد أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبى ( وأبيها وهما في الغار عند الهجرة.
وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول اللَّه ( أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته: عائشة، وأسماء، وأم رومان، فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفى الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه وا عروساه. ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن، وكان في ركب الهجرة السيدة فاطمة الزهراء والسيدة أم كلثوم بنتا رسول اللَّه ( وأم المؤمنين السيدة سودة بنت زمعة، ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بنى الحارث بن الخزرج، ونزل آل النبي ( في منزل حارثة بن النعمان.
وبدأتْ مرحلة جديدة في حياة أم المؤمنين عائشة - رضى اللَّه عنها - فقد تزوجها النبي ( وهى بنت ست سنين، وبنى بها وهى بنت تسع سنين. [البخاري].(2/44)
وكان بيت النبي ( الذي دخلت فيه أم المؤمنين عائشة -رضى اللَّه عنها- حجرة واحدة من الطوب اللَّبِن - النَّيِّئ - والطين ، ملحق بها حجرة من جريد مستورة بالطين، وكان باب حجرة السيدة عائشة مواجهًا للشام، وكان بمصراع واحد من خشب، سقفه منخفض وأثاثه بسيط: سرير من خشبات مشدودة بحبال من ليف عليه وسادة من جلد حَشْوُها ليف، وقربة للماء، وآنية من فخارٍ للطعام والوضوء.
وفى زواج النبي ( من السيدة عائشة -رضى اللَّه عنها- تقول: قال رسول اللَّه (: "أُرِيتُك في المنام مرتين: أرى أنك في سَرقة (قطعة) من حرير، ويقول: هذه امرأتك. فأكشف فإذا هي أنتِ، فأقول: إن يك هذا من عند اللَّه يُمضِه" [البخارى ومسلم وأحمد]. وانتظر رسول اللَّه ( فلم يخطب عائشة حتى جاءته خولة زوج صاحبه عثمان بن مظعون ترشحها له.
أحبت السيدة عائشة النبي حبَّا كبيرًا، ومن فرط هذا الحب كانت فطرتها - مثل النساء - تغلبها فتغار.(2/45)
ومرت الأيام بالسيدة عائشة هادئة مستقرة حتى جاءت غزوة بنى المصطلق، فأقرع النبي ( بين نسائه (أى أجرى القرعة بينهن لتخرج معه واحدة في السفر) وكان من عادته ( أن يفعل ذلك مع أزواجه إذا خرج لأمر، فخرج سهمها فخرجت معه (، حتى إذا فرغ النبي من غزوته، وعاد المسلمون منتصرين، استراح المسلمون لبعض الوقت في الطريق، فغادرت السيدة عائشة هودجها، فانسلّ عِقدها من جيدها (عنقها)، فأخذت تبحث عنه.. ولما عادت كانت القافلة قد رحلت دون أن يشعر الرَّكْبُ بتخلفها عنه، وظلَّت السيدة عائشة وحيدة في ذلك الطريق المقفر الخالى حتى وجدها أحد المسلمين - وهو الصحابى الجليل صفوان بن المعطل - رضى اللَّه عنه - فركبت بعيره، وسار بها، واللَّه ما كلمها ولاكلمته، حتى ألحقها برسول اللَّه (، إلا أن أعداء اللَّه تلقفوا الخبر ونسجوا حوله الخزعبلات التي تداعت إلى أُذن الرسول (، وأثرت في نفسه، ونزلت كالصاعقة عليه وعلى أبيها"أبى بكر" وأمها "أم رومان" وجميع المسلمين، لكن اللَّه أنزل براءتها من فوق سبع سماوات فنزل في أمرها إحدى عشرة آية؛ لأنه يعلم براءتها وتقواها، فقال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11].(2/46)
وتقول السيدة عائشة لما علمت بحديث الإفك: وبكيت يومى لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندى أبواى وقد بكيت ليلتى ويومًا، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنتْ امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكى معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول اللَّه (، فجلس - ولم يجلس عندى من يوم قيل في ما قيل قبلها- وقد مكث شهرًا لا يُوحى إليه في شأنى شيء، فتشهَّد، ثم قال: "يا عائشة، فإنه بلغنى عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى اللَّه وتوبى إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب اللَّه عليه". فلما قضى رسول الله ( مقالته، قَلَص دمعى حتى ما أُحِس منه قطرة، وقلتُ لأبي: أجب عنى رسول اللَّه ( فيما قال. قال: واللَّه لا أدرى ما أقول لرسول اللَّه (. فقلت لأمي: أجيبى عنى رسول اللَّه ( فيما قال. قالت: ما أدرى ما أقول لرسول اللَّه (، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن. إنى واللَّه لقد علمت أنكم سمعتم ما يُحَدِّثُ به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، وإن قلتُ لكم إنى بريئة - واللَّه يعلم أنى بريئة - لا تصدقوننى بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - واللَّه يعلم أنى بريئة - لتصدقني، واللَّه ما أجد لى ولكم مثلا إلا قول أبى يوسف: فّصّبًرِ جّمٌيلِ $ّاللَّهٍ بًمٍسًتّعّانٍ عّلّي" مّا تّصٌفٍون [يوسف:18]. ثم تحولت على فراشى وأنا أرجو أن يبرئنى الله، ولكن واللَّه ما ظننتُ أن يُنزِل في شأنى وحيًا، ولأنا أحقر في نفسى من أن يُتكلم بالقرآن في أمري، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه ( في النوم رؤيا تبرئني، فواللَّه ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أُنزل عليه الوحى ... فلما سُرِّى عن رسول الله ( إذا هو يضحك (أى انكشف عنه الوحى ثم ابتسم)، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "يا عائشة، احمدى الله، فقد برأك اللَّه". فقالت لى أمي: قومى إلى رسول(2/47)
الله (، فقلت: لا واللَّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا اللَّه، فأنزل اللَّه تعالي: إن الذين جاءوا بالإفك. [البخاري].
وأراد النبي ( أن يصالحها فقال لها ذات يوم : "إنى لأعلم إذا كنت عنى راضية، وإذا كنتِ على غَضْبَي". فقالت رضى اللَّه عنها: من أين تعرف ذلك؟ فقال : "أما إذا كنت عنى راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنتِ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم". فأجابت: أجل، واللَّه يا رسول اللَّه، ما أهجر إلا اسمك. [البخاري].
تلك هي المؤمنة ،لا يخرجها غضبها عن وقارها وأدبها، فلا تخرج منها كلمة نابية، أو لفظة سيئة.
ولما اجتمعت نساء النبي( ومعهن السيدة عائشة لطلب الزيادة في النفقة منه رغم علمهن بحاله، قاطعهن رسول اللَّه ( تسعة وعشرين يومًا حتى أنزل اللَّه تعالى قوله الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا.وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28-29]. فقام النبي ( بتخيير أزواجه فبدأ بعائشة فقال: "يا عائشة إنى ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن تستعجلى حتى تستأمرى أبويك".
قالت: وقد علم أن أبواى لم يكونا ليأمرانى بفراقه، قالت: ثم قال: "إن اللَّه تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ)[الأحزاب: 82]. حتى بلغ: (لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 29]. فقلت: في هذا أستأمر أبوي؟ فإنى أُريد اللَّه ورسوله والدار الآخرة. وكذا فعل أزواج النبي جميعًا.(2/48)
وعاشت السيدة عائشة مع رسول اللَّه حياة إيمانية يملأ كيانها نور التوحيد وسكينة الإيمان، وقد حازت -رضى اللَّه عنها- علمًا غزيرًا صافيًا من نبع النبوة الذي لا ينضب، جعلها من كبار المحدثين والفقهاء، فرُوى عنها من صحيح الحديث أكثر من ألفين ومائة حديث، فكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، حيثما سارت يسير في ركابها العلم والفضل والتقي، فقد ورد عن أبى موسى -رضى اللَّه عنه- قال: ما أُشْكِلَ علينا -أصحاب رسول اللَّه (- حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا.
وكان للسيدة عائشة -رضى الله عنها- علم بالشعر والطب، بالإضافة إلى علمها بالفقه وشرائع الدين.
وكان عروة بن الزبير -رضى الله عنه- يقول: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشِعْر من عائشة -رضى الله عنها-.
ومن جميل ما أسدته السيدة عائشة للمسلمين أنها كانت سببًا في نزول آية التيمم، يروى عنها أنها قالت: أقبلنا مع رسول اللَّه ( حتى إذا كان بِتُرْبان (بلد يبعد عن المدينة عدة أميال وهو بلد لا ماء به) وذلك وقت السحر، انسلت قلادة من عنقى فوقعت، فحبس على رسول اللَّه ( (أى أمر بالبقاء لالتماسها في الضوء) حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء، فلقيت من أبى ما اللَّه به عليم من التعنيف والتأفُّف، وقال: في كل سفر للمسلمين يلقون منك عناء وبلاء، فأنزل اللَّه الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلوا، قالت: يقول أبى حين جاء من اللَّه الرخصة للمسلمين: واللَّه ما علمت يا بنية إنك لمباركة !! ما جعل اللَّه للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر!! وفى رواية قال لها أُسيد بن حضير: جزاك اللَّه خيرًا، فواللَّه ما نزل بك أمر تكرهينه قط إلا جعل اللَّه لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركة.(2/49)
لم يتزوج رسول اللَّه ( بكرًا غيرها، فلقد تزوجها بعد أم المؤمنين خديجة وأم المؤمنين سودة بنت زمعة رضى اللَّه عنهن جميعًا-؛ رغبة منه في زيادة أواصر المحبة والصداقة بينه وبين الصدِّيق -رضى اللَّه عنه-. وكانت منزلتها عنده ( كبيرة، وفاضت روحه الكريمة في حجرها. وعاشت -رضى اللَّه عنها- حتى شهدت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان بن عفان - رضى اللَّه عنه - وحضرت معركة الجمل، وكانت قد خرجت للإصلاح.
واشتهرت - رضى اللَّه عنها - بحيائها وورعها، فقد قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول اللَّه ( وأبى - رضى اللَّه عنه - واضعة ثوبى وأقول إنما هو زوجى وهو أبي، فلما دُفِن عمر - رضى اللَّه عنه - (معهما) واللَّه ما دخلته إلا مشدودة على ثيابى حياءً من عمر - رضى اللَّه عنه-.
وكانت من فرط حيائها تحتجب من الحسن والحسين، في حين أن دخولهما على أزواج النبي ( حل لهما.
وكانت -رضى الله عنها- كريمة؛ فيُروى أن "أم درة" كانت تزورها، فقالت: بُعث إلى السيدة عائشة بمال في وعاءين كبيرين من الخيش: ثمانين أو مائة ألف، فَدَعت بطبق وهى يومئذ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك المال درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلُمى إفطاري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم درة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا لحمًا بدرهم فنفطر به. فقالت: لا تُعنِّفيني، لو كنتِ ذكَّرتينى لفعلت.
ومن أقوالها :
* لا تطلبوا ما عند اللَّه من عند غير اللَّه بما يسخط اللَّه.
* كل شرف دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به.
* إن للَّه خلقًا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح؛ خفقت معها، فَأفٍّ للجبناء، فأفٍّ للجبناء.
* أفضل النساء التي لا تعرف عيب المقال، ولا تهتدى لمكر الرجال، فارغة القلب إلا من الزينة لبعلها، والإبقاء في الصيانة على أهلها.
* التمسوا الرزق في خبايا الأرض.(2/50)
* رأت رجًلا متماوتًا فقالت: ماهذا؟ فقيل لها: زاهد. قالت: كان عمر بن الخطاب زاهدًا ولكنه كان إذا قال أسمع،وإذا مشى أسرع،وإذا ضرب في ذات اللَّه أوجع.
* علِّموا أولادكم الشعر تعذُب ألسنتهم.
هذه هي السيدة عائشة بنت الصديق -رضى اللَّه عنها- حبيبة رسول اللَّه (، والتى بلغت منزلتها عند رسول اللَّه ( مبلغًا عظيمًا، فقد رضى الله عنها لرضا رسوله ( عنها، فعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله ( يومًا: "يا عائش! هذا جبريل يقرئك السلام". فقلتُ: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته" [متفق عليه].
وفى ليلة الثلاثاء 17 من رمضان في السنة 57 من الهجرة توفيت أم المؤمنين السيدة عائشة وهى في سن السادسة والستين من عمرها، ودفنت في البقيع، وسارت خلفها الجموع باكية عليها في ليلة مظلمة حزينة، فرضى اللَّه عنها وأرضاها.
فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن، حبيبة رسول رب العالمين، التي لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها، ثم صرح بذلك، بحيث لا يبقى لمبطل مقالا ولا لشك وشبهة مجالا فقال: { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } والإشارة إلى عائشة رضي الله عنها أصلا وللمؤمنات المحصنات الغافلات تبعا { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } تستغرق الذنوب { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } في الجنة صادر من الرب الكريم.
69 - قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) [الأحزاب/57، 58] }
وفي الظلال :(2/51)
وفي ظل هذا التمجيد الإلهي يبدو إيذاء الناس للنبي صلى الله عليه وسلم بشعاً شنيعاً ملعوناً قبيحاً : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ، وأعد لهم عذاباً مهيناً } . . ويزيده بشاعة وشناعة أنه إيذاء لله من عبيده ومخاليقه . وهم لا يبلغون أن يؤذوا الله . إنما هذا التعبير يصور الحساسية بإيذاء رسوله ، وكأنما هو إيذاء لذاته جل وعلا . فما أفظع! وما أبشع! وما أشنع!
ويستطرد كذلك إلى إيذاء المؤمنين والمؤمنات عامة . إيذاؤهم كذباً وبهتاناً ، بنسبة ما ليس فيهم إليهم من النقائص والعيوب : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ، فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً } . .
وهذا التشديد يشي بأنه كان في المدينة يؤمذاك فريق يتولى هذا الكيد للمؤمنين والمؤمنات ، بنشر قالة السوء عنهم ، وتدبير المؤامرات لهم ، وإشاعة التهم ضدهم . وهو عام في كل زمان وفي كل مكان . والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين ، والمنافقين ، والذين في قلوبهم مرض . والله يتولى عنهم الرد على ذلك الكيد ، ويصم أعداءهم بالإثم والبهتان . وهو أصدق القائلين .
70 - عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ فَقَالَ " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " رواه أحمد بسند صحيح
71 - قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) [الأنعام/95] }
72 -أخرجه البخاري(3335) ومسلم ( 1677 )
73 - أخرجه البخاري (4772) ومسلم برقم (24)
74 - برقم(25)(2/52)
75 - البخاري برقم ( 6208) ومسلم ( 209 ) الضحضاح : ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار
76 - البخاري ( 3885) ومسلم ( 210 )
77 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ ، خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِى الإِسْلاَمِ إِذَا فَقِهُوا ، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِى هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً " . أخرجه البخاري ( 3493 )
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُ قَالَ " النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِى الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا وَالأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ".رواه مسلم (2378)
78 - عن سُوَيْدَ بْنِ غَفَلَةَ قالَ قَالَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا فَوَاللَّهِ ، لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ ، وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِى آخِرِ الزَّمَانِ ، حُدَّاثُ الأَسْنَانِ ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ فِى قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " أخرجه البخاري (6930) وحديثهم متواتر(2/53)
79 - عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : لَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، دَخَلَ عَمْرِو بْنُ حَزْمٍ ، عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَقَالَ : قُتِلَ عَمَّارٌ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ، فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَزِعًا حَتَّى دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : قُتِلَ عَمَّارٌ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : قُتِلَ عَمَّارٌ فَمَاذَا ؟ فَقَالَ عَمْرٌو : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : دُحِضْتَ فِي بَوْلِكَ ، أَوَ نَحْنُ قَتَلْنَاهُ ، إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ ، جَاؤُُوا بِهِ حَتَّى أَلْقَوْهُ بَيْنَ رِمَاحِنَا ، أَوْ قَالَ : بَيْنَ سُيُوفَنَا
أخرجه الحاكم في المستدرك( 2663) هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ ،وهو صحيح كما قال
80 - أخرجه مسلم برقم(1065) المارقة : طائفة تجاوزت حدود الشرع وتعدته
81 - قلت : وهذا بعكس ما وصفهم الله تعالى بكتابه العزيز حيث يقول :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) [آل عمران/110] }(2/54)
82 - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَجَعَ إِلَى رَحْلِهِ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - وَكُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَوَجَدَنِى وَأَنَا أَنْتَظِرُهُ وَذَلِكَ بِمِنًى فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنَّ فُلاَناً يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلاَناً. فَقَالَ عُمَرُ إِنِّى قَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِى النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أَمْرَهَمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ وَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ إِذَا قُمْتَ فِى النَّاسِ فَأَخْشَى أَنْ تَقُولَ مَقَالَةً يَطِيرُ بِهَا أُولَئِكَ فَلاَ يَعُوهَا وَلاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا وَلَكِنْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَتَخْلُصَ بِعُلَمَاءِ النَّاسِ وَأَشْرَافِهِمْ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّناً فَيَعُونَ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا.(2/55)
فَقَالَ عُمَرُ لَئِنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ سَالِماً صَالِحاً لأُكَلِّمَنَّ بِهَا النَّاسَ فِى أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ. فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِى عَقِبِ ذِى الْحَجَّةِ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ صَكَّةَ الأَعْمَى - فَقُلْتُ لِمَالِكٍ وَمَا صَكَّةُ الأَعْمَى قَالَ إِنَّهُ لاَ يُبَالِى أَىَّ سَاعَةٍ خَرَجَ لاَ يَعْرِفُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَنَحْوَ هَذَا - فَوَجَدْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ عِنْدَ رُكْنِ الْمِنْبَرِ الأَيْمَنِ قَدْ سَبَقَنِى فَجَلَسْتُ حِذَاءَهُ تَحُكُّ رُكْبَتِى رُكْبَتَهُ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ طَلَعَ عُمَرُ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قُلْتُ لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ مَقَالَةً مَا قَالَهَا عَلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ. قَالَ فَأَنْكَرَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ ذَلِكَ فَقَالَ مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ. فَجَلَسَ عُمَرُ عَلىَ الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّى قَائِلٌ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِى أَنْ أَقُولَهَا لاَ أَدْرِى لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَىْ أَجَلِى فَمَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ لَمْ يَعِهَا فَلاَ أُحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَىَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لاَ نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ(2/56)
فَرِيضَةٍ قَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالرَّجْمُ فِى كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الاِعْتِرَافُ أَلاَ وَإِنَّا قَدْ كُنَّا نَقْرَأُ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْراً بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَلاَ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " لاَ تُطْرُونِى كَمَا أُطْرِىَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". وَقَدْ بَلَغَنِى أَنَّ قَائِلاً مِنْكُمْ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلاَناً فَلاَ يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّ بَيْعَةَ أَبِى بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً أَلاَ وَإِنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ أَلاَ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَى شَرَّهَا وَلَيْسَ فِيكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِى بَكْرٍ أَلاَ وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا تَخَلَّفُوا فِى بَيْتِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَخَلَّفَتْ عَنَّا الأَنْصَارُ بِأَجْمَعِهَا فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الأَنْصَارِ فَانْطَلَقْنَا نَؤُمُّهُمْ حَتَّى لَقِيَنَا رَجُلاَنِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا الَّذِى صَنَعَ الْقَوْمُ فَقَالاَ أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَقُلْتُ نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاَءِ مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالاَ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَقْرَبُوهُمْ واقْضُوا أَمْرَكُمْ يَا(2/57)
مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى جِئْنَاهُمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ فَإِذَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ رَجُلٌ مُزَمَّلٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. فَقُلْتُ مَا لَهُ قَالُوا وَجِعٌ. فَلَمَّا جَلَسْنَا قَامَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَقَالَ أَمَا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَتِيبَةُ الإِسْلاَمِ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنَّا وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا وَيَحْضُنُونَا مِنَ الأَمْرِ. فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِى أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا بَيْن يَدَىْ أَبِى بَكْرٍ وَقَدْ كُنْتُ أُدَارِى مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ وَهُوَ كَانَ أَحْلَمَ مِنِّى وَأَوْقَرَ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِسْلِكَ.(2/58)
فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ وَكَانَ أَعْلَمَ مِنِّى وَأَوْقَرَ وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِى فِى تَزْوِيرِى إِلاَّ قَالَهَا فِى بَدِيهَتِهِ وَأَفْضَلَ حَتَّى سَكَتَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ أَهْلُهُ وَلَمْ تَعْرِفِ الْعَرَبُ هَذَا الأَمْرَ إِلاَّ لِهَذَا الْحَىِّ مِنْ قُرَيْشٍ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَباً وَدَاراً وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَيَّهُمَا شِئْتُمْ. وَأَخَذَ بِيَدِى وَبِيَدِ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا وَكَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِى لاَ يُقَرِّبُنِى ذَلِكَ إِلَى إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ إِلاَّ أَنْ تَغَيَّرَ نَفْسِى عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. - فَقُلْتُ لِمَالِكٍ مَا مَعْنَى أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ قَالَ كَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا دَاهِيَتُهَا. - قَالَ وَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ حَتَّى خَشِيتُ الاِخْتِلاَفَ فَقُلْتُ ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَهُ الأَنْصَارُ وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ قَتَلْتُمْ سَعْداً. فَقُلْتُ قَتَلَ اللَّهُ سَعْداً. وَقَالَ عُمَرُ أَمَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا أَمْراً هُوَ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِى بَكْرٍ خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً فَإِمَّا أَنْ نُتَابِعَهُمْ(2/59)
عَلَى مَا لاَ نَرْضَى وَإِمَّا أَنْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونَ فِيهِ فَسَادٌ فَمَنْ بَايَعَ أَمِيراً عَنْ غَيْرِ مَشُورَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَيْعَةَ لَهُ وَلاَ بَيْعَةَ لِلَّذِى بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ. قَالَ مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَقِيَاهُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ وَمَعْنُ بْنُ عَدِىٍّ.رواه أحمد في مسنده (398) وهو حديث صحيح(2/60)
83 - عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ - قَالَ إِسْمَاعِيلُ يَعْنِى بِالْعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَتْ وَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِى نَفْسِى إِلاَّ ذَاكَ وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِىَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ . فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهُ قَالَ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا . ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ . فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ أَلاَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ . وَقَالَ ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وَقَالَ ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) قَالَ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ - قَالَ - وَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ فَقَالُوا مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ، فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ ،(2/61)
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلاَّ أَنِّى قَدْ هَيَّأْتُ كَلاَمًا قَدْ أَعْجَبَنِى خَشِيتُ أَنْ لاَ يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ فَقَالَ فِى كَلاَمِهِ نَحْنُ الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ . فَقَالَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لاَ وَاللَّهِ لاَ نَفْعَلُ ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لاَ ، وَلَكِنَّا الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا ، وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا فَبَايِعُوا عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ . فَقَالَ عُمَرُ بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ ، فَقَالَ قَائِلٌ قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ . فَقَالَ عُمَرُ قَتَلَهُ اللَّهُ رواه البخاري (3667)
84 - وذلك لأنه بايع الخلفاء الذين سبقوه ، فيزعم هؤلاء الأفاكين أنه بايعهم تقية ومكرها ، فأين ذهبت شجاعته إذا؟؟!!!
85 - قال تعالى :{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) [غافر/51-53] }
86 - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه برقم ( 18003 ) وابن أبي شيبة في المصنف برقم ( 36438 ) وابن سعد برقم (2618) وهو صحيح(2/62)
87 - قلت : كذبوا وخسئوا ، بل فرعون هذه الأمة هو أبو جهل عليه لعنة الله تعالى ، فعَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِى جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ وَهُوَ صَرِيعٌ وَهُوَ يَذُبُّ النَّاسَ عَنْهُ بِسَيْفٍ لَهُ فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَخْزَاكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. فَقَالَ هَلْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ قَتَلَهُ قَوْمُهُ. قَالَ فَجَعَلْتُ أَتَنَاوَلُهُ بِسَيْفٍ لِى غَيْرِ طَائِلٍ فَأَصَبْتُ يَدَهُ فَنَدَرَ سَيْفُهُ فَأَخَذْتُهُ فَضَرَبْتُهُ بِهِ حَتَّى قَتَلْتُهُ - قَالَ - ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّمَا أُقَلُّ مِنَ الأَرْضِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ " آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ". فَرَدَّدَهَا ثَلاَثاً قَالَ قُلْتُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. قَالَ فَخَرَجَ يَمْشِى مَعِى حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَخْزَاكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ هَذَا كَانَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ " رواه أحمد في مسنده (4334) وهو حديث صحيح لغيره
88 - قلت :(2/63)
لقد صدق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فمذهب التشيع أساساً لا ينتشر في مكان فيه علم صحيح وسنة متبعة، بل في الأمكنة التي ابتعد أهلها عن العلم النافع والعمل الصالح ، ولما قامت الثورة الخمينيةُ ، وغشَّ الخميني الناس بكذبه ، قامت كثير من الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي بزيارة طهران لتهنئة الخميني قائد الثورة الإسلامية في العصر الحديث ، وعظَّموه وبجَّلوهُ ، مما جعل كثيرٌ من أتباعهم ينغشُّون بإفكه ويدخلون في التشيع ، ومن ثم في الرفض ، وقد ساعدهم على ذلك أن قادتهم قد أيدوا الثورة الرافضية ، وقالوا عنها بأنها ثورة إسلامية ، كما أن هذه الحركات لا يوجد فيها ولاء ولا براء ، وتريد جمع كلمة المسلمين ، كل المسلمين ، ولو كانت الفوارق بينهم كالفوارق بين الإيمان والكفر ، ومن ثمَّ لا يوجد في كتبهم ما يبين حقيقة الشيعة الرافضة ، إلا واحدا من هؤلاء الذين انغشُّوا بالخميني عليه من الله ما يستحق ، فلما اطَّلعوا على حقيقته حذَّروا أتباعهم من تصديقه كالشيخ سعيد حوَّى رحمه الله ، فقد ألف كتابا هاما في بيان عقيدة الخميني وشذوذاته وحذر الناس منه ، وقد قامت هذه الدولة الرافضية الفارسية المجوسية الخبيثة بتصدير الرفض إلى العالم الإسلامي على حين غفلة من أهلها ،ووزعوا ملايين الكتب بطبعات فاخرة ، والتي تبين أن الرافضة هم الفرقة الناجية ، و التي كانت مظلومةً من النواصب ( يعنون أهل السنة والجماعة )، وانتشر إفكهم في كلِّ مكانٍ يعظم أهله الخرافات ، و يؤمنون بالتصوف الخرافي ، ويحاربون فيه السنة وأهلها ، كالشام بكلِّ أقطارهِ وخاصة سوريا التي يحكمها النصيريون ولبنان الذي يسيطرون عليه ، والعراق ، وكثير من دول الخليج ومصر والمغرب العربي وباكستان وأفغانستان وجنوب شرق آسية والجمهوريات الإسلامية في روسيا الشيوعية ، وانتشرت كتبهم التي تسبُّ السلف الصالح ، وتطعن فيهم علنا وعندي بعض هذه الكتب منذ أكثر من ربع قرن(2/64)
ككتاب السبعة من السلف ( أي أبو بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعائشة ..)فمن قرأ هذا الكتاب لا يشك في أنهم كفار حاقدين على الإسلام والمسلمين حيث لم يبقِ القومُ أفكاً إلا وألصقوه بهؤلاء الأخيار الأبرار ، وقد تشيَّعَ كثيرٌ من الناس إما لأنه لم يقرأ عن هؤلاء القوم شيئاً ، فهو خالي الوفاض ،أو أنه طالب دنيا يريد أن يستفيد من الرفض الذي يبيح المحرمات ، ويجوِّزُ لأتباعه ارتكاب الموبقات ، واعتبارها من الحسنات العظيمات،ومن أهم أسباب انتشار مذهب الرفض أن جميع كليات الشريعة في العالم الإسلامي ما عدا الجزيرة العربية كانت تقول في كتب الرفق والأديان ، بأن الخلاف بيننا وبين الرافضة هو خلاف في الفروع ، وليس في الأصول ،وأنه يجوز تقليد مذهب الأئمة الإثني عشرية ، وتدريسه والاحتجاج به ، لأنه الخلاف بيننا وبينهم كالخلاف بين الشافعية والحنفية ، مما زاد الناس خبالاً وضلالاً ، مع انبهارهم بالثورة الخمينية وشعاراتها المزيفة الكاذبة ، التي كانت ترفعها أمام الناس ،وقد حصل بيننا وبين هؤلاء الأوغاد معارك فكرية طاحنة ، و ذلك بسبب تضليلهم الناس ، ومن الأمور المهمة التي ساعدت على ظهور التشيع الرافضي في العالم الإسلامي هو عدم وجود كتب تردُّ على هؤلاء الأفاكين ،و تبين للناس حقيقة مذهبهم ، ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وكتب العلامة محبِّ الدين الخطيب رحمه الله ، ونحوها فهي إما أنها كانت ممنوعة ، أو غير موجودة بين عامة الناس ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
89 - قال تعالى عن المنافقين :(2/65)
{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) [آل عمران/7، 8] }
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) [التوبة/45-47] }(2/66)
{ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) [التوبة/48] }(2/67)
{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) [الأحزاب/12-15] }
90 - مثال على ذلك ، فهم يصفون أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه بأنه كان أشجع الصحابة على الإطلاق ( ونحن لا نشك بشجاعته ) ، ومع هذا يصفونه بأنه كان من أجبن الناس في عهد الخلفاء الثلاث حيث لم يتجرأ أن يطالب بحقه المغصوب على حدِّ زعمهم وإفكهم
فكيف تجتمع الشجاعة والجبن والخور في وقتٍ واحدٍ؟!!
كما أنهم يقولون بأن أئمتهم معصومون من الخطأ والمعصية ، ومع هذا فلا يعترفون بما فعلوا ، فقد بايع علبٌّ رضي الله عنه الخلفاء الثلاثة ، ومع هذا فهم لا يقرون هذه البيعة وينقضونها ، وهذا يدل على أنه غير معصوم
والحسن رضي الله عنه قد بايع معاوية رضي الله عنه وتنازل له عن الخلافة ومع هذا فهم لا يقرون ذلك ، فكيف تكون هذه العصمة المزعومة إذن؟؟!!!
وكل مذهبهم قائم على الجهل والتناقض والكذب الجلي ، فتبًّا لهم ، ولمن سار على ركابهم
91 - برقم (32151) وإسناده صحيح(2/68)
و عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"ثَلاثَةٌ مَنْ نَجَا مِنْهَا نَجَا: مَنْ نَجَا عِنْدَ قَتْلِ مُؤْمِنٍ فَقَدْ نَجَا، وَمَنْ نَجَا عِنْدَ قَتْلِ خَلِيفَةٍ قُتِلَ مَظْلُومًا وَهُوَ مُصْطَبِرٌ يُعْطِي الْحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ نَجَا، وَمَنْ نَجَا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ فَقَدْ نَجَا".رواه الطبراني في الكبير (14213) وهو حديث صحيح
92 - هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلاً . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .
لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى .. نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .
هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلاً ، لعلنا نهتدي إلى سرِّه .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أيدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ .. ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟
لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكَّل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان ..(2/69)
ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذِّكْر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكن أن تؤتي ثمارها . فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة ، وأبقى هذا الدِّين من بعده إلى آخر الزمان .. وإذن فإن غيبة شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها .
فلنبحث إذن وراء سبب آخر . لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول ، فلعل شيئاً قد تغير فيه . ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئاً قد تغير فيه كذلك .
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع .فعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِى بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قُلْتُ فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ. قَالَتْ لاَ تَفْعَلْ أَمَا تَقْرَأُ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ وُلِدَ لَهُ أخرجه أحمد بسند صحيح(2/70)
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات .. كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة .. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن " تصميم " مرسوم ، ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة من التوراة فعَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ , إنِّي أَصَبْتُ كِتَابًا حَسَنًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ , قَالَ : فَغَضِبَ ، وَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ , فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً , لاَ تَسْأَلُوهُمْ ، عَن شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ , وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلاَ أَنْ يَتَّبِعَني.رواه ابن أبي شيبة بسند حسن(2/71)
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى .. على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده . ويستقيم عودهم على منهجه وحده . ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من نبع آخر .
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم .
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع . ! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا .
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيًّا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع . ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..(2/72)
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التذوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان " الأمر اليومي " ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ،فعن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ رواه الطبري في تفسيره من طرق وهو صحيح
هذا الشعور .. شعور التلقي للتنفيذ .. كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف ، إنما تتحول آثارًا وأحداثًا تحوِّل خط سير الحياة .
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي ، ولا كتاب أدب وفن ، ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا ، يتلو بعضه بعضًا :
{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ](2/73)
لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية . وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصوِّر لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة . ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه . وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ! وبهذا الإحساس كان يتلقى هَدْي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة .. شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهَدْي القرآني .(2/74)
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيًا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها ، وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته .
وكان هذا مفرق الطريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه . ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى ، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل .
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرًا إسلاميًا .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا ، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة .(2/75)
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها . لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال ، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة . نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق ، وجود الله سبحانه .. ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ، وقيمنا وأخلاقنا ، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة .
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل ، لا بشعور الدراسة والمتاع . نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ، لنكون . وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن ، وبمشاهد القيامة في القرآن .. وبالمنطق الوجداني في القرآن .. وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع . ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول . إن هدفنا الأول أن نعرف : ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور ؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله ؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة ؟
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية .. في خاصة نفوسنا .. ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له ، فهو بهذه الصفة .. صفة الجاهلية .. غير قابل لأن نصطلح معه . إن مهمتنا أن نغيِّر من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيرًا .(2/76)
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع . مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه . هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًا بالمنهج الإسلامي ، وبالتصور الإسلامي ، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش .
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ، وألا نعدِّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق . كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق ، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق ! وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة ، وستفرض علينا تضحيات باهظة ، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ، ونصره على منهج الجاهلية .
وإنه لمن الخير أن ندرك دائمًا طبيعة منهجنا ، وطبيعة موقفنا ، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد ..( المعالم )
93 - أخرجه البخاري برقم (3456) ومسلم ( 2669 )
94 - أخرجه البخاري برقم (6774)
95 - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قَالَ - فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ ".أخرجه مسلم (156)(2/77)
وعَنْ أَبِى أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ " . وَلَيْسَ فِى حَدِيثِ قُتَيْبَةَ " وَهُمْ كَذَلِكَ " رواه مسلم (1920)
و عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِماً يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " .أخرجه مسلم ( 1922 )
و عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ " .أخرحه مسلم ( 1037)
وهو حديث متواتر
96 -عَنْ مُعَاذٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةً فَأَحْسَنَ فِيهَا الْقِيَامَ وَالْخُشُوعَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ قَالَ " إِنَّهَا صَلاَةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ سَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلاَثاً فَأَعْطَانِى اثْنَتَيْنِ وَزَوَى عَنِّى وَاحِدَةً سَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَى أُمَّتِى عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحَهُمْ فَأَعْطَانِيهِ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ سَنَةً تَقْتُلُهُمْ جُوعاً فَأَعْطَانِيهِ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بِأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَرَدَّهَا عَلَىَّ "أخرحه أحمد في مسنده برقم (22779)(2/78)
وعن عَامِرَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِى مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- " سَأَلْتُ رَبِّى ثَلاَثًا فَأَعْطَانِى ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِى وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّى أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا " أخرجه مسلم (2890) وهو حديث صحيح مشهور
97 - نظرة إلى الجيل الفريد للعلامة محمد قطب حفظه الله
ذلك الجيل الذي قال عنه النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - " خَيْرُكُمْ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ "أخرجه البخاري (2651)
والذي استحق استحقاقا كاملاً وصف الله سبحانه: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110].
إنه الجيل الذي فيه اللقاء بين المثال والواقع, فترجم مثاليات الإسلام إلي واقع, وارتفع بالواقع البشري إلي درجة المثال.
والمثالية الواقعية, أو الواقعية المثالية من أبرز خصائص هذا الدين.(2/79)
فلا هو يضع مُثُلاً روحانية عسيرة التطبيق, تهمل ضرورات الإنسان وواقعه المادي, وتشد الناس إلي أعلا شدا بلا هوادة فتعلقهم في الفضاء, كما تصنع الهندوكية والبوذية والرهبانية, ولا هو إذ يلتفت إلي مطالب الجسد وعالم المادة يحبس الإنسان في نطاق ضروراته, ويقعد به عن التحليق في الآفاق العليا التي يتحقق فيها المثال, بل يأخذ بهذه وتلك في آن واحد علي توازن واتساق, ومن ثم تلتقي فيه المثالية التي لا تهمل الواقع, بالواقعية التي لا تهمل المثال, ويكون من نتائجها -في أعلا حالاتها- ذلك الجيل المتفرد في التاريخ.
ونحن في حاجة ملحة لأن نتعرف علي هذا الجيل, لنعرف مكان الأسوة لنا في واقعنا المعاصر, ولنقيس علي ضوئه مدي قربنا أو بعدنا عن حقيقة الإسلام.
ونريد -قبل أن نرسم السمات الفريدة لذلك الجيل المتفرد- أن نتعرف علي العوامل التي أثرت فيه, فرفعته إلي القمم السامقة التي وعاها التاريخ.
لقد كان العرب شتيتاً متناثراً لا يتجمع علي شيء, رغم وجود مقومات التجمع الأرضية كلها من وحدة الأرض, ووحدة الأرض, ووحدة اللغة, ووحدة الثقافة, ووحدة التاريخ, ووحدة المصالح... تلك التي يقول علم الاجتماع الجاهلي إنها هي التي تنشئ "الأمة". ولكن الأمة مع ذلك لم تنشأ رغم مرور الزمن المديد علي هذا الشتيت المتناثر وهو يحمل تلك المقومات. بل كانوا قبائل متناحرة تأكلها الحروب والثارات, وتأكلها قبل كل شئ جاهليتها التي تعيش فيها مجافية للهدي الرباني.
ومن هناك رفعها الإسلام, لا أفرادا ولا قبائل, ولكن "أمة" هي أعظم أمة في التاريخ بشهادة الله مخرجها إلي الوجود: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110].
فمن أي شئ تكونت هذه الأمة الفذة, وما العوامل التي أثرت في تكوينها ونشأتها؟.(2/80)
لا شك أن خامتها هي ذات الخامة التي كانت تعيش في ذات الأرض قبل هذا الحدث العظيم لعدة قرون. ولكن شيئاً ما -فعله كفعل السحر- قد أنشأ من هذه الخامة في سنوات قليلة نسيجاً غير مسبوق لا ملحوق...
فما هو يا تري ذلك الشيء العجيب التأثير, الذي أخرج ذلك النسيج الفذ من تلك الخامة التي ظلت لقًي مهملاً عدة قرون؟!.
لا شك -بادئ ذي بدء- أنه القرآن... ذلك الكتاب العظيم الذي نزل ليعيد بناء البشرية علي هدي الوحي الرباني:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [سورة الإسراء 17/9].
{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [سورة الزخرف 43/4].
ماذا يفعل القرآن في النفوس؟ هل يغير خامتها فيخرجها من بشريتها لتكون خلقاً آخر؟ كلا! فقد نزل للبشر, لا ليبدل فطرتهم, بل ليعيدهم إلي فطرتهم التي فطرهم الله عليها يوم خلق الإنسان {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [سورة التين 95/4].
{ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)} [سورة الروم 30/30].
أرأيت حين تمرر المغنطيس لي قطعة من الحديد, أتراه يغير طبيعتها؟ كلا! ولكنه يعيد ترتيب ذراتها فتصبح شيئاً آخر غير قطعة الحديد المبعثرة الذرات!
تصبح كياناً جديداً له طاقة مغناطيسية كهربائية لم تكن له من قبل! وكذلك يفعل في نفوس البشر هذا الدين المنزل في كتاب الله. إنه يتخلل النفوس البشرية فيعيد ترتيب ذراتها, فتصبح قوي كونية وطاقات, بعد أن كانت مبعثرة من قبل, ضائعة في التيه.(2/81)
فأي شيء في هذا الكتاب العظيم هو مصدر ذلك السر الذي يحول الخامات المبعثرة الضائعة إلي طاقات؟ أهو نسقه اللغوي المعجز؟ أهو قوة بيانه؟ أهو وضوح معاينة؟ أهو حديثه عن اليوم الآخر وما فيه من مشاهد تهتز لها أوتار القلوب؟ أهو تشريعاته وتوجيهاته وتنظيماته؟ أهو قصصه وأمثاله وعبره؟ أهو تذكيره الدائم بعظمة الله جل جلاله وقدرته المعجزة التي لا تحدها حدود؟!.
إنه ولا شك كل ذلك.... فكل حرف في هذا القرآن له دلالته في مكانه, وله جانبه من التأثير.
ولكننا لا نكون مخطئين إن قلنا إن أوسع موضوعات القرآن جميعاً هو موضوع الألوهية.... هو قضية لا إله إلا الله.
إنه يخطر لنا لأول وهلة أن تركيز القرآن -وخاصة في السور المكية- على هذه القضية سببه أن القرآن كان يخاطب بادئ ذي بدء قوماً مشركين, يشركون مع الله آلهة أخري, فكان من المناسب التركيز علي قضية "لا إله ألا الله" لتصبح عقائد أولئك المشركين... ولكن استمرار القرآن في الحديث عن هذه القضية في السور المدنية, وفي الكلام الموجه للمؤمنين خاصة, الذين آمنوا واستقر الإيمان في نفوسهم حتى أنشأوا أمة مسلمة ودولة مسلمة, وجيشاً مسلماً يقاتل في سبيل الله, قاطع الدلالة علي أن القضية لها أهميتها الذاتية, حتى لو كان المخاطبون مؤمنين! فالتركيز عليها ليس ناشئاً من إنكار المخاطبين بهذا القرآن أول مرة, إنما هو ناشئ من أنها هي المفتاح الذي القلوب البشرية للخير, وينشئ فيها الخير, ويربيها علي الخير, ويُنْتجُ منها الخير! وأنه لا يوجد مفتاح لهذه القلوب, يهيئها لما تهيئه لها لا إله إلا الله!.
وحين تكون القلوب منكرة تخاطب بهذه القضية لتتفتح للحق والخير... وحين تكون مؤمنة تخاطب بها كذلك ليتعمق الإيمان فيها ويتجدد, لأنه الزاد الذي لا زاد سواه. انظر إلي هذا التوجيه للمؤمنين:(2/82)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة النساء 4/136].
إنه يقول للذين آمنوا آمنوا وهم مؤمنون بذات الأمر الذي يراد منهم الإيمان به! وذلك لكي يزدادوا إيماناً ويحرصوا علي ما في قلوبهم من الإيمان!.
ولقد فعل الإيمان بـ "لا إله إلا الله" فعله في نفوس أولئك المشركين, فأنشأهم نشأة جديدة كأنها ميلاد جديد.... ثم فعل فعله في نفوسهم بعد أن آمنوا فأصبحوا ذلك الجيل الفريد الذي نزل في وصفه هذا التقرير الرباني: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران 3/110].
نعم... إنها "لا إله إلا الله" مفتاح القلوب, مفتاح الطريق لهذه القلوب حين تتجه الوجهة الصحيحة وتهتدي بنور الله.
ذلك أن الإنسان-كما قلنا في أكثر من موضع- عابد بفطرته.... وإنما يختلف المعبود الذي يتوجه إليه بالعبادة.
وعلي حسب المعبود يكون منهج الحياة....
فحين يكون المعبود هو الله يكون منهج الحياة هو المنهج الرباني المبين فيه الحلال والحرام, والحسن والقبيح, والمباح والغير مباح.... وحين يكون المعبود شيئاً آخر, يكون منهج الحياة هو الذي يمليه ذلك الشيء المعبود, سواء كان هو الهوي صراحة دون مواربة أم كان هو الهوى من وراء أستار وشعارات وعناوين ومن ثم تتعدد الصور في الجاهليات المختلفة وتلتقي في أنها كلها هوي... إن يكن هوي فرد بعينه أو مجموعة أفراد أو هوي كل الناس مجتمعين.... فكلها في النهاية أهواء.(2/83)
والمنهج الرباني هو الذي يُصلح الحياة البشرية والنفس البشرية لأنه منزل من عند اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق ويعلم ما يصلحه وما يصلح له, ومنزل من عند تصرف قد يقع اليوم يحيط علمه بكل شيء فلا تخفي عليه خافية, ولا يغفل عن أثر تصرف قد يقع اليوم ولكن أذره لا يظهر إلا بعد فترة من الزمن لا يستوعبها عمر الفرد؛ ومنزل من عند الحكم العدل الذي لا تميل بعدله الأهواء, الغنّي الذي لا تؤثر في حكمه المصالح الذاتية والحاجات.... وذلك كله فضلا عن أنه هو الله الذي يحق له وحده أن يقرر منهج الحياة للإنسان, لأنه هو خالقه وخالق هذا الكون كله, فبما أنه صاحب الخلق فهو صاحب الأمر: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [سورة الأعراف 7/54].
ولن يستقيم الإنسان للمنهج الرباني حتى يعلم صدقا ويقينا أنه لا إله إلا الله. عندئذ يسلم نفسه لله الواحد الأحد؛ حين يستيقن أنه هو الرزاق ذو القوة المتين, وأنه الضار النافع, وأنه هو المحيي المميت, وأنه هو مدبر أمر الكون كله, وهو صاحب المشيئة النافذة فيه, وأن كل ما عداه لا يملكون شيئاً علي الحقيقة, وكل ما يملكونه في الظاهر يملكونه بمشيئة من الله وبقدر من الله.
عندئذ "يسلم" الإنسان! أي يسلم قيادة لله, فيتقبل قدره ومشيئته, ويتقبل أوامره ونواهيه, ويتقبل منهجه في الحياة.
ثم إن إقامة هذا المنهج في الأرض لا تتم بمجرد رغبة الناس في إقامته, أو إسلام أنفسهم له. فقد سبق في مشيئة الله وقدره ألا يكون الناس أمة واحدة.
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود 11/118-119].(2/84)
فهناك إذن من لا يؤمن بلا إله إلا الله, ومن يكرهها ويحاربها ويحارب أهلها ويقاوم منهجها.... ومن ثم تحتاج إقامة هذا المنهج في الأرض إلي مجاهدة أولئك الكافرين بلا إله إلا الله, الكارهين لمنهج الله.
والجهاد من أجل إقامة المنهج الرباني في الأرض يعرض الإنسان للأذى, ويعرضه للموت, ويعرضه للحرمات من متاع الأرض.
ويحتاج القلب البشري لكي يدخل معمعة الجهاد بشتى أنواعه وشتى مخاطره أن يؤمن مرة أخري أنه لا إله إلا الله! وأن الله هو الذي يحيي ويميت, وهو الذي يضر وينفع, وهو الذي يقبض الرزق ويبسط... وإلا تزلزلت قدماه علي الطريق عند أول اهتزازة تحدث في هذا الإيمان!.
لحظة واحدة يهتز فيها الإيمان القلبي الداخلي بأن الله -وحده- هو الذي يحرك الأقدار بمشيئته, وهو الذي يقدر النفع أو الضر أو الحياة أو الموت أو بسط الرزق أو قبضه... تختل الخطي علي الطريق, وينكص صاحبها علي عقبيه, إلا أن يتولاه الله برحمته, فيثبت إيمانه, فتثبت خطاه من جديد!.
ومن أجل ذلك كانت لا إله إلا الله هي الإعداد للجهاد كما كانت من قبل هي مفتاح الإسلام. إسلام القلب لله.
وحتى في السلم... في البحبوحة والراحة... فهناك هذه الثقلة التي تقعد بالقلب البشري عن "الاستقامة" علي الطريق.... ثقلة الشهوات المزينة المحببة للناس: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة آل 3/14].
ولن يصمد القلب البشري لهذه الثقلة, بكل ما تحمله من إغراء وجذب, إلا أن يؤمن إيمان اليقين أنه لا إله إلا الله, وأن هذه الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف.(2/85)
الإيمان بالله -حين يعمر القلب البشري- يبعث فيه الخشية والتقوى التي تؤهله لطاعة الله فيما يأمره به وينهاه عنه. والإيمان بأن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف, وأن هناك بعثاً ونشوراً, وحساباً وجزاءً, ونعيماً وعذاباً, هو الذي يغير موازين الحياة كلها, وقيمها ومستوياتها, فلا يعود المتاع الحسي هو غاية الحياة, ولا يعود الاستغراق فيه هو الشغل الشاغل ولا اللهم المقعد المقيم, كما يكون الحال في الجاهليات, حين يؤمن الإنسان أن الحياة فرصة واحدة محدودة بجدود العمر القصير, وكل يوم ينقضي لا يعود.... فتكون الحكمة "الواقعية" حينئذ أن ينتهب أكبر قدر من اللذات في هذا العمر المحدود قبل أن تفوت إلي غير رجعة! ولا يكون للحلال والحرام عنده يومئذ معني, إنما يكون اهتبال الفرص المتاحة هو الغاية التي تسوق الناس سوقاً فيتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام!.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [سورة محمد 47/12].
أما حين يؤمن بالبعث والجزاء, والنعيم المقيم والعذاب الفظيع المتجدد:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [سورة النساء 4/56-57].(2/86)
عندئذ يسهل عليه أن ينضبط في الحدود التي رسمها الله دون أن يشعر بالحرمان, لأنه يعلم أن كل متاع زائد يشتهيه في الأرض ثم يمتنع عنه طاعة لله, لن "يضيع" ولن يذهب بغير عودة, إنما هو "طاعة" تحسب له في الميزان, فينال عليها نعيماً خالداً في الجنان.... فتكون الحسبة بذلك رابحة, ولا تذهب نفسه حسرات علي المتاع الفائت الذي تركه طاعة لله. ومن جهة أخري فإن تصور العذاب الفظيع جزاء علي المخالفة التي يهم بها انسياقاً وراء شهواته, يجعله يري أن الامتناع عنها هو الصفقة الرابحة, وليس الانغماس فيها بلا انضباط علي طريقة الحيوان... ومن هنا تتأكد التقوى والخشية التي يبعثها الإيمان بالله.
من أجل ذلك كان الكتاب الذي يرسم منهج الحياة للناس في الأرض مرتكزاً كله علي الإيمان بالله واليوم الآخر, وكانت التوجيهات والتشريعات والتنظيمات الواردة في الكتاب, كلها موصولة بالإيمان بالله واليوم الآخر, أعظم محورين يدور حولهما الكتاب.
وليس هنا مجال تفصيل الموضوعات الواردة في كتاب الله وأثرها في بناء النفس البشرية, فقد تحدثت عن ذلك في غير هذا الكتاب ولكني أذكر هذه النبذة السريعة فقط في مجال بيان العوامل التي أنشأت ذلك الجيل المتفرد علي غير مثال, لأقرر أن القرآن بما يحويه من إشارات وتوجيهات, وتنظيمات وتشريعات, كان العامل الأكبر والأعظم في بناء النفوس المتفردة في التاريخ.
وحين نذكر القرآن نذكر السنة بلا شك, فهي المكملة والشارحة للكتاب المنزل, هي بيان ما أنزل الله وتفصيله:
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل 16/44].(2/87)
وموضوعات السنة هي موضوعات القرآن مع اختلاف النسبة بينهما. فلئن كان القرآن قد توسع في شرح قضية الألوهية من جميع أبعادها وأقطارها, ودخل بها إلي النفس البشرية من جميع مداخلها, من الحب والكره والخوف والرجاء والحسي والمعنوي والإيمان بالمحسوس والإيمان بالغيب.....( ) وخاطب النفس في جميع أحوالها, في الإقبال أحوالها, في الإقبال والإدبار, في رغبة والرهبة, في الارتفاع والهبوط, في السكون والحركة, في الطمأنينة والفزع, في الرخاء والشدة, في الوحدة وفي التجمع.
لئن كان القرآن قد توسع في هذه القضية ذلك التوسع فقد أجملت السنة, وإن كانت قد جاءت بما لا غناء عنه في تحديد المفاهيم الإيمانية, وتمييز الناس علي أساسها في الحياة الدنيا, والأحكام المتعلقة بذلك في المجتمع الإسلامي, ولئن كان القرآن قد أجمل في كثير من مواضع التشريع, فقد توسعت السنة وفصلت حتى أنت بالدقائق التي توضح للناس حلالهم وحرامهم في شتي تعاملاتهم.
ولئن كان القرآن قد توسع في ذكر اليوم الآخر بمشاهده الأخاذة فقد توسعت السنة مقابل ذلك فيما يعرف بالترغيب والترهيب, أي الترغيب في الأعمال التي تقرب الإنسان من الجنة, والترهيب من الأعمال التي تعرض الإنسان للنار.
وهكذا حين نتحدث عن أثر القرآن في إنشاء ذلك الجيل المتفرد نتحدث عن السنة في ذات الوقت. ولكنا نريد أن نضيف عنصراً آخر شديد التأثير في رفع نفوس الناس في ذلك الجيل إلي أقصي طاقاتها, والاستواء بها علي تلك القمم السامقة التي وصلت إليها, ذلك هو وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بشخصه الكريم بين ظهرانيهم. فلا شك أن كان لهذا الوجود أثره الكبير في الوفرة الملحوظة في النماذج السامقة من بين أولئك المحيطين بالرسول صلى الله عليه وسلم , مع ارتفاع القمم التي وصلوا إليها, ذلك الارتفاع الشاهق الذي عجزت عنه البشرية في شتي أجيالها.(2/88)
لقد كان التأثير المباشر لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ذا أثر بالغ في بناء تلك النفوس التي أحاطت به, وأحبته, وتربت علي عينه صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه ومحبيه أثر غير مكرر في التاريخ, ولا عجب في ذلك فإنها شخصية غير مكررة في التاريخ!.
إنها أكمل شخصية وأعظم شخصية في الوجود البشري كله من بدائه إلي منتهاه.
وليس هنا مجال التفصيل في شرح هذه العظمة الفائقة. فهي شخصية تحوي داخلها شخصيات, وعظمة تحوي داخلها عظمات, لو أصاب أي إنسان واحدة منها لَعُدّ من عظماء التاريخ, فكيف بها مجتمعة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم علي سموق متفرد في كل واحدة منها؟ شخصية المربي, شخصية القائد السياسي, شخصية القائد العسكري, شخصية العابد الروحاني, شخصية الزوج, شخصية الأب, شخصية الصاحب, شخصية الداعية... ثم كيف بها مجتمعة علي توازن بينها لا يجعل واحدة منها تطغي علي الأخرى, وعلي شمول وترابط لا يجعل واحدة منها تنفصل وتستقل عن الأخريات؟. عظمة فذة في التاريخ, وتأثيرها كذلك في التاريخ.
وصف أبو سفيان -قبل إسلامه- جانباً من جوانب هذه العظمة, وجانباً من عمق تأثيرها فقال: "ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً".
وهو وصف صادق دقيق. فهي شخصية أخاذة من أحبها تعمق في حبها إلي أقصي الغاية (وكذلك من انطمست بصيرته فأبغضها لم يستطع أن يقف في بغضها عند حد!).
والذين أحبوه والتصقوا به وعايشوه عن قرب, قد تأثروا به ولا شك أعمق التأثير, فاستطاعوا أن ينهلوا من معين القرآن أكثر, وأن يكون استواؤهم علي القمة السامقة أيسر. ذلك أن القرآن معني لا نضب, ولكنه يعطي كل إنسان علي قدر سعة الإناء الذي يغترف به. يحين تتسع القلوب وشف الأرواح بمصاحبة ذلك الروح العظيم, تكون قدرتها علي تشرب روح القرآن أكبر, وقدرتها علي صحبة القرآن والعمل به أوسع وأعمق.(2/89)
عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِىِّ قَالَ - وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ - لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " وَمَا ذَاكَ ". قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ". ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.رواه مسلم (2750)(2/90)
وليس معني هذا أن تأثير صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينتهي حين يخرجون من عنده, فمثل هذا التأثير لا يمكن أن يزول. إنما يدل تصريح الصحابة رضوان الله عليهم علي عمق أثر الصحبة المباشرة في نفوسهم, حتى ليحسون أنهم يصبحون خلقاً آخر غير ما يعهدون من أنفسهم.... وفي حالق إن الإشعاع الذي يتلقونه من الروح العظيم المشع يجعل أرواحهم شفافة رفافة محلقة, كما يشعر السابح بخفة جسمه وهو محمول علي الماء... فإذا خرجوا إلي واقع الحياة اليومي خف ذلك الإشعاع الذي امتلأت به أرواحهم, فأحسوا بالفرق بين حالتهم في صحبته صلى الله عليه وسلم وحالتهم في معتاد حياتهم. ولكن واقع التاريخ يقول إن الشحنة لم تذهب أبداً من أروحهم, وإن إحساسهم بالتغيّر بعد الخروج من عنده صلى الله عليه وسلم إن هو إلا شوق إلي مزيد من القدرة علي التحليق, ولكنه ليس فقداناً لتلك القدرة علي الإطلاق, فقد ظلوا يحلّقون ويحلّقون ويحلّقون, علي آفاق لا عهد للبشرية بها من قبل.
ولسنا نقول مع ذلك إن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بشخصه شرط لإقامة هذا الدين في الأرض! فلو علم الله أن هذا شرط لا يقوم الإسلام في الأرض إلا به ما كلف سبحانه وتعالي الناس أن يقيموا الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهو لا يكلف نفساً إلا وسعها.
إنما نقول إن شخص الرسول صلى الله عليه وسلم حاضر بسيرته وحاضر بسنته إلي الدرجة التي يقوم بها الإسلام في الأرض كاملاً غير منقوص. ولكنا نحاول فقط أن نفسر واقعنا حدث بالفعل, هو الوفرة الملحوظة في النماذج الفائقة من بين المحيطين بالرسول صلى الله عليه وسلم , وفرة لم تتكرر في التاريخ من بعد, وإن كانت لم تنقطع في صورة أفراد متناثرين من كل جيل يزخر بهم تاريخ الإسلام في الماضي وما زال يزخر إلي هذه اللحظة.
عنصر ثالث لا يمكن إغفال أثره في نشأة ذلك الجيل المتفرد, هو أثر النشأة الجديدة.(2/91)
إن كل نشأة جديدة تكون أنشط وأكثر حيوية وأكثر فاعلية من الأجيال السابقة.
وهذا مر له ما يفسره من طبيعة النفس البشرية, بل من طبيعة الكون المادي نفسه! فغاز الأوكسجين المحضر حديثاً في المعمل تكون له فاعلية (في المساعدة علي الإشعال) أكبر من الأوكسجين الموجود في الجو, مع أنه يماثله مماثلة تامة في التركيب!! كذلك النفوس التي تبدأ عهداً جديداً أو تشهد إنشاء جديداً تكون أكثر حيوية وأكثر فاعلية من غيرها من النفوس. ويمكن تفسير ذلك من ناحيتين:
الأولي: إن النشأة الجديدة - وخاصة علي النحو الذي صنعه الإسلام - تعيد تركيب النفوس علي صورة جديدة فتصبح نفوساً جديدة بالفعل, مذخورة الطاقة حادة الفاعلية كذلك الأوكسجين المحضّر لتوه في المعمل.
والثانية: أن التحديات التي يتلقاها جيل النشأة الجديدة هي أعنف التحديات وأشقها وأقساها.
ومن شأن التحديات دائماً أن تشحذ النفوس الحية وتستخلص منها أقصى طاقتها. فإذا اجتمع الأمران معا: جدة النفوس, وعنف التحديات فنستطيع أن نتصور الفاعلية الهائلة التي تكون لتلك النفوس, وهي تعمل في واقع الحياة.
يضاف إلي ذلك أن أصحاب النشأة الجديدة هم من ناحية أقدر الناس علي تقدير النعمة الجديدة حق قدرها, فقد عايشوا الجاهلية من قبل ثم انتقلوا إلي الإسلام, فأدركوا -بالممارسة الواقعة- عظم النقلة التي انتقلوها من الجاهلية إلي الإسلام, كما قال عمر رضي الله عنه : "لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية"! أي لا يقدره قدره إلا من أدرك الفارق بينه وبين الجاهلية... وهم من ناحية أخري أحرص الناس علي المحافظة علي البناء الجديد سليماً من كل نقص يعتوره, فقد بنوه لبنة لبنة, وتعبوا في بنائه وعانوا المشققات, وظلوا يرقبون ارتفاعه يوماً بعد يوم حتى استوي علي أكمل صورة, فهم لا يطيقون أن يعبث به عابث, أو ينقص من رونقه منتقص, فقد اختلط بأعماق مشاعرهم فأصبح منهم وأصبحوا منه, واصحبوا يحسون وجودهم في وجوده.(2/92)
وكذلك كان ذلك الجيل الفريد حريصاً علي الإسلام, حريصاً علي أن يظل البناء الذي شيدوه تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وإشرافه سليما من كل نقص.
ولسنا نقول مع ذلك إن هذا شرط لازم لإقامة دين الله في الأرض... فلوعلم الله أنه شرط لازم ما كلف الناس فيما بعد جيل النشأة أن يقيموا هذا الدين!
ولكنا نحاول فقط أن نفسر ذلك الواقع التاريخي الذي تفرد في التاريخ.
وهذا يجرنا إلي سؤال نري من الضروري تحديد الإجابة عليه, لأنه يحيك في صدور بعض الناس حين ينظرون إلي ذلك الجيل المتفرد ثم ينظرون غلي ما بعده من الأجيال فيقول قائل منهم: إن الإسلام لم يعش ألا فترة قصيرة هي فترة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ثم انتهي بعد ذلك! ويجئ خبثاء المستشرقين وحواريوهم فيؤكدون علي هذا المعني لحدثوا في نفوس الناس يأساً من عودة الإسلام إلي حكم الحياة الواقعة كما حكمها من قبل.
إذا كان هذا الجيل المتفرد غير قابل للتكرار -أو هو علي الأقل لم يتكرر حتى اللحظة الحاضرة- فما قيمته؟ ما دوره بالنسبة للإسلام والمسلمين؟ أليكون مجرد ذكري لشئ لا يمكن أن يعود؟.
وإذا كانت هناك ظروف خاصة أحاطت بنشأة ذلك الجيل غير قابلة للتكرار, وكان لها أثر عميق في نشأته, كوجود الرسول صلى الله عليه وسلم بشخصه الكريم بين ظهرانيهم, وتأثير النشأة الجدية في نفوس الجيل الذي عاصر تلك النشأة, فأنّي يرجى أن تقوم للإسلام صورة في الواقع علي نسق تلك الصورة الأخاذة التي قامت ذات يوم؟!.
وتحتاج الإجابة إلي تحديد واضح.
أي شئ في ذلك الجيل المتفرد هو غير قابل للتكرار, أو علي الأقل لم يتكرر حتى هذه اللحظة؟ أهو الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع, أم هي الدرجة العالية الفذة التي وصل إليها ذلك الجيل في تحقيق تلك الخصائص في عالم الواقع؟!!.(2/93)
وتلك الظروف الخاصة التي أحاطت بنشأة ذلك الجيل ونقول إنها غير قابلة للتكرار.... ما دورها بالضبط؟ هل كان مجال تأثيرها هو إنشاء تلك الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع, أم هو في تلك الدرجة العالية الفذة التي وصل إليها ذلك الجيل في تحقيق تلك الخصائص في عالم الواقع.
أحسب أن القضية الآن أصبحت واضحة.
إن الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع مستمدة بكاملها من القرآن والسنة, أي: من العنصرين الدائمين في حياة المسلمين, المحفوظين بقدر الله ومشيئته.
فقد تكفل الله بحفظ كتابه المنزل, بينما ضاعت الكتب السابقة وحرّّفت: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [سورة الحجر 15/9].
كما تكفل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم , بينما لم يبق من سنن الأنبياء السابقين إلا ما حفظه القرآن وحفظته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي هذين المصدرين كل "المواد" اللازمة لبناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة المسلمة والدولة المسلمة في أي عصر من عصور التاريخ يرغب المسلمون في البناء, ويعزمون علي بذل الجهد اللازم له.
أما الذي صنعته الظروف الخاصة فهو تلك الدرجة الفذة في تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي, المستمدة كلها من الكتاب والسنة.... وتلك الدرجة -لا الخصائص الرئيسية- هي التي لم تتكرر في التاريخ.
وتبقي الإجابة علي الشق الآخر من السؤال: إذا كانت تلك الدرجة التي تحققت بالفعل ذات يوم غير قابلة للتحقيق مرة أخري, لأنها نشأت من ظروف خاصة غير قابلة للتكرار, فما قيمتها في حياة الإسلام والمسلمين. أهي وجدت فقط لتظل حلما مهوّماً يعرّّج عليه من أجل حلاوة الذكري ليس غير؟!.(2/94)
كلا! إنها وجدت -بقدر من الله- لتظل نموذجاً يشد المسلمين إليه ليحاولوا تحقيقه في عالم الواقع.... وحين يحاولون فإنهم يرتفعون بالفعل, حتي وإن لم يصلوا -في مجموعهم- إلي ذات الدرجة التي وصل إليها هؤلاء؛ وإن كان التاريخ المشهود يقول إن أفراداً من كل جيل يصلون بالفعل إلي ذلك المستوي السامق الرفيع, أولئك الذين نتوهج قلوبهم بنور الإسلام فيستطيعون أن يقبسوا من شخصية الرسول وأحداث حيات مثل ما كان يقتبس الصحابة رضوان الله عليهم بالمعايشة المباشرة, وان يحسوا --في أعماق نفوسهم- بالنشأة الجديدة علي نحو ما أحس الذين عاشوها أول مرة... فينهلوا من الكتاب والسنة بمثل العمق الذي كان ينهل به الصحابة الكرام, ويحققوا في ذوات أنفسهم ما كانوا يحققون.
هؤلاء قلة في كل جيل -نعم- بينما كانوا كثرة ملحوظة في المحيطين برسول الله صلى الله عليه وسلم ... ولكن مجموع المسلمين -حين يحاولون- يرتفعون درجات من الارتفاع, حتى ولو لم يصلوا لذلك المستوي الرفيع, لأن المحاولة ذاتها توجه الناس إلي أعلي, بينما القعود يهبط بهم إلي أسفل, بحكم الثقلة التي تجذب الناس أبداً إلي أسفل ما لم يحاولوا الارتفاع: { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر 103/1-3].
من هنا يظل لذلك الجيل المتفرد دوره في حياة الإسلام والمسلمين.(2/95)
فوجود هذا النموذج الفذ في عالم الواقع, حقيقةً واقعةً, لا حلماً ولا خيالاً ولا شعارات, يظل يحفز الراغبين في تحقيق الإسلام لتحويل الرغبة إلي واقع, وبذل أقصي الجهد في هذا السبيل... وحين يحققون الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي في عالم الواقع, فلا عليهم بعد ذلك إن لم يصلوا إلي الدرجة الفذة التي وصل غليها الجيل الأول, فإن مجرد تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي -ولو في حدا الأدنى- هو قفزة هائلة إلي أعلي بالنسبة لكل جاهليات التاريخ, بما فيها الجاهلية المعاصرة, بل في مقدمتها الجاهلية المعاصرة! وتبقي الدرجات العليا مجالاً للتفاضل, ومجالاً للتطوع النبيل, لا تكلف نفس إلا وسعها, يبلغ منها كل إنسان بقدر ما يطيق, فتصل قلة قليلة إلي المستوي, ويقترب الباقون خطوات.
نعم, إن وجود هذا الجيل المتفرد واقعاً في التاريخ, لم يكن -في قدر الله- لمجرد أن يكون ذكري حلوة تشع نسماتها علي القلوب ساعة ثم تتبدد... بل ليكون واقعاً يتجدد.
فقد طلب الله من المسلمين في كتابه الباقي إلي يوم يرث الله الأرض ومن عليها أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم , وأن يقتفوا أثر ذلك الجيل الفريد ويصلوا أنفسهم به:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)} [سورة الأحزاب 33/21].(2/96)
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [سورة الحشر 59/9-10].
بل نقول أكثر من ذلك....
نقول إن حركة البعث الإسلامي المعاصرة هي أقرب الحركات أن تتمثل فيها خصائص ذلك الجيل المتفرد, إن لم يكن علي ذات الدرجة من الوفرة وذات الدرجة من التمكن, فعلي درجات قريبة منها علي أي حال.
ذلك أن الإسلام اليوم يعيش غربته الثانية التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ, فطوبى للغرباء" ( ).(2/97)
فإن لم تكن الغربة الثانية مطابقة تمام المطابقة للغربة الأولي في جميع حيثياتها فإنها ولا شك تشبهها في أمور كثيرة جوهرية, أهمها أن منهج الله ليس هو الذي يحكم حياة الناس, وأن الأمر يحتاج إلي دعوة الناس من جديد إلي الإسلام, لا لأنهم -في هذه المرة- يرفضون أن ينطقوا بأفواههم لا إله إلا الله محمد رسول الله كما كان الناس يرفضون نطقها في الغرة الأولي, ولكن لأنهم في هذه المرة يرفضون المقتضي الرئيسي لـ "لا إله إلا الله",وهو تحيكم شريعة الله والامتثال لمنهج الله, وإن كان ألف مليون من البشر من المحيط إلي المحيط ينطقون بأفواههم كل يوم: لا إله إلا الله محمد رسول الله! وهذه هي حقيقة "الغربة" التي يعانيها الإسلام اليوم في الأرض, رغم ملايين المصاحف التي تطبع, ومئات المحطات الإذاعية والتلفزيونية التي ترتل القرآن ن وتذيعه علي الناس, وتشرحه -في الأحاديث والدروس الدينية- لمن شاء من الناس الاستماع!.
وفي الغربة تكون الحركة إنشاء جديداً أكثر مما تكون مجرد إصلاح لما هو قائم بالفعل في نفوس الناس.
إن هذا الغثاء الذي يعيش بالملايين اليوم, والذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ". فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ " بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ". فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ " حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ".أخرجه أبو داود برقم(4299) وهو صحيح(2/98)
هذا الغثاء لا يحتاج إلي مجرد وعظه وإرشاده, وتقديم حقائق الإسلام إليه في الدروس الدينية سواء في المسجد أو الإذاعة أو الكتاب أو المحاضرة, إنما يحتاج إلي انتشاله في الجاهلية التي تحيطه وتضغط علي حسه بثقل "الأمر الواقع" وتنشئته نشأة جديدة علي حقائق الإسلام, ليعيشه بالفعل, لا "ليتحدث" عنه أو "يفكر" فيه أو "يعجب" به أو "يتمناه" وهو قاعد عن العمل لتحقيقه.
والذي تقوم به حركات البعث الإسلامي اليوم هو هذا في حقيقته. هو نشأة جديدة في وسط الغربة. ومن ثم يتحقق لهذه الحركات عنصر من العنصرين الخاصين اللذين أسهما في صنع الجيل الأول, ولم يتكررا خلال ثلاثة عشر قرناً من قبل, ويكون لهذا العنصر فاعليته الكاملة في نفوس الذين يعيشون هذه الحركات, ويجاهدون لإزالة الغربة الثانية كما جاهدت الجماعة الأولي من قبل لإزالة الغربة الأولي للإسلام.
أما العنصر الآخر وهو حضور الرسول صلى الله عليه وسلم بشخصه الكريم بين ظهراني الناس فهو بطبيعته لا يتكرر أبداً إلي قيام الساعة. ولكنا نستطيع أن نزعم أن الذين يعيشون "النشأة الجديدة" بالعمق الحقيقي الذي تحدثه في النفوس, ولا تفتنهم جزئيات من حقائق الإسلام فتشغلهم عن جوهره, ولا عن حقيقة المعركة التي يخوضها "الغرباء" في الأرض, لإعادة هذا الدين إلي التمكن وحكم حياة الناس الواقعة من جديد... هؤلاء يتوهج الحق في قلوبهم إلي الحد الذي يعيشون فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -في سيرته وسنته- كأنهم يعايشونه ويتلقون عنه من قرب كذلك الجيل الأول المتفرد, وتكون هذه المعايشة -من خلال السيرة والسنة- كفيلة برفعهم غلي تلك الآفاق السامقة التي ارتادها الجيل الأول بجهد أيسر, وهم يتلقون الرفعة من الأثر المباشر لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم .(2/99)
وخلاصة القول -كما أسلفنا- أن حركة البعث الإسلامي المعاصرة هي أقرب الحركات أن تتمثل فيها خصائص ذلك الجيل المتفرد, إن لم تكن بنفس الوفرة وبنفس الدرجة من الرفعة, فعلي درجات قريبة منها علي أي حال. وإنها لتقدم بالفعل نماذج ترتفع إلي ذلك المستوي, وتذكّر الناس به من جديد, سواء فقي التجرد لله, أو صدق الجهاد في سبيل الله, أو التقدم للشهادة بنفس راضية مستعلية علي كل متاع الأرض, متطلعة إلي ما عند الله, أو الثبات علي العذاب الذي لا تطيقه الأبدان ولا النفوس.
والخلاصة مرة أخري أن ذلك الجيل المتفرد, الذي تمثلت في واقعية الإسلام ومثاليته, لم يوجد ليكون مجرد ذكري, وإنما وجد ليحاول المسلمون في كل الأجيال أن يصعدوا لمستواه, فإن حاولوا فقد ارتفعوا ونجوا من الهبوط, سواء وصلوا -في مجموعهم- إلي ذلك المستوي الرفيع أم لم يستطيعوا الوصول.
والخلاصة مرة ثالثة أن الذي تفرد به ذلك الجيل لم يكن هو الخصائص الأساسية للوجود الإسلامي, فهذه مطلوبة من كل جيل, وممكنة في كل جيل, ولازمة لإقامة الوجود الإسلامي الصحيح في الأرض, والناس محاسبون إن قصروا في أدائها, ويعتبرون آثمين في حق الله وحق أنفسهم إن قصروا فيها, ويتوقف وجودهم وثقلهم في الأرض علي القيام بها في صورتها الصحيحة.
إنما الذي تفرد به ذلك الجيل هو الدرجة العجيبة التي قاموا فيها بتحقيق هذه الخصائص في عالم الواقع, بعد قيامهم بتحقيقها في ذوات أنفسهم. وهذه درجة لم يفرضها الله فرضاً علي الناس, إنما فرض عليهم الحد الأدنى الذي لا تستقيم الحياة بدونه, وترك الدرجات العلا للتطوع النبيل, الذي تقدر عليه النفوس حين تتربي التربية الصحيحة علي الإسلام, وتستضئ بنور الحق, وتعبد الله كأنها تراه وتقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم كأنها تعايشه.(2/100)
وحين يتحقق للناس الحد الأدنى من هذا الدين, تستقيم الحياة علي صورة تعجز عنها أي جاهلية من جاهليات التاريخ, وفي مقدمتها الجاهلية المعاصرة....
أما حين يتحقق ما فوق ذلك فهذا هو الفردوس الأرضي الذي تحقق ذات مرة علي يد ذلك الجيل المتفرد, والذي سيظل أملاً جميلاً يحاول المسلمون تحقيقه في أي قرن من القرون!!
98 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ
رواه الحاكم في المستدرك برقم ( 7617) وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وهو كما قال
99 -قلت : قد بنوا قبرا موهوما لأبي لؤلؤة المجوسي ، ويزورونه ، ويتبركون به ، ويطوفون حوله ، وهذا يبين عقيدة القوم بشكل جليٍّ ، وأنهم ليسوا على شيء ، بل هم ألدَّ أعداء الإسلام على الإطلاق ، وشر ِّخلق الله تعالى قاطبة ً، ولا يغتر بهم أو يمدحهم إلا مارقٌ منَ الدين ضالٌّ مضِلٌّ أو جاهل غبي أحمق
100 - الأرحاء جمع رحى وهي الطاحون اليدوية من أجل طحن القمح والشعير
101 -أخرجه البخاري برقم(3120و 3027 و 3618 و 6630 ) ومسلم (2919)
102 - وفي العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - (ج 1 / ص 74)(2/101)
لقد كان المجتمع الإسلامي ـ بتوجيه هذين الخليفتين ـ أسعد مجتمع إنساني عرفه التاريخ، لأن الناس ـ من ولاة ورعية، كانوا يتعاملون بالإيثار، وكان الواحد منهم يكتفي بما يفي بحاجته، ويبذل من ذات نفسه أقصى ما يستطيع أن يستخرج منها من جهد لإقامة الحق في الأرض وتعميم الخير بين الناس . ويلقى الرجل الخير منهم رجلا لا تزال تنزع به نزعات الشر، فلا يزال به حتى يخدر عناصر الشر المتوثبة في نفسه، ويوقظ ما كمن فيها من عناصر الخير إلى أن يكون من أهل الخير المنتسبين إلى الإسلام، ولا تزال حتى يومنا هذا طوائف امتلأت قلوبهم بالضغن حتى على أبي بكر وعمر، فضلا عمن استعان بهم أبو بكر وعمر من أهل الفضل والإحسان، فصنعوا لهم من الأخبار الكاذبة شخصيات أخرى غير شخصياتهم التي كانوا عليها في نفس الأمر، ليقنعوا أنفسهم بأنهم إنما أبغضوا أناسا يستحقون منهم هذه البغضاء . ولهذا امتلأ التاريخ الإسلامي بالأكاذيب، ولن تتجدد للمسلمين نهضة إلا إذا عرفوا سلفهم على حقيقته واتخذوا منه قدوة لهم ولن يعرفوا سلفهم على حقيقته إلا بتطهير التاريخ الإسلامي مما لصق به .
103 - وفي البداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 14 / ص 230) :
السلطان الأعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم، ينتسبون إليه ومن عظم القان إنما يريد هذا الملك وهو الذي وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب والظاهر أنه مجهول النسب.
وقد رأيت مجلداً جمعه الوزير ببغداد علاء الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته، وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب.(2/102)
فذكر أنه كان في ابتداء أمره خصيصاً عند الملك أزبك خان، وكان إذ ذاك شاباً حسناً وكان اسمه أولاً تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان.
وكان هذا الملك قد قربه وأدناه فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه، ولم يقتله ولم يجد له طريقاً في ذنب يتسلط عليه به، فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله، فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار وصار كثير من أصحاب أزبك خان ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده.
ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه، وانضاف إليه عَدده وعُدده وعظم أمره.
وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمعاج كلها حتى صار يركب في نحو ثمان مائة ألف مقاتل، وأكثر القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم: قيان.
ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر والباقي للحرب والحكم.
قال الجويني: وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شيء كثير لا يحد كثرة، ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك والأقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه وسلبه، واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة كما ذكرنا ذلك في الحوادث.
وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة، ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة كما ذكرنا، فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا ممانع. (ج/ص: 13/139)
وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة، فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك.(2/103)
وأما كتابه (الياسا) فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً ثم ينزل ثم يصعد ثم ينزل مراراً حتى يعي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقي على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها.
وذكر الجويني: أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلاً يقول له: إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض، قال الجويني: فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلماً.
ثم ذكر الجويني نتفاً من (الياسا) من ذلك: أنه من زنا قتل محصناً كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هارباً ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحد شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً، ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل.
ومن ذبح حيواناً ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً.
وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (الياسا) وقدمها عليه ؟
من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. [المائدة: 50](2/104)
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} صدق الله العظيم، [النساء: 65].
104 - قلت : وهذا ما يفعلونه في العراق بأهل السنة والجماعة ، فالذين قتلوا على يد العصابات الرافضية وأمر من مراجعهم الشيطانية أكثر من الذين قتلوا على يدي الأمريكان الصليبيين وأعوانهم من الكفار ، وهم يفعلون بأهل السنة الأفاعيل ، وهذا آخر تصريح لأحد شياطينهم
مفكرة الإسلام [خاص]: جدّد 'مقتدى الصدر' زعيم ما يعرف بجيش المهدي تهديداته باستئصال أهل السنة، وهو التهديد الثاني له خلال أقل من شهرين.
وأفاد مراسل 'مفكرة الإسلام' في مدينة النجف جنوب العاصمة العراقية بغداد أن الصدر التقى اليوم الأحد بعدد مما يعرفون بقادة جيش المهدي في بغداد, وحثهم على العمل على استئصال 'الإرهاب' وقتل النواصب الوهابية في العاصمة.
وأصدر مكتب الصدر في النجف بيانًا تضمن ما تمخض عنه الاجتماع؛ حيث ذكر ما نصه: 'أيها الممهدون، يا أتباع أهل البيت, لا تأخذكم في النواصب الوهابية التكفيرية البعثيين والصداميين رحمة, اضربوهم وضيقوا عليهم كي يتخلص عراق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمثالهم'.
وأضاف الصدر في بيانه: إن تمكن أبناء محمد عبد الوهاب 'لعنه الله' - على حد قوله - من السيطرة على بغداد يعني انتهاء الإسلام والإيمان منها, وأنتم أيها المؤمنون شدوا عليهم ولا تدعوا لهم ذكرًا'.
وللتغطية على جرائمه هو وعصاباته الإيرانية قال في آخر كلامه: 'واعطفوا على إخوانكم السنة المسالمين الذين لا يناصبون العداء لآل بيت رسول الله, وشدوا على الوهابية التكفيريين الصداميين البعثيين.. حفظ الله العراق وأهله'.(2/105)
وبحسب مراسلنا، فإن التصريح الأخير للصدر يحمل أمرين؛ الأول: قتل أهل السنة، والثاني: بقوله: ضيقوا عليهم, ويعني تهجيرهم من منازلهم بقوة السلاح.
وأوضح مراسلنا في النجف - والذي تمكن من الحصول على نسخة تصريح الصدر الذي نشره مكتبه في الحنانة وسط المدينة-: إن كلام الصدر حمل إعلانًا صريحًا بقتل جميع أهل السنة في بغداد والعراق؛ حيث إن أكثر من 95% من أهل السنة في العراق هم على المذهب السلفي، والذي ينعته الصدر وأمثاله بالوهابية.
وأشار مراسلنا إلى أن الكثير من الحقائق بدأت في الظهور خلال الأيام القليلة الماضية في النجف، منها أن عددًا من قادة جيش المهدي وفيلق بدر يتحدثون صراحةً عما صنعوه تجاه الفدائيين العرب السوريين والأردنيين والمصريين وغيرهم خلال معركة سقوط بغداد عام 2003, حيث كانوا يسلمون المجاهدين العرب الذين قدموا إلى العراق إلى القوات الأمريكية مقابل 10 آلاف دولار أمريكي.
وأوضح مراسلنا أن الحادثة معروفة لجميع أهل السنة, غير أن الجديد فيها هو أنهم بدأوا يعترفون ويتفاخرون بها.
وقد ساهم أهل السنة في بغداد والفلوجة والموصل من الميسورين في شراء عدد كبير من الفدائيين العرب من الشيعة قبل أن يسلموهم إلى الاحتلال ومنهم من انضم للمقاومة العراقية فاستشهد, ومنهم من لا يزال حيًا يقاتل, ومنهم من عاد إلى وطنه.
https://www.tajdeed.org.uk/forums/showthread.php?s=&threadid=44282
105 - هي جزيرة فتحها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين وهي قبالة ساحل الشام لا تبعد عنه كثيرا ، وأعادها الصليبيين أثناء الحروب الصليبية إلى الكفر وقتلوا المسلمين فيها
106 - وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 127)(2/106)
وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد على ذلك فقال: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفؤا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب الكافرين، قال تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم [ ص 128 ] والركون إليهم، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين. قال الله تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاة } (1) أي: تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية. ثم قال تعالى: { ويحذركم الله نفسه } أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير } أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة، ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا، ولما في السماء والأرض عموما، وعن كمال قدرته، ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محلا لكل فكر رديء، بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب، أو سنة من أحاديث رسول الله، أو تصور وبحث في علم ينفعه، أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه، أو نصح لعباد الله.
107 - أخرجه مسلم (49)(2/107)
108 - قال تعالى عن المنافقين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) [آل عمران/118، 119] }
109 - قال تعالى عن المنافقين : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) [محمد/30، 31] }
110 - قال تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) [المنافقون/8، 9] }
111 - رواه مسلم (2638)
112 - روه الطبراني في الكبير (8827) وهو صحيح والإخوان برقم(38) ورواه ابن بطة في الإبانة (381 و501 و502) ولفظه عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ , فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يُخَادِنُ إِلَّا مَنْ يُعْجِبُهُ *
عَنْ هُبَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ , فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُخَادِنُ إِلَّا مَنْ يُعْجِبُهُ نَحْوُهُ " *
عَنْ هُبَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ , الْمُسْلِمُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ , وَالْفَاجِرُ يَتْبَعُ الْفَاجِرَ
113 - رواه البخاري (34) ومسلم( 58)(2/108)
114 - أخرجه البخاري (33) ومسلم ( 59)
115 - برقم (59)
116 - وفي كتاب طريق الهجرتين للعلامة ابن القيم رحمه الله :
الطبقة الخامسة عشرة: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله [ورسوله]. وهؤلاء المنافقون، وهم فى الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}* [النساء: 145]، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم فى دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا فى الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى فى حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}* [المنافقون: 4]، ومثل هذا اللفظ يقتضى الحصر، أى لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا [حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم بل هذا] من إثبات الأولوية والأحقية لهم فى هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم [لهم] ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعدواة ممن باينهم فى الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإن ضرر هؤلاءِ المخالطين لهم المعاشرين لهم- وهم فى الباطن على خلاف دينهم- أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم ينقضى ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم فى الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْوهُمْ}* [المنافقون: 4]، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدواً من الكفار المجاهرين. ونظير ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكين الطواف الذى ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن(2/109)
المسكين الذى لا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه))، فليس هذا نفياً لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذى لا يسمونه مسكيناً أحق بهذا الاسم من الطواف الذى يسمونه مسكيناً.
ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرعة، ولكن الذى يملك نفسه عند الغضب))، ليس نفياً للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأن من يملك نفسه عند الغضب أحق منه بهذا الاسم.
ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون المفلس فيكم))؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: ((المفلس من يأتى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأْتى قد لطم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه فأُلقى فى النار))، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون الرقوب فيكم))؟ قالوا: من لا يولد له؟ قال: ((الرقوب من لم يقدم من ولده شيئاً))، ومنه عندى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الربا فى النسيئة)).
وفى لفظ: ((إنما الربا فى النسيئة)) هو إثبات لأن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل، وليس فيه اسم الربا عن ربا الفضل. فتأمله.(2/110)
والمقصود أن هذه الطبقة أشقى الأشقياءِ، ولهذا يستهزأُ بهم فى الآخرة، وتعطى نوراً يتوسطون به على الصراط ثم يطفيء الله نورهم ويقال لهم: {ارْجَعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً}* [الحديد: 13]، ويضرب بينهم وبين المؤمنين: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قَبْلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِى حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغرَّكُمْ بِاللهِ الغرُورِ}* [الحديد: 13]، وهذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح، حتى إذا ظن أنه ناج ورأى منازل السعداءِ اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة ونعوذ بالله من غضبه وعقابه.
وإنما كانت هذه الطبقة فى الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداءِ عنهم، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين.
ولهذا قال تعالى [فى المنافقين]: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَفْقَهُونَ }* [المنافقين: 3]، وقال تعالى فيهم: {صُم بُكْمُّ عُمِى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}* [البقرة: 18]، وقال تعالى فى الكفار: {صُم بُكْم عُمْى فَهُمْ لا يرْجَعُونَ}* [البقرة: 171]، فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم عمى وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفراً وأخبث قلباً وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل.(2/111)
وفيه معنى آخر أيضاً وهو أن الحامل لهم على النفاق طلب العز والجاه بين الطائفتين فيرضوا المؤمنين ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضاً.
ومن [هاهنا] دخل عليهم البلاءُ، فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين، ولم يكن لهم غرض فى الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وضعوهم وجهتهم إلى الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل وهو أن جعل مستقرهم فى أسفل السافلين تحت الكفار، فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاءِ بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم [من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم فتغلظ كفرهم به، فاستحقوا الدرك الأسفل] من النار ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق فى أول سورة [البقرة: 2-20]فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، وكافر ظاهراً وباطناً، ومؤمن فى الظاهر كافر فى الباطن وهم المنافقون، وذكر فى حق المؤمنين ثلاث آيات 3-5، وفى حق الكفار آيتين 6- 7.
فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية 8- 20 ذمهم فيها غاية الذم وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاءُ المفسدون فى الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون فى اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، فلم يدع ذماً ولا عيباً إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم، وبغضه إياهم، وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه.فظهرت حكمته الباهرة فى تخصص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار.(2/112)
نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته. ومن تأمل ما وصف [الله به المنافقين فى القرآن من صفات الذم علم أنهم أحق بالدرك الأسلف فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده ووصف] قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد فى الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراءِ الضلالة بالهدى والصمم والبكم والعمى والحيرة والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره، والتردد- والتذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذباً وباطلاً وبالكذب وبغاية الجبن، وبعدم الفقه فى الدين وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله واليوم الآخر وبالرب، وبأنهم مضرة على المؤمنين ولا يحصل كلهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال والإسراع بينهم بالشر وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر الله، ومحو الحق، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الإنفاق فى مرضاة الله وسبيله، وبعيب [المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم فيلزمون المتصدقين ويعيبون] مزهدهم، ويرمون [مكثرهم] بالرياءِ إرادة الثناء فى الناس، وأنهم عبيد الدنيا إن أُعطوا منها رضوا وإن [منعو] سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبونه إلى ما برأه الله منه ويعيبونه بما هو من كماله وفضله وأنهم يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ رب العالمين وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكرهون الجهاد فى سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله عليهم بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله، [وأنهم] مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جُنّة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأْن المنافق(2/113)
أحلف الناس بالله كاذباً قد اتخذ يمينه جنة ووقاية يتقى بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس- والرجس من كل جنس أخبثه وأقذره- فهم أخبث بنى آدم وأقذرهم وأرذلهم وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم فى أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم فى كل زمان، وارتابوا فى الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأمانى الباطلة وغرهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجساماً تعجب الرائى أجسامهم،والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسنده، ولا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراءَ ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مغن عنها وعن الطاعات جملة- كحال كثير من الزنادقة-وإما احتقاراً وازدراءً بمن يدعوهم إلى ذلك، ووصفهم سبحانه بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله وبأنهم مجرمون وبأنهم يأْمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق فى مرضاته، ونسيان ذكره،وبأنهم يتولون الكفار ويدعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلاً، وأنهم حزب الشيطان وأنهم يوادون من حاد الله ورسوله وبأنهم يتمنون ما يعنت المؤمنين ويشق عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.(2/114)
ومن صفاتهم التى وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب فى الحديث والخيانة فى الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأْخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ .
ومن صفاتهم التى وصفهم الله بها الشح على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بأَلسنة حداد، فهم أحد الناس أَلسنة عليهم كما قيل:
جهلاً علينا وجبناً عن عدوكم لبئست الخلتان الجهل والجبن
وإنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتهم، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم وظهرت المخبآت وبدت الأسرار.
ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة، [وأمرهم] قلوباً وأعظم الناس [مخالفة] بين أعمالهم وأقوالهم ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقه فى دين أبداً ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم.
ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم فى شيء فإنهم قد أعدوا لكل أَمر مخرجاً منه، بحق أو بباطل بصدق أو بكذب، ولهذا سمى منافقاً أخذاً من نافقاءِ اليربوع- وهو بيت يحفره ويجعل له أسراباً مختلفة- فكلما طلب من سرب خرج من سرب آخر، فلا يتمكن طالبه من حصره فى سرب واحد، قال الشاعر:
ويستخرج اليربوع من نافقائه ومن جحره بالشيحة اليتقصع
فأنت منه [كقبض] على الماءِ، ليس معك منه شيء. ومن صفاتهم كثرة التلون، وسرعة التقلب، وعدم الثبات على حال واحد: بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً وتنقلاً، جيفة بالليل قطرب بالنهار.
ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، قال تعالى:(2/115)
{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَد أمرُوا أَن يَكْفُروا بهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافقِين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْف إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهِمْ ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُم فِى أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}* [النساء: 60-63].
ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاءَ. فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى فى آراءِ الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى.
ومن صفاتهم: كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم: فيرمونهم- إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله- بأنهم أهل فتن مفسدون فى الأرض.
وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون فى الأرض، وإذا دعا ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير [مثوبة] رموهم بالبدع والضلال، وإذا رأوهم زاهدين فى الدنيا راغبين فى الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزوكرة، والتلبيس والمحال. وإذا رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول فى قالبة شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل [ألبسوه] لباس الحق وأخرجوه فى قالبه ليقبل منهم.(2/116)
وجملة أمرهم أنهم فى المسلمين كالزغل فى النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم، وليس على الأديان أضرَّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم، ولهذا جلا الله أمرهم فى القرآن، وأوضح أوصافهم وبين أحوالهم وكرر ذكرهم، لشدة المؤنة على الأُمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى: وعدوهم ومنوهم، ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور.
فكم من قتيل، ولكن فى سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسير لا يرجى له الخلاص وفارّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار من [علقت] به كلاليب كلبهم ومخاليب رأْيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان وقطعت له مقطعات من البلاءِ والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالاً، ويمشى على عقبيه القهقرى إدباراً منه وهو يحسب ذلك إقبالاً.
فهم والله قطاع الطريق، فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء، حذار منهم حذار، هم الجزارون ألسنتهم شفار البلايا. ففراراً منهم أيها الغنم فراراً.
ومن البلية أنهم الأعداءُ حقاً وليس لنا بد من مصاحبتهم، وخلطتهم أعظم الداءِ وليس بد من مخالطتهم قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعداً للمستجيبين، ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترين. نصبوا الشباك ومدوا الأشراك وأذن مؤذنهم: يا شياه الأنعام حى على الهلاك، حى على التباب. فاستبقوا يهرعون إليهم، فأوردوهم حياض العذاب، لا الموارد العذاب.(2/117)
وساموهم من الخسف والبلاءِ أعظم خطة، وقالوا: ادخلوا باب الهوان صاغرين ولا تقولوا حطة، فليس بيوم حطة. [فواعجباً] لمن نجا من شراكهم لا من علق، وأنى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خلق، فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلو بالمحل الذى أحلهم الله من دار الهوان وأن ينزلوا فى أردئ منازل أهل العناد والكفران.
وبحسب إيمان العبد ومعرفته بكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأُمة وسابقوها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة، ناشدتك الله، هل سمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أُزكى بعدك أحداً.
يعنى لا أفتح على هذا الباب فى تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يبرأْ من النفاق غيرك.
وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل.
117 - وقال عبد الله قادري الأهدل في كتابه التكفير والنفاق:
صفات المنافقين وحكمهم
قد يشكل على أهل الغلو في التكفير ما يظهر من قرائن تدل على كفر من يدعي الإسلام، كمن يعارض تطبيق بعض أحكام الشريعة، أو نصر أهل الكفر على أهل الإسلام، أو تثبيط المسلمين عن جهاد أعدائهم الكفار، أو السخرية من علماء المسلمين الذين يدعون إلى تطبيق الإسلام...
والجواب على هذا الإشكال أن من ظهرت منه القرائن التي تدل على كفره كما في الأمثلة السابقة، مع ادعائه أنه باق على الإسلام، هو من أهل النفاق الاعتقادي المخرج من الملة.
وكفرا لمنافقين أعظم وأشد من كفر من صرح بالكفر، لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولكن إظهارهم الإسلام يجعلهم يأخذون أحكام المسلمين في الدنيا، فيصلون صلاتهم ويحجون حجهم ويزكون زكاتهم، ويتزوجون نساء المسلمين، ويتزوج المسلمون نساءهم، ويخرجون للجهاد مع المسلمين، وتقام عليهم الحدود والقصاص، ويقتص لهم من المسلمين...(2/118)
وهذا المعنى واضح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة...
صفات المنافقين في القرآن تدل على كفرهم.
والذي يتابع الآيات التي نزلت في المنافقين، وما جبلوا عليه من ادعاء الإيمان وهم كافرون، وادعاء الإصلاح وهم مفسدون، والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بالصفات التي هم بها متلبسون، وموالاة أعداء الله الكافرين على أوليائه المؤمنين...
الذي يتابع تلك الآيات يتبين خطرهم وتأكيد شدة كفرهم، وهي كثيرة جدا مبثوثة في كثير من سور القرآن الكريم، وبخاصة السور الآتية:
[البقرة ، آل عمران، النساء، الأنفال، التوبة، الأحزاب، محمد، الفتح، الحديد، المنافقون]
وسنقتصر على ذكر بعض تلك الآيات، وندعها تتحدث إلى القارئ عن هذا الصنف الخطير من الكافرين.
قال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16))) [البقرة](2/119)
وقال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63))) [النساء]
وقال تعالى: ((يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68))) [التوبة](2/120)
وقال تعالى: ((هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12))) [الأحزاب]
وقال تعالى:((أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الحشر (11)](2/121)
وقال تعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8))) [المنافقون]
كيف عامل الرسول المنافقين؟
لقد عامل الرسول صلى الله عليه وسلم، المنافقين الذين كان كفرهم أشد من الكفار الصرحاء، معاملة المسلمين في أحكام الدنيا، فلم يفرق بينهم وبين غيرهم من صحابته رضي الله عنهم، على رغم أن سيرتهم كانت دالة دلالة لا لبس فيها أنهم يكفرون بالله ورسوله وباليوم الآخر، ولم يكونوا مؤمنين مطلقا.(2/122)
وبهذا يعلم أن من أظهر الإسلام ودلت القرائن على كفره، لا يعامل معاملة الكفار حتى يكون كفره صريحا...
وقد كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتخذون ما يبدو لهم من القرائن الدالة على خيانة بعض الأشخاص ممن أظهروا إسلامهم حجة على عدم إيمانهم، ويستأذنونه في قتلهم ويصفونهم بالمنافقين لما يظهر لهم من أن نفاقهم نفاق اعتقادي أي إنهم كفار وليسوا بمسلمين.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يدافع عمن عرف صدقه وإيمانه ويقبل عذره ويذكر ما له من فضائل، كما في قصة "حاطب بن أبي بلتعة" رضي الله عنه، الذي كشف في رسالة له سر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزمه على فتح مكة أرسلها إليهم مع امرأة، وكان صلى الله عليه وسلم قد أخفاه ليهاجم قريشا قبل أن يستعدوا لقتاله.
وأظهر الله أمره قبل أن تصل رسالة حاطب إلى قريش، فبعث عليا والزبير والمقداد، فأدركوا المرأة وأخذوا الرسالة منها، وسلموها للرسول صلى الله عليه وسلم، فأنكر على حاطب فعله، فاعتذر حاطب بأنه أراد أن يتخذ عند قريش يدا يحمي بها قرابته التي لا يوجد من يحميهم كبقية قرابات قريش ونفى عن نفسه الارتداد عن الإسلام...
فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) [صحيح البخاري (4/1557) رقم (4025)
فكأن عمر رضي الله عنه، فهم أن حاطبا رضي الله عنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر، لأن ما فعله لا يصدر من مسلم يؤمن بالله ورسوله، وهو قرينة على كان منافقا في إسلامه... ولم يقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل أثنى على حاطب وعذره. وقد روى قصة حاطب بطولها الإمام البخاري وغيره كما سبق، وذكرها المفسرون في تفسير سورة الممتحنة.(2/123)
وكذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من رمى " مالك بن الدخشن" بالنفاق، واستدل على ذلك بقرينة وهي نصحه للمنافقين، أي لمصلحتهم.
كما في قصة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان من بيت عتبان بن مالك ليتخذه مسجدا، التي رواها محمود بن الربيع رضي الله عنه... قال قائل ممن اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين مالك بن الدخيشن أو بن الدخشن؟ فقال بعضهم ذلك منافق لا يحب الله ورسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله) قال: الله ورسوله أعلم، قال فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) [صحيح البخاري (1/164) رقم (415) وصحيح مسلم (1/61) رقم (33)]
أما من دلت القرائن على نفاقه ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم صدقه، بل قد يترجح له أنه منافق فعلا، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يدافع عنه ولا يثني عليه، ولكنه لا يقر أحدا على قتله، ويعلل ذلك بأنه قد أظهر للناس أنه من المسلمين، والإسلام يعصم دماء من أظهره وماله، فإذا إذن في قتله ظن الناس أن محمدا يقتل من آمن به...
كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا في غزاة... فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين!
فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما بال دعوى جاهلية)؟
قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال: (دعوها فإنها منتنة)
فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق!(2/124)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) [صحيح البخاري (4/1861) رقم (4622) وصحيح مسلم (4/1998) رقم (2584)]
ويؤخذ مما سبق الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن المنافق نفاقا اعتقاديا يعتبر كافرا في الواقع.
الأمر الثاني: أنه لا يعامل في أحكام الدنيا معاملة الكفار، بل معاملة المسلمين، لأنه قد عصم دمه وما له بإعلان إسلامه، وتلك هي الجنة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: ((اتخذوا أيمانهم جنة)) [الممتحنة (16)]
المنافقون يظهرون الإسلام تَقِيَّة
فإذا ظهر من المنافقين ما يدل على الكفر والردة عن الإسلام، أقسموا الأيمان المغلظة على أنهم مؤمنون، فيتحصنون بذلك من حكم المرتد.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ((اتخذوا أيمانهم جنة)) "يعني والله أعلم من القتل، فمنعهم من القتل، ولم يُزِل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان بما أظهروا منه، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار، بعلمه بسرائرهم وخلافها لعلانيتهم بالإيمان" [أحكام القرآن (1/299- 300)]
الأمر الثالث: جهل من يستحلون دماء وأموال من يظهرون الإسلام فيصلون ويصومون ويحجون، بحجة أنهم معارضتهم لتطبيق شرع الله، مع أن هؤلاء يسلكون سبيل المنافقين في اتخاذهم إظهار الإسلام جنة يتحصنون به من اتهامهم بالكفر...
ومن عجب أن هؤلاء المستحلين لدماء وأموال من يظهر الإسلام ويسلك سبيل المنافقين، ليسوا حكاما للبلدان الإسلامية، بل هم أفراد أو جماعات ليسوا أهل حل ولا عقد، ومع مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في أصل الحكم، وهو معاملة من أظهر الإسلام ودلت القرائن على كفره معاملة المسلم في أحكام الدنيا، هم يخالفونه كذلك ويخالفون جماهير علماء الأمة قديما وحديثا في توليهم تنفيذ قتل من لا يشرع قتله، فأحدثوا بذلك على الأمة الإسلامية من الأضرار ما الله به عليم.(2/125)
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقى الوحي من الله، وكان ولي أمر المسلمين في عهده، لم يقتل المنافقين ولم يأذن بقتلهم، فكيف يستحل غيره قتل من شابه أولئك المنافقين؟
وقد يكون بعض من تظهر عليهم قرائن النفاق، ليس نفاقهم نفاقا عَقَدِيا، بل قد يصدر ذلك منهم عن جهل أو تأويل، وقد يرجعون عن ذلك إذا أقيمت عليهم الحجة...
رأي الإمام الشافعي في المنافقين
وقد بين الإمام الشافعي رحمه الله أن المنافقين لا يدخلون في أحكام المرتدين، مع شدة كفرهم، بل تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، واستدل على ذلك بأدلة من القرآن والسنة، ومما قاله فذلك ما يأتي:
" قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)) إلى ((يفقهون)).
قال الشافعي: فبين أن إظهار الإيمان ممن لم يزل مشركا حتى أظهر الإيمان، وممن أظهر الإيمان ثم أشرك بعد إظهاره ثم أظهر الإيمان، مانع لدم من أظهره في أي هذين الحالين كان، وإلى أي كفر صار كفر يسره أو كفر يظهره، وذلك أنه لم يكن للمنافقين دين يظهر كظهور الدين الذي له أعياد وإتيان كنائس، إنما كان كفر جحد وتعطيل.
وذلك بين في كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله عز وجل أخبر عن المنافقين بأنهم اتخذوا أيمانهم جنة، يعني والله أعلم من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جنة فقال: ((ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا..))
فأخبر عنهم بأنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان كفرا، إذا سئلوا عنه أنكروه وأظهروا الإيمان وأقروا به وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله على الكفر، قال الله جل ثناؤه ((يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم)).(2/126)
فأخبر بكفرهم وجَحْدهم وكذب سرائرهم، وذكر كفرهم في غير آية، وسماهم بالنفاق إذ أظهروا الإيمان وكانوا على غيره، قال جل وعز: ((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا))
فأخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره، بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جل ثناؤه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين، لهم جنة من القتل وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان.
وبين على لسانه صلى الله عليه وسلم، مثل ما أنزل في كتابه من أن إظهار القول بالإيمان جنة من القتل أقر من شُهِد عليه [بالكفر] بالإيمان بعد الكفر أو لم يقر، إذا أظهر الإيمان فإظهاره مانع من القتل.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حقن الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر، أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين.
فكان بينا في حكم الله عز وجل في المنافقين ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحدا منهم لا يعلم ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل، فوجب على من عقل عن الله أن يجعل الظنون كلها في الأحكام معطلة فلا يحكم على أحد بظن وهكذا دلالة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت لا تختلف "
وقال في موضع آخر:
"قال الشافعي: "وأخبر الله جل ثناؤه عن المنافقين في عدد آي من كتابه بإظهار الإيمان والاستسرار بالشرك، وأخبرنا بأن قد جزاهم بعلمه عنهم بالدرك الأسفل من النار، فقال: ((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا))(2/127)
فأعلم أن حكمهم في الآخرة النار بعلمه أسرارهم، وأن حكمه عليهم في الدنيا إن أظهروا الإيمان جُنَّة لهم، وأخبر عن طائفة غيرهم فقال: ((وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا))
وهذه حكاية عنهم وعن الطائفة معهم، مع ما حكي من كفر المنافقين منفردا، وحكي من أن الإيمان لم يدخل قلوب من حكي من الأعراب.
وكل من حقن دمه في الدنيا بما أظهر مما يعلم جل ثناؤه خلافه من شركهم، لأنه أبان أنه لم يول الحكم على السرائر غيره، وأن قد ولي نبيه الحكم على الظاهر وعاشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقتل منهم أحدا ولم يحبسه ولم يعاقبه ولم يمنعه سهمه في الإسلام إذا حضر القتال، ولا مناكحة المؤمنين وموارثتهم والصلاة على موتاهم وجميع حكم الإسلام وهؤلاء من المنافقين" [الأم (6/157 - (6/166)]
كيف يطبق على المنافقين ما يطبق على المسلمين؟
قلت: قد يشكل على ما سبق من تطبيق أحكام الإسلام على المنافقين، كما تطبق على غيرهم من المسلمين، نَهيُ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم بعد أن صلى على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، كما قال تعالى: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)) [التوبة ((84))]
كما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله! أتصلي على بن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا أعدد عليه قوله.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (أخر عني يا عمر) فلما أكثرت عليه، قال: (إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها)(2/128)
قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة: ((ولا تصل على أحد منهم مات أبد)) إلى ((وهم فاسقون))
قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم" [صحيح البخاري (1/459) رقم (1300) ورواه من حديث عبد الله ابن عمر بلفظ آخر (1/ص427) رقم (1210) وهو صحيح مسلم (4/ 1865) رقم (2400)]
وقد أجاب الشافعي رحمه الله على هذا الإشكال، بقوله في تفسير الآية:
"فأما أمره أن لا يصلي عليهم، فإن صلاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم مخالفة صلاة غيره، وأرجو أن يكون قضى إذ أمره بترك الصلاة على المنافقين، أن لا يصلي على أحد إلا غفر له، وقضى أن لا يغفر لمقيم على شرك، فنهاه عن الصلاة على من لا يغفر له
قال الشافعي ولم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم مسلما ولم يقتل منهم بعد هذا أحدا" [أحكام القرآن للشافعي (1/297)]
وتوسع في الجواب على هذا الإشكال في "الأم" :
"فإن قال قائل فإن الله عز وجل قال: ((ولا تصل على أحد منهم مات أبدا)) إلى قوله: ((فاسقون))؟
فإن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة صلاة المسلمين سواه، لأنا نرجو أن لا يصلى على أحد إلا صلى الله عليه ورحمه، وقد قضى الله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا.
وقال جل ثناؤه: ((استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم))
فإن قال قائل: ما دل علي الفرق بين صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عنهم، وصلاة المسلمين غيره؟
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى عن الصلاة عليهم بنهى الله له، ولم ينه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، ولا عن مواريثهم...(2/129)
قال الشافعي: وقد عاشروا أبا بكر وعمر وعثمان أئمة الهدي وهم يعرفون بعضهم، فلم يقتلوا منهم أحدا، ولم يمنعوه حكم الإسلام في الظاهر، إذ كانوا يظهرون الإسلام.
وكان عمر يمر بحذيفة بن اليمان إذا مات ميت، فإن أشار عليه أن اجلس جلس واستدل على أنه منافق، ولم يمنع من الصلاة عليه مسلما، وإنما يجلس عمر عن الصلاة عليه لأن الجلوس عن الصلاة عليه، مباح له في غير المنافق إذا كان لهم من يصلي عليهم سواه..." [الأم (1/259- 260)]
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن النهي عن الصلاة على المنافقين، كان في عدد معين منهم، قال:
"ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي: أنبأنا معمر عن الزهري قال قَال: حذيفة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان رهط ذوي عدد من المنافقين" [فتح الباري فتح الباري (8/387-338)]
وبهذا يتضح أن الأصل بقاء تطبيق أحكام الإسلام على كل من أظهر الإسلام منهم، ولو ظهرت على بعضهم علامات النفاق، وأن النهي عن الصلاة عليهم خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه المسلمين عن الصلاة عليهم، وأن الصحابة استمروا في الصلاة عليهم، وأن عمر رضي الله عنه الذي قال لرسول صلى الله عليه وسلم عندما أراد الصلاة على ابن أبي.
حكم إسناد الولايات العامة للمنافقين
سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاشر المنافقين كما عاشر عامة المسلمين في أحكام الدنيا، ولكنه لم يأتمن أحدا منهم - فيما أعلم - على مصالح الأمة في وظائفهم العامة، فلم يسند إليهم جباية الأموال، ولا الإمارة في الحرب، ولا القضاء بين الناس، ولا إمامتهم في الصلاة، ولا غيرها من الولايات التي يتمكنون بها من تدبير شئون المسلمين.(2/130)
والسبب في ذلك أنهم يكفرون بالله ورسوله، ويحاربون الله ورسوله والمؤمنين، يضاف إلى ذلك فقدهم الأمانة التي هي أحد أسس الولايات على المسلمين.
والأمانة مطلب أساسي عند المسلم وغير المسلم، فقد أغرت فتاة مدين أباها الصالح باستئجار موسى عليه السلام، بصفتين عظيمتين يقل في كثير من الناس اجتماعهما:
الصفة الأول: الأمانة.
والصفة الثانية: القوة.
كما قال تعالى عنها: ((قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)) [القصص (26)]
وكانت الأمانة من أعظم الصفات التي جعلت ملك مصر، وهو غير مسلم، يمكين يوسف عليه السلام من الولاية على أهم الوظائف في عهده، وهي "خزائن الأرض" كما قال تعالى:
((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)))
لقد أكَّد الله سبحانه وتعالى فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) [النساء:(58)].
قال القرطبي رحمه الله:
"هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع".
ثم ذكر الخلاف في المراد بالمخاطب بها، ورجح العموم فقال:
"والأظهر أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات، وتتناول من دونهم ". إلى أن قال: "فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة". [الجامع لأحكام القرآن (5/255ـ257)].(2/131)
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن إضاعة الأمانة من علامات الساعة، وأن من أبرز إضاعتها إسناد الأمور إلى غير أهلها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). [البخاري (7/188)].
وأثني صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكا له وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: (لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [البخاري (4/216)].
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها..
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه). [المرجع السابق..].
وأثني صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكه وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.(2/132)
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: (لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [البخاري (4/216)].
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها..
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه). [المرجع السابق..].
والذي لا يتصف بالأمانة يكون متصفاً بضدها وهي الخيانة، والخيانة من علامات النفاق، والمنافق ليس كفؤاً لولاية أمور المسلمين.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يعامل المنافقين معاملة سائر المسلمين بحسب ظواهره، ولكنه لم يكن يسند إليهم ولاية شئون أمته، لأنه قد وصفهم بالخيانة على ما يؤتمنون عليه.
روى أبو هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (آية المنافق ثلاث..)، وفيها: (وإذا اؤتمن خان). [البخاري (1/14) ومسلم (1/78)].
وقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ونفى كمال الإيمان الواجب عمن خان أمانته، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال قَال رسول الله :
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) [سنن الترمذي، برقم (2627) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"(2/133)
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال قَال رسول الله (المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه) [المستدرك على الصحيحين، برقم (25) وقال: "وزيادة أخرى صحيحة سليمة من رواية المجروحين في متن هذا الحديث ولم يخرجاها"
وأقسم صلى الله عليه وسلم على نفي هذا الإيمان عمن خان جاره، فلم يأمن شروره ومفاسده، كما عن أبي شريح [وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي قال:
(والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) [صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم، برقم (46)]
ومعنى هذه الأحاديث أن الإيمان الصادق إنما يظهر للناس من معاملة صاحبه لهم، و من أبرز الأدلة على صدق إيمانه أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وأسرارهم، فلا يخون أمانته، وليست دعوى الإنسان الإيمان كافية على صدق إيمانه.
والمنافقون يفقدون الصدق كما يفقدون الأمانة، كما قال الله تعالى عنهم:
((أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الحشر (11)]
وقال تعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)](2/134)
والخائن الكاذب المخادع، لا يجوز أن يأمنه الناس على تدبير مصالحهم ولا أسرارهم، لأنه كما سبق لا يضمر للمسلمين إلا الشر والكيد، وهم أولياء لإخوانهم الكفار ينصرونهم على المسلمين، يتجسسون لهم عليهم، فلا يحل لوال مسلم أن يسند إلى المنافقين أي ولاية يحصل منهم بها ضرر المسلمين.
الإنكار على ما يقترفه المنافقون في ولاياتهم
فالأصل عدم تولية المنافقين على شئون المسلمين، لأنهم غير مؤتمنين على تدبير شئونهم، ولكن إذا ما ابتلي المسلمون بولاية المنافقين عليهم مكرهين، بأن قويت شوكتهم فاغتصبوا الأمر بدون رضاهم، أو تحالفوا مع الكفار من اليهود والنصارى والوثنيين، فمكنوهم من السيطرة على الشعوب الإسلامية.
فالواجب على المسلمين أن ينكروا عليهم ما يخالفون فيه كتاب الله وسنة رسوله، بحسب مراتب المخالفة ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر والنهي.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة من أهم قواعد الإسلام التي لا يجوز التقصير فيها، وهي من فروض الكفاية التي إذا تركت أثم كل قادر على القيام بها من الأمة الإسلامية، حتى يوجد من يقوم بها قياما كافيا.
وكون مرتكب الكفر المعين لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، لا يبيح للمسلمين السكوت عنه وإشعاره بأنه مسلم، بل إن ذلك يوجب عليهم، أن يبينوا له أن الكفر يخرج صاحبه بعد إقامة الحجة عليه من الملة، و أن صاحبه مخلد في النار إذا مات عليه.
ومن أمثلة ذلك إنكار ما علم من الدين بالضرورة وجوبه، كاعتقاد تحكيم شرع الله والحكم به، وهو كثير في أبواب الفقه الإسلامي، ومنه أركان الإسلام، وإقامة الحدود، وتقسيم الميراث بين الورثة كما نزل بها القرآن.
وكذلك استحلال ما علم من الدين بالضرورى تحريمه، كشرب المسكر وأكل الميتة والزنا ...(2/135)
فكل ذلك يجب على المسلمين وبخاصة العلماء إنكاره وبيانه لمن اتصف به، فإذا أنكروه وبينوه وقامت الحجة على صاحبه ولم يؤب إلى الله ويستسلم لحكمه أصبح بعينه مستحق للتكفير...
ويجب أن يعلم أنه كلما كانت المخالفة أشد كان وجوب الإنكار أعظم، وكلما كانت القدرة على إنكار المنكر أقوى كان وجوبه أشد، وكلما كانت مصالح الأمر والنهي أكثر من مفاسدهما، كانا أوجب.
ومعرفة تحقق هذه الأمور والموازنة بينهما تعود إلى أهل الحل والعقد، من علماء الأمة وعقلائها وأعيانها وذوي التخصصات المتنوعة فيها.
وليس ذلك إلى غوغاء الناس وجهالها وسفهائها وذوي العواطف غير المنضبطة الذين يضرون الأمة أكثر مما ينفعونها.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي "الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ": فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ.
فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ; بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ" [مجموع الفتاوى(28/129)]
وذكر ابن القيم رحمه الله: أن لإنكار المنكر أربع درجات، فقال:
"فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان
والثالثة موضع اجتهاد
والرابعة محرمة" [إعلام الموقعين (3/4)](2/136)
118 - والآن أكثر من ألف ومائتي سنة فتبًّا لكل جاهل وأحمق!!!
إثبات أن مهدي الرافضة المنتظر هو نفسه الأعور الدجال اليهودي
محمد زغلول
السمات اليهودية لمهدي الرافضة المنتظر :
أ - مهدي الشيعة الرافضة سيحكم بشريعة داود وآل داود و بتوراة موسى :
روى بخاري الرافضة الكليني في كتاب الحجة من الأصول في الكافي - الجزء الأول ص 397|398 - ما يلي :
1- علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن منصور عن فضل الأعور عن أبي عبيد الحذَاء قال : كنا زمان جعفر عليه السلام حين قبض نتردد كالغنم لا راعي لها، فلقينا سالم بن أبي حفصة فقال لي : يا أبا عبيدة من إمامك ؟ فقلت : أئمتي آل محمد، فقال : هلكت وأهلكت أما سمعتُ أنا وأنت أبا جعفر عليه السلام يقول : من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية ؟ فقلت : بلى لعمري ، ولقد كان قبل ذلك بثلاث أو نحوها لدخلت على أبي عبد الله عليه السَلام فرزق اللهُ المعرفة ، فقلت لأبي عبد الله عليه السَلام : إن سالما قال لي كذا وكذا، قال : يا أيا عبيدة إنَه لا يموت هنا ميت حتى يخلف من بعده من يعمل بمثل عمله ويسير بسيرته ويدعو إلى ما دعا إليه ، يا أبا عبيدة إنَه لم يمنع ما أعطي داود أن أعطي سليمان . ثم قال يا أبا عبيدة إذا قام قائم آل محمد عليه السلام حكم بحكم داود وسليمان ولا يُسأل بيننة.
2- محمَد ين يحي عن أحمد بن محمَد عن محمد بن سنان عن أبان قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : << لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل مني يحكم بحكومة آل داود ولا يُسأل بيّنة ، يعطي كل نفس حقها. >> .
3 - محمد عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن عمَار الساباطي قال : قلت لأبي عبد الله عليه السَلام : بما تحكمون إذا حكمتم قال << بحكم الله وحكم داود ، فإذا ورد علينا الشَيء الذي ليس عندنا تلقَانا به روح القُدُس .>> .(2/137)
4 - محمد بن أحمد عن محمد بن خالد عن النَضر بن سويد عن يحي الحلبي عن عمران بن أعين عن جعيد الهمداني عن عليَ بن الحسين عليه السَلام قال: سألته بأي حكم تحكمون ؟ قال << بحكم آل داود، فإن أعيانا شيء تلقاا به روح القُدُس .>> .
5 - اًحمد بن مهران رحمه الله عن محمَد بن علىَ عن ابن محبوب عن هشام ين سالم عن عمَار السَاباطي قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما منزلة الأئمَة ؟ قال"كمنزلة ذي القرنين وكمنزلة يوشع وكمنزلة آصف صاحب سليمان." قلت : فبما تحكمون ؟ قال : " بحكم الله وآل داود وحكم محمَد صلى الله عليه وسلم ولتلقَانا به روح القُدُس".
الأصول في الكافي للكليني الجزء الأول ص397-398.
ب - مهدي المنتظر يتكلم العبرانيةّ :
في كتاب (الغيبة) للنعماني : << إذا أذَن الإمام دعا الله باسمه العيراني (فانتخب ) له صحابته الثلاثمائة والثلاثة عشر كقزع الخريف ، منهم أصحاب الألوية، منهم من يفقد فراشه ليلا فيصبح بمكة ، ومنهم من يُرى يسير في السحاب نهارا يعرف باسمه واسم أبيه وحليته ونسبه ...>>
ج - اليهود من أتباع المهدي الشّيعي المنتظر :
روى الشَيخ المفيد في (الإرشاد ، عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله قال << يخرج مع القائم عليه السلام من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلا من قوم موسى، وسبعة من أهل الكهف ويوشع بن نون وسليمان وأبو دجانة الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر فيكونون بين يديه أنصارا >> . الإرشاد للمفيد الطوسي ص402 .
وبهذا نخلص إلى أن مهدي الرافضة المنتظر :
1- يحكم بشريعة آل داود ، وبقرآن جديد ليس هو الذي بين أيدينا ، ولو سأل سائل فأين شريعة آل داود لوجد الإجابة ولا شك أنه التلمود ، ولذلك يبايع الناس على كتاب جديد ففي كتاب الغيبة للنعماني عن أبي جعفر أنه قال : << فوالله لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد شديد ، وكتاب جديد ، وسلطان جديد من السماء .>> الغيبة للنعماني ص107.(2/138)
2 - لسان المهدي وهو العبرانية .
3 - أتباعه من اليهود ، فهو ملك اليهود ( المخلص) المنتظر وهو نفسه المسيح الدجال الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أدلة أخرى عن السمات اليهودية لمهدي الرافضة:
أولا : عندما يعود مسيح اليهود يضم مشتتي اليهود من كل أنحاء الأرض ويكون مكان اجتماعهم مدينة اليهود المقدسة وهي القدس
وعندما يخرج مهدي الرافضة يجتمع إليه الرافضة من كل مكان ويكون مكان اجتماعهم المدينة المقدسة عند الرافضة الكوفة
ثانيا : عند خروج مسيح اليهود يحيا الأموات من اليهود ويخرجون من قبورهم لينضموا إلى جيش المسيح
وعندما يعود مهدي الرافضة يحيا الأموات من الرافضة ويخرجون من قبورهم لينضموا إلى معسكر المهدي
ثالثا : عند خروج مسيح اليهود تخرج جثث العصاة ليشاهد اليهود تعذيبهم
وعندما يعود مهدي الرافضة يخرج أصحاب النبي من قبورهم فيعذبهم
رابعا : يحاكم مسيح اليهود كل من ظلم اليهود ويقتص منهم
ويحاكم مهدي الرافضة كل من ظلم الرافضة ويقتص منهم
خامسا : يقتل مسيح اليهود ثلثي العالم
ويقتل مهدي الرافضة ثلثي العالم
سادسا : عندما يخرج مسيح اليهود تتغير أجسام اليهود فتبلغ قامة الرجل منهم مائتي ذراع وكذلك تطول أعمارهم
وعندما يخرج مهدي الرافضة تتغير أجسام الرافضة فيصير للرجل منهم قوة أربعين رجلا ويطأ الناس بقدميه وكذلك يمد الله لهم في أسماعهم وأبصارهم
سابعا : في عهد مسيح اليهود تكثر الخيرات عند اليهود فتنبع الجبال لبنا وعسلا وتطرح الأرض فطيرا وملابس من الصوف
وفي عهد مهدي الرافضة تكثر الخيرات عند الرافضة وينبع من الكوفة نهران من الماء واللبن يشرب منهما الرافضة
ومما يؤكد صلة مهدي الرافضة باليهود ما يلي :
1- عندما يخرج مهدي الرافضة ينادي الله باسمه العبراني
2- أنه يستفتح المدن بتابوت اليهود ويخرج عصا موسى
3- أنه يحكم بحكم آل داود عليه السلام
الأدلة:(2/139)
1-جاء في بحار الأنوار عن أحد موالي أبي الحسن عليه السلام قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله تعالى { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا } قال : وذلك والله أن لو قد قام قائمنا يجمع الله إليه شيعتنا من جميع البلدان
وعن رفيد مولى أبي هبيرة عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال له : يا رفيد كيف أنت إذا رأيت أصحاب القائم قد ضربوا فساطيطهم في مسجد الكوفة
2- روى العاملي عن أبي عبدالله عليه السلام أنه سئل كم يملك القائم قال سبع سنين تطول الأيام .... إلى أن قال : فينبت الله به لحوم المؤمنين وأبدانهم من قبورهم فكأني أنظر إليهم مقبلين من قبل جهينة ينفضون شعورهم من التراب
وعن المفضل بن عمر قال : ذكرنا القائم عليه السلام ومن مات ينتظره من أصحابنا فقال لنا أبو عبدالله عليه السلام : إذا قام أتى المؤمن في قبره فيقال له : يا هذا إنه قد ظهر صاحبك فإن شئت تلحق به فالحق وإن تشأ تقيم في كرامة ربك فأقم
3- روى المجالسي عن أبي عبدالله عليه السلام قال : هل تدري أول ما يبدأ به القائم عليه السلام قلت : لا . قال : يخرج هذين رطبين غضين فيحرقهما ويذريهما في الريح ويكسر المسجد .
-هذين أي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما -
4- يروي المفيد عن أبي عبدالله أنه قال : إذا قام القائم من آل محمد عليهم السلام أقام خمسمائة من قريش فيضرب أعناقهم ثم خمسمائة أخر حتى يفعل ذلك ست مرات
5- روى الأحسائي عن أبي عبدالله قال : لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثلثا الناس فقيل له : فإذا ذهب ثلثي الناس فما يبقى قال : أما ترضون أن تكونوا الثلث الباقي
6- جاء في الكافي عن أبي عبدالله عليه السلام يقول : إن قائمنا إذا قام مد الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم ...الخ
وفي بحار الأنوار عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : إذا قام قائمنا أذهب الله عز وجل عن شيعتنا العاهة وجعل قلوبهم كزبر الحديد وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا ... الخ(2/140)
7- روى المجلسي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدة عليهما السلام قال : إذا قام القائم بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه : ألا لا يحمل أحد منكم طعاما ولا شرابا ويحمل حجر موسى ... إلى أن قال : فإذا نزلوا ظاهرها أنبعث منه الماء واللبن دائما فمن كان جائعا شبع ومن كان عطشانا روي
8- و من المضحكات التي يقولها الرافضة عن مهديهم المزعوم ما رواه الشيخ الطوسي والنعماني عن الإمام الرضى عليه السلام (أن من علامات ظهور المهدي أنه سيظهر عاريا أمام قرص الشمس) حق اليقين، لمحمد الباقر المجلسي، ص347. و لا أدري هل الشيعه سرقوا ملابسه و هو في السرداب؟ كل شئ جائز!
ملاحظات عن فضل كتاب الكافي عند الرافضة:
الأصول في الكافي هو من عمدة كتب الرافضة بل من أجلها ، والكليني متوفي سنة 329ه وهو عندهم ثقة وقدوة ، وقد زعم صاحبه أنه ألفه في عشرين سنة. والكليني كان حيا في زمن الغربة الصغرى ، وهذا يقوي الرواية عند الرافضة أنه عرضه على الإمام المعصوم الغائب (وكان عمره آنذاك خمس سنوات) فاستحسنه وقال هو كاف لشيعتنا . ( انظر مقدمة الأصول في الكافي )
توثيق علماء الرافضة لكتاب الكافي للكليني الذي وردت فيه الأحاديث التي تدل على يهودية مهدي الرافضة المنتظر :
- قال الكليني نفسه يمدح كتابه في المقدمة : ( وقلت إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ) . مقدمة الكافي .(2/141)
- وقال عبد الحسين شرف الدين صاحب الكتاب الملفق ( المراجعات ) وهو يتكلم عن مراجع الرافضة ما نصه : ( وأحسن ما جمع منها الكتب الأربعة ، التي هي مرجع الإمامية في أصولهم وفروعهم من الصدر الأول إلى هذا الزمان وهي : الكافي ، والتهذيب ، والإستبصار ، ومن لا يحضره الفقيه ، وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها والكافي أقدمها وأعظمها وأحسنها وأتقنها ) . المراجعات ص 370 ، مراجعة رقم ( 110 ) . طبعة : مطبوعات النجاح بالقاهرة .
- وقال الطبرسي : ( الكافي بين الكتب الأربعة كالشمس بين النجوم وإذا تأمل المنصف استغنى عن ملاحظة حال آحاد رجال السند المودعة فيه وتورثه الوثوق ويحصل له الاطمئنان بصدورها وثبوتها وصحتها ) . مستدرك الوسائل ( 3 / 532 ) .
- وقال الحر العاملي : ( الفائدة السادسة في صحة المعتمدة في تأليف هذا الكتاب - أي الكافي - وتوافرها وصحة نسبتها وثبوت أحاديثها عن الأئمة عليهم السلام ) . خاتمة الوسائل ص 61
- وقال آغا بزرك الطهراني : ( هو أجل الكتب الأربعة الأصول المعتمدة عليها ، لم يكتب مثله في المنقول من آل الرسول ، لثقة الإسلام محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي المتوفى سنة 328 هـ ) . الذريعة إلى تصانيف الشيعة ( 17 / 245 ) .
- وقال العباس القمي : ( وهو أجل الكتب الإسلامية ، وأعظم المصنفات الإمامية ، والذي لم يعمل للإمامية مثله ، قال محمد أمين الاسترابادي في محكى فوائده : سمعنا عن مشائخنا وعلمانا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه ) . الكنى والألقاب ( 3 / 98 ) . وغيرهم كثير أثنوا على هذا الكتاب الفاسد واعتبروه أصلاً من أصولهم .(2/142)
119 - عَنِ الْمُغِيرَةِ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " إِنَّ كَذِبًا عَلَىَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ، مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " رواه البخاري (1291) ومسلم (3و4)وهو حديث متواتر
120 - وفي كتاب مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع - (ج 1 / ص 275)
البداء : الظهور والانكشاف ، تقول : بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة ، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد ، تقول : بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة : نشأ له فيه رأي .
وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم ، الأول في مثل قوله تعالى : " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " .
وقوله سبحانه وتعالى :" وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" .
والثانى في قوله تعالى : " ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين " .
والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه ، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى ، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله ؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي ، فرفضوا القول بالبداء ، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين ، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل ....(2/143)
ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض ? ُيخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام ، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ ،وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون ، وذكر لما يثبت وما يمحى" يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة .
وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".
وقال : " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قيل : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله ؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق .
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء : " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه ، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه ، معاذ الله ، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة ؟
بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم ، وقولنا ( بدا لله ) أي بدا حكم لله ، أو شأن لله " .
فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء ، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين ، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري : فقد روى عن أبى هريرة?رضي الله عنه ? أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ثلاثة في بنى إسرائيل ، أبرص وأقرع وأعمى ، بدا لله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص... " إلى آخر الحديث الشريف .(2/144)
فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة ؟ ينافحون عنه ، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا : " ما عبد الله بشئ مثل البداء " ، " ما عظم الله بمثل البداء " .
إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا ، فهم يقولون : إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته ، أو رسله المقربين بحادثة ما ، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة ، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال : مثال هذا : أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره ، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه ، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله ، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال : بدا لله فيه أن يمد في أجله ، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع .
وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع ، فما الحكمة من هذا البداء ؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة ؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين المضلين ؟ .
إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم ، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل ، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب ، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع ، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء !
وأول من نادى به المختار الثقفى ، لأنه كان يدعى علم الغيب ، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال : قد بدا لربكم !(2/145)
وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين ،وقال لقومه : قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف . ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم ، ولا تخل فيكم : فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة ، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له : ما ترى ما يحل بنا من القوم ، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر ، وقد عمل سلاحهم فينا ، وقتل من ترى منا ، فقال لهم : إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي ؟
ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله : " إن لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " .
وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369):
" إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا : صدق الله ، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين " .
وعلق صاحب الحاشية بقوله : " مرة للتصديق ، وأخرى للقول بالبداء "
فالقول بالبداء ، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب ، فإذا حدث غير ما أخبروا ، فإنما قد بد الله ! ومصدق الكذب يؤجر مرتين !
والمسلمون قاطبة ? عدا الشيعة ? يرفضون هذا القول ، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى :
" وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "
وأمره سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول :" وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ "
" قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ "(2/146)
121 - تناسخ الأرواح: إذا مات الإنسان يفنى منه الجسد وتنطلق منه الروح لتتقمص وتحل في جسد آخر بحسب ما قدم من عمل في حياته الأولى، وتبدأ الروح في ذلك دورة جديدة. وهذا كله إفك مبين
122 - وفي كتاب مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع - (ج 1 / ص 279)
يعتقد الإمامية الاثنا عشرية أن إمامهم الثانى عشر محمدا المهدى ، سيرجع بعد غيبته الكبرى ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ورأينا أنهم ينتظرون خروجه حتى الآن ، رغم مضى أكثر من ألف عام ! وبسطنا بعض حججهم وأثبتنا بطلانها ، وهذه العقيدة من جوهر الإمامة التي أجمعت عليها هذه الفرقة .
والإمامية ليست أول من قال برجوع الإمام بعد غيبته ، فأكثر فرق الشيعة رأت أن بعض الأئمة سيعودون بعد موتهم أو غيبتهم ، ولهم تفصيلات في ذلك يعحب الباحثون لوجود مثلها بين فرق من المسلمين .
وللإمامية عقيدة أخرى خاصة بالرجعة ، وهى رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته قبل يوم القيامة ، وكذلك رجعة أعدائهم ومن اغتصبوهم حقهم بحسب زعمهم ليقتصوا منهم ، ولهم في ذلك خرافات كثيرة : كظهور جسد أمير المؤمنين على ابن أبى طالب في قرص الشمس ، يعرفه الخلائق ، وينادى مناد باسمه في السماء، وينادى جبريل أن الحق مع على وشيعته .
وألف في موضوع الرجعة كثير من الرافضة ، وأطالوا الحديث عنها ، وعن إمكانها ، وعن أدلة إثباتها ، والرد على من ينكرها . كما نرى الحديث عن الرجعة في كتب التفسير والحديث عندهم ، والكتب التي تتناول موضوعات عامة .
ونضرب مثلا هنا بكتاب : " الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة " لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هـ .
نرى في مقدمة الكتاب ذكر تسعة وعشرين كتاباً في موضوع واحد هو إثبات الرجعة !!
وفى مراجع المؤلف نرى كثيراً من كتب التفسير والحديث وغيرها .(2/147)
والكتاب كله مثل للغلو والضلال ، بل يصل إلى الكفر والزندقة . ولا نرى حاجة للوقوف أمام هذا الكتاب وأمثاله ، ويكفى ما بيناه من قبل من بطلان عقيدتهم في الإمامة ، وإثبات ضلال القائلين بها . والرجعة إنما هي تابعة لعقيدتهم في الإمامة ، وهى من أشد أقوالهم غلواً وضلالاً .
ووجدنا من الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم من ينكر هذه العقيدة الخرافية.
فهى إذن ليست من المبادئ المجمع عليها ، ونحن نرى أن الصواب مع أولئك الذين أنكروها ، وأن من قال بها فقد أدخل على الإسلام ما هو منه براء .
123 - تفصيل مشابهة الشيعة الرافضة لليهود والنصارى
وبينهم وبين النصارى من المشابهة في الغلو والجهل وغير ذلك من أخلاق النصارى ما أشبهوا به هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه وما زال الناس يصفونهم بذلك
ومن أخبر الناس بهم الشعبي وأمثاله من علماء الكوفة وقد ثبت عن الشعبي أنه قال ما رأيت أحمق من الرافضة لو كانوا من الطير لكانوا رخما ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرا والله لو طلبت منهم أن يملئوا لي هذا البيت ذهبا على أن أكذب على علي لأعطوني ووالله ما أكذب عليه أبدا وقد روى هذا الكلام مبسوطا عنه أكثر من هذا لكن الأظهر أن المبسوط من كلام غيره(2/148)
كما روى أبو حفص بن شاهين في كتاب اللطيف في السنة حدثنا محمد بن أبي القاسم بن هارون حدثنا أحمد بن الوليد الواسطي حدثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه قال قال لي الشعبي أحذركم هذه الأهواء المضلة وشرها الرافضة لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة ولكن مقتا لأهل الإسلام وبغيا عليهم قد حرقهم علي رضي الله عنه بالنار ونفاهم إلى البلدان منهم عبد الله ابن سبأ يهودي من يهود صنعاء نفاه الى ساباط وعبد الله بن يسار نفاه إلى خازر ، وآية ذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود قالت اليهود لا يصلح الملك إلا في آل داود وقالت الرافضة لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي وقالت اليهود لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل سيف من السماء وقالت الرافضة لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب والإفطار إلى اشتباك النجوم والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا تزال أمتي على الإسلام مالم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم، وما لم يؤخروا الفجر مضاهاة للنصارى )) رواه أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجه والحاكم وسعيد بن منصور والطبراني والبيهقي .
واليهود تزول عن القبلة شيئا وكذلك الرافضة ، واليهود تنود في الصلاة وكذلك الرافضة ، واليهود تسدل أثوابها في الصلاة وكذلك الرافضة ، واليهود لا يرون على النساء عدة وكذلك الرافضة ، واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفوا القرآن ، واليهود قالوا افترض الله علينا خمسين صلاة وكذلك الرافضة ، واليهود لا يخلصون السلام على المؤمنين إنما يقولون السام عليكم والسام الموت وكذلك الرافضة ، واليهود لا يأكلون الجري والمرماهى والذناب وكذلك الرافضة ، واليهود لا يرون المسح على الخفين وكذلك الرافضة .(2/149)
واليهود يستحلون أموال الناس كلهم وكذلك الرافضة وقد أخبرنا الله عنهم بذلك في القرآن أنهم قالوا (ليس علينا في الأميين سبيل) سورة آل عمران 75 وكذلك الرافضة ، واليهود تسجد على قرونها في الصلاة وكذلك الرافضة ، واليهود لا تسجد حتى تخفق برؤوسها مرارا شبه الركوع وكذلك الرافضة ، واليهود تبغض جبريل ويقولون هو عدونا من الملائكة وكذلك الرافضة يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم .. وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة النصارى ليس لنسائهم صداق إنما يتمتعون بهن تمتعا وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة ويستحلون المتعة .
وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين سئلت اليهود من خير أهل ملتكم قالوا أصحاب موسى وسئلت النصاري من خير أهل ملتكم قالوا حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم قالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ولا تجاب لهم دعوة دعوتهم مدحوضة وكلمتهم مختلفة وجمعهم متفرق كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله
قلت هذا الكلام بعضه ثابت عن الشعبي كقوله لو كانت الشيعة من البهائم لكانوا حمرا ولو كانت من الطير لكانوا رخما فإن هذا ثابت عنه
قال ابن شاهين حدثنا محمد بن العباس النحوي حدثنا إبراهيم الحربي حدثنا ابو الربيع الزهراني حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا مالك بن مغول فذكره وأما السياق المذكور فهو معروف عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه عن الشعبي(2/150)
وروى أبو عاصم خشيش بن أصرم في كتابه ورواه من طريقه أبو عمرو الطلمنكي في كتابه في الأصول قال أبو عاصم حدثنا أحمد بن محمد وعبد الوارث ابن إبراهيم حدثنا السندي بن سليمان الفارسي حدثنى عبد الله بن جعفر الرقى عن عبدالرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه قال قلت لعامر الشعبي ما ردك عن هؤلاء القوم وقد كنت فيهم رأسا قال رأيتهم يأخذون بأعجاز لا صدور لها ثم قال لي يا مالك لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا أو يملؤوا لي بيتي ذهبا أو يحجوا إلى بيتي هذا على أن أكذب على علي رضي الله عنه لفعلوا ولا والله لا أكذب عليه أبدا يا مالك إني قد درست الأهواء فلم أر فيها أحمق من الرافضة فلو كانوا من الطير لكانوا رخما ولو كانوا من الدواب لكانوا حمرا يا مالك لم يدخلوا في الإسلام رغبة فيه لله ولا رهبة من الله ولكن مقتا من الله عليهم وبغيا منهم على أهل الإسلام يريدون أن يغمصوا دين الإسلام كما غمص بولص بن يوشع ملك اليهود دين النصرانية ولا تجاوز صلاتهم آذانهم قد حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار ونفاهم من البلاد منهم عبد الله بن سبأ يهودي من يهود صنعاء نفاه إلى ساباط وأبو بكر الكروس نفاه إلى الجابية وحرق منهم قوما أتوه فقالوا أنت هو فقال من أنا فقالوا أنت ربنا فأمر بنار فاججت فألقوا فيها وفيهم قال على رضى الله عنه:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا * اججت ناري ودعوت قنبرا
يا مالك إن محنتهم محنة اليهود قالت اليهود لا يصلح الملك إلا في آل داود وكذلك قالت الرافضة لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي وقالت اليهود لا جهاد في سبيل الله حتى يبعث الله المسيح الدجال وينزل سيف من السماء وكذلك الرافضة قالوا لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من ال محمد وينادي مناد من السماء اتبعوه(2/151)
وقالت اليهود فرض الله علينا خمسين صلاة في كل يوم وليلة وكذلك الرافضة واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال أمتي على الإسلام ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم مضاهاة لليهود وكذلك الرافضة واليهود إذا صلوا زالوا عن القبلة شيئا وكذلك الرافضة
واليهود تنود في صلاتها وكذلك الرافضة واليهود يسدلون أثوابهم في الصلاة وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل سادل ثوبه فعطفه عليه واليهود يسجدون في صلاة الفجر لكندرة وكذلك الرافضة
واليهود لا يخلصون بالسلام إنما يقولون سام عليكم وهو الموت وكذلك الرافضة واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفوا القرآن واليهود عادوا جبريل فقالوا هو عدونا وكذلك الرافضة قالوا أخطأ جبريل بالوحي واليهود يستحلون أمول الناس وقد نبأنا الله عنهم أنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل سورة آل عمران 75 وكذلك الرافضة يستحلون مال كل مسلم واليهود يستحلون دم كل مسلم وكذلك الرافضة واليهود يرون غش الناس وكذلك الرافضة واليهود لا يعدون الطلاق شيئا إلا عند كل حيضة وكذلك الرافضة واليهود ليس لنسائهم صداق إنما يمتعوهن وكذلك الرافضة يستحلون المتعة واليهود لا يرون العزل عن السرارى وكذلك الرافضة
واليهود يحرمون الجري والمرماهى وكذلك الرافضة واليهود حرموا الأرنب والطحال وكذلك الرافضة واليهود لا يرون المسح على الخفين وكذلك الرافضة
واليهود لا يلحدون وكذلك الرافضة وقد ألحد لنبينا صلى الله عليه وسلم واليهود يدخلون مع موتاهم في الكفن سعفة رطبة وكذلك الرافضة(2/152)
ثم قال لي يا مالك وفضلتهم اليهود والنصارى بخصلة قيل لليهود من خير أهل ملتكم قالوا أصحاب موسى وقيل للنصارى من خير أهل ملتكم قالوا حواري عيسى وقيل للرافضة من شر أهل ملتكم قالوا حواري محمد يعنون بذلك طلحة والزبير أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ودعوتهم مدحوضة ورايتهم مهزومة وأمرهم متشتت كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساد والله لا يحب المفسدين
وقد روى أبو القاسم الطبري في شرح أصول السنة نحو هذا الكلام من حديث وهب بن بقية الواسطي عن محمد بن حجر الباهلي عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول فهذا الأثر قد روى عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا وبعضها يزيد على بعض لكن عبد الرحمن بن مالك ابن مغول ضعيف وذم الشعبي لهم ثابت من طرق أخرى
لكن لفظ الرافضة إنما ظهر لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين في خلافة هشام وقصة زيد بن علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين ومائة في اواخر خلافة هشام قال أبو حاتم البستي قتل زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة وصلب على خشبة وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم وكانت الشيعة تنتحله
قلت ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه قوم فقال لهم رفضتموني فسموا رافضة لرفضهم إياه وسمى من لم يرفضه من الشيعة زيديا لانتسابهم إليه ولما صلب كانت العباد تأتي إلى خشبته بالليل فيتعبدون عندها والشعبي توفى في أوائل خلافة هشام أو آخر خلافة يزيد بن عبد الملك أخيه سنة خمس ومائة أو قريبا من ذلك فلم يكن لفظ الرافضة معروفا إذ ذاك وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة(2/153)
ولكن كانوا يسمون بغير ذلك الاسم كما كانوا يسمون الخشبية لقولهم إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب ولهذا جاء في بعض الروايات عن الشعبي قال ما رأيت أحمق من الخشبية
فيكون المعبر عنهم بلفظ الرافضة ذكره بالمعنى مع ضعف عبد الرحمن ومع أن الظاهر أن هذا الكلام إنما هو نظم عبدالرحمن بن مالك بن مغول وتأليفه وقد سمع طرفا منه عن الشعبي وسواء كان هو ألفه أو نظمه لما رآه من أمور الشيعة في زمانه ولما سمعه عنهم أو لما سمع من أقوال أهل العلم فيهم أو بعضه أو مجموع الأمرين أو بعضه لهذا وبعضه لهذا فهذا الكلام معروف بالدليل لا يحتاج إلى نقل وإسناد
وقول القائل إن الرافضة تفعل كذا وكذا المراد به بعض الرافضة كقوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله سورة التوبة 30 وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم سورة المائدة 64 لم يقل ذلك كل يهودي بل قاله بعضهم وكذلك قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم سورة آل عمران 173 المراد به جنس الناس وإلا فمعلوم أن القائل لهم غير الجامع وغير المخاطبين المجموع لهم
وما ذكره موجود في الرافضة وفيهم أضعاف ما ذكر مثل تحريم بعضهم للحم الأوز والجمل مشابهة لليهود ومثل جمعهم بين الصلاتين دائما فلا يصلون إلا في ثلاثة أوقات مشابهة لليهود ومثل قولهم إنه لا يقع الطلاق إلا بإشهاد على الزوج مشابهة لليهود ومثل تنجيسهم لأبدان غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب وتحريمهم لذبائحهم وتنجيس ما يصيب ذلك من المياه والمائعات وغسل الآنية التي يأكل منها غيرهم مشابهة للسامرة الذين هم شر اليهود ولهذا يجعلهم الناس في المسلمين كالسامرة في اليهود ومثل استعمالهم التقية وإظهار خلاف ما يبطنون من العداوة مشابهة لليهود ونظائر ذلك كثير(2/154)
وأما سائر حماقاتهم فكثيرة جدا مثل كون بعضهم لا يشرب من نهر حفره يزيد مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه كانوا يشربون من آبار وأنهار حفرها الكفار وبعضهم لا يأكل من التوت الشامي ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه كانوا يأكلون مما يجلب من بلاد الكفار من الجبن ويلبسون ما تنسجه الكفار بل غالب ثيابهم كانت من نسج الكفار
ومثل كونهم يكرهون التكلم بلفظ العشرة أو فعل شيء يكون عشرة حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك.))
نقلا عن كلام ابن تيمية من منهاج السنة.
و قد ثبت عن الشعبي أن قال : (( ما رأيت أحمق من الخشبية (الشيعة) لو كانوا من الطير لكانوا رخًا،ولو كانوا من البهائم لكانوا حُمرًا،والله لو طلبت منهم أن يملؤا هذا البيت ذهبًا على أن أكذب على علي رضي الله عنه لأعطوني و والله ما أكذب عليه أبدًا .
أحذركم أهل هذه الأهواء المضلة وشرها الرافضة لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة ولكن مقتًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم ، قد حرقهم علي رضي الله عنه ونفاهم إلى البلدان منهم عبدالله بن سبأ يهودي من يهود صنعاء ، نفاه إلى ساباط وعبدالله بن يسار خاذر ، وأيد ذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود .(2/155)
قالت اليهود : لا يصلح الملك إلا في بني داود ، وقالت الرافضة : لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي .وقالت النصارى : لا جهاد في سبيل اله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل السيد من السماء .وقالت الرافضة لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي و ينادي مناد من السماء . و اليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم : يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم ، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (( لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم )) واليهود : تزول عن القبلة شيئًا ، وكذلك الرافضة . و اليهود يسدلون أثوابهم في الصلاة وكذلك الرافضة ، و اليهود لا يرون على النساء عدة ، وكذلك الرافضة ، واليهود حرفوا التوراة ، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن ، واليهود قالوا افترض الله علينا خمسين صلاة ، وكذلك الرافضة ، واليهود لا يخلصون السلام على المؤمنين إنما يقولون السام عليكم (والسام : الموت) وكذلك الرافضة ، واليهود لا يأكلون الجريّ والمرماهي ، وكذلك الرافضة ، واليهود لا يرون المسح على الخفين وكذلك الرافضة ، واليهود يستحلون أموال الناس كلهم وكذلك الرافضة وقد أخرنا الله عنهم بذلك في القرآن (قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) ، واليهود تسجد على قرونها في الصلاة وكذلك الرافضة ، واليهود لا تسجد حتى تخفق برؤوسها مررًا تشبيهًا بالركوع ، وكذلك الرافضة ، واليهود ينتقصون جبريل ويقولون هو عدونا من الملائكة ، وكذلك الرافضة يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد ، وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة النصارى ليس لنسائهم صداق ، إنما يتمتعون بهن تمتعًا ، وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة ويستحلون المتعة .واليهود يستحلون دم كل مسلم وكذلك الرافضة ، واليهود يرون غش الناس وكذلك الرافضة ، واليهود لا يعدون الطلاق شيئًا إلا عند كل حيضة وكذلك الرافضة ، واليهود لا يلحدون وكذلك الرافضة .
ــــ وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة :(2/156)
سئلت اليهود : من هم خير ملتكم ؟ قالوا أصحاب موسى .
وسئل النصارى : من هم خير أهل ملتكم ؟ قالوا حواري عيسى .
وسئلت الرافضة : من هم شر أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب محمد ، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، والسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا مجتمع لهم ، ولا تجاب لهم دعوة ، دعوتهم مدحوضة ، وكلمتهم مختلفة ، وجمعهم متفرق ، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله . ))
هذه شهادة الشعبي في الشيعة ، فتأملها / والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به.
إله السنه غير إله الشيعه ..:
يقول نعمه الله الجزائري في كتابه الانوار النعمانيه ( 1 \278_279 ) في كلامه عن اهل السنه ....انا لم نجتمع معهم على الله ولا على نبي ولا على امام ..وذلك انهم يقولون ان ربهم هو الذي كان محمدا نبيه وخليفته من بعده ابو بكر . ونحن لانقول بهذا الرب ولا بذلك النبي ..ان الرب الذي خليفه نبيه ابو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا ..) والجزائري قائل هذا الكلام ليس من عامه الشيعه او من انصاف العلماء بل هو من اكابر علماء الشيعه المعتمد عليهم في بيان مذهب الشيعه وصدوره عن شخص بهذه الاهميه له اهميه عظمى
وقبل ان نناقش هذا الهراء والذي يعبر بصدق عن حقيقه الشيعه ..يجب ان نستعرض معا عقيده اليهود والشيعه في الله تعالى ثم نقارن اعتقادهما بمعتقد اهل السنه لنصل جميعا الى النتيجه التي وصل اليها الجزائري بأن إله اهل السنه غير إله الرافضة ..(2/157)
الله في عقيده اليهود جاهل لايعلم بالشي الا بعد حدوثه ويعتريه ( تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) مايعتري الانسان من جهل ونسيان وتعب وضعف والى غير ذلك من حالات النقص والضعف ..والتوراة ذكرت من تلك الحالات الشي الكثير ومنها ماورد في سفر التكوين الاصحاح الثالث ( 9 _10 _ 11 ) ..وسمع صوت الرب ماشيا في الجنه عند هبوب ريح النهار ...فاختبأ آدم وأمرأته من وجه الرب الاله في وسط شجر الجنه فنادى الرب الاله آدم وقال له اين انت ؟؟؟
فقال : سمعت صوتك في الجنه فخشيت لانني عريان فأختبأت فقال له : من أعلمك أنك عريان ؟
مما سبق ذكره يتبين لنا ان الله جل ذكره وتنزه عن مفتريات اليهود جاهل ويحتاج الى علامات تهديه وانه يخلق الخلق ولايعلم ان كان خلقه حسنا ام لا ؟ ..وانه امر بني اسرائيل ان يجعلوا على بيوتهم علامات لئلا يهلكهم بطريق الخطأ ......وانه لايدري من الذي اخبر آدم بأنه عريان الى آخر تلك الافتراءات التي افتروها على الله ..
ولقد تسربت تلك العقيده الفاسدة الى الفكر الشيعي او بمعنى اصح استعارتها منهم وتسمى عند الشيعه بالبداء ...ومعناه ( استصواب شئ علم بعد ان لم يعلم )
وورد البداء في القرآن الكريم في مواطن عدة منها على سبيل المثال ( ياأيها الذين امنو لاتسألو عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم ) ..يظهر بالبيان ماكان يجهله الانسان
والانسان معرض لمثل هذا لان الجهل يحيطه من بين يديه ومن خلفه
وحيث ان الله جل جلاله يعلم علما اجماليا وعلما تفضيليا كل شئ كليات الاشياء وجزئياتها علما مطلقا كليا من الازل الى الابد في كل آن قبل خلقها وبعده على حد سواء في الظهور فالبداء والضلال والغفله في علم الله محال مستحيل ممتنع
والبداء عند الشيعه ( ان يظهر ويبدو لله عز شأنه امرا لم يكن عالما به ومن جهل البداء او لم يعترف به فليس له حظ ولا نصيب كامل المعرفه فالمرء لايكون عالما الا اذا افترى على الله تعالى ووصفه بالجهل(2/158)
وربما يكابر بعض الشيعه في انكار هذا الاعتقاد ..وللامانه ننقل من المصادر المعتمده والموثوقه لديهم ..فهذا الكليني في كتابه (الاصول من الكافي ..عن زرارة ..ماعبد الله بشئ مثل البدا )فعباده الشيعه عباده لرب جاهل ..وكيف يعبد من هو جاهل ولا يعرف مصلحه عبادة وان كافه احكامه صادره من جهل ؟؟ ولا يتعبد بالجهل الا جاهل .....فالله جل جلاله عند الشيعه يفاجأ بالاشياء لم يكن يعلمها او خلاف ماكان يعلمها ..تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ( كبرت كلمه تخرج من افواههم )
وفي الكافي ايضا ( ص 148 \ 1 ) ( عن مرزام بن حكيم قال : سمعت ابا عبدالله .عليه السلام يقول ..: ماتنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس خصال : بالبداء والمشيئه . والسجود . والعبوديه والطاعه )
وعند الشيعه من يرمي الله تعالى بالجهل فله اجر عظيم ان داوم على هذا الاعتقاد ونشرة بين الناس فقد ذكر الكافي عن مالك الجهني قال : سمعت ابا عبدالله عليه السلام يقول : لو علم الناس مافي البداء من الاجر مافتروا عن الكلام فيه
وبعد ارجو ان تكون الرؤيه قد وضحت وان الجزائري على حق عندما تفوة بالكلام السابق حيث ان الله في عقيده اهل السنه والجماعه متصف بالكمال المطلق وانه ليس كمثله شئ ..واما في عقيده الشيعه فهو جاهل لايعلم بالشي الا بعد حدوثه ( كبرت كلمه تخرج من افواههم ان يقولون الا كذبا )
كتب : عبدالله الجميلي :ـ
(( بعد أن من الله عليّ بفضله وتوفيقه إتمام هذا البحث، جاء دور ذكر النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث، فقد جرت عادة الباحثين أن يسجلوا ما توصلوا إليه من نتائج في بحوثهم في الخاتمة.
وإني إذ أنهي هذا البحث أجد من الصعوبة بمكان حصر كل النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث في صفحات كهذه، وذلك لما حتمته طبيعة البحث من إجراء كثير من المقارنات بين أصول العقائد عند اليهود والرافضة، وما دخل تحتها من جزئيات دقيقة.(2/159)
مما نتج عنه كثير من المشابهات بين اليهود والرافضة في هذه العقائد، الأمر الذي جعلني أفرد ما تحصل من مشابهات في كل عقيدة في مبحث مستقل، وهذه المشابهات في حد ذاتها من أهم نتائج البحث، وعليها مداره. فحصر النتائج هنا يعني إعادة عرض تلك المشابهات في كل عقيدة.
ولكن جمعا بين الأمرين منهجية البحث العلمي التي تقتضي ذكر النتائج في هذا الموضع، وبين ما ذكرت من الأسباب الحائلة بيني وبين ذلك، سأذكر هذه النتائج بما يناسب المقام في غير إجاز مخل، أو تطويل ممل.
وقد رأيت أن أقسم هذه النتائج إلى قسمين:
1- نتائج عامة. 2- نتائج خاصة.
وأعني بالنتائج العامة: هي ما توصلت إليه من خلال البحث من نتائج لا تتعلق بموضوع المقارنة بين عقائد اليهود والرافضة.
وبالنتائج الخاصة: هي ما توصلت إليه من نتائج من خلال المقارنة بين عقائد.. ود والرافضة.
وفيما يلي عرض بذلك:
أولاً: النتائج العامة:
فقد توصلت من خلال البحث إلى عدة نتائج. وهي:
1- أن مكائد اليهود للمسلمين قد بدأت منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمرت على مدى العصور إلى عصرنا الحاضر، وقد تعددت أساليبهم وطرقهم في الكيد للمسلمين خلال هذا التاريخ.
2- أن من أخطر الأساليب التي اتبعها اليهود في كيدهم للمسلمين هو زعزعة العقيدة في نفوسهم، والانحراف بهم عن العقيدة الإسلامية، وما ابتلي المسلمون بأعظم ما ابتلوا به من قيام طائفة الرافضة والباطنية اللتين هما نتاج المخططات اليهودية لزعزعة العقيدة في نفوس المسلمين.
3- ثبوت حقيقة وجود شخصية عبد الله بن سبأ، وأن شخصية عبد الله بن سبأ لم ينكرها أحد من العلماء الأقدمين، لا في السنة، ولا من الشيعة. وإنما أنكرها بعض علماء الشيعة المعاصرين، ومن تواطأ معهم من المستشرقين، ومن سار في ركاب الفريقين من الكتاب المحدثين، ممن تتلمذ على الغرب، وتأثر بمبادئه وأفكاره.(2/160)
4- أن الطبري لم ينفرد بروايات سيف بن عمر في أخبار ابن سبأ، كما زعم منكرو شخصية ابن سبأ، بل لروايات سيف عن ابن سبأ طرق أخرى غير طريق الطبري، منها: طريق ابن عساكر، ومحمد بن يحيى المالقي، والذهبي.
5- أن سيف بن عمر لم يكن المصدر الوحيد لأخبار ابن سبأ - كما ادعى ذلك منكرو ابن سبأ - فهناك روايات أخرى غير روايات سيف تثبت وجود ابن سبأ.
6- ثبوت دور عبد الله بن سبأ في نشأة الرافضة، وأنه المؤسس لمذهب الرفض، واعتراف كبار علماء الرافضة في الفرق والمقالات بذلك.
7- أن علماء السنة لم يكونوا متجنين على الرافضة فيما ذكروه من المشابهات بين اليهود والرافضة، وأن كل ما ذكروه من المشابهات بينهما حق تشهد به كتب الفريقين.
8- براءة أئمة أهل البيت الطيبين من كل ما ألصقه الرافضة بهم، وما نسبوه إليهم من تلك العقائد الفاسدة، كما جاء تصريحهم بذلك في كتب الرافضة أنفسهم.
9- أن كثيراً من عقائد الرافضة إنما حملهم على القول بها هو إيجاد مخرج من فضيحة عقيدة سابقة لها، والاستدلال لصحة العقيدة السابقة بما أحدثوه من عقيدة لاحقة.. وهكذا حتى تكونت هذه العقائد الفاسدة.
فعقيدة تحريف القرآن الكريم جاءت نتيجة حتمية لقولهم بعقيدة الوصية، فهم لما أصلوا أن أصلوا أن وصية عليّ جاءت من الله تعالى، وأن ولايته من أعظم أركان الإسلام، ولم يجدوا النص عليه في القرآن، ولا ذكر ولايته فيه، مع أنه جاء فيه ذكر الصلاة والصوم والحج والزكاة، التي هي عندهم أقل شأنا من الإمامة. قالوا بتحريف القرآن، وأن ولاية عليّ موجودة في القرآن لكن الصحابة أسقطوا تلك الآيات منه.
وترتب على عقيدة الوصية أيضاً غلوهم في عليّ رضي الله عنه وأبنائه، وأنهم هم الأحق بالإمامة من غيرهم، مما نتج عنه عقيدة حصر الإمامة فيهم، وأنها لا تخرج منهم إلى يوم القيامة.(2/161)
ونتج عن عقيدة حصر الإمامة فيهم عقيدة المهدي، وذلك أنهم كانوا يسوقون الإمامة في نسل الأئمة، ولما مات الحسن العسكري - الإمام الحادي عشر عندهم - ولم يكن له من الأولاد من يخلفه في الإمامة، كان المخرج من هذه الفضيحة، هو القول بإمامة المهدي واختفائه في السرداب.
وترتب على عقيدة المهدي واختفائه في السرداب، عقيدة الرجعة فلما رأي الرافضة أنه لا معنى لاختفائه، ولا منفعة لهم به، قالوا برجعته يوماً من الأيام، لنصرة أوليائه والانتقام من أعدائه، وذلك خروجاً من فضيحة عقيدة المهدي.
ولما رأى الخميني أن زمن غيبة المهدي قد طالت، مما ترتب على ذلك تعطيل كثير من المصالح الدينية والدنيوية عندهم، الذي يفضي في النهاية - بحسب قول الخميني - إلى القول بنسخ الشريعة: لجأ الخميني لحل هذه المشكلة إلى ما أسماء (بولاية الفقيه) وأنه في حالة غيبة الإمام هذه الغيبة الطويلة، لابد أن يقوم من الفقهاء من ينوب عنه في تصريف شئون الرعية.
وهكذا.. يمد الله للرافضة في ضلالهم مدا، كما أخبر { قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا }.
10- ثبوت عقيدة خروج المهدي في آخر الزمان عند أهل السنة، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة التي رواها كبار الصحابة، وأخرجها جماعة من كبار المحدثين في كتبهم، وأن مهدي السنة لا علاقة له البتة بمهدي الرافضة المزعوم.
ثانياً: النتائج الخاصة:
1 - التشابه بين اليهود والرافضة في عقيدة الوصية، وزعم كل منهم أن الله نص على الوصي الذي يدعونه، فقد زعم اليهود أن الله تعالى نص على يشوع وصياً لموسى، وزعم الرافضة أن الله تعالى نص على علي رضي الله وصياً للنبي صلي الله عليه وسلم.(2/162)
2 - إطلاق لقب (وصيّ) على من يتولى شئون المسلمين بعد الرسول صلي الله عليه وسلم إنما أخذه الرافضة عن اليهود، ولم يطلق المسلمون على أحد من الخلفاء الراشدين ولا على أحد من الخلفاء بعدهم هذا اللقب، بل كانوا يطلقون عليهم لقب (خليفة).
3 - التشابه بين اليهود والرافضة في حصرهم الملك والإمامة في طائفة مخصوصة، فقد زعم اليهود أن الملك لا يخرج من آل داود إلى يوم القيامة، وزعم الرافضة أن الإمامة لا تخرج من أولاد الحسين إلى قيام الساعة.
4 - أثبت الواقع بطلان دعوى اليهود والرافضة في حصرهم الملك والإمامة فيمن زعموا، وأنها لا تخرج منهم إلى يوم القيامة. فقد انقطع ملك آل داود على بني إسرائيل منذ زمن بعيد جدا. أما الحسين وأبناؤه فلم تكن لهم ولاية على المسلمين في يوم من الأيام.
5 - التشابه الكبير بين عقيدة المسيح المنتظر عند اليهود، وبين عقيدة المهدي المنتظر عند الرافضة في كثير من الوجوه كالاتفاق بينهما في صفات ذلك المنتظر وكيفية خروجه، والأعمال التي يقوم بها عند خروجه.
6 - تشبث الرافضة الشديد باليهود، وبكل ما يتعلق بهم، وقد برز ذلك في عقيدة المهدي المنتظر عندهم، حيث زعموا أنه عندما يخرج ينادي الله باسمه العبراني، ويستفتح المدن بتابوت اليهود، ويخرج عصا موسى، وقبا.. هارون، وعشرة أصواع من المن، وشرايح السلوى، ويخرج حجر موسى الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأنه يحكم بحكم آل داود.
7 - الاتفاق بين اليهود والرافضة في عقيدة الرجعة في كثير من الجوانب، وأن عقيدة الرجعة عند الرافضة أصلها يهودي محض، انتقلت إلى الرافضة عن طريق عبد الله بن سبأ.
8 - التشابه بين اليهود والرافضة في تحريفهم كتب الله تعالى، فقد حرف اليهود التوراة وحرف الرافضة القرآن.
9 - أن من أسباب تحريف اليهود والرافضة لكتب الله تعالى، هو الملك والإمامة.(2/163)
10 - أن الرافضة اتبعوا في تحريفهم للقرآن الكريم أساليب اليهود وطرقهم في تحريفهم لكتبهم التي حكاها الله عنهم في القرآن. وهي: (تحريف الكلم عن مواضعه - تحريف الكلم عن مواضعه - تحريف الكلم من بعد مواضعه - ليس الحق بالباطل - لي اللسان بالكلام للتلبيس على السامع).
11 - التشابه بين اليهود في نسبتهم الندم والحزن لله تعالى، وبين الرافضة في نسبتهم البداء لله تعالى، وأن كلتا العقيدتين تستلزم الطعن في الله ونسبة الجهل إليه تعالى الله عن ذلك.
12 - الاتفاق بين اليهود والرافضة في عدم اعتدالهم في حبهم وبغضهم، وفي توليهم وتبريهم. فإن هم أحبوا غالوا في الثناء والمدح، وإن أبغضوا أفرطوا في الذم والقدح، وهم في ذلك لا يستندون إلى دليل شرعي، بل يتبعون هوى النفس.
13 - أن عقيدة الغلو في الأئمة والطعن في الصحابة عند الرافضة أول من وضعها لهم عبد الله بن سبأ، كما اعترف بذلك كبار علمائهم ومحققيهم.
14 - الاتفاق بين اليهود والرافضة في أن كلاً منهما تدعي أنها الطائفة المقدسة عند الله، وأن عنصرهم من عنصر الله، وأنهم خاصته وأحباؤه، وصفوته من خلقه.
15 - اعتقاد كل من اليهود والرافضة أنه لا يدخل الجنة إلا طائفتهم، وأنهم لا تمسهم النار، وإن مستهم النار فأياما معدودة.
16 - اعتقاد كل من اليهود والرافضة أنه لولاهم لم يخلق الله هذا الكون، ولانعدمت البركة من الأرض، وأن كل ما في الأرض ملك لهم وليس لغيرهم أن يمتلك شيئاً من ذلك.
17 - اعتقاد كل من اليهود والرافضة أنهم أفضل من الملائكة.
18 - اعتقاد كل من اليهود والرافضة كفر مخالفيهم، وأنهم يكونون خالدين مخلدين في النار ولا يخرجون منها.
19 - استباحة كل من اليهود والرافضة دماء مخالفيهم وأموالهم، وأنه ليس لغيرهم عندهم أية حرمة.
20 - اعتقاد كل من اليهود والرافضة نجاسة مخالفيهم، وأن هذه النجاسة لازمة لأصل خلقهم، ولا تنفك عنهم، لأن أصل أرواحهم مخلوقة من طينة نجسة.(2/164)
21 - احتقار كل من اليهود والرافضة لمخالفيهم ووصفهم لهم بأنهم كلاب، وحمير، وخنازير، وحيوانات.
22 - الاتفاق بين اليهود والرافضة في أن كلاً من الطائفتين تحتقر المسلمين.
23 - يسلك كل من اليهود والرافضة مع مخالفيهم مسلك النفاق، والخداع وإظهار الموافقة لهم ومحبتهم مع مخالفتهم لهم وحقدهم عليهم، وذلك بسبب ما ضربه الله على كل من الطائفتين من الذلة والمسكنة إلى يوم القيامة، وفساد معتقدهما.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
خاتمة كتاب : للشيخ عبدالله الجميلي
124 - البخاري(3610و6163 و6933)ومسلم(1064و1065) وغيرهما وهو حديث متواتر
125 - أخرجه ابن ماجة برقم (3144) وهو حديث صحيح
126 - البخاري(111 و3047و6903و6915)
127 - البخاري (1870) ومسلم ( 1370 )
128 -الوجيز في عقيدة السلف ص 157
129 - أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه(34530) بسند صحيح
130 -أخرجه مسلم (2383)
131 - أخرجه البخاري (3904) ومسلم ( 2383) )
132 - أخرجه البخاري (466)
133 -أخرجه أحمد في مسنده (24931 و25855) وهو حديث صحيح
134 - عَنْ كَثِيرِ بن عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ الْخَنْدَقَ مِنْ أَحْمَرَ الْبَسْخَتَيْنِ طَرَفِ بني حَارِثَةَ عَامَ حِزْبِ الأَحْزَابِ، حَتَّى بَلَغَ الْمَذَابِحَ، فَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ رَجُلا قَوِيًّا، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ" أخرجه الطبراني في الكبير (5908) والحاكم في المستدرك( 6541) وغيرهما وهو حديث حسن لغيره(2/165)
135 - عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ " أخرجه البخاري (2486) ومسلم (2500)
136 - أخرجه مسلم برقم (101)
137 - أخرجه البخاري برقم (2942 و3009 و 3701 و 4210) ومسلم برقم ( 1807 و2404 و2407)
138 - أخرجه مسلم برقم (2405)
139 - أما النواصب فهم الذين نصبوا العداوة والأذية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لهم وجود في صدر هذه الأمة؛ لأسباب وأمور سياسية معروفة ، ومن زمن طويل ليس لهم وجود والحمد لله.التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة - (ج 1 / ص 105)
140 - أخرجه البخاري (3662و4358) ومسلم برقم ( 2384 )
141 - أخرجه مسلم برقم (2404)
142 -أخرجه أحمد في مسنده برقم ( 962 و973 و976 و18977 و19800و19823و19849و23844) وابن ماجة (121)
وابن أبي شيبة في مصنفه (32086و32087و32113) وغيرهم وهو حديث صحيح بلا ريب ، وصححه الشيخ ناصر رحمه الله في الصحيحة برقم (1750)
فقال قائل : فما معنى : " من كنت مولاه فعلي مولاه " ؟ فقيل له : المولى ها هنا هو الولي ، كما قال الله عز وجل : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقد بين ذلك فيما روينا ، فمن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليا كان لعلي كذلك ، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم ، بعضهم أولياء بعض ، والله نسأله التوفيق اهـ مشكل الآثار للطحاوي - (ج 4 / ص 315
143 - رواه الترمذي في سننه برقم (4078) وغيره وهو حديث صحيح مشهور(2/166)
144 - أخرجه أحمد في مسنده(963 و976) والنسائي في الكبرى (8429و8430و8489) والطبراني في الكبير برقم (4334و4919) والبزار في مسنده برقم (786) وفي مشكل الآثار برقم (1518) والضياء في المختارة برقم (481و654) وهو حديث حسن لغيره إن لم يكن صحيحا
145 - قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة - (ج 4 / ص 249) بعد تخريجه المطول لحديث ( 1750 ) - " من كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، و عاد من عاداه " .
و قد ذكرت و خرجت ما تيسر لي منها مما يقطع الواقف عليها بعد تحقيق الكلام على أسانيدها بصحة الحديث يقينا ، و إلا فهي كثيرة جدا ، و قد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، قال الحافظ ابن حجر : منها صحاح و منها حسان . و جملة القول أن حديث الترجمة حديث صحيح بشطريه ، بل الأول منه متواتر عنه صلى الله عليه وسلم كما ظهر لمن تتبع أسانيده و طرقه ، و ما ذكرت منها كفاية . و أما قوله في الطريق الخامسة من حديث علي رضي الله عنه : " و انصر من نصره و اخذل من خذله " . ففي ثبوته عندي وقفة لعدم ورود ما يجبر ضعفه ، و كأنه رواية بالمعنى للشطر
الآخر من الحديث : " اللهم وال من ولاه و عاد من عاداه " . و مثله قول عمر لعلي : " أصبحت و أمسيت مولى كل مؤمن و مؤمنة " . لا يصح أيضا لتفرد علي بن زيد به كما تقدم . إذا عرفت هذا ، فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث و بيان صحته أنني رأيت شيخ الإسلام بن تيمية ، قد ضعف الشطر الأول من الحديث ، و أما الشطر الآخر ، فزعم أنه كذب ! و هذا من مبالغته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها و يدقق النظر فيها . و الله المستعان
146 - وفي التفسير والمفسرون ــ للدكتور محمد حسين الذهبى رحمه الله - (ج 2 / ص 490)(2/167)
ويُلاحَظ على هذا التفسير ( أحد تفاسير الزيدية) أن مؤلفه لا يتحرى الصحة فيما ينقله من الأحاديث. وما يذكره من ذلك يمر عليه مراً سابرياً بدون أن يعقب عليه بكلمة واحدة تُشعر بضعف الحديث أو وضعه، فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. نراه يذكر الروايات الواردة فى سبب نزول هذه الآية، ويذكر ضمن ما يذكر: أنها نزلت فى علىّ بن أبى طالب لمَّا تصدَّق بخاتمه فى الصلاة وهو راكع .. وقد علمنا أن هذه رواية موضوعة لا أساس لها من الصحة، ولكن المؤلف يذكرها، ثم يأخذ فى تفريع الأحكام على هذه القصة المكذوبة، كأنها عنده من الثابت الصحيح.
147 - أخرجه مسلم برقم (2408)
148 - قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) [آل عمران/59-61] }
149 - أخرجه مسلم برقم (2424)(2/168)
و عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِى سَلَمَةَ رَبِيبِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فِى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَدَعَا النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ وَعَلِىٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ ثُمَّ قَالَ " اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِى فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ". قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَالَ " أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ إِلَى خَيْرٍ " رواه الترمذي برقم (3510و3511) وابن أبي شيبة برقم(32098) وغيرهما وهو صيح
وفي مشكل الآثار باب رقم (116)(2/169)
بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } مَنْ هُمْ ) . حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادِينَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ . حَدَّثَنَا فَهْدٌ ثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجَلِيِّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي فِي الْأَوَّلِ . حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ ثنا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْقَطَوَانِيُّ ثنا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ أَخْبَرَنِي ابْنُ هَاشِمِ بْنُ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ(2/170)
تَحْتَ ثَوْبِهِ ثُمَّ جَأَرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَبِّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتُدْخِلُنِي مَعَهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ أَهْلِي } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ جَوَابًا مِنْهُ لَهَا عِنْدَ قَوْلِهَا لَهُ تُدْخِلُنِي مَعَهُمْ أَنْتِ مِنْ أَهْلِي فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهَا مِنْ أَزْوَاجِهِ وَأَزْوَاجُهُ أَهْلُهُ . كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ الَّذِي قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ ثنا ابْنُ مَعْبَدٍ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَسَعِيدٍ وَعَلْقَمَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِي ، وَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي } . فَكَانَ قَوْلُهُ { مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي } يَعْنِي فِي زَوْجَتِهِ الَّتِي كَانَ أَذَاهُ فِيهَا فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ تُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ { قَوْلُهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ أَنْتِ مِنْ أَهْلِي } مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا أَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدْ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ(2/171)
الْحَكَمِ الْحِبَرِيُّ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا مُخَوَّلُ بْنُ مُخَوَّلِ بْنِ رَاشِدٍ الْحَنَّاطُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبَّاسٍ الشِّبَامِيُّ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيُّ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ أَفْعَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيْتِي { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } يَعْنِي فِي سَبْعَةٍ جَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلَ وَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَأَنَا عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْتُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ قَالَ إنَّكِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا قَالَ إنَّكِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ أَيْضًا حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ الْأَحْمَرُ عَنْ الْأَجْلَحِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ { جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِطَعَامٍ لَهَا إلَى أَبِيهَا ، وَهُوَ عَلَى مَنَازِلِهِ فَقَالَ أَيْ بُنَيَّةُ ائْتِينِي بِأَوْلَادِي وَابْنِي وَابْنِ عَمِّك قَالَتْ ، ثُمَّ جَلَّلَهُمْ أَوْ قَالَتْ حَوَى عَلَيْهِمْ الْكِسَاءَ فَقَالَ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَحَامَّتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا مَعَهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ أَوْ إلَى خَيْرٍ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَبَّانٍ حَدَّثَنَا مَنْدَلٌ عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ عَنْ(2/172)
شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ { أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَجَاءَتْهُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِخَزِيرَةٍ فَقَالَ اُدْعِي لِي بَعْلَكِ فَدَعَتْهُ وَابْنَيْهَا فَجَاءَ بِكِسَاءٍ فَحَفَّهُمْ بِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتِي وَأَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ الرِّجْسَ عَنْهُمْ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا قَالَتْ فَرَفَعْتُ الْكِسَاءَ وَأَدْخَلْتُ رَأْسِي فِيهِ فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّكِ عَلَى خَيْرٍ } . حَدَّثَنَا فَهْدٌ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ { أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيْتِي { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْتُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَنْتِ عَلَى خَيْرٍ إنَّكِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ ائْتِينِي بِزَوْجِكِ وَابْنَيْكِ فَجَاءَتْ بِهِمْ فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ كِسَاءً فَدَكِيًّا ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ آلُ مُحَمَّدٍ فَاجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَرَفَعْتُ(2/173)
الْكِسَاءَ لِأَدْخُلَ مَعَهُمْ فَجَبَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إنَّك عَلَى خَيْرٍ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْكَيْسَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ ( ح ) وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامُ حَدَّثَنَا شَهْرٌ قَالَ سَمِعْتُ { أُمَّ سَلَمَةَ حِينَ جَاءَ نَعْيُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَتْ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ وَغَرُّوهُ وَذَلُّوهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَتْهُ فَاطِمَةُ غَدِيَّةً بِبُرْمَةٍ لَهَا قَدْ صَنَعَتْ فِيهَا عَصِيدَةً تَحْمِلُهَا فِي طَبَقٍ لَهَا حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ فَقَالَتْ هُوَ فِي الْبَيْتِ قَالَ اذْهَبِي فَادْعِيهِ وَائْتِينِي بِابْنَيْكِ قَالَتْ فَجَاءَتْ تَقُودُ ابْنَيْهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلِيٌّ فِي أَثَرِهِمْ يَمْشِي حَتَّى دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُمَا فِي حِجْرِهِ وَجَلَسَ عَلِيٌّ عَلَى يَمِينِهِ وَجَلَسَتْ فَاطِمَةُ عَلَى يَسَارِهِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَاجْتَبَذَ مِنْ تَحْتِي كِسَاءً خَيْبَرِيًّا كَانَ بِسَاطًا لَنَا عَلَى الْمَنَامَةِ بِالْمَدِينَةِ فَلَفَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَأَخَذَ بِشِمَالِهِ طَرَفَيْ الْكِسَاءِ وَأَلْوَى بِيَدِهِ الْيُمْنَى إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْتُ مِنْ أَهْلِكَ قَالَ بَلَى قَالَ فَادْخُلِي فِي(2/174)
الْكِسَاءِ قَالَتْ فَدَخَلْتُ بَعْدَمَا قَضَى دُعَاءَهُ لِابْنِ عَمِّهِ عَلِيٍّ وَابْنَيْهِ وَابْنَتِهِ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ الْوَاسِطِيُّ أَبُو إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ { عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } قَالَتْ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَفَاطِمَةَ فَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَدَعَا عَلِيًّا فَأَجْلَسَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ ، ثُمَّ جَلَّلَهُمْ جَمِيعًا بِالْكِسَاءِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مَكَانَكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا فَهْدٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ عَنْ { عَمْرَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ قَالَتْ أَتَيْتُ أُمَّ سَلَمَةَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ مَنْ أَنْتِ فَقُلْتُ عَمْرَةُ الْهَمْدَانِيَّةُ فَقَالَتْ عَمْرَةُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قُتِلَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَمُحِبٌّ وَمُبْغِضٌ تُرِيدُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ(2/175)
أَتُحِبِّينَهُ أَمْ تُبْغِضِينَهُ قَالَتْ مَا أُحِبُّهُ وَلَا أُبْغِضُهُ فَقَالَتْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } إلَى آخِرِهَا وَمَا فِي الْبَيْتِ إلَّا جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيُّ وَفَاطِمَةُ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ فَقَالَ إنَّ لَك عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا فَوَدِدْتُ أَنَّهُ قَالَ نَعَمْ فَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ } . فَدَلَّ مَا رَوَيْنَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ مِمَّا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ مِمَّا ذَكَرَ فِيهَا لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مِمَّنْ أُرِيدَ بِهِ مِمَّا فِي الْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَنَّ الْمُرَادِينَ بِمَا فِيهَا هُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِيمَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ مِنْ قَوْلِهِ لَهَا { أَنْتِ مِنْ أَهْلِي } . مَا قَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْحَضْرَمِيُّ وَسُلَيْمَانُ الْكَيْسَانِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ الْبَجَلِيُّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو عَمَّارٍ حَدَّثَنِي { وَاثِلَةُ قَالَ أَتَيْتُ عَلِيًّا فَلَمْ أَجِدْهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ قَالَ فَجَاءَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَا وَدَخَلْتُ مَعَهُمَا فَدَعَا(2/176)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَأَقْعَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى فَخِذِهِ وَأَدْنَى فَاطِمَةَ مِنْ حِجْرِهِ وَزَوْجَهَا ، ثُمَّ لَفَّ عَلَيْهِمْ ثَوْبًا وَأَنَا مُنْتَبِذٌ ، ثُمَّ قَالَ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } الْآيَةَ ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي إنَّهُمْ أَهْلُ حَقٍّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا مِنْ أَهْلِكَ قَالَ وَأَنْتِ مِنْ أَهْلِي } قَالَ : وَاثِلَةُ فَإِنَّهَا مِنْ أَرْجَى مَا أَرْجُو وَوَاثِلَةُ أَبْعَدُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ لَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأُمُّ سَلَمَةَ مَوْضِعُهَا مِنْ قُرَيْشٍ مَوْضِعُهَا الَّذِي هِيَ بِهِ مِنْهُ فَكَانَ قَوْلُهُ لِوَاثِلَةَ { أَنْتَ مِنْ أَهْلِي } عَلَى مَعْنَى لِاتِّبَاعِك إيَّايَ وَإِيمَانِكَ بِي فَدَخَلْتَ بِذَلِكَ فِي جُمْلَتِي . وَقَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } فَأَجَابَهُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لَهُ { إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } فَكَمَا جَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ ابْنَهُ لِخِلَافِهِ إيَّاهُ فِي دِينِهِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِهِ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى دِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوِي نَسَبِهِ فَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا لِأُمِّ سَلَمَةَ أَنْتِ مِنْ أَهْلِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَهَا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ مِثْلَهُ لِوَاثِلَةَ . وَحَدِيثُ سَعْدٍ وَمَا(2/177)
قَدْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ مَعْقُولٌ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ فِيهَا لِأَنَّا قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا مَنْ دَعَا مِنْ أَهْلِهِ عِنْدَ نُزُولِهَا لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِهَا الْمُرَادِينَ فِيهَا أَحَدًا سِوَاهُمْ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِيمَا أُرِيدَتْ بِهِ سِوَاهُمْ وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ مَا وَصَفْنَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ بِتِلْكَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ } إلَى قَوْلِهِ { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ } إلَى قَوْلِهِ { الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُرَدْنَ بِهِ لِأَنَّهُ عَلَى خِطَابِ النِّسَاءِ لَا عَلَى خِطَابِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ قَالَ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } الْآيَةَ . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ أَنَّ الَّذِي تَلَاهُ إلَى آخِرِ مَا قَبْلَ قَوْلِهِ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } الْآيَةَ خِطَابٌ لِأَزْوَاجِهِ ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِخِطَابِهِ لِأَهْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ } الْآيَةَ فَجَاءَ عَلَى خِطَابِ الرِّجَالِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ { لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ } وَهَكَذَا خِطَابُ الرِّجَالِ وَمَا قَبْلَهُ فَجَاءَ بِهِ بِالنُّونِ وَكَذَلِكَ خِطَابُ النِّسَاءِ . فَعَقَلْنَا أَنَّ قَوْلَهُ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ }(2/178)
الْآيَةَ خِطَابٌ لِمَنْ أَرَادَهُ مِنْ الرِّجَالِ بِذَلِكَ لِيُعْلِمَهُمْ تَشْرِيفَهُ لَهُمْ وَرِفْعَتَهُ لِمِقْدَارِهِمْ أَنْ جَعَلَ نِسَاءَهُمْ مَنْ قَدْ وَصَفَهُ لِمَا وَصَفَهُ بِهِ مِمَّا فِي الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّاتِ قَبْلَ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ تَعَالَى . وَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } الْآيَةَ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ ثنا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَهُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ الْفَزَارِيّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُد قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَهُوَ نُفَيْعٌ الْهَمْدَانِيُّ الْأَعْمَى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَيْضًا قَالَ حَدَّثَنِي { أَبُو الْحَمْرَاءِ قَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَانَ إذَا أَصْبَحَ أَتَى بَابَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } الْآيَةَ } وَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ مَنْ هُمْ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
150 - أخرجه البخاري برقم (2699) مطولا(2/179)
151 - عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ قَالَ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَىِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ ) قَالَ هُمُ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ وَعَلِىٌّ وَعُبَيْدَةُ أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْحَارِثِ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ أخرجه البخاري (3965)
عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ نَزَلَتْ ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ ) فِى سِتَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلِىٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ .أخرجه البخاري برقم(3966)
عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ قَالَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ )أخرجه البخاري برقم ( 3967 )
152 - قال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11 [الإنسان/8-11]}
153 -أخرجه البخاري برقم ( 3671 )
154 -أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993 و1219) وهو حديث صحيح لغيره(2/180)
155 - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَىٌّ أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ رضى الله عنهم أَجْمَعِينَ.رواه أبو داود برقم (4630) وهو حديث صحيح
156 - رواه الترمذي في سننه برقم (4036) وحسنه وابن أبي شيبة في مصنفه(31936) وأحمد في مسنده(612) والبزار في مسنده برقم (490) وهو حديث صحيح
157 - أخرجه البخاري (3656 و3658و6738) ومسلم (2383و2384)وأحمد في مسنده(3446 و3955 و3986 و4219 و4245 و4267 و4442 و4505 و16536 و16541 و16549) وغيرهم وهو حديث متواتر
158 -أخرجه البخاري برقم (466)
159 - أخرجه البخاري برقم (3662) ومسلم برقم ( 2384)
160 - أخرجه مسلم برقم (2387)
161 -أخرجه مسلم برقم (2386)
162 - أخرجه الترمذي برقم(4023) و4175) و ابن أبي شيبة (31937)وأحمد في مسنده(23946) والحاكم في المستدرك برقم(4451و4452) وغيرهم وهو حديث صحيح
163 -أخرجه مسلم برقم(681)
164 - أخرجه أبو داود في سننه برقم (4636) والترمذي برقم (2456) وهو حديث صحيح
165 - أخرجه البخاري برقم(4640)
166 - أخرجه البخاري برقم (664و 678 و682 و3385 و7303) ومسلم (418-420) وغيرهما وهو حديث متواتر
167 - أخرجه البخاري (3677) ومسلم برقم (2389)
168 - أخرجه البخاري (3697) وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَىٌّ أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ رضى الله عنهم أَجْمَعِينَ.رواه أبو داود في السنن برقم (4630) وهو صحيح
169 - رواه أبو يعلى في مسنده برقم ( 5476 ) وهو صحيح
170 - أخرجه البخاري برقم (3700)(2/181)
171 -شرح أصول الاعتقاد برقم(1883 -1887) من طرق عنه وعن كبار التابعين وهو صحيح
172 - أخرجه الترمذي برقم (4023) وهو حديث صحيح
173 - قلت : هذا الكلام فيه نظر ،ومبالغة ، بل الذي بدأ بالسب هم شيعة علي رضي الله عنه ، والسب لم يكن شائعاً ومشهورا في عهد بني أمية ،و كثير مما روي في ذلك هو من اختلاق الرافضة الحاقدين
174 - برقم (1065)
175 - رواه مسلم برقم (1065)
176 - رواه البخاري برقم(447)
177 - أخرجه مسلم برقم (2915)
178 - برقم (2916)
179 - أخرجه البخاري (3601)ومسلم (2886)
180 -أخرجه البخاري برقم (3300)
181 -رواه أحمد في مسنده برقم (21212) وغيره وهو حديث حسن
182 - أخرجه البخاري برقم (31) ومسلم برقم (2888 )
183 - أخرجه البخاري برقم (121 و1739 و4403 و4405 و6126 و6868 و6869 ) ومسلم برقم (64- 66) وهو حديث متواتر
184 - قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) [البقرة/109، 110]}(2/182)
185 - عن نافع عن عبدالله بن عمر أن رجلا أتاه فقال يا أبا عبد الرحمن ما الذي حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله وقد علمت ما أعد الله فيه فقال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وصلاة الخمس وصيام شهر رمضان وأداء الزكاة وحج البيت فقال يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فما يمنعك أن تقاتل الفئة الباغية كما أمر الله عز وجل في كتابه فقال يا ابن أخي لأن أعتبر بهذه الآية فلا أقاتل أحب إلي من أن أعتبر بالآية التي يقول الله عز وجل فيها ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم فقال ألا ترى أن الله يقول وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله قال ابن عمر رضي الله عنهما: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذ كان أهل الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يسترقوه فلما كثر أهل الإسلام فلم يكن فتنة فلما رآني أني لا اوافقه فيما يريد ولا فيما بعث له قال فما قولك في علي وعثمان قال ابن عمر رضي الله عنهما قولي في علي وعثمان أما عثمان فكان الله عفا عنه وكرهتم أن يعفو وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبه ومن أهل بيته وزوج ابنته قال فسكت أخرجه ابن عساكر في تاريخه 31/192 وهو صحيح(2/183)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّى وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَصْتُ أَنْ أَتَسَمَّتَ بِسَمْتِكَ وَأَقْتَدِىَ بِكَ فِى أَمْرِ فُرْقَةِ النَّاسِ وَأَعْتَزِلَ الشَّرَّ مَا اسْتَطَعْتُ وَإِنِّى أَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مُحْكَمَةً قَدْ أَخَذَتْ بِقَلْبِى فَأَخْبِرْنِى عَنْهَا أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أَخْبِرْنِى عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَمَا لَكَ وَلِذَاكَ؟ انْصَرِفْ عَنِّى فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنَّا سَوَادُهُ أَقْبَلَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ : مَا وَجَدْتُ فِى نَفْسِى مِنْ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مَا وَجَدْتُ فِى نَفْسِى أَنِّى لَمْ أُقَاتِلْ هَذِهِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ كَمَا أَمَرَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. زَادَ الْقَطَّانُ فِى رِوَايَتِهِ قَالَ حَمْزَةُ فَقُلْنَا لَهُ : وَمَنْ تَرَى الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : ابْنَ الزُّبَيْرِ بَغَى عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَنَكَثَ عَهْدَهُمْ. رواه البيهقي في السنن الكبرى (17151) وهو صحيح
186 - أخرجه البخاري برقم (7460)
187 - أخرجه البخاري برقم (7460)
188 -أخرجه البخاري برقم (7311) ومسلم برقم (1921 )
189 - أخرجه مسلم برقم (1925)(2/184)
وعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، قَالَ مُطَرِّفٌ: فَنَظَرْتُ فِي هَذِهِ الْعِصَابَةِ، فَإِذَا هُمْ أَهْلُ الشَّامِ.أخرجه أبو عوانة في مستخرجه برقم (6047)
190 - أخرجه البخاري برقم(5767)
191 - أخرجه البخاري برقم (5296 و 7092 و 7092و7093 ) ومسلم برقم (7476 ) الأزهر وغيرهما
192 - أخرجه البخاري برقم (3301) ومسلم برقم ( 52 )
193 - أخرجه مسلم برقم (2916) وهو حديث متواتر
194 - أخرجه مسلم برقم (1065)
195 -أخرجه البخاري برقم (2704)
196 -أخرجه مسلم بهذا اللفظ برقم (1065)
197 - أخرجه البخاري برقم (3610 و6163و6933 ) ومسلم برقم (1064)
198 - أخرجه البخاري برقم(3658) ومسلم برقم ( 2383)
199 -أخرجه مسلم برقم (2398)
200 - أخرجه مسلم برقم (2401)
201 - أخرجه البخاري برقم (2942) و مسلم برقم (1807)
202 - أخرجه البخاري برقم(2846) ومسلم برقم ( 2415 )
203 -- أخرجه أبو داود برقم (3676) وهو صحيح لغيره
204 -أخرجه البخاري برقم (6780)
205 - أخرجه البخاري برقم( 2924)
206 - أخرجه الدارمي (2154) بسند صحيح
207 - عن جبلة بن سحيم ، قال : سمعت ابن عمر ، يقول : " ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية ، فقيل : ولا أبوك ؟ قال : أبي عمر رحمه الله خير من معاوية ، وكان معاوية أسود منه " أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (685) وغيره من طرق عنه وهو صحيح ، وصح مثله عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم
208 - أخرجه أبو داود برقم (4648 و4649) وهو حديث صحيح
209 - أخرجه ابو داود برقم (4609)و ابن ماجة برقم (44)وأحمد في مسنده برقم (17608) وهو صحيح(2/185)
210 - أخرجه الترمذي برقم (4023) وابن أبي شيبة في مصنفه برقم ( 31937 ) وأحمد في مسنده برقم ( 23946 ) و هو حديث صحيح
211 - الاعتقاد للبيهقي برقم (338) والسنة لعبد الله برقم (1199) و في الكفاية للخطيب برقم (1185) وفضائل الصحابة برقم (44و367) وغيرهم وهو صحيح مشهور عنه
212 -مر تخريجه قبل قليل
213 - أخرجه البخاري برقم (6047) ومسلم برقم ( 110)
214 - أخرجه البخاري برقم (6168و6169 و6170) ومسلم برقم ( 2640 )
215 - مر تخريجه قبل قليل وهو حديث صحيح
216 - أخرجه مسلم برقم (2408)
217 - هل يجوز لعن يزيد بن معاوية ؟
الحقيقة أنني ترددت كثيراً في إدراج هذه المسألة في هذا البحث وذلك لسببين ، أولهما أن الأمر يحتاج إلى نفس عميق وبحث متأن حتى لا تزل القدم بعد ثبوتها ، والسبب الآخر أن هذه المسألة قد وقع فيها التخبط الكثير من الناس ، وأحياناً من الخواص فضلاً عن العوام ، فاستعنت بالله على خوض غمار هذه المسألة ونسأل الله الهداية والرشاد
وقد صنفت المصنفات في لعن يزيد بن معاوية والتبريء منه ، فقد صنف القاضي أبو يعلى كتاباً بيّن فيه من يستحق اللعن وذكر منهم يزيد بن معاوية ، وألف ابن الجوزي كتاباً سمّاه " الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد " ، وقد اتهم الذهبي - رحمه الله- يزيد بن معاوية فقال : " كان ناصبياً، فظاً ، غليظاً ، جلفاً ، يتناول المسكر ويفعل المنكر "217 ، وكذلك الحال بالنسبة لابن كثير - رحمه الله - حينما قال : " وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم ، والحلم ، والفصاحة ، والشعر ، والشجاعة ، وحسن الرأي في الملك ، وكان ذا جمال وحسن معاشرة ، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات ، وترك الصلوات في بعض أوقاتها ، وإماتتها في غالب الأوقات "217(2/186)
قلت : الذي يجوز لعن يزيد وأمثاله ، يحتاج إلى شيئين يثبت بهما أنه كان من الفاسقين الظالمين الذين تباح لعنتهم ، وأنه مات مصرّاً على ذلك ، والثاني : أن لعنة المعيّن من هؤلاء جائزة .
وسوف نورد فيما يلي أهم الشبهات التي تعلق بها من استدل على لعن يزيد والرد عليها :
أولا: استدلوا بجواز لعن يزيد على أنه ظالم ، فباعتباره داخلاً في قوله تعالى { ألا لعنة الله على الظالمين }
الرد على هذه الشبهة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " هذه آية عامة كآيات الوعيد ، بمنزلة قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً }وهذا يقتضي أن هذا الذنب سبب للعن والعذاب ، لكن قد يرتفع موجبه لمعارض راجح ، إما توبة ، وإما حسنات ماحية ، وإما مصائب مكفّرة ، وإما شفاعة شفيع مطاع ، ومنها رحمة أرحم الراحمين "217ا.هـ .
فمن أين يعلم أن يزيد لم يتب من هذا ولم يستغفر الله منه ؟ أو لم تكن له حسنات ماحية للسيئات ؟ أو لم يبتلى بمصائب وبلاء من الدنيا تكفر عنه ؟ وأن الله لا يغفر له ذلك مع قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إن لعن الموصوف لا يستلزم إصابة كل واحد من أفراده إلا إذا وجدت الشروط ، وارتفعت الموانع ، وليس الأمر كذلك "217
ثانياً : استدلوا بلعنه بأنه كان سبباً في قتل الحسين - رضي الله عنه - :
الرد على هذه الشبهة:(2/187)
الصواب أنه لم يكن ليزيد بن معاوية يد في قتل الحسين - رضي الله عنه - ، وهذا ليس دفاعاً عن شخص يزيد لكنه قول الحقيقة ، فقد أرسل يزيد عبيد الله بن زياد ليمنع وصول الحسين إلى الكوفة ، ولم يأمر بقتله ، بل الحسين نَفْسُه كان حسن الظن بيزيد حتى قال دعوني أذهب إلى يزيد فأضع يدي في يده . قال ابن الصلاح - رحمه الله - : " لم يصح عندنا أنه أمر بقتله - أي الحسين رضي الله عنه - ، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله - كرمه الله - إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك "217
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " إن يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق ، ولما بلغ يزيد قتل الحسين أظهر التوجع على ذلك وظهر البكاء في داره ، ولم يَسْبِ لهم حريماً بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتى ردّهم إلى بلادهم ، أما الروايات التي في كتب الشيعة أنه أُهين نساء آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهن أُخذن إلى الشام مَسبيَّات ، وأُهِنّ هناك هذا كله كلام باطل ، بل كان بنو أمية يعظِّمون بني هاشم ، ولذلك لماّ تزوج الحجاج بن يوسف فاطمة بنت عبد الله بن جعفر لم يقبل عبد الملك بن مروان هذا الأمر ، وأمر الحجاج أن يعتزلها وأن يطلقها ، فهم كانوا يعظّمون بني هاشم ، بل لم تُسْبَ هاشميّة قط " ا.هـ .217
قال ابن كثير - رحمه الله - : " وليس كل ذلك الجيش كان راضياً بما وقع من قتله - أي قتل الحسين - بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم ولا كرهه ، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه ، كما أوصاه أبوه ، وكما صرح هو به مخبراً عن نفسه بذلك ، وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو "ا.هـ.217(2/188)
وقال الغزالي - رحمه الله - : " فإن قيل هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به ؟ قلنا : هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت ، فضلاً عن اللعنة ، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق " 217
قلت : ولو سلّمنا أنه قتل الحسين ، أو أمر بقتله وأنه سُرَّ بقتله ، فإن هذا الفعل لم يكن باستحلال منه ، لكن بتأويل باطل ، وذلك فسق لا محالة وليس كفراً ، فكيف إذا لم يثبت أنه قتل الحسين ولم يثبت سروره بقتله من وجه صحيح ، بل حُكِي عنه خلاف ذلك .
قال الغزالي : "فإن قيل : فهل يجوز أن يقال : قاتل الحسين لعنه الله ؟ أو الآمر بقتله لعنه الله ؟ قلنا : الصواب أن يقال : قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله ، لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة ، لأن وحشياً قتل حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله وهو كافر ، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعاً ولا يجوز أن يلعن ، والقتل كبيرة ولا تنتهي به إلى رتبة الكفر ، فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر ، وليس في السكوت خطر ، فهو أولى "217
ثالثا : استدلوا بلعنه بما صنعه جيش يزيد بأهل المدينة ، وأنه أباح المدينة ثلاثاً حيث استدلوا بحديث " من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله من صرفاً ولا عدلاً "
الرد على هذه الشبهة :(2/189)
إن الذين خرجوا على يزيد بن معاوية من أهل المدينة كانوا قد بايعوه بالخلافة ، وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يبايع الرجل الرجل ثم يخالف إليه ويقاتله ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ،فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر "217 ، وإن الخروج على الإمام لا يأتي بخير ، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة التي تحذّر من الإقدام على مثل هذه الأمور ، لذلك قال الفضيل بن عياض- رحمه الله - : " لو أنّ لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في إمام ، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد " 217 ، وهذا الذي استقرت عليه عقيدة أهل السنة والجماعة ، ومعركة الحرة تعتبر فتنة عظيمة ، والفتنة يكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل ، حتى لا يتميز لكثير من الناس ، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته ،ويكون فيها ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير ، فالفتنة كما قال شيخ الإسلام : " إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت فأما إذا أقبلت فإنها تُزين ، ويُظن أن فيها خيراً "217 .
وسبب خروج أهل المدينة على يزيد ما يلي :
- غلبة الظن بأن بالخروج تحصل المصلحة المطلوبة ، وترجع الشورى إلى حياة المسلمين ، ويتولى المسلمين أفضلهم .
- عدم علم البعض منهم بالنصوص النبوية الخاصة بالنهي عن الخروج على الأئمة .(2/190)
قال القاضي عياض بشأن خروج الحسين وأهل الحرة وابن الأشعث وغيرهم من السلف : " على أن الخلاف وهو جواز الخروج أو عدمه كان أولاً ، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم "217 ، ومن المعلوم أن أهل الحرّة متأولون ، والمتأول المخطئ مغفور له بالكتاب والسنة ، لأنهم لا يريدون إلا الخير لأمتهم ، فقد قال العلماء : " إنه لم تكن خارجة خير من أصحاب الجماجم والحرّة "217 ، وأهل الحرة ليسوا أفضل من علي وعائشة و طلحة و الزبير وغيرهم ، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال ، وهم أعظم قدراً عند الله ، وأحسن نية من غيرهم217.
…فخروج أهل الحرة كان بتأويل ، ويزيد إنما يقاتلهم لأنه يرى أنه الإمام ، وأن من أراد أن يفرق جمع المسلمين فواجب مقاتلته وقتله ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح217.وكان علي - رضي الله عنه - يقول : " لو أن رجلاً ممّن بايع أبا بكر خلعه لقاتلناه ، ولو أن رجلاً ممّن بايع عمر خلعه لقاتلناه "217
…أما إباحة المدينة ثلاثاً لجند يزيد يعبثون بها يقتلون الرجال ويسبون الذرية وينتهكون الأعراض ، فهذه كلها أكاذيب وروايات لا تصح ، فلا يوجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي أُلِّفت في الفتن خاصّة ، كالفتن لنعيم بن حمّاد أو الفتن لأبي عمرو الداني أي إشارة لوقوع شيء من انتهاك الأعراض ، وكذلك لا يوجد في أهم المصدرين التاريخيين المهمين عن تلك الفترة ( الطبري والبلاذري ) أي إشارة لوقوع شيء من ذلك ، وحتى تاريخ خليفة على دقته واختصاره لم يذكر شيئاً بهذه الصدد ، وكذلك إن أهم كتاب للطبقات وهو طبقات ابن سعد لم يشر إلى شيء من ذلك في طبقاته .(2/191)
نعم قد ثبت أن يزيد قاتل أهل المدينة ، فقد سأل مهنّا بن يحيى الشامي الإمام أحمد عن يزيد فقال : " هو فعل بالمدينة ما فعل قلت : وما فعل ؟ قال : قتل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل . قلت : وما فعل ؟ قال : نهبها " وإسنادها صحيح217 ، أما القول بأنه استباحها فإنه يحتاج إلى إثبات ، وإلا فالأمر مجرد دعوى ، لذلك ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك ، من أمثال الدكتور نبيه عاقل ، والدكتور العرينان ، والدكتور العقيلي 217. قال الدكتور حمد العرينان بشأن إيراد الطبري لهذه الرواية في تاريخه " ذكر أسماء الرواة متخلياً عن مسئولية ما رواه ، محملاً إيانا مسئولية إصدار الحكم ، يقول الطبري في مقدمة تاريخه217 : " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه ، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً من الصحة ولا معنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت من قبلنا وإنما أُتي من بعض ناقليه إلينا217 "ا.هـ.
…قلت : ولا يصح في إباحة المدينة شيء ، وسوف نورد فيما يلي هذه الروايات التي حصرها الدكتور عبد العزيز نور - جزاه الله خيراً - في كتابه المفيد " أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري - والتي نقلها من كتب التاريخ المعتمدة التي عنيت بهذه الوقعة217 :(2/192)
…نقل ابن سعد خبر الحرة عن الواقدي217 . ونقل البلاذري عن هشام الكلبي عن أبي مخنف نصاً واحداً 217، وعن الواقدي ثلاثة نصوص 217. ونقل الطبري عن هشام الكلبي أربعة عشر مرة 217، وهشام الكلبي الشيعي ينقل أحياناً من مصدر شيعي آخر وهو أبو مخنف حيث نقل عنه في خمسة مواضع217 .ونقل الطبري عن أبي مخنف مباشرة مرة واحدة 217. وعن الواقدي مرتين 217. واعتمد أبو العرب على الواقدي فقط ، فقد نقل عنه أربعاً وعشرين مرة217 .ونقل الذهبي نصين عن الواقدي217 . وذكرها البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر عن يعقوب بن سفيان الفسوي217 . وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض هو المدائني المتوفى سنة 225هـ 217 ويعتبر ابن الجوزي أول من أورد هذا الخبر في تاريخه217 .
قلت : ممّا سبق بيانه يتضح أن الاعتماد في نقل هذه الروايات تكمن في الواقدي ، وهشام الكلبي ، وأبي مخنف ، بالإضافة إلى رواية البيهقي التي من طريق عبد الله بن جعفر .
…أما الروايات التي جاءت من طريق الواقدي فهي تالفة ، فالواقدي قال عنه ابن معين : " ليس بشيء " 217. وقال البخاري : " سكتوا عنه ، تركه أحمد وابن نمير "217 . وقال أبو حاتم و النسائي : " متروك الحديث " 217.وقال أبو زرعة : " ضعيف "217.
…أما الروايات التي من طريق أبي مخنف ، فقد قال عنه ابن معين : " ليس بثقة " ، وقال أبو حاتم : " متروك الحديث "217. وقال النسائي : " إخباري ضعيف "217 . وقال ابن عدي : " حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين ، ولا يبعد أن يتناولهم ، وهو شيعي محترق ، صاحب أخبارهم ، وإنما وصفته لأستغني عن ذكر حديثه ، فإني لا أعلم له منة الأحاديث المسندة ما أذكره ، وإنما له من الأخبار المكروهة الذي لا أستحب ذكره " 217. وأورده الذهبي في " ديوان الضعفاء " و " المغني في الضعفاء " 217. وقال الحافظ : " إخباري تالف "217 .
مناقشة الروايات التي جاء فيها هتك الأعراض :…(2/193)
أما الروايات التي جاء فيها هتك الأعراض ، وهي التي أخرجها ابن الجوزي من طريق المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسّان : ولدت ألف امرأة بعد الحرة من غير زوج ، والرواية الأخرى التي أخرجها البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب بن سفيان : قال : حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن المغيرة قال : أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام . فزعم المغيرة أنه افتض ألف عذراء ، فالروايتان لا تصحان للعلل التالية:
…- أما رواية المدائني فقد قال الشيباني : " ذكر ابن الجوزي حين نقل الخبر أنه نقله من كتاب الحرّة للمدائني217 ، وهنا يبرز سؤال ملح : وهو لماذا الطبري والبلاذري ، وخليفة وابن سعد وغيرهم ، لم يوردوا هذا الخبر في كتبهم ، وهم قد نقلوا عن المدائني في كثير من المواضع من تآليفهم ؟ قد يكون هذا الخبر أُقحم في تآليف المدائني ، وخاصة أن كتب المدائني منتشرة في بلاد العراق ، وفيها نسبة لا يستهان بها من الرافضة ، وقد كانت لهم دول سيطرت على بلاد العراق ، وبلاد الشام ، ومصر في آن واحد ، وذلك في القرن الرابع الهجري ، أي قبل ولادة ابن الجوزي رحمه الله ، ثم إن كتب المدائني ينقل منها وجادة بدون إسناد " ا.هـ. 217
…- في إسناد البيهقي عبد الله بن جعفر ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ( 2/400) وقال : " قال الخطيب سمعت اللالكائي ذكره وضعفه . وسألت البرقاني عنه فقال : ضعّفوه لأنه روى التاريخ عن يعقوب أنكروا ذلك ، وقالوا : إنما حديث يعقوب بالكتاب قديماً فمتى سمع منه؟ "ا.هـ.
- راوي الخبر هو : المغيرة بن مقسم ، من الطبقة التي عاصرت صغار التابعين ،ولم يكتب لهم سماع من الصحابة ، وتوفي سنة 136هـ ، فهو لم يشهد الحادثة فروايته للخبر مرسلة .
- كذلك المغيرة بن مقسم مدلس ، ذكره ابن حجر في الطبقة الثالثة من المدلسين الذين لا يحتج بهم إلا إذا صرحوا بالسماع .(2/194)
- الراوي عن المغيرة هو عبد الحميد بن قرط ، اختلط قبل موته ، ولا نعلم متى نقل الخبر هل هو قبل الاختلاط أم بعد الاختلاط217 ، فالدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال .
- الرواية السالفة روِيَت بصيغة التضعيف ، والتشكيك بمدى مصداقيتها : " زعم المغيرة - راوي الخبر - أنه افتض فيها ألف عذراء .
- أمّا الرواية الأخرى التي جاء فيها وقوع الاغتصاب ، هي ما ذكرها ابن الجوزي أن محمد بن ناصر ساق بإسناده عن المدائني عن أبي عبد الرحمن القرشي عن خالد الكندي عن عمّته أم الهيثم بنت يزيد قالت : " رأيت امرأة من قريش تطوف ، فعرض لها أسود فعانقته وقبّلته ، فقلت : يا أمة الله أتفعلين بهذا الأسود ؟ فقالت : هو ابني وقع عليّ أبوه يوم الحرة 217" ا.هـ.
- خالد الكندي وعمّته لم أعثر لهما على ترجمة .
- أمّا الرواية التي ذكرها ابن حجر في الإصابة 217أن الزبير بن بكار قال : حدثني عمّي قال : كان ابن مطيع من رجال قريش شجاعة ونجدة ، وجلداً فلما انهزم أهل الحرة وقتل ابن حنظلة وفرّ ابن مطيع ونجا ، توارى في بيت امرأة ، فلما هجم أهل الشام على المدينة في بيوتهم ونهبوهم ، دخل رجل من أهل الشام دار المرأة التي توارى فيه ابن مطيع ، فرأى المرأة فأعجبته فواثبها ، فامتنعت منه ، فصرعها ، فاطلع ابن مطيع على ذلك فخلّصها منه وقتله "
- وهذه الرواية منقطعة ، فرواوي القصة هو مصعب الزبيري المتوفى سنة 236هـ ، والحرة كانت في سنة 63هـ ، فيكون بينه وبين الحرة زمن طويل ومفاوز بعيدة .(2/195)
قلت :فلم نجد لهم رواية ثابتة جاءت من طريق صحيح لإثبات إباحة المدينة ،بالرغم من أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية 217 ، والحافظ ابن حجر217 - رحمهما الله - قد أقراّ بوقوع الاغتصاب ، ومع ذلك لم يوردا مصادرهم التي استقيا منها معلوماتهما تلك ، ولا يمكننا التعويل على قول هذين الإمامين دون ذكر الإسناد ، فمن أراد أن يحتج بأي خبر كان فلا بد من ذكر إسناده ، وهو ما أكده شيخ الإسلام ابن تيميّه حينما قال في المنهاج : " لا بد من ذكر ( الإسناد ) أولاً ، فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده في جُرْزَةِ 217بقل لم يقبل منه ، فكيف يحتج به في مسائل الأصول217 " ا.هـ . فكيف نقبل الحكم الصادر على الجيش الإسلامي في القرون المفضلة بأنه ينتهك العرض دون أن تكون تلك الروايات مسندة ، أو لا يمكن الاعتماد عليها ! ثم على افتراض صحتها جدلاً فأهل العلم حينما أطلقوا الإباحة فإنما يعنون بها القتل والنهب كما جاء ذلك عن الإمام أحمد 217، وليس اغتصاب النساء ، فهذه ليست من شيمة العرب ، فمن المعلوم أن انتهاك العرض أعظم من ذهاب المال ، فالعرب في الجاهلية تغار على نسائها أشد الغيرة ، وجاء الإسلام ليؤكد هذا الجانب ويزيده قوة إلى قوته ، واستغل الرافضة هذه الكلمة - الإباحة - وأقحموا فيها هتك الأعراض ، حتى أن الواقدي نقل بأن عدد القتلى بلغ سبعمائة رجل من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس ، وعشرة آلاف من سائر الناس ! وهو الذي أنكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقال : لم يقتل جميع الأشراف ، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -"217 ا.هـ.(2/196)
- ثم إن المدينة كانت تضم الكثير من الصحابة والتابعين ، وبعضهم لم يشترك في المعركة من أمثال : ابن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، وعلي بن الحسين ، وسعيد بن المسيِّب ، وهؤلاء لن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يشاهدون النساء المؤمنات يفجر بهنّ ، حتى التبس أولاد السفاح بأولاد النكاح كما زعموا ! .
- كما أننا لا نجد في كتب التراجم أو التاريخ ذكراً لأي شخص قيل إنه من سلالة أولاد الحرة ( الألف ) كما زعموا .
- سجّل لنا التاريخ صفحات مشرقة ما اتسم به الجندي المسلم والجيوش الإسلامية ، من أخلاق عالية وسلوك إسلامي عظيم ، حتى أدت في بعض الأحيان إلى ترحيب السكان بهم ، كفاتحين يحملون الأمن والسلام والعدل للناس .
- لم ينقل إلينا أن المسلمين يفتحون المدن الكافرة ، ويقومون باستباحتها وانتهاك أعراض نسائها ! فكيف يتصور أن يأتي هذا المجاهد لينتهك أعراض المؤمنات ، بل أخوات وحفيدات الصحابة - رضوان الله عليهم - سبحانك هذا بهتان عظيم .
- ومن العجيب أن هناك من نسب إلى يزيد بن معاوية أنه لما بلغته هزيمة أهل المدينة بعد معركة الحرة ، تمثل بهذا البيت217 :
- ألا ليت أشياخي ببدر شهدوا……جزع الخزرج من وقع الأسل217
- فهذا البيت قاله ابن الزبعري بعد معركة أحد ، وكان كافراً ويتشفى بقتل المسلمين217 ، وذكره البن كثير ثم عقّب بعده بالقول : " فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فعليه لعنة الله وعليه لعنة اللاعنين ، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه " ا.هـ. 217 ثمّ أنكر - رحمه الله - في موضع آخر من كتابه نسبة هذا البيت إلى يزيد ، وقال : " إنه من وضع الرافضة " 217 ا.هـ. ، وجزم شيخ الإسلام ببطلانه فقال : " ويعلم ببطلانه كل عاقل "217
رابعاً : استدلوا بجواز لعنه بما روي عن الإمام أحمد :(2/197)
…وهي التي أخرجها أبو يعلى الفراء بإسناده217إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال : قلت لأبي : إن قوماً يُنسبون إلى تولية يزيد ، فقال : يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله ؟ فقلت : ولم لا تلعنه ؟ فقال : ومتى رأيتني ألعن شيئاً ، ولم لا يُلعن من لعنه الله في كتابه ؟ فقرأ قوله تعالى { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم }217 .
قلت : وهذه الرواية لا تصح للعلل التالية :
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " هذه الرواية التي ذكرت عن أحمد منقطعة ليست ثابتة عنه ، ثم إن الآية لا تدل على لعن المعيّن217 " ا.هـ.
- ثبت عن الإمام أحمد النهي عن اللعن ، كما في رواية صالح نفسه ، أن أحمد قال : " ومتى رأيت أباك يلعن أحداً ، لما قيل له ألا تلعن يزيد "217، وحين سأل عصمة بن أبي عصمة أبو طالب العكبري الإمام أحمد عن لعن يزيد ، قال : " لا تتكلم في هذا . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لعن المؤمن كقتله " ، وقال : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم "217 . وقد كان يزيد فيهم فأرى الإمساك أحب إليّ 217" ا.هـ.
- قال الخلال : " وما عليه أحمد هو الحق من ترك لعن المعيّن ، لما فيه من أحاديث كثيرة تدل على وجوب التوقي من إطلاق اللعن217 "
- قال تقي الدين المقدسي : " إن المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلال اللعن المطلق لا المعيّن ، كما قلنا في نصوص الوعد والوعيد ، وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار ، فإنا نشهد بأن المؤمنين في الجنة ، وأن الكافرين في النار ، ونشهد بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسنة ، ولا نشهد بذلك لمعيّن إلا من شهد له النص ، أو شهدت له الاستفاضة على قول ، ثمّ إن النصوص التي جاءت في اللعن جميعها مطلقة ، كالراشي والمرتشي ، وآكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه 217" ا.هـ.(2/198)
- اختلاف الحنابلة - رحمهم الله - في تجويز لعن يزيد إنما جاء باعتماد بعضهم على رواية صالح المنقطعة ، والتي لا تثبت عن الإمام أحمد - رحمه الله - ، لذلك اعتمد أبو يعلى على تلك الرواية فألف كتاباً ذكر فيه بيان ما يستحق من اللعن ، وذكر منهم يزيد ، وتابعه في ذلك ابن الجوزي - رحمه الله - فألف كتاباً سمّاه " الرد على المتعصب العنيد المانع من لعن يزيد " ، وأباح فيه لعن يزيد بن معاوية .ولم يقتصر ذلك على بعض فقهاء الحنابلة بل امتد إلى غيرهم ، فتابع السيوطي217 ابن الجوزي في ذلك ، وإلى ذلك ذهب ابن حجر - رحمه الله - وذكر أن الإمام أحمد يجيز لعن يزيد217 ، بينما شذّ أبو المعالي حينما نقل الإتفاق على جواز لعن يزيد بن معاوية217 .
خامسا : استدلوا بجواز لعنه بأنه كان يقارف المسكرات ، وينكح الأمهات والبنات والأخوات ، ويدع الصلوات :
…نقل الطبري روايتين عن أبي مخنف217 . ونقل البلاذري عدة روايات عن الواقدي217 . ونقل ابن عساكر وابن كثير عن محمد بن زكريا الغلابي نصاً واحداً 217.ونقل البيهقي وابن عساكر وابن كثير رواية واحدة من طريق الفسوي 217. ونقل ابن كثير رواية واحدة عن أبي مخنف 217.ونقل الطبري وخليفة بن خياط وأبو الحسن العبدي وابن كثير والذهبي وابن حجر على رواية جويرية بن أسماء عن أشياخ أهل المدينة 217، ونقل ابن سعد عن الواقدي نصاً واحداً 217.ونقل البياسي عن أبي مخنف نصاً واحداً 217.ونقل ابن عساكر عن عمر بن شبة باتهام يزيد بشرب الخمر 217.
…قلت : ممّا سلف بيانه يتضح أن الاعتماد في نقل تلك الروايات تكمن في الواقدي ، وأبي مخنف ، وعوانة بن الحكم ، ورواية عمر بن شبة .(2/199)
…فأما الروايات التي من طريق الواقدي وأبي مخنف فهما متروكا الحديث ، وأما عوانة بن الحكم فقد قال عنه الحافظ ابن حجر : " فكان يضع الأخبار لبني أمية 217" .وأما رواية عمر بن شبة التي تشير إلى اتهام يزيد بشرب الخمر في حداثته ، فقد تكفل ابن عساكر - رحمه الله - في ردها فقال : " وهذه حكاية منقطعة ، فإن عمر بن شبة بينه وبين يزيد زمان 217"
…قلت : وأقوى ما يتعلق به المتهمون يزيد بشرب الخمر بروايتين :
الرواية الأولى :
…وهي التي أخرجها ابن عساكر وغيره من طريق محمد بن زكريا الغلابي ، في أن يزيد كان يشرب الخمر في حداثته ، فأرشده أبوه إلى شربها ليلاً فقط!! ، وهذه الرواية لا تصح سنداً ولا متناً للعلل التالية :
- في سندها محمد بن زكريا الغلابي ، قال عنه الدارقطني : " كان يضع الحديث 217"، وذكره الذهبي في " المغني في الضعفاء 217" ، وساق له حديثاً في ميزان الاعتدال ، وقال : " فهذا من كذب الغلابي 217" .
- وفي سندها ابن عائشة راوي الخبر ، وهو محمد بن حفص بن عائشة ، فقد ذكره أبو حاتم و البخاري و سكتا عنه 217، فهو مجهول عندهما كما قرّر ذلك ابن القطان في كتابه : " بيان الوهم والإيهام " 217 .
- لم تحدّد المصادر تاريخ وفاة ابن عائشة ، غير أنّ ابنه عبد الله الراوي عنه توفي سنة 228هـ217 ، وبهذا فإن ابن عائشة ولد تقريباً بعد المائة من الهجرة ، ومن ثم تكون الرواية مرسلة ، لأن الراوي بينه وبين هذه القصة - على افتراض وقوعها - أمد بعيد .
- من ناحية المتن فكيف يرضى معاوية - رضي الله عنه - لولده بشرب الخمر ، ويشجعه عليها ليلاً ، ومعاوية هو الصحابي الجليل وأخو أم المؤمنين وكاتب الوحي المبين ، وهو رواي الحديث : " من شرب الخمر فاجلوده 217".(2/200)
- قال الشيباني - حفظه الله - : " ومن الغريب أن ابن كثير - رحمه الله - بعد إيراده لهذا الخبر تعقبه بقوله : قلت : وهذا كما جاء في الحديث من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل 217" ويفهم من تعقيب ابن كثير كأنه مؤيد لهذه الرواية التي لا تحظى بأي نسبة من الصدق 217" ا.هـ.
الرواية الثانية :
وهي رواية يعقوب بن سفيان البسوي : سمعت ابن عفير : أخبرنا ابن فليح أن عمرو بن حفص وفد على يزيد فأكرمه ، وأحسن جائزته ، فلمّا قدم المدينة قام إلى جنب المنبر ، وكان مرضياً صالحاً . فقال : ألم أجب ؟ ألم أكرم ؟ والله لرأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة سكراً. فأجمع الناس على خلعه بالمدينة فخلعوه "217
…قلت : هذه الرواية لا تصح سنداً ولا متناً ، وذلك للعلل التالية :
- ابن فليح هو يحيى بن فليح بن سليمان المدني ، قال عنه ابن حزم : " مجهول " وقال مرة : " ليس بالقوي "217. @@@ .
- ابن فليح وأبوه أيضاً لم يدركا هذه الحادثة ،فقد ولد أبوه سنة 90 من الهجرة تقريبا217ً، وتوفي سنة ثمان وستين ومئة من الهجرة217، ومن هنا يتضح أن كان بين مولد أبيه والحادثة مفاوز طويلة وزمان بعيد ، ومن ثم تبقى الرواية منقطعة .
- عندما ذهب عبد الله بن مطيع إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب ، فقال لهم : ما رأيت منه ما تذكرون ، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة ، متحرياً للخير ، يسأل عن الفقه ملازماً للسنة ، قالوا : فإن ذلك كان منه تصنعاً ، فقال : وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع ؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه ، وإن لك يكن أطلعكم فما يحلّ لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا 217"(2/201)