الجزء الاول
مقدمة التحقيق(1/1)
لمحة في عصر القرماني
عاصر القرماني أربعة من سلاطين العثمانيين (1)، تميزت عهودهم بسلسلة من الحروب، خاضتها السلطنة شرقا وغربا، فضلا عن حركات التمرد والثورات الداخلية التي واجهتها.
ففي الشرق، توجهت أنظار السلطنة شطر فارس، وشهدت المواجهة مع الدولة الصفوية صراعا مريرا، تمثلت حلقته الأولى بالمعركة الضارية التي خاضها السلطان سليم الأول ضد الشاه إسماعيل عام 920هـ / 1514م، شرق بحيرة أرمية، وأسفرت عن هزيمة الفرس ودخول السلطان مدينة تبريز، كرسي مملكة الشاه، وخطب باسمه، ثم ارتحل إلى بلاده (2).
ثم توالت الحملات على بلاد فارس (3)، في أيام السلطان سليمان القانوني وابنه السلطان سليم، وحفيديه مراد ومحمد، وانتهى الأمر بالسيطرة على العراق، وعلى مناطق واسعة من بلاد فارس، وخاصة تبريز التي دخلها الجيش العثماني تكرارا.
وفي الغرب، خاضت السلطنة حروبا قاسية ضد بلاد المجر، والنمسا، وإسبانيا، والبندقية، وبلغت الجيوش العثمانية أواسط أوروبا ففتحت بودابست، وأشرفت على فيينا، في عهد السلطان سليمان القانوني، الذي قيل إنه
__________
(1) وهم: سليمان بن سليم الأول المعروف بالقانوني، وسليم بن سليمان القانوني، ومراد بن سليم بن سليمان، ومحمد بن مراد بن سليم بن سليمان.
(2) القرماني، أخبار الدول 3/ 43.
(3) وذلك في الأعوام: 940هـ، 955هـ، 960هـ، 986هـ، 988هـ، 991هـ، 992هـ، 993هـ و 994هـ.
المصدر نفسه 3: 55، 5958، 6260، 7674، 78(1/2)
فتح زهاء ثلاثمائة حصن وقلعة، وامتدت سيطرته من «بودابست على الدانوب حتى بغداد على نهر دجلة، ومن بلاد القرم حتى شلال النيل الأول» (1).
ونجح العثمانيون في بسط نفوذهم على الشمال الأفريقي، في تونس والجزائر ومراكش، بعد معارك ضارية ضد الأسبان والبرتغاليين، وباستيلائهم على قبرص، ورودس، وكريت، أصبحوا سادة الملاحة في المتوسط (2).
أما في بلاد الحجاز، فقد توصل سلاطين بني عثمان إلى إقامة علاقات جيدة مع أشراف مكة والمدينة الذين أعلنوا ولاءهم للسلطنة، كما أحكموا سيطرتهم على اليمن عام 976هـ / 1569م، إثر؟؟؟ الحملة الناجحة التي قادها سنان باشا (3).
أما حركات التمرد والعصيان، فتعود إلى سعي بعض الجماعات للحصول على استقلالها، مستغلة حالة الاضطراب والقلق التي كانت تعاني منها السلطنة، لا سيما في بداية عهد السلطان أحمد الأول، وكان أهمها: حركة طائفة الجلالية في الأناضول، وحركة علي باشا جانبلاد، زعيم الأكراد بمنطقة حلب، وحركة الأمير فخر الدين الثاني في جبل لبنان (4).
تعاملت السلطنة مع هذه الحركات بمنتهى الشدة فأرسلت الصدر الأعظم مراد باشا على رأس حملة عسكرية كبيرة لمقاتلة العصاة، فانتصر على الأمير فخر الدين المعني وحليفه علي باشا جانبلاد في سهل مرج دابق، في 3رجب عام 1016هـ / 1607م، فسارع هذا الأخير إلى الآستانة، وأظهر الطاعة للسلطان،
__________
(1) فيليب حتى، تاريخ العرب (مطول)، م 2: 810809كاهن، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية: 275.
(2) كاهن، المرجع نفسه: 276.
(3) عن تفاصيل حملة سنان باشا إلى اليمن، راجع: القرماني، أخبار الدول 2/ 404399 أحمد بن عبد الغني، التاريخ العيني: 116محمد عيسى صالحية، حملة سنان باشا إلى اليمن، الوثيقة رقم 1المنشورة في مجلة حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، عدد 8: 19.
(4) القرماني 3/ 8584محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية: 118.(1/3)
فعفا عنه، وعيّنه واليا على دمشوار (1). أما فخر الدين، فلم يجد مناص من استرضاء الصدر الأعظم، ويبدو أنه نجح في مسعاه، بعد أن قدم مبلغا كبيرا من المال إلى مراد باشا، وتعهّد بموالاة السلطنة العثمانية.
وبعد ذلك، التقى مراد باشا جموع المتمردين في الأناضول، وهزمهم قرب مدينة وان، ثم تخلص من سائر زعماء المتمردين، حينا بالقتال، وأحيانا بالخديعة والاغتيال، حتى طهّر الأناضول، ووطّد الأمن والاستقرار في آسيا الصغرى، فاستتب الأمر للعثمانيين (2).
وبالرغم من انشغال السلطنة بحركة الفتوح والتوسع، شهدت الآستانة حركة علمية ملفتة فاستقطبت رجالات العلم والفكر من كافة أرجاء البلاد.
ولم يقتصر النشاط العلمي على العاصمة، بل تعداها إلى الحواضر في الولايات العثمانية الأخرى، وخاصة في بلاد الشام. وقد ذكرت لنا كتب التراجم مجموعة من رجال العلم والثقافة، من أهل تلك البلاد، بينهم عدد كبير ينتسبون إلى دمشق، التي برز فيها عائلات اقترنت أسماؤها بالنتاج العلمي والأدبي والديني. ومن هذه العائلات: بنو الغزي، وحمزة، وفرفور، والعمادي، والنابلسي، ومفلح (3).
وظهرت في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، كوكبة من كبار المؤرخين، منهم:
عبد القادر النعيمي (ت 927هـ / 1521م)، ومحمد بن يوسف الشامي (ت 942هـ / 1535م)، ومحمد بن طولون (ت 953هـ / 1546م)، وعبد الباسط العلموي (ت 981هـ / 1573م)، ومحمد بن بدر الدين الغزي (ت
__________
(1) القرماني، المصدر نفسه 3/ 8886محمد فريد بك، المرجع نفسه: 118، وفي دائرة المعارف للبستاني (7: 229): أن الوقعة حصلت في سهل أوروج قرب بيلان.
(2) القرماني، المصدر نفسه 3/ 8988محمد فريد بك، نفسه: 120دائرة المعارف للبستاني 7/ 229.
(3) محمد كرد على، خطط الشام 4/ 5251.(1/4)
984 - هـ / 1576م)، وابن سكيكر الدمشقي (ت 987هـ / 1579م)، وعبد الرحمن بن فرفور (ت 992هـ / 1584م)، ومحمد بن مفلح (ت 1011هـ / 1602م)، ومحمد بن أحمد الطالوي (ت 1014هـ / 1605م)، والحسن البوريني (ت 1024هـ / 1615م)، ومحمود العدوي (ت 1032هـ / 1623م)، ومحمد الهريري (ت 1037هـ / 1628م)، وأحمد بن مفلح (ت 1038هـ / 1629م) وأحمد الصفوري (ت 1043هـ / 1634م)، وعبد الرحمن العمادي (ت 1051هـ / 1641م)، والنجم الغزي (ت 1061هـ / 1651م)، وفضل الله المحبي (ت 1082هـ / 1671م)، وابن العماد الحنبلي (ت 1087هـ / 1676م)، ومحمد بن يحيى الفرضي (ت 1090هـ / 1670م)، وغيرهم ممن عرفوا بسعة انتاجهم واسهامهم في اغناء التراث الإسلامي.
وفي هذه البيئة الحضارية، عاش مؤرخنا القرماني، ونهل من معينها العلم الوفير.(1/5)
القرماني المؤرخ
أحياته:
هو أحمد بن يوسف بن أحمد (1) [بن سنان] (2) الدمشقي المعروف بالقرماني. ولد بدمشق عام 939هـ / 1532م، وقضى فيها معظم حياته إلى أن توفي ليلة الجمعة 29شوال 1019هـ / 1610م، ودفن بمقبرة الفراديس (3).
كان والد القرماني قدم إلى دمشق لتولي نظر البيمارستان فيها، إضافة إلى نظر الجامع الأموي. وتشير المصادر (4) إلى أن الرجل قد اتهم ببيع بسط الجامع الأموي وحصره، كما اتهم بتخريب المدرسة الصمصامية التابعة للمالكية، وإلحاق الضرر بالمدرسة النورية ببعلبك، فحكم عليه بالموت خنقا بدار السعادة، في 14 شوال 966هـ / 17حزيران 1562م.
أغفلت المصادر التي ترجمت للقرماني أية إشارة إلى حياته الأولى، وكل ما نعرفه عنه أنه ولد بدمشق وعاش فيها، ونهل من ثقافتها، وصار كاتبا منشئا، وتولى
__________
(1) كذا أورد القرماني نسبه في ذيل كتابه (3/ 512)، وكذا جاء عند حاجي خليفة (كشف الظنون 1/ 26) والزركلي (الأعلام 1/ 275). وفي الغزي (الكواكب السائرة 1/ 295): «أحمد جلبي بن سنان»، ويقصد: أحمد الصغير بن سنان، باعتبار أن لفظة «جلبي» تعني «الصغير» (حتى، تاريخ العرب 2/ 873). ولعل الغزي، في إيراده لفظة «جلبي» ملازمة للاسم الأول للمؤرخ، يرمي إلى تمييزه عن جده أحمد. بينما ورد الاسم في المحبي (خلاصة الأثر 1/ 209):
«أحمد بن سنان»، وجاراه في ذلك بعض المؤرخين المحدثين. وبطبيعة الحال، فإن المؤرخ هو المرجع الفصل في دفع الإشكال القائم حول اسمه، لأنه أدرى بنسبه وتسلسله من غيره.
(2) ما بين الحاصرتين من حاجي خليفة والزركلي.
(3) الغزي، الكواكب 1/ 296المحبي، خلاصة الأثر 1/ 210.
(4) المحبي، نفسه 1/ 209.(1/6)
كتابة وقف الحرمين الشريفين (1)، ثم نظارته بدمشق (2).
ويستفاد مما ورد في «الأخبار» أن المؤرخ قام بمناسك الحج عام 978هـ / 1570م، وصادف هناك شريف مكة أبا نمي بن بركات بن قتادة، وفي ذلك يقول (3): «وقد رأيته بمنى سنة ثمان وسبعين، وهو محرم».
عرف عن المؤرخ أنه كان رقيق المعاشرة، حسن العبارة، مما عزز صلاته بأعيان عصره من أمراء وحكام فأقام معهم علاقات وطيدة، وأكرم وفادتهم، واستضافهم في دارته التي أنشأها بمحلة الجسر الأبيض في الصالحية، فكان «يضيف أحدهم أول مرة ليستحسن المكان فيعود إليه، ويقيم فيه الأيام حتى صار ذلك ديدنهم، يتوارد عليه الواحد منهم بعد الواحد» (4).
ويبدو أن القرماني قد أحسن الإفادة من صداقاته هذه، فأطلقت يده في كثير من الأمور، وخصوصا ما يتعلق منها بأوقاف الحرمين الشريفين (5).
ترجم للقرماني قلة من المؤرخين المعاصرين له والمتأخرين عليه الذين جاءت ترجماتهم موجزة، قاصرة عن إلقاء الضوء على جوانب كثيرة من حياته، بالرغم من شهرة الرجل وعلو قدره، وسعة ثقافته التي تعكسها كثرة الكتب التي أثبتها في كتاب «الأخبار».
قال عنه النجم الغزي (6) (1061هـ / 1651م): «كان حسن المحاضرة، وله مخالطة مع الحكام خصوصا مع قضاة القضاة»، و «كان عنده حشمة وإنصاف
__________
(1) المقصود بالحرمين، الحرم المكي والحرم المدني. وهما ما يطيف بمكة والمدينة من أرض يحرم فيها الصيد وقطع الشجر وغير ذلك.
القلقشندي، صبح الأعشى 4/ 255.
(2) الغزي 1/ 295المحبي 1/ 210الزركلي 1/ 275.
(3) القرماني 2/ 346.
(4) الغزي 1/ 296295.
(5) المصدر نفسه: 296.
(6) المصدر نفسه: 296295.(1/7)
في كثير من الأمور»، وأنه «جمع تاريخا لطيفا تعرض فيه لكثير من الموالي والأمراء والمتأخرين».
وكرّر محمد بن فضل الله المحبي (1) (ت 1111/ 1699م) ما ذكره النجم الغزي ووصفه ب «صاحب التاريخ المشهور، وأحد الكتّاب المشهورين».
وذكر حاجي خليفة (2) (1067هـ / 1657م)، في إطار ترجمته للمؤرخ، أن له كتابا بعنوان «أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، وهو مجلد على مقدمة وخمسة وخمسين بابا».
وترجمه من المتأخرين خير الدين الزركلي (3) ونعته ب «المؤرخ المنشىء»، ومحمد كرد علي (4) الذى قال عنه: «الأديب المؤرخ، صاحب التصانيف»، كما وردت ترجمته عند البغدادي (5)، وكحالة (6)، والمنحد (7)، وبروكلمان (8)، وغيرهم كثيرون، إلّا أن ترجماتهم كانت تكرارا لما سبق.
ب مؤلفات القرماني
لم تحفظ لنا المصادر التي ترجمت للقرماني سوى كتابين اثنين:
(1) الروض النسيم والدر اليتيم في مناقب السلطان إبراهيم (9).
__________
(1) المحبي 1/ 210209.
(2) حاجي خليفة 1/ 26.
(3) الزركلي 1/ 275.
(4) محمد كرد علي 4: 54.
(5) البغدادي، هدية العارفين 1/ 156.
(6) كحالة، معجم المؤلفين 2/ 208.
(7) المنجد، معجم المؤرخين الدمشقيين: 310.
(8). 387388.،،، (.)
(9) منه نسخة مخطوطة في برلين رقمها 6/ 9055. ورد ذكره عند الزركلي 1/ 275والمنجد، معجم المؤرخين الدمشقيين 311310.(1/8)
(2) أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ (1).
وهو كتابنا الذي نحن بصدد دراسته وتحقيقه، وضعه مؤلفه بعد أن نضجت ثقافته باطلاعه على جمهرة واسعة من أمهات الثقافة العربية، ويتضح ذلك من القائمة الطويلة من الموضوعات التي عرضها، والمصادر المتنوعة التي اعتمدها في كتابة تاريخه، الذي يستهله ببداية الكون وينتهي به إلى العام 1008هـ (2)، أي قبل وفاته بإحدى عشرة سنة.
ج مصادره في كتاب «الأخبار»
اقتصرت مصادر القرماني في كتاب «الأخبار» على نوعين هما:
(1) المشاهدة والمعاصرة:
ويظهر ذلك جليا في الفترة التي عاشها المؤلف وخبر أحداثها، وكان فيها شاهد عيان فعند ترجمته لشريف مكة أبي نمي بن بركات بن قتادة، يدكر أنه التقاه عام 978هـ، خلال أدائه مناسك الحج، ويقول: «وقد رأيته بمنى سنة ثمان وسبعون، وهو محرم» (3)، وكذلك الأمر عند كلامه عن الاضطرابات التي وقعت في القسطنطنية في 23ربيع الآخر عام 1001هـ، حين ثارت العساكر العثمانية بسبب تأخر رواتبهم وأعطياتهم، فيقول: «وكنت إذ ذاك هناك» (4).
كما تبدو معاصرة المؤرخ للأحداث من خلال استعماله التعابير الدالة على ذلك، والتي يكثر من استعمالها، نحو قوله: «وهو الآن حي في الجبل» (5)، «وهو
__________
(1) يقول حاجي خليفة (1/ 26): إن هذا الكتاب هو ملخص لتاريخ الجنابي، وإن القرماني زاد فيه أشياء مع اخلال في كثير من الدول.
(2) وردت هذه الملاحظة في ذيل النسخ الثلاث التي بين أيدينا. راجع: القرماني: 4/ 512. مع الإشارة هنا إلى أن كتاب الأخبار قد تضمن حوادث استمرت حتى عام 1018هـ، أيام السلطان أحمد الأول العثماني، ولعل ذلك من عمل النساخ.
(3) القرماني 2/ 347.
(4) المصدر نفسه 3/ 78.
(5) المصدر نفسه: 3/ 113.(1/9)
الآن أمير بمكة» (1)، «وهو الآن أمير ويرجى منه الخير» (2)، «وهو اليوم صاحب بلاد العجم» (3)، «والآن وقع الصلح بينهما» (4).
(2) المصادر المكتوبة:
عوّل القرماني، بشكل أساسي، على المصادر المكتوبة، مجاراة لروح العصر، حيث كانت قائمة المصادر جزءا متكاملا مع البحث العلمي عند المسلمين فوجودها أو عدمه، في كتاب معين، يقرّر مدى علمية ذلك الكتاب، لذا أثبت المؤلف ما ينوف على 190مصدرا اتسعت تبعا لا تساع النطاقين الزماني والمكاني لكتاب «الأخبار»، وأخذ عنها مباشرة على الأرجح، ويتبين ذلك في المراحل السابقة لعصر المؤرخ، حيث نجد تعدّدا للموارد في الحادثة الواحدة، أو في العصر الواحد. ومن ذلك: أخبار جرهم بالحجاز (5)، وأقيال اليمن (6)، وملوك الفرس الأولى والثانية (7)، ودولة الأتابكة في حلب والشام، (8) وغيرها. بينما يقلّل القرماني من اعتماده على المصادر في المراحل القريبة من عصره، أو في الفترة التي عاصرها، كما في الأبواب: التاسع، والعاشر، والسابع والأربعين.
أما موضوعات كتابه المتنوعة فاستقاها مؤرخنا من المصادر التالية:
1 - القرآن الكريم.
2 - كتب السنن والأخبار النبوية.
3 - كتب التفسير.
4 - كتب المغازي والسيرة النبوية.
__________
(1) القرماني: 2/ 347.
(2) المصدر نفسه: 2/ 347.
(3) المصدر نفسه: 3/ 119.
(4) المصدر نفسه: 3/ 119.
(5) أيضا: 2/ 335، 336.
(6) أيضا: 2/ 349، 354، 355، 356، 357، 365، 367.
(7) أيضا: 3/ 127، 128، 136، 154، 156، 160.
(8) أيضا: 2/ 473، 475، 476.(1/10)
5 - كتب التاريخ القديم.
6 - كتب التاريخ العام المرتبة على السنين.
7 - تواريخ الخلفاء والسلاطين.
8 - كتب الأنساب.
9 - كتب التراجم.
10 - الكتب الأدبية ودواوين الشعر.
11 - كتب المسالك والممالك.
ونظرا لوفرة هذه المصادر، فإننا سنكتفي بذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر.
(1) التوراة:
أخذ القرماني معظم أخبار التوراة عن طريق بعض المحدثين المسلمين المتحدرين من أصول يهودية، ويذكر ما نقل عن التوراة مسبوقا عادة بعبارة: «ذكر في التوراة»، أو ما يقوله «أهل التوراة». ولعل سبب امتناع صاحبنا عن الأخذ مباشرة عن التوراة مرده إلى عدم اعتقاده بصحة نصوص التوراة المتداولة، وهو ما درج عليه بعض المصنفين الذين سبقوه، كابن كثير الذي شكك ببعض الأخبار المنسوبة إلى التوراة، واعتبرها من الإسرائيليات.
(2) القرآن الكريم:
يأتي القرآن الكريم في رأس مصادر الكتاب، لا سيما عندما يتحدث عن بدء الخلق، وقصص الأنبياء، والسيرة النبوية، وأخبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأخبار الخلفاء الراشدين، وأخبار العترة الشريفة. وكثيرا ما وردت الآيات في سياق العرض التاريخي، وفي نصوص المراسلات بين الحكام لتكون شاهدا وعبرة لمن اعتبر.
(3) السنة النبوية:
تعتبر السنة النبوية الشريفة من مصادر القرماني الأساسية، أتاحت له ثقافته
الواسعة الإفادة منها، وبخاصة في قصص الأنبياء، والسيرة النبوية، وفضائل الصحابة وآل الرسول، غير أننا نلاحظ أن هذه الأحاديث قد أثبتت دون نقد، وغالبا ما وردت مجردة من الإسناد، نقل معظمها عن الشيخين، البخاري (ت 256هـ) في «صحيحه»، و «تاريخه»، وعن مسلم (ت 261هـ) في «صحيحه»، والترمذي (ت 279هـ) في «الشمائل»، والحاكم (ت 405هـ) في «تاريخ نيسابور»، و «المستدرك على الصحيحين».(1/11)
تعتبر السنة النبوية الشريفة من مصادر القرماني الأساسية، أتاحت له ثقافته
الواسعة الإفادة منها، وبخاصة في قصص الأنبياء، والسيرة النبوية، وفضائل الصحابة وآل الرسول، غير أننا نلاحظ أن هذه الأحاديث قد أثبتت دون نقد، وغالبا ما وردت مجردة من الإسناد، نقل معظمها عن الشيخين، البخاري (ت 256هـ) في «صحيحه»، و «تاريخه»، وعن مسلم (ت 261هـ) في «صحيحه»، والترمذي (ت 279هـ) في «الشمائل»، والحاكم (ت 405هـ) في «تاريخ نيسابور»، و «المستدرك على الصحيحين».
كما اعتمد القرماني ما ذكره عبد الله بن سلّام (ت 43هـ) الذي أسلم عند قدوم الرسول إلى المدينة، ومجاهد بن جبر (ت 103هـ) الذي كان على صلة وثيقة بابن عباس، وأخباره المنقولة عنهما تتناول بدء الخليقة وصفة النبي، والفتنة، ويوم الدار.
(4) كتب التفسير:
لجأ المؤرخ إلى كتب التفسير والأبحاث القرآنية في كثير من الأحيان فاستعان بتفسير أبي حيان، وتفسير ابن عربي «أحكام القرآن»، وتفسير الزمخشري «الكشاف»، وتفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن»، وتفسير الواحدي «الوسيط»، وأنوار التنزيل، وتفسير الفصول، ومدارك التنزيل ومعالم التزييل، وغيرها، ليستمد منها شواهد تعزز آراءه في معالجته لقصص الأنبياء والسيرة النبوية.
(5) السدي، اسماعيل بن عبد الرحمن (ت 127هـ):
صاحب التفسير والمغازي والسير، حجازي الأصل، سكن الكوفة، وروى عن بعض الصحابة. اعتمد عليه الثعلبي في «تفسيره» الذي لم يصل إلينا، كما أخذ عنه القرماني في تأريخه لبدء الخليقة وقصص الأنبياء.
(6) ابن اسحاق، محمد (ت 156هـ):
صاحب السيرة النبوية المشهورة. نقل مؤرخنا عن كتابيه: «السيرة النبوية»، و «المبتدا». والكتاب الأخير يؤرخ لبدء الخلق وقصص الأنبياء.(1/12)
(7) المسعودي، علي بن الحسين (ت 346هـ):
حفل كتاب «الأخبار» بالنقل الصريح عن المسعودي، وخاصة من كتبه الثلاثة: «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، «عجائب الدنيا»، و «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان»، واعتمد عليها في تغطية أخبار خلق الشمس والأرض والبحار، وقصص الأنبياء، وأخبار الدول القديمة، من ملوك اليمن، والهند، والنبط، واليونان، والروم، إضافة إلى ترجمة الحجاج، وبعض خلفاء بني العباس، كالمتوكل، والمعتضد، والقاهر، وغيرهم (1).
(8) الكسائي (المتوفي حوالى 400هـ):
هو أحد المصادر الرئيسية للتاريخ القديم، أخذ عنه النويري في «نهاية الأرب» عند تأريخه للأنبياء، كما نجد أثره واضحا في «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزي. أما القرماني فاعتمد على هؤلاء جميعا في تأريخه للخلق وقصص الأنبياء.
(9) الثعلبي، أحمد بن محمد (ت 427هـ):
يعتبر الثعلبي من رواد الثقافة الإسلامية، له مصنّفات عدة، منها: «قصص الأنبياء» المعروف ب «عرائس المجالس»، وكتاب «التفسير». تستند مروياته إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبّه، وعبد الله بن سلّام، والسدّي، وابن اسحاق.
يعاب عليه أخذه بالإسرائيليات وعدم تدقيق أخباره. رجع إليه القرماني في البابين الأول والأخير من كتابه (2).
(10) ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي (ت 597هـ):
كان ابن الجوزي علّامة عصره في الحديث وصناعة الوعظ. صنّف في
__________
(1) القرماني: 1/ 56، 91، 2239/ 28، 116، 335، 3349/ 162، 174، 175، 180، 247، 275.
(2) المصدر نفسه: 1/ 29، 51، 98، 174، 191،(1/13)
فنون عديدة، منها: كتاب «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»، و «التبصرة»، و «سلوة الأحزان»، و «شرف المصطفى»، و «مثير الغرام الساكن»، و «شرح القصيدة العبدونية» نقل عنه القرماني في مواضع عدة (1).
(11) ابن الأثير الجزري، علي بن محمد (ت 630هـ):
نقل القرماني أخبارا متنوعة من كتابه «الكامل في التاريخ»، منها ما يتعلق بأخبار الدولتين الحمدانية والأخشيدية، وأخبار بني أرتق، كما اعتمد عليه في ترجمة بعض الخلفاء الفاطميين وسلاطين بني أيوب (2).
(12) ابن عربي، محيي الدين (ت 638هـ):
أخذ القرماني مادة وفيرة من تفسير ابن عربي، ومن كتابيه: «الفتوحات المكية»، و «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»، وخاصة في الموضوعات التي تناولت خلق الأرض، وقصص الأنبياء، وأخبار الأمم الماضية، وأخبار مكة، وسيرة معاوية، وترجمة العدد من الخلفاء العباسيين (3).
(13) سبط ابن الجوزي، يوسف بن قزاوغلي (ت 654هـ):
لم يكن السبط ابن الجوزي أقل حضورا من جده عبد الرحمن في كتاب «الأخبار»، حيث اعتمد عليه القرماني في تأريخه للأنبياء، والأمم الماضية، وفي ترجمته لخلفاء بني العباس، وفي أخبار بيت المقدس، وغير ذلك (4).
__________
(1) القرماني: 1/ 23، 81، 195، 215، 219، 221، 241، 2288/ 3169: 263، 363، 366.
(2) المصدر نفسه: 1/ 16، 20، 29، 58، 198، 215، 223، 2241/ 16، 179، 354 3/ 293، 453، 457.
(3) المصدر نفسه: 2/ 182، 190، 195، 251، 436وما بعدها، 441440، 469.
(4) المصدر نفسه: 1/ 7217، 88، 292/ 100، 162، 3243/ 257، 292، 319، 384.(1/14)
(14) أبو الفدا، عماد الدين اسماعيل (ت 732هـ):
أخذ مؤرخنا من كتابي أبي الفدا: «المختصر في أخبار البشر»، و «تقويم البلدان» فنقل من الكتاب الأول بعضا من أخبار ملوك الفرس الأولى والثانية، وجرهم في الحجاز، وأخبار بيت المقدس، واقتبس من الكتاب الثاني معلومات استعان بها في إعداد معجمه الجغرافي (1).
(15) الذهبي، محمد بن أحمد (ت 748هـ):
هو ألمع علماء القرن الثامن الهجري، عرف بتآليفه الكثيرة والمتنوعة. نقل القرماني العديد من الموضوعات عن كتابيه: التاريخ الكبير المعروف ب «تاريخ الإسلام»، وكتاب «دول الإسلام». ومن هذه الموضوعات: أخبار مروان بن الحكم، وترجمة الحاكم بأمر الله الفاطمي، وبعض الخلفاء العباسيين، كالمقتدر، والناصر لدين الله، وحوادث التتار واجتياحهم لبغداد، وقتلهم للمستعصم العباسي، وتخريبهم لدمشق (2).
(16) ابن فضل الله العمري، أحمد (ت 749هـ):
صاحب موسوعة «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، التي استفاد منها مؤرخنا في مواضع عدة، منها: أخبار الهند، وأخبار الخلافة الفاطمية، وأخبار التتار وما حققوه في أيام جنكيز خان، وحفيده هولاكو (3).
(17) السيوطي، جلال الدين (ت 911هـ):
هو أحد أبرز علماء القرن العاشر الهجري. صنّف في شتى ميادين العلم فكتب في القرآن، والحديث، والفقه، والفلسفة، والتاريخ، والأدب.
نقل القرماني عن مصنفاته التالية: «تاريخ الخلفاء»، و «اتحاف الأخصا
__________
(1) القرماني: 2/ 3336/ 128، 185، 317، 441.
(2) المصدر نفسه: 2/ 19، 76، 137، 188، 198، 200، 206، 336، 440، 494.
(3) أيضا: 2/ 210، 211، 488، 499، 3/ 502.(1/15)
بفضائل المسجد الأقصى»، و «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة»، و «الإتقان في علوم القرآن»، وصرح بالأخذ عنها في قصة آدم، وقصص الأنبياء، وخلق الجان، وسيرة الرسول، وأخبار بعض الدول الإسلامية (1).
ويضاف إلى المصادر الآنفة عدد كبير من المصنفات التي لا يتسع المجال لذكرها والحديث عنها، ككتب الأوائل، والأنساب، والعجائب والغرائب، والمسالك والممالك (2).
د منهج القرماني في كتاب «الأخبار»
اهتم القرماني بتاريخ الدول والسلالات الحاكمة، مراعيا بذلك تقليدا التزمه قدامى المؤرخين المسلمين، ورتبه على التعاقب والتسلسل، مفتتحا عصر كل دولة بمقدمة مقتضبة عن أسباب وظروف نشأتها.
وعند معالجته للعصور التاريخية أوجز المؤلف في ذكر الحوادث الهامة، ورتبها على السنين، أسوة بالمؤرخين الذين سبقوه، كالطبري، والمقريزي، والعيني، وابن إياس، إلّا أنه ابتعد عن السرد وذكر التفاصيل التي تهتم بها عادة كتب الحوليات.
ويتضح منهجه هذا، بشكل خاص، في العهود البعيدة عن عصره، كمثل حديثه عن الدول القديمة، والفتوحات الإسلامية منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، والحوادث التي جرت في أيام عثمان وعلي، وغيرهم من الخلفاء.
بينما يسهب في تسجيل الأحداث ويرصدها سنة فسنة، وشهرا فشهرا، كلما اقترب من الفترة التي عاصرها، متقيدا بالمنهج الحولي، وخير شاهد على ذلك ما اعتمده المؤرخ عند تأريخه للحوادث التي جرت في دولة بني عثمان، وهي التي
__________
(1) القرماني: 2/ 21، 48، 118، 166، 174، 331، 333، 3/ 234، 366، 470، 477.
(2) راجع كشاف الكتب التي اعتمد عليها القرماني في ذيل كل من المجلدات الثلاثة لكتاب «الأخبار».(1/16)
عاصر. منها عهدا طويلا، منذ النصف الثاني من القرن العاشر وصدر القرن الحادي عشر، فنراه يسلط أضواء كاشفة على الأوضاع الداخلية للسلطنة، وعلاقاتها الخارجية، ويورد تفصيلات قلما نجدها في المصادر الأخرى.
وحرص المؤرخ على التزام طريقة محددة حين ترجم للخلفاء والسلاطين فهو يبدأ عادة بذكر سنة ولادة الخليفة أو السلطان، وتاريخ توليته، ثم يذكر أهم الأحداث التي جرت في أيامه، معتمدا المنهج الحولي في ترتيبها، وينهي ترجمته بلمحة موجزة عن خصاله ومزاياه، وتاريخ وفاته. ثم ينتقل إلى ترجمة خلفه، وهكذا دواليك حتى زوال عصر الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الحكام، مختتما كلامه عنها بعبارة «والله أعلم»، أو «سبحان من لا يزول ملكه»، دون أن يوضح النتائج السياسية والاجتماعية المترتبة على تغير الدول.
ولا يختلف منهج القرماني في ترجمته للخلفاء والسلاطين عن منهج ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، الذي نقل عنه ترجمته لسليمان بن عبد الملك، وأبي جعفر المنصور، والمأمون، والمستنجد بالله العباسي، كما تأثر بمنهج السيوطي في «تاريخ الخلفاء»، واستشهد به ونقل عنه في مواضع كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال: خلافة عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، والمستنصر بالله، والمستظهر بالله، والمتوكل على الله.
بيد أن هذا النهج القائم على نظام التراجم، كإطار لعرض الموضوعات التاريخية، جعل المؤرخ عاجزا عن تحليل الأحداث والربط فيما بينها، كما أدى إلى غياب الاهتمام بالأحداث الكبرى التي كانت ترد أحيانا بصورة عرضية في إشارات خجولة كالأحداث التي رافقت تسلط العناصر التركية والفارسية والسلجوقية على الخلافة العباسية، وعدم التقدير الجدي لأحداث الحروب الصليبية، والتحولات الفكرية التي واكبتها.
أما في القسم الجغرافي، فلم يخرج مؤرخنا عن منهج أصحاب كتب المسالك والممالك الذين سبقوه في هذا المضمار، لا سيما المسعودي، وابن خرداذبه، وياقوت الحموي، والقزويني، وجمال الدين الوطواط.(1/17)
واتصف منهج القرماني بالحرص على ذكر المصادر التي أخذ عنها، فكان يذكر اسم المؤرخ الذي نقل عنه، مقرونا باسم كتابه أو يكتفي بذكر أحدهما قبل إيراده لأي خبر من الأخبار، مراعيا الأمانة العلمية في ما نقل فأثبت النصوص بألفاظها حينا، كنصوص الأحاديث النبوية، والكتب والتوقيعات، والشواهد الشعرية والأدبية، أو بمضمونها أحيانا، إلّا أنه غالبا ما كان دقيقا في نقله، ويظهر ذلك جليا في نقله للروايات وإسنادها، واعتماده أسلوب الجمع والتراكم من دون أدنى ترتيب لرواياته أو إخضاعها للنقد التاريخي.
وكان المؤرخ يصرح بمصادره حينا، في بداية نقله عنها، باستعمال العبارات الدالة على ذلك، نحو قوله: «قال (فلان)»، و «ذكر (فلان)»، كما كان يضمرها أحيانا، كمثل قوله: «حكي»، «ذكر»، «قيل» أو يحيل الرواية المستهجنة إلى مصدرها، كمثل قوله: «كذا في». أما الأخبار المؤكدة، فيقدمها باستعمال العبارات التالية: «قال علماء اللغة»، «قال علماء الهيئة»، «أجمع العلماء»، «اتفق المحققون من أصحاب التواريخ»، و «ذكر أهل التاريخ»، وما إلى ذلك.
ويؤخذ على المؤرخ أن مصادره لم تكن، دائما، معاصرة للحدث أو قريبة منه، ومن ذلك: أخذه عن سبط ابن الجوزي في «مرآة الزمان»، والسيوطي في «اتحاف الأخصا» وغيرهما، في موضوع خلق الكون أو قصص الأنبياء، كما أن كثيرا من رواياته التي أثبتها، وخاصة في تأريخ الدول القديمة والباب الجغرافي، لا تتفق مع المنطق والعقل، فحشد في كتابه ما هو غريب وعجيب، ولعل هدفه من ذلك تشويق القارىء وإثبات قدرة الله تعالى.
هـ أسلوبه في كتاب «الأخبار»
لم يختلف أسلوب القرماني في كتابة تاريخه عن أسلوب معاصريه من المؤرخين فلغته كانت سهلة وبسيطة، تعتريها بعض الألفاظ العامية، فضلا عن وجود عدد كبير من الكلمات والمصطلحات الفارسية والتركية، إضافة إلى كثرة الأخطاء في النحو واللغة.(1/18)
كما أنه عمد إلى السجع الذي كان يأتي أحيانا سهلا وطبيعيا، وأحيانا أخرى متكلفا على حساب المعنى. وكذلك، فإنه يكثر من إقحام الاستشهادات القرآنية حتى ولو كانت الصلة ضئيلة بين الآية والسياق، فتضطرب الفكرة التي يتناولها المؤرخ، مما يجعل القارىء يبذل جهدا مضنيا لفهمها في سياقها الجديد.
وقد أشار المؤلف إلى بعض مواطن الضعف في أسلوبه في ذيل «الأخبار»، مبديا قلقه من «عثرات العبارات والمعاني»، معتذرا عما يمكن أن يعتري كتابه من «عجومة في البيان، وعجمة غالبة في اللسان تمنع عن إدراك حقائق المرادات، والجمع بين دقائق المعاني وحسن العبارات» (1).
ومحتويات كتاب «الأخبار»
يشتمل كتاب «الأخبار» على مقدمة وخمسة وخمسين بابا.
في المقدمة التي احتوت على سبعة فصول، يعرض المؤرخ مفهومه للتاريخ فهو في نظره «الإخبار عن الكائنات السابقة في العالم والحادثات، سواء عهد حالها أو تقادم» (2). ثم يتحدث عن بداية الكون: من خلق الأرض وسكانها، والجن الشياطين، إلى خلق السموات وآثار العلويات، وينتقل بعدها إلى تحديد معنى النبوة والرسالة، وعدد الأنبياء، والمسافة الزمنية التي تفصل ما بينهم. أما في الفصل السابع فيخصصه لإثبات قائمة محتويات الكتاب.
وفي الأبواب الخمسة والخمسين التي احتوت على طائفة من المعلومات المتنوعة، سعى القرماني إلى كتابة تاريخ عالمي، يبدأ من بداية الخليقة وينتهي إلى عصره.
وتوزعت موضوعات كتاب «الأخبار» وفق ما يلي:
الباب الأول: انطوى على أربعين فصلا خصصت لقصص الأنبياء والمرسلين، بما فيها السيرة النبوية.
__________
(1) القرماني 3/ 511.
(2) المصدر نفسه 1/ 5.(1/19)
الباب الثاني: قسّم إلى أربعة فصول عقدت للحديث عن الخلفاء الراشدين.
الباب الثالث: تضمن أحد عشر فصلا، ترجم فيه المؤلف للعترة النبوية بدءا من الحسن بن علي بن أبي طالب، وانتهاء بمحمد بن الحسن المهدي.
الباب الرابع: خصص للحديث عن فضائل قريش، وأخبار الصحابة من مهاجرين وأنصار.
الأبواب: الخامس الثالث والخمسين: عقدها المؤرخ لدراسات موجزة في تاريخ الدول الإسلامية المتلاحقة فأفرد الأبواب الستة الأولى (من الخامس إلى العاشر) لخلفاء بني أمية، وخلفاء العباسيين في العراق ومصر، ودولة الفاطميين، ودولة بني أيوب في مصر والشام، والدولة المملوكية الأولى والثانية، مسقطا من هذا السياق أخبار الطولونيين والأخشيديين والحمدانيين، الذين نصادف الحديث عنهم في البابين التاسع والعشرين والثلاثين.
وتعرّض القرماني في الباب الحادي عشر لتاريخ بني طباطبا بالكوفة واليمن، ثم ذكر في الباب الثاني عشر أخبار الدولة الطبرستانية بطبرستان، وعاد بعد ذلك، للحديث عن أخبار الحجاز والعراق والشام واليمن (الأبواب:
الثالث عشر الثاني والعشرون)، وانتقل بعدها إلى أخبار ملوك الطوائف في الغرب (الأبواب: الثالث والعشرون الخامس والعشرون)، ثم انعطف إلى أقصى الشرق ليعرض تاريخ الصفاريين في سجستان (الباب السادس والعشرون)، والسامانيين بما وراء النهر (الباب السابع والعشرون)، وبني سبكتكين (الباب الثامن والعشرين).
ثم قطع حديثه عن دول الشرق ليطلعنا على أخبار الطولونيين والأخشيديين والحمدانيين.
وتناول في الأبواب الحادي والثلاثين الثالث والخمسين، أخبار الديلم، وملوك جرجان، وآل بويه ملوك العراق، ودولة بني سلجوق بما وراء النهر وحلب
والشام، ودولة طغتكين، ومرداس، وآل براق ملوك كرمان، والغزنونيين ملوك غزنة، وأخبار التتار، وحكام آسيا الصغرى من آل قرمان وسلاجقة الروم إلى أن توقف مليا عند أخبار العثمانيين والإيرانيين.(1/20)
وتناول في الأبواب الحادي والثلاثين الثالث والخمسين، أخبار الديلم، وملوك جرجان، وآل بويه ملوك العراق، ودولة بني سلجوق بما وراء النهر وحلب
والشام، ودولة طغتكين، ومرداس، وآل براق ملوك كرمان، والغزنونيين ملوك غزنة، وأخبار التتار، وحكام آسيا الصغرى من آل قرمان وسلاجقة الروم إلى أن توقف مليا عند أخبار العثمانيين والإيرانيين.
الباب الرابع والخمسون: عقده المؤرخ لذكر أخبار ملوك الدول القديمة، وقسّمه إلى ثلاثة عشر فصلا، اختص كل منها بأخبار إحدى هذه الدول فتحدث عن ملوك الفرس، والهند، والصين، والسريان، وبابل، واليونان، وملوك الروم ما قبل الإسلام وبعده، وملوك مصر قبل الطوفان وبعده. واختتم هذا الباب بذكر أخبار ملوك عاد وبني إسرائيل.
أما الباب الأخير، الذي امتد على خمسة فصول، فهو عبارة عن مبحث في ما تضمنته تواريخ الأمم من عجائب وطرائف، وأخبار عن البحار والأنهار والعيون والآثار، إضافة إلى قاموس بلداني مرتبا على حروف المعجم.
وقبل أن ننهي هذه اللمحة السريعة في محتويات كتاب «الأخبار»، نشير إلى أن المؤلف قد اهتم بإيراد أخبار الكوارث الطبيعية، من زلازل، وأمطار، وسيول، وأمراض وأوبئة، وأظهر مدى تأثيرها في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه لم يربط النتائج بالمسببات، واعتبرها من الخوارق والمعجزات (1)، باستثناء ما ذكره المؤرخ في أخبار اليمن، حين تحدث عن حصول قحط عظيم عام 962هـ، فمات آلاف من الناس جوعا، «وكان سبب ذلك حدوث الجراد وطول مكثه، حتى أكل الأشجار والنبات» (2).
__________
(1) راجع المجلد الثاني من كتاب «الأخبار»، الصفحات: 161، 162، 174، 176، 302، 308، 309، 316، 317، الخ.
(2) المصدر نفسه 2/ 403.(1/21)
ز أهمية الكتاب
تتجلى أهمية كتاب «الأخبار» في الأمور التالية:
1 - إنه سجل تاريخي حافل، حفظ لنا تواريخ الدول والسلالات الحاكمة منذ أقدم العصور حتى بدايات القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي، قلما نجدها مجتمعة في المصادر الأخرى.
2 - ذكر الكتاب للعديد من المصادر التي اندثر بعض منها، وما يزال بعضها الآخر طي الكتمان.
3 - معاصرة المؤلف لأربعة من سلاطين بني عثمان الذين تقصّى أخبارهم ونقلها بكثير من الدقة والأمانة، مما جعله مصدرا موثوقا، اعتمده المؤرخون المعاصرون للقرماني والمتأخرون عنه.
4 - اثباته للكتب التي تبادلها الحكام فيما بينهم، كنص الرسالة التي بعث بها سليمان القانوني إلى المطهر إمام اليمن، وجواب هذا الأخير على رسالة السلطان (1).
5 - ومما زاد في أهمية الكتاب، إفراده بابا خاصا للبلدان مرتبا على حروف المعجم، مما سهل على القارىء سبل الاطلاع على الأماكن الجغرافية، دون أن يضطر للبحث عنها في كتب المسالك والممالك.
__________
(1) القرماني 2/ 402400.(1/22)
تحقيق الكتاب
اعتمدنا صورة شمسية لمخطوطة شستربتي في التحقيق، واتخذناها أصلا، ورمزنا إليها بلفظة «الأصل»، أو «أ»، وقابلناها بصورتين شمسيتين لمخطوطتي بغداد، رمزنا إلى الصورة الأولى بالحرف (ب)، وإلى الصورة الثانية بالحرف (ج).
1 - وصف المخطوطة:
أتألفت مخطوطة شستربتي (رقمها 3109) من 418ورقة، بقياس 24* 3، 15، مسطرتها 19سطرا، وقلمها فارسي معلق، وعلى غلافها كتبت عبارة «بخط المؤلف»، إضافة إلى تمليكين ينتسبان إلى أقارب القرماني.
وفي داخل المخطوطة أخبار عن مدينة دمشق تتجاوز سنة 1019هـ، أي السنة التي توفي فيها المؤلف، وردت بخط مختلف، وامتدت على ثماني ورقات، لعلها من عمل النسّاخ.
ب وتألفت مخطوطة بغداد الأولى (رقمها 9968) من 450ورقة، بقياس 25* 17، مسطرتها 31سطرا، وخطها نسخي جميل، قام بنسخها محمد بن أبي بكر الدمشقي، سنة 1062هـ، ويشوبها الكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية، وتظهر على غلافها كتابات تدل على أنه قد تناوب على ملكيتها ثلاثة أشخاص، وذلك في السنوات: 1156هـ، 1163هـ، و 1168هـ.
ج أما المخطوطة البغدادية الثانية، فقد طبعت طباعة حجرية بخط ناسخها، وتتألف من 494صفحة.
2 - نهج التحقيق:
اتبعنا في تحقيق كتاب «الأخبار» النهج التالي:(1/23)
أثبتنا المخطوطة على حالها، ولم نغير منها إلّا ما ظهر لنا من خطأ إملائي، فاتبعنا الطريقة الحديثة، دون أن نشير إلى كل تبديل أجريناه في هذا المجال.
قارنا الحوادث، والتواريخ، وأسماء الأعلام، والأماكن، الواردة في المتن، بما ورد في المصادر المعاصرة وأهم المصادر المتأخرة من كتب الحوليات والطبقات والمعاجم الجغرافية واللغوية.
قمنا بتخريج الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.
أشرنا بالهوامش إلى ترقيم صفحات الأصل وجها أو ظهرا في المتن، وحددنا مواقع فواصل الصفحات.
3 - الرموز المستعملة:
القوسان المعقوفان [] لحصر الإضافات أو النقص الطارىء على النص.
علامات التنصيص «» لحصر الأقوال والنقول وأسماء الكتب الواردة في المتن.
الخط المنحني / يشير إلى انتهاء وجه الورقة (أ) أو ظهرها (ب).
النقاط المتتالية تدل على بياض في الأصل، ولم نهتد إليه في المصادر الأخرى.
وقبل الختام نرى أننا مدينون بالتقدير والتنويه بجهود الأستاذ يوسف النابلسي في مراجعة هذا العمل وإخراجه بهذه الصورة.
وبعد، فهذا كتاب «أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ» للقرماني، نضعه بين أيدي العلماء وطلاب العلم وقد بذلنا فيه جهدنا قدر الطاقة راجين أن يحظى برضاهم، وأن يجدوا لنا العذر لما فاتنا من أمور، واعترى عملنا من ثغرات فالكمال لله وحده، وبنوره نهتدي سواء السبيل.
المحققان(1/24)
نماذج من مخطوطة شستربتي ومخطوطة بغداد الأولى(1/25)
غلاف مخطوطة شستربتي(1/26)
وجه الورقة الأولى من مخطوطة شستربتي(1/27)
أنموذج من الصفحة 188ب من مخطوطة شستربتي(1/28)
أنموذج من الصفحة 330أمن مخطوطة شستربتي(1/29)
صفحة الورقة الأخيرة من مخطوطة شستربتي(1/30)
غلاف مخطوطة بغداد(1/31)
غلاف مخطوطة بغداد
وجه الورقة الأولى من مخطوطة بغداد(1/32)
الورقة الأخيرة من مخطوطة بغداد(1/33)
النّصّ المحقّق(1/34)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (1)
الحمد لله على تصاريف العبر، عند سماع التواريخ والسّير، وصلّى الله على أشرف البدو والحضر، محمّد سيّد البشر، وعلى آله وصحبه الميامين الغرر.
أمّا بعد، فلما كان في التواريخ والسّير، عبرة لمن اعتبر، وتنبيه لمن افتكر، وإعلام أنّ قاطن الدّنيا على سفر، وإحضار لصورة حال من مضى وعبر، كيف قدّر واقتدر، ونهى وأمر، وغلب وقهر، وجمع وادّخر، إنّ في ذلك لعبرة لمن اعتبر وتذكرة لمن تذكّر، وتبصرة لمن تبصّر. رأيت أن أجمع عن نقلة الأخبار، وحملة الآثار، تلخيص سير الأوّلين من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، وأخبار الأمم الماضية، والقرون الخالية، وما في الدنيا من العجائب (2)، وما أودع الله فيها من الغرائب، وسمّيته «أخبار الدّول وآثار الأول» ليكون اسما يوافق مسمّاه، ولفظا يطابق معناه.
ومن الله أستمدّ الصواب، وأستغفره من الخطأ في الخطاب والجواب وأسأله الإتمام، على أحسن نظم ونظام، بحرمة نبيه وصفيّه، صفوة الأنبياء وخير الأنام، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وقد جعلته مشتملا على مقدمة وخمسة وخمسين بابا.
أما المقدمة فهي محتوية على سبعة فصول:
الفصل الأول: في بيان معنى التاريخ وموضوعه، وما أرّخه الناس قبل الهجرة وشاركوا به.
__________
(1) ليست في (ج).
(2) في (ب): وما في العجائب.(1/36)
الفصل الثّاني: في بداية المخلوقات وأوّلية المنشئات.
الفصل الثّالث: في خلق الجنّ والشّياطين وذكر / إبليس اللّعين.
الفصل الرابع: في ذكر الأرضين وسكّانها، وما ورد في قطّانها.
الفصل الخامس: في خلق السّماوات وآثار العلويّات.
الفصل السادس: في معنى النبوّة والرّسالة، وما ورد في حرف الأنبياء وأقلامهم من المقالة، وعدد النبيّين، وتفاوت ما بينهم من السّنين.
الفصل السابع: في ذكر تراجم الأبواب المظهرة لأسرار الكتاب.(1/37)
مقدمة المولف
الفصل الأول في بيان معنى التاريخ وموضوعه وما أرّخه الناس قبل الهجرة وشاركوا به
اعلم أن علم التاريخ هو الإخبار عن الكائنات السّابقة في العالم والحادثات، سواء عهد حالها أو تقادم. فهو السّبيل إلى معرفة أخبار من مضى من الأمم، وكيف حلّ بالمعاند السّخط والغضب، فآل أمره إلى التلف والعطف، وكشف عورات الكاذبين، وتمييز حال الصّادقين.
ولا يخفى حكاية اليهود لما أظهروا كتابا زعموا أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم من كلّ قبيل، فإذا هم قد كتبوا فيه شهادة سعد (1) ومعاوية بن ابي سفيان، فظهر بذلك كذبهم. لأن فتح خيبر كان (2) سنة سبع، وسعد رضي الله عنه مات يوم قريظة (3)
قبل خيبر بسنتين، ومعاوية إنما أسلم في عام الفتح، وأمثال ذلك أكثر من أن تحصر، ولا يجهل نفعه إلّا ساقط الهمّة جامد القريحة بليد الذهن رديّ الطبع.
__________
(1) في (ج): سعد بن أبي وقاص. وفي الوافي بالوفيات 1/ 45: سعد بن معاذ وهو الصواب، انظر في ترجمة سعد بن أبي وقاص المتوفى 55هـ، وترجمة سعد بن معاذ في الوافي بالوفيات 15/ 144، 152.
وقصة الكتاب الذي أظهره اليهود كانت في أيام القائم بأمر الله (توفي 467هـ) ووزيره يومئذ رئيس الرؤساء علي بن الحسين بن أحمد، الذي حمل الكتاب إلى الخطيب البغدادي (المتوفى 463 هـ)، وهو الذي حكم ببطلان الكتاب للأسباب الواردة في هذا المصنف.
(2) في (ب): كانت.
(3) خيبر: كانت في جمادى الأولى سنة سبع للهجرة، فقاتله اليهود أشد القتال حتى فتحها حصنا حصنا (طبقات ابن سعد 1/ 106، سيرة ابن هشام 2/ 328).
ويوم بني قريظة: كان في سنة خمس للهجرة في ذي القعدة، فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم (ابن سعد 2/ 74، سيرة ابن هشام 2/ 232).(1/38)
ولولا التواريخ لماتت معرفة الدّول بموت ملوكها، وخفي عن الأواخر عرفان حال الأول وسلوكها وما دفع من الحوادث في كل حين، وما سطر فيما كتب به من فعل الملوك، وأنّه لم يخل من التواريخ كتاب (1) من كتب الله المنزلة، فمنها ما ورد بأخباره المجملة، ومنها ما ورد بأخباره المفصّلة. وقد وقع في / التوراة في سفر من أسفارها، ما يتضمّن تفصيل أحوال الأمم السّالفة.
وقد أنزل في القرآن العظيم في سورة «القصص» مفردة.
ولو لم يكن في التّاريخ إلّا الإحاطة بعلم من مضى حتّى كأنك حاضره، وأوصافه حتّى كأنّك ناظره، لكان في ذلك غاية قصد كل سامع، وبهجة كلّ طامع، ومطّلع وطالع.
واختلفوا في معنى التاريخ. ذكر صاحب «مفاتيح العلوم»: التاريخ: النظام، وهو معرّب (2). وعن الصّولي (3): تاريخ الشيء غايته ووقته الذي ينتهي إليه، ومنه فعل فلان تاريخ قومه، أي انتهى إليه شرفهم ومعرفة غايتهم.
وقال الجواليقي (4) في «المعرب» بأن التّاريخ ليس بعربي، واشتقاقه من الأرخ، وهو ولد البقرة الوحشية إذا كان أنثى، بفتح الهمزة وكسرها، كأنه شيء حدث كما يحدث الولد.
وفي «مفاتيح العلوم»: التاريخ كلمة فارسيّة أصلها ماروز فعرّبت (5).
ويقال: إنّ الأرخ الوقت، والتّأريخ كأنه التوقيت.
__________
(1) في (أ): كتب، وفي (ب): كتابا.
(2) الخوارزمي، مفاتيح العلوم 50.
(3) اقتبس السخاوي تعريف التاريخ عن الصولي، انظر: الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 7، ويبدو أن المصنف يقتبس تعريف التاريخ من السخاوي المتوفى 902هـ وفيه أيضا اقتباس من سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان 1/ 41، حيث سترد لا حقا اقتباسات كثيرة.
(4) أبو منصور الجواليقي، موهوب بن أحمد (540465هـ)، وتعريفه للتاريخ من المعرّب 9089، وانظر: السخاوي، الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 6، حيث ينقل قول الجواليقي، وانظر أيضا: لسان العرب (أرخ).
(5) مفاتيح العلوم: 50.(1/39)
وفي «نور المقابيس»: وتاريخ الكتاب ليس عربيّا ولا سمع من فصيح. وفي «الصّحاح» (1): التأريخ تعريف الوقت والتوريخ مثله، وأرّخت الكتاب يوم كذا وورّخته بمعنى واحد.
وقد فرّق الأصمعي بين اللّغتين فقال: بنو تميم يقولون: ورّخت الكتاب نوريخا، وقيس تقول: أرّخته تأريخا (2).
وقال ابن عبّاس رضي الله عنه: قد ذكر الله تعالى التاريخ في كتابه فقال:
{(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ)} (3). وذكر ابن عساكر في تاريخه بإسناد إلى الزّهري والشعبي قال: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنّة وانتشر ولده، أرخ بنوه من هبوط آدم عليه السلام فكان ذلك التاريخ حتّى بعث الله تعالى نوحا، فأرخوا مبعث نوح عليه السلام حتّى كان الغرق فهلك من هلك وخرج نوح وذرّيته ومن معه من السفينة، فكان التاريخ من الطوفان إلى زمن نار إبراهيم عليه السلام (4).
وأقدم التواريخ التي بأيدي النّاس تاريخ القبط، لأنه بعد انقضاء الطوفان.
ثم اجتمع / رأي كلّ ملّة فأرخ الرّوم واليونانيون بظهور اسكندر وأرّخت القبط بملك بخت نصر وأرخ بنو إسحاق من مبعث نبي إلى مبعث نبيّ آخر، وما زالوا يؤرخون ما كان من الكوائن حتّى أتى عام الفيل فجعلوه تاريخا (5). قال المحبّ الطبري (6): أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة بالتّاريخ، وكانوا يورّخون بالشّهر
__________
(1) صحاح الجوهري 1/ 117 (أرخ)
(2) الاقتباس عن الأصمعي في تهذيب تاريخ دمشق 1/ 19دون نسبة. وانظر في الاعلان بالتوبيخ 6، ومرآة الزمان 1/ 41.
(3) سورة البقرة، آية 189.
(4) تهذيب تاريخ دمشق 1/ 19، دون الاسناد. ونقله السيوطي بتصرف في «الشماريخ» 9
(5) الصفدي، الوافي بالوفيات 1/ 11.
(6) المحب الطبري: (694615هـ)، أبو العباس أحمد بن عبد الله، شافعي، شيخ الحرم المكي،(1/40)
والشهرين من مقدمه صلى الله عليه وسلم حتّى أرّخ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من الهجرة، لأنّها فرقت بين الحق والباطل، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة من الهجرة، وقدّموا التّاريخ على الهجرة بشهرين وجعلوه من المحرّم.
__________
تفقه وصنف في الأحكام. وله: الرياض النضرة في فضائل العشرة، وذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، وكتاب السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين.(1/41)
الفصل الثاني في بداية المخلوقات وأوليّة المنشئات
قال النّبي صلى الله عليه وسلم (1): كان الله ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء، فهو الأوّل بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء. فهو السّابق للأشياء قبل وجودها، والباقي بعد فنائها فليس له أول ولا آخر.
قال «المسعودي»: (2) خلق الله تعالى الأشياء على غير مثال وابتدعها من غير أصل.
واختلقوا في أوّل ما خلق الله تعالى فقيل: نور نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم لقوله عليه السّلام: «أول ما خلق الله نوري» (3). وقيل: العقل، وقيل: القلم، وقيل:
اللّوح، وهو من درّة بيضاء، دفتاه ياقوتتان حمراوتان، وهو في عظم لا يوصف، وخلق له قلما من جوهرة طولها مسيرة خمسمائة عام، مشقوق السّن ينبع منه النور كما ينبع من أقلام أهل الدّنيا المداد. وكتب الله به في اللوح مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، كذا في «المدارك» وغيره (4):
__________
(1) الحديث أخرجه ابن كثير في تفسيره 2/ 327في تفسير سورة هود وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 341.
(2) مروج الذهب 1/ 21 (ط. دار الشعب بالقاهرة).
(3) الحديث أخرجه السكتواري في محاضرة الأوائل 21، والزرقاني في شرح المواهب اللدنية 1/ 46، والخبر في الأنس الجليل 1/ 9، وفي تاريخ الخميس 1/ 18، وهو هنا ينقل عن محاضرة الأوائل 8.
(4) تطابق حرفي مع الأنس الجليل 1/ 9، وانظر أوائل الطبراني 21، حلية الأولياء 8/ 281، وسائل السيوطي 15، تاريخ بغداد 13/ 40، وفي تاريخ الخميس 1/ 18عن مدارك التنزيل وغيره.(1/42)
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيّان التّحرك والسّكون (1)
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
وفي الحديث: إن بين يدي الله تعالى لوحا فيه ماية وخمس عشرة شريعة / ويقول الله تعالى فيه: وعزّتي وجلالي لا يجيئني عبد مؤمن بواحدة منهنّ إلّا أدخلته جنتي، كذا في «الإتقان في علوم القرآن» (2). وذكر الثعلبي عن أنس رضي الله عنه، أنّ اللّوح المحفوظ في جبهة إسرافيل عليه السلام (3).
وقد أكثر العلماء في وصف القلم. روي عن ابن المقفع أنه قال: الأقلام مطايا الفطن ورسل الكرام وبنان البيان. وقوام الأمور بشيئين: بالقلم والسيف، والقلم فوق السيف (4).
ثم خلق الله تعالى جرم الأرض في هيئة الفهر عليها دخان، ثم خلق الله من ذلك الدّخان السماوات، ثم دحى الأرض وبسطها منه.
واختلف في مكان الفهر قيل: إنّه موضع بيت المقدس، فمنه بسط الأرض، وقيل: من تحت الكعبة، فخلق جرم الأرض مقدّم على خلق السّماء وأمّا دحوها وبسطها فتأخر لقوله تعالى: {(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا أَخْرَجَ مِنْهََا مََاءَهََا وَمَرْعََاهََا)} (5)، كذا في «الكشاف» وغيره. ثم خلق الملائكة والجانّ كما سيأتي عن ابن عبّاس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {(فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ)} (6) فقال الله للسماوات: أطلعي شمسي وقمري ونجومي، وقال للأرض: شقّي أنهارك وأخرجي ثمارك، فأجابتا.
__________
(1) البيتان في تاريخ الخميس 1/ 18.
(2) الإتقان في علوم القرآن، من تأليف السيوطي. والخبر عن الإتقان في محاضرة الأوائل.
(3) لم أقع على الخبر في عرائس الثعلبي، ونقله في محاضرة الأوائل 8، والأنس الجليل 1/ 12.
وتصادفنا الكثير من نقول المؤلف عن سابقيه، وهذا يجعل عزو الأخبار يفتقر إلى الدقة.
(4) مرآة الزمان 1/ 48، وقد نفى محققها د. إحسان عباس نسبته الى ابن المقفع.
(5) الكشاف 4/ 215، في تفسير الآية 31من سورة النازعات.
(6) سورة فصلت، الآية: 11(1/43)
واختلف العلماء في الأيّام الّتي خلق الله فيها السّماوات والأرض والمخلوقات، هل هي مثل أيام الدّنيا أو مثل أيّام الآخرة، كلّ يوم ألف سنة على قولين:
أحدهما: إنّها مثل أيام الدّنيا. قاله مجاهد والحسن البصري، لأنّها هي المعهودة.
والثاني: إنّها مثل أيّام الآخرة، وبه قال ابن عبّاس وعامّة العلماء (1).
وقد خلق الله السّماوات والأرض قبل خلقه الأيّام واللّيالي والشمس والقمر (2). وفي الحديث (3). أن الله تعالى خلق الأرض يوم / الأحد والإثنين، وخلق الجبال، وفي رواية: الحديد، يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والعمران والخراب، وأنواع النّباتات، والحيوانات، وأقوات أهل الأرض وأرزاقهم، والماء، فكلّ شيء يفتر عن التسبيح إلّا الماء فإنه أبدا في تسبيحه (4)، وتسبيحه اضطرابه فتلك أربعة أيام.
وخلق سبع سماوات في يومين وخلق يوم الخميس السماوات، وخلق يوم الجمعة الشّمس والقمر والنجوم والملائكة، وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، آخر الخلق في آخر السّاعات، وهي السّاعة الّتي تقوم فيها الملائكة (5)، وهي محل إجابة الدّعاء، فإن قيل: فهلّا خلقها في لحظة واحدة وهو أهون عليه؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أن التثبيت أبلغ في القدرة، والتعجيل لا تقتضيه الحكمة، قاله ابن عبّاس.
__________
(1) الخبر عن ابن عباس أخرجه الطبري في تاريخه 1/ 26.
(2) تاريخ الطبري 1/ 25، البداية والنهاية 1/ 15، والخبر بصيغته في مرآة الزمان 1/ 51.
(3) تاريخ الطبري 1/ 45.
(4) في (ب) و (ج): تسبيح.
(5) أخرجه الطبري في تاريخه 1/ 46، 56وفيه: (فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة).(1/44)
والثاني: أن الله تعالى أراد أن يظهر في كل وقت أمرا تستعظمه الملائكة، قاله مجاهد.
والثالث: أن الذي يتوهمه المتوهم من إبطاء الخلق في ستّة آلاف سنة يتوهمه في ستة أيام عند تأمل قوله تعالى: {(كُنْ فَيَكُونُ)} (1)، وكان قادرا أن يخلق المخلوقات في لمحة واحدة، وإنما خلقها في ستة أيام، تعليما لخلقه الرفق والتثبيت في الأمور.
واختلفوا في أسماء الأيام، فقال الزجاج والفراء وغيرهما قالوا: كانت العرب تقول ليوم السبت شيار، وليوم الأحد أول، وليوم الإثنين أهون، وللثلاثاء جبار، وللأربعاء دبار، وللخميس مؤنس، وليوم الجمعة العروبة (2). وكانوا يسمون أيضا يوم السبت أبجد ويوم الأحد هوز ويوم الإثنين حطي والثلاثاء كلمن والأربعاء سعفص والخميس قرشت والجمعة العروبة، حكاه الضحاك (3).
واختلفوا في خلق الليل والنهار على قولين:
أحدهما: / النهار خلق أولا قاله عكرمة ومجاهد، لأنه ضياء، والنور مقدم على الظلام.
والثاني: الليل، وبه قال عامة العلماء لقوله تعالى: {(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ)} (4) فيدل على أن الليل مقدم عليه ولأن الظلمة أصل والضوء عارض، وهو من إشراق نور الشمس فلا يكون أصلا. وقد نص عليه ابن عباس فقال:
أرأيتم حين كانت السماوات والأرض رتقا، هل كان بينهما إلا ظلمة؟ (5).
__________
(1) من الآية 18، سورة البقرة.
والخير في تاريخ الطبري 1/ 58، 60، وتطابق حرفي مع مرآة الزمان 1/ 51.
(2) في ب (شان).
(3) تاريخ الطبري 1/ 42، 43، أوائل العسكري 4947، مروج الذهب 1/ 438.
(4) سورة يس، الآية: 37.
(5) تاريخ الطبري 1/ 61، ومرآة الزمان 1/ 53باقتباس حرفي.(1/45)
وفي «الخريدة»: أن الله تعالى خلق الخلق من أربعة أشياء: خلق الملائكة من نور والجان من نار والبهائم من ماء وآدم من طين.
وذكر الشيخ الأكبر (1): أن أول ما خلق الله تعالى من الحيوان النحلة وآخر ما خلق الله من الحيوان القرد، وأول ما خلق من النبات الكمأة، وأول ما يكون في الأرض المعادن ثم النبات ثم الحيوان ثم الأنسان وهو آخر مخلوق.
والزمان اسم لقليل الوقت وكثيره وطويله وقصيره، ويجمع على أزمان وأزمنة. وقيل: هو عبارة عن حركات الفلك وتدخل فيه ساعات الليل والنهار، والساعات مقدرات بقطع الشمس والقمر درجات الفلك.
واليوم أصله أيوام (2) وجمعه أيام ومعياره من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس (3).
ذكر الإمام المطرزي في «المغرب»: أن السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم إلا جزءا من يوم. والقمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس يوم وسدسه، وفصل ما بينهما عشرة أيام وثلث وربع عشر يوم بالتقريب على رأي بطليموس (4).
وقال بعض الحكماء: قدر مدة الأعمار مع هدم الليل والنهار وقال: الليل والنهار (5) غرسان يثمران للبرية صنوف البلية.
واختلفوا في البحار على أقوال:
أحدها: إنها خلقها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض كما في جميع المياه.
__________
(1) يقصد: محيي الدين بن العربي، والخبر عن ابن عربي في محاضرة الأوائل 14.
(2) في (ج): واليوم جمعه أيام وأصله أيوام، وما أثبتناه يتفق وما ورد في مرآة الزمان 1/ 5150.
(3) في (ب): من طلوع الشمس والفجر الثاني: وفي (ج): من طلوع الشمس أو الفجر الثاني.
(4) الخبر في المغرب 256.
(5) ليست في (ب).(1/46)
والثاني: إنها بقية طوفان نوح عليه السلام قاله ابن عباس والمفسرون.
والثالث: إنها من عرق الأرض لما ينالها من حرارة الشمس.
والرابع: إنها من مياه الأرض فالملح ينحدر إلى الأماكن المنخفضة فينعقد غليظا كدرا وتختلط به الأجزاء النارية.
روي عن عكرمة انه قال: البحر المظلم من ورائه بحر آخر يقال له الباكي، ماؤه عذب، وإنما سمي الباكي لأنه يبكي من خشية الله تعالى وليس / بعده شيء.
وقال علماء الهيئة: البحار بأسرها داخلة في الفلك لأنه محيط بالأرض كلها ثم إن البحار ينتقل بعضها على ممرّ السنين والدّهور فيصير موضع البحر برّا وعلى العكس. وقد رأينا ذلك عيانا في الأنهار العظام كالنيل والفرات ودجلة وبحر النجف بالكوفة، فإنه كان بحرا تأتي فيه السفن من الهند فاستحال الماء عنه إلى موضع آخر، وكذا ببغداد في دجلة، فإنها استحالت فراسخ فأخربت قرى كثيرة وهي اليوم قد استحالت أيضا.
وذكر بطليموس (1)، صاحب «المجسطي»، أن في كل سنة وثلاثين ألف سنة تنتقل أوجات الكواكب وتدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فإذا انتقلت من الشمال إلى الجنوب تختلف مسافات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض فيختلف بها الليل والنهار والشتاء والصيف والحر والبرد، وتتغير أرباع الأرض فيصير العامر خرابا والخراب عامرا والبرّ بحرا والبحر برا والسهل جبلا والجبل سهلا.
__________
(1) بطليموس: (نحو 16890م)، فلكي ورياضي وجغرافي يوناني. يبدو أنه عاش معظم حياته في الاسكندرية. ومؤلفه في الرياضيات والفلك المعروف بالمجسطي يتألف من ثلاث عشرة مقالة تدور حول الجغرافيا الفلكية. واشتهر عنه مؤلفه في الجغرافيا الوصفية باسمه (نظام بطليموس) وقد صنع عدة آلات أهمها الاسطرلاب الذي يحمل اسمه.(1/47)
الفصل الثالث في خلق الجن والشياطين وذكر إبليس اللعين
قال علماء اللغة: أصل الجن من الاستتار ومنه: الجنين، لأنه مستتر في بطن أمه. ومنه الجنة، لاستتار أرضها بورقها. وقد ورد أن الجن أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لها عقول وأفهام وقدرة على الأعمال الشاقة بخلاف الإنس. وقال الجوهري: إنما سموا بذلك لأنهم لا يرون (1).
وأما الشياطين فهو كل عات متجبّر من الجن والإنس والدواب. واشتقاقه على قولين:
أحدهما: إنه من شطن أي بعد عن الخير.
والثاني: إنه من شاط يشيط إذا احترق، ومنه شاطت القدر. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {(خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ)} (2)، فسره ابن عباس فقال: المارج لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت (3).
وقال الجوهري: المارج نار لا دخان لها خلق منها الشياطين (4). وفي «كنز الأسرار»: أن الجان أبو الجن كما أن الإنسان أبو البشر (5)، وسمي جانا لتواريه عن الأعين (6).
__________
(1) الصحاح (جنن)، وانظر: مرآة الزمان 1/ 128.
(2) سورة الرحمن، الآية: 15.
(3) تاريخ الطبري 1/ 84، ومرآة الزمان 1/ 128.
(4) الصحاح (مرج)، ومرآة الزمان 1/ 128.
(5) على هامش ج (آدم) أبو البشر.
(6) الخبر أورده السكتواري في مسامرة الأوائل 17نقلا عن كنز الأسرار.(1/48)
وفي إبليس ثلاثة أقوال: إنه من الجن ففسق، أو من الملائكة فمسخ، أو من الجانبيين فطرد، والعياذ بالله (1). وفي كتاب / «الأوائل»: إن الله تبارك وتعالى خلق الملائكة والجان من جنس واحد فمن طهر منهم فهو ملك ومن خبث فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جنّ (2).
ثم إن الجن عصوا وفسقوا عن أمر ربهم وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى إليهم ثمانماية نبي وهم يقتلونهم. قال مقاتل: فإن الله لم يبعث نبيا قبل آدم عليه السلام، وإنما بعث إليهم ملكا منهم فعصوه، وهم النذر، بدليل قوله تعالى:
{(وَلَّوْا إِلى ََ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)} (3) فجرى لهم ما جرى من القتل والأسر على أيدي الملائكة السماوية حتى طهروا الأرض منهم. وكان رئيس تلك الملائكة إبليس.
ولما اهبط آدم عليه السلام إلى الأرض انتقل إبليس إلى البحر المحيط وسكن هناك وجعل عرشه على الماء (4)، ثم ألقيت عليه شهوة السفاد (5)، فهو لا يلد لكنه يلقح كالطير ويبيض ويفرّخ. قيل: يخرج من بيضته ستون ألف شيطان فيسلطهم على الخلق والأقرب من مجلسه من يفرق ويلقي عداوة بين المرء وزوجه، ثم أكثرهم إيذاء للخلق، ونحن نستعيذ بالله تعالى من كيد الرحيم، كذا في «آكام المرجان في أحكام الجان» وغيره.
وذكر في «الأوائل» أن إبليس أول من لاط، وهو رئيس اللائطين وحامل لوائهم إلى النار. لأنه لما أهبط من الجنة فرت الأزوجة منه فلاط بنفسه فكانت ذريته منه (6).
ذكر الشيخ الأكبر قدس الله سره في «الفتوحات» قال: أخبرني بعض
__________
(1) انظر تاريخ الطبري 1/ 81وما بعدها، البداية والنهاية 1/ 55. وفي (ب) بياض سقطت منه (أو من الملائكة فمسخ، أو من الجنانيين).
(2) انظر تاريخ الطبري والبداية والنهاية، والكامل في التاريخ 1/ 1715.
(3) سورة الأحقاف، الآية: 29.
(4) الخبر في تاريخ الطبري والكامل والبداية والنهاية.
(5) في ج (الفساد).
(6) أورده السيوطي في الوسائل إلى معرفة الأوائل 7170.(1/49)
المكاشفين أنه رأى الجن يأتون إلى العظم فيشمونها كما تشم السباع ثم يرجعون وقد أخذوا أرزاقهم، وغذاؤهم (1). في ذلك الشم. ونكاحهم كالرياح المتداخلة بعضها بعضا كلقاح النخلة الروائح.
عن سعيد بن جبير أنه قال: الجن خمسة أنواع: جان وجن وشيطان وعفريت ومارد، وأضعفها الجان وهو مسيخ الجن، وأقواها المارد (2).
وقال الحسن البصري (3): الشياطين أولاد إبليس، لا يموتون / إلا معه، والجن يموتون قبله، ولا خلاف أن الكل خلقوا قبل آدم عليه السلام. وفي الخبر:
أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان عليه السلام نادى جبريل: أيتها الجن والشياطين أجيبوا نبي الله، فخرجوا من الكهوف وأطراف الأرض فوجا فوجا تسوقهم الملائكة. وهم أربع وعشرون فرقة بأشكال مختلفة على صور جميع الحيوانات، مختلفة الأعضاء. فتعجب سليمان عليه السلام وسجد شكرا لله تعالى وقال: إلهي ألبسني هيبة من عندك، ثم فرقهم في الصنائع وأبنية الحصون واستخراج المعادن والجواهر.
وفي «مرآة الزمان» عن الحسن البصري رحمه الله: الجن ثلاثة أصناف، صنف في البرّ، وصنف في البحر، وصنف في الهواء (4).
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: هم أربعون جيلا، كل جيل منهم ستمائة ألف، وهم مأمورون ومنهيون. وذكر الدميري (5) في «حياة الحيوان»: أن الله تعالى قال لإبليس: لا أخلق لآدم ذرة إلا ذرأت لك مثلها،
__________
(1) في ج (وغداءهم).
(2) الخبر في مرآة الزمان 1/ 128عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(3) الحسن البصري، الحسن بن يسار، إمام أهل البصرة، قال عنه الذهبي: كان رأسا في العلم والحديث، إماما مجتهدا كثير الاطلاع، رأسا في القرآن وتفسيره، رأسا في الوعظ والتذكير، رأسا في الزهد والصدق. ولد في 21هـ، وتوفي 110هـ.
(4) مرآة الزمان 1/ 130.
(5) حياة الحيوان 1/ 209.(1/50)
فليس من ولد آدم أحد إلا وله شيطان قد قرن به وقيل: إن الشياطين فيهم الذكور والإناث يتوالدون من ذلك.
وأما إبليس، فإن الله تعالى خلق في فخذه اليمنى ذكرا، وفي اليسرى فرجا، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة ولهم أسماء مختلفة وكلهم عدو لبني آدم.
واشتقاقه من الإبلاس وهو الإياس وإبليس قد يئس من رحمة الله تعالى.
واختلفوا، هل كان من الملائكة أو من الجن على ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه كان من الملائكة واحتجوا بقوله تعالى: {(وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ)} هذا استثناء متصل فدلّ على أنّه منهم.
والثانى: إنه من الجن ولم يكن من الملائكة قط، لقوله تعالى: {(إِلََّا إِبْلِيسَ كََانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)} (1).
والثالث: إنه لا من الملائكة ولا من الجن، بل هو خلق منفرد خلقه الله من النار كما خلق آدم من الطين.
[نبأنا محمد بن طاهر أبي الحسن بن علي الجوهري بن عمر بن جوبه، عن الحسن بن معروف عن الحسين بن الفهم، عن محمد بن سعد، عن عبد الله بن نمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما] (2) / قال: أشرف من كان من الملائكة وأكرمهم يقال لهم الجن لأنهم استتروا عن أعين الملائكة لشرفهم، وكان إبليس منهم. قال: وكان رئيس ملائكة سماء الدنيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من خزنة الجنة ومن أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما. وكان يسوس (3) ما بين السماء والأرض، فرأى بذلك لنفسه شرفا عظيما فذلك الذي
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 50.
والخبر في مرآة الزمان 1/ 130.
(2) في (أ) و (ب)، وذكر ابن عباس، وما أثبتناه من (ج).
(3) في (أ) و (ب): يوسوس.(1/51)
دعاه إلى الكبر فعصى وكفر، فمسخه الله تعالى شيطانا رجيما ملعونا، نعوذ بالله من خذلانه.
وذكر أبو جعفر الطبري: أن إبليس بعث حاكما في الأرض يقضي بين الجنّ ألف سنة، ثم عرج إلى السماء فأقام يتعبّد حتى خلق آدم (1) والله أعلم بخلقه وأحكم.
__________
(1) الخبر في تاريخ الطبري 1/ 88.(1/52)
الفصل الرابع في ذكر الأرضين وسكانها وما ورد في قطانها
روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في الأرض قبل [الجن خلق يقال لهم] (1) الحن والبن والطم والرم وانقرضوا ويقال: إنهم من الجن. وذكر غيره أن أول من سكن الأرض أمة يقال لهم الحن والبن ثم سكنها الجن فأقاموا يعبدون الله تعالى زمانا فطال عليهم الأمد ففسدوا فأرسل الله إليهم نبيّا منهم لقوله تعالى: {(يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)} (2) وقيل:
ملكا منذرا اسمه (3) يوسف فلم يطيعوه وقاتلوه، فأرسل الله إليهم الملائكة فأجلتهم إلى البحار وكان مدة إقامتهم في الأرض ألف عام (4). قال الشيخ محيي الدين العربي في «الفتوحات المكية» في باب حدوث الدنيا أنه قال قدس الله سره: لقد طفت الكعبة مع قوم لا أعرفهم فأنشدوا بيتين حفظت واحدا منهم ونسيت الآخر (5):
لقد طفتم كما طفنا سنينا ... لهذا البيت طرّا أجمعينا
فقلت لواحد منهم: من أنتم؟ فقال: نحن من أجدادك الأول، فقلت: كم لكم من الزمان والموت؟ فقال: بضع وأربعون ألف سنة، فقلت: ليس لآدم قريب من ذلك من السنين. فقال: عن أي آدم تقول؟ عن هذا الأقرب إليك أو عن غير
__________
(1) ساقطة من أوالاستدراك من ب وج.
(2) سورة الأنعام، الآية: 130.
(3) في ب: (ملك منذر) وفي ج: (ملكا منذرا يقال له يوسف).
والخبر في مرآة الزمان 1/ 125.
(4) الصحاح: (مرج)، وانظر مرآة الزمان 1/ 57.
(5) رواية البيت في (أ): (أجمعونا).(1/53)
آدم؟ ففكرت في ذلك فتذكرت / حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى خلق قبل آدم المعلوم عندنا ماية ألف آدم. قال الشيخ: اجتمعت مرة في عالم الأرواح مع إدريس عليه السلام وسألته عن صحة ذلك الكشف فقال إدريس: صدق الخبر وصدق شهودك ومكاشفتك في ذلك. نحن معاشر الأنبياء آمنا بحدوث العالم وانقطع علمنا عن مبدأ الأعيان والأكوان.
قال علماء اللغة: إنما سميت الأرض أرضا لأن الأقدام تدقها وترضها.
وقال الجوهري: الأرض مؤنثة وهي اسم جنس وجمعها أرضون وقد تجمع على:
«أروض» (1).
قال الثعلبي (2): «لمّا خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب قابضتين على الأرضين السبع حتى ضبطها فلم يكن لقدمه موضع قرار فأهبط الله من الفردوس ثورا وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم يستقر، فأخذ الله ياقوتة حمراء من الفردوس غلظها مسيرة خمسماية عام، فوضعها على سنام الثور فاستقرت عليها قدماه، ولذلك الثور أربعون ألف قرن خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفسا [واحدا] (3)، فإذا تنفس مدّ البحر وإذا رد نفسه جزر فلم تكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء كغلظ السماوات والأرض فاستقرت قوائم الثور عليها، فخلق الله حوتا عظيما فوضع الصخرة على ظهره، وسائر جسده خال، والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة».
روى السدي عن أشياخه: أن لكل أرض سكانا، فسكان الأرض الثانية الريح العقيم وهي التي أهلكت قوم عاد، وسكان الثالثة حجارة جهنم التي ذكرها
__________
(1) صحاح الجوهري (أرض).
(2) الخبر أورده الثعلبي في عرائس المجالس 4.
(3) في أوب (فهو يتنفس كل يوم نفس).(1/54)
الله تعالى في قوله: {(وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ)} (1)، وفي الرابعة كبريت جهنم، وفي الخامسة حيات جهنم، وفي السادسة عقاربها كالبغال / الرهم وأذنابها مثل الرماح، وسكان السابعة إبليس وجنوده (2).
وذكر الشيخ سراج الدين بن الوردي: في «عجايب المخلوقات» (3) عن عطاء بن يسار في قوله عز وجل: {(اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)} (4) قال: في كل أرض آدم مثل آدمكم ونوح مثل نوحكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 34، وسورة التحريم، الآية: 6.
(2) الخبر بنصه في مرآة الزمان 1/ 126وأورده الثعلبي عن ابن عمر في العرائس 75وفيه اختلاف.
(3) خريدة العجائب ص 10من طبعة استانبول (فصل في صفة الأرض).
(4) سورة الطلاق، الآية: 12.(1/55)
الفصل الخامس في خلق السماوات وإنشاء (1) العلويات
قال الجوهري (2): كل ما علاك فأظلك فهو سماء، ومنه قيل لسقف البيت:
سماء ويقال للسحاب: سماء. ويسمى المطر سماء قال (3): والسماء تذكر وتؤنث وتجمع على أسمية وسماوات. قال: «والسمو، الارتفاع والعلو، والسماء ظهر الفرس لعلوه». وقد ورد في السماء أخبار وآثار، قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد (4).
قال الجوهري: الأطيط، صوت الرحل والإبل من ثقل حملها (5).
قال وهب بن منبه: عبادة أهل سماء الدنيا القيام والثانية الركوع والثالثة السجود والرابعة القراءة والخامسة التسبيح والسادسة الذكر والسابعة الجلوس في التحيات (6).
وفي «التبصرة» (7) عن عبد الله بن سلام قال: لما خلق الله الملائكة رفعت رؤوسها إلى السماء وقالت: يا رب مع من أنت؟ فقال: مع المظلوم حتى يؤدّى
__________
(1) في أ: (وآثار) وما أثبتناه من ب وج وفي مرآة الزمان 1/ 134: والآثار العلويات.
(2) صحاح الجوهري (سماء).
(3) (قال:) ساقطة من ب.
(4) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 510. وفي (التفسير) 4/ 579 (الأهوال).
(5) صحاح الجوهري: (أطط).
(6) انظر عرائس المجالس 1110.
(7) التبصرة 2: 175.(1/56)
حقه فمنهم من يشهد معنا صلاتنا ومنهم صفوف في السماء كصفوف بني آدم في الصلاة ومنهم كتبة على بني آدم يكتبون أعمالهم.
عن أنس رضي الله عنه أنه قال (1): إذا مات العبد قال الملكان الموكلان به: يا رب مات فلان أفتاذن لنا أن نصعد إلى السماء؟ فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحونني ويمجدونني. فيقولان: أفنقيم في الأرض؟ فيقول: أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني ويمجدونني. فيقولان: ماذا نصنع وأين نكون؟ فيقول الله تعالى: قوما على قبر عبدي فكبرا وهللا واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله تعالى خلق المخلوقات خلق الماء فثار منه دخان فارتفع منه السماء وجعلها سماء واحدة / ثم فتقها فجعلها سبعا وأوحى في كل سماء أمرها أي ما قدر أن يكون فيها من الملائكة والنجوم وغير ذلك.
روى الواقدي عن ابن عباس رضي الله عنهما (2) قال: السماء الأولى من زمردة خضراء والثانية من فضة والثالثة من ذهب والرابعة من لؤلؤ والخامسة من الياقوت والسادسة من المرجان والسابعة من النور، وتحت العرش بحر متمسك بالقدرة ينزل منه أرزاق الحيوان بوحي الله تعالى فيمطرها ما شاء من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا في موضع يقال له الأبرم، فتجيء السحابة السوداء فتدخله فتشرب منه مثل شرب الاسفنجة فيسوقها الله حيث شاء، وما أنزل الله من السماء من ماء إلا بمكيال.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ينزل مطر من السماء إلا ومعه البذر، أما أنكم لو بسطتم شيئا لرأيتموه.
وفي «الهيئة السنية»، أن المطر اثنان: مطر من السماء، فمنه البذور والنبات، ومطر يسوق الغيم من البحر فلا يكون معه البذر ولا النبات. والسحاب غربال
__________
(1) مرآة الزمان 1/ 176.
(2) الخبر في مروج الذهب 1/ 2221، وفي مرآة الزمان 1/ 136.(1/57)
المطر، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض (1).
واختلف أصحاب الآثار والقدماء في لون السماء هل هو أصلي أو عرضي؟
فذهب بعضهم إلى أنه أصلي لما روي أنه عليه السلام قال: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر» (2). فعلم من هذا أن لون السماء أخضر وأنه أصلي.
وذهب القدماء إلى أنه أزرق وأنه عرضي، واختلفوا في سببه.
فزعم بعضهم أن الفلك مائل إلى البياض وأن شعاع الشمس مائل إلى الحمرة، فإذا أشرق شعاع الشمس على الفلك تولد عن اللونين لون لازوردي.
قال وهب بن منبه رضي الله عنه (3): إن الشمس على عجلة لها ثلاثماية وستون عروة قد تعلق بكل عروة ملك يجرونها / في السماء ويودونها إلى البحر المسجور وهو بحر يموج مكفوف كأنه جبل ممدود في الهواء، ولو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت ما على وجه الأرض من كل شيء حتى الجبال والصخور.
قال أبو الحسين بن المنادي (4): لا خلاف بين العلماء في أن السماء على الأرض مثل القبة وأن العالم مثل الكرة وأنها تدور بما فيها من الكواكب على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال والآخر في ناحية الجنوب، وأن كرة الأرض مثبتة وسط كرة السماء كالنقطة من الدائرة.
عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين الأرض إلى السماء مسيرة خمسماية عام وغلظ كل سماء مسيرة خمسماية عام والأرضون مثل ذلك وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل ذلك (5) قال الخطابي: وهذا على
__________
(1) الخبر قسم من خبر طويل ساقه المسعودي في مروج الذهب 1/ 22.
(2) الحديث في المستدرك 3/ 342، 344، 4/ 480، ومجمع الزوائد 4/ 271، ونثر الدر 1/ 250.
(3) بعض القسم الأول من هذا الخبر أورده الثعلبي في عرائس المجالس 16.
(4) في الأصول: ابن النادي، وما أثبتناه هو الصواب.
(5) أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 31، وسبط ابن الجوزي في مرآة الزمان.(1/58)
مقدار سير بني آدم. أما الملك فإنه يخرق الجميع في ساعة [واحدة] (1) ولحظة واحدة وكذا الشيطان في الأرض.
سئل علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: كم بين السماء والأرض؟ فقال: دعوة مستجابة. فقيل له: كم بين المشرق والمغرب؟ فقال: مسيرة يوم للشمس (2).
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي عليه السلام في المسجد حين غربت الشمس فقال: يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن لها. أخرجاه في الصحيحين (3).
روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تطلع الشمس كل يوم إلا وهي كارهة تقول: يا إلهي لا تطلعني على عباد يعصونك حتى إنها لتقف عند الطلوع فيدفعها ثلاثماية وستون ملكا حتى تطلع. وأيضا عنه قال: تطلع الشمس كل سنة في ثلاثماية وستين كوة لا ترجع إلى تلك الكوة إلى ذلك اليوم من العام القابل (4). / قال الحسن البصري رحمه الله: الشمس تغرب في ماء يغلي غليان القدور ويفيض الماء من تلك العين الحارة حولها ثلاثة أيام لا يأتي على شيء إلا احترق.
وحكى الثعلبي عن عمرو بن مالك بن أمية قال: وجدت رجلا بسمرقند يحدث الناس عن القوم الذين تطلع عليهم الشمس قال: خرجت حتى جاوزت الصين ثم سألت عنهم فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا وسرت حتى رأيتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى، وكان
__________
(1) ليست في (أ).
(2) نقله لأبي في نثر الدر 1/ 274.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 131، كتاب بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر ومسلم (الايمان: 250) وهو في البداية والنهاية 1/ 31.
(4) في (أ) العالم القابل، وضبطها من (ب) و (ج).
والخبر ورد في مرآة الزمان 1/ 147.(1/59)
صاحبي يحسن لسانهم فسألهم قالوا: وما أنتم؟ قال: جئنا حتى ننظر إلى الشمس كيف تطلع، قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي عليّ ووقعت ثم أفقت وهم يمسحونني بدهن. فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي كهيئة الزيت وإذا طرف السماء كالفسطاط. فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم أنا وصاحبي، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصيدون السمك فيطرحونه؟؟؟
في الشمس ويأكلونه (1).
وللشمس منافع كثيرة. أحدها: أنها سراج العالم. والثانية: أنها طباخ لأطعمتهم من غير كلفة ومنضج لثمرهم. والثالثة: تسير من المشرق إلى المغرب لمصالحهم. والرابعة: أنها لا تقف في مكان واحد لئلا تضر بالخلق.
والخامسة: أنها تكون في الشتاء في أسفل البروج وفي الصيف في أعلاها لمنافع العالم. والسادسة: أنها لا تجتمع مع القمر في سلطانه لئلا يبطل كل واحد منهما ضوء الآخر.
وقد حدّ أفلاطون الشمس فقال: هي فلك محشوّ نارا (2) يخرج منه للهب.
وفي القمر فوائد منها: أنه سراج للخلق بالليل ومعجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {(اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)} (3) وقدّر له منازل ليعرف بها المواقيت، ومحا من نوره تسعا وتسعين / جزءا، ولولا ذلك لا نبسط الناس في معايشهم ليلا ونهارا فآذى الحريص كده.
وفيه عيوب منها: أن النوم فيه منكشفا يورث البرص. ومنها: أنه يبلي الكتان، ونوره من نور الشمس.
__________
(1) عرائس المجالس 327.
(2) في ب وج (مشحون).
(3) سورة القمر، الآية الأولى.
والخبر عن فوائد القمر وعيوبه في مرآة الزمان 1/ 149148.(1/60)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا لا.
قال: فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك، أخرجاه في الصحيحين (1).
ذكر المسعودي في «أخبار الزمان»: (2)، عن زرارة بن أبي أوفى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت لجبريل: هل رأيت ربك قط؟ فانتفض ثم قال: يا محمد، إن بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور، ولو دنوت إلى واحد منها لاحترقت.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة النساء، وفي مواقيت الصلاة.
(2) المسعودي في أخبار الزمان 27.(1/61)
الفصل السادس في معنى النبوة والرسالة وما ورد في حرف الأنبياء وأقلامهم من المقالة وعدد النبيين وتفاوت ما بينهم من السنين
قال الشيخ محيي الدين العربي قدّس الله سره في «الفتوحات المكية»: إعلم أن النبي هو الذي يأتيه الملك بالوحي من عند الله تعالى يتضمن ذلك الوحي شريعة يتعبّده بها في نفسه، فإن بعث بها إلى غيره كان رسولا (1).
وفي الكتب الكلامية: الولي هو العارف بالله تعالى وصفاته حسب ما يكون المواظب على الطاعات المتجنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات، وكرامته ظهور أمر خارق للعادة من قبله غير مقارن لدعوى النبوة. فما لا يكون مؤذنا بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجا، وما يكون مقرونا بدعوى النبوة يكون معجزة.
وفي «العمدة»: لم يبعث الله تعالى نبيا من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن (2).
وفي «ربيع الأبرار» للزمخشري عن فرقد السبخي: لم يبعث الله نبيا قط من مصر من الأمصار، وإنما بعثوا من القرى. وذكر الهروي في كتاب «الإشارات إلى معرفة الزيارات» (3) أن بلاد الغرب والعجم لم يطأها نبي بل بها من العباد والزهاد ما لو جمع لكان خلقا كثيرا.
وفي «العرائس»: قال الله تعالى: إني قضيت يوم خلقت السماوات والأرض
__________
(1) اقتباس من تاريخ الخميس 1/ 7.
(2) اقتباس من تاريخ الخميس 1/ 7.
(3) كتاب الهروي، نشر في دمشق.(1/62)
أن أجعل النبوة في الأجراء وأجعل الملك في الرعاة والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى / في الفقراء والثروة في الأقلاء والمدائن في الفلوات والآجام في المفازة.
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: جميع الكتب المنزلة مائة صحيفة وأربعة كتب، نزل على آدم عليه السلام عشر صحايف في عشرين ورقة وهي حروف المعجم وهو (1) أول كتاب كان في الدنيا، وعلى شيث خمسون صحيفة وعلى إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحايف [وعشرون ورقة] (2). وأنزلت التوراة على موسى بعد صحف إبراهيم بسبعماية سنة، وأنزل الزبور على داود بعد التوراة بخمسماية عام، وأنزل الإنجيل على عيسى بعد الزبور بستماية وعشرين عاما، والقرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد الإنجيل بستماية سنة (3).
وألسنة الأنبياء ثلاثة سريانية وعبرانية وعربية وهي لسان الوحي.
وذكر السيوطي (4) في «الإتقان»، أنه ما نزل وحي إلا بلسان عربي مبين فيترجم كل نبي بلسان قومه.
وفي «محاضرة الأوائل» (5): أن الله تعالى علّم آدم ألف حرفة مما يحتاج أولاده إليها كما علّمه الألسن فكل شيء سماه آدم فهو اسمه إلى يوم القيامة فتفرقت الحرف في أولاده توفيقا منه فكل أخذ عن الأب الأكبر بحسب الاستعداد للكمالات الآدمية لأنه أنشأ آلات الصنايع وألهم معرفة حقائق الأشياء، ولما نزل من الجنة كان معه الإبرة والمطرقة والسندان والكلبين، كذا في «تفسير» الشيخ.
__________
(1) في (ج): وهي.
(2) ليست في (أ).
(3) الخبر في محاضرة الأوائل 154.
(4) نقله السكتواري في محاضرة الأوائل 22، 154عن الاتقان.
(5) محاضرة الأوائل 128127، وذكر أنه في تفسير الشيخ محيي الدين بن العربي (سورة الحديد) وليس في المنشور من التفسير.(1/63)
وكان لبعض الأنبياء حرفة يستعين بها في معايشهم، فمن ثم كان آدم عليه السلام حرّاثا وزرّاعا وإدريس عليه السلام كان كاتبا وخياطا فهو أول من خط وخاط وكان نوح عليه السلام نجارا وكان هود عليه السلام تاجرا وكذلك صالح عليه السلام وكان إبراهيم الخليل عليه السلام يعتني الحراثة والزراعة وكان إسماعيل عليه السلام قناصا وإسحاق عليه السلام راعيا كذلك يعقوب عليه السلام، ويوسف كان وزير فرعون مصر وكان أيوب عليه السلام تاجرا وشعيب عليه السلام راعيا وكذلك موسى عليه السلام وهارون عليه السلام كان وزير موسى وإلياس عليه السلام كان نساجا وكان داود عليه السلام زرّادا وولده سليمان عليه السلام كان يعمل القفف ويبيعها وزكريا عليه السلام يعمل بالطين وعيسى عليه السلام سياحا وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مجاهدا (1).
وفي «روض الرياحين» للإمام اليافعي: أن الله تبارك وتعالى لما أخرج الناس من ظهر آدم عليه السلام في عالم الذر عرض عليهم جميع الصنايع الدنيوية والحرف البشرية إلى يوم القيامة، فاختار كل إنسان صنعة بحسب استعداده وقابليته. فلما ابداهم إلى الوجود في الدنيا أجرى على لسان كل أحد وأيده مما اختار لنفسه من الحرف في عالم الأرواح، فوقع التعارف والتناكر والتعليم بين الأرواح، فأخذ كل روح من جنسه ما يلائم استعداده فانفردت طائفة من بين الأرواح لم تختر شيئا فقيل لها من حضرة الغيب: اختاري فقالت: يا ربنا ما أعجبنا شيء من تلك الحرف التي شاهدناها فنختاره. فأظهر لهم تعالى وتقدس مقامات العبودية فقالت الأرواح: قد اخترنا يا مولانا خدمتك فناداهم الحق جل جلاله: وعزتي وجلالي لأشفعنكم غدا فيمن عرفكم وخدمكم (2).
وكان للأنبياء عليهم السلام أقلام مختلفة فكان قلم آدم عليه السلام سريانيا وقلم شيث عليه السلام صوليانيا وقلم إدريس عليه السلام برباريا وقلم نوح عليه
__________
(1) المستدرك 2/ 596.
(2) الخبر عن روض الرياحين في محاضرة الأوائل 129128.(1/64)
السلام جزرميا وقلم إبراهيم عليه السلام برهميا وقلم إسحاق عليه السلام يونانيا وقلم موسى عليه السلام عبرانيا وقلم داود عليه السلام عزيريا وقلم سليمان عليه السلام كاهنيا وقلم عيسى عليه السلام روميا وقلم شمعون افرنجيا وقلم جرجيس قبطيا وقلم دانيال أرمنيا، وقلم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كوفيا عربيا وهو أفضل الأقلام، كذا ذكره البوني في كتابه (1).
وأول من صلّى العشاء موسى عليه السلام وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام وأول من صلى العصر يونس عليه السلام وأول من صلى الظهر إبراهيم عليه السلام وأول من صلى الفجر آدم عليه السلام.
وذكر الشيخ محيي الدين العربي في «مسامرته» نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن ما بين آدم إلى نبينا محمد عليه السلام / خمسة آلاف سنة آلاف وخمسماية وخمس وسبعون سنة»، وعلى ما رواه الكلبي عن أبي صالح أنه ستة آلاف وتسع عشرة سنة. وتفصيل ذلك: من آدم إلى نوح عليهما السلام ألفا ومايتا سنة ومن نوح إلى إبراهيم عليه السلام ألف وماية سنة ومن إبراهيم إلى موسى خمسماية وخمس وسبعون سنة ومن موسى إلى داود ألف وماية سنة وتسع وسبعون سنة ومن داود إلى عيسى ألف وثلاثماية وخمس وستون سنة ومن عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ستماية سنة» (2).
ولمجوس الفرس وأصحاب الزيجات واليهود واليونانيين من النصارى أقوال كثيرة تركناها قصد الاختصار.
وفي «نزهة النواظر» عن ابن عساكر بسنده إلى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل حدّثه قال: مضى من الدنيا ستة آلاف وسبعماية سنة.
__________
(1) ذكره السكتواري في محاضرة الأوائل 28نقلا عن البوني.
والبوني هو أحمد بن محمد بن إبراهيم، توفي 427هـ.
(2) محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار 1/ 120.(1/65)
وذكر محمد بن جرير الطبري: أن من آدم إلى انقضاء الخلق سبعة آلاف سنة وأن طلوع الشمس من مغربها قبل انقضاء العالم ونبىء في الأرض ماية ألف وأربعة وعشرون ألف نبي وثلاثماية وثلاثة عشر من المرسلين (1) وما بقي من الدنيا إلا كما بقي من النهار إذا غابت الشمس وبقي حمرة الشمس على الحيطان.
وفي بعض الأخبار: أن أبانا آدم عليه السلام لما خلق قالت له الأرض: يا آدم قد جئتني بعدما ذهب جدتي ونضرتي وشبابي وقد خلقت أي بليت وفنيت.
والذي أثبته بطليموس في «المجسطي» وأرخه ورصده أن بين هبوط آدم وبين الهجرة ستة آلاف سنة ومايتين وست عشرة سنة. وقد ورد في الحديث النبوي (2): أن مدة عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وإني بعثت في الألف الأخيرة فكان في الألف الأولى آدم عليه السلام وفي الثانية إدريس عليه السلام وفي الثالثة نوح عليه السلام وفي الرابعة إبراهيم عليه السلام وفي الخامسة موسى عليه السلام وفي السادسة عيسى عليه السلام وفي الألف السابعة محمد صلى الله عليه وسلم وبه تمت آلاف الدنيا، كذا في «أصول التواريخ» وغيره والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: ماية ألف وأربعون ألف نبي وثلاثماية من المرسلين. وما هنا من (ج) وهو ما يفق وما ورد في تاريخ الطبري 1/ 57.
(2) تاريخ الخميس 1/ 34.(1/66)
الفصل السابع في ذكر تراجم الأبواب المظهرة لأسرار الكتاب
وتشتمل على خمسة وخمسين بابا:
الباب الأول: في ذكر الأنبياء والمرسلين / صلوات الله عليهم أجمعين، وفيه أربعون فصلا.
الباب الثاني: في ذكر الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، رضوان الله عليهم أجمعين. وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: في ذكر أبي بكر الصديق معدن الهدى والتصديق.
الفصل الثاني: في ذكر عمر بن الخطاب الموفق للصواب.
الفصل الثالث: في ذكر عثمان بن عفان، خليفة التقى والإيمان.
الفصل الرابع: في ذكر علي بن أبي طالب ذي الفضائل والمناقب.
الباب الثالث: في ذكر الحسن والحسين ابني أمير المؤمنين وسبطي سيّد المرسلين وأولادهما رضوان الله عليهم أجمعين، وفيه عدة فصول:
الفصل الأول: في ذكر برزخ الكرم والمنن الإمام أبي محمد الحسن.
الفصل الثاني: في ذكر النجم الطالع من بين القمرين الإمام أبي عبد الله الحسين.
الفصل الثالث: في ذكر برج سرطان الراكعين الإمام علي بن الحسين زين العابدين.
الفصل الرابع: في ذكر منبع الفضائل والمفاخر الإمام محمد بن علي الباقر.(1/67)
الفصل الخامس: في ذكر عالم الحقائق والدقائق الإمام جعفر بن محمد الصادق.
الفصل السادس: في ذكر المجتهد القائم المتصدق الصائم الإمام موسى بن جعفر الكاظم.
الفصل السابع: في ذكر مشبه شجاعة جده علي المرتضى الإمام علي بن موسى الرضا.
الفصل الثامن: في ذكر من ظهرت كراماته من ليلة الميلاد الإمام محمد بن علي الجواد.
الفصل التاسع: في ذكر بيت الحلم والعلم والأيادي، الإمام علي بن محمد الهادي.
الفصل العاشر: في ذكر برج الأصل الزكي والمكاشف بالأمر الخفي الإمام الحسن بن علي العسكري.
الفصل الحادي عشر: في ذكر ناصر الدين المحمدي محمد بن حسن المهدي الإمام القائم بأمر الله (1).
الباب الرابع: في ذكر فضائل قريش، وما للصحابة في العقبى من أرغد / عيش وما ورد من الأخبار في فضائل المهاجرين والأنصار (2).
الباب الخامس: في ذكر خلفاء بني أمية ومن وصف منهم بأخلاق سنية وهم على قسمين: القسم الأول بالشام والآخر بالمغرب.
الباب السادس: في ذكر خلفاء العباسيين سلالة ذوي التقى والنقى والدين وهم على قسمين: الأول بالعراق والثاني بمصر.
الباب السابع: في ذكر دولة العبيديين الذين تسموا بالفاطميين.
__________
(1) في (ب) و (ج): الخلف الصالح الإمام أبي القاسم محمد بن حسن العسكري بأمر الله.
(2) في (ب) و (ج): فضائل.(1/68)
الباب الثامن: في ذكر دولة بني أيوب ملوك مصر والشام القامعين لأهل الشرك والأزلام.
الباب التاسع: في ذكر دولة التركية بالديار المصرية.
الباب العاشر: في ذكر دولة الجراكسة بمصر والشام وسيرتهم الماضية في الأنام.
الباب الحادي عشر: في ذكر دولة بني طباطبا بالكوفة واليمن منبع الصفات الحميدة والمنن.
الباب الثاني عشر: في ذكر دولة الطبرستانية من الدوحة الحسنية (1).
الباب الثالث عشر: في ذكر دولة جرهم بالحجاز وما سلك كل منهم من المحاسن وحاز.
الباب الرابع عشر: في ذكر دولة الحسينية والدوحة الزكية الهاشمية بمكة المشرفة والمدينة المنورة.
الباب الخامس عشر: في ذكر دولة أقيال اليمن ولمع من أخبار الإسكندر وسيف بن ذي يزن.
الباب السادس عشر: في ذكر ملوك الحيرة وما سلكوه من السيرة.
الباب السابع عشر: في ذكر ملوك الشام من آل غسان ولمع من سيرهم فيما ملكوه من الزمان.
الباب الثامن عشر: في ذكر ملوك كندة ذوي سطوة ونجدة في أرض بكر بن وائل، حسن العشائر والقبائل.
الباب التاسع عشر: في ذكر ملوك اليمن من بني زياد القامعين حزب الإشراك والإلحاد.
الباب العشرون: في ذكر اليمن من / آل نجاح ذوي الأخلاق العظام السجاح.
الباب الحادي والعشرون: في ذكر ملوك اليمن من بني المهدي الناصرين للدين القويم المحمدي.
__________
(1) في (أ) و (ب): الحسنية والحسينية، وما أثبتناه هو الصواب.(1/69)
الباب الثاني والعشرون: في ذكر ملوك اليمن من أولاد الرسول وأبناء فاطمة الزهراء البتول.
الباب الثالث والعشرون: في ذكر ملوك الغرب من الطوائف ذوي المفاخر والمعارف.
الباب الرابع والعشرون: في ذكر ملوك الغرب من الملثمين أهل الفضل والهدى واليقين.
الباب الخامس والعشرون: في ذكر بني حفص ملوك تونس وإفريقية ولمع من وقائعهم مع نصارى اسبانية.
الباب السادس والعشرون: في ذكر دولة بني الليث الصفّار سلطان سجستان ذي القشاعم والفرسان والأيادي والإحسان.
الباب السابع والعشرون: في ذكر دولة آل سامان بما وراء النهر وخراسان.
الباب الثامن والعشرون: في ذكر دولة بني سبكتكين ذوي رأي صحيح وعقل رصين.
الباب التاسع والعشرون: في ذكر دولة بني طولون بالديار المصرية ولمع من أوصافهم السنية وخصائلهم البهية.
الباب الثلاثون: في ذكر دولة بني طغج إلا خشيدية بالديار المصرية والشامية ذي المفاخر الحسنة والشمائل المرضية ونبذة من أخبار آل حمدان لأنهم كانوا ابتهاجا في وجه الزمان.
الباب الحادي والثلاثون: في ذكر بني مرداويج الديلمي ملوك جرجان الممارسين معركة الأبطال والشجعان.
الباب الثاني والثلاثون: في ذكر دولة آل بويه ملوك العراق الموصوفين بالنباهة ومكارم الأخلاق.
الباب الثالث والثلاثون: في ذكر دولة بني سلجوق بما وراء النهر ولمع من حسن سيرهم في هذا الدهر.(1/70)
الباب الرابع والثلاثون: في ذكر دولة / الخورزمشاهية وحسن مآثرهم السنية وخصائلهم المرضية في الرعية.
الباب الخامس والثلاثون: في ذكر بني سلجوق بحلب والشام ولمع من وقائعهم فيما مضى من الأيام.
الباب السادس والثلاثون: في ذكر بني أرتق ملوك ماردين وديار بكر، وأخبار ما وقع لهم من الفتح والنصر.
الباب السابع والثلاثون: في ذكر دولة الأتابكية وأوصافهم الحسنة الزكية.
الباب الثامن والثلاثون: في ذكر بني طغتكين بالشام وحسن سيرتهم في الأنام.
الباب التاسع والثلاثون: في ذكر آل مرداس أهل الشدة والنجدة والباس.
الباب الأربعون: في ذكر آل براق ملوك كرمان أولي الأفكار الثاقبة والأذهان.
الباب الحادي والأربعون: في ذكر دولة ملوك غزنة من الغورية حسن الخصائل والهمم العلية.
الباب الثاني والأربعون: في ذكر جنكز خان وكيف فسد وخان.
الباب الثالث والأربعون: في ذكر تيمور وما فعله من مفاسد الأمور.
الباب الرابع والأربعون: في ذكر دولة الدانشمندية ملوك الروم القاتلين بسيفهم كل جبار ظلوم.
الباب الخامس والأربعون: في ذكر دولة آل قرمان القامعين لأهل الشرك والطغيان.
الباب السادس والأربعون: في ذكر دولة ملوك الروم من آل سلجوق الكافين لأهل الفجور والفسوق.
الباب السابع والأربعون: في ذكر دولة آل عثمان أبقاهم الله إلى آخر الدوران.
الباب الثامن والأربعون: في ذكر آق قوينلي ووقايع قره قوينلي.
الباب التاسع والأربعون: في ذكر دولة ذي الغادرية ذوي الهمم العلية المرضية.(1/71)
الباب الخمسون: في ذكر دولة الرمضانية ذوي المحاسن السنية.
الباب الحادي والخمسون: في ذكر دولة الدربندية ملوك شروان / الباسقة الأغصان المشرقة اللمعان.
الباب الثاني والخمسون: في ذكر ملوك العجم من آل حيدر الصوفي الأردبيلي الاسماعيلي.
الباب الثالث والخمسون: في ذكر دولة الأوزبكية والدوحة اليشبكية.
الباب الرابع والخمسون: في ذكر السلاطين المتقدمين والأساطين المقدمين وفيه عدة فصول:
الفصل الأول: في ذكر ملوك الفرس الأولى والثانية وسيرهم المتوافقة والمتباينة.
الفصل الثاني: في ذكر ملوك الهند وأنبائها وبدّ وممالكها وآرائها.
الفصل الثالث: في ذكر ملوك الصين في سالف الدهر والحين.
الفصل الرابع: في ذكر ملوك السريانيين وما وقع لهم قبل هذا الحين.
الفصل الخامس: في ذكر ملوك بابل وهم ملوك النبط الأوايل.
الفصل السادس: في ذكر ملوك اليونانيين ولمع من أخبارهم وما قالته الناس في بدو أنسابهم.
الفصل السابع: في ذكر ملوك الروم وهم بنو الأصفر وكل ملك تسمى قيصر.
الفصل الثامن: في ذكر ملوك القسطنطينية الكبرى والمدينة العظمى.
الفصل التاسع: في ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام وقبل استيلاء الأروام.
الفصل العاشر: في ذكر ملوك مصر قبل الطوفان وما لهم من الآثار والهرمان.(1/72)
الفصل الحادي عشر: في ذكر ملوك مصر بعد الطوفان وما وضعوه من الكنوز في الصحاري والكثبان.
الفصل الثاني عشر: في ذكر ملوك عاد ولمع من بناء شداد.
الفصل الثالث عشر: في ذكر ملوك بني إسرائيل بالشام ونواحيها ومدة ما ملكوا أقاصيها وأدانيها.
الباب الخامس والخمسون: في ذكر أخبار الأمم الماضية، والقرون الخالية، وغرائب العجائب، وعجائب الغرائب، ويشتمل على خمسة فصول:
الفصل الأول: في ذكر بعض الأمم في الأقاليم الدالة على حكمة الحكيم. /
الفصل الثاني: في ذكر ما في الدنيا من العجائب، وما أودع الله فيها من الغرائب.
الفصل الثالث: في ظرائف الهدايا ولطائف العطايا، والتحف السنية والألطاف البهية.
الفصل الرابع: في ذكر البحار والأنهار والعيون والآبار.
الفصل الخامس: في ذكر المدن والبلدان، وما فيها من عجائب الآثار والسكان.(1/73)
الباب الأول في ذكر الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين
ويشتمل على أربعين فصلا (1):
__________
(1) فى (أ) ويشتمل على عدة فصول.(1/74)
الفصل الأول في ذكر آدم أبي البشر عليه السلام (1)
اختلف العلماء لم سمي آدم على قولين: أحدهما: أنه خلق من أديم الأرض وهو وجهها. والثاني: أنه مشتق من الأدمة وهي سمرة اللون. وآدم اسم عربي وليس بعجمي. وذكر الثعلبي (2) أن التراب بلسان العبرية (3) آدم وكنيته أبو محمد إظهارا لشرف نبينا عليه السلام.
وكان أجمل البرية وكان أمرد، وإنما نبت اللحى لولده بعده، وكان كثير الشعر في بدنه، جعدا أدما (4). وأنزل عليه عشر صحائف في عشرين ورقة وهي حروف المعجم وتفسير الوعد والوعيد. وقد بين أهل كل زمان وصورهم وسيرتهم مع أنبيائهم وملوكهم وما يحدث في الأرض فأبصر آدم عليه السلام ذلك كله وعرف ما يكون في أولاده كذا في «تفسير الفصول» (5).
__________
(1) المعارف 7، طبقات ابن سعد 1/ 26، تاريخ الطبري 1/ 91، مروج الذهب 1/ 22، تهذيب ابن عساكر 2/ 341، الكامل في التاريخ 1/ 17، نهاية الأرب 13/ 10، البداية والنهاية 1/ 68، تاريخ الخميس 1/ 54، الأنس الجليل 1/ 17، عرائس المجالس 24ومعظم أخبار هذا الفصل من مرآة الزمان 1/ 185.
(2) لم أقع عليه في عرائس المجالس، ولعله من تفسير الثعلبي. وهو عن الثعلبي في مرآة الزمان 1/ 185.
والخبر في تفسير الخازن 1/ 4140، وتاريخ ابن عساكر 2/ 341، 345، وتاريخ الخميس 1/ 41.
(3) في (ب) و (ج): العربية، وما أثبتناه من (أ) متفق مع مرآة الزمان.
(4) تهذيب تاريخ ابن عساكر 2/ 345، تفسير ابن كثير 1/ 73.
(5) الخبر في محاضرة الأوائل 27نقلا عن تفسير الفصول، وهو في تاريخ الخميس 1/ 55وفيه:
(إحدى وعشرين ورقة).(1/76)
وذكر البوني في «بحر الوقوف في علم الحروف» (1): أن الحروف كانت تتشكل لآدم عليه السلام في قوالب نورانية (2) عند إرادة مسماها وهي خاصية اختصه الله بها (3).
وفي «أصول التواريخ»: كان آدم عليه السلام يخط بالبنان ويرسم الخطوط على الألبان ويطبخها ويكنزها لأولاده (4). وعلّمه الله تعالى الألسن كلها فكان يتكلم بألف لسان كذا نقله النسفي في «بحر العلوم» (5).
وكان من معجزاته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحجر والشجر يمشي معه، وكان يأخذ الحصى بيده ويتكلم معه، وكان يزرع الحب ويحصده في ذلك اليوم وكان يأخذ النار بيده فلم تحرقه. /
وفي «محاضرة الأوائل»: أن كل حرفة من الحرف الآدمية والصناعات البشرية التي تحتاج إليها ذريته كان أبونا آدم عليه السلام أخذها وكشفها من حضرة تعليم الأسماء الكلية التي علّمه الله تعالى حين علّمه الأسماء ألف حرفة (6).
وفي «مزهر اللغة» (7): أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية المحضة، فلما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية (8).
ولما أراد الله تعالى خلق آدم عليه السلام أوحى إلى الأرض أني أريد أن أخلق منك خلقا فمنهم من يطيعني ومنهم من يعصيني، فمن أطاعني أدخلت
__________
(1) في (ب) مجرى الوقوف في علم الحروف.
(2) في (ب) و (ج): قالب تورانية.
(3) اقتباس السكتوراي 26عن أحمد البوني.
(4) اقتباس السكتوراي 27عن أصول التاريخ.
(5) محاضرة الأوائل 128.
(6) محاضرة الأوائل 128.
(7) مزهر اللغة: وردت في (ب) و (ج): نزهة اللغة.
(8) محاضرة الأوائل 24نقلا عن مزهر اللغة، وانظر الخبر في تاريخ ابن عساكر 1/ 351.(1/77)
جنتي ومن عصاني أدخلته النار. فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة (1).
ثم أمر الله تعالى جبريل أن يأتيه بقبضة من الأرض، فأقسمت الأرض بالله تعالى أن لا يأخذ منها شيئا يكون نصيبا للنار فرجع جبريل عليه السلام ولم يأخذ منها شيئا، ثم أمر الله بذلك ميكائيل ثم إسرافيل فرجعا ولم يأخذا منها شيئا، ثم أمر الله تعالى بذلك عزرائيل فأخذ ولم يلتفت إلى قسمها وأتى بها إلى الملك الجبار فقال تعالى: أنت تصلح لقبض الأرواح وسماه ملك الموت (2). وكان إبليس [عليه اللعنة] (3) قد وطىء الأرض بقدميه فخلقت النفس مما مس قدم إبليس فصارت طباعه مأوى البشر (4)، ومن التربة التي لم تصل إليها قدم إبليس أصل الأنبياء والأولياء (5).
وفي «عوارف المعارف»: أن الله تعالى أمر جبريل فهبط في الملائكة المقربين وقبض قبضة من موضع قبره صلى الله عليه وسلم وكانت موضع نظر الله تعالى وهي يومئذ بيضاء نقية فعجنت بماء التسنيم ثم غمست في أنهار الجنة كلها وطيف بها السماوات والأرض والبحار فعرفت الملائكة حينئذ محمدا صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن تعرف آدم لقوله عليه السلام: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (6). ثم عجنها بطينة آدم عليه السلام ثم تركها أربعين سنة طينا لازبا يلصق بعضه بعضا ثم تركها أربعين سنة حتى صارت صلصالا كالفخار / إذا ضربته صوّت ليعلم أن أمره بالصنع والقدرة لا بالطبع والحيلة، فإن الطين اليابس لا ينقاد ولا يتأتى تصوره، ثم جعله جسدا وألقاه بين مكة والطائف أربعين سنة وقيل: ماية وعشرين سنة (7).
__________
(1) اقتباس الديار بكري في تاريخ الخميس 1/ 36عن النسفي في بحر العلوم.
(2) تاريخ الخميس 1/ 36.
(3) ما بين الحاصرتين سقط من (أ).
(4) في (ب) و (ج): فصارت طعامه مأوى البشر.
(5) تاريخ الخميس 1/ 37ومنه ضبط النص. وقد ذكر انه اقتبسه من وفاء الوفا.
(6) أخرجه الزرقاني في شرح المواهب اللدنية 1/ 3433.
(7) عوارف المعارف 4847، وهو اقتباس غير حرفي، والحديث ضمن الفقرة المقتبسة.(1/78)
وكان إبليس إذا مر به فزع وضربه برجله فيظهر له صوت وصلصلة فيزداد فزعه وكان يدخل في فيه ويخرج من دبره ويقول: لأمر ما خلق ولإن فضلت عليّ لأهكلتك (1).
وفي الخبر أمطر على جسد آدم عليه السلام الحزن أربعين سنة ثم أمطر عليه السرور سنة واحدة فلذلك كثرت الهموم في أولاده (2). وأول ما نفخ الله تعالى من روحه في دماغ آدم عليه السلام فاستدارت فيه مقدار ماية سنة ثم نزلت في عينيه ثم إلى خياشيمه فعطس فنزلت الروح إلى فيه ولسانه فأول كلمة جرت على لسانه: الحمد لله رب العالمين فأجابه الله تعالى: يرحمك ربك يا آدم ولذلك خلقتك. فكان كل عضو ينتهي إليه الروح من جسده يصير لحما وعصبا فلما انتهت إلى سرته نهض ليقوم وفخذاه وساقاه من طين فلم يمكنه ذلك فلما وصلت الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فهو أول حرص دخل جسد آدم [عليه السلام] (3)، فلما أتم الله تعالى خلقه ونفخ فيه الروح كان ذلك آخر ساعة من يوم الجمعة الثامن والعشرين من آذار والطالع الثور وكان دور السنبلة. وكان الطالع وقت خلق حواء السرطان، وكذا في «معالم التنزيل» وغيره.
ثم إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود له، فأول من سجد إسرافيل عليه السلام فأثابه الله تعالى بأن كتب القرآن في جبهته ثم الملائكة أجمعون إلا إبليس اللعين فإنه استكبر وأبى أن يسجد لآدم عليه السلام فلما عصى الله تعالى صيره شيطانا رجيما ولعنه وسماه إبليسا (4). والمبلس هو العاصي.
واختلفوا في السجود لآدم عليه السلام (5) على أقوال أحدها: إنه سجود
__________
(1) عرائس المجالس 23.
(2) عرائس المجالس 24، تفسير ابن كثير 1/ 70، وله قصص الأنبياء 38، ومحاضرة الأوائل 15.
(3) ليست في أ.
(4) عرائس المجالس 24، محاضرة الأوائل 1312.
(5) حول اختلافهم في سجود آدم عليه السلام انظر تفسير الخازن 1/ 41، تفسير النسوي 1/ 41، وابن كثير في قصص الأنبياء 1/ 18، وتفسير ابن كثير 1/ 71، وما ورد هنا متفق وما ورد في مرآة الزمان 1/ 194193.(1/79)
تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة وإنما كان انحناء وإيماء ووضع اليد على الصدر وقال بعضهم: إنما كان السجود لآدم حقيقة بأنه جعل آدم عليه السلام قبلة لهم وسجودهم لله تعالى كما جعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله رب العالمين. ومعنى سجودهم أنهم أقروا لآدم / أنه أخير وأكرم على الله تعالى منهم. وزين الله آدم بأنواع الزينة. كان يخرج من ثناياه نور كشعاع ونور نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم يلمع من جبينه كالقمر ليلة البدر، ثم حمله على سرير وحمل السرير على أكتاف الملائكة وقال لهم طوفوا به في السماوات فحملته الملائكة على أعناقهم وطافوا به في السماوات مقدار ماية سنة (1). ثم أسكنه الجنة فلم يكن من يوانسه ويجالسه فألقى الله عليه النوم فأخذ من إحدى أضلاعه الأيسر من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك فخلق منه حواء واسم ذلك الضلع المرأة وبه سميت (2).
فلما استيقظ آدم عليه السلام من نومه رآها عند رأسه فقربها إليه فسألته الملائكة: ما هذه يا آدم؟ فقال آدم عليه السلام: عظم من عظامي ولحم من لحمي (3)، قالوا: ولم خلقها [الله تعالى] (4)؟ قال: لتسكن إليّ وأسكن إليها (5).
وكان لون بدنها كله كاللؤلؤ بين الصدفين (6) مضيئا مثل شعاع الشمس، وكان في الصلابة كالظفر (7). فلما أكلا من الشجرة أوهن الله جلدهما وبقي من ذلك شيء قليل حتى صار في أطراف أصابعهما ليتذكرا أول حالهما، فأباح الله
__________
(1) نهاية الأرب 13/ 12.
(2) نهاية الأرب 13/ 13.
(3) سفر التكوين 2/ 23.
(4) ليست في (أ).
(5) تفسير ابن كثير 1/ 73، وهو قول وهب بن منبه.
(6) في (أ): كاللؤلؤتين الصافيتين وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(7) عرائس المجالس 27.(1/80)
تعالى لهما نعيم الجنة إلا شجرة البر، وكان حب الحنطة يومئذ ككلى البقر ألين من الزبد وأحلى من الشهد وأشد بياضا من اللبن. وكان طول شجرتها سبعة أذرع ولها خمسة أغصان، ففرك منها سنبلة فكانت خمس حبات (1).
ثم إن إبليس أراد دخول الجنة ليوسوس لآدم فمنعته الخزنة فأدخلته الحية بين نابيها. فلما دخل وسوس لآدم عليه السلام وزوجته وحسن عندهما الأكل من الشجرة المذكورة وقرر عندهما أنهما إن أكلا منها خلدا ولم يموتا. فأكلت حواء حبة وأطعمت آدم حبتين (2). فلما وصلت إلى فؤاده طار التاج عن رأسه واللباس عن أبدانهما وناداهما القصر أخرجا عني، فصارا يهرولان من شجرة إلى شجرة فيطلبان من ورقها ما يسترهما فأبى، حتى رحمتهما شجرة التين فأعطتهما من ورقها، فكافأها الله تعالى بأن ساوى ظاهرها وباطنها في المنفعة فأعطاها ثمرتين في عام (3) واحد. فلما أهبط يبس تلك الورق (4) وذرته الرياح فانتشر في بلاد الهند فمنه أصل جميع الطيب والبهار، وبكى عليهما جميع ما في الجنة إلا الذهب والفضة وشجرة العود / فناداهم الله تعالى: لما لا بكيتم على عبدي؟ قالوا: ربنا ما نبكي على عبد عصاك. فقال: لو كان عندكم رقة لبكيتم خوفا من مكري. فو عزّتي وجلالي لا ينتفع بكما إلا بدخولكما النار (5). وأنت يا شجرة العود لا يفوح لك رائحة إلا في النار موقودة.
قال أصحاب السير: فلما أكلا من الحنطة أوحى الله تعالى إلى آدم أن يا آدم لم أكلت من الشجرة المنهية (6)؟ فقال: يا رب أغراني إبليس وزين لي أكلها
__________
(1) ابن كثير، قصص الأنبياء 20، التفسير 1/ 73، تفسير الخازن 1/ 49.
وفي (ب): ولها خمس أغصان.
(2) عرائس المجالس 26، تفسير الخازن 1/ 43، نهاية الأرب 13/ 15.
(3) في (أ): فكافأه الله تعالى بأن سوى ظاهره وباطنه في المنفعة.
والخبر في عرائس المجالس 27، تاريخ الخميس 1/ 48.
(4) في (أ): الورقة.
(5) طبقات ابن سعد 1/ 35، وتفسير ابن كثير 1/ 74.
(6) سفر التكوين 3: 1911، وانظر مرآة الزمان 1/ 198.(1/81)
وحلف لي أنه قد نصح ولم أدر أن أحدا يحلف بك كاذبا. فأهبط الله تعالى آدم وحواء وإبليس والحيّة والطاووس إلى الأرض. وكان مهبطهما حين هبطا من جنة عدن فهبط آدم في جزيرة سرنديب على جبل الرهون، وهو جبل عال بأرض الهند يراه البحريون من مسافة بعيدة وفيه أثر قدمي آدم عليه السلام مغموسة في الجبل على الصخر، وكانت قدمه سبعين ذراعا، ويرى على هذا الجبل كل ليلة على هيئة البرق ولا بدله في كل يوم من مطر لغسل قدم آدم عليه السلام (1)، ويقال: إن الياقوت الأحمر والألماس موجودان فيه تحدره السيول إلى الحضيض، وأهبطت (2)
حواء بجدة.
وفي «تاريخ القدس»: لما نزل آدم على سرنديب سجد فوقع جبهته على صخرة بيت المقدس لأنه أرفع محل على وجه الأرض. وكان رجلاه على الجبل ورأسه في السماء يسمع تسبيح الملائكة فهابته الملائكة فجعلت قامته إلى ستين ذراعا وكل خطوة منه ثلاث مراحل ففي أي موضع وطىء بقدمه كان بلدا أو قرية، فهو أول من سعى في الأرض (3).
ولما أهبط آدم عليه السلام من الجنة أخرج معه صرة من الحنطة وقيل: كان معه حبة واحدة انفرقت ستماية حبة ومعه ثلاثون قضيبا من أشجار الجنة فكل قضيب منها مودوعة أصناف الثمار مما له قشر وذوات النوى ومنها لا قشر لها، وأنزل معه الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج وكان يضيء كما تضيء الشمس والقمر وبيده عصا موسى عليه السلام كانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع (4) فمكث في / الجنة نصف يوم من أيام الآخرة خمسماية عام وقيل: ساعة من ساعات الآخرة وهي مقدار ثمانين عاما من أعوام الدنيا (5). وكان أول شيء
__________
(1) في تفسير الخازن 1/ 43، وتفسير النسفي 1/ 43، والأنس الجليل 1/ 18، وتاريخ الخميس 1/ 53.
(2) في (أ): أهبط.
(3) تاريخ الخميس 1/ 54.
(4) تاريخ الخميس 1/ 54.
(5) طبقات ابن سعد 1/ 35، عرائس المجالس 31.(1/82)
أكلاه في الجنة العنب وآخر شيء أكلاه قبل الحنطة العنب، وكذلك عند وفاته فاستمر ماية سنة يبكي على خطيئته ولا يرفع رأسه حياء من الله تعالى فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: يا آدم، هذا بكاؤك لفراق الجنان فأين بكاؤك لفراق الرحمن؟ فبكى مائة سنة أخرى فجرى من إحدى عينيه مثل الفرات ومن الأخرى مثل دجلة (1). فلما تاب الله عليه أمره أن يتوجه إلى الحرم [أي مكة] (2) فتوجه فأهبط الله تعالى عليه خيمة من خيم الجنة فنصبها بمكان البيت الحرام ونصب الحجر الأسود. فلما أمره الله تعالى بالحج وانتهى إلى عرفات لقي بها حواء فتعارفا فمن ثم سمي عرفات (3). ثم اشتكى العري فأمره الله تعالى أن يذبح كبشا فذبحه وأخذ صوفه فغزلته حواء ونسجه آدم عليه السلام ولبساه، ثم أمره جبريل عليه السلام أن يتخذ آلات الحرث ففعل ذلك وجعل يحرث الأرض على الثورين، فبكى الثوران على ما فاتهما من راحات الجنة فقطرت دموعهما على الأرض فنبت منها الجاورس، وبالا، فنبت منه الحمص، وراثا، فنبت منه العدس (4).
وفي «التوراة» أن آدم عليه السلام جامع حواء قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فولدت له قابيل وتوأمته بتومين فلم تجد لهما ألما وطلقا ولم تر معهما دما لطهارة الجنة (5). ثم ولدت هابيل وتوأمته برقان بعد ذلك فوجدت ما تجده النساء. وكان قابيل حراثا وهابيل راعي الغنم. فلما كبرا زوج آدم عليه السلام أخت قابيل لهابيل وأخت هابيل لقابيل. وكانت أخت قابيل أجمل من أخت هابيل فلما فرّق آدم عليه السلام بينهما فكان من أمرهما ما ذكره الله تعالى في كتابه.
__________
(1) تاريخ الخميس 1/ 56، تفسير الخازن 1/ 44وفيه (وبكى مائتي سنة).
(2) ليست في (أ).
(3) طبقات ابن سعد 1/ 36، أخبار مكة 1/ 37، تفسير الخازن 1/ 44.
(4) طبقات ابن سعد 1/ 36، تاريخ الطبري 1/ 139، عرائس المجالس 33.
(5) لم أجد له أصلا في التوراة، سفر التكوين، وفي تاريخ دمشق 2/ 352عكس ذلك. والخبر في عرائس المجالس 37.(1/83)
واختلف في موضع قتله، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: بالهند على جبل نود، وقال بعضهم: عند عقبة جبل حراء بمكة المشرفة. وقال جعفر الصادق:
بالبصرة في موضع المسجد الأعظم وقيل: في دمشق بجبل قاسيون له قبر كبير على قلة جبل عال بوادي بردى بقرب قرية الحسينية (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لما قتل قابيل هابيل كان آدم عليه السلام بمكة رأى الأطعمة تغيرت واشتاك الشجر وحمضت بعض الفواكه / وفتر الماء واغبرّت الأرض فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث. فأتى الهند فإذا وجد ولده قد قتل فأنشأ يقول (2):
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه الصبيح
قيل: مكث آدم عليه السلام ماية سنة حزينا لا يضحك بسبب قتل ولده هابيل، فعوّضه الله تعالى بغلام سماه شيثا من أجل أنه خلف من عند الله مكان هابيل فولد لآدم عليه السلام أربعون ولدا في عشرين بطنا كذا في «العرائس» (3).
وفي «شفاء الصدور»: أن الله تعالى عرض على آدم عليه السلام كل شيء مما خلق قال له: اختر من خلقي ما شئت فاختار الفرس فقيل له: اخترت عزك وعز أولادك خالدا ما خلدوا، وباقيا ما بقوا (4).
ولما احتضر كانت مدة مرضه أحد عشر يوما وتولى غسله شيث عليه السلام
__________
(1) طبقات ابن سعد 1/ 36 (مع بعض الاختلاف)، تاريخ الطبري 1/ 141، عرائس المجالس 36، تفسير الخازن 1/ 448، تفسير ابن كثير 2/ 38.
(2) تاريخ الطبري 1/ 145، عرائس المجالس 39، أوائل السيوطي 122، البداية والنهاية 1/ 94.
ورواية البيت الثاني في (ب) تغير كل ذي طعم ولون، وفيها أيضا بيت ثالث:
وقتل قابيل هابيل أخاه ... فوا أسفا على الوجه المليح
(3) عرائس المجالس 40، تفسير ابن كثير 2/ 43.
(4) انظر أوائل السكتوراي 45.(1/84)
وصلّى عليه، وقيل: صلّى عليه جبريل وكبّر عليه ثلاثين تكبيرة وقيل: أربعا وتسعين تكبيرة والملائكة خلف جبريل وبنوه خلف الملائكة ودفنوه في جبل أبي قبيس في مكان يقال له غار الكنز (1)، فلم يزل آدم (2) عليه السلام في ذلك الغار حتى كان زمن الغرق، فاستخرجه نوح عليه السلام وحمله في تابوت معه في السفينة فلما خرج رده إلى مكانه وقيل: ذهب به إلى بيت المقدس، ويؤيد ذلك ما ذكره في «اتحاف الأخصا» أن قبر آدم عليه السلام في بيت المقدس رأسه عند مسجد إبراهيم عليه السلام بحبرون ورجلاه عند الصخرة الشريفة (3) وبينهما ثمانية عشر ميلا فإذا كان يوم القيامة أقامه الله تعالى على رجليه ثم يحشر ذريته إليه ويقول الله تعالى: يا آدم إليك حشرت (4) ذريتك لكرامتك علي. وقيل: دفن في مسجد الخيف بمنى. وقيل: دفن في مشارق الفردوس عند قرية هي أول قرية كانت في الأرض وكسفت عليه الشمس. وكانت وفاته يوم الجمعة لست خلون من نيسان في اليوم والساعة التي كان فيها خلقه. وعاشت حواء بعده سنة واحدة ثم ماتت ودفنت مع زوجها وقيل: دفنت بجدة، وعمرها تسعماية سنة وسبع وتسعون سنة.
ولم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين الفا وقيل ألفي ألف.
وفي رواية التوراة: أن آدم عليه السلام عاش تسعماية سنة وثلاثين سنة (5) وقال وهب: عاش آدم عليه السلام ألف سنة [والله سبحانه وتعالى أعلم أي ذلك كان] (6).
__________
(1) مروج الذهب 1/ 27، عرائس المجالس: 41حيث الخبر بتمامه، تاريخ الطبري 1/ 161.
وفي (ب) و (ج): الغار الكبير، وعلى هامش (ج): الكنز. وضبط اسم الغار من تاريخ الطبري ومعجم البلدان (كنز).
(2) في (ب): لم يزل.
(3) الخبر ذكره صاحب الأنس الجليل: اتحاف الأخصا: 2/ 76، وليس فيها بحبرون.
(4) في (أ): حرثت.
(5) التوراة 5/ 5، والخبر أورده الطبري.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).(1/85)
الفصل الثاني في ذكر شيث عليه السلام
كان أجمل ولد آدم عليه السلام (1) وأفضلهم وأشبههم به وأحبهم إليه.
وكان وصيّ أبيه (2) آدم عليهما السلام وولي عهده، وإليه انتهت أنساب الناس وهو اسم عجمي.
حكي أن حواء حملت بشيث حتى نبتت أسنانه وكانت تنظر إلى وجهه من صفائه في بطنها، ولما وضعته أخذته الملائكة / فمكث عندهم أربعين يوما فعلموه المهن (3) ثم ردّوه إليها.
وهو أول من تكلم بالعبرانية، وأول من رأى اللحية، وأول من لبس القلنسوة والنعلين. وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة (4)، وكانت هناك خيمة لآدم عليه السلام، وأنزل الله عليه خمسين صحيفة.
وكانت ولادته لمضي مايتين وثلاثين سنة من عمر آدم عليه السلام وعاش تسعماية سنة واثنتي عشرة سنة (5).
واختلف في مكان قبره قيل: إنه دفن في قبر أبيه آدم عليه السلام وقيل:
__________
(1) طبقات ابن سعد 1/ 36، المعارف 10، تاريخ الطبري 1/ 152، تاريخ ابن الأثير 1/ 26، البداية والنهاية 1/ 99، عرائس المجالس 41، قصص الأنبياء لابن كثير 56، نهاية الأرب 13/ 35، الأنس الجليل 1/ 19، ومرآة الزمان 1/ 223.
(2) في (أ): وهو وصي آدم، والخبر في محاضرة الأوائل 15.
(3) في (ب) و (ج): وعلموه ألسنتهم.
والخبر في مرآة الزمان 1/ 223.
(4) تاريخ الطبري 1/ 162.
(5) في (أ): واثنتي عشر. وفي (ب): واثني عشر.(1/86)
دفن بقرية سرعين من أعمال بعلبك (1)، وله قبر هناك يزار ويتبرك به وقد زرته.
وولد لشيث (2) أنوش، وهو أول من علم الكتاب وحساب الشهور والسنين، وأحسن عبادة الله تعالى. وفي زمانه قتل قابيل، رماه الملك الأعجمي بحجر فشدخ (3) رأسه فمات.
وأنوش أول من غرس النخلة ونطق بالحكمة (4). عاش تسعماية سنة وخمسا وستين سنة.
وولد لأنوش قينان في أيام جده، وكان رجلا تقيا صالحا جمع أولاد أبيه وتهيأ لمحاربة الجن لتمردهم عليه وعلى أولاد أبيه، واستمر فيهم (5) القتل حتى نفاهم عن نفسه وعن توابعه عاش سبعماية سنة وعشرين سنة (6) وولد له مهلاييل قام في قومه بطاعة الله واتبع وصية آدم عليه السلام. وفي زمانه نزل القبطي وبعض أولاد آدم عليه السلام الجبل المقدس واشتغلوا باللهو ومخالطة بنات قابيل، ومن بعده تفرقت الكلمة وتحزبت الناس أحزابا.
وفي زمانه قسم الدنيا خمس (7) فرق وخصّ ولدي شيث عليه السلام بأكثرها خيرا.
عاش تسعماية سنة وخمس وستين سنة.
وولد لمهلاييل اليارد، وكان في أيامه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر / وكانوا قوما صالحين فماتوا في شهر واحد فحزن أقاربهم عليهم فقال رجل
__________
(1) في لبنان قرية من أعمال بعلبك قرب سرعين تسمى (النبي شيث).
(2) في (ب): شيت.
(3) في (ب): فصدخ.
(4) الوسائل إلى معرفة الأوائل 92.
(5) في (أ): واسحى. وفي (ب): واحتمى.
(6) وعشرين سنة ساقطة من (ب): والمصادر باختلافها لا تتفق على عمر أنوش
(7) في (ب): خمسه فرق.(1/87)
من بني قابيل: يا قوم هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أني لا أقدر أن أجعل فيهم روحا؟ (1) قالوا: نعم. فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم من خشب الساج ثم نصبها لهم، فكان الرجل يأتي أخاه وعمه فيعظمه ويسعى حوله، حتى ذهب ذلك القرن الأول. ثم جاء من بعدهم القرن الثاني فعظموهم أعظم من تعظيم القرن الأول ثم جاء القرن الثالث فقالوا: ما عظم [أولونا] هؤلاء إلا [وهم] (2) يرجون شفاعتهم عند الله تعالى فعبدوهم. فهذا سبب عبادة الأصنام. وولد لليارد أخنوخ وهو إدريس عليه السلام.
__________
(1) في (ب): لا أقدر أجعل.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ). وفي (ب): ما عظم هؤلاء إلّا ليرجوا شفاعتهم.(1/88)
الفصل الثالث في ذكر إدريس عليه السلام
كان رجلا طويلا (1)، ضخم البطن، عظيم الصدر، قليل شعر الجسد، كثير شعر الرأس (2)، وكانت إحدى أذنيه أعظم من الأخرى. وكانت في جسده نكتة بيضاء، من غير برص. وكان دقيق الصوت قريب الخطى إذا مشى، كذا ذكره ابن قتيبة في «الأنساب» (3). وكان نبيا وملكا عظيما. ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة أي أسد الأسود وهو عطارد.
وفي «المختصر في أخبار البشر»: نبأ الله تعالى إدريس عليه السلام وكشف له الأسرار السماوية (4). وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة ونزل عليه جبريل أربع مرات، كذا في «الانس الجليل» (5).
ومن معجزاته: أنه كان يرى الملائكة في الهواء حين يظهرون، وكان كلما يدعو السحاب أجابه بلغته وسمعه الناس يتكلم مع السحاب.
وفي «عجائب الدنيا» للمسعودي (6) أن إدريس عليه السلام صبّ الرصاص ذهبا بصاصا، وهو الذي يسمى المثلث لأنه نبي وملك وحكيم، ودفع إليه كتاب سر
__________
(1) المعارف 10، طبقات ابن سعد 1/ 40، تاريخ الطبري 1/ 170، مروج الذهب 1/ 29، عرائس المجالس 42، قصص ابن كثير 1/ 58، البداية والنهاية 1/ 99، نهاية الأرب 13/ 38، تاريخ الخميس 1/ 65، المستدرك 2/ 548، الانس الجليل 1/ 419، ومرآة الزمان 1/ 226.
(2) في (ب): قليل الشعر في الجسد.
(3) وذكره أيضا في المعارف 10.
(4) المختصر في أخبار البشر 1/ 9.
(5) الانس الجليل 1/ 19، وفيه: دون ثلاثين صحيفة.
(6) هذا الكتاب من المفقود من مؤلفات المسعودي.(1/89)
الملكوت الذي علمه زرائيل الملك لآدم عليه السلام وكانوا يتوارثونه مختوما لا ينظرون فيه، ولم يفتحه بعد شيث غير إدريس عليهما السلام. وإنما سمي إدريس لكثرة ما كان يدرس من كتب الإسلام، وهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم وعلم الرياضة والمنطق والطبيعي والإلهي وأسرار الفلك وهو أول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبسها، وكان قبله يلبسون الجلود (1).
وهو أول من جاهد في سبيل الله ونهى أرباب الفساد من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم وشيث عليهما السلام (2)، فأمره الله تعالى أن يقاتلهم ويسبي نساءهم وأولادهم، فأطاعه قليل وعصاه كثير، وكان عدد من أطاعه ألف إنسان.
وهو الذي رسم بعمارة المدن وجمع طلاب العلم وقرر لهم قواعد السياسة وعمارة المدن (3) فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها فكان عدة المدن التي (4) بنيت في زمانه ماية وثمانين مدينة.
وذكر بعض المحققين في «شرح الفصوص»: أن آدم عليه السلام لما مرض مرض الموت تمنى من ثمار الجنة، فأتى جبريل عليله السلام بطبق من ثمار الجنة على رأس حورية فأكل منه وسأل الله تعالى أن يزوج تلك الحورية من شيث عليه السلام فأجابه الله تعالى فولدت منه إدريس عليه السلام. ولهذا السر الجلي كان له تجرد ملكي وسياحة فلكي، عرج إلى الأفلاك وشاهد أطوارها وأدوارها، وصنف الكتب الكثيرة مما جاء جبريل به عليه السلام وأخذها فسقط من يده في البحر أكثرها لحكمة من الله سبحانه مما فيه إظهار أسرار الربوبية، فاقتضت الحكمة الإلهية إخفاءها من العامة.
__________
(1) محاضرة الأوائل 1918ومرآة الزمان 1/ 226.
(2) المعارف 10وعنه اقتباس كامل، وانظر عرائس المجالس 42، أوائل السيوطي 79، محاضرة الأوائل 27، ومرآة الزمان.
(3) في (ب): وقرّر لهم قواعد السياسة بالمدينة.
(4) في (أ) و (ب): الذي.(1/90)
وذكر أنه لم ينم ستة عشر سنة ولا يأكل حتى بقي عقلا مجردا وروحانية في فلك الشمس. وهو أول من خالط الملائكة والأرواح المجردة وحصل له معراج انسلاخ البشرية.
وذكر الشيخ محيي الدين العربي قدّس الله سره في «الفتوحات المكية»، وفي «قوت القلوب»: أن إدريس هو إلياس، وأنه ينزل كما ينزل عيسى بن مريم عليه السلام (1) تشريفا لشرف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (2) وله جولان في الأرض وقطبية برية مع خلافة محمدية كما للخضر قطبية بحرية وبينهما اجتماع برا وبحرا عند سد ياجوج وماجوج / وفي مكة وعرفات.
وفي «مرآة الزمان»: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أربعة من الأنبياء أحياء فيهم أرواحهم وهم: إدريس وعيسى في السماء، وإلياس والخضر في الأرض، وكلهم يموتون إلا إدريس فإنه إذا مات الخلق أصابته دهشة فيبقى في عداد الموتى وهو حي (3) وقيل: هو الذي يجيب الله تعالى إذا مات الخلق وقال: {(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)}؟ فيقول إدريس: {(لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ)} (4).
قال وهب: كان يرفع لإدريس عليه السلام كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه حتى اشتاق إليه ملك الموت فاستأذن الله عز وجل في زيارته فأذن له وطلب أن يذيقه الموت فأذاقه بإذن الله تعالى ثم أحياه الله تعالى، ثم سأله أن يورده النار فأورده إياها (5) ثم سأله أن يدخله الجنة، فلما دخل الجنة أبى أن يخرج منها محتجا بأن الله تعالى قال: {(كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ)} (6) وقد ذقته وقال:
__________
(1) في (أ) و (ج): عليه السلام.
(2) ثم سأله أن يورده النار فأورده إياها (تشريفا لشرف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) ليست في (ب).
(3) مرآة الزمان 1/ 228.
(4) سورة غافر، الاية: 16.
(5) ساقطة من (ب): والخبر في عرائس الثعلبي.
(6) آل عمران 185الأنبياء: 35العنكبوت: 57.(1/91)
{(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا)} (1) وقد وردتها وقال: {(وَمََا هُمْ مِنْهََا بِمُخْرَجِينَ)} (2).
فلست أخرج. فبقي بها بعناية الله تعالى فهو حي هناك، فتارة يعبد الله تعالى في السماء الرابعة وتارة يتنعم في الجنة. قيل: أسكنه قلب الأفلاك وهو فلك الشمس وعلم دور الأفلاك وطبائع الكواكب وخواصها.
ولما رفعه الله تعالى كان عمره اثنتين وثمانين (3) سنة وقيل: رفع وهو ابن ثلاثماية وخمس وستين سنة (4) وعاش أبوه بعد ارتفاعه خمسماية سنة وخمسا وثلاثين سنة. فلما رفعه الله عز وجل (5) اختلفوا بعده وأحدثوا الأحداث إلى زمن نوح عليه السلام.
وولد لإدريس متوشلخ على ثلاثمائة سنة من عمره، استخلفه إدريس بأمر الله تعالى قبل رفعه / ذكر أنه أول من ركب الخيل لأنه اقتفى رسم أبيه في الجهاد.
وعاش تسعماية سنة واثنتين وثمانين سنة ومات في أيلول في حياة آدم عليه السلام.
وولد لمتوشلخ لمك، وفي زمانه كثرت الجبابرة من ولد قابيل وعاش لمك سبعماية سنة، وولد له غلام وعمره إذ ذاك ماية وسبع وثمانون سنة فسماه نوحا [والله أعلم] (6).
__________
(1) سورة مريم، الآية: 71.
(2) سورة الحجر، الآية: 48.
(3) في النسخات الثلاث: اثنين.
(4) في (ب): ثلاثماية وخمسين سنة.
(5) في (ب): فلما رفعه الله تعالى.
(6) ما بين الحاصرتين من (ب) وانظر الخبر عن متوشلخ في مرآة الزمان 1/ 229.(1/92)
الفصل الرابع في ذكر نوح عليه السلام
كان رجلا (1) دقيق الوجه في رأسه طول، عظيم العينين، غليظ الفصوص، دقيق الساقين والساعدين، كثير لحم الفخذين، ضخم السرة، طويل اللحية، طويلا جسيما.
وهو أول نبي نبأه الله تعالى بعد إدريس عليه السلام، وأول نذير من الشرك، وأول أولي العزم.
وهو أول نبي نسخت شريعته شريعة آدم عليه السلام. وكان إدريس على شريعة آدم عليه السلام.
وهو أول نبي عذبت أمته بدعوته، وقد كان رأى أن نارا خرجت من فيه فأحرقت جميع الخلق وهو أطول الأنبياء عمرا، وشيخ المرسلين.
وجعلت معجزاته في نفسه لأنه عاش ألف سنة ولم ينقص له شيء من قوته (2).
ومن معجزاته: أن قومه طلبوا منه المعجزة بأن يرتحل جبل من جبال فارس فيصير في عرفات فدعا الله تعالى فأجابه فارتحل الجبل وصار في عرفات، وأنه لما خرج من السفينة لم يكن عنده ولا (3) عند قومه شيء من الطعام، فأخذ الرمل
__________
(1) المعارف 10، والبداية والنهاية 1/ 100، مروج الذهب 1/ 29، تاريخ ابن الأثير 1/ 36، تاريخ ابن كثير 1/ 100، قصص الثعلبي 47، قصص ابن كثير 1/ 60، الأنس الجليل 1/ 19، نهاية الأرب 13/ 42، تاريخ الخميس 1/ 68، ومرآة الزمان 1/ 236.
(2) في (ب): (وجعلت معجزاته) بسقوط الباقي.
(3) في (ب): لما خرج من السفينة لم يكن عند قومه بسقوط (عنده ولا).(1/93)
وأكله وأطعم من كان معه فصار (1) الرمل في أفواههم أحلى من العسل، وغرس شجرة واحدة فأثمرت في الحال فأكلوا منها.
ولم يبالغ أحد (2) من المرسلين في الدعوة مثل ما بالغ ولم يشب له شعرة، ولم يصبر نبي على أذى قومه مثل ما صبر، وهو على طول عمره كان يضرب ثم يلف في لبد، ثم يلقى في بيته، فيرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم. وكان في غضبه وانتهاره شدة. وكان نجارا.
فبعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقيل: بعث (3) بعد أربعمائة سنة.
وكان الكفر قد عم فلبث فيهم ألف (4) سنة إلا خمسين عاما [فمات] (5)
ثلاثة قرون من قومه، وهو يدعوهم فلا يجيبونه، ولا يتبعه منهم إلا قليل. فلما آيس من إيمان قومه (6) وأخبره الله تعالى انه لم يبق في أصلاب الرجال وأرحام النساء مؤمن فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله تعالى (7) دعاه فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك فاشتغل بغرس الأشجار وعمل السفينة أربعين سنة فأعقم الله أرحام النساء فلم يولدهم ولد فأوحى (8) / الله تعالى إليه أن عجل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني (9) فاستأجر نجارين يساعدونه ويعملون (10) معه، وأولاده سام وحام ويافث ينحتون السفينة معه، فجعل طولها ستماية ذراع وعرضها
__________
(1) في (أ): فصارت.
(2) في (ب): أحدا.
(3) في (ب): وقيل: ابن اربعماية سنة.
(4) في (ب): فلبث ألف سنة إلّا خمسين عاما.
(5) الاستدراك من (ج)، وفي (ب): ثلاث قرون.
(6) في (ب): من ايمانهم.
(7) في (ب): فاستجاب الله.
(8) في (ب): وأوحى.
(9) في (ب): أن اسرع بعمل السفينة، بسقوط بقية الجملة.
(10) في (أ) و (ج): ليساعدونه ويعملون معه. وفي (ب): ليساعدوه ويعملون معه.(1/94)
ثلاثماية وثلاثين (1) ذراعا، والذراع إلى المنكب، عن قول ابن عباس رضي الله عنهما. وفجر الله له عين القار حيث نجر السفينة، فغلى غليانا حتى طلاها به، وكان فراغه من عمل السفينة يوم الجمعة لتسع عشرة خلت من آذار. وأوحى [الله تعالى] (2) إليه أن يحمل معه زاد سنة في السفينة وأن العلامة في نزول العذاب إذا فار التنور، وكان التنور لحواء تخبز فيه، قيل: إنه كان من الحديد، وقيل: إنه كان مبنيا بالحجارة.
واختلفوا في مكان التنور. قال مقاتل: التنور بالشام بموضع يقال له عين وردة، وقال ابن عباس: كان بالهند. وقيل: كان بمسجد الكوفة (3).
فلما أذن الله تعالى في هلاكهم أتت ابنة نوح التنور لتسجره للخبز، وكانت تخبز للذين يعملون السفينة، وكانوا سبعة نفر، فظهر لها الماء من أسفل التنور، فبادرت إلى أبيها وأخبرته بذلك فدخلوا السفينة وأقبل جبريل عليه السلام يحشر من البهائم من كل جنس زوجين حتى لا ينقطع نسلها فيدخلهما السفينة، وكان أول من حمل في السفينة الذرة، وآخر من حمل الحمار ووكل الله [تعالى] (4)
بالسفينة ملائكة يحفظونها لئلا تنقلب، فجعل الماء ينزل من السماء كأفواه القرب بغير سحاب، وفجر الله تعالى ينابيع الأرض، فأتلف كل شيء على وجه الأرض، وذلك لثلاث عشرة خلت من آب، وكان ذلك عاشر رجب، واستقر إلى عاشر محرم. ومضى ستماية سنة من عمر نوح عليه السلام ولتتمة ألفي سنة ومائتي سنة وست وخمسين سنة من هبوط آدم عليه السلام. واستمرت السفينة في الماء على (5) ما قيل ماية وخمسين يوما، وقد غرق الله جميع الأرض وهلك كل شيء فيه الروح من أصل ماء أخرجه / من مكان الحرق وهو التنور وكان سببا للغرق،
__________
(1) في (ب): ثلاثماية ذراع وثلاثين.
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).
(3) في (ب): بالكوفة.
(4) ما بين الحاصرتين من (ب).
(5) في (أ): فيما قيل.(1/95)
وقال عنوخ بن عنق لنوح: احملني، فأبى أن يحمله وما بلغ الماء بيته مع أنه أطبق الماء على الأرض (1). وارتفع (2) الماء على أعلى الجبال وكان الماء سخنا، فذاب قار السفينة لسخن الماء فعلم الله تعالى نوحا عليه السلام إسما من أسمائه فلما دعا به جمد القار على السفينة. والاسم الذي كان يدعو به أهيا شراهيا. ثم علم الله تبارك وتعالى هذين الإسمين لإبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. فلما تكلم به صارت النار بردا وسلاما. وهما اسمان جليلان عظيمان من اسماء الله تعالى في التوراة وكانت الدنيا مظلمة سوداء ولأمواجه دوي كدوي الرعد فلم يعرف القوم الليل من النهار حتى أنزل الله تعالى (3) على نوح عليه السلام خرزتين بيضاء وسوداء، فكانت البيضاء بالنهار تضيء (4) وتغلب السوداء، والسوداء تظلم وتغلب بالليل على البيضاء.
وكان نوح عليه السلام أول من قرر الساعات لمواقيت الصلوات فجعل النهار اثنتي عشرة (5) ساعة والليل مثل ذلك (6). ثم أمر الله تعالى الأرض أن تبلع الماء، والسماء أن تقلع، فأقبلت السفينة آخذة نحو الموصل فلما انتهى إلى أرض باقردى وبازبدى (7)، واستقرت السفينة في عشر خلون من محرم على الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور (8) وابتنى قرية بالجزيرة تسمى سوق ثمانين، فإنهم كانوا في السفينة ثمانين رجلا (9). وكان مكثه في السفينة سنة هلالية تنقص
__________
(1) الجملة ساقطة من (ج)، وآخر الجملة في (ب): مع أنه مع الماء أطبق على الأرض.
(2) في (ج): فارتفع.
(3) ما بين الحاصرتين من (ب).
(4) في (ب): وكانت أيضا تضيء بالنهار.
(5) في جميع الأصول: اثني عشر.
(6) في (ب): مثله.
(7) وفي (ب): أرض بارقبرذي، وفي (ج): قبردي. وفي معجم البلدان 1/ 321، 327:
بازبدى، باقردى. وإليه استندنا في ضبط رسم المكانين، وهما قريتان على دجلة، وبالقرب منهما جبل الجودي وقرية ثمانين.
(8) في (أ): شهرا. وفي (ج): مشتهرا. وما أثبتناه من (ج).
(9) في (ب): كانوا ثمانين رجلا في السفينة.(1/96)
ثلاثة عشر يوما وكان مقامه بالكوفة ومن مسجده فار التنور على ما قيل وفيه نجرت السفينة وهو مسجده الذي بعث فيه ومصلاه.
وذكر أن بعض الأرض لم تسرع إلى بلع الماء ومنها ما أسرع (1) إلى بلعه عندما أمرت، فمن أطاع كان ماؤه عذبا إذا احتفر ومن تأخر عن القبول بسرعة عاقبها الله تعالى بماء مالح وملاحات رمال (2)، فمن ذلك البحار وهو / بقية ماء غضب [الله عليه] (3) أهلك به أمم.
وفي التوراة أن نوحا [عليه السلام] (4) عاش بعد الطوفان ثلاثماية وخمسين سنة فكان عمره تسعماية وخمسين سنة وقال وهب: كان عمر نوح عليه السلام (5) ألف سنة لأنه بعث إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، ولبث يدعوهم إلى أن مات تسعماية وخمسين سنة.
وقال شداد: إن عمر نوح عليه السلام (6) ألف وأربعماية وثمانين سنة فقيل له: لو اتخذت لك بيتا من طين (7) تأوي إليه! فقال: أنا ميت غدا وتاركه، ولم يزل في بيت شعر إلى أن فارق الدنيا.
واختلف في مكان قبره، فقيل: بمسجد الكوفة (8)، وقيل بجبل الأحمر، وقيل بذيل جبل لبنان بمدينة الكرك، وهو الأصح، وله هناك قبر يزار ويتبرك به إلى يومنا هذا.
وقد أجمع العلماء على أن الله تبارك وتعالى يجعل جميع خلقه بعد الطوفان
__________
(1) في (ب): اسرعت.
(2) في (ج): أن جعل ماءها مالحا.
(3) ما بين الحاصرتين من (ب).
(4) ما بين الحاصرتين من (ب).
(5) في (ب): وقيل: كان عمره وانظر مختلف الآراء في مرآة الزمان 1/ 238.
(6) في (ب): وقيل: إن عمره.
(7) في (ب): من الطين.
(8) في (ب): بالكوفة والخبر في مرآة الزمان 1/ 240.(1/97)
من صلب نوح عليه السلام فعقم جميع من نجا معه في السفينة إلا بنوه الثلاثة:
سام وحام ويافث، فجميع بني آدم اليوم في مجموع أقطار الأرض تناسلوا من ذرية نوح وأبنائه الثلاثة، وكان مولدهم بعد مضيّ خمسماية سنة من عمره.
سام بن نوح عليه السلام.
سكن بعد الطوفان وسط الأرض، الحرم وما حوله، واليمن إلى حضرموت، وعمان إلى البحرين. فمن ولده إرم (1) وأرفخشد. فمن ولد أرفخشد قحطان بن عاد وابنه يعرب بن قحطان، فهو أول من تكلم بالعربية، ونزل أرض اليمن، فهو أبو اليمن (2) كلهم، وهو أول من حياه ولده بتحية الملك:
«أنعم صباحا، وأبيت اللعن».
وفي زمانه فرق الله الألسنة، فجعل في ولد سام تسعة عشر (3) لسانا، وفي ولد حام سبعة عشر لسانا، وفي ولد يافث ستة وثلاثين لسانا.
وكانت وفاة سام يوم الجمعة، وكان عمره ستماية سنة.
وحام بن نوح عليه السلام.
كان رجلا أبيض / حسن الوجه والصورة (4)، فغيّر الله لونه وألوان ذريته من أجل دعوة أبيه، فنزل على ساحل البحر لأنه دعا عليه بتسويد الوجه وسواد ذريته، وأن يكون أولاده عبيدا لأولاد سام ويافث، فكثرهم الله تعالى وأنماهم وهم السودان.
وعاش خمسماية وستين سنة.
__________
(1) في (ب): فمن ولده أرفخشذ وقحطان.
(2) أوائل العسكري 2/ 185، محاضرة الأوائل 24، المعارف 13.
(3) في (ب): تسع.
(4) في (ب): حسن الوجه بهي الصورة.(1/98)
يافث بن نوح عليه السلام (1).
وأما يافث فمن ولده الصقالبة وبرجان والأشبان وكانت منازلهم بأرض الروم، ومن ولده الترك والخزر واليونان ويأجوج ومأجوج، فكانوا يعبدون الأصنام، وبعضهم يعبدون الشمس والقمر والكواكب.
وقام بعده ولده أرفخشد، وكان عمره إلى أن قبضه الله تعالى أربعمائة وخمسا (2) وستين سنة.
ولما قبض أرفخشد قام بعده ولده شالخ بن أرفخشد، وكان عمره أربعماية وثلاثين سنة (3).
فلما قبض شالخ قام بعده ولده عابر، وهو هود عليه السلام.
__________
(1) هذا العنوان في (أ) فقط.
(2) في (ب): وخمس.
(3) في (ب): أربعماية سنة وثلاثين سنة.(1/99)
الفصل الخامس في ذكر هود عليه السلام
كان (1) أشبه ولد آدم بآدم عليه السلام. وكان رجلا آدم [اللون] (2)، كثير الشعر حسن الوجه. وكان تاجرا.
وكان من صميم قومه وأشرافهم. بعثه الله تعالى (3) إلى حي من [ولد] (4)
إرم بن سام، وهم عاد الأولى، فكذبوه ولم يؤمن منهم إلا القليل.
ومن معجزاته أن قومه سألوه أن يجعل الله تعالى أصواف شياههم وأوبارها (5) إبريسما، فدعا الله تعالى [فأجابه] (6) فصارت إبريسما.
وكان مكان مرعى قومه حجارة لم ينبت فيه شيء فدعا الله تعالى فأجابه (7)
فصارت الأحجار ترابا. وكانت مساكنهم الشحر بين عمان وحضرموت (8)
والأحقاف من أرض اليمن، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة. وكان ملكهم عادا يعبد القمر فعاش ألفا ومائتي سنة ثم مات، فانتقل الملك إلى أكبر ولده، وهو شديد،
__________
(1) المعارف 14، تاريخ الطبري 1/ 211، عرائس المجالس 53، قصص ابن كثير 1/ 89، الكامل في التاريخ 1/ 48، نهاية الأرب 13/ 51، البداية والنهاية 1/ 120، الأنس الجليل 1/ 22، تاريخ الخميس 1/ 76، ومرآة الزمان 8/ 253.
(2) ساقطة من (أ) و (ب).
(3) ليست في (أ) و (ج).
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ب) و (ج): وأوبارهم.
(6) استدراك من (ب).
(7) الجملة ساقطة من (ب). وفي (أ): لم تنبت فيها شيئا.
(8) في (ب): حضرموت وعمان.(1/100)
فأقام خمسماية وثمانين سنة ثم مات، فانتقل الملك إلى أخيه شداد بن عاد كما سيأتي، وهو الذي بنى إرم ذات العماد. فأحب هود عليه السلام أن يتخذ الحجة على شداد وجنوده بالرسالة، فأتاه ودعاه إلى الله تعالى، فلم يقبل، وأصر على الكفر، وذلك حين بلغ ملكه سبعماية عام. وكان له حلم، فلم يعجل على هود بمكروه /. وكان الله تعالى قد أعطاهم من القامة ما لم يعطها غيرهم. كان طول الرجل منهم سبعين ذراعا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانين ذراعا.
وقال الكلبي: أطولهم أربعماية ذراع (1) وأقصرهم ستون ذراعا.
وكان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة، وكان عين الرجل يوكر فيها السباع، وكذلك مناخرهم.
وكانت أموالهم الإبل، فلم يقتنوا غيرها لعظم أجسامها وقوتها. يقال: إنها كانت أعظم مما هي الآن أضعافا كثيرة. وكانت مطاياهم وطعامهم، وكان الرجل يتغدى بناقة ويتعشى بناقة أخرى. وكانت نمت لهم، وكثر عددهم حتى امتلأت منهم أرضهم (2) وبلادهم، وسخر لهم من قطع الجبال والصخور ما لم يسخر لأحد قبلهم ولا بعدهم.
كانوا يسلخون العمد من الجبال، فيجعلون طول العمود مثل طول الجبل، ثم يقلعونه وينصبونه حيث شاءوا ويبنون عليه (3) القصور. وأخبرني رجل أنه رأى ضرس رجل من قوم عاد، فكان كالجمل البختي.
وكانت ثمارهم في العظم بحالة لا توصف.
وذكر أن بعض أهل حضرموت (4) وجدوا في الأرض كوزا من فخار، في
__________
(1) (وقال الكلبي: أطولهم أربعمائة ذراع) ساقطة من (ب) والخبر في مرآة الزمان 1/ 258.
(2) كذا في جميع الأصول، وصوابه: «وكانت نمت لهم، وكثر عددها حتى امتلأت منها أرضهم».
(3) في (ب) و (ج): عليهم.
(4) في (ب): وذكر بعض أهل حضرموت.(1/101)
جوفه سنبلة حنطة، قد امتلأ منها الكوز، فوزنوا السنبلة فكانت منا بالمكي، وحبها كالبيض. فلما رأوا أن لا غالب لهم من الناس تجبروا واحتقروهم.
وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله تعالى. وكانوا كالحصى عددا، فبعث الله إليهم هودا بعد أن مضى من عمره ثلاثون سنة، فأمرهم أن يوحدوا الله تعالى، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا وكذبوه وتمادوا في الغي والضلال وقالوا: من أشد منا قوة؟ فلما فعلوا ذلك ولم يقبلوا نصيحة هود عليه السلام، أمسك الله تعالى (1) عنهم المطر ثلاث سنين حتى هلكت مواشيهم (2)، وأصابهم الضر الشديد والقحط الجهيد.
وكان الناس إذا أصابهم كربة بعثوا وفودهم إلى البيت الحرام فيدعون (3)
الله تعالى فيستجاب لهم، فاجتمع رأي الملك وأصحابه على أن / يتوجه سبعة نفر من أصحابه فيسيرون إلى الحرم فيستقون لقومهم فلما قدموا مكة وبالغوا في الدعاء بدت لهم ثلاث سحابات بيضاء وسوداء وحمراء، ونودوا أن اختاروا أيتهن شئتم. فقالوا: اخترنا السوداء، فإنها أكثر غيثا فنودوا: اخترتم رمادا أرمدا، لا يبقي منكم والدا ولا ولدا (4) لا ترككم همدا. فتفرقت السحابتان البيضاء والحمراء، ومضت السحابة السوداء نحو اليمن، فوافت من ساعتها، فتباشروا وكان أول من نظر إلى ما في تلك السحابة من العذاب امرأة منهم تسمى مهدا، فرأت وسط السحابة كلهيب النار، فصفقت بيديها، وهي أول من ابتدعت التصفق عند المصائب، ونادت (5) بأعلى صوتها: ويلكم عليكم بهود عليه السلام فقد أتاكم العذاب. ألا ترون إلى ما في هذه السحابة؟ قالوا: ما نرى شيئا، فما ترين؟
قالت (6):
__________
(1) في (أ) و (ج): أمسك الله عنهم.
(2) في (أ) و (ج): هلك.
(3) في (ب): فدعوا.
(4) في (ب): ولد ولا ولد.
(5) في (ب): فنادت.
(6) في (ب): فقالت.(1/102)
إني أرى وسط السحاب نارا ... تنثر من ضرامها الشرارا (1)
يسوقها قوم على خيول ... تهتف بالأصوات والصهيل
وهي عذاب يا آل عاد فاعلموا ... فوحدوا الله لكي ما تسلموا (2)
ثم استجيروا بالنبي هود ... نبيّ ربّ واحد معبود
فقد أتاكم عن قريب داهية ... فليس تبقي منكم من باقية
فلما أراد الله تعالى إهلاكهم أمر خازن (3) الريح العقيم وهو تحت الأرض قد زمت بسبعين ألف زمام من حديد وقد وكل بها سبعون ألف ملك، أن يخرج منها مقدار منخر ثور فقال: يا ربّ، أنت أعلم لو أخرجت مقدار ذلك ما تركت على ظهر الأرض شيئا إلا أحرقته. فأوحى الله تعالى وتقدس (4) إليه أن يخرج مقدار ثقب الخاتم، فلما خرجت وقد سخرها الله عليهم {(سَبْعَ لَيََالٍ وَثَمََانِيَةَ أَيََّامٍ حُسُوماً)}، (5) أي دائمة / متتابعة، فلما دنت الريح منهم (6) نظروا إلى الإبل والرجال بهذه الأجسام العظيمة، تطير بهم الريح بين السماء والأرض. وكان هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين قد اعتزلوا في ناحية فما كان يلحقهم من الريح إلا ما يلين عليه الجلود وتلذ له الأنفس، فلما رأوا ذلك تبادروا إلى البيوت فلما دخلوا دخلت عليهم الريح (7)، فأخرجتهم وأهلكتهم، وطحنت تلك الحصون والقصور والمدائن حتى عاد ذلك كله رملا دقاقا فسفته الرياح، فكانت تهب عليه، مثل شرر النار فتذيب لحومهم وعظامهم، وكانت تقلع (8) الصخور العظام من الجبال فتلقيها في الهواء ثم تقذفها على رؤوسهم ولم يخرج الريح العقيم قط إلا
__________
(1) رواية العجز في (أ): ضرمتها الشرارا.
(2) روايته في (ب): عسى أن تسلموا.
(3) في (أ) و (ب): أمر لخازن الريح.
(4) (تعالى وتقدس) ليست في ب.
(5) سورة الحاقة، الآية: 7.
(6) في (ب): اليهم.
(7) في (ب): دخلت الريح عليهم.
(8) في (ب): فكانت.(1/103)
بمكيال، إلا في ذلك اليوم، فإنها عتت على الخزنة من شدة الغضب فغلبتهم، فلم يعلموا مكيالها (1). فلما أهلكهم الله تعالى بعث طيورا سوداء فنقلت أجسادهم إلى البحر وألقتهم فيه. وكان بين مهلك شداد وجنوده بالصيحة إلى مهلك قوم (2) عاد بالريح ثلاثمائة سنة.
ومات هود عليه السلام بمكة بعد هلاك (3) قومه، وله ماية وخمسون سنة.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إن قبر هود عليه السلام بحضرموت.
وقيل: بجامع دمشق.
فلما قبض هود عليه السلام قام بالأمر بعده أرغو بن فالغ، كان يأمر بعبادة الله تعالى وظهر في زمانه نمرود الجبار، واسمه طهماسفان، وهو أول من لبس التاج وعبد النار وسجد لها، وسيأتي أخباره إن شاء الله تعالى.
__________
(1) مرآة الزمان 1/ 257.
(2) في (ب): مهلك عاد.
(3) في (ب): بعد هلاك قومه بمكة.(1/104)
الفصل السادس في ذكر صالح عليه السلام
كان رجلا أحمر (1) مائلا إلى البياض، سبط الشعر. وكان يمشي حافيا ولا يتخذ حذاة كما كان يمشي المسيح، ولا يتخذ مسكنا ولا بيتا، ولا مأوى له إلا المسجد.
وهو صالح بن عبيد بن عابر بن إرم بن سام بن نوح [عليه السلام] (2) بعث إلى قوم ثمود وكان بينه وبين هود عليه السلام نحو من ماية سنة. وسميت ثمود لقلة مائها / والثمد: الماء القليل، وثمود هاهنا القبيلة.
ذكر في «مرآة الزمان» عن مقاتل قال: كان بين قومه بقايا من قوم عاد على طولهم وهيئتهم، وكان لهم صنم من حديد يدخل فيه الشيطان في السنة مرة واحدة ويكلمهم. وكان أبو صالح سادنه ففارقه (3) وكان قد هم بكسره (4)، فناداهم الصنم: اقتلوا سادني، فقتلوه ورموه في مغارة، فجاءت إليه امرأته بعد مدة وهو ميت (5) فبكت عليه فأحياه الله تعالى فقام إليها فوطئها في الحال فعلقت بصالح عليه السلام من ساعتها وعاد كما كان ميتا، وشب (6) صالح فبعثه الله عز وجل حين
__________
(1) المعارف 14، عرائس المجالس 57، قصص الأنبياء 104، تاريخ الطبري 1/ 227، الكامل في التاريخ 1/ 50، الأنس الجليل 1/ 23، البداية والنهاية 1/ 130، نهاية الأرب 13/ 71، تاريخ الخميس 1/ 77، ومرآة الزمان 1/ 262.
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).
(3) في (ب): وكان أبو صالح سادنه.
(4) في (ب): وقال قد وهم.
(5) في (ب): بعد موته بمدة.
(6) في (ج): ونشب صالح.(1/105)
راهق الحلم (1). قال ابن عباس رضي الله عنه: لما تم له أربعون سنة (2).
وكانت منازلهم بالحجر بين الحجاز والشام بينها وبين وادي القرى ثمانية عشر ميلا. وكانوا يتخذون من الجبال بيوتا فنحتوا فيها وجوفوها. وكانوا في سعة من معايشهم، وبيوتهم إلى وقتنا هذا منحوتة في الجبال ورقمهم باقية وآثارهم بادية (3) ومساكنهم على قدر مساكن أهل عصرنا وهذا يدل على أن أجسامهم كانت كأجسامنا (4). فخالفوا أمر الله تعالى، وعبدوا غيره، وعتوا في الأرض وتجبروا، فبعث الله إليهم صالحا نبيا وهو من أفضلهم حسبا ونسبا، فدعاهم إلى الله عزوجل فكذبوه ولم يقبلوا ما دعاهم إليه فقال العظماء (5) منهم: يا صالح، إن أحببت أن نصدقك ونؤمن بالهك، فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة أضخم ما يكون من النوق، ومعها سقبها. فدعا صالح ربه فاستجاب الله دعاءه، فقال لهم: من أين تريدونها؟ فأشاروا إلى صخرة قالوا: من هذه الصخرة. فأشار إليها صالح وقال:
أخرجي بإذن الله تعالى. فبينما هم إذ نظروا إلى الصخرة وهي تزجي كما تزجي الناقة وتمخض كما تمخض المرأة (6) في نفاسها، وتحركت فانصدعت عن ناقة كما سألوه. ثم نهضت فجعلت تمشي نحوهم / حتى إذا دنت بركت فوضعت سقبا مثلها في العظم والجسم، نهضت نحو المرعى واتبعها سقبها. فلما رأوا ذلك بهتوا متعجبين وآمنوا بالله تعالى يومهم وليلتهم. فلما أصبحوا رجعوا إلى أسوأ ما كانوا عليه من الكفر والطغيان فقال لهم صالح: أما إذا نكصتم على أعقابكم فإياكم أن تمسوا هذه الناقة بسوء أو تمنعوها حظها من المرعى والشرب فيحل بكم
__________
(1) الجملة فأحياه الله تعالى إلى هنا ساقطة من (ب). ويوجد فيها عوضا عن ذلك: وكانت قد حملت منه بصالح، فبعثه الله تعالى حين راهق نبيا.
(2) في (ب): أربعون سنة، وبه ينتهي الاقتباس من مرآة الزمان 1/ 263.
(3) في (ب): في الجبال منعة باقية وبيوتهم بادية.
(4) على قدر أجسامنا.
(5) في (ب): فقالت العظماء منهم.
(6) في (ب): وتمخض كالمرأة.(1/106)
العذاب: {هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهََا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللََّهِ} (1) من الكلأ ولها من الماء يوم تشربه كله ولكم يوم آخر، لأن مياههم كانت قليلة، فكانت تشرب ماء الوادي في يوم ويحلبونها في يوم، فيشربون لبنها عوض ما شربت. فأجابوه إلى ذلك فمكثت الناقة ترد الماء فتستوعبه جميعا، لعظمها، حتى لا تدع منه شيئا، فتصدر وضرعاها يشخبان لبنا، فيستقبلونها بالمحالب فيحلبون منها بقدر ما كانت تشرب من الماء في الكثرة، ثم تصدر من غير الفج الذي وردت فيه لأنها لا تقدر (2) على أن تصدر من حيث وردت للضيق (3).
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: أتيت أرض ثمود فذرعنا مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعا.
فلما طال عليهم ذلك ملّوها، فاجتمع تسعة من أشرار (4) قومه على عقرها فعقروها وجعلوا يشوون لحمها ويأكلونه.
وكان عقر الناقة في سادس عشر من ربيع الثاني.
فلما رأى الفصيل ذلك انطلق موليا حتى أتى جبلا عاليا شامخا منيعا يقال له: ضوء، فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله تعالى إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير، وجاءه صالح عليه السلام، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم رغا ثلاثا، فانفجرت الصخرة فدخلها، فوعدهم الله تعالى بالعذاب فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام لكل رغوة / يوم فأصابهم في اليوم الأول، وكان نهار الخميس، صفرة، فأصبحوا مصفرين، وفي اليوم الثاني أصبحوا ووجوههم (5) محمرة كأنها خضبت بالدماء، وأصبحوا في اليوم الثالث ووجوههم مسودة كأنها طليت بالقار، وصحبهم؟؟؟ العذاب
__________
(1) سورة هود، الآية: 64، والاعراف الآية: 73.
(2) في (ج): لك تقدر.
(3) في (أ) و (ب): حيث وردت يضيق عنها.
(4) في (ب) و (ج): أشرار.
(5) في (ب): وجوههم.(1/107)
يوم الأحد فأتتهم صيحة من السماء، ارتجت الدنيا فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، ولحق صالح ومن آمن معه من قومه بمكة.
وكان آمن بصالح من قوم ثمود أربعة آلاف نفس.
وأقام صالح في قومه عشرين سنة، وتوفي بمكة، ودفن بالحجر، وله من العمر مايتان وثمانون سنة.
وقيل: خرج صالح ليلة الأحد من بين أظهرهم ومن معه من المؤمنين، فنزل بموضع بمدينة الرملة من بلاد فلسطين فمات فدفن بها.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر صالح على ناقته يوم القيامة».
وروى ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لما مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر من وادي القرى في غزوة تبوك فقال لأصحابه: «لا يدخلن أحدكم القرية ولا يشرب من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم» (1).
وعن الضحاك بن مزاحم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (2): «يا علي أتدري من أشقى الأولين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: عاقر الناقة. قال أتدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: قاتلك يا علي» (3).
__________
(1) الحديث أخرجه الطبري في تاريخه 1: 231.
(2) الحديث أخرجه المحب الطبري في ذخائر العقبى 111.
(3) ورد الحديث في (ب) على الوجه التالي: قال: «أتدري من أشقى الأولين والأخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أشقى الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتلك يا علي».(1/108)
الفصل السابع في ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام
كان مجملا مكملا واصطفاه الله نبيا وخليلا وجعله من أولي العزم وهو أبو الأنبياء وتاج الأصفياء. وأنزل عليه عشرون صحيفة (1).
وهو أول من أضاف الضيف، وأول من اختتن واستنجى بالماء، واستاك واستنشق بالماء وأول من صافح وعانق وقبل / بين العينين موضع السجود (2).
وفي «نزهة النواظر»: أول من تسمى إبراهيم، إبراهيم عليه السلام (3)
ومعناه: أبّ رحيم، وكان نبينا صلّى الله عليه وسلّم يثني عليه (4).
وعن ابن مالك قال: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا خير البرية، فقال (5):
«ذاك إبراهيم»، انفرد بإخراجه مسلم (6).
__________
(1) المعارف 15، طبقات ابن سعد 1/ 46، تاريخ الطبري 1/ 233، مروج الذهب 1/ 32، الكامل في التاريخ 1/ 53، الأنس الجليل 1/ 23، تاريخ الخميس 1/ 78، عرائس المجالس 63، قصص ابن كثير 117، نهاية الأرب 13/ 96، البداية والنهاية 1/ 139، المستدرك 2/ 549، ومرآة الزمان 1/ 267.
(2) في أوائل الطبراني 35، 36، 72، أوائل السيوطي 20، وهي كاملة عند السكتواري 38، وانظر المستدرك 2/ 550، قصص ابن كثير 1/ 167.
(3) ليست في (ب).
(4) صلّى الله عليه وسلّم ليست في (ب).
(5) ليست في (ب)، ولكنها ترد في مكان آخر لاختلاط في النسخ.
(6) حديث أنس بن مالك رواه مسلم في صحيحه 1504143، وأورده ابن كثير في قصص الأنبياء 1/ 162.(1/109)
وأول من شاب وهو ابن ماية وخمسين سنة (1)، فلما ظهر [فيه] (2) الشيب قال: يا رب ما هذا؟ فقال الله تعالى: وقار. فقال: رب زدني وقارا (3). وذلك أن سارة لما ولدت إسحاق قال الكنعانيون: ألا تعجبون لهذا الشيخ والعجوز وجدا غلاما لقيطا فتبنياه؟ فصور الله تعالى إسحاق على صورة إبراهيم فلم يكن يفصل بينهما، فوسم الله إبراهيم بالشيب ليفرقا (4).
روى الحافظ ابن عساكر (5) بسنده إلى الإصبع بن نباته قال: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يقول: كان الرجل فيما قيل يبلغ الهرم ولم يشب، وكان الرجل يأتي القوم وفيهم الوالد والولد فيقول: أيكم الأب؟ (6) لا يعرفون الأب من الابن.
ومن معجزاته [عليه الصلاة والسلام] (7) أن ريح المسك يفوح من بدنه، فإذا سكن دارا وخرج منها فإن رائحة المسك لم تزل تفوح فيها، فكان المجوس يجعلون تلك (8) الدار معبدا ويوقدون فيها النار. وكان يسمع من بعيد.
روي أنه لما وضع هاجر وإسماعيل بمكة ثم ذهب إلى الشام، وضاق عليهما الأمر بعد مدة فصاح يوما إسماعيل إلى أبيه يشكو الضيق والجوع، فسمعه إبراهيم ودعا له (9)، فوسع الله عليه الرزق. وكانت السباع تسير معه وتكلمه وتؤنسه إذا سار وحيدا.
__________
(1) أوائل الطبراني 72، محاضرة الأوائل 38.
(2) ليست في (أ) و (ج).
(3) رواه مالك في الموطأ 4349، قصص ابن كثير 1/ 167، الوسائل 38.
(4) نقل حرفي عن المعارف 10.
(5) الوسائل 38، الثعلبي 6564.
(6) في (ب): ايكم الأب والأبن.
(7) ليست في (أ) و (ج).
(8) في (ب): ذلك.
(9) في (ب): فدعا.(1/110)
وكان مولد إبراهيم عليه السلام بقرية كوثا من اقليم بابل (1) وقيل بقرية برزة (2) من أعمال دمشق، وقيل ولد بقرية حران. ونقله أبوه إلى بابل، وقيل:
كان مولده بالسوس من أرض الأهواز في زمن نمرود الجبار (3)، وأخفاه الله تعالى في غار وجعله في سرب مخافة عليه من نمرود (4)، وكان يمص إبهامه واللبن يدر (5) منه. وكان يشب في كل يوم مثل ما يشب غيره في شهر (6). قال مقاتل (7): لما أتى عليه سنة تكلم، وهو أول كلامه فقال: يا أماه من ربي؟
قالت: أنا. قال: ومن ربك؟ قالت أبوك. قال: ومن ربّ أبي؟ قالت: نمرود.
قال: ومن رب نمرود؟ فلطمته وقالت: اسكت.
ثم رجعت إلى أبيه وأخبرته بما قال، فجاء إليه أبوه فقال له مثل ذلك.
يقال: إنه أقام في السرب ثلاث سنين، وقيل سبع سنين.
وكان أبوه آزر يصنع الأصنام ويعطيها / لإبراهيم عليه السلام ليبيعها، وكان إبراهيم [عليه السلام] (8)، يقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ (9) فلما فشا أمره واتصل خبره بنمرود، وهو ملك تلك البلاد، وقيل: كان عاملا على سواد العراق وما اتصل به للضحاك (10)، فلما كثر عليهم ذم إبراهيم عليه السلام
__________
(1) عند السكتواري في كوثا، وفي الأنس الجليل 1/ 27. وعن ابن عباس ولد في برزه، وعن ابن كثير ببابل (قصص الأنبياء 1/ 117)، وجميعها في الثعلبي 63.
(2) في (ب): برزا.
(3) (الجبار) ليست في (ب).
(4) مخافة عليه من غرور ساقطة من (ب).
(5) في (أ): تدر.
(6) الثعلبي 65، الأنس الجليل 1/ 26.
(7) الخبر أورده الثعلبي 65، والأنس الجليل 1/ 26.
(8) ليست في (أ) و (ب).
(9) الثعلبي 6665.
(10) في (ب): إلى الضحاك وينقل الطبري في تاريخه 1/ 4233رواية تقول بأن نمرود هو الضحاك نفسه.(1/111)
لآلهتهم وكسرها يوم عيدهم، اتخذ له النمرود النار ووضعه في المنجنيق ليلقى في النار، أتاه خازن المياه (1) فقال: إن أردت أخمدت النار. وأتاه خازن الرياح فقال: إن أردن طيرت النار في الهواء. فقال إبراهيم عليه السلام: لا حاجة لي إليكم. فأتاه جبريل فقال له: هل لك حاجة؟ قال: فأما إليك فلا. قال: فاسأل الله تعالى. قال: علمه بحالي حسبي من سؤالي (2). فقال الله تعالى: {يََا نََارُ كُونِي بَرْداً وَسَلََاماً عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ} (3) ولما وصل إلى النار تلقته الملائكة بأيديها، وجاءه جبريل بقميص من الجنة فألبسه إياه، فانقلبت النار روضة خضراء ذات عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس، وقعد جبريل يتحدث معه (4)، وأقام إبراهيم في النار أربعين يوما. وكان يقول بعدما خرج منها: ما طاب لي عيش مثل تلك الأيام، ووددت أني كنت فيها أبدا (5).
قال كعب الأحبار (6): ما انتفع أحد من أهل الأرض بنار (7) ولا أحرقت سيئا في تلك الساعة لمخافة أنها المعنية بالخطاب (8).
وعن سفيان (9) الثوري رحمه الله أنه قال: أوحى الله إلى النار: لئن نلت من إبراهيم أكثر من حل وثاقه لأعذبنك عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.
__________
(1) في (ب): الماء.
(2) قصص ابن كثير 1/ 126، السكتواري 38، الأنس الجليل 1/ 31.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 69.
(4) عرائس الثعلبي 68.
(5) الخبر في قصص ابن كثير 1/ 126.
ووردت في (ج): وودت اني لو كنت فيها. وفي (أ) و (ب): وددت اني كنت فيه.
(6) في (ب): رضي الله عنه.
(7) بنار، ليست في (ب).
(8) قول كعب الأحبار في قصص ابن كثير 1/ 126، عرائس الثعلبي 68، تاريخ الطبري 1/ 242.
وفي (ب) ورد: ولا أحرقت النار شيئا.
(9) في (أ): عن، والخبر في مرآة الزمان 1/ 276، وتهذيب ابن عساكر 2/ 147146.(1/112)
وكان حين وضع في المنجنيق ورمي به جرد عن ثيابه ولم يترك عليه إلا سراويله، فقصد بعض السفهاء نزع السراويل عنه فشلت يداه، وهو أول من اتخذ السراويل بوحي أوحي إليه أن استر عورتك من الأرض، فهبط عليه جبريل بخرقة من الجنة ففصلها جبريل سراويل وخاطته سارة وقال: ما أحسن هذا، واستره يا جبرائيل فإنه نعم السترة للمؤمن فلما لبسه / قال: ما لبست ثوبا أحبّ إليّ منه، فإذا مت فغسلوني من تحته وكفنوني من فوقه وهو أول من جرد من ثيابه في سبيل الله، فلذلك كساه الله تعالى في ذلك المحل قميصا من الجنة، وادخر له كسوة بيضاء يكسوها له في المحشر، ويوضع له منبر على يسار العرش فيجلس عليه (1).
وكان عمره حين ألقي في النار ست عشرة سنة (2).
وأقام إبراهيم عليه السلام بعد ذلك ما شاء الله أن يقيم، وآمنت به سارة وهي بنت عمه هارون، فكانت أخت لوط عليه السلام (3) وكانت أجمل أهل زمانها. ذكر أن الحسن نصفه في جميع الخلق والثلث في يوسف [عليه السلام] والسدس في سارة، فتزوجها وخرج مهاجرا معها، وهو أول من هاجر من وطنه في طاعة الله تعالى (4)، حفظا لإيمانه حين سأله النمرود أن يخرج من أرضه إلى حيث شاء، فأجابه إلى ذلك حيث يئس من إيمانه. فخرج وهو ابن سبعين سنة ومعه ابن عمه لوط، وابنة عمه سارة، وأبوه آزر، إلى قرية حران، فأقاموا بها خمسين سنة، ومات بها آزر بعد سنتين. ثم سار إبراهيم ولوط عليه السلام وأهله من حران إلى قرية برزة (5).
فقال صاحب «اتحاف الأخصا» (6) بسنده إلى الزهري: إن إبراهيم عليه السلام
__________
(1) الوسائل لمعرفة الأوائل 37، 38، الأنس الجليل 1/ 32.
(2) الأنس الجليل 1/ 31.
(3) الأنس الجليل 1/ 34.
(4) محاضرة الأوائل 37، الأنس الجليل 1/ 35.
(5) محاضرة الأوائل 36.
(6) اتحاف الأخصا 2/ 163.(1/113)
تعبّد في مسجد بقرية برزة، فمن صلى فيه أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، واستجيب دعاؤه.
فوجدوا فيه جوعا عظيما، فساروا إلى مصر وأقاموا بها ثلاثة أشهر.
وقصة سارة مع فرعون في مصر ستجيء إن شاء الله تعالى.
وكان في جملة (1) من آمن به وعظمه ابنة نمرود، فعذبها نمرود على ذلك عذابا شديدا، ثم أمر الله تعالى جبريل فرفعها من بين أظهرهم ثم جاء بها إلى إبراهيم عليه السلام، وذلك من بعد ما هاجر، فزوجها إبراهيم من ابنه مدين، فحملت منه عشرين بطنا أكرمهم الله تعالى بالنبوة، كذا في «البحر الزخار».
وتزوج إبراهيم بعد سارة امرأة من الكنعانيين يقال لها قطورا، فولدت له سبعة نفر، فكان جميع أولاد إبراهيم ثلاثة عشر رجلا (2)، فأبقى عنده إسحاق عليه السلام / بأرض الشام، وإسماعيل بأرض الحجاز وفرق سائر أولاده في البلاد وعلمهم اسما من أسماء الله تعالى، فكانوا يستسقون به ويستنصرون به عليهم السلام. وعاش إبراهيم عليه السلام مائتي سنة، وقبر في مزرعة حبرون، وكان اشتراها، وفيها قبرت زوجته سارة (3).
وفي «مثير الغرام»: أنه لم يمت إبراهيم عليه السلام حتى بعث إسحاق إلى أرض الشام وبعت يعقوب إلى أرض كنعان وإسماعيل إلى جرهم، ولوط إلى سدوم، وكانوا أنبياء على عهد إبراهيم عليه السلام (4).
__________
(1) في (ج): وكان أول من آمن به.
(2) المعارف 16، قصص الثعلبي 85.
(3) انظر الأنس الجليل 1/ 5756.
(4) قصص الثعلبي 85.(1/114)
الفصل الثامن في ذكر لوط عليه السلام
وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام (1). قال الثعلبي (2): إنما سمّي لوطا لأن حبه ليط (3) أي تعلق ولصق بقلب إبراهيم عليه السلام. وكان إبراهيم يحبه حبا شديدا.
وكانت الروم قد أسرت لوطا، فغزاهم إبراهيم عليه السلام حتى استنقذه منهم، فبعث لوطا إلى الأردن لأهل سدوم وما يليها، وكانوا كفارا يأتون الفواحش، وكان لوط (4) ينهاهم عن ذلك، فأقام لوط عليه السلام فيهم بضعا وعشرين سنة، وهو يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فكانوا لا يزدادون إلا إنكارا وتكذيبا.
ومن معجزاته: أن قومه طلبوا منه معجزة وسألوه مطرا بلا سحاب، فدعا الله تعالى فاستجاب (5) دعاءه، فأمطر الله عليهم مطرا ماء عذبا بلا سحاب، فأسلم البعض وجحد البعض.
وغاب ابن رجل من الكفار فطلب أن يخبره بمكانه فدعا ربه فأجابه [إلى ذلك] (6) فرأى ابن الرجل وأخبره وكان بينهما مسيرة ماية فرسخ فأسلم الرجل.
__________
(1) تاريخ الطبري 1/ 292، الكامل في التاريخ 1/ 67، البداية والنهاية 1/ 175، الأنس الجليل 1/ 70، عرائس المجالس 90، قصص الأنبياء 170، نهاية الأرب 13/ 121، المستدرك 2/ 560، ومرآة الزمان 1/ 316.
(2) عرائس المجالس 90.
(3) في (ب): لانه ليط أي يعلق، وفي (ج): لأنه ليط حبه، أي تعلق. وفي العرائس: لاط.
(4) في (ب): وكان لوطا، وفي (ج): وكان ينهاهم، بسقوط لفظ (لوط).
(5) في (ب): فأجاب.
(6) الاستدراك من (ب).(1/115)
ثم إن لوطا سأل ربه أن ينصره عليهم فأجاب الله دعاءه، فبعث الله تعالى جبريل وميكائيل وإسرافيل عليه السلام لإهلاكهم (1) وبشارة إبراهيم عليهم السلام، فأقبلوا إليه بعد مفارقة إبراهيم مشاة في صورة شبان مردان نحو قرية لوط، فلقوا لوطا، ودخلوا معه منزله، فلم يعلم بهم أحد، وكان نصف النهار. وعلم لوط (2) أن قومه يسيئون الأدب في حقهم، فخرجت امرأته فأعلمت قومها وقالت:
إن في بيت لوط شبانا (3) ما رأيت مثلهم في عمري.
وقال أبو حمزة اليماني: بلغنا أن العلم الذي كان بين امرأة لوط وقومها أنها إذا رأت أضيافا (4) تأتيهم فتقول لهم: هبونا ملحا، تدعوهم بذلك إلى الفاحشة بأضياف لوط. فبلغنا أن الله تعالى مسخها ملحا.
عن أبي بكر بن عياش قال: / سألت أبا جعفر: لم عذب نساء قوم لوط؟
قال: الله تعالى أعدل من ذلك، كان (5) استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء (6).
فلما أخبرت امرأة لوط قومه بالأضياف، جاءه قومه يهرعون [إليه] (7)
فأغلق لوط الباب (8)، وهم يعالجون الباب. فلما رأت الملائكة ما لقي لوط منهم من الكرب والتعب بسببهم قالوا له: {يََا لُوطُ، إِنََّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} (9). ثم قالوا له: افتح الباب ودعنا وإياهم. ففتح الباب ودخلوا، فضرب جبريل عليه السلام بجناحيه وجوههم، فطارت أعينهم وأعماهم، فساروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى
__________
(1) في (ب): لهلاكهم.
(2) في (ب): لوطا.
(3) في (ب): شبابا.
(4) في (ب): ضيفا.
(5) في (ب): استغنى الرجال، بسقوط لفظ (كان).
(6) في (ب): جاء قومه.
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(8) في (ب): فأغلق الباب لوط.
(9) سورة هود من الآية: 81.(1/116)
بيوتهم، فافترقوا. فلما علم لوط عليه السلام أن أضيافه رسل الله، وأنهم أرسلوا لهلاك قومه قال: تهلكونهم الساعة؟ فقال له جبريل: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (1) فلما كان السحر خرج لوط وأهل بيته ومعه امرأته ولما أصبحوا أدخل جبريل جناحه تحت أرضهم فاقتلع قريات لوط في كل قرية ماية ألف ورفعهم بين السماء والأرض حتى سمع أهل سماء الدنيا أصوات ديوكهم ونباح كلابهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. ثم أتبع شواردهم ومسافرهم الحجارة. قيل: كان مكتوبا على كل حجر اسم من رمي به. وسمعت امرأة لوط الهدة فالتفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها (2).
وكانت قرى قوم لوط خمس وهي: سدوم، وعامورا، ورادوما وضيعة وضيعون (3). وكانت فيهم أربعة آلاف ألف، فاحتملها جبريل عليه السلام وقلبها، فلذلك سميت المؤتفكات، أي المنقلبات.
وقيل: قلب الأربع قرى، وأما الخامسة فإن أهلها آمنوا بلوط، فأمنوا من العذاب. /
وتوفي لوط ودفن في قرية تسمى كفربريك، عن مسجد الخليل نحوا (4)
من فرسخ. وفي المغارة الغربية تحت المسجد العتيق ستون نبيا، منهم عشرون مرسلا.
ولما مضى من عمر إبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة، وقيل سبعون سنة، ولد من هاجر جارية سارة إسماعيل عليه السلام.
__________
(1) سورة هود، الآية: 81.
(2) مرآة الزمان 1/ 320.
(3) في (ب): زادواما، بالزاي المعجمة. وفي (ج): سدوم وعامورا وادما وصبويم وصوعر.
(4) في (ج): نحوا.(1/117)
الفصل التاسع في ذكر إسماعيل عليه السلام
وهو اسم أعجمي (1)، وفيه لغتان إسماعيل باللام وإسماعين بالنون (2).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان إذا وعد [وفى] (3) وأنجز. وقد وعد رجلا أن يلتقيه بمكان (4)، فأقام سنة ينتظره (5).
وهو أكبر أولاد إبراهيم عليه السلام وأبو العرب ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمه هاجر القبطية.
ومن معجزاته: أن كفار البادية طلبوا منه معجزة، وكان جالسا عند أصل شوك، فدعا الله تعالى فأثمر الشوك في الحال.
وسألوه أن يحلب لبنا من ضرع يابس، فوضع يده على ظهر نعجة ذات ضرع يابس وقال: بسم الله الذي أرسلني رسولا، فظهر اللبن من ضرعها بإذن الله تعالى، فآمن به من آمن.
وروي أن إبراهيم عليه السلام استمر دهرا طويلا لا يولد له ولد فوهبت له
__________
(1) المعارف 16، طبقات ابن سعد 1/ 48، تاريخ الطبري 1/ 251، مروج الذهب 1/ 32، الكامل في التاريخ 1/ 58، تاريخ الخميس 1/ 126، 145، البداية والنهاية 1/ 153، 191، الأنس الجليل 1/ 36، عرائس المجالس 69، 88، قصص الأنبياء 1/ 135، نهاية الأرب 13/ 115، المستدرك 2/ 552، ومرآة الزمان 1/ 309.
(2) انظر الأنس الجليل 1/ 36، وفيه: ومعنى إسماعيل بالعبرية (مطيع الله). وفي طبقات ابن سعد 1/ 49: (كان اسمه اشمويل فعرّب) وانظر المعرّب 14.
(3) استدراك من (ب) و (ج)، وانظر المستدرك 2/ 553.
(4) في (ب) و (ج): يلقيه.
(5) بعدها في (ب): وقال الله تعالى إنه صادق الوعد.(1/118)
سارة هاجر فقالت: إني حرمت من الولد فلعل الله تعالى أن يرزقك منها ولدا تقرّبه عينك (1) فحبها إبراهيم عليه السلام لجمالها وعقلها ودينها، فلما حملت باسماعيل وولدته تحول نور نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عن جبين إبراهيم إلى جبين إسماعيل عليه السلام كالشمس المشرقة، فأخذت سارة الغيرة وقالت لإبراهيم عليه السلام: قد علمت أن الله تبارك وتعالى جعل صداقي عليك رضائي وطاعتي، وأنا آمرك أن تحمل هذه الجارية وابنها حتى تأتي بها بلدا لا ماء فيه ولا زرع فتسكنهما فيه.
قال: أفعل ذلك. فأمر الله تعالى إبراهيم بالمسير إلى مكة فركب البراق هو وإسماعيل وهاجر حتى أتى بهما إلى البيت. وكان يمر كالبرق الخاطف يضع خطوته عند منتهى طرفه (2)، ولم يكن بها يومئذ خلق من الناس، فأنزلهما هناك، والبيت يومئذ ربوة حمراء مشرفة على ما سواها. ولم ينزل عن مطيته (3) وولى منصرفا فنادته هاجر: / يا نبي الله إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله تعالى وأستودعكما إياه، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا. فرجع إبراهيم عليه السلام إلى الشام.
فعمدت هاجر ففعلت عريشا، وكان معها شنة فيها ماء فنفد الماء وعطشا عطشا شديدا. وكان إسماعيل يومئذ من أبناء ثلاث سنين، فجعلت تتضرع إلى الله تعالى وتعدو يمنة ويسرة (4) وكانت تسعى بين الصفا والمروة وتأتي إسماعيل فتضع يدها على فيه مخافة أن يموت من العطش، ثم ترجع وتسعى، وذلك أول سعي سعي هناك (5). وهي في ذلك تدعو وتقول: اللهم إنا وديعة نبيك وخليلك عندك فلا تضيع وديعتك يا من لا يضيع وديعته يا أرحم الراحمين. فبدا لها جبريل عليه السلام فى صورة آدمي فركض برجله موضع [بئر] (6) زمزم، فنبع من موضع
__________
(1) في (ب) و (ج): تقربها عينك.
(2) في (ب): نظره.
(3) في (ب): ونزل عن مطيته.
(4) في (ب): يمنى ويسرى.
(5) الوسائل إلى معرفة الأوائل 48.
(6) في (أ): موضع زمزم.(1/119)
رجله ماء أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأدسم من السمن.
فاستطارت بذلك فرحا وعصرت في فيه. فرجعت إليه نفسه، وقد كان أشرف على الهلاك، فجعلت تحفظ الماء بالتراب لئلا يذهب، وجعلت تغرف وتدخره في شنها لولدها فقال لها جبريل عليه السلام: إنها ري لا تخافي الظمأ، وإنها عين تشرب منها ضيفان الله تعالى (1)، وإن هذا الغلام وأباه سيبنيان بيتا هذا موضعه، ثم تركها وعرج إلى السماء.
فلبثا خمسة أيام يشربان من ذلك الماء فيجزيهما من الطعام والشراب، فلما كان يوم السادس أقبل غلامان من العماليق الذين كانوا نزولا بعرفات يريدان بعيرا لهما فأشرفا على جبل أبي قبيس فأبصرا بياض الماء فتعجبا وانطلقا إلى قومهما فأعلماهم بذلك، فأقبل نفر من عظمائهم فأبصروا الماء ونظروا إلى إسماعيل وأمه هاجر فسألوها / فأخبرتهم بخبرها قالوا: لولا أن هذا الغلام كريم على الله تعالى ما أنبع له هذا الماء بهذا المكان، فإن عهدنا به منذ ستة أيام وليس به ماء، أفتأذنين لنا أن ننتقل بأهالينا إلى هذا المكان فنقيم معكما به على أن الإسكان يكون لهذا الغلام متى أخرجنا منه خرجنا وله عندنا المواساة في أموالنا وأن نجعله إذا أدرك رئيسنا؟ قالت: نعم إن وفيتم فدونكم. فأخبروا قومهم وانتقلوا جميعا وابتنوا بها (2) المنازل والبيوت ونشأ إسماعيل عليه السلام مع أولادهم وكانت لغتهم العربية الصحيحة وهي لغة أولاد بني معدّ التي نزل القرآن بها وشب إسماعيل حتى بلغ الحلم فصار أذربهم (3) لسانا وأحسنهم لغة فقسموا له من أموالهم قسمة حتى صار أكثرهم إبلا وغنما. وأعطاه الله القوس فكان لا يرمي شيئا إلا أصابه، وأخرج الله تعالى له من البحر ماية فرس ثم ساقها الملائكة (4) إليه فركبها وكان
__________
(1) في (ب): تبارك وتعالى.
(2) في (ب) و (ج): فيها.
(3) في (ب) و (ج): أدراهم.
(4) في (ج): وساقتها الملائكة إليه.(1/120)
يدعوها: يا خيل الله أجيبي، فلم يبق في بلاد العرب فرس إلا أتاه. وهو أول من ركب الخيل العتاق، وكانت قبل ذلك وحوشا لا تركب (1).
وبعث إلى العماليق وجرهم وقبائل اليمن، وكانوا يعبدون الأوثان فآمن بعضهم.
وماتت هاجر ولإسماعيل عشرون سنة ولها من العمر تسعون سنة ودفنت بالحجر.
وفي «مرآة الزمان»: أنها لما سمعت بذبح ولدها انفطرت مرارتها فماتت بعد ثلاثة أيام (2).
ثم إن إبراهيم عليه السلام اشتاق إلى إسماعيل شوقا شديدا وكان له مدة لم يره، فاستأذن سارة في إتيانه فأذنت له، على أن لا ينزل عن مطيته غيرة حتى يولي راجعا، فسار على البراق من الشام حتى أتى مكة في طرفة عين وقيل: كانت تطوى له الأرض، فرآها مشحونة بالناس، ففرح بذلك فرحا شديدا، وسأل عن / منزل إسماعيل، وكان منزله بموضع الحجر، فدل عليه فقرع الباب فخرجت إليه امرأة إسماعيل وقالت: ما تشاء يا شيخ؟ فقال: أريد إسماعيل: فقالت: خرج باكرا إلى غنمه وليس بمنصرف إلى سدفة من الليل، فقال لها: كيف عيشكم؟
قالت: أسوأعيش، ونحن ببلاد لا زرع فيها ولا ثمر. ولم تعرض عليه النزول. فقال لها إبراهيم عليه السلام: خبريه بقدومي إليه، وسلمي عليه وقولي له: إني لم أجد السبيل إلى المقام لوقت انصرافه، فإني آمره بقلع العتبة، فإن الباب لا يصلح إلا بالعتبة، ثم انصرف راجعا إلى الشام.
فلما أقبل إسماعيل نحو منزله في المساء رأى نور أبيه ساطعا بمكة وجبالها، ووجد بباب داره رائحة المسك الأذفر، ورأى الأغنام تشم الآثار فقال لامرأته: هل جاءك من أحد؟ فأخبرته خبر الشيخ عليه السلام قالت: ويأمرك بقلع
__________
(1) الوسائل إلى معرفة الأوائل 72، تاريخ الخميس 1/ 145.
(2) مرآة الزمان 1/ 297.(1/121)
عتبة باب دارك والاستبدال بها. فقال لها: إن ذلك الشيخ هو والدي إبراهيم عليه السلام، وهو يأمرني بطلاقك، فاذهبي فأنت طالق.
ثم إن مضاض بن عمرو، وهو رئيس جرهم، زوّج إسماعيل عليه السلام بابنته دعلة، وكانت من الطاهرات التقيات ثم استأذن إبراهيم عليه السلام (1)
سارة في زيارة إسماعيل عليه السلام فاستحلفته غيرة عليه، أنه إذا أتى الموضع لا ينزل عن مركوبه فلما أقبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام (2) لرؤية إسماعيل عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل [عليه السلام] (3) فقرعه فخرجت إليه امرأته دعلة بنت مضاض قالت: من تريد؟ قال: أريد إسماعيل فقالت: بأبي وأمي، إنه خرج باكرا إلى إبله وغنمه، فأنزل عندنا إلى وقت انصرافه فقال: إن النزول لا يمكن. فجاءته بحجر كان في البيت، وجعلته تحت قدمه اليمنى، وغسلت رأسه ودهنته بدهن طيب، ثم حولت الحجر إلى شماله، فوضع رجله اليسرى عليه ومال برأسه نحوها، فرجلته ودهنته، وأثرت قدماه في / الحجر، فلما رأت الجرهمية ذلك أكبرته فقال لها إبراهيم عليه السلام: ارفعيه عندك فسيكون له شان وبقاء بعد حين. وهذا الحجر الآن في صندوق من حديد بمقام إبراهيم عليه السلام، وقد زرته وقبلته ووضع لي فيه من ماء زمزم فشربته ورأيت موضع رجله اليمنى أكثر تأثيرا من رجله اليسرى، فكأنه قد داس على عجين، وأصابعه الشريفة مثل أصابع اليدين في الطول، ثم قال لها: كيف عيشكم بهذا المكان؟ قالت:
خير عيش وماء عذب ومرعى. فقال: بارك الله لكم في مائكم ومرعاكم. ثم أتته بطعام ورفعته على رأسها، فلما أتم الغداء قال لها: إذا أتاك إسماعيل فأعلميه بقدومي عليه وقولي له: إني لم أجد السبيل إلى النزول (4) وأنا عائد إن شاء الله
__________
(1) في (ب) و (ج): ثم إن إبراهيم عليه السلام استأذن سارة.
(2) في (ب): عليه الصلاة والسلام.
(3) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(4) في (ب): إلى النزول سبيل.(1/122)
تعالى، وأعلميه أني آمره باستمساك عتبة داره فإنها صالحة ثم انصرف راجعا نحو الشام.
فلما أمسى، أقبل إسماعيل عليه السلام فوجد رائحة أبيه كما مر ورأى نور أبيه ساطعا على الجدران (1) من باب داره فقال لامرأته: هل أتاك من أحد؟
فأخبرته بذلك فقال: ذاك أبي نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام وقد أمرني أن استمسك بك. فبكت وقالت: يا لهف نفسي، لو كنت عرفت لكان يرى مني خلاف ما كان. قال لها: قد أحسنت وأجملت، فجزيت خيرا.
ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (2) أن ابنيا الكعبة فسار إبراهيم عليه السلام إلى مكة فرأى إسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنع كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد. وكان عمر إسماعيل إذ ذاك ثلاثين سنة، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرنا أن نبني له بيتا، قال: نعم. فجعل إبراهيم يبنيه (3) وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنََا تَقَبَّلْ مِنََّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4). وكان الحجر الأسود مكنونا من زمن الطوفان حيث شاء الله فأتاه به جبريل فنصبه إبراهيم / في موضعه حيث أمره الله تعالى، فأنار شرقا وغربا ويمينا وشمالا، فحرم الله الحرام حيث انتهى نور الركن وإشراقه من كل جانب.
وفي «البحر العميق»: أنه حفر في جوف الكعبة على يمين الداخل بئرا ليكون فيها ما يهدى إلى الكعبة وكان اسم البئر أحتف، وكان المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما مما يلي الحجر يمنة الباب، وإنما أخره من جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فلما فرغ من بنائها صعد على جبل أبي قبيس ونادى: أيها
__________
(1) في (أ): نورا ساطعا.
(2) في (أ): أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام.
(3) في (ب) و (ج): يبني، وتتفق مع رواية الطبري في تاريخه 1/ 260.
(4) سورة البقرة، الآية: 127.(1/123)
الناس، إن الله جل جلاله كتب عليكم الحج إلى هذا البيت فحجوا. فأجابه الناس من أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك لبيك، فلا يحج إلا من أجاب يومئذ. فانصرف إبراهيم عليه السلام إلى أرض الشام (1).
واختلف العلماء في الذبيح فمنهم من ذهب إلى أنه إسحاق عليه السلام ومنهم من رأى أنه إسماعيل عليه السلام.
قال المسعودي في «مروج الذهب» (2): «إن كان الأمر بالذبح بمنى فالذبيح إسماعيل لأن إسحاق لم يدخل الحجاز. وإن كان الأمر بالذبح وقع بالشام فالذبيح إسحاق لأن إسماعيل لم يدخل الشام». والذي ذهب إليه بعض (3) العلماء إن الذبيح إسحاق قال: لما أمر بذبح ولده في المنام سار بإسحاق من الشام حتى أتى به المنحر بمنى في غداة واحدة وهو مسيرة شهر فلما صرف الله عنه الذبح وفداه بالكبش فذبحه ورجع به في روحة واحدة إلى مكانه بالشام، فطويت له الأرض.
وقال ابن عباس رضي الله عنه (4): إن اسماعيل هو الذبيح، وإن الله تعالى فداه بكبش (5) أملح أقرن أعين، ينظر في سواد وأنه رعى في الجنة أربعين خريفا وهو الذي قربه هابيل وتقبل منه وإن إبراهيم عليه السلام نحره بالمنحر من منى، والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام، وإن قرن ذلك الكبش لمعلق في ميزاب البيت الحرام قد نحس بنحاس. واستمر إلى أن احترق / البيت في أيام الحجاج فاحترق معه، وإن رمي الجمرات سنة إبراهيم عليه السلام لما تعرض له الشيطان حين ذهابه للذبح.
__________
(1) الخبر عن البحر العميق في تاريخ الخميس 1/ 100، وفيه اسم البئر (أخسف). وفي (أ) ورد اسم البئر (أخنف).
(2) مروج الذهب 1/ 24.
(3) في (ب): والذي ذهب إليه العلماء.
(4) قول ابن عباس هذا في تاريخ الطبري 1/ 276275.
(5) في (ب) و (ج): ان الله تعالى فداه بالكبش فذبحه، وهو كبش أملح أقرن أعين.(1/124)
فإن قيل (1): إن إبراهيم عليه السلام لم يسر لزيارة إسماعيل إلا بعد أن بلغ إسماعيل مبلغ الرجال وتزوج وأمره بتغيير عتبة داره، وكان الأمر بالذبح لما بلغ معه السعي فمتى كان الذبح؟ [قلت] (2): قال في (نزهة النواظر): إن إبراهيم عليه السلام كان يزور إسماعيل وهاجر في كل شهر على البراق، يأتي مكة غدوة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام، وفي بعض زياراته كانت قصة الذبح والفداء (3).
وعن الصالحي (4) قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان بدمشق فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق فقال معاوية: على الخبير سقطتم. كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاءه رجل فقال: جد علي مما أفاء الله عليك يابن الذبيحين. فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقيل له: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما الذبيحان؟ فقال أبي عبد الله وجدّي إسماعيل، كذا في (مرآة الزمان).
وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فقال (5):
إن الذبيح هديت إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا ... وأبانه التفسير والتأويل
وقال محمد بن كعب القرظي: إنا لنجد في كتاب الله تعالى أن الذبيح إسماعيل وذلك أن الله تعالى لما فرغ من قصة الذبح قال: {وَبَشَّرْنََاهُ بِإِسْحََاقَ} (6)
فدل على أن قصة الذبح (7) كانت مقدمة على البشارة بإسحاق ولأن الأمم توارثت النحر بمنى من زمن الخليل (8) عليه السلام وهلم جرا. وموضع النحر بمنى مشهور وهو من شعائر الحج، فإن النحر هناك واجب حتى لو تركه لزمه دم،
__________
(1) في (ب): قال: قيل.
(2) ما بين الحاصرتين استدراك من (ج).
(3) الخبر بهذه الصيغة في تاريخ الخميس 1/ 95.
(4) مرآة الزمان 1/ 299298والمستدرك 2/ 555، والخبر مشهور في كتب السيرة النبوية.
(5) الخبر والبيتان في شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 1/ 95، وفي مرآة الزمان 1/ 299.
(6) الصافات، الآية: 112.
(7) في (أ) و (ج): الذبيح.
(8) في (ب): إن الأمم توارثت النحر من زمن الخليل عليه السلام.(1/125)
فالواجب التوقف في هذا، فإن الأدلة متعارضة من الجانبين والترجيح على أن الذبيح (1) إسحاق / متعذر.
وولد لإسماعيل من دعله بنت مضاض اثنا عشر ذكرا وبنت (2) وعاش إسماعيل ماية وسبعا وثلاثين سنة، فقبره ما بين الميزاب إلى الحجر. ولما حفر ابن الزبير أساس الكعبة وجد سفطا من مرمر أخضر، فسأل العلماء بالأخبار فقالوا: هذا قبر إسماعيل وأمه، قالوا: والمحدودب مما يلي الركن الشامي فيه فبور العذارى من بنات إسماعيل عليه السلام.
وفي «مرآة الزمان» وغيره: أن إسماعيل عليه السلام شكى إلى ربه حرّ مكة، فأوحى الله تعالى إلى ملك (3) ففتح به بابا من الجنة يجري عليه ريحها (4) إلى يوم القيامة (5).
__________
(1) في (ب): والترجيح أن الذبيح إسحاق متعذر.
(2) في (أ) و (ج): اثني عشر.
(3) في (ب): مالك.
(4) في (ب): ريحا.
(5) مرآة الزمان 1/ 310.(1/126)
الفصل العاشر في ذكر إسحاق عليه السلام
وهو اسم أعجمي (1) وإن وافق لفظ العربي. يقال: أسحقه الله إسحاقا.
وإسحاق بالعبرانية: الضاحك، وهو أصغر من إسماعيل بثلاث وعشرين سنة.
وكان أحسن وجها لأنه ورث الحسن عن أمه سارة.
ومن معجزاته أنه جاءه رجل من كفار قومه فقال: أرني معجزة حتى أومن بك. وكان عنده جلود يابسة قديمة فقال: إن كنت نبيا فانفخ في هذه الجلود حتى تحيا كما كانت [قديما] (2). فدعا الله تعالى فأجابه وأمر (3) بأن يملأ الجلود رملا ثم ينفخ فيها ففعل ذلك. فحييت بإذن الله تعالى.
وقيل: إنه الذبيح (4). وكان مذبحه في بيت إيليا ولما علمت سارة بذبح ولدها أخذها البطن من الجزع يومين وماتت في اليوم الثالث.
ولما بلغ عمر إسحاق ستين سنة حملت زوجته رفقا بنت تنويل (5) بغلامين في بطن واحد. فلما أرادت وضعهما اقتتل (6) الغلامان في بطنها، فأراد يعقوب أن
__________
(1) المعارف 16، تاريخ الطبري 1/ 316، مروج الذهب 1/ 33، تاريخ ابن الأثير 1/ 71، الأنس الجليل 1/ 66، البداية والنهاية 1/ 160، 193، تاريخ الخميس 1/ 130، نهاية الأرب 13/ 129، عرائس المجالس 88، قصص الأنبياء 146، 196، المستدرك 2/ 556، ومرآة الزمان 1/ 313.
(2) الاستدراك من (ب).
(3) في (ج): وأمره.
(4) انظر ما مرّ في الفصل السابق.
(5) في (أ): بنويل.
(6) في (أ) و (ج): اقتتلا.(1/127)
يخرج قبل العيص فقال له العيص: والله إن (1) خرجت قبلي لأتعرضن في بطن أمي فأقتلها.
قال: فتأخر يعقوب كرامة لأمه وخرج العيص قبله. فسمي عيصا لأنه عصى وسمي يعقوب لأنه خرج عقيب العيص. وكان يعقوب أكبرهما في البطن ولكن خرج العيص قبله.
وكانا قد ولدا (2) في زمن إبراهيم عليه السلام فنشأ يعقوب بالرحمة واللين، فصار صاحب زرع وماشية. ونشأ العيص بالغلظة والفظاظة، فكان صاحب صيد وقنص.
وكانت الأم تميل ليعقوب عليه السلام لكثرة برّه لها. ثم / إن الله تعالى امتحن إسحاق بذهاب بصره فأظهر الصبر والتسليم فدعا يعقوب عليه السلام بالنبوة والرياسة على إخوته، ودعا للعيص بالملك وبقاء النسل، وأن يجعل ذريته عدد التراب، وأن لا يملكهم أحد غيرهم (3). فهو أبو الروم كلهم، فكل ما كان من بني الأصفر فهو من ولده، وصارت الملوك في ولده وهم اليونان.
وعاش إسحاق ماية وثمانين سنة.
وكانت وفاته في السنة التي استوزر [بها] يوسف عليه السلام (4) بمصر، ودفن عند أبيه إبراهيم عليه السلام.
__________
(1) في (ب): والله لئن خرجت قبلي.
(2) في (ب): وكان قد ولد.
(3) في (ب): أحدا.
(4) في (أ) و (ج): كانت وفاته في السنة التي استوزر يوسف عليه السلام. بسقوط كلمة بها.(1/128)
الفصل الحادي عشر في ذكر يعقوب عليه السلام
كان رجلا (1) أزعر، [أي قليل الشعر] (2)، ثخينا، رزينا. وهو أبو الأسباط ونبىء في زمن إبراهيم عليه السلام.
ومن معجزاته: أن أرض كنعان كانت بين جبلين في موضع ضيق فسأله قومه أن ينقل الجبال من تلك الأماكن فدعا الله تعالى (3)، فأجابه وأمره بأن (4) يشير بيده إلى الجبال فانقلعت الجبال من أماكنها (5) فسارت إلى أرض بعيدة فصارت أراضيهم واسعة.
ومنها: أن ابنه يهودا حين قاتل العماليق انكسر رمحه، فصاح بأعلى صوته إلى أبيه فقال: يا أبت انكسر رمحي، فسمع صوته يعقوب عليه السلام (6) من سبعين فرسخا. فصعد يعقوب السطح ورمى برمح إليه (7) فأخذه فقاتل به.
__________
(1) المعارف 18، تاريخ الطبري 1/ 330، الكامل 1/ 72، نهاية الأرب 13/ 129، الأنس الجليل 1/ 65، تاريخ الخميس 1/ 130، البداية والنهاية 1/ 194، عرائس المجالس 88، قصص الأنبياء 196، المستدرك 2/ 569، ومرآة الزمان 1/ 315.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ب).
(3) في (ب): فدعا الحق تعالى.
(4) في (ب): وأمره أن يشير.
(5) في (ب): فانقلعت من أماكنها. بسقوط كلمة (الجبال).
(6) في (ب): فسمع يعقوب عليه السلام صوته.
(7) في (ب): رمح.(1/129)
قال الكسائي (1): بعث الله تعالى (2) يعقوب نبيا إلى أهل كنعان وكان ملكهم يومئذ سلجم من ولد دارا، فلما نزل يعقوب عليه السلام بأرض كنعان وبنى بها دارا واسعة يومئذ (3) نزل بها هو وأولاده، قيل هي مدينة نابلس وهناك مرعاه، فبلغ الملك ذلك فخرج بجميع جنده يريد إهلاك يعقوب فلما بلغ إلى مكان يعقوب نظر إلى دار وهنة (4) فندم على المجيء إلى هناك واجتمع مع يعقوب وجلس بين يديه وقال له: من أنت؟ وكيف نزلت في هذا المكان بغير إذني؟
فقال: أنا يعقوب بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله، ونزلت في هذا المكان بإذن الله تعالى، وإني بعثت لأدعوك وقومك إلى الإيمان بالله تعالى والإقرار بأني عبده، فإن أجبت وإلا جاهدتك في الله حق جهاده. فغضب الملك وقال له: تجاهدني وليس معك جند؟ فنظر يعقوب إلى أولاده العشر وكانوا قياما على رأسه فقال: أجاهدك بالله وملائكته وهؤلاء الأولاد. فغضب الملك وانصرف / إلى حصنه وأخذ يعقوب يدعوهم إلى دين الإسلام، فلم يقبلوا ولم يؤمنوا فأمر أولاده بالجهاد فقال شمعون: يا نبي الله أنا أكفيك أمر هذا الحصن فأذن له. فوقف على باب الحصن وقال: اللهم افتح لنا وأنت خير الفاتحين، بسم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وضرب برجله اليمنى باب الحصن فتدكدك الحصن وسقطت حيطانه ومات أكثر من فيه من الخوف (5) ودخل يعقوب إلى الحصن وأولاده وانهزم الملك (6) وغالب جنوده وغنموا كل ما فيه.
__________
(1) كتاب الكسائي، ذكره النويري في نهاية الأرب 13/ 40، باسم كتاب (المبتدأ). وفي دار الكتب المصرية نسختان: إحداهما بعنوان (كتاب العرائس وقصص الأنبياء) والأخرى بعنوان (قصص الأنبياء) ونشر في ليدن.
والخبر مختصرا في نهاية الأرب 13/ 130129عن الكسائي، وفيه اسم الملك (سحيم).
(2) في (ب): بعث الله يعقوب.
(3) (يومئذ) في (أ) وحدها.
(4) في (أ): دؤر، وهي جمع دار.
(5) في (ب): بالخوف.
(6) في (ب): وأهزم الله الملك.(1/130)
قال في «العرائس» (1): إن جبريل عليه السلام (2) نزل لإسحاق عليه السلام وقال: إن الله تعالى قد رأى صبرك وقد عوضك من بصرك دعوة مستجابة في أعر ولدك فادع له بما شئت، فكان يحب أن يدعو للعيص، فسبقت السعادة (3)
في القدم ليعقوب عليه السلام، فدعا له فنبىء. فصار العيص يبتغي لأخيه المكائد وينصب له المصائد، فخافت الأم عليه وأمرت يعقوب أن يسير إلى خاله بفلسطين. فخرج يعقوب يسير بالليل ويكمن بالنهار فسمي لذلك (4) اسرائيل الله. فبينما هو يسير أدركه الليل في بعض الطريق، فبات متوسدا حجرا، فرأى فيما يرى النائم أن سلما منصوبا إلى باب من أبواب السماء عند رأسه، والملائكة تنزل منه وتعرج فيه. وأوحى الله إليه: إني أنا الله لا إله إلا أنا إلهك وإله آبائك وقد أورثتك هذه الأرض المقدسة ولذريتك من بعدك وباركت فيك وفيهم وجعلت فيكم الكتاب والحكم والنبوة. فسار إلى خاله ليا بن تنويل، وكانت له ابنتان (5)
لايا وراحيل فتزوجهما، وكان الناس يومئذ يجمعون بين الأختين إلى أن بعث الله موسى عليه السلام (6) وأنزل عليه التوراة. وكان يعقوب / بينهما في غبطة وسرور وكان لهما جاريتان أختان، فوهبته كل واحدة منهما جاريتها، فجمع بين أختين حرتين وأختين أمتين، فولد له من لايا أربعة من الأسباط وهم: روبيل، ويهودا، وشمعون، ولاوي. وولد له من راحيل: يوسف وأخوه بنيامين، وأخوات لهما.
وماتت راحيل من نفاس بنيامين، ودفنت خارج بيت المقدس على الشارع الذي بقرب بيت لحم.
وولدت كل واحدة من الجاريتين ثلاثة رهط من الأسباط هم: يساخار (7)
__________
(1) القصة في عرائس المجالس 8988.
(2) في (أ) و (ج): ان جبريل نزل.
(3) في (ب): السعاة.
(4) في (ب): فلذلك سمي.
(5) في (ب): ابنتان.
(6) في (أ) و (ج): بعث الله موسى وأنزل عليه التوراة.
(7) في (ب): يساخر.(1/131)
وزبولون، ودان، ونفتال (1)، وكال (2)، واشار (3). وسموا بالأسباط لأن كل واحد منهم ولد له قبيلة. والسبط في كلام العرب الشجرة الملتفة الكثيره الأغصان (4). ثم اشتاق يعقوب لرؤية أمه، وسار بأهله وأولاده، وهم اثنا عشر ذكرا، إلى أرض كنعان. وكان أخوه العيص رجلا طويلا أشقر أشعر الجلد، ذا سلاح وقوة، وقد كان سمع بوصول أخيه فاستقبله فتلاقيا وتعانقا.
وكان ليعقوب مواش كثيرة فأعطى العشر من غنمه لأخيه (5) استكفاء للشر، فبقيا برهة من الدهر حتى ترك العيص له البلاد، وانتقل إلى بلاد الروم فاستوطنها، فهو أبو الروم، وكل بني الأصفر من أولاده.
قال السّدي: لما خاف يعقوب من أخيه العيص وأعطاه من غنمه خمسماية وخمسين دفعا لشره، وكان الله تعالى أوحى إلى يعقوب لا تخف من العيص فإني أحفظك منه كما حفظت أباك، فلما صانعه أوحى الله إليه (6): صانعت بالغنم ولم تطمئن إلى قولي، وعزتي وجلالي، لأملكن ولد العيص من ولدك عدد ما صانعت. فملكت الروم، وهم ولد العيص، هذا المقدار فأول ملكهم إياهم خراب بيت المقدس، أخربوه واستعبدوا بني إسرائيل إلى زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان خمسماية وخمسين سنة (7).
ولقد قيل: إن يعقوب والعيص ماتا في يوم واحد. وقيل: عاش يعقوب عليه السلام في ارض مصر بعد أن اجتمع بولده يوسف سبع عشرة سنة، وكان
__________
(1) في (ج): ونفتالي.
(2) في (أ): وكاد.
(3) في (ج): وأشر.
(4) في (ب): الشجرة الكبيرة الملتفة الأغصان.
(5) في (ب): فأعطاه العشر من غنمه.
(6) في (ب): وكان الله تعالى قد أوحى إليه، والجملة: (لا تخف من العيص) ساقطة من (ب).
(7) الخبر عن السدي في مرآة الزمان 1/ 316.(1/132)
عمره ماية وسبعا وأربعين سنة. وتوفي (1) بمصر وحمله ابنه يوسف ودفنه عند قبر أبيه إبراهيم عليه السلام.
وذكر أهل التاريخ أن الأنبياء كلهم من أولاد يعقوب إلا أحد عشر نبيا وهم:
هود، وصالح، ولوط، وأيوب، وشعيب، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد عليهم الصلاة والسلام (2).
__________
(1) في (أ): توفي، بسقوط واو العطف.
(2) في (ج): ومحمد صلى الله عليه وسلم.(1/133)
الفصل الثاني عشر في ذكر يوسف الصديق عليه السلام
سماه رسول (1) الله صلّى الله عليه وسلّم الكريم ابن الكريم [ابن الكريم] (2) فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وكان أبيض اللون، حسن الوجه، جعد الشعر، فحم العين، مستوي الخلق، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، أقنى الأنف، صغير السرة. وكان بخده الأيمن خال أسود. وكان بين عينيه شامة بيضاء كأنها البدر ليلة تمامه. وكانت أهداب عينيه شبه قوادم النسور. وكان إذا تبسم يرى النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع النور من بين ثناياه. ولا يقدر أحد من بني آدم على وصف يوسف عليه السلام لأن الله تعالى [أعطاه ثلث الجمال وقسم بين العباد الثلثين وقيل:] (3) أعطي ليوسف عليه السلام تسعة أجزاء الحسن، وواحد للناس. وكان يأكل الفواكه والبقول الخضر، فترى خضرتها حين يزدردها في حلقه وصدره حتى تصل إلى بطنه. وكان إذا مشى في أزقة مصر يتلألأ نور وجهه على الجدران، ويدخل الضوء من الطاقات (4) كما ترى الشمس والماء على الجدران.
__________
(1) المعارف 19، تاريخ الطبري 1/ 330، ابن الأثير 1/ 78، البداية والنهاية 1/ 197، نهاية الأرب 13/ 130، الأنس الجليل 1/ 66، تاريخ الخميس 1/ 121، عرائس المجالس 94، قصص الأنبياء 202، المستدرك 2/ 570، ومرآة الزمان 1/ 339.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
والخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المستدرك 2/ 570.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من (ب).
والقول في عرائس المجالس 96منسوب لوهب بن منبه، وفي المرآة 1/ 345منسوب لكعب الأحبار.
(4) في (أ): من الطيقان.(1/134)
وأما معجزاته في تعبير الرؤيا فمشهورة، وأنه جاءه إبنا أميرين ضيفا، فدعاهما إلى الإسلام فقالا: لا نؤمن حتى تخضّر هذه الشجرة. فدعا (1) يوسف عليه السلام فاخضرت الشجرة من ساعتها.
وأتوه بولد من أولاد كبرائهم وكان أعمى فقالوا له: إن أبصر هذا الولد لنؤمنن بك، فدعا الله تعالى فأجابه فزال عماه بإذن الله [تعالى] (2).
واختلف في معنى يوسف فقالوا: هو اسم عبراني، وقيل: يوسف، الأسف. وفي اللغة (3): الحزن، والأسف العبد واجتمعا فيه (4) وولد يوسف / لما كان ليعقوب من العمر إحدى وتسعون سنة وكان سنه في الوقت الذي رأى الرؤيا (5) سبع سنين وكان منزلهم بالتريات من أرض فلسطين بغور الشام وكانوا أهل بادية ومواشي. وكان يعقوب يؤثر يوسف بزيادة المحبة على إخوته، وكان (6)
إخوته يحسدونه على ذلك. فلما بلغهم الرؤيا تزايد حسدهم وأرادوا قتله فكان منهم [ما ذكره الله تعالى] (7) بقوله: {فَلَمََّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيََابَتِ الْجُبِّ} (8) قيل هو بئر على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. قيل: أوحي إليه في الصغر كما أوحي إلى يحيى عليه السلام وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، وكان الوحي قوله تعالى: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هََذََا وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} (9).
وكان من دعائه حين ألقوه في الجب مما لقّنه جبريل عليه السلام حين هبط
__________
(1) في (أ): دعا.
(2) في (أ): فزال عماه بإذن الله. وفي (ب): فأزال الله تعالى عماه.
(3) في (ب): في اللغة، بسقوط واو العطف.
(4) في (ب): واجتمعا في يوسف وانظر مرآة الزمان 1/ 316وفيه: الأسيف: العيد.
(5) في (ب): الذي رأى الرؤيا فيه.
(6) في (أ) و (ج): وكانت اخوته، وفي (ب): وكانوا أخوته.
(7) ما بين الحاصرتين ليس في (أ). وفي (ب): فكان منهم ما ذكره الله تعالى، بسقوط كلمة (بقوله).
(8) سورة يوسف، الآية: 15.
(9) سورة يوسف، الآية: 15.(1/135)
إليه وأجلسه على الصخرة سالما لم يضره شيء على ما حكاه الثعلبي (1): اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، يا عالم كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا حاضر كل ملأ، يا حي، يا قيوم، أسألك أن تقذف رجاك في قلبي حتى لا يكون لي شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير.
وأقام في الجب ثلاثة أيام، فمرت به السيارة، فأخرجته من الجب، وأخذوه معهم وجاء يهودا إلى الجب بطعام ليوسف (2)، فلم يجده ورآه عند تلك السيارة وأخبر يهودا إخوته بذلك فأتوا إلى السيارة وقالوا: هذا عبدنا أبق منا. وخافهم يوسف فلم يذكر حاله، فاشتروه من إخوته بثمن بخس قيل: عشرون درهما، وقيل: أربعون، وذهبوا به إلى مصر فباعه استاذه، فاشتراه الذي على خزائن مصر واسمه قطفير. وكان فرعون مصر حينئذ الريان بن الوليد، رجلا من العماليق من ولد عملاق بن سام بن نوح.
قال وهب بن منبه: ترافع الناس / في ثمنه حتى بلغ ثمنه زنته ذهبا وزنته فضة (3) وزنته مسكا وحريرا. وكان وزنه أربعماية رطل.
ولما اشترى العزيز يوسف هويته امرأته زليخا وراودته عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت: {هَيْتَ لَكَ}. وفي معناه سبعة أقوال أصحها ما قاله الكسائي: هي لغة لأهل حوران معناها بالقبطية هلم. فأبى يوسف وهرب منها ولحقته من خلفه، فتشبثت بثوبه فأخرقته، وصادفها زوجها قطفير (4) عند الباب ففزعت منه ف {قََالَتْ مََا جَزََاءُ مَنْ أَرََادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} يعني الزنا ثم خافت على يوسف أن يقتل فقالت: {إِلََّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} أي ضرب بالسياط. فلما سمع يوسف كلامها {قََالَ هِيَ}
__________
(1) في عرائس المجالس 100وفي مرآة الزمان 1/ 344ولكنه على اختلاف كبير مما أورده المصنف.
(2) في (ب): فجاء يهودا بطعام ليوسف إلى الجب.
(3) (وزنته فضة) ساقطة من (ب).
(4) في (أ): وصادفهما زوجها قطفر. وفي (ب): وصادفها زوجها.(1/136)
{رََاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} (1) فجعل ينظر العزيز مرة إلى يوسف ومرة إليها (2) متعجبا متحيرا وكان في المهد صبي عمره سبعة أيام فنادى بأعلى صوته بلسان بين كما أخبر الله تعالى عنه: {إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} (3) الآية فلما ظهر له براءة يوسف وخيانتها قال: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (4). قال الزمخشري: ما كان العزيز إلا حليما وقيل: كان قليل الغيرة.
قال (5) الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره: وتربة إقليم مصر اقتضت قلة الغيرة.
فلما اشتهرت هذه القضية {قََالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرََاوِدُ فَتََاهََا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهََا حُبًّا} وهو لا يرضى بها ولا يميل إليها {إِنََّا لَنَرََاهََا فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (6) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ [مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وََاحِدَةٍ مِنْهُنَ] سِكِّيناً} (7) وأترجا وقالت: بحقي عليكن إلا ما أطعمتن يوسف إذا مر بكن الساعة؟ فقلن: سمعا وطاعة. ثم إنها زينت يوسف بأوفى زينة وقالت:
{اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمََّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} في أعينهن. وقال ابن عباس: آمنين وآمدين من الدهش وقيل حضن وقطعن أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن ألما لاشتغال قلوبهن بحسنه.
قال وهب: كن أربعين امرأة فمات منهن تسع وجدا به وكمدا عليه، {وَقُلْنَ}
__________
(1) سورة يوسف، الآيات: 23، 2625.
(2) في (ب): فجعل العزيز ينظر إلى زليخا مرة وإلى يوسف مرة.
(3) سورة يوسف، الآية: 26.
(4) سورة يوسف، الآية: 28.
(5) في (ب): وقال.
(6) سورة يوسف، الآية: 30.
وهذا القسم من الآية ليس في (ب).
(7) سورة يوسف، الآية: 31.
وما بين الحاصرتين ليس في (أ)، وفي (ب): واعتدت لهن متكأ وأترجا.(1/137)
{حََاشَ لِلََّهِ مََا هََذََا / بَشَراً إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (1) نزل علينا من السماء، فلما رأت زليخا حال النسوة قالت: {فَذََلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (2) أي في حبه، ثم بعد ذلك ما زالت تشكو إلى زوجها وتقول قد فضحني بين الناس وهو يقول: أنت راودته (3) عن نفسه، فحبسه زوجها، ودام في الحبس سبع سنين.
ثم أخرجه فرعون مصر بسبب تعبيره الرؤيا التي رآها وألبسه خاتمه وقلده سيفه، وفوّض إليه الأمر جميعه.
ثم لما مات العزيز استوزره مكانه، وتزوج يوسف امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها (4) الصدّيق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء في دنيا واسعة، وكان زوجي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وجمالك فغلبتني نفسي. ولما دخل بها وجدها عذراء، فولدت له ولدين: أحدهما أفرائيم والآخر ميشا، وابنة (5) يقال لها: رحمة، وهي زوجة أيوب عليه السلام. روي أنه أحبها أضعاف ما كانت تحبه في أول مرة، وهي لا تلتفت إليه كما كانت فقال لها: ما شأنك لا تحبينني كما كنت [تحبينني] (6) أول مرة؟ فقالت له: لما ذقت محبة الله [تعالى] (7) شغلتني عن كل شيء سواه.
وكانت قد أسلمت على يديه هي والملك ريان وخلق كثير، فعدل يوسف عليه السلام في الأحكام وأحبه الخاص والعام، ودبر أمورهم في السنين المخصبة حتى دخلت السنين (8) المجدبة.
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 31.
(2) سورة يوسف، الآية: 32.
(3) في (أ): انني راودته، وفي (ب) و (ج): انت راودتيه.
(4) في (ب): يا أيها الصديق.
(5) في (ب): وابنته.
(6) ما بين الحاصرتين ليس في (أ) و (ب).
(7) ما بين الحاصرتين من (ج).
(8) في (ج): السنون.(1/138)
وكان القحط قد نزل بأرض يعقوب، فلما سمع إخوته (1) بإعطائه الميرة بمصر استأذنوا أباهم، فأرسلهم يعقوب عليه السلام فحين دخلوا على يوسف عرفهم {وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}، (2) لأنه كان بين رميهم له في الجب (3) وبين قدومهم سبعون سنة، وقيل: ثمانون سنة. فلما عرفوه استحيوا منه واعتذروا إليه مما وقع منهم في حقه فقال: {لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ / وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ} (4) ثم قال لهم: ما حال أبي بعدي؟ قالوا ذهبت عيناه من البكاء فقال: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هََذََا فَأَلْقُوهُ عَلى ََ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (5). فقال يهودا: أنا ذهبت إليه بالقميص ملطخا بالدم وأنا أذهب بالقميص فأخبره أنه حي، فأفرحه كما أحزنته. فسار ثمانين فرسخا في سبعة أيام، فلما فارق عريش مصر قال أبوهم لولد ولده: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلََا أَنْ تُفَنِّدُونِ} (6).
وفي الخبر أن الريح استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف فأذن لها فأتته.
ذكر الواحدي في «تفسيره الوسيط»: أن الريح التي أتت بريح يوسف إلى يعقوب عليه السلام هي ريح الصبا قال: ولذلك ترى العشاق يكثرون من ذكرها في أشعارهم الغرامية.
ويروى أن يعقوب سأل البشير: كيف تركت يوسف؟ فقال: ملك مصر، قال يعقوب: ما أصنع بالملك! على أي دين تركته؟ (7) قال: على دين الإسلام.
__________
(1) في (ب): فلما سمعت اخوته.
(2) سورة يوسف، الآية: 58.
(3) في (ب): كان بين رميهم في الجب، بسقوط كلمة له.
(4) سورة يوسف، الآية: 92.
(5) سورة يوسف، الآية: 93.
(6) سورة يوسف، الآية: 94.
(7) في (أ): ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركت؟ وفي (ب): ما أصنع بملك مصر؟(1/139)
قال: الآن تمت النعمة ما لي ما أكافيك به على بشارتك إلا الدعاء: هون الله عليك سكرات الموت ولا جعل لك إلى بخيل حاجة. فلما ألقى القميص على وجهه ارتد بصيرا بعدما كان أعمى، وقويا بعد أن كان ضعيفا. فلما دنا يعقوب من مصر، خرج يوسف والملك في أربعمائة ألف من الجند، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ترجل يوسف فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان، وعانق كل واحد صاحبه، وبكى يعقوب ويوسف فقال يوسف: يا أبت، بكيت حتى ذهب بصرك، أما تعلم أن القيامة تجمعنا (1)؟ قال: بلى، ولكن خفت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك.
وقال وهب بن منبه: دخل يعقوب إلى مصر وولده وهم اثنان وسبعون إنسانا من رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى وهم ستمائة ألف وخمسماية وبضع وسبعون رجلا سوى الذرية والعواجز والهرمى والزمنى، وكانت / الذرية ألف ألف ومائتي ألف (2).
ويقال إن السبب في استرقاق يوسف وبيعهم إياه، أن إبراهيم عليه السلام دخل مصر في بعض الأزمنة، فلما خرج منها شيعه زهادهم وعبادهم حفاة مشاة إلى أربع فراسخ، تعظيما له وإجلالا ولم يترجل لهم إبراهيم عليه السلام. فأوحى الله إليه: إنك لن تنزل لعبادي وهم يمشون معك، لأعاقبنك بأن يباع ولد من أولادك في هذه المدينة.
ويروى أنه أتاه ملك الموت يوما ليزوره فقال له: يا ملك الموت، ناشدتك الله هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا. قال: أجئتني زائرا أم قابضا؟ فقال له: يا نبي الله، جئتك زائرا، فإن الله (3) تبارك وتعالى لا يميتك حتى يجمع بينك وبين يوسف ولو كان في الصخرة التي عليها (4) قرار الأرض، وإن شئت أعلمتك لماذا
__________
(1) في (أ): مالي اكافيك به على بشارتك، وفي (ب): مالي ما اكافيك على بشارتك.
(2) الخبر في مرآة الزمان 1/ 373372
(3) في (ب): فالله وهذا الجزء من الخبر في المرآة 1/ 369.
(4) في (ب): الذي عليها.(1/140)
ابتليت بفقد ولدك؟ قال فاعلمني يا عزرائيل، قال: هل تذكر الجارية التي اشتريتها لرضاع يوسف وفرقت بينها وبين ولدها ليكثر الحليب لولدك؟ قال: نعم.
قال: فلذلك ابتليت بفقد ولدك.
وأقام يوسف مع إخوته وأبيه سبع عشرة سنة مجتمعين، ومات يعقوب بمصر، وسار به يوسف إلى بيت المقدس ودفنه عند أبيه كما تقدم.
ولما حضر يوسف الوفاة جمع إليه قومه من بني إسرائيل وهم ثمانون رجلا، فأعلمهم بنزول أمر الله، فقالوا (1): يا نبي الله إلى من يؤول (2) أمرنا من بعدك؟
فعين لهم مكانه يهودا وقال لهم: أمركم يستقيم على ما أنتم عليه إلى أن ينشأ رجل عات جبار من القبط يدعي الربوبية، وهو فرعون اللعين يقهركم ويذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم ويسومكم سوء العذاب، فتمتد أيامه، ثم يخرج من بني إسرائيل نبي من ولد أخي لاوي / اسمه موسى بن عمران عليه السلام فينجيكم الله على يديه. وكان ليوسف عليه السلام ديك وكان عمره خمسماية سنة فقال لهم يوسف: يستقيم أمركم ما دام هذا الديك يصرخ فيكم فحين يولد هذا الجبار يسكت ولا يصرخ [مدة ولايته] (3)، فإذا أذن الله تعالى بمولد هذا النبي عاد الديك إلى صراخه، فذلك علامة انقضاء مدة ذلك الجبار وظهور نبي الله في الأرض.
فما زالوا يراعون الحال إلى أن ظهر المآل وقبض الله تعالى يوسف (4) وله من العمر ماية وعشر سنين ولما أرادوا دفنه تشاجر أهل مصر في مكان القبر، فكل يحب أن يدفن في محلتهم، واجتمعوا وهموا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل، حيث ينفرق الماء لأهل مصر ليمر الماء عليه حتى يكونوا كلهم شركاء، ففعلوا ذلك وجعلوه في تابوت من الرخام، وشدوه بالرصاص وطلي بالأطلية الدافعة
__________
(1) في (ب): قالوا.
(2) في (أ): الام يؤول أمرنا.
(3) ليست في (أ).
(4) الفقرة من (ديك، وكان عمره) إلى هنا ساقطة من (ب).(1/141)
للهواء والماء، ووضع في وسط النيل نحو مدينة منف وهناك مسجد (1).
فلما سار موسى من مصر بعد غرق فرعون ببني إسرائيل إلى التيه، نبش يوسف وحمله معه في التيه حتى مات موسى، وحمله يوشع فدفنه بالقرب من نابلس، وقيل: عند قبر إبراهيم عليه السلام.
__________
(1) في (أ) و (ج): مسجد.(1/142)
الفصل الثالث عشر في ذكر موسى بن ميشا عليه السلام
وهو موسى بن ميشا بن يوسف الصديق عليه السلام (1)، غير موسى بن عمران.
وذلك لما توفي يعقوب ويوسف عليهما السلام، بقي الأمر إلى الأسباط فكثروا ونموا، وظهر منهم (2) ملوك وغيروا السنن وأفسدوا (3) في الأرض، وفشا فيهم السحر والكهانة، فبعث الله تعالى إليهم موسى بن ميشا رسولا (4)، يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وأداء أمره وإقامة سنته، وذلك قبل مولد موسى بن عمران بمائتي سنة. فأطاعه قوم منهم وعصا آخرون. /
وزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر، والعامة من العلماء: أن صاحب الخضر موسى بن عمران.
فلبث في بني إسرائيل ما شاء الله تعالى أن يقيم، ثم مات، على ما ذكره أصحاب التواريخ (5).
__________
(1) تاريخ الطبري 1/ 364 (وفيه: موسى بن منشا)، ومروج الذهب 1/ 35، والمستدرك 2/ 573، وعرائس المجالس 126.
(2) في (ب): وظهر فيهم.
(3) في (ب): وفسدوا.
(4) في (ب): رسول.
(5) ساقطة من (أ)، وفي (ب): التاريخ.(1/143)
الفصل الرابع عشر في ذكر أيوب عليه السلام
كان رجلا طويلا (1)، عظيم الرأس، جعد الشعر، حسن العينين والجبين، قصير العنق، غليظ الساقين والساعدين. وكان مكتوبا على جبهته: «المبتلى الصابر».
وهو أيوب بن أموص بن رزاح (2) بن روم بن العيص بن إسحاق عليه السلام. وكانت أمه بنت لوط عليه السلام، وأبوه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام (3)، وتزوج برحمة بنت أفرائيم بن يوسف عليه السلام (4). وكانت رحمة من أشبه الناس بجدها يوسف، فرزقه الله عزوجل منها اثني عشر بطنا، في كل بطن ذكر وأنثى.
وكان الله تعالى قد اصطفاه وحباه وبسط عليه الدنيا، وكان غنيا كثير الضيافة، وله أصناف من الأموال: الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير.
وكان له خمسماية فدان يتبعها خمسماية عبد، لكل عبد امرأة ومال وولد. وكان يكفل الأرامل واليتامى، وما كان يشبع حتى يشبع الجائع.
ومن معجزاته: أنه دعا أمير بلده إلى الإسلام فقال: أريد أن تقيم سقف
__________
(1) المعارف 19، وتاريخ الطبري 1/ 322، ومروج الذهب 1/ 35، وتاريخ ابن الاثير 1/ 73، ونهاية الأرب 13/ 157، والأنس الجليل 1/ 72، والبداية والنهاية 1/ 220، وعرائس المجالس 135، وقصص الأنبياء 1/ 252، والمستدرك 2/ 580، ومرآة الزمان 1/ 376، وتهذيب تاريخ دمشق 3/ 193.
(2) في (ب): ابن تاروخ، وترجمته تتفق مع ما أورده صاحب عرائس المجالس.
(3) الجملة: «وكانت أمه» ساقطة من (ب).
(4) كذا وورد في الصفحة 105أن رحمة هي بنت يوسف عليه السلام.(1/144)
داري بلا جدار، فدعا الله تعالى فأجابه، وسقطت الحيطان إلى الأرض، وبقي سقف الدار قائما (1) بغير عمد، فأسلم كل من كان في تلك الدار.
وكان في أرض قريبة منه ترابا، فسألوه بأن يكون التراب ماء سرابا (2) فسأل الله تعالى فأجابه فصار التراب ماء.
وبعثه الله إلى أهل البثنية من الجولان من بلاد دمشق والجابية. وكان (3) كثير المال والولد فابتلاه الله تعالى في ماله وولده ونفسه حتى نحل جسمه.
وسبب ابتلائه أن إبليس اللعين حسده وقال: يا إلهي لو سلطتني عليه لكفر بك وأطاعني. فسلطه عليه ليظهر صبره وكذب إبليس.
ثم إن إبليس فرق عفاريته في المال فأفناه، فلما رآه (4) لا يلتفت إلى المال سأل الله تعالى أن يسلطه على ولده فسلطه على ولده (5). فجاء إليهم وزلزل قصرهم، فوقعت الحيطان عليهم فقتلوا عن آخرهم. فلما بلغه ذلك فقال: [فصبر جميل] (6) فحينئذ سأل إبليس أن يسلطه على جسده وقال: / لا سلطان لك على قلبه ولسانه وعقله. فأتاه وهو ساجد فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده، ووقعت فيه حكة. قال الكسائي (7): صار جميع بدنه كالجدري، وورم واسود وامتلأ قيحا، ووقع فيه الدود، وسال منه الصديد، ووقع فيه الحكاك. فجعل يحكه حتى سقطت أظافيره وتقطع لحمه وأنتن، فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا.
وفي «كشف الأسرار»: أنه سلط على بدنه اثني عشر ألف زوج من الدود، وأن
__________
(1) في (أ): قائمة وفي (ب): قائم.
(2) (سرابا) ليست في (ب) و (ج).
(3) من هنا بياض في (ب).
(4) في (أ): في ماله فأفناهم. وفي (ج): في المال فأفناه، فمذ رآه.
(5) (فسلطه على ولده) ليست في (ج).
(6) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(7) الخبر عن الكسائي نقله النويري في نهاية الأرب 13/ 159.(1/145)
الدود لما تناثرت منه صعدت إلى الشجر، فخرج من لعابها الإبريسم، فصار أفخر اللباس ببركة أيوب عليه السلام، فرفضه الناس غير امرأته رحمة، فكانت تخدمه.
وقد وقع به بلاء لو سلط على جبل لضعف عن حمله، حتى تقطعت أصابعه، وما يقدر أن يرفع اللقمة إلى فيه إلا برفع يديه (1) جميعا فما يبلغان فمه إلا بالجهد.
وتساقط لحم رأسه فكان ترى من وسط أذنه أذنه الأخرى (2) وأن دماغه سال من فمه، وتقطعت أمعاؤه فكان الطعام يخرج كما دخل (3). وذهبت قوة رجليه فما كان يطيق حملهما، ووقع (4) الدار على أولاده فماتوا بأجمعهم، وذهب ماله، وماتت ماشيته، فصار يسأل الناس فيطعمه من كان أجيرا عنده (5)، فصبر على جميع ذلك.
فلما أقال الله عثرته وكان نهار الجمعة، هبط عليه جبريل عليه السلام وقال:
أبشر يا أيوب، إن الله تعالى قد شفاك ووهب لك كل شيء فقد لك (6)، فركض برجله بأمر ربه، فانفجرت له عين ماء فدخل فيها واغتسل وشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، وكسي حلة فاخرة. والعين مشهورة ببلاد نوى والجولان، والحجر الذي كان يأوي إليه (7) في حال بلائه في ذلك المسجد وكان يقول:
اللهم إن كان هذا رضاك فشدده (8) وإن كان من سخطك / فاغفر.
وسبب سؤاله العافية أنه (9) كان له أخوان، فأتياه يوما فوجدا منه رائحة منكرة، فقالا: لو علم الله من هذا خيرا ما بلغ به هذا. فما سمع شيئا أشد عليه من
__________
(1) في (أ): الّا بيديه.
(2) في (ج): الأذن الأخرى.
(3) الجملة: (وتقطعت) ساقطة من (ب).
(4) في (ب): ووقعت.
(5) في (ب): يسأل بين الناس من كان أجيرا عنده فيطعمه.
(6) في (ب): ذهب لك، وفي (ج): ذهب منك.
(7) في (ب): والحجر الذي يأوي إليه.
(8) في (ج): إن كان هذا من رضائك فشدده.
(9) في (ب): ان كان له.(1/146)
ذلك، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة وأنا شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، وهما يسمعان، اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا وأنا أعلم مكان عار فصدقني. ثم سجد وقال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف ما به (1) وكان ذلك في ثامن من صفر.
فلما أذهب الله عنه البلاء، خرج من مكانه فجلس، وأقبلت امرأته فالتمسته في مضجعه فلم تجده، فقامت متفكرة كالوالهة (2) وهي تبكي، وذلك كله وأيوب يبصرها، فنظرت فإذا برجل فهابت أن تسأله، فانتهت إلى أيوب عليه السلام فقال لها: ما تريدين يا أمة الله؟ قال (3): فبكت ثم قالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان هاهنا؟ لعل الذئاب ذهبت به. فقال: ويحك أنا أيوب، فقالت: اتق الله ولا تسخر بي. فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، وما لي لا أعرفه؟ فتبسم وقال: أنا هو، فعرفته بمضحكه، فاعتنقته. قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (4): فو الذي نفسي بيده ما فارقته من عناقه حتى رد الله عليهما كل مال لهما وولدهما، فذلك قوله تعالى: {وَآتَيْنََاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} (5).
واختلفوا في مدة ابتلائه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لبث أيوب في بلائه ثماني عشرة سنة (6) وكان له أندران: أحدهما للقمح والآخر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين إحداهما أفرغت الذهب على أندر القمح وأفرغت الأخرى الورق على أندر الشعير.
__________
(1) (فكشف ما به) ليست في (ج).
(2) في (ب): مفتكرة كالولهة.
(3) (قال): ليست في (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ب).
(5) سورة الأنبياء، الآية: 84.
(6) في (ب) و (ج): ثمانية عشر سنة.
والخبر في نهاية الأرب 13/ 163، وفي المستدرك 2/ 581، وفيه: لبث أيوب في بلانه خمسة عشر سنة.(1/147)
وقيل: إن الله تعالى أمطر عليه جرادا من ذهب (1) وأحيا الله أولاده بأعيانهم وأتاه مثلهم وكان عمره ثلاثا / وسبعين سنة وقيل: خمسا وتسعين سنة وقيل:
مايتين (2) وعشرين سنة، ودفن في المكان الذي ابتلي فيه (3)، وقبره مشهور هناك يزار ويتبرك به [صلوات الله عليه] (4).
__________
(1) في (ب): من الذهب.
(2) في (ب): مائتي سنة وعشرين سنة، وفي (ج): مائتي وعشرين سنة.
(3) في (ب): ابتلاه الله فيه.
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/148)
الفصل الخامس عشر في ذكر ذي الكفل عليه السلام (1)
اسمه بشر بن أيوب عليه السلام (2)، بعثه الله تعالى بعد أبيه رسولا إلى أرض الروم، فآمنوا به وصدقوه. ثم إن الله تعالى أمرهم بالجهاد، فكفوا عن ذلك وضعفوا وقالوا: يا بشر، إنا قوم نحب الحياة ونكره الممات، ومع ذلك نكره أن نعصي الله ورسوله، فلو سألت الله تعالى أن يطيل أعمارنا ولا يميتنا إلا إذا شئنا، لنعبده ونجاهد أعداءه. فقال لهم بشر بن أيوب: لقد سألتموني شيئا عظيما، وكلفتموني شططا [جسيما] (3) ثم قام وصلى ودعا وقال: إلهي أمرتني بتبليغ الرسالة فبلغتها، وأمرتني أن أجاهد أعداءك، أنت تعلم أني لا أملك إلا نفسي، وأن قومي قد سألوني في ذلك (4) فيما أنت أعلم به مني فلا تؤاخذني بجريرة غيري (5). فأوحى الله تعالى إليه: يا بشر، إني سمعت مقالة قومك وإني قد أعطيتهم ما سألوني وطولت أعمارهم، فلا يموتون إلا إذا شاؤوا فكن كفيلا لهم بذلك. فبلغهم بشر رسالة الله تعالى وأخبرهم بما أوحي إليه وتكفل لهم كما أمره الله تعالى فسمي (6) ذا الكفل.
ثم إنهم توالدوا وتناسلوا وكثروا، حتى ضاقت عليهم بلادهم، وتنغصت
__________
(1) ورد العنوان في (ب): في ذكر ذي الكفل.
(2) المعارف 25، وتاريخ الطبري 1/ 325، وقصص الأنبياء لابن كثير 236، والمستدرك 2/ 582، ونهاية الأرب 13/ 264، والكامل في التاريخ 1/ 78، والبداية والنهاية 1/ 225.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(4) (في ذلك) ليست في (ب) و (ج).
(5) في (ب): (قومي).
(6) من: (وأخبرهم) إلى هنا ساقط من (ب).(1/149)
عليهم معيشتهم، وتأذوا بكثرتهم، فسألوا بشرا أن يدعو الله تعالى أن يردهم إلى آجالهم، فردهم إلى أعمارهم فماتوا بآجالهم. فلذلك كثرت الروم حتى يقال:
إن الدنيا دزهم، خمسة أسداسها الروم. وسموا روما لأنهم نسبوا إلى جدهم روم بن العيص بن إسحاق.
وكان بشر عليه السلام مقيما بالشام حتى مات، وكان عمره خمسا وسبعين سنة. وقبره في قرية كفل حارس من أعمال نابلس (1). /
__________
(1) تختلف المصادر اختلافا كبيرا في ايراد قصة ذي الكفل، وصاحب عرائس المجالس لا يذكر هذه القصة، وكذلك النويري.(1/150)
الفصل السادس عشر في ذكر [النبي] شعيب عليه السلام (1)
اختلف (2) العلماء في نسبه. قال ابن الجوزي (3): هو شعيب بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. وأمه مكيل بنت لوط عليه السلام (4)
ويقال له خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه.
بعثه الله تعالى إلى أهل مدين وأصحاب الأيكة، والأيكة الشجرة الملتفة.
وكان لسانه عربيا، وكان ضريرا ثم رد الله بصره في آخر عمره.
ومن معجزاته: أنه كان في أرض مدين رمل عظيم يقاسون منه عناء شديدا (5) فدعا الله تعالى (6) فأجابه وأمره بأن يشير إلى الرمل، فأشار إليه فانتقل منه الرمل (7) إلى مكان آخر.
وكان في أرضه حجارة كثيرة فانقلبت بدعائه نحاسا فصار قومه أغنياء بذلك النحاس.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب).
(2) تاريخ الطبري 1/ 325، ومروج الذهب 1/ 35، والكامل في التاريخ 1/ 88، ونهاية الأرب 13/ 167، والأنس الجليل 1/ 73، والبداية والنهاية 1/ 113، وتاريخ الخميس 1/ 134، والمستدرك 2/ 568، وعرائس المجالس 145، وقصص الأنبياء 1/ 181، ومرآة الزمان 1/ 385.
(3) في (ب): ابن الجوهري والخبر عن ابن الجوزي في المرآة 1/ 385وفيه: ابن عنفاء
(4) في (ب): مكيل ابنة لوط عليه السلام.
(5) في (ب): عناء، بسقوط كلمة شديدا.
(6) لفظ (تعالى) ليس في (ب) و (ج).
(7) في (ب): انتقل منه إلى مكان آخر.(1/151)
وكان شعيب [عليه السلام] (1) إذا أراد أن يصعد الجبل انخفض له الجبل (2) حتى يعلو عليه ثم يقوم الجبل (3) كأنه بعير برك، حتى علا عليه وكان كما كان (4).
وكان قوم شعيب كفارا، وكان أرضهم مدين، وهي ما بين أرض مصر وأرض الشام. وكان غالبهم تجارا عليهم ممر الناس من مصر إلى الشام، فقال لهم شعيب: {يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ وَلََا تَنْقُصُوا الْمِكْيََالَ وَالْمِيزََانَ} (5). وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطريق ويبيعون بالكيل والميزان الناقص.
وكانوا عشارين (6) يقطعون الطريق.
فلما طال تماديهم في الغي والكفر وأيس شعيب [عليه السلام] (7) من صلاحهم دعا عليهم فقال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنََا وَبَيْنَ قَوْمِنََا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفََاتِحِينَ} (8) فأجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم الله بالرجفة، وهي الزلزلة.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (9): إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم، فأرسل عليهم رمضا وحرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا في أجواف البيوت فلم ينفعهم ظل ولا ماء. وأنضجهم الحر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فأظلتهم ووجدوا لها بردا (10) وريحا طيبة. فلما اجتمعوا
__________
(1) في (أ): وكان شعيب لكي يصعد الجبل.
(2) في (ج): انخفض له حتى يصعد.
(3) في (أ): ثم قام الجبل.
(4) في (ب): كما كان.
(5) سورة هود، الآية: 84.
(6) في (ب): كانوا عشارون.
(7) ما بين الحاصرتين من (ب).
(8) سورة الأعراف، الآية: 89.
(9) الخبر عن ابن عباس في تاريخ الطبري 1/ 327.
(10) في (أ): سحابا فأظلتهم فوجدوا بردا.(1/152)
تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا وصاروا رمادا، وذلك قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذََابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} (1).
وقال أبو عبد الله البجلي (2): أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، أسماء ملوكهم.
وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب [عليه السلام] (3) كلمن / فقالت أخته وهي تبكي (4):
كلمن قد هدّ ركني ... هلكه وسط المحلّه
سيد القوم أتاه ال ... حتف نار وسط ظله
جعلت نارا عليهم ... دارهم كالمضمحله
وقد رثاهم المنتصر بن المنذر بشعر يقول (5):
ملوك بني حطي وسعفص ذو الندا ... وهوز أرباب المقام مع الحجر (6)
همو ملكوا أرض الحجاز بأوجه ... كمثل شعاع الشمس أو صورة البدر
وهم قطنوا البيت الحرام وزينوا ... قصورا وشادوا للمكارم والفخر (7)
ولهؤلاء الملوك أخبار عجيبة من حروب وسير تركناها طلب الاختصار.
ولما أصاب قوم شعيب ما أصاب لحق شعيب [عليه السلام] (8) والذين
__________
(1) سورة الشعراء، الآية: 189.
وفي (ج): وأخذهم.
(2) في (ب): الحلبي.
(3) من (ب).
(4) الأبيات في عرائس المجالس ومرآة الزمان.
(5) الجملة ساقطة من (ب)، والأبيات في مرآة الزمان 1/ 388وفي روايتها بعض الإختلاف.
(6) رواية عجز البيت الأول في (أ): وهوّز ارباب البيت والحجر. ولكن ناسخه قام بتصحيحه في الهامش.
(7) رواية عجز البيت الثالث في (ب): قصور وشادوا.
(8) من (ب) و (ج).(1/153)
آمنوا معه (1) مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا. وقيل: إن شعيبا [عليه السلام] (2)
توفي في قرية حطين من أعمال صفد وله قبر هناك (3) يزار ويتبرك به، وكان عمره ماية وأربعين سنة (4).
__________
(1) في (ب)، والذين معه، بسقوط لفظ (آمنوا).
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).
(3) (هناك) ليست في (ب).
(4) في (أ) و (ج): وكان عمره ماية وأربعون سنة.(1/154)
الفصل السابع عشر في ذكر الخضر عليه السلام (1)
واسمه إيليا (2) بن ملكان بن فالغ بن عابر بن [شالخ بن] (3) أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. وإنما لقب بالخضر لأنه حيث ما جلس اخضر حوله.
قيل: اسمه الخضر بن ميشا بن (4) أفرائيم بن يوسف الصديق عليه السلام.
قال ابن اسحاق: كان الخضر نبيا بعثه الله إلى بني إسرائيل بعد شعيب، وكان يتكلم على الغيب، وهو صاحب موسى عليه السلام.
وذكر المسعودي في كتابه «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان»: أن هذا الخضر ابن خالة الإسكندر، وكان على مقدمة عسكر ذي القرنين الأكبر الذي كان في أيام إبراهيم عليه السلام (5) وبلغ معه نهر الحياة فشرب منه وهو لا يعلم به فخلد، وهو حي إلى الآن وإلى يوم ينفخ في الصور، فهو نبي معمر محجوب عن الأبصار.
وروى محمد بن المتوكل (6) أن هذا الخضر من أولاد فارس، وإلياس من بني إسرائيل، وهما حيان يلتقيان في كل عام بالموسم، وأكلهما الكرفس / والكمأة، فإلياس في البر والخضر في البحر عليهما السلام.
__________
(1) في (ب): في الخضر عليه السلام.
(2) المعارف 19 (في ترجمة يوسف عليه السلام)، تاريخ الطبري 1/ 365، مروج الذهب 1/ 45، تاريخ ابن الأثير 1/ 90، الأنس الجليل 1/ 97، نهاية الأرب 13/ 240، تاريخ الخميس 1/ 106، البداية والنهاية 1/ 294، 325، عرائس المجالس 194، قصص الأنبياء 341، 385.
(3) ما بين الحاصرتين من (ج)، وهكذا أورد الطبري نسبه، وقال: اسمه يليا.
(4) الجملة التي أولها (ابن سام) إلى هنا ساقط من (ب).
(5) نقلها النويري في نهاية الأرب 3/ 244ولم يذكر أنه أخذها عن أخبار الزمان.
(6) في (ب): محمد المتوكل.(1/155)
الفصل الثامن عشر في ذكر موسى الكليم عليه أفضل الصلاة والتسليم (1)
[وما (2) حلّ لبلعام من الانتقام، وقصة قارون وما حاز من الفنون، وعوج بن عناق وما فيه من الخلاف (3) والشقاق]
كان موسى عليه السلام (4) رجلا طويلا أجعد الشعر آدم اللون. وكان بلسانه عقدة وثقل. وكانت فيه سرعة وعجلة.
وهو موسى بن عمران بن نصير بن قاهت (5) بن لاوي بن يعقوب عليه السلام. فلما أراد الله تعالى أن يفرج عن بني إسرائيل وينجيهم من فرعون وقومه بعث موسى عليه السلام.
وكان من أمره أنه لما ولدته أمه كان فرعون مصر يومئذ الوليد بن مصعب بن الريان (6) بن مروان بن عملاق بن لاور بن سام بن نوح عليه السلام [وقد] (7)
أمر بقتل الأطفال بسبب رؤيا رآها فهالته، فخافت عليه أمه وألقى الله تعالى في قلبها أن تلقيه في النيل، فجعلته في تابوت وألقته، فالتقطته آسية امرأة فرعون وربته فسمته موسى (8) لأنه وجد بين الماء والشجر، فإن الماء بلغتهم المو، وسا:
__________
(1) في (ب) عليه السلام.
(2) هذا الجزء من العنوان ساقط من (ج).
(3) (والخلاف) ليست في (أ).
(4) المعارف 20، تاريخ الطبري 1/ 385، ومروج الذهب 1/ 35، وتاريخ ابن الأثير 1/ 95، ونهاية الأرب 13/ 173، والأنس الجليل 1/ 74، والبداية والنهاية 1/ 237، وتاريخ الخميس 1/ 141، وصحيح البخاري 4/ 184، والمستدرك 2/ 573، ومرآة الزمان 1/ 390.
(5) بن نصير، ليست في (ج).
(6) في (ج): ابن مصعب الريان.
(7) ليست في (أ) و (ب).
(8) في (ب) و (ج): وسمته.(1/156)
الشجر (1)، فسمي بصفة المكان الذي وجد فيه.
فلما كبر [ومشى] (2) بلغ أشده، ورفع عن بني إسرائيل كثيرا من الظلم.
فبينما هو يمشي في بعض الأيام، إذ وجد إسرائيليا وقبطيا يختصمان، فوكز القبطي فقتله، ثم اشتهر ذلك، وخاف موسى من فرعون، فهرب من مصر إلى مدين، وبينهما مسيرة عشر ليال، واتصل بشعيب عليه السلام وزوجه ابنته صفورا، وأقام برعي غنم شعيب عشر سنين وأعطاه العصا وكانت (3) من آس الجنة على قول أكثر العلماء، وكان (4) طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام، وكان (5) حملها آدم عليه السلام لما أهبط (6) إلى الأرض واتصلت إلى شعيب (7).
وأما صفتها والمارب / التي فيها لموسى عليه السلام: كان لها شعبتان ومحجن في أصل الشعبتين وسنان حديد في أسفلها، وكان موسى عليه السلام إذا دخل مفازة ليلا ولم يكن قمر تضيء شعبتاها كالشمعتين، وإذا احتاج إلى الماء أدلاها (8) في البئر فجعلت تمتد على مقدار قعر البئر ويصير في رأسها المحجن شبه الدلو، وإذا جاع ضرب بها (9) الأرض. فيخرج له ما يأكل، وإذا اشتهى فاكهة غرسها في الأرض وأثمرت له من ساعته (10)، وإذا أراد عبور نهر أو بحر من
__________
(1) في (ب): الموسا، بسقوط واو العطف.
(2) الاستدراك من (ب).
(3) في (أ) و (ب): وكان العصا.
(4) في (أ) و (ب): وكانت.
(5) في (أ): كان، بسقوط واو العطف.
(6) في (أ): هبط.
(7) خبر عصا موسى (ع) في تاريخ ابن الأثير 1/ 24، وعرائس المجالس 7156، نهاية الأرب 13/ 186.
(8) في (ب): دلاها.
(9) في (أ): (به).
(10) في (ب): (فتثمر له من ساعته) وفي (ج): فتثمر له من ساعتها.(1/157)
غير سفينة، ضرب بها فتفرق الماء بإذن الله تعالى، وبدا له طريق متسع يمشي فيه (1) وكان يشرب أحيانا من احدى شعبتيها لبنا ومن الأخرى عسلا. وإذا أعيا في الطريق، ركبها فتحمله إلى أي موضع (2) شاء من غير ركض ولا تحريك رجل (3)، وكانت تدله على الطريق. وكان إذا احتاج إلى الطيب فاح منها الطيب فيطيب ثوبه. وأما إذا أراد قتل عدو (4) ألقاها، فيروى (5) أنها تنقلب حية [عظيمة] (6) كأعظم ما يكون من الثعابين، سوداء مدلهمة، تدب على أربع فوائم، تصير شعبتاها فمها فيه (7) اثنا عشر نابا وضرسا لها صريف يخرج منها لهيب النار، وعيناها تلمعان كالبرق ويلتهب من فيها ريح السموم ولا تصيب شيئا إلا أحرقته. تمر بالصخرة التي مثل الجبل فتبلعها حتى يرى (8) أن الصخور في جوفها تقعقع، وتمر بالشجرة العظيمة فتقصمها بأنيابها وتحطمها (9) وتبلعها وجعلت تتلمظ (10) كأنها تطلب شيئا تأكله.
رجعنا إلى القصة:
فلما سار موسى من مدين إلى مصر يريد إخراج أمه وأخيه، وكان في زمن الشتاء، أخطأ الطريق، وكانت امرأته حاملا فأخذها الطلق في ليلة مظلمة شاتية فأعيا، وأراد (11) أن يقدح فلم يظهر له نار ولا ضوء (12) / من العصا وأخذ يتأمل
__________
(1) (وبدا له طريق متسع يمشي فيه) ليست في (ب).
(2) في (ب): فتحمله إلى موضع.
(3) أرجل في (ب).
(4) في (أ): عدوه.
(5) في (ب) و (ج): فتروى.
(6) ليست في (أ) و (ج).
(7) في (ب): تصير شعبتاها فمها فيها.
(8) في (أ): حتى ان الصخور، وفي (ب): حتى انها ترى.
(9) في (ب): فتقضمها وتحطمها بأنيابها.
(10) في (ب): تتلمض.
(11) في (ب): فأراد.
(12) في (ب): نورا ولا ضوءا.(1/158)
فرفعت له نار من جانب الطور فقال لأهله امكثوا {اني آنست نارا لعلي سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون} [1]. فلما دنا منها رأى نورا ممتدا من السماء إلى شجرة عظيمة من العوسج وقيل من العناب [وقيل من العلقى] (2)
ليس لها دخان تلتهب وتشتعل (3) من جوف الشجرة الخضراء ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة. فتحير موسى وخاف وأراد أن يرجع فنودي منها {يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ} (4) فلما رأى تلك الهيبة (5) علم أنه ربه فخفق قلبه وكل لسانه ثم شد الله قلبه (6) ولما عاد عقله إليه نودي أن {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} (7).
[قيل:] (8) وكان السبب في خلع نعليه على ما رواه عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: كانت نعلاه من جلد حمار ميت غير مدبوغ (9).
ثم قال الله تعالى إيناسا له وتسكينا لقلبه: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ قََالَ هِيَ عَصََايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهََا} (10) الآية فقال الله [تعالى] (11): {أَلْقِهََا يََا مُوسى ََ فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ} (12) فولى مدبرا ولم يعقب فناداه ربه: {يََا مُوسى ََ أَقْبِلْ وَلََا}
__________
(1) سورة النمل، الآية: 7.
(2) ليست في (أ)، وفي (ج): وقيل من العلقي. وما أثبتناه من (ب) والمصادر وحسب التوراة فهي شجرة العوسج، وقال الطبري: انها شجرة العليق. (تاريخ 1/ 402)، وفي عرائس الثعلبي 258قيل العوسجة وقيل العناب.
(3) في (أ) و (ج): تلتهب وتشتعل وما أثبتناه من (ب).
(4) سورة القصص، الآية: 30.
(5) في (ب) و (ج): ولما رأى تلك الهيئة، وهو مطابق لما أورده الثعلبي 151.
(6) ساقطة من (ب) و (ج).
(7) سورة طه، الآية: 12.
(8) ساقطة من (أ).
(9) الخبر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أورده الثعلبي في العرائس 158.
(10) سورة طه، الآيتان: 1817.
(11) في (أ): فقال الله.
(12) سورة طه، الآيتان: 2019.(1/159)
{تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} (1) {خُذْهََا وَلََا تَخَفْ، سَنُعِيدُهََا سِيرَتَهَا الْأُولى ََ} (2)
أي نردها عصا كما كانت، {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (3) فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي نور تلتهب يكل عنه البصر ثم ردها فخرجت كما كانت فقال الله تعالى: {فَذََانِكَ بُرْهََانََانِ مِنْ رَبِّكَ} (4) ثم قال:
{اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ} إلى قوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يََا مُوسى ََ} (5).
ويقال: إن الله تعالى كلمه في تلك المدة بماية ألف وأربعة عشر ألف كلمة يقول له مع كل كلمة: وقتلت نفسا بغير حق (6).
وسئل موسى: من أين عرفت أن الذي يكلمك هو ربك تعالى؟ / فقال: لأن كلام المخلوق يسمع بحاسة واحدة وهي السمع، وإني كنت أسمع كلام الله من جميع الجهات بجوارحي كلها (7).
فلما أمر الله تعالى موسى عليه السلام بإبلاغ الرسالة ولم يمكنه الاجتماع مع أهله وكان قلبه مشتغلا بولده وأراد أن يراه، فأمر الله تعالى ملكا فمد يده وجاء به ملفقا في خرقة وناوله موسى (8) فأخذ حجرين وجعل يحك أحدهما
__________
(1) سورة القصص، الآية: 31.
وفي (ب): أقبل ولا تخف.
(2) سورة طه، الآية: 21.
(3) سورة النمل، الآية: 12.
(4) سورة القصص، الآية: 32.
(5) سورة طه، الآيات: 3624.
(6) عرائس الثعلبي 160.
(7) عرائس الثعلبي 160.
(8) في (ب): ملففا بخرقة وناوله موسى. وفي (ج): ملففا بخرقة وناوله لموسى. والخبر في عرائس الثعلبي 160.(1/160)
بالآخر (1) حتى حدده كالسّكين وختن به ابنه ثم عالج الملك المختون (2) حتى برىء من ساعته بإذن الله تعالى، ثم رده الملك إلى موضعه، وسار موسى.
ولم يزل أهل موسى مقيمين في ذلك الموضع لا يدرون ما فعل بموسى، حتى مر راع من أهل مدين فعرفهم واحتملهم وردهم إلى مدين، فكانوا عند شعيب حتى بلغهم خبر موسى عليه السلام بعدما أغرق الله فرعون، فبعث لهم شعيب إلى موسى. فلما قرب موسى من مصر أوحى الله تعالى إلى هارون أخيه يبشره بقدوم موسى (3) ويخبره أنه قد جعله وزيرا ورسولا معه إلى فرعون، وأمره أن يسير يوم السبت لعشر خلت من ذي الحجة (4) مبكرا إلى شاطىء البحر ليلتقي في تلك الساعة بموسى، فخرج هارون وأقبل موسى فالتقيا قبل طلوع الشمس (5).
قال السدي: بلغني أن موسى أتى مصر ليلا في دار أمه، واجتمع بأمه وأخيه هارون فقال (6) موسى لهارون: انطلق معي إلى فرعون فإن الله تعالى قد أرسلنا إليه. قال له هارون: سمعا (7) وطاعة لأمر الله تعالى (8). فانطلقا إليه ودعاه موسى فأجاب كما أخبر الله تعالى في القرآن وأراه موسى (9) عصاه ثعبانا فاغرا فاه بين لحييه (10) ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض قدر ميل، وقامت على ذنبها وأرادت
__________
(1) في (ب) و (ج): بالأخرى.
(2) في (ج): ثم عالج الملك الولد المختون. ويبدو أن كلمة الولد أضافها الناسخ، علما انه وضع إلى جانبها (صح). وفي عرائس الثعلبي: عالج المقطوع من المختون.
(3) بعدها في (ب): (بقدوم موسى من مضر)، وهو خطأ. وفي (ج): (بقدوم موسى إلى مضر).
(4) لعشرة ذي الحجة في (أ) و (ب).
(5) عرائس الثعلبي 160.
(6) في (أ) و (ب): قال.
(7) في (ب) و (ج): قال هارون.
(8) الخبر عن السدي في تاريخ الطبري 1/ 403.
(9) في (ب): كما أخبره الله تعالى، وأري موسى. وفي (ج): كما أخبر الله تعالى.
(10) في (أ): بين لحييها.(1/161)
أن تبلع القصر مع ما فيه حتى خاف منه فرعون (1)، فأحدث في ثيابه، ثم أدخل [موسى يده] (2) في جيبه وأخرجها وهي / بيضاء لها نور تكل منه (3) الأبصار فلم يستطع فرعون النظر إليها ثم ردها إلى جيبه وكان من أمرهما مع فرعون ما ذكره الله تعالى في كتابه.
ثم احضر لهما السحرة من مدائن الصعيد وكانت سبع مدائن وعدتهم سبعون ألفا، وكان (4) اجتماعهم بالاسكندرية، وجاءوا بسحر عظيم. فحين ألقى موسى عصاه سدت الأرض من عظمها وبلغ ذنبها من وراء البحيرة فابتلعت (5) جميع ما ألقوا وقصدت القوم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفا، فآمن به السحرة فقتلهم فرعون عن آخرهم. ثم أراهم الآيات من القمل والضفادع وصيرورة الماء دما فلم يؤمنوا (6).
ولما (7) آمنت السحرة ورجع فرعون وقومه مغلوبا، دعا عليهم موسى عليه السلام فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وأول ما أرسل عليهم السماء بالمطر فامتلأت بيوت القبط حتى تاهوا في الماء فمن جلس منهم غرق مع أن بيوتهم مختلطة، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة فتضرعوا إلى موسى عليه السلام وأوعدوه إن كشف عنهم ليؤمنوا، فدعا فكشف عنهم فرجعوا إلى طغيانهم، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل جميع ما بأيديهم (8) حتى الأبواب وسقوف البيوت ومسامير الحديد، حتى وقعت دؤرهم
__________
(1) في (ب): حتى خاف فرعون.
(2) في (أ): ثم ادخل يده في جيبه.
(3) في (أ): يكل.
(4) في (ب): فكان.
(5) في (ب) و (ج): الحرة، وفي عرائس المجالس 164: البحر.
(6) في (ب) سقط لفظ (أراهم) وفي (ج): سقطت الجملة من: (ثم أراهم الآيات).
(7) في (ب): فلما.
(8) في (ب): ما بيدهم.(1/162)
وابتلوا بالجوع، ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك، فتضرعوا إلى موسى عليه السلام كما سبق، فدعا فكشف عنهم، فرجعوا إلى كفرهم فأرسل الله عليهم القمل.
وقد اختلفوا في القمل فمنهم من قال: القمل باسكان الميم وقيل: السوس وقيل: الدلم (1)، فأكل شعورهم وأبشارهم والزم جلودهم ومنعهم النوم ولم يصابوا بشيء أشد منه فصاحوا إلى موسى فدعا فكشف عنهم، فعادوا إلى ضلالهم، فأرسل عليهم الضفادع وكانت تدخل في فرشهم وثيابهم / وإذا أراد الرجل أن يتكلم أو يأكل، دخلت (2) في فمه وتلقى نفسها في طعامهم [وقدورهم] (3) وهي تغلي فقالوا: ادع لنا ربك أن يكشفها عنا، فدعا فكشفت فرجعوا إلى غيهم، فبعث الله عليهم الدم، فرجع ماؤهم إلى الدم فصاروا يشربون دما. وقيل: سلط عليهم الرعاف. وكان مكث كل عذاب سبعة أيام من السبت إلى السبت ويكشف عنهم مقدار (4) شهر ثم يعود غيره فلم يؤمنوا.
وكان فرعون قد استعبد بني إسرائيل أن اتخذ رجالهم خدما والنساء يغزلن الكتان وينسجن، والضعفاء والشيوخ العاجزين عن الخدمة جعل عليهم ضريبة يؤدونها كل يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهرا.
ولما أراد الله تعالى هلاك فرعون وخلاص بني إسرائيل من هذه الشدة أمر الله تعالى موسى أن يتخذ عيدا هو وقومه وأن يستعيروا لعيدهم من آل فرعون الحلى وأنواع الزينة، لأن أصل ذلك المال مما جمعه يوسف عليه السلام في زمانه أيام القحط فبقي ذلك في يد القبط وأراد الله تعالى أن يورثه لبني إسرائيل، فأمر
__________
(1) في (ج): الديلم.
(2) في (أ) و (ب): دخل.
(3) ليست في (أ) و (ب).
(4) في (ب) و (ج): بمقدار.(1/163)
فرعون أهله بأن يعيروا لبني إسرائيل ما في خزائنه (1) من أنواع الحلى وما في يد قومه (2). حتى بقي في يد موسى وقومه أفضل أموال أعدائه، ومسخ ما بقي عندهم حجارة حتى الحمصة والعدسة. وأخرج الله كل ولد زنا كان في بني إسرائيل من القبط حتى رجع كل إلى أبيه، وأمر موسى عليه السلام أن يسري بقومه من مصر ليلا، وألقى الله الموت في أبكار القبط، فماتت كلهن في تلك الليلة وكن سبعين ألف بكر. فلما أصبحوا اشتغلوا بدفنهن وبما نالهم (3) من حزنهن وسرى موسى بقومه متوجهين إلى البحر وهم ستماية ألف وعشرون ألفا، لا يعد فيهم ابن سبعين سنة (4) لكبره ولا ابن عشرين لصغره. وكان / موسى على الساقة وهارون على المقدمة، فلما فرغ القبط من دفن بناتهم وبلغهم خروج بني إسرائيل، فتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعماية ألف رجل.
وكان بين يدي فرعون ماية ألف ناشب وماية ألف أصحاب حراب وماية ألف أصحاب أعمدة فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا البحر والماء في غاية الزيادة فنظروا (5) فإذا هم بفرعون وقومه فبقوا متحيرين وقالوا {إِنََّا لَمُدْرَكُونَ} (6) قال موسى: {كَلََّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} (7) فلما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح وعادت ترمي بموج كالجبال من اشتداد غضب الله تعالى (8) والبحر هو بحر القلزم، فقال له يوشع بن نون: يا كليم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا! فقال موسى: من هاهنا. فخاض يوشع بن نون وجاز البحر فما ابتل حافر دابته وكذلك حزقيل مؤمن آل فرعون جاز البحر، فأراد القوم أن يصنعوا مثل ذلك فلم
__________
(1) الجملة من (الحلى وأنواع الزينة) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): القوم.
(3) في (ب): نالهن.
(4) في تاريخ الطبري 1/ 414: (ابن الستين).
(5) في (ب): (فسارت بني إسرائيل الزيادة فنظر).
(6) سورة الشعراء، الآية: 61.
(7) سورة الشعراء، الآية: 62.
(8) (من اشتداد غضب الله تعالى) ساقطة من (ب).(1/164)
يقدروا فتحير (1) موسى ولم يدر كيف يصنع، فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ} (2) فضرب فانفرق في البحر اثنا عشر (3) طريقا لكل سبط طريق ثم أرسل الله تعالى الريح والشمس على قعر (4) البحر حتى صار يبسا.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انه قال (5): ألا أعلمكم الكلمات التي تكلم بهن موسى عليه السلام حيث جاز البحر ببني إسرائيل؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال:
قولوا: «اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث (6)
وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
فخاضت بنو إسرائيل في البحر كل سبط في طريق وعن جانبهم الماء جامدا كالجبال الضخمة لا يرى بعضهم بعضا، فخافوا وقال كل سبط قد غرق إخواننا، / فأوحى الله إلى جبال الماء ان اشتبكي، فصار الماء مشتبكا، فكان ينظر بعضهم بعضا حتى جاوزوا (7) البحر سالمين. ولما خرجت ساقة عسكر موسى من البحر ووصلت مقدمة عسكر فرعون رأوا البحر منفلقا فهاب قومه أن يدخلوه. ولم يكن في خيل فرعون أنثى وإنما كانت ذكورا كلها فجاء جبريل عليه السلام (8) على فرس أنثى مشتهية الفحل، وعليه عمامة سوداء، فتقدمهم، فلما شمت الخيل ريحها اقتحموا البحر في أثرها، وجاء ميكائيل خلف القوم يستحثهم حتى لم يبق منهم أحد فلما هم أولهم أن يخرج وآخرهم قد دخل، أمر الله تعالى البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم أجمعين وانفرد جبريل عليه السلام بفرعون فلما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا}
__________
(1) في (ب): فخر.
(2) سورة الشعراء، الآية: 63، وبعدها في (ب): اثني عشر.
(3) في جميع النسخات: اثني عشر.
(4) في (ب): على البحر.
(5) الخبر عن الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) نقله الثعلبي في العرائس 175.
(6) في (ب): الإغاثة.
(7) في (ب): حازوا.
(8) (عليه السلام) ليست في (ب).(1/165)
{إِسْرََائِيلَ} (1) الآية فقال له جبريل: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (2) قال فجعل جبريل عليه السلام يدس في فيه حماء البحر، وخاف أن يعبأ بتلك الشهادة (3) ويقول كلمة يرحمه الله بها. فلما سمعت بنو إسرائيل صوت التطام البحر قالوا لموسى: ما هذه الرجة؟ قال لهم: إن الله تعالى قد أهلك فرعون ومن كان معه غرقا. فلم يصدقوا بموت فرعون، فأمر الله تعالى فألقاه إلى الساحل حتى (4) نظر إليه بنو إسرائيل كلهم. وكان غرقه في اليم يوم الثالث من جمادى الآخرة (5).
فلما أغرق الله تعالى فرعون وقومه ونجّى موسى ومن معه ولم يبق في مدائن فرعون إلا النساء والصبيان والزمنى (6) والمرضى، استخلف عليهم رجلا منهم، وسار موسى ومن معه من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فذهب موسى عليه السلام لميقات ربه وأتاهم (7)
بالتوراة وهي مكتوبة بالذهب على تسعة ألواح من زمرد أخضر فأبوا أن يقبلوها لأن شريعته كانت ثقيلة، فأمر الله تعالى جبلا من جبال فلسطين وهو الطور فانقلع من أصله / وارتفع حتى قام على رؤوسهم وبعث نارا (8) من قبل وجوههم وأتاهم البحر من خلفهم وقيل لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا فإن قبلتموه وفعلتم ما
__________
(1) سورة يونس، الآية: 90.
وبعدها في (ب): (وأنا من المؤمنين) وصوابه: وأنا من المسلمين. وسقط لفظ (الآية) من (ب) أيضا.
(2) سورة يونس، الآية: 91.
والجملة مع الآية ليست في (ب).
(3) في (ب): وخاف أن يعبأ بالشهادة.
(4) في (أ) و (ج): فألقاه على ساحل البحر.
(5) في (ب): وكان غرقهم في اليوم الثالث من جمادى الآخر.
(6) (والزمنى) ليست في (ب) و (ج).
(7) في (ب): وأتاه.
(8) في (ب): نار.(1/166)
أمرتم به وإلا طحنتكم بهذا الجبل وأغرقتكم (1) في هذا البحر وأحرقتكم بهذه النار. فلما رأوا أن لا مهرب لهم منها سجدوا على شق وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصارت سنّة في اليهود. وكان نزول موسى بالألواح ثامن عشر جمادى الأولى.
وقال قتادة: مكث موسى عليه السلام بعدما تغشاه نور رب العالمين لا يراه أحد إلا مات حتى اتخذ على وجهه برقعا (2).
وفي الحديث: كان بعد ذلك يبصر دبيب النملة في الليلة المظلمة على الصفا من مسيرة عشرة فراسخ. وكان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا لشدة غضبه.
وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام مشهورة تركناها لطولها واشتهارها.
ولما حان أن يفترقا قال له الخضر: لو صبرت لأتيت على ألف عجب، كل أعجب مما رأيت، فبكى موسى على فراقه.
قال أبو حامد الأندلسي: رأيت سمكة عند مجمع البحرين طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبها شوك وعظام وجلد رقيق ولها عين واحدة ونصف رأس فمن رآها من هذا الجانب يحسب أنها مأكولة منه، ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها وهي (3) من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه يوشع.
فلما قطر عليه قطرة من وجه [موسى حين] (4) التوصي أحياه الله تعالى.
ولما أمر الله تعالى موسى عليه السلام بمحاربة الجبارين نزل أرض كنعان ومعه بنو إسرائيل وبعث اثني عشر نقيبا ليتجسسوا له أخبار الجبارين. فلما توجهوا
__________
(1) في (أ): وغرقتكم.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 576.
(3) في جميع النسخات: وهو من نسل الحوت.
(4) ما بين الحاصرتين ليس في (أ) و (ب).(1/167)
لقيهم في طريقهم عوج بن عناق (1) وكان يحتطب، فأخذهم جميعا وجعلهم في حزمة الحطب وحملها ثم انطلق إلى امرأته وقال لها: انظري إلى من أتوا لمحاربتنا ونزلوا بأرضنا. ثم أخرجهم من الحزمة وطرحهم بين يديها فنظرتهم وتعجبت من لطافة أبدانهم. فأراد عوج أن يطحنهم برجله / فمنعته زوجته وقالت:
دعهم حتى يرجعوا إلى قومهم ويخبروهم بما رأوا. فتركهم عوج، فساروا في المدينة واسمها أريحا (2) وهي الأرض المقدسة يسكنها يومئذ العمالقة، وهم من ولد عملاق بن لاوي (3) بن سام بن نوح عليه السلام، وجعلوا ينظرون إلى الجبارين وما هم عليه من عظيم (4) خلقتهم وشدة القوة والمنعة ورأو فاكهتهم وإذا العنقود من العنب (5) تحمله خمسة (6) رجال في خشبة، والرمانة إذا نزع حبها يسع قشرها أربعة رجال من بني إسرائيل فهالهم ذلك ورجعوا.
فلما بلغ الجبارين نزول عسكر موسى قالوا لملكهم بالق بن صافون: هنا رجل يقال له بلعام بن باعوراء بن ناب بن لوط عليه السلام (7) ساكن بقرية من قرى البلقاء مجاب (8) الدعوة فاسأله أن يدعو عليه. فلم يزل الملك وقومه يتضرعون إليه وهو يمانعهم حتى فتنوه بامرأته وبذلوا لها (9) الأموال فافتتن
__________
(1) قصة عوج في عرائس الثعلبي 213.
(2) في (ب): أريحة والخبر عن أريحا في مرآة الزمان 1/ 429428.
(3) في (ج): لاود، وفي عرائس الثعلبي 213: لاوذ.
(4) في (ج): عظيم.
(5) في (ب): العنقود العنب.
(6) في (ب): خمس زال من بني إسرائيل.
(7) هو بلعام بن باعوراء بن باعر بن أيد بن مارت بن لوط، كما ورد في الثعلبي 209.
(8) في (ب): مستجاب.
(9) في (ب): بامرأته وبذلوا لها الأموال. وفي (ج): بامرأة وبذلوا الأموال، ويوافق ما ورد في (ب) لما في عرائس الثعلبي.(1/168)
وركب أتانه (1) وأراد أن يسير فربضت به اتانه (2) فضربها فلم تتحرك فإذن الله تعالى لها في الكلام فقالت: ويحك يا بلعام، أين أذهب؟ ألا ترى الملائكة أمامي وهم يردونني؟ ويحك (3) يا بلعام، تذهب إلى كليم الله وبني إسرائيل لتدعو عليهم؟ فترك أتانه (4) وسار حتى صعد إلى جبل يقال له: حسبان، وهو مشرف على القوم فدعا عليهم فلم يتأت منه وعجز فجعله لا يدعو عليهم (5) بشيء من الشر إلّا صرف الله به لسانه إلى قومه. ونسي الإسم الأعظم واندلع لسانه فبقى على صدره وكان ذلك في سادس المحرم فقال لهم: قد ذهب مني الآن الدين والدنيا فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة. فأشار على الملك أن يرسلوا الحسان من النساء نحو العسكر ولا يمنعن نفوسهن فإنه إن (6) زنا واحد منهم كفيتموهم ففعلوا. فلما أتى النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري (7) بن شلوم فأخذها وزنا بها فوقع فيهم الطاعون فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا. وسمع بهما رجل يقال له فنحاص / بن العيزار بن هارون عليه السلام صاحب أمر موسى عليه السلام أخذ حربته وكانت كلها من حديد (8) ودخل عليهما وهما متضاجعان (9).
__________
(1) في (ب): فركب اتانه، وفي (ج): اتانة.
(2) في (ب) و (ج): الاتانه.
(3) في (ب): يا ويحك.
(4) في (ب) و (ج): الاتانة.
(5) في (ب): فلم يتأت وعجز، فجعل يدعو.
(6) في (أ): ولا يمنعوا نفوسهن، وفي (ب): ولا يمنعوا أنفسهن فإن زنى.
(7) في (ب): زمر.
(8) في (أ): وكانت من الحديد وفي (ب): وكانت كلها من الحديد.
(9) في (ب): وهما مضطجعان.(1/169)
فانتظمهما بحربته ثم خرج رافعا بهما إلى السماء وهو يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع (1) الطاعون من وقته. وكانا في الحربة كحالهما في حالة الزنا، فنعوذ بالله من سوء الخاتمة [ونبرأ إليه من ذلك ونسأله العفو والمغفرة بمنه وكرمه] (2).
__________
(1) في (ب): فارتفع.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ)، وسقط من (ب): (ونبرأ إليه من ذلك).(1/170)
قصة قارون وما حاز من الفنون
وكان لموسى ابن عم (1)، يقال له قارون بن مصعب (2)، وكان في نهاية الفقر. فلما أوحى الله تعالى إلى موسى أن يحلي التابوت بالذهب (3) وعلمه صنعة الكيمياء فصنعه. فنظر قارون وأراد أن يتعلمه، وكانت كلثم أخت موسى عليه السلام تعلمت الصنعة من أخيها فعلمتها (4) لقارون، فخرج قارون وقد تعلم الكيمياء واتخذ منه (5) ما أراد حتى كثر ماله، بحيث أنه كان يحمل مفاتيح كنوزه على أربعين بغلا.
وكان موسى يأمره بإعطاء الزكاة فلم يأتمر، وعلم امرأة بغية (6) بأن تتهم موسى بالزنا، فلما سمع بذلك موسى عليه السلام (7) غضب غضبا شديدا وقال:
يا رب، إن قارون قد بغى علي فانصرني عليه. فاستجاب الله دعاءه فأوحى الله إليه: إني قد أمرت الأرض بالطاعة لك وسلطتك عليه (8). فأقبل موسى عليه السلام حتى دخل على قارون ثم قال: يا عدو الله، أنت بعثت إليّ امرأة وتقيمها على رؤوس الأشهاد وتريد فضيحتي؟ يا أرض خذيه.
__________
(1) تاريخ الطبري 1/ 443، والكامل في التاريخ 1/ 115، ونهاية الأرب 13: 232، والأنس الجليل 1/ 96، وعرائس المجالس 188، وقصص الأنبياء 358، ومرآة الزمان 1/ 449.
(2) في تاريخ الطبري: 1/ 443 (قارون بن يصهر).
(3) خبر تحلية التابوت في عرائس الثعلبي 206، وقصص ابن كثير 358.
(4) في (أ): فعلمته. وفي (ب): فعلمت.
(5) لفظ (منه) ساقط من (ب) و (ج).
(6) لفظ (بغية) ساقط من (ب).
(7) (عليه السلام) ليس في (ب).
(8) (اني قد أمرت الأرض بالطاعة وسلطتك عليه) ليست في (ب).(1/171)
قال: فساخت داره في الأرض ذراعا وسقط قارون عن سريره (1)، فأخذته الأرض إلى ركبتيه. ثم قال: يا أرض خذيه فأخذته الأرض إلى حقويه وساخت داره على قدر ذلك فقال: يا موسى! يا موسى! فقال: يا عدو الله، لم لا (2) تتعظ بهلاك الأمم الماضية وهلاك فرعون؟ ثم قال: يا أرض خذيه، فأخذته الأرض إلى عنقه، فلم يقدر على الكلام. وجعل موسى يكرر ذلك حتى اضطربت به الأرض (3) اضطرابا شديدا وخسف به وبداره وكان ذلك في رابع وعشرين ربيع الثاني (4)، فأوحى الله تعالى إلى موسى فقال: يا موسى استغاث / بك قارون سبعين مرة فلم تغثه! وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة واحدة لأغثته (5).
__________
(1) الجملة (قال: فساخت داره في الأرض) ساقطة من (ب).
(2) في (أ): الام.
(3) في (أ): اضطربت الأرض.
(4) الجملة (وكان ذلك) ساقطة من (ب) و (ج).
(5) الخبر أورده الثعلبي 188، والطبري في تاريخه 1/ 443. وابن كثير في قصص الأنبياء 360، وشك كل من الطبري وابن كثير في بعض الروايات واعتبراها من الإسرائيليات.(1/172)
في ذكر عوج بن عناق وما فيه من الخلاف والشقاق
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (1): كان طول عوج بن عناق ثلاثة وعشرين ألف ذراع وثلاثماية وثلاثين ذراعا بذراع الملك (2)، وعمره ثلاثة آلاف وستماية سنة. وكان ممن ولد في دار آدم عليه السلام، وكانت أمه من بنات آدم عليه السلام، وكانت من أحسن النساء وأجملهن، وكانت اسمها عناق.
ويقال: إنها أول من بغى على وجه الأرض (3).
وكانت أصابع يديها كل اصبع (4) ثلاثة أذرع في عرض ذراعين، في كل إصبع ظفرين كالمناجل. فلما أراد الله إهلاكها (5) بعث الله عليها أسودا كالفيلة وذئابا كالإبل ونسورا كالحمير فافترسوها وقتلوها وأكلوا لحمها (6). وكان عوج يتناول الحوت من قعر البحر فيشويه (7) بعين الشمس ويأكله، وكان يحك (8) رأسه بالسحاب. وكان يمشي يوم الطوفان مع السفينة ويشرب من طوله. وكان (9) إذا غضب على أهل بلد بال عليهم فغرقوا في بوله. وكان جبارا عنيدا.
ولما نزل موسى عليه السلام وبنو إسرائيل بأرض كنعان لمحاربة الجبابرة،
__________
(1) انظر قصة عوج بن عناق في عرائس المجالس 213، وقصص ابن كثير 213، والكامل في التاريخ 1/ 111، ونهاية الأرب 13/ 260، ومرآة الزمان 1/ 429451، وفيها حديث عبد الله بن عمر.
(2) ذراع الملك: اتخذت هذا الاسم في عهد أبي جعفر المنصور العباسي، ويقدر طولها ب 5ر 66سم (هنتس، المكاييل والأوزان الإسلامية: 90).
(3) (وكانت اسمها عناق) الجملة إلى آخرها ساقطة من (ب).
(4) (كل اصبع) ساقطة من (ب).
(5) في (ب): فلما أراد الله تعالى هلاكها.
(6) (وأكلوا لحمها) ساقطة من (ب).
(7) في (ب): ويشويها.
(8) في (أ): يحتك.
(9) في (ب): (وإذا غضب) بسقوط لفظ (كان).(1/173)
[وجهه ملكهم بالق بن صافون] (1) فنظر إلى مقدار نزول العسكر فكان فرسخا في فرسخ فانطلق إلى جبل من جبال الشام فقطع منه صخرة على مقدار عسكر موسى عليه السلام، ثم حمله على رأسه وأقبل نحوهم ليلقيه عليهم ويقتلهم جميعا، فسلط الله تعالى (2) على ذلك الجبل وهو على رأسه الهدهد وسائر الطيور فجعلت تنقر (3) تلك الصخرة حتى تقورت.
ذكر الكسائي (4) إن الله تعالى أراد إظهار قدرته لبني إسرائيل فأرسل هدهدا وفي منقاره حجر من السماء فضرب وسط الحجر بالحجر الذي معه ضربة واحدة فانخرق ونزل (5) في عنقه كهيئة الطوق فأقبل إليه (6) / موسى بعصاه، وكان طول موسى عليه السلام (7) عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وأعطاه الله من القوة أن وثب في السماء عشرة أذرع وضربه بالعصا فلم تلحق إلا كعبه (8) فانصرع إلى الأرض قتيلا.
ولما رجع النقباء من مدينة الجبارين وأخبروا قومهم بما رأوا من عظم خلقهم وشدة قوتهم فقالوا: {يََا مُوسى ََ إِنََّا لَنْ نَدْخُلَهََا أَبَداً مََا دََامُوا فِيهََا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا إِنََّا هََاهُنََا قََاعِدُونَ} (9) الآية، فأوحى الله تعالى إلى موسى.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) وفي (ج): (وجه ملكهم بالق بن صافون إليهم عوج).
(2) لفظ (تعالى) ليس في (ب) و (ج).
(3) في (ب): (فجعلوا ينقروا).
(4) في (أ) و (ج): ذكر الكسائي.
والخبر عن الكسائي نقله النويري في نهاية الأرب 1/ 262.
(5) في (أ): ونزلت.
(6) في (ب): فأقبل موسى.
(7) (عليه السلام) ليس في (ب) و (ج).
(8) في (ب): كعب رجله.
(9) سورة المائدة، الآية: 24.(1/174)
إني حرّمت عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع بن نون وكالب بن يوفنا (1) ولأتيهنّهم في هذه البرية أربعين سنة، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ تائهين. وكان يوم دخولهم في التيه ثامن عشر جمادى الآخرة، وكانوا ستماية ألف مقاتل، سوى الأهل والأولاد.
وكانوا يسيرون جادين إذا اصبحوا حتى إذا امسوا نزلوا فإذا هم في المكان الذي ارتحلوا منه، فطلبوا من موسى عليه السلام ما يشربون منه، فضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين، فطلبوا الظل فظلل عليهم الغمام، فطلبوا ما يأكلون فأنزل الله عليهم المن والسّلوى، فطلبوا اللباس فكانت ثيابهم لا تبلى ولا تخترق حتى مات أولئك الذين قالوا: {إِنََّا لَنْ} [2]
نَدْخُلَهََا أَبَداً مََا دََامُوا فِيهََا (3). فكان هلاكهم في عشرين سنة، وهي العشرون الأولى، ونشأت أولادهم في العشرين الأخرى، وهم الذين ساروا مع يوشع عليه السلام إلى بلد أريحا وقاتلوا الجبارين.
__________
(1) في (أ) و (ب): كالب بن بلوقيا، وهو كذلك في عرائس المجالس وقصص ابن كثير، وفي مرآة الزمان: كالب بن يوقنا.
(2) في (ب): (قالوا لن ندخلها) بسقوط: (إنا).
(3) سورة المائدة، الآية: 24.(1/175)
الفصل التاسع عشر في ذكر هارون عليه السلام
هو شقيق موسى عليهما السلام (1) من أبيه وأمه. وكان أكبر من موسى عليه السلام بثلاث سنين، وقيل: بأربع سنين.
وكان فصيح اللسان جميل الصورة، وكان أطول من موسى، وأكثر لحما، وأبيض جسما، وأغلظ ألواحا. وكانت في جبهته شامة، وكان محببا (2) إلى بني إسرائيل.
وكان موسى عليه السلام حديدا خشنا متصلبا في كل شيء لا يتمالك الرفق في شيء مما يخالف الشرع، فلذلك سأل ربه أن يشرك هارون معه في أمر. /
فاتفق أنه سار يوما وأخوه بجبل بالتيه، فرأوا فيه كهوفا كثيرة، وإذا بكهف يسطع منه النور فبادروا إليه. فلما دخلوا إلى الكهف نظروا سريرا من ذهب عليه أنواع الفرش، مكتوب على حافة السرير بالعبرانية: هذا السرير لمن كان طوله.
فصعد موسى على السرير، فلما مد رجله فضل من طوله (3) فنزل موسى عنه وصعد هارون وانضجع عليه فإذا هو على طوله، فهم أن ينزل فإذا هو بملك الموت فقبض روحه. ثم رجع موسى باكيا حزينا إلى بني إسرائيل فأخبرهم بموته فاتهموه بأنه الذي قتل هارون (4) لأنه كان محببا إليهم. فما زالوا يتهمونه حتى دعا
__________
(1) المعارف 20، وتاريخ الطبري 1/ 403، ومروج الذهب 1/ 36، والكامل في التاريخ 1/ 101، ونهاية الأرب 13/ 189، 274، والبداية والنهاية 1/ 237، والأنس الجليل 1/ 83، وعرائس المجالس 157، وقصص الأنبياء 274، والمستدرك 2/ 573، ومرآة الزمان 1/ 441.
(2) في (ب) و (ج): متحببا.
(3) في (ب): فضلت السرير من طوله.
(4) في (ب): بأنه قتله.(1/176)
الله تعالى في براءة أمره فأنزل الله تعالى السرير وعليه هارون عليه السلام وقال لهم: إني مت ولم يقتلني موسى. فحزن عليه بنو إسرائيل حزنا شديدا. فخلف من بعده ابنه العيزار، فأعطاه الله تعالى وقار هارون وخلقه (1)، ولم يحدث لموسى ولا لهارون شيء من الشيب. وقبض هارون وهو ابن ماية وثلاث وعشرين سنة (2).
قال المسعودي (3): إنه دفن في جبل حران من نحو (4) جبل الشراة مما يلي الطور، وقبره مشهور في مغارة عادية يسمع منها في بعض الليالي دوي عظيم يجزع منه كل ذي روح.
وروي أنه تبع جنازته أربعون ألفا وكلهم يسمون هارون من بني إسرائيل سوى سائر الناس.
ومات موسى وهارون عليهما السلام في التيه على أصح الروايات، وكان عمر موسى ماية وعشرين سنة.
واختلف في قبر موسى عليه السلام. قال في الصحيحين: إن موسى عليه السلام قال: يا رب ادنني من الأرض المقدسة رمية حجر (5)، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ولو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر (6). المراد بهذه الطريق التي سلكها صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به من مكة إلى بيت المقدس كما أشار إليه صلّى الله عليه وسلّم (7) بقوله: مررت على موسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر (8).
__________
(1) في (ب): وظنه.
(2) في (ب): وعشرون.
(3) مروج الذهب 1/ 36.
(4) في (ب): من جبل الشراة بسقوط لفظ (نحو).
(5) في صحيح البخاري 4/ 192: رمية بحجر.
(6) صحيح البخاري 4/ 192 (بدء الخلق)، والأنس الجليل 1/ 101
(7) في (ب): كما أشار فيه بقوله، وبعدها في (أ) (عليه) وهي زائدة.
(8) الأنس الجليل 1/ 102.(1/177)
وفي «كتاب الأنس» (1) بسنده إلى محمد بن إسحاق يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، / قال: ما اطلع أحد (2) على قبر موسى عليه السلام إلا الرخمة، فنزع الله عقلها لئلا تدل عليه أحدا، وجعلها أبكم وأصم لئلا يدل احدا (3).
وإنما سأل الدنو من الأرض المقدسة لشرفها ولم يسأل مكانا معروفا (4)
خوفا من أن يعبد ويكثر الإحداث عنده (5).
قال الحافظ ضياء الدين المقدسي: إن القبر الذي اشتهر أنه قبره شرقي بيت المقدس بالقرب من أريحا وعنده كثيب أحمر إلى جانبه طريق مسلوك، وقبره مقصود بالزيارة إلى يومنا هذا، وعلى القبر الشريف قبة مبنية بناها الملك الظاهر بيبرس بعد سنة ستين وستماية (6). وأما الأشباح التي ترى على قبره بألوان مختلفة فمنهم صفة الراكب ومنهم صفة الماشي ومنهم من على كتفه رمح، وغير ذلك من الصفات [المختلفة] (7). وللناس في ذلك أقوال مختلفة فيقال: إنهم من الملائكة ويقال (8): إنهم الصالحون، وينظرهم كل الناس. وإذا دخل المسجد امرأة عليها حيض (9) أو فعل أحد حول المسجد شيئا من المعاصي يثور هواء في تلك البرية حتى لا يرى الرجل من إلى جانبه، وغير ذلك من الخوارق الباهرات التي يستدل بها على أنه مدفون في هذا المكان، والله أعلم (10).
__________
(1) لم أقع على الخبر في الأنس الجليل، والقسم الثاني منه في 1/ 103.
(2) في (ب): ما اطلع على قبر موسى، بسقوط كلمة (أحد).
(3) في (ب): وجعلها أبكم أصم، وجملة (لئلا يدل أحدا) ساقطة من (ب) و (ج).
(4) في (ب): ولم يسأل مكانا خوفا، بسقوط كلمة (معروفا).
(5) هذا القسم في الأنس الجليل 1/ 103.
(6) في الأنس الجليل 1/ 102، بنى القبة الظاهر بيبرس عند عوده من الحج وزيارته بيت المقدس في سنة ثمان وستين وستمائة.
(7) الاستدراك من (ب).
(8) في (ج): ويقال انهم من الملائكة وما اثبتناه متفق مع ما يذكره صاحب الأنس الجليل 1/ 102.
(9) في (ج): امرأة حائض. وما أثبتناه متفق ما أورده صاحب الأنس الجليل.
(10) اقتباس عن الأنس الجليل.(1/178)
الفصل العشرون في ذكر يوشع عليه السلام
وهو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف الصديق عليه السلام (1). هو فتى موسى المذكور في قصة الخضر. بعثه الله نبيا بعد موسى (2) إلى مدينة أريحا.
قال ابن اسحاق: حولت النبوة إلى يوشع بن نون في حياة موسى وهارون، فلما انقضت لبني إسرائيل الأربعون سنة في التيه، بعث الله تعالى يوشع بن نون فسار ببني إسرائيل إلى أريحا. فلما وصلوا إلى نهر الشريعة بالغور واسمه نهر الأردن، وكان عاشر نيسان من السنة التي توفي فيها موسى عليه السلام، فلم يجد للعبور سبيلا فأمر يوشع حامل صندوق الشهادة الذي فيه الألواح، بأن ينزلوا به إلى حافة النهر. فلما وضعوه زال الماء (3) حتى انكشفت أرضه، فلما عبر بنو إسرائيل، عادت الشريعة إلى ما كانت عليه.
ونزل يوشع ببني إسرائيل أريحا محاصرا لها، وصار كل يوم يدور حولها، ولم يجد للدخول إليها سبيلا إلى ستة أيام. وفي اليوم السابع أمر بني إسرائيل أن يطوفوا حول أريحا سبع مرات / وأن يكبروا، فعند ذلك هبطت أسوار المدينة وانطمت الخنادق وتساوت بالأرض، كذا نقله صاحب «المختصر في أخبار البشر» (4). وقيل: أقام يحاصرها ستة أشهر، فلما كان الشهر السابع ثلجوا ثلجة
__________
(1) تاريخ الطبري 1/ 441، مروج الذهب 1/ 37، تاريخ ابن الأثير 1/ 113، نهاية الأرب 14/ 1، الأنس الجليل 1/ 94، البداية والنهاية 1/ 319، عرائس المجالس 214، قصص الأنبياء 636، 377، مرآة الزمان 1/ 452.
(2) في (ب): بعد موسى وهارون.
(3) في (ب): زال النهر.
(4) تاريخ أبي الفداء أو المختصر في أخبار البشر 1/ 21.(1/179)
واحدة فسقط سور المدينة، فدخلوا وقتلوا الجبارين قتلا ذريعا، فكان الجماعة من بني إسرائيل يجتمعون على الرجل منهم حتى يطرحوه على الأرض ويضربوا عنقه.
وكان القتال يوم الجمعة، وقد بقي من الجبارين بقية، وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فدعا الله تعالى يوشع عليه السلام فقال: اللهم اردد عليّ الشمس حتى انتقم من أعدائك، فاستجاب الله دعاءه ورجعت الشمس مقدار ساعة، وقيل اثني عشر برجا (1)، فقتلهم أجمعين. وكان ذلك في سادس جمادى الأولى.
وما أحسن قول أبي تمام حبيب بن أوس في رد الشمس ليوشع (2) حيث قال (3):
لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى ... قلوبا عهدنا طيرها وهي وقع
فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس بدت من جانب الخدر تطلع
فو الله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
ثم تبع ملوك الشام فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا، حتى غلب على ملوك الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل. وفرق عماله في نواحيها، فسار إلى نابلس، إلى المكان الذي أودع فيه يوسف عليه السلام، وكان أودعه موسى هناك، لما استخرج يوسف من نيل مصر، فاستمر مودعا أربعين سنة وهم في التيه. فلما فرغ يوشع من أريحا سار به ودفنه عند أجداده بحبرون.
فلما استولت بنو إسرائيل على الأرض المقدسة وصفت لهم، أقام يوشع عليه
__________
(1) في هامسّ (ج): اثني عشر درجة.
والخبر في تاريخ الطبري 1/ 441مع بعض التوسيع وبعض الاختلاف.
(2) في (أ): ما أحسن في رد الشمس ليوشع، قول أبي تمام. وفي (ب): ما أحسن قول ابن أوس في رد الشمس.
(3) ديوان أبي تمام (دار صعب، بيروت): 167(1/180)
السلام يدبر أمرهم ثماني وعشرين سنة. وتوفى وعمره ماية وعشرون سنة، ودفن في جبل أفرائيم، وقيل بقرية قدس من أعمال صفد. وله قبر هناك يزار ويتبرك به، وقيل بمدينة معرّة النعمان (1).
__________
(1) القول بأن قبر يوشع كان في افرائيم هو قول الكتاب المقدس العهد القديم (سفر يشوع 1/ 390).(1/181)
[ذكر] (1) كالب بن يوفنا (2) بن نارض بن يهوذا عليه السلام
استخلفه يوشع عليه السلام وهو الرجل (3) الذي أنعم الله عليه، فأحسن الخلافة والقيام بأمر بني إسرائيل حتى قبضه الله (4) تعالى.
واستخلف ولده يوشاقوس (5)، وكان شبيها بيوسف وحسنه وجماله، وكان الناس يأتونه وينظرون إليه فكادوا أن يفتتنوا من شغفهم به، فلما بالغوا في النظر إليه خاف على نفسه من الفتنة، فسأل الله تبارك وتعالى أن يغير / صورته مع سلامة حواسه، فأصابه الجدري فصار وجهه مجدّرا، فلبث في بني إسرائيل ألف سنة، ثم قبضه الله تعالى (6).
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (أ) و (ب).
(2) في (أ) و (ب): بلوقيا وفي مرآة الزمان 1/ 453يوقنا بن بارص وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الطبري 1/ 457، ولما في سائر المصادر.
(3) في (ب): استخلفه يوشع، وهو الذي أنعم الله عليه، بسقوط كلمتي (تعالى) و (الرجل).
(4) في (أ): حتى قبضه الله تعالى إليه.
(5) في (ج): يوشانوس وفي مرآة الزمان: يوسافاس بن كالب.
(6) أخباره في تاريخ الطبري: 1/ 457، ومروج الذهب 1/ 39، ونهاية الأرب 14/ 4، وعرائس المجالس 221، ومرآة الزمان 1/ 453.(1/182)
الفصل الحادي والعشرون في ذكر حزقيل وما وقع لبني إسرائيل
وهو حزقيل (1) بن بورا (2). لما قبض الله تعالى يوشاقوس (3) بعث حزقيل نبيا إلى بني إسرائيل.
وهو الذي أحيا الله له الموتى، وهم القوم الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف كانوا بقرية واسط، فوقع بها الطاعون، فخرج جميع من في القرية وساروا حتى نزلوا واديا وهم يبتغون النجاة، قال الله تعالى لهم: موتوا، فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموتهم.
واختلف العلماء في عددهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا أربعة آلاف، وقال ابن مليك: كانوا ثلاثين ألفا، وقال ابن أبي رباح: كانوا سبعين ألفا (4).
وأتى عليهم حين من الدهر حتى بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطعت أوصالهم، فمر عليهم حزقيل عليه السلام يوما، ووقف عليهم متفكرا (5) ومتعجبا لما حل بهم، بكى بكاء شديدا وقال: يا رب، قوم كانوا يعبدونك ويذكرونك
__________
(1) المعارف 23، وتاريخ الطبري 2/ 457، والكامل في التاريخ 1/ 117، ونهاية الأرب 14/ 6، والبداية والنهاية 2/ 2، وعرائس المجالس: 221، وقصص الأنبياء: 405، ومرآة الزمان 1/ 454.
(2) في (ج): (بوري) وفي تاريخ الطبري: بوذي.
(3) في (ج): يوشانوس.
(4) نهاية الأرب 14/ 7.
والمعلومات هنا متشابهة مع ما أورده النويري، ولعلهما ينقلان من مصدر واحد، هو الكسائي.
(5) في (ب): فوقف متفكرا.(1/183)
فأمتّهم جميعا، وقد بقيت وحيدا فريدا ولو شئت أحييتهم فيعمرون بلادك ويعبدونك! فأوحى الله تعالى إليه: أتحب ذلك؟ قال: نعم. قال الله تعالى: قد جعلت حياتهم على يديك.
قال: فوقف حزقيل عليه السلام وناداهم وقال: أيتها العظام البالية إن الله [تبارك وتعالى] (1) يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا ودما وعروقا وعصبا، ثم نادى:
أيتها الأرواح إن الله تعالى يأمرك أن تعودي إلى أجسادك، فقام الأموات جميعا وعليهم ثيابهم التي ماتوا فيها، وهم يكبرون الله تعالى، ورجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا طويلا حتى ماتوا لآجالهم. وكانوا يعرفون أنهم كانوا أمواتا وسحنة الموت على وجوههم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فإنها لتوجد اليوم تلك الريح (2) في ذلك السبط من اليهود (3). /
__________
(1) الاستدراك من (ب) و (ج).
(2) في (ج): الرائحة.
(3) الخبر في نهاية الأرب 14/ 9.(1/184)
الفصل الثاني والعشرون في ذكر الياس عليه السلام
وهو الياس بن فنحاص بن العيزار بن هارون عليه السلام (1).
بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك، وكانوا يعبدون صنما اسمه بعل وكان طوله عشرين ذراعا، وملكهم يومئذ اسمه أجب واسم امرأته أربيل وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب فتحكم بين الناس، وكانت كافرة قتّالة للأنبياء، وقد قتلت (2)
منهم خلقا كثيرا، وهي التي قتلت يحيى بن زكريا عليه السلام. وكانت بنت ملك صيدا وعمّرت دهرا طويلا وتزوجها سبعة من ملوك بني إسرائيل، وما ملك (3) إلا وتقتله بالاغتيال، وولدت سبعين ولدا.
فلما تمادى (4) قومه في الطغيان دعا عليهم الياس عليه السلام فأمسك الله تعالى الغيث عنهم ثلاث سنين حتى هلكت مواشيهم ودوابهم. فسألوه أن يدعو لهم فدعا لهم فجاءهم المطر فقالوا: ليس عندنا من الحبوب ما نزرعه. فأوحى الله إلى الياس أن يبذروا الملح في الأرض، ففعلوا فأنبت الله [تعالى] (5) لهم الحمص.
فلما رأوا ذلك لم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم، فلما رأى الياس عليه السلام ذلك
__________
(1) المعارف 23، تاريخ الطبري 1/ 461، تاريخ ابن الأثير 1/ 118، نهاية الأرب 14/ 9، البداية والنهاية 1/ 337، عرائس المجالس 223، قصص الأنبياء 400، المستدرك 2/ 583، ومرآة الزمان 1/ 459.
(2) في (ج): وقد.
(3) في (ب): ولا.
(4) في (ب): عادوا.
(5) ما بين الحاصرتين من (ب).(1/185)
منهم سأل ربه أن يخرجه من بينهم، فأوحى الله تعالى إليه أن انتظر يوم كذا وكذا (1)
فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه. فخرج الياس عليه السلام في ذلك اليوم ومعه تلميذه أليسع عليه السلام، وإذا (2) بفرس من نار بين يديه فركبه الياس عليه السلام، فانطلق به الفرس طائرا في الجو فناداه أليسع وهو في الجو: يا الياس، بماذا تأمرني؟ فقذف إليه كساءه من الجو، فكان ذلك علامة استخلافه (3) على بني إسرائيل.
ورفع عن الياس لذة المأكل والمشرب وكساه الله تعالى ريشا وجعله أرضيا، وسماويا ملكيا يطير مع الملائكة حيث شاء، وسلط الله على الملك وزوجته عدوّا فقتلهما، ولم يوجد من يدفنهما، ولم تزل جيفتهما ملقاة على الأرض حتى بليت تخومها وتمزقت أوصالهما. وذكر محمد بن جرير الطبري: انه يعيش إلى يوم بنفخ في الصور / ويجتمع في كل موسم بالخضر [عليهما السلام] (4).
روى الحاكم في «المستدرك» (5) عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر ونزلنا منزلا فإذا برجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة قال: فأشرفت عليه، فإذا برجل طوله ثلاثماية ذراع فقال: من أنت؟ قلت: أنس خادم النبي عليه السلام (6). قال: وأين هو؟ قلت: ذا يستمع (7) منك كلامك، فجاء وتعانقا وقعدا يتحدثان فقال: يا رسول الله، إني إنما آكل في السنة يوما واحدا، وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت، فنزل عليهما
__________
(1) في (ب) و (ج): (أن انتظر يوم كذا).
(2) في (ج): وإذا.
(3) في (ب): خلافته له.
(4) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
والخبر من تفسير الطبري.
(5) المستدرك 2/ 617.
(6) في (ب): أنا أنس خادم النبي عليه السلام.
(7) في (ج): يستمع وفي (ب): إذا يسمع كلامك.(1/186)
مائدة من السماء عليها خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني وصلينا العصر ثم ودعه، ثم رأيته [طار] (1) في السحاب نحو السماء.
وروي أن الأبدال يجتمعون به.
وسئل الياس: هل يوحي إليك ربك اليوم (2)؟ فقال: منذ بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يوح إلي.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب).
(2) كلمة (ربك)، ليست في (ج).(1/187)
الفصل الثالث والعشرون في ذكر أليسع بن أخطوب وما لقي من الخطوب [والسكينة والتابوت وما أودع فيهما من سر الملكوت] (1)
فهو أليسع بن أخطوب (2). كان تلميذا لالياس عليه السلام، وهو يعرف (3)
بابن العجوز، لأن أمه ولدته وهي عجوز عقيم.
بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل بعد أن رفع الياس عليه السلام، فآمنوا به وحكم فيهم بما أمره الله تعالى إلى أن قبض. وعاش أربعماية سنة وسنتين، ودفن بقرية بسر من أعمال زرع (4). ولم يزل أمر بني إسرائيل في أدبار لكثرة التخاليط، وسلط الله عليهم ملكا أخذ منهم التابوت وحمله (5) إلى بابل.
في ذكر السكينة والتابوت (6)
ورد في الخبر أن الله تبارك وتعالى لمّا أهبط آدم عليه السلام إلى الدنيا أهبط عليه تابوتا من الجنة فيه بيوت الأنبياء من ذريته على عدد الأنبياء (7) والرسل عليهم
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ج)، والقسم الأول من العنوان في (ب): (في ذكر اليسع عليه السلام) وسقط منه: (وما لقي من الخطوب).
(2) المعارف 23، وتاريخ الطبري 1/ 464، ونهاية الأرب 14/ 28، والكامل في التاريخ 1/ 120، والبداية والنهاية 2/ 4، وعرائس المجالس: 229، وقصص الأنبياء: 408، ومرآة الزمان 1/ 466.
(3) في (ب): وكان يعرف.
(4) في (أ): (رزع)، وفي (ب): بقرية بستر من أعمال أزرع، وفي (ج): تستر من أعمال أذرع.
وضبط الرسم من معجم البلدان 1/ 420 (بسر).
(5) في (ب): (وحمل).
(6) في (ج): في ذكر السكينة والتابوت، وما أودع فيهما من سر الملكوت.
(7) (من ذريته على عدد الأنبياء) ساقطة من (ب).(1/188)
السلام كل نبي قائم واسمه مكتوب على جبهته، وفي آخر البيوت بيت محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإذا هو قائم يصلي وعلى يمينه الكهل المطيع مكتوب على جبهته:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه (1)، وعن يساره عمر الفاروق مكتوب على جبهته:
لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ورائه عثمان بن عفان مكتوب على جبينه (2): بار من البررة، وبين يديه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (3) شاهرا / سيفه على عاتقه مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيد بنصر من الله عزوجل، وحوله أعمامه وأصحابه، نور حوافر خيولهم مثل نور الشمس. وكان طول التابوت ثلاثة أذرع في عرض ذراعين وكان من خشب الشمشار، وهو محلى بالذهب.
قال السدي: إن موسى عليه السلام قد ضرب التابوت من ذهب من ستماية ألف مثقال وسبعماية مثقال وخمسين مثقالا (4)، وكان في التابوت طشت من ذهب، كان تغسل (5) فيه قلوب الأنبياء، ومكسرات الألواح. وكان من زمرد أخضر فيها كتابة من الذهب، وعصا موسى ونعله وعمامة هارون وذلك قوله تعالى: {بَقِيَّةٌ مِمََّا تَرَكَ آلُ مُوسى ََ وَآلُ هََارُونَ} (6) الآية.
واختلفوا في السكينة (7) التي في التابوت ما هي؟ قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (8):
إن السكينة [التي في التابوت] (9) ريح حجوج [هفانة أي سريعة المرور
__________
(1) (رضي الله عنه) ليست في (ب) و (ج).
(2) في (ب) و (ج): جبهته.
(3) في (ج): رضي الله عنهم أجمعين.
(4) في (ب): من ستمائة مثقال وسبعمائة مثقالا.
(5) في (ب): طست من ذهب، كان يغسل فيه.
(6) سورة البقرة، الآية: 248.
(7) خبر السكينة في تاريخ الطبري 1/ 468.
(8) في (ج): قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه.
(9) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ج) واستدراكه من (ب).(1/189)
في هبوبها] (1) كناقة لها رأسان ووجهان كوجه الإنسان (2).
وقال (3) ابن عباس رضي الله عنهما: هي روح من الله تعالى يتكلم إذا اختلف بنو إسرائيل في شيء من أمورهم فيخبرهم بشأن ما يريدون ويحكم بينهم، وإذا أرادوا قتال عدوهم أقاموه (4) بين أيديهم فينتصرون عليه (5).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ب)، واستدراكه من (ج).
(2) سقط من (ب) لفظ: (كوجه الإنسان) وفي (ج): وقيل إنها حيوان له رأس ووجه كوجه الإنسان، وسائرها خلق كالريح والهواء.
(3) في (ب): قال.
(4) في (ب): أقاموا.
(5) ضبط النص من (ب): وفي (أ) و (ج): ورد كما يلي: فينتصرون على عدوهم.(1/190)
الفصل الرابع والعشرون في ذكر يونس عليه السلام
وهو يونس بن متّى (1)، وهو ذو النون.
واختلف في زمان مبعثه، فقيل: بعث بعد سليمان عليه السلام وقيل: بعد الياس، وقيل: بعد شعيب عليه السلام (2). وكان متّى رجلا من أهل بيت النبوة، وقيل: متى اسم أمه.
قال القرطبي (3) في «تفسيره»: وهو ابن العجوز التي (4) نزل عندها الياس عليه السلام فاستخفى عندها من قومه ستة أشهر، ويونس صبي يرضع، وكانت أم يونس تخدم الياس بنفسها.
ثم إن إلياس عليه السلام ضاق صدره ولحق بالجبال ومات ابن المرأة يونس فخرجت في أثر إلياس تطوف الجبال حتى وجدته، فسألته أن يدعو الله تعالى لها، لعله يحيي ولدها. فجاء الياس إلى الصبي بعد أربعة عشر يوما من موته فتوضأ وصلّى / ودعا الله تعالى فأحيا الله [تعالى] (5) يونس بن متى بدعوة إلياس عليه السلام.
__________
(1) تاريخ الطبري 2/ 11، تاريخ ابن الأثير 1/ 208، نهاية الأرب 14/ 171، الأنس الجليل 1/ 156، البداية والنهاية 1/ 231، عرائس المجالس 366، قصص الأنبياء 246، المستدرك 2/ 583، ومرآة الزمان 1/ 557.
(2) في (ب): عليهم السلام.
(3) تتفق جميع المصادر على أنه ابن تلك العجوز.
(4) في جميع الأصول: (وهو ابن العجوز الذي نزل عندها إلياس).
(5) لفظ (تعالى) من (ب).(1/191)
ثم إن الله تبارك وتعالى بعث يونس إلى أهل نينوى، وهي مقابلة الموصل بينهما دجلة (1)، وكان لهم ملك يقال له ملعب بن الإرشاد، وكانوا يعبدون الأصنام. فأقام يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام تسع سنين فلم يؤمنوا، وسألوه بأن يظهر نارا من ماء ويوقدوها بلا حطب، ففعل فلم يؤمنوا. وقيل: أقام يدعوهم ثلاثا وثلاثين (2) سنة فلم يؤمن به إلا رجلان.
فلما يئس (3) من إيمانهم، أتاه جبريل عليه السلام فقال له: يا يونس، انطلق إلى أهل نينوى وأنذرهم أن العذاب قد حضرهم. فأخبرهم بذلك، فلم يرجعوا، فلما كان الليل خرج يونس وزوجته وولداه (4)، فأصبحوا ولم يجدوا يونس فتيقنوا العذاب فتابوا ورجعوا إلى الله تعالى وفرقوا بين كل والدة وولدها فلبسوا المسوح وردوا المظالم، حتى ان الرجل كان يقلع الحجر الذي كان اغتصبه ووضعه في الأساس فيقلعه ويرده (5) إلى صاحبه وهم يقولون: أين أنت يا يونس؟ فإنا لا نعود إلى مخالفتك. فلم يجدوا بدا من الإيمان فقالوا (6): إن يكن يونس قد غاب عنا فإن إلهه لا يغيب. فخرجوا إلى ظاهر البلد يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى وقالوا: إلهنا قد آمنا بك وبنبيك يونس وبجميع الأنبياء والمرسلين، فاغفر لنا ذنوبنا واكشف عنا العذاب، ثم خروا (7) بأجمعهم ساجدين لله تعالى.
فلما فعلوا ذلك أوحى الله تعالى إلى ملائكة العذاب أن ارجعوا فقد حق القول مني أن لا أعذب قوما يوحدونني، فرجعوا إلى المدينة مؤمنين آمنين (8).
__________
(1) في (ب): الدجلة.
(2) في (أ) و (ج): ثلاثة وثلاثين سنة.
(3) في (ب): أيس.
(4) في (ب): وولده.
(5) في (ب): في الأساس ويرده.
(6) في (ب): فقال قوم يونس.
(7) في (ب): ثم خرجوا.
(8) في (ب): فرجعوا إلى المدينة موحدين مؤمنين.(1/192)
واختلفوا (1) في وقوع العذاب، والأصح أنه لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو عاينوا شيئا منه لما نفعهم الإيمان. وذلك أنهم رأوا غيما أسود هائلا (2) بدخان شديد، حتى غشي مدينتهم واسودت سطوحهم (3). /
وقام يونس لينظر إلى أخبار المدينة وبما نزل بقومه من العذاب، فلقيه إبليس في صورة شيخ فقال له يونس: أيها الشيخ من أين أقبلت؟ قال: من نينوى (4). قال: فما نزل بهم اليوم؟ فقال: كان يونس قد وعدنا بالعذاب ولم يكن وعلمنا أنه كاذب.
قال: فغضب يونس وقال: لا أعود إلى قوم كذبوني، وكان معه زوجته وولداه فبلغ شاطىء دجلة (5) فأخذ ولده الأكبر وعبر به الماء، ثم رجع فأخذ ولده الأصغر فلما صار في (6) وسط الدجلة ازداد الماء حتى غرق الولد وجاء ذئب فحمل ولده الذي كان عبر به الماء فخرج يونس من الماء وجعل يعدو خلف الذئب، فالتفت الذئب إليه وقال: ارجع يا يونس، لا سبيل لك إلى ولدك. فرجع ولم يجد زوجته فجلس باكيا حزينا وسار على وجهه حتى لحق بالبحر، فإذا هو بسفينة مارة فلوّح إليهم فرحموه وحملوه فساروا غير بعيد، إذ جاءهم ريح عاصف كادت السفينة أن تغرق فاجتمع (7) أهل السفينة فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم.
فقال يونس: إن فيها (8) عبدا آبقا من ربه وإنها لن تسكن حتى تلقوه في البحر.
__________
(1) في (ب) و (ج): واختلف.
(2) في (أ): رأوا غيما أسودا، وفي (ب): عاينوا غيما أسودا. وما أثبتناه من (ج).
(3) في (أ) و (ب): اسطحتهم.
(4) في (ج): من بلد نينوى.
(5) في (ب): وولده فبلّغ شاطىء الدجلة.
(6) في (أ): إلى.
(7) في (أ) و (ب): فأجمع أهل السفينة.
(8) في (ب): فيها عبدا آبقا.(1/193)
فبينماهم كذلك، إذ رفع حوت عظيم رأسه إليه وأراد أن يبتلع (1) السفينة، فقال لهم يونس: هذا من أجلي، فلو طرحتموني في البحر لسرتم ولذهب الريح عنكم.
قالوا (2): لا نطرحك حتى نتساهم فمن وقعت عليه [المساهمة] (3) رميناه في البحر قال: فتساهموا ثلاث مرات فوقعت عليه، فذلك قوله تعالى: {فَسََاهَمَ فَكََانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (4) أي المغلوبين، فانطلقوا به إلى صدر السفينة ليلقوه في البحر فإذا بحوت عظيم أقبل من بلاد الهند فاتحا (5) فاه ثم جاؤوا به إلى جانب آخر فإذا بالحوت فاتحا (6) فاه كالأول، فلما رأى ذلك القى بنفسه {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (7) يعني يلوم نفسه وكان ذلك في جوف الليل.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: فابتلع الحوت حوت آخر فصار في ظلمات ثلاث وهو يسمع تسبيح الحصى الذي في قعر البحر.
ذكر الشيخ عبد القادر الكيلاني في «معراج لطيف المعاني»: أن الله تبارك وتعالى (8) أوحى إليه وقال: يا يونس، من اشتغل بغيري أحرمه (9) جزيل خيري، واعتبر بقارون حين استغاث بموسى، فلقي حنقا وبؤسا، فنادى في الظلمات (10) الثلاث المذكورات: {لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ} (11). فلما سمعت الملائكة صوته (12) قالت إلهنا: هذا صوت يونس،
__________
(1) في (ب): يبلغ.
(2) في (ب): فقالوا.
(3) لفظ (المساهمة) في (ج) وحدها.
(4) سورة الصافات، الآية: 141.
(5) في (ب): فاغرا.
(6) في (ب): فاغرا.
(7) سورة الصافات، الآية: 142.
(8) في (أ) و (ج): تعالى.
(9) في (أ) و (ب): أحرمك. وفي (ب): يا يونس، اشتغل بغيري.
(10) في (ب): ظلمات ثلاث.
(11) سورة الأنبياء، الآية: 87.
(12) فلما سمعت الملائكة قالت.(1/194)
ولا ندري في أي موضع هو! قال: هو في قعر البحر في بطن الحوت. قالت:
إلهنا هل فعل ذنبا؟ قال: لا، إلا أني أدّبته، وعلى عجائب قدرتي وملكوتي فرجته، وهو يسبّحني ويقدسني. وكان نودي في سره: يا يونس يكون لك معي خلوة في قرار البحر ما نالها أحد غيرك. قال: ومن يحملني إلى قرار البحر يا ذا العزة والجبروت؟ قال: يحملك بقدرتي الحوت (1).
قال كعب الأحبار: كان هذا البحر بحر الروم له سبعماية ألف باب إلى البحار كلها، فأدخل الحوت يونس إلى هذه / الأبواب كلها وهو يقول له: هذا باب كذا وهذا باب كذا، ويونس يسمع لغات الحيتان وخلائق الماء، ويسمع تسبيحهم بلغات مختلفة.
ويقال: إن الله عزوجلّ رقق له جلد بطن الحوت حتى ينظر إلى جميع ما في البحر فلم يزل الحوت يطوف به البحار كلها وكان سجوده على كبد الحوت.
روى الطبراني من حديث أبي هريرة (2) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما أراد الله تعالى حبس يونس في بطن الحوت أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما، إني لم أجعله لك رزقا ولكن جعلت بطنك له وعاء ومسجدا.
وفي «معراج لطيف المعاني»، للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره: أن زوج تلك الحوتة قصدها للجماع فقالت: إني حاملة وديعة وأمانة فلا اشتغل بالشهوات والخيانة. فمكث في بطن الحوت على أصح الروايات أربعين ليلة فنادى في الظلمات {أَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ} (3).
وقيل: إن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس منه يونس عليه
__________
(1) في (ب): تحملك قدرتي.
(2) في (ب): من حديث أبا هريرة.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 87.(1/195)
السلام. فلما وصل الحوت إلى الموضع الذي ابتلعه فيه ناداه ملك أن اقذفه من بطنك أيها الحوت، فتقدم إلى الساحل فقذفه.
وكان حين خرج من بطن الحوت كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش وهو قطعة لحم لم ينقص من خلقه شيء (1)، فأنبت الله عليه شجرة اليقطين وكان يوم خروجه من بطن الحوت سابع المحرم. ثم أمر الله تعالى ظبية فأقبلت إليه ووقفت بين يدي يونس وكلمته بإذن الله تعالى وأمرته أن يمص من لبنها ليقوى به (2). فلما مص وشرب قوي، فلم يزل على ذلك أربعين يوما فنام يوما ثم انتبه فرأى اليقطينة قد يبست والظبية غابت عنه، فجلس حزينا مغموما يبكي لفقدهما فأوحى الله إليه: يا يونس إنك تبكي على ظبية لم ترزقها وعلى يقطينة لم تزرعها، ولم تحزن على ماية ألف أو يزيدون من أولاد إبراهيم عليه السلام. فعند ذلك هبط عليه ملك وأتاه بحلتين (3) فلبسهما وقال له: قم يا يونس إلى قومك، / فإنهم يتمنون أن يروك.
فسار يونس عليه السلام حتى وصل إلى قرية فرأى رجلا ومعه امرأة وهو ينادي: من يحمل هذه المرأة إلى بلاد نينوى ويسلمها إلى زوجها يونس بن متى وله مايه مثقال من الذهب؟ فنظر يونس عليه السلام إلى المرأة (4) فعرفعها، فإذا هي امرأته فقال: أيها الرجل ما قصة هذه المرأة؟ فقال إن هذه كانت جالسة على شاطىء البحر تنتظر زوجها، فمرّ بها ملك من ملوك هذه البلاد فاحتملها إلى منزله، وأراد أن يفجر بها، فأيبس الله تعالى يديه ورجليه، فسألها أن تدعو له ولا يعود (5) إلى ذلك أبدا فدعت له فعافاه الله تعالى، فدفعها إلي وماية مثقال من الذهب الأحمر على أن أحملها إلى بلد نينوى، وأسلمها إلى زوجها يونس بن
__________
(1) في (ب): شيء.
(2) في (ب): ليقوى.
(3) في (ب): ومعه حلتين.
(4) في (ب): الامرأة.
(5) في (أ): ولا يعاد.(1/196)
متى. فقال يونس: أنا أحملها، فأعطاه الرجل الذهب وسلم إليه المرأة فسار فرسخين حتى دخلا (1) قرية أخرى وإذا هو برجل راكب دابة ومن ورائه غلام، فنظر إليه يونس فإذا هو ولده الصغير الذي غرق فأخذه واعتنقه (2)، فقال له الرجل: من أنت؟ قال: أنا يونس بن متى، وهذا ولدي، فسلم الرجل إليه ولده، فسأله يونس عن قصة هذا الغلام (3)، قال: أنا رجل صياد، وكنت قد ألقيت الشبكة في طرف دجلة، فوقع هذا الغلام في الشبكة وهو حيّ فأخذته، وإذا بهاتف يقول: احفظ هذا الغلام حتى يجيء (4) إليك أبوه يونس بن متى فأدفعه إليه، وسار يونس حتى بلغ قريبا من بلد نينوى، فإذا هو بغلام يرعى غنما على قارعة الطريق وهو يقول: اللهم اردد علي والدي، فرآه يونس، فإذا هو ولده الكبير، فتعانقا وبكيا جميعا، ثم قال: يا أبت إن هذه الأغنام لرجل في هذه القرية، فسر معي حتى نرد غنمه عليه. فمضيا حتى دخلا القرية وإذا بشيخ كبير جالس على باب داره فأخبره الغلام أن هذا أبي، فقام الشيخ إلى يونس وقبل يديه فقال له يونس (5): هل تعرف قضية هذا الغلام؟ قال (6): نعم، أنا رجل كنت أرعى هذه الغنم وإذا أنا / بهذا الغلام على ظهر الذئب فألقاه بين يدي وكلمني بإذن الله تعالى وقال: يا راعي احفظ (7) هذا الغلام فإذا جاءك يونس بن متى فادفعه إليه فهو ابنه.
ثم سار يونس حتى قرب من المدينة فإذا هو براع يرعى غنما (8) فوقف عليه وطلب منه لبنا فقال الراعي: يا هذا، ما ذقنا لبنا منذ غاب عنا نبينا يونس عليه
__________
(1) في (ج): دخل.
(2) في (أ): فتعانق به، وفي (ب): فعانقه.
(3) في (ب): فسأله يونس عن قصته فقال.
(4) في (ب): يأتي إليك.
(5) في (أ): وقبل يديه وقال له يونس. وفي (ب): فقبل يديه فقال يونس.
(6) في (ب): قال: كنت يوما أعمل في البرية، فإذا أنا بذئب مرّ عليّ وعلى ظهره هذا الغلام.
(7) في (ب): احتفظ.
(8) في (ب): براعي غنما.(1/197)
السلام. قال يونس للغلام (1): إأتني بنعجة فأتاه بها فمسح صرعها فدرت بإذن الله تعالى فحلبها (2) فتعجب الراعي فقال: إن كان يونس حيا فهو أنت. قال: أنا يونس، فانكب الغلام على رجليه، فقبله (3) ثم قال: يا غلام اذهب الآن إلى المدينة واخبر الناس انك رأيتني، فقال: يا نبي الله، أخشى أن يكذبوني. فقال يونس: خذ معك هذه الأغنام فإنها تشهد لك (4).
قال: فمضى الراعي بغنمه حتى توسط المدينة ثم قال: أيها الناس ابشروا فقد رجع إلينا يونس نبينا (5) وقد رأيته. فكذبوه، فقال: أنا والله صادق وهذه الأغنام تشهد لي بصدقي. قال: فشهدت له الأغنام (6) بإذن الله تعالى فتعجبوا.
واتصل الخبر بالملك فوثب عن سريره وركب معه جميع أهل المدينة وخرجوا بين يديه وساروا فإذا هم بيونس عليه السلام، فلما رآهم بكى بكاء شديدا، ثم احتملوه فأدخلوه (7) المدينة واجلسه الملك مكانه ووقف بين يديه، وفرح أهل المدينة بذلك فرحا شديدا. فأقام يونس فيهم (8) زمانا يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى أن مات الملك، فدعى يونس بالغلام الراعي فاستخلفه مكان الملك.
ذكر القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره (9)، في «معراج لطيف المعاني»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن نبيين من الأنبياء حصل لهما خلوتان أحدهما يونس في بطن الحوت، والثاني محمد صلّى الله عليه وسلّم على
__________
(1) في (ب): يونس بن متى عليه السلام فقال يونس للغلام.
(2) لفظ (فحلبها) ساقط من (ب).
(3) في جميع الأصول: فقبلها.
(4) في (ب): ان هذه الأغنام التي معك تشهد لك.
(5) في (ب) و (ج): فقد رجع إلينا نبينا يونس.
(6) في (أ): الغنم.
(7) في (ب): ثم احتملوه وأدخلوه.
(8) في (ب): فأقام فيهم يونس.
(9) (قدس الله سره) ليست في (ج).(1/198)
بساط القرب من الملكوت. وكان السبب في المعراجين أن بعض الكفار قال: إن السماء لله والأرض والبحار لغير الله، فأراد الله أن يجعل معراج يونس في البحر في وسط الماء ومعراج محمد صلّى الله عليه وسلّم فوق السماء.
وخرج يونس عليه السلام ومعه سبعون رجلا من العباد والزهاد حتى وصل إلى جبل صهيون فكانوا (1) هناك يعبدون الله تعالى إلى أن مات يونس عليه السلام ودفن في جبل صهيون. وقيل: دفن بأرض الموصل وله قبر هناك يزار ويتبرك به.
قال الإمام أبو الفتح في كتابه: قبر يونس عليه السلام بالقرية المعروفة بحلحول على طريق بلدة الخليل عليه السلام وله قبر هناك يزار ويتبرك به (2) وقد زرته. وقيل إن قبره بالكوفة في ناحية طبرية.
__________
(1) في (ب): وكانوا.
(2) الجملة من (قال الإمام أبو الفتح) إلى هنا ساقطة من (ب).(1/199)
الفصل الخامس والعشرون في ذكر شمويل عليه السلام
وقيل اسمه اشماويل (1) وهو بالعربيّة اسماعيل، وهو ابن هلقا، من ولد قاهت بن لاوى بن يعقوب عليه السّلام بعثه الله تعالى نبيّا إلى العمالقة، وهم قوم كانوا يسكنون غزّة وعسقلان وساحل البحر، ما بين مصر وفلسطين، فمكث فيهم عشرين سنة.
وكان جالوت (2) ملك العمالقة ظهر على بني اسرائيل وتغلب على أرضهم وسبى كثيرا من ذراريهم وضرب عليهم الجزية. فقالوا لشمويل: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فأخبرهم: انّ الله تعالى بعث لكم طالوت (3) ملكا، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السّلام. وكان دبّاغا وقيل: كان مسكينا راعي حمير أهل البلد (4) وسميّ طالوت لطوله. وكان أجمل بني اسرائيل وأعلمهم، فملكه الله عليهم فقالوا فيه ما قالوا، ولم يقبلوه. وأخبرهم بنيتهم انّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت الّذي انتزع منكم. وكان أخذه البابليّون ومكث عندهم عشر سنين فسمعوا عند الفجر حفيف (5) أجنحة الملائكة تحمل التّابوت بين السّماء والأرض، وبنو
__________
(1) المعارف 20، وتاريخ الطبري 1/ 467، ومروج الذهب 1/ 39، والكامل في التاريخ 1/ 121، ونهاية الأرب 14/ 32، والبداية والنهاية 2/ 5، وعرائس المجالس 233، وقصص الأنبياء 410، ومرآة الزمان 1/ 467، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 45.
(2) المعارف 20، ومروج الذهب 1/ 39، ونهاية الأرب 4/ 44، والبداية والنهاية 2/ 5، وعرائس المجالس 239، ومرآة الزمان 1/ 471.
(3) خبر طالوت في عرائس المجالس: 235، والكامل في التاريخ 1/ 122.
(4) في (ب): بلد.
(5) في (ج): خفيق.(1/200)
إسرائيل ينظرون إليه، حتّى وضعوه بين يدي طالوت، فآمنوا حينئذ بنبوّة شمويل وبملك طالوت.
واشتدّ سلطانه وكثرت عساكره، وخرج طالوت لقتال جالوت ومعه ثلثماية وثلاثة عشر رجلا وفيهم ايشا والد داود عليه السّلام، ومعه بنوه وهم ثلاثة عشر ولدا، فكان داود عليه السّلام اصغرهم فأوحى الله [تبارك وتعالى] (1) إلى شمويل ان في ولد ايشا من يقتل جالوت، وانّما أريد أن أجعله خليفة في الأرض. فقال شمويل لايشا: اعرض عليّ أولادك. فعرض عليه أولاده الّا داود، فطلبه فرآه (2)
رجلا قصيرا مصفرّا فقال له طالوت: هل (3) لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري حكمك في ملكي؟ فقال: نعم. قال له طالوت: (4) فهل (5) جرّبت قوّتك في شيء؟ قال نعم، أنا راع للغنم فإذا جاءها الأسد أو النّمر أو الذئب وأخذ الشّاة فأقوم إليه سريعا ثم أقبضه وأفتح فاه عنها وأخرق فاه إلى قفاه. / ورأيت يوما أسدا رابضا وقبضت (6) على عنقه فقتلته من غير سلاح. فتعجّب طالوت من كلامه، ثم سار مع العسكر حتّى وقف بين يدي جالوت.
وكان جالوت رجلا جبّارا أشدّ النّاس بأسا وأقواهم بطشا (7) وكان يهزم الجيش وحده، وكانت له بيضة لرأسه (8) ينقلها ثلاثون رجلا، وكان له فرس أبلق خلقه الله تعالى ما كان مثله في الخلق والقوّة، ولم يحمله غيره.
فلمّا قرب داود عليه السّلام إلى جالوت، أخرج ثلاثة احجار كانوا (9) في
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب).
(2) في (ب): فوجده.
(3) في (ب): فهل لك.
(4) في (أ): فقال طالوت.
(5) في (ب): هل.
(6) في (ب): فقبضت.
(7) في (ب): أشد الناس بطشا.
(8) في (ب): رأسه.
(9) كذا في جميع الأصول.(1/201)
مخلاته فوضعها في المقلاع. قال له جالوت: أنت أتيتني لتقاتلني بالحجر الّذي في المقلاع كما يؤتى الكلب؟ قال: نعم، وأنت أشرّ من الكلب. قال المسعودي (1): فصارت الثّلاثة الأحجار حجرا واحدا (2) في المقلاع بقدرة الله تعالى. ثم قال داود: بسم الله إله الخلق (3) ورمى بالمقلاع الحجر وقصد برميته جالوت فأصاب الحجر بارادة الله تعالى دماغه (4) فخرق البيضة ودماغه وخرج من نقرة قفاه وتقطّع الحجر بإذن الله تعالى على عدد جنود جالوت، وتفرّق عليهم فلم يبق منهم أحد إلّا وأصابته من تلك (5) الحجر قطعة أهلكته. ثمّ إن (6) داود عليه السّلام حزّ رأس جالوت وانتزع خاتمه من اصبعه وجعل يجرّه من رجله حتّى القاه بين يدي طالوت. وكان موضع القتل ببيسان من أرض الغور.
ففرح المسلمون بقتلهم ورفع الله ذكر داود عليه السّلام وأخمد ذكر طالوت فزوج بنته لداود عليه السّلام (7) وأجرى حكمه في الملك. فحسد طالوت داود عليه السّلام وأراد قتله، فهرب داود منه (8). بعد ذلك ندم طالوت على ما همّ به من قتل داود عليه السّلام وتاب إلى الله تعالى، فخرج من ملكه وقاتل في سبيل الله ومعه أولاده الثلاثة عشر حتى قتلوا كلّهم (9). وورّث الله تعالى داود عليه السّلام ملك طالوت ونبوّة اشماويل (10) وكان مدّة ملك طالوت فيما حكاه محمّد بن جرير الطبري أربعين سنة (11)
__________
(1) مروج الذهب 1/ 40.
(2) في (أ) و (ب): الثلاثة أحجار.
(3) في (ب): بسم الله الخلق.
(4) في (ب): فأصاب دماغه بقدرة الله تعالى.
(5) كذا وردت في جميع الأصول.
(6) في (أ) و (ج): وإن داود عليه السلام.
(7) جملة (وأخمد ذكر طالوت) ساقطة من (ب).
(8) في (ب) و (ج): فهرب منه داود.
(9) الجملة (وتاب إلى الله تعالى) ساقطة من (ب).
(10) في (ب): ثم ملك طالوت وبنو اشماويل.
(11) تاريخ الطبري 1/ 475. وهو ينقل عن أهل التوراة.(1/202)
وأمّا شمويل فعاش اثنتين وخمسين سنة (1)، وقبره بأميال عن بيت المقدس (2). وأمّا قبر طالوت في دمشق بسفح جبل قاسيون شرقي الصّالحيّة قريب من الركنيّة.
__________
(1) في الأصول: اثنين وخمسين سنة.
(2) في (ب): بأميال عند بيت المقدس.(1/203)
الفصل السّادس والعشرون في ذكر داود عليه السّلام
وهو داود (1) بن إيشا بن عويل، من ولد يهودا عليه السّلام (2).
وكان قصيرا أزرق العينين مصفّر اللون دقيق القامة، سبط الشعر، طويل اللّحية، فيها جعودة، حسن الصّوت، طيب الخلق، طاهر القلب نقيّا (3).
وقد وهبه الله القوّة والبطش وجعله خليفة في الأرض، وآتاه الله الملك والحكمة. وكان بيت المقدس دار ملكه (4) وأنزل الله عليه الزّبور خمسين صحيفة بالعبرانية. وكان يقرأ الزّبور على اثنين وسبعين صوتا بين روابي البرّية، فيقوم الانس والجنّ والوحوش (5) والطيور لاستماع قراءته، ويركد الماء الجاري وتسكن الرّياح وتجاوبه الجبال.
قال الحكماء: إنّما صنعت المزامير والأوتار والنّغمات إلّا على ألحان داود عليه السلام وصوته. عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: كان داود عليه السّلام (6) اذا سبّح الله تعالى سبّح معه الحجر والمدر.
__________
(1) المعارف 21، وتاريخ الطبري 1/ 476، ومروج الذهب 1/ 40، والكامل في التاريخ 1/ 125، ونهاية الأرب 14/ 54، والأنس الجليل 1/ 413، والبداية والنهاية 2/ 9، والمستدرك 2/ 285، وعرائس المجالس 244، وقصص الأنبياء 416، وتهذيب ابن عساكر 5/ 190، ومرآة الزمان 1/ 475.
(2) في (ب): ابن غويل من ولد يهودا عليهم السلام.
(3) في (أ) و (ب): نقي.
(4) في (ب): (وكان دار ملكه بيت المقدس). وفي (ج): وكان بيت المقدس دار ملكه.
(5) في (ب): والوحش.
(6) سقط من (ب): (وصوته عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان داود عليه السلام).(1/204)
وكان يصوم (1) يوما ويفطر يوما. وكان أشدّ ملوك الأرض سلطانا، وكان يحرس محرابه في كل ليلة أربعة آلاف رجل. وألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع والعجين، فكان يصرفه كيف يشاء من غير إدخاله في النّار. وكان يتّخذ الدّروع ويبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل منه ويطعم عياله ويتصدّق بالباقي.
روي (2) أنّ لقمان الحكيم دخل عليه ذات يوم فرآه يعمل حلقا صغارا من حديد ويضعها في قصعة، فأراد أن يسأله فمنعته الحكمة، فصبر حتّى امتلأت القصعة، وكان ذلك عياره، فقام على قدميه وصبّها عليه وهزّ أكتافه فلم يقع شيء من ذلك الحلق على (3) الأرض. بل اشتبكت بعضها في ببعض فصارت درعا.
فقال لقمان لما رأى / ذلك: نعم الدّرع للحرب. وقال (4) داود عليه السّلام: نعم الرجل الصّابر أنت (5).
وكان لداود عليه السّلام تسعة عشر ولدا (6)، فلمّا ارتكب الخطيئة بزواج امرأة أوريا وكان له تسع وتسعون امرأة فصاروا مائة (7)، عاتبه الله تعالى بسبب ذلك، فمكث ساجدا ولم يرفع رأسه أربعين يوما وهو يبكي حتّى نبت العشب (8)
حول رأسه، وأكلت الأرض جبهته، وهو يسأل التوبة.
وقيل: بكى على خطيئته ثلاثين سنة، وكان بكاؤه ودموعه يعادل بكاء أهل الأرض ودموعهم حتّى تاب الله عليه.
__________
(1) نهاية الأرب 14/ 55.
(2) في (ب): وروي.
(3) في (ب): إلى الأرض.
(4) في (ب): فقال.
(5) في (أ): نعم الصبر للمرء.
(6) في (ب) و (ج): وكان لداود عليه السلام تسع وتسعون امرأة.
(7) (وكان له تسع وتسعون امرأة فصاروا مائة) من (أ)، وفي (ب): فلما ارتكب الخطيئة فصاروا مائة.
(8) في (ب): (انبت الله العشب).(1/205)
قال أبو عبد الله البجلي (1): ما رفع داود عليه السّلام رأسه إلى السّماء بعد الخطيئة حتّى مات.
وكان يوصي ولده سليمان عليه السّلام ويقول: يا بنيّ إياك والهزل فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان. وإيّاك والغضب، فإنه يستخف بصاحبه، وعليك بتوقي الله تعالى وطاعته فإنّهما يغلبان كلّ شيء. وإيّاك وكثرة الغيرة على أهلك، فإن ذلك يورث ظنّ السوء بالنّاس. واقطع طمعك ممّا في أيدي النّاس وعوّد نفسك ولسانك الصّدق.
وتوفّي داود عليه السّلام وعمره ماية سنة وستّة شهور (2) ودفن في كنيسة صهيون ببيت المقدس، وكان مدّة خلافته أربعين سنة. وعن وهب انّه قال: شيّع جنازة داود عليه السّلام أربعون ألف راهب سوى سائر النّاس وكان في يوم صائف (3) فأذاهم حرّ الشمس فنادى سليمان عليه السّلام الطير وأمرها أن تظلّ النّاس، فتراصّ بعضها إلى بعض من كلّ جهة حتى اعتمت ومنعت الريح وكاد النّاس (4) أن يهلكوا، فخرج سليمان [عليه السلام] فنادى الطير: أظلّي (5) من ناحية الشمس وتنحّي عن ناحية الريح، ففعلت ذلك بإذن الله تعالى.
__________
(1) في (أ): (عبد الله الجيلي)، وفي (ب): (أبو عبد الله الحلبي).
(2) في (ب) و (ج): وستة أشهر.
(3) في (ب): مصياف.
(4) الجملة: (فتراص بعضها إلى بعض) ساقطة من (ب).
(5) ما بين الحاصرتين من (ب)، ووردت الجملة في (ب): فخرج سليمان عليه السلام فنادى الطير وقال: أيها الطير، اخرجي من ناحية الشمس.(1/206)
الفصل السابع والعشرون في ذكر سليمان عليه السّلام (1)
كان رجلا (2) أبيض جسيما جميلا [حسنا] (3) كثير الشّعر [منتصف القامة] (4) أسود العينين مع شدّة بياضهما. وكان النور يسطع من جبينه، وكان يلبس من الثياب البياض، وكان خاشعا متواضعا وكان أبوه يشاوره في كثير من أموره مع صغر سنّه، لوفور عقله وكثرة علمه. وأعطاه الله عزّوجل / من الملك (5)
ما لم يعطه لأحد غيره من خلقه حتّى ملك الأرض جميعا. وكان عمره حين أتاه الملك ثلاث عشرة سنة (6) فابتدأ ببنيان مسجد (7) بيت المقدس فلمّا استتم (8)
بناءه بنى لنفسه بيتا، وهو موضع القمامة وهي الكنيسة العظمى في وقتنا هذا.
وكان له ثلاثماية منكوحة وسبعماية سرية.
قال صاحب «العرائس» (9): ممّا أنعم الله تعالى على سليمان عليه السّلام أن
__________
(1) في (ب): (في ذكر سليمان بن داود عليهما السلام).
(2) المعارف 21، وتاريخ الطبري 1/ 486، ومروج الذهب 1/ 41، وتاريخ ابن الأثير 1/ 128، ونهاية الأرب 14/ 76، 82، والأنس الجليل 1/ 117، والبداية والنهاية 2/ 19، وعرائس المجالس 257، وقصص الأنبياء 428، والمستدرك 2/ 587، ومرآة الزمان 1/ 498، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 252.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ)، وفي (ب): منتصب القامة.
(5) (عزوجل) ليست في (ب).
(6) في (أ) و (ب): ثلاث عشر سنة.
(7) لفظ (مسجد) ساقط من (ب) و (ج).
(8) في (ب): فلما تمّ.
(9) الخبر في عرائس المجالس 261.(1/207)
نسجت له الشياطين بساطا من ذهب في حرير طوله فرسخا في عرض فرسخ (1)، وكان ينصب في صدر البساط منبرا من الذّهب فيجلس عليه سليمان عليه السّلام (2) ويوضع عن يمينه ألف كرسي من ذهب، وعن شماله كذلك من فضّة، فيجلس عليهم علماء بني اسرائيل، ويجلس حول الكراسي الإنس وخلف الانس الجنّ، ومن خلف الجنّ الشّياطين، والطّيور تظلّهم بأجنحتها من حرّ الشمس.
فإذا أراد المسير إلى الغزو وغيره، ركب البساط، ومعه أهله وخدمه وجنوده بآلة الحرب والدّواب، وما يحتاجون إليه من مأكول ومشروب، ومعه مخابيز وتنانير من حديد وقدور عظام، كل قدر منها تسع تسعة عشر (3) جزورا من الابل. واتّخذ على البساط اصطبلات للدّواب وأماكن للطبّاخين والخبّازين. وكان له على البساط (4) قصر عجيب اتخذه صخر الجني من صفاء القوارير يكاد البصر لا يدركه من شدّة لمعانه يزى ما وراء ظهره وسقوفه، وأبوابه (5) أيضا من القوارير طوله خمسة آلاف ذراع وعرضه مثله. وجعل فيه بيوتا ومجالس وغرفا للرّجال مفردا وللنّساء مفردا، فإذا أردا المسير إلى جهة من الجهات أمر الرّيح الرّخا فتدخل تحت البساط وترفعه بما عليه بإذن الله تعالى بين السماء والأرض ويسير (6) بغير انزعاج فتمرّ بالزرع ولم (7) تحرّكه، وكان غدوّها شهر (8)، ورواحها شهر ولا يقف على مدينة الّا فتحها. فإذا كان وقت الغد أنزل البساط على موضع الماء وتغدى. وعلامة نزول البساط كان سليمان عليه السّلام، إذا رفع رأسه إلى الطير ضمت / أجنحتها وسكنت الريح، ويدور البساط رويدا حتى يصير إلى
__________
(1) في (ب): ان الشياطين نسجت له بساطا من حرير وذهب طوله فرسخان في فرسخ.
(2) في (ب): فيجلس عليه سليمان عليه.
(3) في (أ) و (ب): تسع عشر جزور.
(4) في (ب): وكان على البساط.
(5) في (أ): يرى داخله ما وراء ظهره وسقوفه وإيوانه.
(6) في (أ): وتسير.
(7) في (ب): فلم.
(8) في (ب): قيل: غدو شهر.(1/208)
الأرض. وكان إذا تكلم أحد (1) من النّاس جاءت الرّيح اليه فتخبره بذلك.
روي أن سليمان عليه السلام غزا أهل نصيبين، فأصاب منهم ألف فرس من الخيل الجياد السراع، فصلى ذات يوم صلاة الظهر وجلس على كرسيه، وأمر بعرض الخيل، فعرض عليه منها تسعماية فرس، وإذا بالشمس (2) قد غربت وفاتته صلاة العصر فاغتم لذلك غما شديدا فقال: ردوها علي. فعرقبها بالسيف وقربها لله تعالى، فبقي منها ماية فرس التي لم تعرض عليه فما في أيدي الناس من الخيل فهي من نسل تلك الماية التي سلمت.
قال كعب الأحبار: كانت الأفراس التي عرقبت (3) أربعة عشر فرسا وسلب (4) الله تعالى ملك سليمان (5) أربعة عشر يوما لأنه ظلم الخيل بقتلها (6).
وعن (7) ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الله تعالى الشمس فردت حتى صلى العصر في وقتها.
واختلفوا في سبب زوال ملكه وأخذ خاتمه قيل: قتله الخيل. قال سعيد بن المسيب: إنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام ولم ينظر في أمور العباد وقيل غير ذلك.
وكان ملكه في خاتمه، وكان خاتمه من ياقوتة حمراء، أتاه بها جبريل عليه السلام (8) من الجنة مكتوب عليها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وكان لا
__________
(1) في (ب): وكان إذا تكلم أحدا من الناس.
(2) في (أ): وإذا الشمس.
(3) في (أ): الذي.
(4) في (أ): فسلب.
(5) في (ب): ملكه.
(6) (لأنه ظلم الخيل بقتلها) ساقطة من (ب).
(7) في (أ): عن ابن عباس.
(8) في (ب): أتاه جبريل.(1/209)
يمسه إلا وهو طاهر. وفي كتاب «تاج السلاطين في معرفة الأبالسة والشياطين».
ان أصل خاتم سليمان كان لآدم عليه السلام (1) فلما عصى آدم طار من اصبعه واستجار بركن من أركان العرش، عليه كتابة نورية من غير نقش، وهو «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وعلى الجانب الآخر: {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) وعلى الجانب الثالث: له الملك والكبرياء والعزة والعظمة والسلطان فمن سليمان، وعلى الجانب الرابع: {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (3).
ولما لبس سليمان [عليه السلام] (4) الخاتم سجد له من كان حوله من أول النهار إلى آخره، ولم يتمكن أحد من النظر إلى الخاتم من شدة (5) نوره ولمعانه.
ولما (6) افتتن كان كلما وضع الخاتم في اصبعه سقط من يده، فلما رآه وزيره آصف بن برخيا قال: إنك مفتون بذنبك، ففر إلى الله تعالى وأنا أقوم مقامك، إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك. فخرج سليمان عليه السلام هاربا إلى الله تعالى وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وأقام مقامه أربعة عشر يوما إلى أن تاب الله عليه ورجع إلى منزله ورد الله / عليه ملكه وأعاد الخاتم إلى يده.
فأما ما ذكر أن الجسد هو صخر الجني واستولى على ملكه وعلى أهل بيته
__________
(1) (كان لآدم عليه السلام) ليس في (ب).
(2) سورة القصص، الآية: 88.
(3) سورة المؤمنون، الآية: 14.
(4) ما بين الحاصرتين من (ب).
(5) في (ب): لشدة نوره ولمعانه.
(6) في (ب): فلما.
وورد ذكر فتنة سليمان عليه السلام في سورة ص، الآية 34. {وَلَقَدْ فَتَنََّا سُلَيْمََانَ وَأَلْقَيْنََا عَلى ََ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنََابَ}.(1/210)
فما (1) كان الله تعالى ليسلط (2) الشياطين على نساء نبيه.
وكان مستقر سليمان عليه السلام بمدينة تدمر وأسيلت له عين النحاس ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، وغالب ما ينتفع به الناس اليوم (3) بما أخرج الله تعالى لسليمان عليه السلام. وعلمه الله منطق الطير والوحوش حتى النمل.
__________
(1) (وعلى أهل بيته) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): أن يسلط.
(3) في (أ): وغالب ما ينتفع الناس اليوم.(1/211)
ذكر قصة بلقيس وعرشها وكيفية إتيانه بعرشها (1)
وهي بلقيس (2) بنت هدهاد، من ولد يعرب بن قحطان، ملك اليمن كلها.
فأراد أن يتزوج فلم يجد له كفوا، فتزوج بامرأة من الجن يقال لها: ريحانة، فولدت بلقيس، ولم يخلف ولدا غيرها فلما مات أبوها ملكوها عليهم فاتخذت عرشا عظيما وقصرا بمدينة سبأ.
ولما فرغ سليمان عليه السلام من بناء بيت المقدس، عزم للحج، ومعه من العساكر ما بلغ مقدار ماية فرسخ يحملهم (3) الريح، فأقام بمكة ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه بمكة، خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة.
ثم خرج من مكة صباحا بعد أن قضى نسكه، وسار على البساط نحو اليمن فوافى صنعاء الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسنة (4) ليصلي ويتغدى، فطلبوا الماء فلم يجدوه، وكان دليله على الماء الهدهد، لأنه يرى الماء من باطن الأرض كما يراه الإنسان في باطن الزجاج.
فلما اشتغل سليمان عليه السلام بالنزول، ارتفع الهدهد نحو السماء،
__________
(1) في (أ) و (ج): ذكر قصة بلقيس وكيفية الإتيان بعرشها.
(2) تاريخ الطبري 1/ 489، وابن الأثير 1/ 130، والأنس الجليل 1/ 126، ونهاية الأرب 14/ 111، والبداية والنهاية 2/ 21، وعرائس المجالس 276، وقصص الأنبياء 430، ومرآة الزمان 1/ 511.
(3) في (ج): تحملهم الريح.
(4) في (ب): حسن.(1/212)
فرأى بستانا لبلقيس، فمال إلى الخضرة فهبط عليه، فإذا هو بهدهد من هداهد اليمن فقال له: من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع سليمان عليه السلام. فقال له: فمن (1) أين أنت؟ قال: أنا من هذه البلاد. ووصف له ملك بلقيس وأن / تحت يدها اثني عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد ألف مقاتل.
فمضى معه ونظر إلى بلقيس وعرشها، وما رجع إلى سليمان إلا بعد العصر.
ولما تفقد [النبي] سليمان [عليه السلام] (2) الهدهد ولم يعلم خبره (3) غضب وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} (4). فلما قرب الهدهد بين يدي سليمان عليه السلام، أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان عليه السلام، فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه يجره إليه فقال: يا نبي الله، اذكر وقوفك بين يدي الله عزوجل. فارتدع سليمان عليه السلام وعفا عنه، ثم سأله عن سبب غيبته، فأخبره بأمر بلقيس وعرشها، قال سليمان عليه السلام: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكََاذِبِينَ} (5) ثم كتب سليمان عليه السلام كتابا وختمه بخاتمه وأرسله مع الهدهد، فحمله بمنقاره وطار حتى وقف على رأس بلقيس (6)، فرفرف ساعة حتى رفعت المرأة (7) رأسها إليه، فألقى الكتاب في حجرها، وكانت كاتبة قارئة عربية (8) فقرأت الكتاب. فلما رأت الخاتم ارتعدت، وجمعت الملأ من قومها واستشارتهم (9) وأرادت دفعه عن ملكها،
__________
(1) في (ب): من أين أنت؟
(2) في (أ) و (ج): فلما تفقد سليمان.
(3) في (ب): ولم يجده.
(4) سورة النمل، الآية: 21.
(5) سورة النمل، الآية: 27.
(6) في (أ): المرأة.
(7) في (ب): حتى رفعت رأسها.
(8) في (ب): وكانت قارئة كاتبة.
(9) في (أ) و (ب): واستشار.(1/213)
وكتبت إلى سليمان كتابا وأرسلته مع رجل من أشراف قومها مع هدية فلم يقبلها (1)
سليمان عليه السلام، ورد الهدية كلها وقال: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لََا قِبَلَ لَهُمْ بِهََا} (2) فلما رجع رسول بلقيس إليها وأخبرها بما رآه بعثت (3) إلى سليمان: إني قادمة عليك حتى أنظرك وما تدعو إليه من دينك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سليمان عليه السلام جالسا على سرير ملكه بالشام على أصح الروايات، فرأى رهجا قريبا منه (4) فقال: ما هذا؟ قالوا:
بلقيس. فأقبل حينئذ (5) سليمان على جنوده فقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهََا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (6).
واختلف العلماء في سبب احضار عرشها فقال أكثرهم (7): ليريها قدرة الله تعالى / وعظيم سلطانه.
{قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} (8) وهو المارد القوي: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقََامِكَ} الذي تقضي فيه، فقال سليمان: أريد أسرع من هذا. فقال آصف بن برخيا وكان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى (9) {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} (10).
__________
(1) في (أ): فلم يقبله.
(2) سورة النمل، الآية: 37.
(3) في (أ) و (ب): فلما رجعت رسل بلقيس إليها وأخبروها بما رأوا.
(4) في (ب): فرأى رهجا قريبا.
(5) في (ب): فأقبل سليمان.
(6) سورة النمل، الآية: 38.
(7) في (ب): واختلفوا في سبب احضار عرشها فقال أكثرهم: قدرة الله. وفي (ج): والسبب في احضار عرشها.
(8) سورة النمل، الآية: 39.
(9) في (ب) و (ج) وإذا سأل أعطى.
(10) سورة النمل، الآية: 40.(1/214)
[يروى أن آصف قال لسليمان عليه السلام حين صلى] (1) مد عينيك حتى ينتهي طرفك. فمد سليمان عليه السلام طرفه ونظر (2) نحو اليمن. ودعا آصف فبعث الله تعالى الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض (3) يخدون الأرض خدا، حتى انخرقت الأرض وظهر السرير بين يدي سليمان عليه السلام.
واختلف العلماء في الدعاء الذي دعا به آصف عند الإتيان بالعرش، فروت عائشة رضي الله تعالى عنها [وعن أبيها] (4). إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن اسم (5) الله الأعظم الذي دعا به آصف يا حيّ يا قيوم وقيل: إنه قال: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت، اأتني بعرشها وقال مجاهد: يا ذا الجلال والإكرام.
صفة عرش بلقيس
أي سريرها.
كان مقدمه من ذهب أحمر (6) مفصص بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، وموخره من فضة مكلل بأنواع الجواهر، له أربع قوائم من ياقوت أحمر، وكان (7)
عرضه ثمانين ذراعا وطوله في الهواء كذلك. فلما رأى سليمان العرش مستقرا عنده محمولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف قال: {هََذََا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} (8) [ثم] (9) قال سليمان عليه السلام (10) {نَكِّرُوا لَهََا عَرْشَهََا} (11) فزيدوا
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج). وفي (ب): فلما دعاه فقال له.
(2) (ونظرك) ساقطة من (ج).
(3) في (ب): من تحته.
(4) ما بين الحاصرتين من (ب).
(5) في (ب): اسم الله، بسقوط لفظ (الأعظم).
(6) في (ب): الذهب الأحمر.
(7) في (أ): وكان.
(8) سورة النمل، الآية: 40.
(9) لفظ (ثم) ساقط من (أ).
(10) (سليمان عليه السلام) ساقطة من (ب).
(11) سورة النمل، الآية: 41.(1/215)
فيه (1) وانقصوا منه {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لََا يَهْتَدُونَ} (2) فلما جاءت بلقيس قيل لها: {أَهََكَذََا عَرْشُكِ؟ قََالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ} (3)، شبهته به (4).
ثم إن سليمان عليه السلام دعاها إلى الإسلام فأجابت وحسن إسلامها (5). [وقيل] (6): تزوجها سليمان عليه السلام [وكان دخوله بها] (7)
يوم عاشوراء بعد أربع عشر سنة خلت من ملكه وأحبها حبا شديدا (8) وقيل:
ردها إلى ملكها [وهو الأصح] (9) /
وكان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرة، يبتكر من الشام إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشام.
قال وهب: بل أقامت بلقيس عند سليمان ولم ترجع إلى ملكها مدة سبع سنين وتسعة أشهر، وتوفيت ودفنت (10) ليلا في حائط مدينة تدمر ولم يطلع على دفنها أحد.
[وولد لسليمان منها ولد سماه داود كما في (حياة الحيوان) ومات في حياته] (11) وولد لسليمان منها ولد سماه رحبعم تصرف في الملك بعده سبع عشرة سنة (12).
__________
(1) في (ب) و (ج): أي زيدوا فيه.
(2) سورة النمل، الآية: 41.
(3) سورة النمل، الآية: 42.
(4) في (ب): أي شبيه به.
(5) في (ب): وأحسنت اسلامها.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(7) ما بين الحاصرتين من (ج).
(8) جملة (يوم عاشوراء) ساقطة من (ب).
(9) ما بين الحاصرتين ساقطة من (أ).
(10) في (أ): فدفنت.
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(12) جملة (وولد لسليمان منها ولد سماه رحبعام) ساقطة من (ب).(1/216)
وقد ورد (1) في الخبر أن سليمان عليه السلام أراد أن يصفو له يوم واحد (2) من الدهر عن الكدر فأمر الجن ببناء صرح فبنوه (3) له، فلما دخله مختفيا رأى فيه شابا (4) فقال له: كيف دخلت من غير استئذان (5). قال: أذن لي رب هذا البيت (6) فعلم [سليمان عليه السلام] (7) أنه ملك الموت فقال:
سبحان الله! طلبت يوما في الدنيا الصفا، فقيل لي طلبت شيئا لم يخلق في الدنيا.
فأعلمه ملك الموت أنه بقي من عمره ساعة واحدة. وكان قد بقي لعمارة بيت المقدس (8) مقدار سنة كاملة فقال: اللهم غم على الجن موتي، حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب وليتم العمارة. فقام يصلي وهو متكىء على عصاه [فقبضت روحه] فسقط لما أكلت الأرضة عصاه (9) فوجدوه (10) ميتا.
وعاش سليمان عليه السلام اثنتين وخمسين سنة [وقيل: ماية وعشرين سنة] (11) ودفن عند قبر إبراهيم عليه السلام.
__________
(1) في (أ): وفي الخبر.
(2) في (ب): يوما واحدا.
(3) في (ب): فأمر الجن أن يبنوا له صرحا فبنوا.
(4) في (ب): رأى عنده شاب.
(5) في (ب): بغير إذن.
(6) في (ب): ربي أذن لي. وفي (ج): أذن لي ربي ان ادخل هذا البيت.
(7) ما بين الحاصرتين من (ب).
(8) في (ج): لعمارة مسجد بيت المقدس.
(9) في (ج): فقبضت روحه وهو متكىء عليها، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرض فخرّ ففتحوا عنه.
(10) في (ب): فوجد.
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).(1/217)
الفصل الثامن والعشرون في ذكر لقمان عليه السلام (1)
وهما اثنان:
أحدهما: لقمان الحكيم (2)، وهو لقمان بن عنقاء وكان نوبيا، وقيل: كان حبشيا، مولى للقن بن حسن (3). قال مجاهد (4): كان عبدا أسود (5) غليظ الشفتين مشقق القدمين. وكان عبدا صالحا فمن الله عليه بالحكمة، ولم يكن نبيا، وفي قول أكثر الناس. وروي أنه تلمذ (6) لألف نبي وتلمذ له ألف نبي.
وفي «أنوار التنزيل» أن لقمان كان من ولد آزر عاش ألف سنة حتى أدرك زمان داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان خياطا. وقيل: / كان راعيا.
روي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال: ألست فلان الراعي؟ فبم بلغت هذه المنزلة؟ قال: بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني.
قيل: إن لقمان جمع في الحكمة أربعماية ألف كلمة، واختار منها أربع كلمات: ثنتان منها مما يذكر ولا ينسى، وهما: الله تعالى، والموت وثنتان منها مما ينسى ولا يذكر، وهما: احسانك إلى الخلق، واساءة الخلق إليك.
__________
(1) في (ب): في لقمان عليه السلام.
(2) تاريخ الطبري 1/ 219، مروج الذهب 1/ 41، نهاية الأرب 13/ 6، تاريخ الخميس 1/ 78، البداية والنهاية 2/ 123، عرائس المجالس 312، ومرآة الزمان 1/ 492وفيها: لقمان بن عنفاء.
(3) في (أ): للقين، وفي (ب): اللقن.
(4) وقال مجاهد.
(5) في (ب): عبدا أسودا.
(6) في (ب): تلميذ.(1/218)
قال وهب: قرأت من حكمته نحوا من عشرة آلاف باب لم يسمع الناس كلاما أحسن منه، ثم نظرت فرأيت الناس قد أدخلوه في كلامهم واستعانوا (1) به في خطبهم.
ومن حكمته، أن مولاه دعاه يوما وأراد أن يجر به فقال: اذبح لي شاة وأتني بأطيب مضغتين منها، فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان. ثم قال مولاه: إذبح شاة أخرى وأتني بأخبث مضغتين منها. فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان. فسأله عن ذلك، فقال: إنهما أطيب شيء (2) إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا.
ودخل يوما سيده الخلاء (3) وأطال الجلوس فناداه أن لا تطل (4) الجلوس في الخلاء، فإنه ينجع الكبد ويورث البواسير.
روي أنه لما قال لابنه واسمه باران وهو يعظه: {يََا بُنَيَّ إِنَّهََا إِنْ تَكُ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} (5) الآية انفطرت مرارته من هيبتها، ومات فكانت آخر كلمة حكمة قالها (6).
وتوفي ومعه سبعون نبيا في يوم واحد من الجوع ودفن بفلسطين (7).
ذكر أن لقمان لما احتضر بكى وقال: ما أبكي على الدنيا إنما أبكي على ما أمامي، شقة بعيدة ومفازة سحيقة وعقبة كؤود وزاد قليل وحمل ثقيل. فما أدري أيحط عني ذلك الحمل حين أبلغ الغاية أو يبقى عليّ فأساق معه إلى نار جهنم؟
ولما مات دفن ما بين مسجد الرملة وموضع سوقها. /
__________
(1) في (ب): واستعانوا بخطبهم.
(2) في (ب): لم يكن أطيب منهما إذا صلحا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
(3) في (ب): إلى الجلاء.
(4) في (ب): لا تطيل.
(5) سورة لقمان، الآية: 16.
(6) في (ب): فكانت كلمة قالها.
(7) في (أ): بقرب فلسطين.(1/219)
الثاني (1): لقمان بن عاد صاحب النسور وهو بقية عاد الأولى، بعثه عاد مع الوفد إلى الحرم يستسقون فدعوا وسأل هو البقاء واختار عمر سبعة أنسر. كلما هلك نسر أخذ مكانه آخر يأخذ النسر وهو فرخ فيربيه (2) إلى أن يموت.
وقد اختلف الناس في عمر النسر، وعامتهم على أنه يعيش خمسماية سنة فعلى هذا إن لقمان عاش ثلاثة آلاف وخمسماية سنة (3). ولم يبلغ هذا العمر من بني آدم أحد غيره وغير عوج بن عناق. وقيل: إنه عاش ثلاثة آلاف وثمانماية سنة، لأنه كان له قبل أن يأخذ النسور ثلاثماية سنة والله أعلم [أي ذلك كان] (4).
__________
(1) في (ب): ولقمان الثاني.
(2) في (ب): ويربيه.
(3) في (أ) و (ب): أنه عاش لقمان.
(4) ما بين الحاصرتين من (ب).(1/220)
الفصل التاسع والعشرون في ذكر النبي شعيا عليه السلام (1)
وهو شعيا بن آصف (2). وهو الذي بشر بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعيسى بن مريم عليه السلام. قال: رأيت راكبين أضاءت (3) لهما الأرض، أحدهما على حمار، والآخر على جمل، فراكب الحمار عيسى عليه السلام وراكب الجمل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ولما كثر في بني إسرائيل الاحداث والبدع، وكان لهم ملك يدعى صديقة من ولد سليمان بن داود عليهما السلام (4)، فبعث الله سنحاريب ملك بابل ومعه ستماية ألف راية، فأقبل حتى نزل حول بيت المقدس. فبلغ ذلك ملك بني إسرائيل وهو مريض، فأوحى الله تعالى إلى شعيا عليه السلام أن ائت ملك بني إسرائيل وأخبره بأن يوصي ويستخلف من يشاء. فأتاه شعيا عليه السلام فقال له:
إن ربك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وتستخلف من شئت على ملكك فإنك ميت. فلما قال ذلك شعيا لصديقة، بكى وتضرع وابتهل إلى الله تعالى فاستجاب الله [تعالى] (5) دعاه، فأوحى الله تعالى إلى شعيا، وأمره أن يخبر ملك بني إسرائيل أن ربه قد استجاب له وقبل دعاءه، وقد أخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه. فأتاه شعيا عليه السلام، وأخبره بذلك، فقال: ذهب الوجع، وانقطع الحزن، وخر ساجدا الله تعالى.
__________
(1) في (ج): في ذكر شعيا النبي عليه السلام.
(2) المعارف 23، تاريخ الطبري 1/ 532، تاريخ ابن الأثير 1/ 143، نهاية الأرب 14/ 142، البداية والنهاية 2/ 32، عرائس المجالس 293، قصص الأنبياء: 446، ومرآة الزمان 1/ 541.
(3) في (أ): أضاء لهما.
(4) (من ولد سليمان بن داود عليهما السلام) ساقطة من (ب).
(5) ما بين الحاصرتين ليس في (أ) و (ب).(1/221)
فلما أصبح / جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، قد كفاك الله شر (1) عدوك فاخرج، فإنهم أصبحوا كلهم موتى إلا ملكهم (2)
سنحاريب وخمسة أنفار من أصحابه، فخرج صديقة (3) الملك يلتمس سنحاريب وأصحابه بين الموتى، فلم يجده، فبعث في طلبه، فأدركه مع خمسة، أحدهم بخت نصر فجعلوهم في الغل والقيد ثم أتوا بهم إلى صديقة الملك فلما رآهم خرّ ساجدا لله تعالى من وقت طلوع الشمس إلى بعد العصر ثم قال لسنحاريب: كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته؟ فقال سنحاريب: نعم قد (4) بلغني أمر نصركم قبل أن أخرج من بلادي ولكن الشقاوة غلبت عليّ وعلى من معي.
ثم إن ملك بني إسرائيل وضع في رقابهم الأغلال وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وعين لكل رجل منهم في كل يوم رغيفين من خبز شعير، فضاق عليهم عيشهم (5) حتى تمنوا الموت، وأراد قتلهم فأوحى الله [تعالى] (6)
إلى شعيا عليه السلام أن يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم. فلما قدموا بابل، لبث سنحاريب سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر وكان ابن بنته، وسار بسيرته.
ثم بعد ذلك قبض الله تعالى صديقة ملك بني إسرائيل، وهو آخر من ملك من آل داود، وكان أقام الملك في آل داود أربعماية وخمسين سنة، ووقع الخلف بينهم حتى قتل بعضهم بعضا، وظهر فيهم البغي والفساد فلا يقبلون كلام نبيهم ولا يرجعون إليه. فلما ازداد بغيهم، أوحى الله تعالى إلى شعيا عليه السلام أن قم
__________
(1) لفظ (شر) ساقط من (ب).
(2) في (ب): فأصبحوا موتى كلهم إلّا ملكهم.
(3) في (أ) و (ب): صديق وما أثبتناه من (ج) يتفق وما ورد في مرآة الزمان.
(4) في (أ) و (ج): نعم بلغني.
(5) في (أ): فضاق عيشهم.
(6) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).(1/222)
خطيبا فيهم. فقام [فيهم] (1) وأطلق الله [تعالى] (2) لسانه فبالغ في التحذير والإنذار، فلما فرغ من كلامه اجتمعوا عليه ليقتلوه، فهرب منهم فتبعوا أثره فلقيه شجرة فانفلقت (3) فدخل فيها، فأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها (4) [فانضمت الشجرة عليه] (5) فوضعوا المنشار فنشروها ونشروه معها.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب).
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).
(3) في (ب): فانغلقت به وصوابه ما أثبتناه.
(4) في (ب): فأراهم إياه.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).(1/223)
الفصل الثلاثون في ذكر إرميا عليه السلام
وهو إرميا بن خلقيا (1) قال صاحب / «العرائس» (2): استخلف الله بعد شعيا إرميا عليهما السلام. وزعم ابن إسحاق (3) أنه الخضر عليه السلام.
فلما كثر في بني إسرائيل الاحداث ولم يطيعوا نبيهم ولم يتوبوا إلى ربهم، أوحى الله تعالى إلى إرميا إني مهلك بني إسرائيل ومسلط عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة وأنزع عن صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل لا يبقي منهم والد ولا ولد. فلما سمع إرميا ذلك، صاح وبكى وتضرع إلى الله تعالى.
ثم إنهم لبثوا بعد ذلك ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر، فسلط الله تعالى عليهم بخت نصر، فخرج من بابل في ستماية ألف راية يريد أهل بيت المقدس، وأرسل الله تعالى صاعقة على بيت المقدس، فالتهب (4) مكان الرهبان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها. فلما رأى إرميا ذلك طار حتى خرج من المدينة وخالط الوحوش ودخل بخت نصر وجنوده (5) بيت المقدس وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم. قيل (6): قتل أربعين ألف رجل ممن قرأ التوراة وتقدم في
__________
(1) في (أ): خلقيا، وفي (ب): حليفا، وفي (ج): حلقيا. وأخباره في تاريخ الطبري 1/ 538وفيه (حلقيا)، الأنس الجليل 1/ 153، تاريخ ابن الأثير 1/ 149، نهاية الأرب 14/ 149، البداية والنهاية 2/ 33، عرائس المجالس 298 (ابن خلفيا)، قصص الأنبياء 448، ومرآة الزمان 1/ 543.
(2) في عرائس المجالس 297.
(3) في تاريخ الطبري وقصص الأنبياء 385.
(4) في (أ): فالتهبت.
(5) في (ب): وجنده.
(6) في (ب): بعد قتل أربعين ألف رجل، وفي (ج): بعد أن قتل أربعين ألف رجل.(1/224)
العلم وأخرب (1) بيت المقدس ونهب ما فيه، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس حتى ردموه بالتراب، وأخذ من الذهب والفضة وأنواع اليواقيت الذي كان وضعه سليمان عليه السلام في عمارة المسجد حين بناه ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ونقل ذلك كله إلى بابل. واختار من الصبيان سبعين ألفا فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل ملك منهم أربعة غلمان (2)، فكان من تلك الغلمان: دانيال، وعزير، وميشائيل، وهم من ذراري الأنبياء، في قسمة بخت نصر. وجمع من سبايا بني إسرائيل، فكان سبعة آلاف من أهل بيت داود عليه السلام، واحد (3) عشر ألف من سبط يوسف وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط شمعون، وأربعة آلاف من سبط يالون / (4)
وأربعة آلاف من سبط يهودا، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي، أولاد يعقوب عليه السلام (5) جعلهم ثلاث فرق، فثلثا بالشام أبقاهم، وثلثا أفناهم، وثلثا سباهم (6).
وسارت من بني إسرائيل طائفة إلى مصر واجتمعوا بملكها، فسار بخت نصر إلى ملك مصر فاقتتلا فظفر به بخت نصر، فأسره وقتل جنوده، وأسر كل من كان عنده من بني إسرائيل، ثم رجع ولحق ببابل. فلما قدم بخت نصر أرض بابل مسخه الله أسدا ثم مسخه نسرا ثم مسخه ثورا، وكان مسخه سبع سنين، وقلبه في ذلك كله قلب إنسان. وهو في ذلك كله يعقل عقل الإنسان فكان ملكه قائما. ثم رده الله تعالى إلى بشريته، فدعا إلى توحيد الله تعالى.
ولكن اختلفوا في إيمانه فقال بعضهم: قتل الأنبياء وأخرب بيت المقدس
__________
(1) في (ب) و (ج): وأخرب.
(2) في (ب): كل واحد منهم أربعة أولاد.
(3) في (ب): واحدى عشر ألفا من سبط يوسف عليهم السلام.
(4) وأربعة آلاف من سبط يالون ساقطة من (ب). وفي (أ): إيالون.
(5) في (ج): وهم أولاد يعقوب عليه السلام.
(6) في (ب) و (ج): أسباهم.(1/225)
وأحرق كتاب الله [تعالى] (1) فغضب الله عليه فلم يقبل منه التوبة، ودخلت بعوضة في منخره حتى أكلت من دماغه فمات. وكان عمره حين مسخ ألفا وخمسماية سنة وخمسين يوما (2).
ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى إرميا إني عامر بيت المقدس وكان بمصر فاخرج إليها. فخرج إرميا من مصر على حمار له ومعه عصير عنب في زكرة (3)
وسلة تين حتى أتى إيليا ووقف عليها ورأى خرابها قال: {أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا} (4) ثم ربط حماره فألقى الله عليه النوم [فنام] (5) وكان وقت الضحى. فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام وأمات حماره والعصير والتين عنده وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد ومنع الله [تعالى] (6) الطير والسباع عن لحمه.
فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله تعالى ملكا من ملوك فارس يقال له: يوشك، إلى بيت المقدس ليعمره فانتدب في ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة عامل، وجعلوا يعمرونها. وكان نجا (7) دانيال وعزير ومن بقي من بني إسرائيل ولم / يمت ببابل منهم أحد وردهم الله تعالى إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروه في ثلاثين سنة، وكثروا حتى كانوا أحسن ما كانوا عليه.
فلما مضت الماية سنة أحيا الله تعالى من إرميا عينيه [وبقي] (8) سائر جسده ميتا، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح فسمع صوتا من السماء: أيتها العظام البالية، إن الله يأمرك أن
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) الجملة: (فمات وكان عمره) ساقطة من (ب).
(3) في (ج): في ركوة.
(4) سورة البقرة، الآية: 259.
(5) الاستدراك من (ب).
(6) ما بين الحاصرتين من (ب).
(7) في (ج): وكان قد نجا.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).(1/226)
تجتمعي. فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض. ثم نودي أن اكتسي (1) لحما وجلدا فكان كذلك. ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه الروح فنهق بإذن الله تعالى، فكان التين كأنه قطع من ساعته والعصير كأنه عصر من ساعته.
وعاش إرميا ثلاثماية سنة.
__________
(1) في (أ): تكتسي.(1/227)
الفصل الحادي والثلاثون في ذكر دانيال عليه السلام
وهما اثنان أحدهما (1): دانيال الأكبر، وكان بين هود وصالح عليهما السلام.
ذكر ابن الجوزي في كتابه «سلوة الأحزان»: أن الله تعالى أوحى إليه أن احفر لي نهرين عظيمين وهما دجلة والفرات فقال: يا رب، كيف أحفره (2)؟ قال له: خذ سكة من حديد وعرّضها واجعلها في خشبة وألقها خلف ظهرك، فإني باعث إليك ملائكة يعينونك على حفرهما. ففعل كما أمره الله تعالى (3).
وكان من بقايا قوم عاد، وهو الذي وجد المسلمون قبره بالعراق في زمن الفتوح مع أبي موسى الأشعري. وذكروا أن أنفه كان طوله ذراعا (4) وذلك في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (5) حين فتح بلاد العراق (6). [فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر بن الخطاب] (7) فأمره أن يخرجه ويكفنه ويصلي عليه (8) فأخرجه وكفنه وصلى عليه ودفنه. وهو الذي كان يستمطر به أهل فارس في زمن كسرى.
وأما دانيال الأصغر، فإنه كان في زمن بخت نصر، وهو الذي تفرد في علم
__________
(1) المعارف 22، وتاريخ الطبري 1/ 554، والكامل في التاريخ 1/ 151، ونهاية الأرب 14/ 158، والبداية والنهاية 2/ 41، وعرائس المجالس 302، وقصص الأنبياء 456، ومرآة الزمان 1/ 556.
(2) في (ج): كيف أحفر.
(3) في (أ) أمره، وفي (ج): أمر. وما أثبتناه من (ب).
(4) في (ب): ذراع.
(5) في (ج): رضي الله تعالى عنه.
(6) في (أ) و (ب): حين فتح بلاد المغرب.
(7) ما بين الحاصرتين من (ج).
(8) (فأمره أن يخرجه ويكفنه ويصلي عليه) ساقطة من (ب).(1/228)
النجوم والرمل، وكان ذهب به بخت نصر مع أطفال من أولاد الأنبياء عليهم السلام إلى بابل، ثم إن بخت نصر رأى رؤيا عجيبة أفزعته، / فسأل عنها الكهنة والسحرة فعجزوا عن تعبيرها. وكان دانيال مع أصحابه في السجن فأخبر السجان بخت نصر بقصة دانيال (1) فقال له: عليّ به. وكان لا يدخل عليه أحد إلا وسجد له فأتوا به فقام بين يديه ولم بسجد (2) فقال له: ما الذي منعك من السجود لي؟
فقال: إن لي ربا آتاني العلم والحكمة (3)، وأمرني أن لا أسجد لغيره فخشيت أن أسجد لغيره فينزع مني علمه الذي آتاني ويهلكني فأعجب به وقال: نعم ما فعلت حيث وفيت نعمه. ثم أخبره برؤياه التي رآها قبل أن يخبره الملك وعبرها له فجعل يكرمه وأصحابه، ويستشيره في أموره، حتى كان أكرم الناس عليه (4) وأحبهم إليه، فحسده (5) المجوس وذهبوا إلى اهلاكه فنجاه الله تعالى. ولما هلك بخت نصر رجع إلى بيت المقدس مع أصحابه، وقيل: بقي بأرض بابل إلى أن مات بالسوس من قرى خوزستان (6).
وعن (7) أبي الزناد أنه قال: رأيت في يد أبي بردة بن موسى الأشعري خاتم فضة نقش عليه أسدان (8) بينهما رجل وهما يلحسان الرجل، قال أبو بردة:
هذا خاتم دانيال، أخذه والدي حين وجده يوم حفر قبره (9). قالوا في سبب هذا النقش: إن بخت نصر لما أخذ في تتبع الصبيان وقتلهم وكان دانيال في ذلك الوقت
__________
(1) في (ب): وأخبره بقصته.
(2) في (ب): ولم يسجد له.
(3) في (ج): الحكمة والعلم.
(4) في (ب): عليهم.
(5) في (ب): فحسدوه.
(6) في (أ) و (ب): من أرض المغرب.
(7) في (أ): عن.
(8) في (أ): نقش فضة اسدان.
(9) في (أ) و (ب): يوم دفنه. وما أثبتناه من (ج).(1/229)
صغيرا (1)، أخذته أمه وألقته في غيضة، رجاء أن ينجو منه، فقيّض الله تعالى له أسدا يحفظه (2) ولبوة ترضعه، وهما يلحسانه، فلما كبر صور ذلك في خاتمه حتى لا ينسى نعمة الله عليه.
__________
(1) في (ب): ولد في ذلك الوقت، وفي (ج): وكان دانيال صغيرا في ذلك الوقت.
(2) في (ب): اسدا ولبوة يحفظه، ولبوة ترضعه.(1/230)
الفصل الثاني والثلاثون في ذكر عزير عليه السلام
وهو عزير (1) بن شرحيا (2)، من ولد هارون عليه السلام.
قال الشيخ الأكبر في «مسامرة الأخيار» (3) لم يكن عزير نبيا، وكان من علماء بني إسرائيل. ونقل أيضا (4) عن أبي الفتوح نصر بن أبي الفرج الحنبلي أنه قال:
كان عزير قد أكثر المناجاة في بيت المقدس في القدر فمحي اسمه (5) من الأنبياء فلا يذكر فيهم (6).
وذهب بعض العلماء أن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه هو عزير (7).
قال: فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له / حتى نزل بدير هرقل على شفا دجلة فطاف بالقرية فلم ير فيها احدا، ورأى عامة أشجارها [حاملة] (8)
فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل الفاكهة في سلة والعصير في زق، فلما رأى خراب القرية قال: {أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا} (9) قالها
__________
(1) المعارف 22، وتاريخ الطبري 10/ 556، والكامل في التاريخ 1/ 152، ونهاية الأرب 14/ 142، والبداية والنهاية 2/ 43، وعرائس المجالس 309، وقصص الأنبياء 461، ومرآة الزمان 552.
(2) في (ب): عزير بن سرحيا.
(3) في (ب): (الشيخ) بسقوط كلمة (الأكبر).
والخبر في محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار 1/ 136.
(4) لفظ (أيضا) ساقط من (ب).
(5) في (ب): بيت المقدس محي اسمه.
(6) محاضرة الأبرار 1/ 137.
(7) في (أ): ان الذي اماته الله مائة عام ثم بعثه عزير.
(8) ما بين الحاصرتين من (ج).
(9) سورة البقرة، الآية: 259.(1/231)
متعجبا لا شاكا، فأحياه الله بعدما أماته ماية سنة، فركب حماره وقصد بيت المقدس حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة، قد أتى عليها من العمر ماية وعشرون سنة كانت أمة لهم (1)، وكان عزير قد خرج منهم وهي ابنة عشرين سنة، وكانت قد عرفته وعقلته، فقال لها: يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت: نعم، هذا منزل عزير، وبكت وقالت: ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة ذكر عزيرا، قال:
فإني أنا عزير، وإن الله عزوجل قد أماتني ماية سنة ثم بعثني. قالت: فإن عزيرا كان (2) مستجاب الدعوة، فإن كنت عزيرا فادع الله تعالى أن يرد بصري حتى أراك وأعرفك (3). فدعا ربه عزوجل ومسح بيده على عينيها، فأبصرت من ساعتها (4)، ثم أخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله عزوجل، فقامت صحيحة، ونظرت إليه وقالت: أشهد أنك عزير.
وانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وأخبرتهم، وابن العزير شيخ (5) ابن ماية وثماني سنة (6) وبنو بنيه (7) شيوخ في المجلس، فأقبل الناس إليه فقال له ابنه: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فإذا هي كما قال.
وقال السدي: لما رجع عزير إلى بيت المقدس، ورأى أن بخت نصر (8)
قد أحرق التوراة ولم يبق من يحفظها، بكى عزير على التوراة فأتاه ملك من الله عز وجل بإناء فيه ماء فشرب منه، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل
__________
(1) في (ب): آيه لهم.
(2) في (ب): فإن عزير.
(3) (واعرفك) ساقطة من (ب).
(4) في (ب): فأبصرت من وضعها.
(5) في (ب): شيخ كبير.
(6) في (ب): ابن مائة سنة وثمانية عشر سنة.
(7) في (ب): وبني بنوه.
(8) في (ب): البخت نصّر.(1/232)
وقد علمه الله [تعالى] (1) التوراة وبعثه فقال: أنا عزير، فلم يصدقوه فقال: إني أنا عزير، أماتني الله تعالى (2) ماية عام، ثم بعثني إليكم أجدد لكم توراتكم.
فقالوا: إملها علينا، فأملاها عليهم من ظهر قلبه، فقال رجل: حدثني أبي عن جدي أن التوراة جعلت في خابية (3) ودفنت في / كرم فلان، فأخرجوها فوجدوها كما أخبر (4) ولم يغادر منها آية ولا حرفا. فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعدما ذهبت إلا أنه ابنه فقالوا: عزير ابن الله، تعالى الله وتقدس (5) عن الصاحبة والولد. وكان الله تعالى أمات عزيرا (6) وهو ابن أربعين سنة وبعثه وهو ابن ماية وأربعين سنة (7) فكان أولاده وأولاد أولاده شيوخا وهو شاب أسود الرأس واللحية (8).
وعن وهب بن منبه قال: ليس في الجنة كلب ولا حمار إلا كلب أصحاب الكهف وحمار عزير الذي أماته الله وأحياه (9).
وذكر أهل التاريخ أن في آخر أيام عزير (10) زال ملك الفرس من الشام وصار لليونانيين والروم (11).
وتوفي عزير عليه السلام ودفن في جبل الطور شرقيّ بيت المقدس.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب).
(2) لفظ (تعالى) ليس في (ب).
(3) في (أ) و (ب): خوابي.
(4) في (أ): فأخرجوه فوجدوه كما أخبر وفي (ب): فأخرجوها فوجدوها كما أخبروا.
(5) في (أ): وتقدس الله وتعالى، وفي (ب): تعالى الله عن الولد وتقدس عن الصاحبة والولد.
(6) في (ب): عزير.
(7) (وبعثه وهو ابن ماية وأربعين سنة) ساقطة من (ب).
(8) في (ب): أسود اللحية والرأس.
(9) (وأحياه) ساقطة من (ب).
(10) في (ب): العزير.
(11) لخبر في محاضرة الأبرار 1/ 137.(1/233)
الفصل الثالث والثلاثون في ذكر شمعون عليه السلام
وهو (1) من نسل هارون. وهو الذي تولى رئاسة بني إسرائيل ببيت المقدس بعد عزير (2).
__________
(1) في (ب): هو.
وأخباره في طبقات ابن سعد 1/ 53، والكامل في التاريخ 1/ 211.
(2) في (ب): العزير.(1/234)
الفصل الرابع والثلاثون في ذكر زكريا عليه السلام
وهو زكريا بن برخيا (1) من ولد يهودا (2) عليه السلام. وقيل: من ولد سليمان عليه السلام، وكان نجارا (3).
وفي «بلغة الغواص في أوهام الخواص» (4): كان يعمل بالطين.
قال محمد بن إسحاق (5). لما رجعت بنو إسرائيل من أرض بابل إلى بيت لمقدس، بعد أن استأسرهم بخت نصر تغيرت أمورهم وكانوا يحدثون الأحداث (6)، فبعث الله تعالى زكريا عليه السلام، فنهاهم عن المعصية، ووضع لهم الحدود. وهو الذي كان يقرب القربان ويفتح باب المسجد، فلا يدخل أحد حتى يأذن له بالدخول.
وكان زكريا وعمران متزوجين بأختين، وهو عمران بن ماثان (7)، أبو مريم، وليس بعمران أبي موسى، لأن بينهما ألفا وثمانماية سنة.
__________
(1) المعارف 24، تاريخ الطبري 1/ 585، مروج الذهب 1/ 45، ابن الأثير 1/ 169، الأنس الجليل 1/ 158، نهاية الأرب 14/ 195، البداية والنهاية 2/ 47، عرائس المجالس 333، قصص الأنبياء 466، صحيح البخاري 4/ 198، المستدرك 2/ 589، ومرآة الزمان 1/ 567.
(2) في (ب): هود.
(3) (وقيل من ولد سليمان عليه السلام) ساقطة من (ب).
(وكان نجارا) خبر عن الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) في صحيح مسلم (فضائل: 169).
(4) (في أوهام الخواص) ليست في (ب) و (ج).
(5) في (ب): وقال.
(6) في (ب): فتغيرت أمورهم فكانوا يحدثون الأحداث.
(7) في (ب): عمران بن ماتات.(1/235)
في ذكر قصة مريم عليها السلام
ولما حملت حنة، زوجة عمران بمريم، دعت ربها قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مََا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) الآية. فكان من دأبهم إذا نذر أحدهم ولدا يجعله في الكنيسة يخدمها ولا يرجع إلى أهله حتى يبلغ الحلم، فإذا بلغ / إن اختار الإقامة أقام وإن شاء (2) رجع إلى أهله، ولم يكن ينذر إلا الغلمان (3).
فمات عمران وزوجته حامل بمريم، فلما وضعتها إذا هي أنثى فقالت اعتذارا إلى الله تعالى {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهََا أُنْثى ََ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ََ} (4) في خدمة الكنيسة، لعورتها وما يعتريها من الحيض، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهََا مَرْيَمَ} وهي بلغتهم العابدة والزاهدة والخادمة، وكانت مريم أجمل النساء وأفضلهن في وقتها، ثم قالت أم مريم: {وَإِنِّي أُعِيذُهََا بِكَ وَذُرِّيَّتَهََا مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ} (5).
وعن (6) قتادة رضي الله عنه: كل آدمي يخلق فإن الشيطان يطعنه في جنبه حين يولد إلا عيسى وأمه مريم جعل الله بينهما وبين الشيطان حجابا (7)، فطعنهما (8) إبليس فأصابت الطعنة (9) الحجاب، ولم ينفذ إليهما شيء ببركة دعائهما.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 35.
(2) في (ب): وإلّا.
(3) في (ب): العلماء.
(4) سورة آل عمران، الآية: 36.
(5) سورة آل عمران، الآية: 36.
(6) في (أ): عن.
(7) في (ب): حجاب.
والحديث أخرجه البخاري عن غير طريق قتادة في صحيحه 4/ 194.
(8) في (أ) و (ب): فطعنه.
(9) في (ب): فأصاحب الحجاب.(1/236)
فلما ولدت مريم أخذتها أمها ولفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار (1) لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بخدمتها منكم وعندي خالتها، فقال له الأحبار: لو تركت في الخارج لكان أمها أحق بها، ولكنا نقترع (2) عليها فتكون عند من خرج سهمه. فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم (3) التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء فوقف قلم زكريا وارتفع فوق الماء وانحدرت بقية الأقلام ورسبت (4) في الماء، فعند ذلك {كَفَّلَهََا زَكَرِيََّا} (5) أي ضمها إلى خالتها وأقام بأمرها، وتكلمت وهي صغيرة. وقال الحسن: لم ترضع ثديا قط وكان رزقها يأتيها من الجنة فلما بلغت بنى لها زكريا غرفة في المسجد لا يرقى إليها إلا بسلّم، وكان لا يصعد إليها غيره. وكان زكريا إذا خرج غلق الباب عليها، فإذا رجع {وَجَدَ عِنْدَهََا رِزْقاً} (6) أي فاكهة في غير وقتها فيقول لها: {أَنََّى لَكِ هََذََا قََالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ / يَرْزُقُ مَنْ يَشََاءُ بِغَيْرِ حِسََابٍ} (7).
وذهب بعضهم إلى أنها نبية واحتجوا بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ مَرْيَمَ} (8) فإن الله تعالى ذكرها في عداد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (9)، وأرسل إليها جبريل عليه السلام كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنََا إِلَيْهََا}
__________
(1) في (ب): فتنافس الأحبار فيها.
(2) في (ب): نخاف.
(3) في (ب): وكانوا تسعة وعشرون رجلا إلى نهر الأردن ألقوا أقلامهم.
(4) في (ب): وأرست.
(5) سورة آل عمران، الآية: 37.
(6) سورة آل عمران، الآية: 37.
(7) سورة آل عمران، الآية: 37.
(8) سورة مريم، الآية: 16.
(9) في (أ): صلوات الله وسلامه عليهم. وفي (ب): صلوات الله عليهم أجمعين.(1/237)
{رُوحَنََا} (1) وهذا دليل على أنها نبيّة لكن يخالف نص الكتاب وهو (2) قوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} (3) ويؤيده قول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (4): لو كانت الخلافة تصلح لامرأة لكانت عائشة تستحق الخلافة، ولأن النبوة والرسالة توجب الاشتهار بالدعوة وإظهار المعجزة ولزوم الاقتداء (5)، والأنوثة توجب السر وبينهما تناف، ولأنها ناقصة العقل والدين، والنبي يجب أن يكون أعقل أهل زمانه في أمر الدين وتدبير إعلاء كلمته.
قال كعب الأحبار (6): ولما سمع زكريا عليه السلام أن ابنه يحيى قد قتل، انطلق هاربا حتى سلك في واد كثير الأشجار عند بيت المقدس، فأرسل الملك في طلبه فمر زكريا عليه السلام بشجرة فنادته: هلم إليّ يا نبي الله. فلما أتاها انشقت، فدخلها وانطبقت عليه وبقي في وسطها. فأتى عدو الله إبليس فأخذ هدب ردائه منها فأخرجه من الشجرة فمر به (7) بنو إسرائيل وقالوا له: يا راعي، هل رأيت رجلا من صفته كذا وكذا؟ قال: نعم، سحر هذه الشجرة فانفتحت له ودخل فيها وهذا طرف ردائه. فنشروا الشجرة وفلقوها به فلقتين طولا، فلما بلغ المنشار إلى رأسه أراد أن يئن فأوحى الله تعالى إليه: إما أن تكف عن أنينك وإلا أسقطت اسمك من ديوان الأنبياء (8)، وصبر حتى نشر نصفين (9).
__________
(1) سورة مريم، الآية: 17.
(2) (نص الكتاب وهو) ساقطة من (ب).
(3) سورة يوسف، الاية: 109.
وفي (ب): وردت الآية الكريمة: إلّا رجالا يوحى إليهم.
(4) في (ب): كرّم الله وجهه.
(5) في (ب): الاقتدار.
(6) بعدها في (ب): رضي الله عنه.
(7) في (ب): فأخذ هدب ردائه فأخرج من الشجرة فمرت به بنو إسرائيل.
(8) في (ب): قلبت الأرض من عليها، فسكت.
(9) في (ب): فصر حتى نشر.(1/238)
وفي «السبعيات»: لما بلغ المنشار أم رأسه صاح وقال: آه (1)، فوقعت الزلزلة في ملكوت السماوات والأرض، فنزل جبريل عليه السلام من ساعته وقال يا زكريا، إن الله تعالى يقول: لو قلت مرة أخرى آه (2) لمحوت / اسمك من ديوان الأنبياء عليهم السلام. فعض زكريا شفته حتى شق نصفين (3).
وروي (4) عن يحيى بن معاذ الرازي أنه ناجى في ليلة فقال: إلهي إن طلبتك أتعبتني، وإن هربت منك أحرقتني، وإن أحببتك قتلتني، فلا منك فرار ولا معك قرار.
وكان قتل زكريا عليه السلام بعد ولادة المسيح، وعمره ماية سنة. ودفن في مغارة الأرواح تحت قبة الصخرة ببيت المقدس.
__________
(1) ليست في (أ) و (ب).
(2) (إن الله تعالى يقول لو قلت مرة أخرى) ليست في (ب).
(3) ما أثبتناه من (ج)، وفي (ب): فعض زكريا شفته وشقوه نصفين.
(4) في (أ): روي.(1/239)
الفصل الخامس والثلاثون في ذكر يحيى بن زكريا عليهما السلام
كان حسن الوجه (1) والصوت، لين الجناح، قصير الأصابع، طويل الأنف مقرون الحاجبين، رقيق الصوت وكان قويا في طاعة الله تعالى.
نبىء وهو صغير. ولما ولد رفع إلى السماء وغسل بأنهار الجنة (2) وفطم بثمرها، ثم أنزل، فكان يضيء البيت لنور وجهه.
روي (3) أنه لما نظر إلى الأحبار والرهبان، وعليهم مدارع الشعر وبرانس الصوف، وهم يجتهدون في العبادة فقال: يا أماه (4) انسجي لي مدرعة حتى أعبد الله مع الأحبار والرهبان. فنسجت له (5) فتدرع وأقبل يعبد الله تعالى مع الأحبار والرهبان (6) حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه. فنظر يوما إلى ما نحل من جسمه فبكى، فأوحى الله تعالى إليه: يا يحيى، أتبكي على ما نحل من جسمك؟ وعزتي وجلالي، لو اطلعت على النار لتدرعت بالحديد، فضلا عن المسوح. قال (7):
__________
(1) المعارف 24، وتاريخ الطبري 2/ 586، ومروج الذهب 1/ 45، والكامل في التاريخ 1/ 169، ونهاية الأرب 14/ 201، والأنس الجليل 1/ 158، والبداية والنهاية 2/ 47، 53، وعرائس المجالس 336، والمستدرك 2/ 59، وقصص الأنبياء 466، 475، ومرآة الزمان 1/ 569.
(2) في (ب): في أنهار الجنة.
(3) في (ب): وزوي.
(4) في (ج): يا أما.
(5) في (ب): ففعلت ولبسها.
(6) (وأقبل يعبد الله تعالى مع الأحبار والرهبان) ساقطة من (ب).
(7) قال، ساقطة من (ب).(1/240)
فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدوده (1) وبدا للناظرين أضراسه (2).
وكان يضع قدميه في الماء من العطش ولم يشرب لأنه قال: وعزتك لا أذوق (3) بارد الشراب حتى أعلم أين مصيري إلى الجنة أم إلى النار؟ فبكى أبواه وسألاه أن يأكل قرصا من شعير كان معهما ويشرب من الماء (4) ففعل وكفر عن بمينه فقال له أبوه: يا بني، ما يدعوك إلى هذا البكاء؟ وإنما سألت الله عزوجل أن يقر عيني بك فقال (5) له: أنت أمرتني بذلك قال: / متى أمرتك؟ فقال: ألست القائل: إن بين الجنة والنار عقبة لا يقطعها إلا البكاؤون من خشية الله [تعالى] (6)؟
فقال: بلى.
فاتخذت أمه قطعتين من لبد لتغطي بها (7) ما أكل الدموع من خدوده، فلما وضعتهما، بكى حتى استنقعا، ثم أخذهما فعصرهما. وكانت دموعه تجري على ذراعي (8) أمه لما وضعت اللبد، فنظر زكريا إلى دموع يحيى فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن هذا نبيك وهذه دموع عينيه وأنت أرحم الراحمين.
ذكر الأفقهسي (9)، في كتابه «كشف الأسرار»: سئل يحيى عليه السلام لم لا تتزوج ولا تشتري حمارا ولا دارا (10)؟ فقال: لا أريد أن يقال لي سيد الدار ولا سيد الحمار [ولا سيد فلانة] (11)، ولا أريد اسم السيادة، فلما ترك السيادة
__________
(1) في (ب): قدوده.
(2) (وبدا للناظرين أضراسه) ساقطة من (ب) و (ج).
والخبر بتمامه في مرآة الزمان.
(3) في (ب): لم أزق.
(4) في (ب): وسألوه أن يأكل قرصا وشعير ويشرب من الماء.
(5) في (ب): فقال.
(6) الاستدراك من (ب).
(7) في (أ): ليغطيان بهما. وفي (ب): لغطيان بهم. وما أثبتناه من (ج).
(8) في (ج): على ذراع امه.
(9) في (ب): فقهي، وفي (ج): وذكر الأفقهسي.
(10) في (ب): لم لا تشتري دارا ولا حمارا ولا تتزوج.
(11) في (أ): وسيد الحمار، والاستدراك من (ب) و (ج).(1/241)
وتواضع سماه الله تعالى (1) {سَيِّداً وَحَصُوراً} (2)، لأنه لا يأتي النساء مع القدرة.
وكان لبني إسرائيل ملك يسمى أجب يكرم يحيى عليه السلام غاية الإكرام، ولا يفعل شيئا بغير أمره، وقد هوي بنت امرأته، فشاور يحيى عليه السلام فنهاه عن ذلك. فبلغ نهيه أم البنت، وكانت كافرة قتالة للأنبياء، فحقدت على يحيى عليه السلام، فعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبست بنتها من أنواع الحلى وزينتها وطيبتها وأرسلتها إلى الملك أن تسقيه الخمر فإذا راودها عن نفسها تأبى عليه حتى يعطيها ما تسأله، فإن سألها (3) تطلب أن يؤتى برأس (4)، يحيى عليه السلام في طشت (5) فلما راودها طلبت ذلك (6) فقال الملك:
ويحك سألتني أمرا عظيما! فاطلبي غير هذا فقالت له: لا أسألك غيره (7)، فبعث إلى يحيى عليه السلام وهو قائم يصلي في محراب داود عليه السلام فضرب عنقه فأتي (8) برأسه والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل (9) لك، فحفر له في بيته حفيرة عميقة، ودفن الرأس فيها. فغلى الدم حتى امتلأ البيت (10)، ثم خرج إلى ساحة الدار ثم إلى الأزقة. فلما أصبح أمر بتراب فألقى عليه، فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك كله يغلي ويفور، فخسف الله تعالى بالملك وبالبنت وأمها وتوابعهم، عقوبة لهم. /
__________
(1) لفظ (تعالى) من (أ).
(2) سورة آل عمران، الآية: 39.
(3) في (ج): فإن اعطاها سؤلها.
(4) في (ب): رأس يحيى عليه السلام.
(5) في (ب) و (ج): طست. كثيرا ما ترد على الوجه الذي أشرنا إليه. وهما واحد.
(6) في (ب) و (ج): طلبت منه ذلك.
(7) في (ب): غير هذا.
(8) في (ب): وأتي.
(9) في (أ): لا يحل لك.
(10) في (أ): بالبيت.(1/242)
وفي الخبر أن الشمس بكت على يحيى [عليه السلام] (1) أربعين صباحا وكان بكاؤها إن طلعت أو غربت كانت حمراء ولم ير فيها قبل.
ويروى: أن يحيى عليه السلام سيد الشهداء يوم القيامة وقائدهم الى الجنة.
ولما قتل يحيى قالت الملائكة: إلهنا وسيدنا بأي ذنب قتل يحيى [ولا هم بذنب قط] (2)؟ فقال الله تعالى: ما أذنب يحيى ولا هم بذنب قط ولكنه أحبني، وأنا أفعل بمن يحبني هكذا (3).
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد إلا ويلقى الله تعالى وقد هم بخطيئة أو عملها إلا يحيى عليه السلام، فإنه لم يهم بها ولم يعملها» (4).
فلما قتل يحيى عليه السلام وخسف بالملك وتوابعه، بعث الله ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوش لينتقم منهم، فسار لبيت المقدس فاحتاط المدينة فغلقوا دونه أبواب المدينة وتحصنوا، واشتد عليهم المقام، فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت: أيها الملك، إن كنت تبغي دخول هذه المدينة فاقسم جندك إذا أصبحت أربعة أقسام حول سور المدينة في كل ناحية قسم، ثم ارفعوا أصواتكم فنادوا: اللهم إنا نستفتحك هذه المدينة بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف يتساقط سور المدينة (5).
فلما أصبحوا، فعلوا مثل ما علمته العجوز فتساقط سور المدينة ودخلوا من حيث شاؤوا، وانطلقت العجوز بهم إلى دم يحيى عليه السلام وأرتهم إياه وهو يغلي ويفور، فلما رآه الملك قال: إني حلفت بإله الآلهة إذا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم من المدينة إلى مكان نزول العسكر. فعند ذلك أمر رجلا من رؤساء جنده يدعى بزوزادان أن
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(3) في (ب): ولكنه أحبني، ولا بد في الحب من القتل.
(4) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 591، وابن كثير في القصص 471.
(5) الجملة (بدم يحيى بن زكريا) ساقطة من (ب).(1/243)
يستمر (1) يذبح حتى يسيل الدم إلى وسط العسكر فخرج الملك إلى منزله وأمر بزوزادان (2) لمن حوله أن يغلقوا أبواب المدينة فذبح سبعين ألف رجل، ثم قام فوقف عند رأس يحيى عليه السلام وقال: يا يحيى قد علم ربي وربك ما ذبحت من أجلك فاهدأ بإذن الله، وإلا ما أبقيت من قومك أحدا، فهدأ الدم بقدرة الله تعالى / فرفع (3) عنهم القتل وجمع الباقي من بني إسرائيل وقال لهم: إن الملك أمرني أن أذبح حتى تسيل (4) دماؤكم إلى وسط عسكره وإني لا أستطيع أن أعصيه (5). قالوا: إفعل ما أمرت فأمرهم أن يحفروا خندقا عظيما وأمر بأن يحضروا مواشيهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فذبحت وطرحت أجسادها (6) في الخندق، حتى سال الدم إلى أن وصل إلى العسكر.
وأمر بالقتلى الذين ذبحوا قبل ذلك فطرحوهم على ما ذبح من مواشيهم حتى لا يراهم أحد. فلما نظر خردوش (7) إلى سيلان الدم في وسط العسكر أمر برفع القتل عنهم ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد أفنى بني إسرائيل فلم تقم (8) لهم بعد ذلك راية، وضربت عليهم الذلة والصغار (9).
قال صاحب كتاب «الأنس» (10) بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال:
أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم (إني قتلت بيحيا بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابني بنتك سبعين ألفا).
__________
(1) الجملة قلقة في الأصول الثلاثة. ففي (أ) وردت: يدعى بزوزادان يستمر يذبح. وفي (ب) و (ج): سقطت كلمة يستمر.
(2) كذا وردت في (أ) و (ج)، وفي (ب): وأمر بزوزادان يأمر لمن حوله.
(3) في (أ): ورفع.
(4) في (ب): يسيل.
(5) في (ب): ولا أستطيع.
(6) في (ب): أجسادهم.
(7) في (ب): خردوس. وفي عرائس المجالس 306 (كردوس).
(8) في (أ): فلم يقم.
(9) في (أ) وضرب عليه الذلة والصغار، وفي (ب): وضرب عليهم الذلة والاحتقار. وفي (ج):
وضربت عليهم الذلة والاحتقار.
(10) المستدرك 2/ 592، ولعله كتاب: الأنس في فضائل القدس.(1/244)
وبقي بيت المقدس خرابا يسكنه بعض أناس من الروم إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما فتحه على يد أبي عبيدة عمره المسلمون بأمره.
قال في «اتحاف الأخصا» نقلا عن زيد بن واقد أنه قال (1): وكلني الوليد بن عبد الملك بن مروان في بناء جامع دمشق فوجدت فيه مغارة، فعرفت الوليد بذلك، فلما كان الليل جاءنا والشموع (2) بين يديه فنزل، فإذا هي كنيسة لطيفة ثلاثة أذرع في ثلاثة (3)، فوجد فيها صندوقا ففتحه فإذا فيه سفط وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب على السفط: هذا رأس يحيى بن زكريا عليه السلام (4) وكانت البشرة على رأسه لم تتغير فردوه إلى مكانه، وأمر بأن يجعلوا العمودين اللذين فوقه مغايرين للأعمدة كي يعرف، فجعلا على مسقط (5) الرأس وبنى عليه قبرا يزار ويتبرك به. وجسده مدفون ببيت / المقدس وقيل: بمدينة فلسطين.
__________
(1) في (ب): عن زيد بن واقد قال. والخبر في اتحاف الأخصا 2/ 158
(2) في (ب): جاءنا بالشموع بين يديه.
(3) في (ب): ثلاثة أوزع.
(4) جملة (مكتوب على السفط: هذا رأس يحيى بن زكريا عليه السلام) ساقطة من (ب).
(5) في (ج): على مسقط الرأس.(1/245)
الفصل السادس والثلاثون في ذكر عيسى عليه السلام
كان رجلا أحمر (1) يميل إلى البياض، مربوع القامة، سبط الرأس، صغير الوجه أفرق السن.
وكان يمشي حافيا ولم يتخذ (2) بيتا ولا حرفة ولا حلية ولا متاعا ولا أثاثا [ولا اسبابا] (3) ولا ثيابا إلا [ما يستره] (4) وقوت يومه.
وكان سياحا في الأرض، أينما غابت الشمس بات في ذلك المكان واستمر يصلي حتى يصبح.
وكان يبرىء الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله تعالى. وكان يخبر قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وكان يمشي على وجه الماء والبحر فلم تبتل قدماه (5).
ولما أراد الله تعالى ظهور عيسى (6) عليه السلام انطلقت مريم ذات يوم وحدها لتملأ الماء، فلما دخلت المغارة وجدت عندها جبريل في صورة شاب
__________
(1) المعارف 24، وطبقات ابن سعد 1/ 53، وتاريخ الطبري 1/ 585، ومروج الذهب 1/ 45، وتاريخ ابن الأثير 1/ 175، والأنس الجليل 1/ 158، ونهاية الأرب 14/ 213، والبداية والنهاية 2/ 56، 63، وعرائس المجالس 342، وقصص الأنبياء 478، وصحيح البخاري 4/ 199، والمستدرك 2/ 592، ومرآة الزمان 1/ 571.
(2) في (ب): ولا يتخذ بيتا.
(3) ساقطة من (أ)، وفي (ب): أسباب ولا ثياب.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(5) في (أ) و (ج): ولم يبتل. وفي (ب): وكان يمشي حافيا ويمشي على الماء والبحر.
(6) في (ب): إظهار.(1/246)
أمرد مليح الوجه (1) فلما رأته مريم (2) قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمََنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قََالَ: إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلََاماً زَكِيًّا} (3). فلما سمعت استسلمت لقضاء الله تعالى فنفخ في كم درعها فوصلت النفخة إلى جوفها، فحملت بعيسى عليه السلام في وقتها، وهي بنت عشر سنين، وكانت حاضت حيضتين.
ويقال: إن زكريا عليه السلام في ذلك الوقت اجتمع مع امرأته فحملت منه بيحيى عليه السلام فلما اجتمعتا (4) قالت لها: يا مريم أشعرت أنني حبلى؟ قالت لها مريم: وأنت أيضا أشعرت أنني حبلى (5)؟ فقالت لها أم يحيى: إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك.
وقيل: إن أول من علم بحمل مريم ابن خالتها يوسف فقال: يا مريم هل ينبت زرع من غير بذر؟ قالت: لا، قال: فهل يولد ولد من غير أب؟ قالت: نعم، آدم من غير أب وأم. قال: صدقت. قال: هذا الولد الذي في بطنك من أبوه (6)؟
قالت: هذا هبة ربي لي، ومثله (7) كمثل آدم، خلقه من تراب. قال: فنطق عيسى [عليه السلام] (8) من بطن أمه وقال: يا يوسف، ما هذه الأمثال التي تضربها (9) لأمي؟ فاشتغل بصلاتك واستغفر لذنبك مما وقع في قلبك. فقام يوسف متعجبا وتركها.
__________
(1) لفظ (أمرد) ساقط من (ب).
(2) لفظ (مريم) ليس في (ج).
(3) سورة مريم، الآيتان: 1918.
(4) في (ب): اجتمعا.
(5) في (ب): حامل.
(6) في (ب): من أين يكون أبوه.
(7) في (ب): هذا هبة من ربي، مثله.
(8) ما بين الحاصرتين من (ب).
(9) في (ب): وقال يوسف ما هذه الأمثال التي تضربها، بسقوط كلمتي (يا) و (لأمي). وبعدها في (ب): قالت اهتم بصلاتك.(1/247)
قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وولدي عيسى وهو في بطني يحدثني وأحدثه، فإذا جاء أحد تركني وسبح في بطني وأنا أسمعه.
واختلف العلماء في مدة حملها قال صاحب «مسامرة الأخيار» (1) نقلا عن الحسن: إنها حملت [به] تسع ساعات (2) ووضعته من يومها. وقيل: حملت به العادة.
فلما دنا وقتها (3) خرجت في جوف الليل فاحتملها يوسف على حمار له (4) فأدركها النفاس شرقي بيت المقدس بمكان يعرف ببيت لحم.
قال صاحب «مثير الغرام»: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام (5)، فألجأها هناك إلى ظل نخلة يابسة وكان زمن الشتاء، فجلست تحتها فاخضرت النخلة من ساعتها (6) وصار لها سعف وتكللت بحملها (7) بقدرة الله تعالى. وأجرى الله تعالى في أصل تلك النخلة عينا من الماء فهزت النخلة وهي تقول {يََا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هََذََا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا} (8)
واحتوشته (9) الملائكة وكانوا صفوفا محدقين، فأراد إبليس أن يأتيه من فوقه، فإذا فوقه رؤوس الملائكة ومناكبهم إلى السماء. ثم أراد أن يأتيه من تحت الأرض، فإذا أقدام الملائكة راسية، فأراد أن يدخل من بينهم فمنعوه من ذلك، فرجع إبليس (10) وقال لأعوانه: ما ولد مولود أشد عليّ من هذا المولود (11).
__________
(1) محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار 1/ 138.
(2) في (أ) و (ب): حملت تسع ساعات. وفي مسامرة الأخيار: حملت به ساعات.
(3) في (ب): فلما حلت ولادته، وفي (ج): فلما دنا وقتها.
(4) في (ب): على حماره.
(5) الجملة (قال صاحب مثير الغرام) ساقطة من (ب).
(6) في (ب): فاخضرت النخلة.
(7) في (أ): بأحمالها.
(8) سورة مريم، الآية: 23.
(9) في (أ): واحتوشتها.
(10) الجملة: (فإذا فوفة رؤوس الملائكة) ساقطة من (ب).
(11) في (أ): ما ولد مولود عليّ أشد.(1/248)
فلما ولد عيسى عليه السلام أصبحت الأصنام في جميع الأرض منكوسة على رؤوسها. فلما وضعته ذهب إبليس فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت، فأقبلوا يشدون ويدعونها. وكان بين مولده والهجرة ستماية وإحدى وثلاثون سنة.
وقامت مريم من موضع ولادتها وحملت عيسى على صدرها حتى أقبلت على بني إسرائيل، وهم مجتمعون وزكريا معهم. فلما نظروا إليها وعيسى في حجرها بكوا من شدة الغيرة (1) و {قََالُوا يََا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يََا أُخْتَ هََارُونَ مََا كََانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمََا كََانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (2) قال قتادة: كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى (3) كما مر. فلما سألوا مريم وقالوا: من أين لك هذا الولد؟ وأخذوا الحجارة ليرجموها فأشارت إليه (4) أن كلموه فغضبوا و {قََالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (5) فتنحنح عيسى عليه السلام وقال (6): {إِنِّي عَبْدُ اللََّهِ آتََانِيَ الْكِتََابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبََارَكاً أَيْنَ مََا كُنْتُ / وَأَوْصََانِي بِالصَّلََاةِ وَالزَّكََاةِ مََا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوََالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبََّاراً شَقِيًّا} (7) ثم قال: {وَالسَّلََامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (8)
ثم لم يتكلم بعد ذلك حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان. فلما سمع ذلك أحبار بني إسرائيل من عيسى عليه السلام علموا أنه لا أب له، وأن الله عزوجل خلقه كما خلق آدم فقال زكريا [عليه السلام] (9): الحمد لله الذي برأنا من كلام الفساق.
__________
(1) في (أ): من شدة العار.
(2) سورة مريم، الآيتان: 27، 28.
(3) في (ب): أخو موسى.
(4) في (ب) و (ج): إليهم.
(5) سورة مريم، الاية. 29.
(6) في (ب): فقال عيسى عليه السلام.
(7) سورة مريم الآيات: 3230.
(8) سورة مريم، الآية: 33.
(9) ما بين الحاصرتين من (ب).(1/249)
ولما تم لعيسى عليه السلام ثمانية أيام من مولده ختن وسموه أليسوع. فلما بلغ عمره ثلاثين سنة جاءه الوحي (1) داخل مسجد بيت المقدس، وبنو إسرائيل يتبايعون فيه، فجعل يضربهم ويقول: يا بني أولاد الحيات والأفاعي، اتخذتم مساجد الله أسواقا؟ وأنزل الله عليه الإنجيل، ونزل عليه جبريل عشر مرات.
وكانت الرياسة في ذلك الوقت بالشام ونواحيها لقيصر ملك الروم وقيل:
اسم الملك (2) قسطنطين. وكان الملك الذي قبله هردوش (3) فأراد أن يقتل عيسى ومريم، وذلك أنهم نظروا إلى نجم قد طلع فاستدلوا منه بظهور عيسى عليه السلام فبعث الله عزوجل ملكا إلى يوسف فأخبره بما أراد هردوش وأمره (4) أن يحملهما إلى مصر، فإذا مات الملك يرجع بهما إلى مكانهما (5). قال: فاحتمل يوسف مريم وابنها على حماره حتى وردوا مصر (6)، فأقامت مريم بمصر اثنتي عشرة سنة (7) تغزل الكتان وتلتقط (8) السنبل في أثر الحصادين، ويوسف يحتطب الحطب ويبيعه في السوق. وكان عيسى عليه السلام يكبر في اليوم مثل الشهر وفي الشهر مثل السنة (9). وقيل: إن مريم وعيسى حملتهما الملائكة من بيت المقدس إلى مدينة دمشق وأقاما بالربوة فذلك قوله تعالى {وَآوَيْنََاهُمََا إِلى ََ رَبْوَةٍ ذََاتِ قَرََارٍ وَمَعِينٍ} (10).
وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن عيسى عليه
__________
(1) في (ب): جاء الوحي.
(2) في (أ): فلكه.
(3) في (ج): هردوس.
(4) الجملة (فأراد أن يقتل عيسى ومريم) ساقطة من (ب).
(5) بعدها في (ب): (وذلك أنهم نظروا إلى نجم قد طلع فاستدلوا منه بظهور عيسى عليه السلام) وقد سبق ورودها.
(6) في (ب): وردوا إلى مصر.
(7) في (ب): اثني عشر سنة.
(8) في (ب): وتلقط.
(9) في (ب): يكبر في اليوم كالشهر، وفي الشهر كالسنة.
(10) سورة المؤمنون، الآية: 50.(1/250)
السلام أرسلته أمه إلى الكتاب ليتعلم فقال له المعلم: قل: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال له عيسى عليه السلام: وما معناه؟ قال: لا أدري قال: فإن كنت لا تدري فسلني حتى أفسره لك. فسأله قال: الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله (1).
قال الكسائي: انطلقت / مريم ذات يوم إلى صباغ هناك لتسلمه عيسى [عليه السلام] (2) ليتعلم الصنعة فأخذه منها وقال: يا عيسى خذ هذه الجرة واملأ هذه التغارات كلها، فتركه (3) الصباغ وخرج إلى منزله فعمد عيسى إلى تغار واحد فملأه ماء وأخذ جميع تلك الثياب (4) وجعلها فيه وانصرف إلى أمه. فلما كان من الغد، ورد الصباغ إلى الحانوت فنظر إلى ما فعله عيسى [عليه السلام] (5)
فقال: يا عيسى، أفسدت (6) عليّ ثياب الناس. فقال عيسى عليه السلام (7): يا صباغ، ما دينك؟ قال يهودي فقال (8): قل: لا إله إلا الله، وإني عيسى روح الله وأدخل يدك في هذا التغار وأخرج كل ثوب على لون ما تريد، قال: فآمن الصباغ ومد يده في التغار فأخرج كل ثوب على لون (9) ما أراد (10). وبقي على إيمانه مع عيسى عليه السلام فهو من جملة الحواريين. فأخبر الصباغ ما رآه لبعض أصحابه فلما رأوه آمن به بعضهم، فهم الحواريون، وكانوا اثني عشر
__________
(1) نهاية الأرب 14/ 223.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج) وفي (ب): انطلقت مريم ذات يوم إلى الصباغ لتسلمه عيسى أن يعلمه الصنعة.
(3) في (ب): وتركه.
والتغارات: مفردها تغار، الإجانة: وعاء تغسل فيه الثياب.
(4) في (ب): وأخذ تلك الثياب.
(5) ما بين الحاصرتين من (ب).
(6) فقال له: افسدت عليّ.
(7) في (ب): فقال عيسى.
(8) في (ب): فقال له عيسى.
(9) الجملة: (ما تريد، قال: فآمن الصباغ) ساقطة من (ب).
(10) إلى هنا ينتهي ما اقتبسه النويري عن الكسائي، انظر نهاية الأرب 14/ 223.(1/251)
رجلا، وتبعوا عيسى عليه السلام. فكانوا إذا جاعوا أخبروا عيسى [عليه السلام] (1) فيضرب بيده الأرض فيخرج لكل رجل منهم رغيفين فيأكلون (2).
وكذلك إذا عطشوا يضرب الأرض فيخرج منها الماء فيشربون (3).
ولما مات ملك الشام، رجعت مريم وعيسى ويوسف ومن آمن معهم بعد اثنتي عشرة سنة إلى بلاد الشام (4) وسكنوا بقرية يقال لها (ناصرة) من أعمال صفد، وبها سميت النصارى.
ويروى أن عيسى عليه السلام مر بدير فيه عميان فقال: من هؤلاء (5)؟ قالوا له: قوم طلبوا القضاء فطمسوا أعينهم بأيديهم. فقال لهم: ما دعاكم إلى هذا؟
قالوا (6): خفنا عاقبة القضاء فصنعنا بأنفسنا ما ترى فقال لهم: أنتم العلماء والحكماء والأخيار (7)، امسحوا وجوهكم بأيديكم وقولوا: بسم الله، ففعلوا ذلك، فإذا هم جميعا مبصرون.
فلما شاع خبر عيسى [عليه السلام] (8) خاف اليهود على أنفسهم من دعوة عيسى فاجتمعوا (9) عليه ذات يوم ليقتلوه، فبعث الله تعالى إليه جبريل فرفعه من روزنة كانت في سقف بيته إلى السماء.
وقال (10) صاحب «مثير الغرام»: إن عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى من طور زيتا فأمر رئيس اليهود رجلا يدخل على عيسى ليقتله، فلما دخل عليه لم
__________
(1) ليست في (أ).
(2) في (أ): فيأكلونها، وفي (ب): فيأكلون ويشربون.
(3) الجملة (وكذلك إذا عطشوا) ساقطة من (ب).
(4) الجملة (رجعت مريم ويوسف ومن آمن معهم) ساقطة من (ب).
(5) في (ب): ما هؤلاء.
(6) في (ب): فقالوا.
(7) في (ب): انتم العلماء الحكماء.
(8) ما بين الحاصرتين من (ج)، وفي (أ): فلما شاع أخبار عيسى.
(9) في (أ): واجتمعوا عليه.
(10) في (ب) و (ج): قال.(1/252)
يجده في البيت، فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيه (1) فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى (2)، [فلما خرج الرجل ظنوا أنه عيسى] (3) فصلبوه. وتوفى الله تعالى عيسى ثلاث ساعات / ثم رفعه إلى السماء وهو قوله تعالى: {يََا عِيسى ََ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرََافِعُكَ إِلَيَّ} (4) الآية. فلما صلب الذي هو شبه عيسى جاءت مريم وامرأة أخرى كانت بها عاهة فدعا لها فبرئت، ووقفتا تبكيان عند المصلوب، فجاءهن عيسى فقال لهن (5): على من تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال لهما: إن الله تعالى قد رفعني (6) ولم يصلبني وإن هذا الرجل شبّه لهم.
قال وهب: لما رفع عيسى عليه السلام لبث في السماء سبعة أيام ثم قال الله له: إنزل إلى أصحابك وأوصهم (7) فأهبطه الله على جبل، فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريون (8) وهم اثنا عشر رجلا، ففرقهم في الأرض يدعون لتوحيد الله تعالى. واجتمع بأمه مريم وأخبرها بمكانه وأسرّ لرجلين منهم يقال لأحدهما: شمعون، والآخر يحيى، وأمرهما أن يكرما أمه ولا يفارقاها (9)
ثم رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النور ووضع عنه لذة المطعم والمشرب، فهو يطير مع الملائكة حول العرش فكان أنسيا ملكيا سماويا أرضيا (10). وتفرق الحواريون حيث أمرهم في تلك الليلة، فأصبح كل واحد منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم (11).
__________
(1) في (أ): يقاتله فيها، وفي (ب): يقاتله.
(2) في (ب): عيسى عليه السلام.
(3) الجملة (فلما خرج الرجل ظنوا أنه عيسى) ساقطة من (ب).
(4) سورة آل عمران، الآية: 55.
(5) كذا في جميع الأصول، وصوابه: فجاءهما عيسى فقال لهما.
(6) في (ب): إن تعالى قدر نغني.
(7) في (ب): وأوصيهم.
(8) في (ب): فاجتمعت إليه الحواريون.
(9) في (أ): ولا يفارقا.
(10) في (ب): فكان انسيا سماويا أرضيا، بسقوط كلمة (ملكيا).
(11) في (ب): الذي بعث إليهم.(1/253)
وذكر أن شمعون الصفا نبيّ مرسل، بعثه الله تعالى إلى أهل أنطاكية بعد يحيى ويونس (1). وانطلق شمعون ويحيى ومعهما مريم إلى مارون ملك الروم يدعونه إلى الله تعالى، فأبى أن يسلم (2)، وأمر بقتل شمعون فقتل وصلب منكوسا.
وفي كتاب «الإشارات إلى معرفة المزارات» (3): أنه مدفون في مدينة رومية الكبرى في كنيستها العظمى في تابوت من فضة معلق بسلاسل في سقف الهيكل. وقيل: إنه مدفون بقرية روحين (4) من أعمال حلب وله قبر يزار هناك ويتبرك به.
فلما قتل شمعون هربت مريم ويحيى حتى إذا كانا في بعض الطريق (5)
لحقهما الطلب وخافا فانشقت لهما الأرض، فغابا فيها فلم يبصروهما.
وفي «اتحاف الأخصا» (6) أن مريم عاشت بعد رفع عيسى عليه السلام ست سنين، وكان عمرها ثلاثا وخمسين سنة ثم ماتت ودفنت بالكنيسة المعروفة بالجسمانية، وهو الموضع الذي يعرف بمهد عيسى عليه السلام.
وذكر أبو الليث السمرقندي في «تنبيه الغافلين» / أن مريم ماتت قبل أن يرفع عيسى عليه السلام وأن عيسى تولى دفنها بنفسه (7).
وأما الثلاثة أصحاب القرية (8) المذكورة في القرآن قال وهب: كانوا ثلاثة
__________
(1) في (أ): بعد يحيى وبولس.
(2) (فأبى أن يسلم) ساقطة من (ج).
(3) في (ب): الاشارات في معرفة الزيارات، وهو أدق.
ومؤلف هذا الكتاب هو الهروي، ونشر ضمن منشورات المعهد الفرنسي في دمشق، والخبر في الصفحة 11من الطبعة الفرنسية.
(4) في (أ) و (ب): روحيم. وما أثبتناه من (ج). وانظر معجم البلدان 2/ 77 (روحين).
(5) في (ب): في بعض الطرق.
(6) إتحاف الأخصا 2/ 214.
(7) في (ب): وتولى دفنها بنفسه.
(8) وهم المشار إليهم في القرآن الكريم سورة يس 13وما بعدها. وانظر حولهم: تاريخ الطبري 2/ 18، عرائس المجالس 363، ابن الأثير 1/ 213.(1/254)
أنبياء: صادق، وصدوق، وسلوم، بعثوا إلى أهل انطاكية، وكانوا من الحواريين (1). وملك أنطاكية حينئذ انطيخس (2).
وأما الذي جاء من أقصى المدينة فآمن به فهو حبيب النجّار (3) كان أنطاكية، وكان أجذم فبرىء (4) فلما بلغهم أنه آمن (5)، وطأوه بأرجلهم حتى مات، فأحياه الله فأدخله الجنة (6) وأهلك أهل قريته بصيحة من السماء فخمدوا ذلك قوله تعالى: {وَمََا أَنْزَلْنََا عَلى ََ قَوْمِهِ} إلى قوله تعالى: {فَإِذََا هُمْ خََامِدُونَ} (7).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (8): الأنبياء إخوة، وأمهاتم شتى، ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى عليه السلام، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، ويوشك أن ينزل فيكم ويحكم حكما (9) عدلا، وإنه نازل على أمتي، وهو خليفتي عليكم. فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع القامة (10) وهو إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر كأن رأسه يقطر، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال (11) ويسكن الروحاء حاجا ومعتمرا، يقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك في زمانه أهل الأديان كلها غير الإسلام، وتكون السجدة واحدة لله تعالى، ويهلك الله في زمانه (12) المسيح
__________
(1) في (ب): كانوا من الحواريون.
(2) في (أ) و (ب): طيخش. وما أثبتناه من (ج) وهو متفق مع رواية الطبري.
(3) في (أ) و (ج): اسمه حبيب النجار.
(4) (وكان أجذم فبرىء) ساقطة من (ب).
(5) في (ج): بلغ انه آمن.
(6) في (ب): فأحياه الله تعالى.
(7) سورة يس، الآيتان: 28، 29.
(8) الحديث أخرجه البخاري 4/ 203، 205والحاكم في المستدرك 2/ 592، 595، والثعلبي في العرائس 363.
(9) في (ب): ويحكم فيكم حكما عادلا.
(10) في (أ): مربوع القدمين.
(11) في (أ) و (ب): ويقبض المال وما أثبتناه من (ج).
(12) في (ب): ويهلك في زمانه.(1/255)
الدجال، ويقتل على يديه وعلى يد أصحابه (1) ويقع الأمن في الأرض حتى يرتع الأسد مع الابل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم (2) ويلعب الصبيان بالحيّات ولا تضرهم (3). ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتزوج امرأة من غسان ويولد له أولاد، ثم يتوفى في المدينة ويدفن إلى جانب قبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فطوبى لأبي بكر وعمر يحشران بين نبيين.
وعن (4) ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: / كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها والشهداء من أهل بيتي في وسطها؟
وروى (5) الحافظ أبو نعيم قال: يمكث الناس بعد يأجوج ومأجوج في الرخاء والخصب والدعة عشر سنين، حتى إن الرجلين ليحملان الرمانة الواحدة بينهما ويحملان عنقود العنب، ثم يبعث الله تعالى ريحا طيبة فلا تدع (6) مؤمنا ولا مؤمنة إلّا قبضت روحه، ثم يبقى الناس بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر في لمروج حتى يأتي أمر الله تعالى.
وفي «مسامرة الأخيار» (7): ينزل عيسى عليه السلام عند انفجار الصبح بين مهرودتين عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق، فيصلّي بالناس ويطلب الدجال فيقتله بباب لدّ.
__________
(1) في (ب): ويدي أصحابه.
(2) في (ب): والذئب مع الغنم.
(3) في (ب) و (ج): وتلعب الصبيان بالحيات ولا تضرهم، وفي (أ): ولا يضرهم.
(4) في (أ): عن. والحديث في عرائس المجالس 363.
(5) في (أ): روى.
(6) الخبر أورده مسلم في الفتن: 110.
(7) لم أعثر على هذا الخبر في ترجمة عيسى عليه السلام في مسامرة الأخيار وأورده سبط ابن الجوزي في المرآة 1/ 584ومسلم في (الفتن: 110).(1/256)
الفصل السابع والثلاثون في ذكر جرجيس [عليه السلام] (1)
كان رجلا صالحا (2) من أهل فلسطين، قد أدرك بعض أناس من الحواريين وأخذ عنهم.
قال الكسائي: لم يكن نبيا ولكن كان رجلا (3) عابدا مستجاب الدعوة.
وكان تاجرا كثير المال عظيم الصدقة.
وكان بالموصل ملك جبار عات وملك الشام (4) يقال له: وادنه، قد ترك دين آبائه وعبد صنما يقال له أفلون، فمن سجد له أبقاه ومن أبى في النار ألقاه (5).
فعمد جرجيس إلى أمواله فأنفقها في سبيل الله، وقصد الموصل أن يأتي الملك ويدعوه إلى خلع الأصنام وتوحيد الملك العلام. فأقبل حتى دخل عليه، فصادف يوم عيدهم فقال له: أيها الجبار العاتي، اتق الله ولا تتخذ معه إلها آخر (6). فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا، فأمر بخشبة فنصبت له وربطه فيها، ثم أمر بأمشاط حديد فخدش بها جلده ولحمه، حتى لم يبق إلا العروق والعظام، ونضح عليه الملح (7) والخل والخردل وأمر بمسامير من حديد، فأحميت بالنار
__________
(1) في (أ): ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) أخباره في المعارف 25وتاريخ الطبري 2/ 24، ومروج الذهب 1/ 47، ونهاية الأرب 14/ 259، وتاريخ ابن الأثير 1/ 214، وعرائس المجالس 386.
(3) (رجلا) ساقطة من (ج).
(4) في (ب): كان ملك بالشام.
(5) في (ب): ألقاه في النار.
(6) في (ب): اتق الله ولا تجعل معه إلها.
(7) في (ب): ونضح عليها.(1/257)
وسمر بها رأسه حتى سال منها دماغه، ورفعه على خشبة وأوقفه (1) في الشمس فلم يجد لذلك ألما ولا وجعا.
فلما كان الليل / بعث الله [تعالى إليه] (2) ملكا فأنزله ومر بيده على بدنه، فعاد جسده كما كان، ونزع المسامير من رأسه، ولم يضره شيء، وأمره الله (3)
بالعود إليه وأن يدعوه إلى الله تعالى، فلما أصبح دخل على الملك ووقف بين يديه ودعاه إلى الله تعالى فقال له الملك: بلغ من سحرك أنك سحرت أعيننا؟ فقال جرجيس: إن الله تعالى أحياني عبرة لك وحجة عليك فعند ذلك أمر بحرقه فحرق (4) حتى صار رمادا، فألقى الرماد في البحر فذراها فيه (5) فأمر الله البحر أن يحفظ الرماد الذي ذري فيه (6) وأمر الريح أن تجمع الرماد فجمعته وقذفته إلى الساحل فرده الله تعالى من ذلك الرماد (7) خلقا سويا كما كان، فانصرف حتى دخل على الملك وهو يدعوه إلى الله تعالى. فلما رآه فزع منه وخاف على نفسه وملكه وأجمع رأيه، وأمر بأن يضرب (8) أربعة أوتاد من حديد، وأن يسطح على الأرض ويربط يداه ورجلاه، ويوضع على صدره اسطوانة من الرخام (9) ففعلوا.
فلما كان الليل أتاه الملك وأطلقه، فدخل على الملك ودعاه إلى الله تعالى، فتحير الملك في أمره فقال رجل من جلساء الملك: يا جرجيس أنت تقول: إن إلهك يحيي ويميت (10)، فادع لنا ربك أن يحيي لنا من في هذه القبور. وكان هناك بعض
__________
(1) في (أ) و (ج): فوقفه.
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).
(3) في (ب): ولم يضره شيئا وأمره الله تعالى.
(4) لفظ (فحرق) من (أ)، وفي (ب): فحرقه. واللفظ ساقط من (ج).
(5) (فذراها فيه) ساقطة من (ب) و (ج).
(6) (الذي ذرى فيه) ساقطة من (ب).
(7) في (ب): من ذلك الرقاد.
(8) في (أ): وأجمع رأيه أن أمر بضرب. وفي (ب): أمر أن يضرب.
(9) في (ب): اسطوانة رخام.
(10) في (ب): فقال رجل من جلسائه: قل لهذا إن الملك يقول: أنت تزعم أن إلهك يحيي ويميت.(1/258)
قبور (1) فدعا جرجيس وتضرع، فما استتم كلامه حتى تفطرت وتشققت الأرض وقام من القبور سبعون إنسانا (2) ينفضون التراب عن رؤوسهم فقالوا (3): نشهد أن لا إله إلا الله وأن جرجيس نبي الله. فمنهم خمس نسوة وثلاثة صبيان (4) والباقي رجال وفيهم شيخ كبير قال [له] (5): كم لك ميت؟ قال: أربعماية سنة. فعند ذلك رجعوا إلى رقدتهم.
قال صاحب «السبعيات»: قتل جرجيس سبعين مرة، ثم أحياه الله تعالى، ولم يؤمن الملك، فاشتاق جرجيس إلى الجنة فقال: اللهم إني أسألك أن تقبضني إليك / وأن تنزل نقمتك وسطوتك على الظالمين. فلما فرغ من دعائه أمطر الله على الذين كفروا نارا من السماء، فلما رأوا ذلك هجموا بالسيوف على جرجيس فقتلوه، ونزلت النار فأحرقت المدينة بمن فيها، وصارت رمادا ومكثت زمانا يخرج من تحتها دخان منتن (6)، وكان جملة من آمن منهم أربعة وثلاثون ألفا. وكان ذلك كله في الفترة في أيام ملوك الطوائف.
وقبر جرجيس بقرب الرملة، وعنده مزار سبعين نبيا من بني إسرائيل، هلكوا بالجوع حين أخرجوا من بيت المقدس. وقيل: قبره بالموصل، وقيل: بالسوس من بلاد خوزستان (7) [هكذا ذكره عدة من المؤرخين] (8) [والله أعلم] (9).
__________
(1) (وكان هناك بعض قبور) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): حتى تفطرت الأرض وتشققت، وقام من في القبور.
(3) في (ب): ويقولون.
(4) في (ب): وثلاث صبيان.
(5) ما بين الحاصرتين من (ج)، وفي (ب): قيل له.
(6) في (أ) و (ج): ومكث. وفي (ب): يخرج من تحتها ريحا بدخان منتن.
(7) وقيل بالسوس بلاد خوزستان.
(8) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(9) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ج).(1/259)
الفصل الثامن والثلاثون في ذكر شمسون عليه السلام
كان رجلا صالحا من بني إسرائيل (1)، ذا قوة وبطش شديد، بحيث لا يوثقه الحديد. وكان يحفظ الانجيل.
وهو من قرية من قرى الروم. وكان أهل قريته يعبدون الأوثان، ولم يزل شمسون يغزوهم وحده ويقاتلهم بلحاء جمل (2) ويجاهدهم في الله حق جهاده.
وكان إذا قاتل قومه وعطش ينفجر له من أي حجر كان بين يديه ماء عذب فيروي منه، فجاهد ألف شهر.
عن ابن أبي نجيح (3) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر [عنده] شمسون، أنه لبس السلاح وجاهد في سبيل الله [تعالى] (4) ألف شهر، فتعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمََا أَدْرََاكَ مََا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (5) التي لبس شمسون فيها السلاح وقاتل في سبيل الله [تعالى] (6).
وكان شمسون يصيب من الكفار وهم لا يقدرون عليه، فاحتالوا على قتله من قبل امرأته، فأقبلوا إليها وسألوها أن توثق لهم زوجها (7)، وجعلوا لها على ذلك جعلا، فأجابتهم إلى ذلك وقالت: أنا أوثقه لكم [أعطوني حبلا وثيقا] فاعطوها حبلا وثيقا
__________
(1) تاريخ الطبري 2/ 22، والكامل في التاريخ 1/ 213، وعرائس المجالس 352.
(2) (بلحاء جمل) ساقطة من (ج). وفي تاريخ الطبري: بلحي بعير.
(3) في (أ) و (ب): عن أبي نجيح.
(4) لفظ (عنده) ساقط من (ب)، ولفظ (تعالى) من (ب).
(5) سورة القدر، الآيات: 31.
(6) ما بين الحاصرتين من (ب).
(7) في (أ): وسألوها أن يوثق. وفي (ب): وسألوها أن توثقه لهم، وما أثبتناه من (ج).(1/260)
وقالوا لها: إذا نام فأوثقي يديه إلى عنقه بهذا الحبل، ومضوا عنها (1).
قال: فلما أتى شمسون إلى داره ونام، ربطت امرأته يديه (2) فلما استيقظ وجد يديه مربوطة / إلى عنقه فتمطى فقطع الحبل وقال لزوجته: لم فعلت هذا؟
قالت: فعلته لأختبر به قوتك، فما رأيت مثلك (3). فلما خرج شمسون أتاها أولئك فأخبرتهم بذلك، فمضوا فأتوها بجامعة من الحديد (4)، وقالوا لها: إذا نام فاجعليها في يديه إلى عنقه وأعلمينا فمضوا عنها.
فلما أتى شمسون على حسب عادته ونام جعلت الحديد في يديه إلى عنقه (5)، فلما استيقظ جذبها فزالت من يده وعنقه (6) قال لها أيضا: لم فعلت ذلك؟ فقالت: اختبر به قوتك (7)، والآن فما بقيت أخاف عليك، فهل شيء في الأرض يغلبك إذا أوثقوك به؟ فقال: شيء واحد. فقالت (8): وما هو؟ فسكت.
فلم تزل تردد (9) عليه حتى قال: لا يمسكني إلا شعري. وكان له ذوائب طوال، فلما نام أوثقت يديه إلى عنقه بشعره وسارت مسرعة إلى القوم وأخبرتهم بذلك، فجاؤوا إليه وأوثقوه وأخذوه (10) وجذعوا أنفه وأسملوا عينيه وجعلوه على عمود (11)، فجعل الناس ينظرون إليه، فرفع شمسون رأسه إلى السماء ودعا الله
__________
(1) في (أ): أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلا وثيقا وأوثقي يداه. وفي (ب): وقالت: أعطوني حبلا وثيقا، فأتوها بما طلبته ومضوا، فلما أتى شمسون إلى داره.
(2) في (ب): ربطت يداه بسقوط لفظ (امرأته) وبنصب لفظ (يديه).
(3) في (ب): فقالت: اختبرك، فما رأيت أقوى منك.
(4) في (ب): مضوا وأتوها بجامع من حديد.
(5) الجملة: (وقالوا لها: إذا نام إلى عنقه) ساقطة من (ب)، وفيها عوضا عنها: فلما نام ربطته حسب العادة.
(6) في (أ): جذبها فزال عنه فقال لها أيضا، وفي (ب): فلما استيقظ جذب الحديد فزال عنه.
(7) في (ب): أخبرك بها.
(8) في (ب): قالت.
(9) في (أ): ترد عليه.
(10) في (ب): فلما نام أوثقته بسرعة وأخبرتهم فجاءوا القوم وأخذوه.
(11) في (أ): وقلعوا عينيه، وفي (ب): وجعلوه في عامود.(1/261)
تعالى (1) أن يكشف عنه ما به، فاستجاب الله دعاءه ورد الله عليه بصره وعافاه من كل ما فعلوا به وأطلق يديه (2).
وكانت المدينة على أعمدة، فأمره الله تعالى أن يأخذ بعمودين من أعمدة المدينة [ويجذبهما] (3) فلما جذب (4) العمودين سقطت المدينة على أهلها فهلكوا جميعا هدما وهلكت امرأته معهم (5)، فأرسل الله عليها صاعقة فأحرقتها، ونجاه الله تعالى، وكان ذلك في الفترة (6).
__________
(1) في (ب): فرفع شمسون رأسه إلى الله تضرعا بالدعاء إليه فأنابه ورد عليه بصره.
(2) في (أ): من كل ما فعلوا به وأطلق يديه. وفي (ب): من كل ما فعلوه.
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) في (ب): أخذ.
(5) في (ب): فهلكوا جميعا وامرأته معهم.
(6) (فأرسل الله عليها وكان ذلك في الفترة) الجملة ساقطة من (ب) و (ج).(1/262)
الفصل التاسع والثلاثون فيمن كان في الفترة بين عيسى ونبينا محمد رفع الله قدره (1)
ذكر الكواشي (2) والزمخشري وغيرهما: أنه كان بين محمد وعيسى عليهما السلام (3) أربعة من الأنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو:
خالد بن سنان العبسي عليه السلام (4)
يقال: إنه نبي البرزخ، فبعث لمن مات طفلا.
وقال (5) الطبري: كان نبيا، وكان من معجزاته أن نارا ظهرت من أرض العرب كانت تخرج من مغارة على الناس، فتأكل الناس والدواب، ولا يستطيعون ردها (6) فافتتنوا بها وكادوا يتمجسون [فخرج خالد ومعه راعي غنم يقال له: ابن راعية المعزى فقال له خالد: أمسك ثيابي] (7)، / فأخذ خالد عصاه ودخل النار حتى توسطها ففرقها وهو يقول: بدا بدا كل هدى لله مؤدى (8)، لأدخلنّها وهي تتلظى، ولأخرجنّ منها وما بي سدا (9).
__________
(1) في (ب): ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، ورفع قدره، من خالد العبسيّ وحنظلة بن أبي صفوان وغيرهما ممن آمن من الأعيان.
(2) في (ب): الكوشي.
(3) في (ب): بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام.
(4) المعارف 29، ومروج الذهب 1/ 49، والكامل في التاريخ 1/ 219، والبداية والنهاية 2/ 211، وتاريخ الخميس 1/ 199.
(5) في (أ): قال.
(6) في (ب): فتأكلهم ودوابهم فلا يستطيعون ردها.
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ب).
(8) في (أ) و (ب): إلى الله الأعلى.
(9) في (ج): وثيابي تندا.(1/263)
ثم إنها طفئت وهو في وسطها، فلما حضرته الوفاة قال لأهله: إذا دفنت فإنه ستجيء عانة من حمر الوحش يقدمها عير أبتر فيضرب قبري بحافره، فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني، فإني سأخرج إليكم وأخبركم بجميع ما هو كائن بعد الموت وأحوال البرزخ والقبر.
فلما مات ودفنوه رأوا ما قال فأبى أولاده نبشه فقالوا (1): نخاف أن يشيع بين العرب انا نبشنا ميتا لنا فتركوه.
وقيل (2): أتت ابنته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبسط لها رداءه فآمنت وقال لها: أهلا ببنت خير نبي ضيعه قومه. وسمعت (3) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (4) فقالت:
كان أبي يقول هذا.
وقبره شرقي حلب بمكان يعرف بمشهد خالد، يزار ويتبرك به هناك، وقيل غير ذلك، والله أعلم (5).
ومنهم: حنظلة بن صفوان عليه السلام (6)
كان نبيا في الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، من ولد اسماعيل عليه السلام مبعوثا لأهل الرس.
قال الإمام أبو البقاء العكبري في «شرح المقامات»: كان بأرض الرس ببلاد أذربيجان جبل عظيم يقال له مخ (7) صاعد في السماء قدر ميل وكان به طيور
__________
(1) في (ب): وقالوا.
(2) في (أ): فقيل.
(3) في (أ) و (ج): فسمعت.
(4) سورة الإخلاص، الآية: 1.
(5) (والله أعلم) ساقطة من (ب).
(6) هذا العنوان ساقط من (ب) وأخباره في تاريخ الطبري 2/ 295، وعرائس المجالس 131، ونهاية الأرب 13/ 88، والبداية والنهاية 2/ 212، ومروج الذهب 1/ 324، وقصص الأنبياء 239، وتاريخ الخميس 1/ 200.
(7) في (ب): صح. وقد توقف ياقوت في معجم البلدان (3/ 43رس) ولم يذكر مخ.(1/264)
عظيمة (1)، منها طائر اسمه عنقاء (2) وهي عظيمة الخلق (3) لها وجه كوجه الإنسان ولها أربعة أجنحة من كل جانب، وفيها شبه من كل حيوان. قال القزويني (4): إنها أعظم الطير جثة وأكبرها خلقة، تخطف الفيل كما تخطف الحدأة الفأرة، وعند طيرانها يسمع لأجنحتها دوي كدوي الرعد القاصف (5)
وتعيش ألف سنة (6). وكانت تخطف الصبيان والبنات، فشكوا ذلك لنبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها، فذهب الله تعالى بها إلى بعض جزائر البحر المحيط وراء خط الاستواء، وهي جزيرة لا تصل الناس إليها، وفيها حيوان كثير كالفيل والكركند والجاموس والبقر والوحش (7). وسميت العنقاء لطول عنقها ويقال لها: مغرب، لأنها تكون عند مغرب / الشمس وتبيض بيضا كالقبة (8) ويظهر بها ألم شديد وقت بيضها. ثم إن أهل الرس قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى (9).
وقال بعض العلماء (10): إنه كان رسان: أحدهما أهله أهل بدو أصحاب مواش وغنم، فبعث الله إليهم نبيا فقتلوه، ثم بعث إليهم رسولا آخر وعضده بولي فقتلوا الرسول وجاهدهم الولي حتى أفحمهم (11). وكانوا يقولون: إلهنا في البحر. وكانوا يسكنون ساحل البحر، وكان يخرج إليهم من البحر شيطان في كل
__________
(1) في (أ): كبرة.
(2) في (ب): العنقاء.
(3) في (ج): الخلقة.
(4) في (ب): وقال القزويني.
(5) لفظ (القاصف) ساقط من (ب) و (ج).
(6) في (أ): وتعيش ألفي سنة.
(7) في (أ): والجاموس والببر والوحوش. وفي عجائب المخلوقات: كالفيل والكركند والجاموس والنمر والسباع وجوارح الطير.
انظر الخبر في عجائب المخلوقات 456.
(8) في (أ): لأنها يكون عند مغرب الشمس وتبيض بيضا كالجبل.
(9) في (ب): (فقتلوه) بدون الباقي وفي (ج): قتلوا نبيهم خالدا، وبجانبها كلمة صح.
(10) في (ب): وذكر بعض العلماء.
(11) (حتى أفحمهم) ساقطة من (ب).(1/265)
شهر مرة (1) فيذبحون عنده ويتخذون ذلك اليوم عيدا. فقال لهم الولي. أرأيتم إن خرج الذي تعبدونه وأطاعني أتجيبونني (2) إلى ما دعوتكم إليه؟ فقالوا: بلى، فأعطوه (3) على ذلك العهود والمواثيق. فانتظر حتى خرج (4) ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا على أربعة أحوات وله عنق مستعلية، وعلى رأسه مثل التاج. فلما نظروا إليه خروا سجدا، فخرج الولي وناداه، فقال: ائتني (5) طوعا أو كرها ببسم الله الكريم. فأتى به الحيتان حتى أفضوا به (6) إلى البر يجرونه ويجرهم. فلما رأوا ذلك كذبوه ونقضوا العهد، فأرسل الله [تعالى] (7) عليهم ريحا فقذفتهم في البحر مع جميع ما يملكونه وانقطع نسلهم.
وأما الآخر، فهم قوم كان لهم (8) نهر يسمى الرس ينسبون إليه، وهذا النهر بين أذربيجان وأرمينية، فما كان من جانب أهل أرمينية يعبدون الأوثان وما كان من أهل أذربيجان يعبدون (9) النيران. فبعث الله تعالى لهم ثلاثين نبيا في شهر واحد قتلوهم جميعا، ثم بعث الله لهم نبيا وأيده بنصره وأجرى الله تعالى النهر إلى البحر وسده عنهم (10) وبعث الله خمسماية ألف (11) من الملائكة أعوانا له، فغرفوا ما بقي في أسفل النهر من الماء.
ثم أمر الله تعالى، جبريل عليه السلام فلم يدع في أرضهم عينا ولا نهرا إلا
__________
(1) في (أ): خرجة.
(2) في (ب) و (ج): تجيبونني.
(3) في (أ) بلى وأعطوه على ذلك العهود. وفي (ب): نعم فأعطوه على ذلك الوعود.
(4) في (ب): يخرج.
(5) في جميع النسخات: (ائتيني).
(6) في الأصول: (فأتوا) وفي (أ): أفضوه.
(7) ما بين الحاصرتين من (ب).
(8) في (ب): وأما الآخر فكان لهم نهر.
(9) جملة (الأوثان وما كان من أهل أذربيجان بعبدون) ساقطة من (ب).
(10) في (ب): وسدها عنهم.
(11) في (ب): خمسماية. وفي عرائس المجالس خمسمائة.(1/266)
يبس بإذن الله تعالى وكان ذلك أوان الزرع، وكانوا أحوج ما يكون إلى الماء، وأمات الله مواشيهم ربضة واحدة (1) فأما ما كان من دراهم وحلى (2) وسائر الأمتعة، فإن الله تعالى أمر الأرض فابتلعته، فأصبحوا (3) ولم يبق عندهم شيء، فآمن منهم أحد وعشرون رجلا وأربع نسوة / وصبيّان. وكان عدة الباقين ستماية ألف، فماتوا جوعا وعطشا ولم يبق منهم باقية وبقيت منازلهم مائتي عام لم يسكنها أحد.
ثم أتى الله تعالى (4) بقرن بعد ذلك فنزلوا بها وكانوا قوما صالحين، ثم أحدثوا فاحشة فكان الرجل يدعو بنته وأخته وزوجته فيجامعها جاره أو صديقه، ويلتمس بذلك البر والصلة. ثم تركوا ذلك، فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فسلط الله عليهم صاعقة في أول الليل وخسفا في آخر الليل، وصيحة [عظيمة] (5) مع الشمس فلم يبق منهم باقية.
واختلف (6) أهل التفسير في أصحاب الرس فمنهم من قال: هم بقية ثمود [وقوم صالح] (7)، وهم أصحاب البئر التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (8)، وكانوا بأرض اليمامة والله أعلم (9).
__________
(1) في (ب): فنشف ذلك النهر ونشفت عيونهم بإذن الله تعالى، فابتلعتها الأرض، وكان من ذلك أوان الزرع وأحوج ما يكونوا إلى الماء.
(2) في (ب): فأمّا ما كان من مال وحلي.
(3) في (أ): وأصبحوا.
(4) لفظ (تعالى) ليس في (ب).
(5) ساقطة من (أ).
(6) في (أ): اختلف.
(7) في (أ): بقية قوم ثمود، وما أثبتناه من (ج).
(8) سورة الحج، الآية: 45.
(9) في (ب): والله أعلم بذلك.(1/267)
ذكر من آمن في الفترة
واختلف في إيمانهم.
فمنهم: أسعد أبو كرب (1) الحميري.
وكان آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسنين، وأنشأ يقول (2):
شهدت على أحمد أنه ... رسول الإله وباري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وهو أول من كسا الكعبة الأنطاع والبرود (3).
ومنهم: قس بن ساعدة الإيادي (4).
وكان حكيم العرب مقرا بالبعث والحساب، وكان سبطا (5) من أسباط العرب، صحيح النسب، فصيحا إذا خطب، ذا شيبة حسنة. عمر (6) سبعماية سنة، عاش حتى أدرك رأس الحواريين سمعان. وكان مقرّا لله تعالى (7)
بالوحدانية.
تضرب بحكمته الأمثال وتكشف به الأهوال (8).
كان يسيح على منهاج المسيح، يتقفر القفار ولا تكنه دار.
ولما قدم الجارود بن عبد الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأل عنه فقال: هلك. فقال:
__________
(1) في (ب): أسعد أبا كرب الحميري.
وانظر أخباره في مروج الذهب 1/ 50، والوسائل لمعرفة الأوائل 143.
(2) قبل أن يبعث بسنتين، وأنشأ في ذلك:
(3) في (ب): البرود والانطاع.
(4) الأغاني 15/ 246، أوائل العسكري 1/ 84، ومروج الذهب 1/ 50، ومجمع الأمثال 1/ 111، والبداية والنهاية 2/ 230.
(5) في (أ): كان سبطا.
(6) في (ب): عمره.
(7) وقيل: كان مقرا.
(8) في (ب): وتكمد.(1/268)
يرحمه الله (1)، فهل فيكم يا معشر المهاجرين والأنصار من يحفظ لنا منه شيئا؟
فوثب أبو بكر رضي الله عنه قائما فقال: أنا يا رسول الله، كأني انظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أحمر (2)، وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، وإذا وعيتم شيئا فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت (3)، [مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، جمع وأشتات وآيات بعد آيات] (4).
أما بعد، فإن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا (5) / نجوم تمور وبحار تفور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع أقسم بالله قسما [لا حانثا ولا آثما] إن لله دينا أحب من دينكم (6)، الذي أنتم عليه، ونبيا قد أظلكم أوانه، وأدرككم أبانه.
فطوبى لمن أدركه فآمن به وهدأه، وويل لمن خالفه وعصاه.
ثم قال: ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا. أم تركوا هناك فناموا؟ يا معشر بني آدم، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟
طحنهم الثرى بكلكله؟ ومزقهم بتطاوله؟ كلا، بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود (7).
ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر
__________
(1) في (ب): فقالوا توفي، فقال: رحمه الله.
(2) في (ب): على جمل أحمر.
(3) في (ب): من عاش مات، ومن عاش مات وهو آت.
(4) ساقطة من (أ) و (ب)، وما أثبتناه من (ج). والخطبة بهذا النص لا تتفق حولها المصادر، كما أنها تختلف بين مصدر وآخر، بين تقديم وتأخير.
(5) في (ج): إن في السماء لخبرا. وفي (ب): وفي الأرض لعبرا.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ب)، وفي (ب): ان لله دينا أحب إليه.
(7) في (ب): ليس والد ولا مولود.(1/269)
أيقنت اني لا محالة ... حيث صار القوم صائر
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رحم الله قسا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة.
ومنهم: زيد بن عمرو بن نفيل (1).
وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2). وكان يرغب في دين لإسلام ويعرض عن عبادة الأصنام وعابها. فأولع به عمر بن الخطاب وسلط عليه سفهاء مكة فآذوه، فسكن كهفا بجبل حراء (3)، وكان يدخل مكة سرا، وسار إلى لشام يبحث عن الدين، فسمته بعض ملوك غسان بدمشق فمات.
ومنهم: أمية بن أبي الصلت الثقفي (4).
وكان شاعرا عاقلا، وكان يتجر إلى الشام، فتلقاه بعض أناس من أهل لكتاب فقرأ عليهم، وعلم أن نبيا سيبعث (5) من العرب. وكان يقول أشعارا يصف فيها السماوات والأرض، وذكر الأنبياء والبعث والجنة والنار، ويعظم الله تعالى ويوحده ويمجده. وهو أول من كتب باسمك اللهم (6).
ومنهم: ورقة بن (7) نوفل بن أسد بن عبد العزّى (8) بن قصي.
وهو ابن عم خديجة الكبرى (9)، زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم / وكان قد قرأ الكتب المنزلة
__________
(1) في (ب): زيد بن عمر بن نفيل. وأخباره في طبقات ابن سعد 1/ 2161، تاريخ الطبري 2/ 295، مروج الذهب 1/ 51، البداية والنهاية 2/ 230، الوسائل لمعرفة الأوائل 143.
(2) في (ب): رضي الله عنهم.
(3) في (ب): بجبل حران.
(4) في الأصول: أمية بن الصلت وانظر: مروج الذهب 1/ 51، والبداية والنهاية 2/ 220.
(5) في (ب): أن سيبعث نبيا.
(6) محاضرة الأوائل 27.
(7) مروج الذهب 1/ 57، الوسائل لمعرفة الأوائل 143.
(8) في (ب): ابن عبد العزيز.
(9) في (ب): وهو عم خديجة الكبرى.(1/270)
ورغب عن عبادة الأصنام وبشر خديجة بالنبي عليه السلام (1)، وأنه نبي هذه الأمة، وأنه سيؤذى ويكذب.
واجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال (2): يا ابن أخي (3)، أثبت على ما أنت عليه فوالذي نفس ورقة بيده إنك لنبي هذه الأمة ولتؤذين ولتكذبن، ولتخرجن ولتقاتلن، ولئن أدركت ذلك لأنصرن الله نصرا يعلمه (4).
ومنهم: بحيرا الراهب (5).
وكان مؤمنا على دين المسيح عيسى بن مريم. ولما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع عمه أبي طالب إلى الشام في تجارة، وهو ابن اثنتي عشرة سنة (6)، ومعهما أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، فمروا (7) ببحيرا الراهب وهو في صومعته، فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصفته ودلائله وكان الغمام يظله حيث ما جلس (8). فأنزلهم بحيرا وأكرمهم، واصطنع لهم طعاما، ونزل من صومعته حتى نظر إلى خاتم النبوة بين كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووضع يده على موضعه، وآمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم (9)، وأعلم أبا بكر وبلالا بقصته (10)، وما يكون من أمره، وحذرهما عليه من أهل الكتاب، وسألهما أن يرجعا به. فرجعا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم (11) إلى مكة، وأعلما قريشا بما أظهر الله تعالى من دلائل نبوته وعلامات رسالته صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) في (ب): صلى الله عليه وسلم.
(2) من (وانه نبي هذه الأمة) إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (ب): يا ابنة أخي، اثبتي على ما أنت عليه فو الذي انك نبي هذه الأمة،
(4) لأنصرن الله نصرا عزيزا وفي (ج): ولئن أدركت يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا.
(5) مروج الذهب 1/ 54، والبداية والنهاية 1/ 54، والوسائل لمعرفة الأوائل 143.
(6) في (ب): ابن اثنا عشر.
(7) في (أ): مروا.
(8) في (ب): وكان الغمام تظله حيثما كان.
(9) في (ب): وآمن به.
(10) في (ب): واعلم أبا بكر وبلال. وفي (ج): واعلم أبا بكر وبلالا بقضيته.
(11) في (ب): فرجعا به.(1/271)
الفصل الأربعون في ذكر محمد عليه الصلاة والتسليم وهو آخر الأنبياء والمرسلين وأنه كان نبيا وآدم بين الماء والطين
وهو محمد بن (1) عبد الله بن عبد المطلب [بن هاشم] (2) بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد [بن عدنان] (3).
قال المسعودي في «مروج الذهب»: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد نهى أن يتجاوز في نسبه عن معد، فقد ثبت أن يوقف في النسب على معد فقط. فالواجب التوقف عند أمره ونهيه صلّى الله عليه وسلّم (4).
وأمه آمنة بنت وهب، قد أعطاها الله من الجمال والكمال ما كانت تدعى إلا حكيمة قومها (5).
__________
(1) درس الكثيرون السيرة النبوية الشريفة، ونكتفي هنا بالاشارة إلى أهم المصادر التي عدنا إليها في تحقيق هذا الفصل، ومنها: سيرة ابن إسحاق، ومغازي الزهري، وسيرة ابن هشام، وسيرة ابن سيد الناس المعروفة بعيون الأثر، والروض الأنف، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، ودلائل النبوة للأصفهاني، ودلائل النبوة للبيهقي، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية وتاريخ الطبري، والكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية، لابن كثير، والسيرة النبوية للذهبي، من تاريخ الإسلام، وطبقات ابن سعد، وأنساب الأشراف للبلاذري، وصحيح البخاري، والتبيين في نسب القرشيين، وصحيح مسلم، وعيون التواريخ، لابن شاكر الكتبي، والسيرة الحلبية، ومغلطاي في الإشارة إلى سيرة المصطفى.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(4) مروج الذهب 1/ 488. وفي (ج): معدّ بن عدنان.
(5) في (أ) و (ب): ما كانت تدعى حكيمة قومها، بسقوط (إلّا).(1/272)
وعن ابن عباس عن أبيه عباس (1)، رضي الله عنهما: أن ليلة بني عبد الله بآمنة أحصينا مائتي امرأة من بني / مخزوم وعبد شمس وعبد مناف متن وخرجن من الدنيا، ولم يتزوجن أسفا على ما فاتهن من عبد الله عدة سنين.
وفي «نزهة النواظر»: أول (2) من سمي محمدا وأحمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأول عين تنظر إلى الله عزوجل عين النبي عليه السلام وهو أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث.
وفي «عيون الأخبار» نقلا عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (3)، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ولدت من آدم في نكاح لم يصبني عهر الجاهلية (4).
عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد بلغه ما يقول الناس، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله، قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وأنا خيركم نفسا (5).
وقال عليه السلام: أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي.
وقال: أنا سيد المرسلين إذا بعثوا وسائقهم إذا وردوا ومبشرهم إذا أيسوا
__________
(1) في (ج) عن ابن عباس رضي الله عنهما. والخبر عن العباس في شرح المواهب اللدنية 1/ 103، والسيرة الحلبية 1/ 62.
(2) في (ب) و (ج): إن أول.
وانظر: محاضرة الأوائل 76، 77، وأوائل الطبراني 39، والأصفهانى في دلائل النبوة 1/ 63.
(3) في (ج): رضي الله عنه.
(4) الحديث مشهور وتصدر به معظم كتب السيرة وانظر: الأصفهاني في دلائل النبوة 1/ 57.
(5) دلائل الأصفهاني 1/ 58، وسيرة ابن حبان 39.(1/273)
وإمامهم إذا سجدوا وأقربهم مجلسا إذا اجتمعوا. أتكلم فيصدقني وأشفع فيشفعني وأسأل فيعطيني، بيدي لواء الحمد وبي يثاب ويعاقب، وأنا أكرم ولد آدم ولا فخر (1).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما خلق الله أكرم نفسا عليه من محمد صلّى الله عليه وسلّم وما سمعت الله حلف بحياة أحد غيره فقال [تعالى] (2) {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (3)، بعثه الله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وجعل أمته خير الأمم وأصحابه أفضل الناس بعد الأنبياء.
وفي «سلوة الأحزان»، نقلا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (4)، أنه قال: فضلت على جميع الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبوة (5).
وفي «مسامرة الأخيار» نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (6): كان من دلالات (7) الحمل بمحمد صلّى الله عليه وسلّم / أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت: حمل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يبق في الدنيا كاهنة إلا انتزع علم الكهانة منها (8)، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا وأصبح منكوسا والملك مخرسا لا ينطق يومه، ومرت وحوش الشرق إلى وحوش الغرب بالبشارات، وكذا دواب البحر يبشر بعضهم بعضا، وفي كل شهر من شهور حمله يسمع نداء في السماء:
أن أبشروا، فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا.
__________
(1) المستدرك 2/ 604.
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).
(3) سورة الحجر، الآية: 72.
(4) في (ب): وفي سلوة الأحزان أنه قال: بسقوط ما بينهما.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 371.
(6) محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار 2/ 14.
(7) في (ب) و (ج): دلائل.
(8) في (ج): ولم يبق في الدنيا كاهن ولا كاهنة إلّا انتزع علم الكهانة منهما.(1/274)
وكانت آمنة إذا مشت في الدار كان الحجر يلين تحت قدمها وغمامة النور تظلل على رأسها، والطيور تنزل من الجو تتبرك بفؤادها، وكانت إذا أرادت أن تستقي من البئر يطلع الماء إلى فم البئر ويجري قدامها.
قالت آمنة: أتاني آت في المنام وقال لي: يا آمنة، قد حملت بخير الرسل طرا فإذا وضعته فقولي:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
وقائم قاعد ... يأخذ بالمراصد
في طرق الموارد
وسميه محمدا (1).
فبقي صلّى الله عليه وسلّم في بطن أمه تسعة أشهر كملا، لا تشكو وجعا ولا مغصا، ولا تحس بثقل ولا تشكو الحمل. قالت آمنة: لما جاءني المخاض جعلت أنظر إلى النجوم تدلى علي حتى قلت: يقعن علي. فلما وضعته خرج مني نور أضاء له البيت وارتفع إلى السماء، وامتلأ ما بين المشرق والمغرب، حتى رأيت قصور بصرى ومدائن الروم، فلما خرج من بطني نظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع إصبعه كالمتضرع المبتهل، ووجهه كالبدر، وريحه يسطع كالمسك، وهو مختون مسرور (2).
وكان ذلك في نهار الاثنين ثاني عشر ربيع الأول عام الفيل، يوم عشرين لنيسان، في شعب بني هاشم.
وفي «شواهد النبوة»: أنه لما وقع على الأرض رفع رأسه وقال بلسان فصيح:
لا إله إلا الله وإني رسول الله.
فلما خافوا عليه من وباء مكة دفعوه إلى حليمة السعدية ترضعه، ولأن
__________
(1) دلائل الأصفهاني 137، شرح المواهب اللدنية.
(2) دلائل الأصبهاني 135، دلائل البيهقي 1/ 136.(1/275)
النشوء في البلاد المعروفة بطيب الهواء وقلة الرطوبة وعذوبة الماء، له مدخل عظيم وتأثير بليغ في فصاحة المولود، وكان ذلك عادة قريش / ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: «أنا أعربكم، أنا من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر» (1).
وكانت مشهورة بين العرب بكمال الجود وتمام الشرف، فمكث عندها خمس سنين. وكان يقبل على الثدي الأيمن فيشرب منها ما شاء، ويأبى إذا حولته حليمة إلى الأيسر، فأعلمه الله تعالى أن له شريكا، فألهم العدل (2).
وفي «المنتقى»: قالت حليمة: من العجائب أنه ما رأيت له بولا ولا غسلت له غائطا قط (3)، وكانت له طهارة ونظافة.
وفي السنة الثالثة من مولده وقع شق صدره المبارك، فبقي أثر الشق ما بين مفرق صدره إلى منتهى عانته (4).
وكان صلّى الله عليه وسلّم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، وأطول من المربوع وأقصر من المشذب، أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، سهل الخدين، واسع الجبين، ضليع الفم، مفلج الأسنان، كأنها بياض اللؤلؤ. كان عنقه في صفاء الفضة، عريض الصدر بعيد المنكبين طويل الزندين، بين منكبيه خاتم النبوة، وهو شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات (5).
وقد أفاد الحاكم في «المستدرك» عن وهب بن منبه: أنه لم يبعث الله نبيا إلا وقد كانت له شامة النبوة في يده اليمنى، إلا نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإن شامة النبوة بين كتفيه (6).
وكان صلّى الله عليه وسلّم يمشي هونا وإذا التفت التفت جميعا. وعن أبي هريرة رضي الله
__________
(1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/ 146.
(2) الروض الأنف 1/ 187.
(3) في (أ) و (ب): وضوءا.
(4) دلائل الأصبهاني 219.
(5) طبقات ابن سعد 1/ 422، سيرة ابن حبان 410.
(6) المستدرك 2/ 606.(1/276)
عنه قال ما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث (1).
وكان لا ينطق في غير الحاجة، وإذا تكلم يتكلم بجوامع الكلم، وإذا أشار، أشار بكفه كلها. أجلّ ضحكه التبسم (2).
وكان إذا جلس إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ولم يجعل له موضعا يعرف به.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما رأيت كفّا ألين من كفّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا شممت ريحا وعرقا أطيب منه ريحا وعرقا (3).
وفي «صحيح مسلم» (4)، أنه صلّى الله عليه وسلّم نام (5) على فراش أم سليم، وعرق واستنقع عرقه على نطع وكان كثير العرق، فجعلت تأخذ العرق في قواريرها فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تصنعين يا أم / سليم (6)؟ فقالت: يا رسول الله، عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب نرجو بركته لصبياننا فقال: أصبت.
وفي «صدق المودة في شرح البردة» نقلا عن جرير بن عبد الله قال: كنت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلا، فنظرت إليه وإلى البدر وكانت ليلة تمامه، فوعيشه رأيت وجهه أحسن من البدر.
وخاطت عائشة رضي الله عنها شيئا بليل فسقطت إبرتها وطفىء سراجها، فدخل صلّى الله عليه وسلّم فأضاء البيت من نوره حتى وجدت الإبرة.
__________
(1) الحديث أخرجه ابن سعد في طبقاته 1/ 380، 411، 415، وأخرجه القاضي عياض في الشفا 1/ 69.
(2) الوفاء 1/ 70.
(3) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 1815 (كتاب الفضائل).
(4) الاستدراك من (ج). وفي (ب): وقال مسلم.
(5) الحديث في صحيح مسلم 4/ 1815 (كتاب الفضائل).
(6) في (ج): ما تصنعين به يا أم سليم؟ وما أثبتناه موافق لما في صحيح مسلم.(1/277)
وقالت حليمة مرضعة النبي عليه السلام: كنا نستضيء بوجهه بالليل من غير مصباح.
ومن (1) خصائصه صلّى الله عليه وسلّم: أنه لا ظل له لأنه نور كله. قال القاضي في «الشفا» (2): كان صلّى الله عليه وسلّم لا ظل له في شمس ولا قمر، ولا يقع الذباب على جسده، ولا يمص دمه البعوض، ولا آذاه قمل. وإذا أراد أن يتغوط، انشقت له الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيبة.
وفي الصحيح من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأراكم من خلفي كما أراكم من أمامي»، تحريضا على تسوية الصفوف.
وإذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر فكان يعرف ذلك منه.
وكان إذا مشى مع الطويل طاله وإذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين (3).
وكان إذا ركب دابته لا تروث ولا تبول وهو راكبها. ولم يكن لقدمه أخمص وكانت ظفر رجله متضافرة وكانت الأرض تطوى له إذا مشى (4).
وكان صلّى الله عليه وسلّم أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا، وإن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله إلا كحبة رمل من رمال الدنيا.
وكان إذا نامت عيناه لا ينام قلبه، وأنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا، ولا احتلم قط، ولا تثاءب قط.
وشق قلبه في زمن الصباء مرتين وذلك لاستخراج حظ الشيطان، وهو
__________
(1) من هنا ساقط من (ب).
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 6963.
(3) الشفا 1/ 68.
(4) الجملة من: (وكانت) ساقطة من (ج).(1/278)
العلقة السوداء، وغسله من أثرها حتى يكون طاهر القلب من نزغات الشيطان (1).
ومن أخلاقه الحميدة: أنه كان صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ غليظ ولا فحاش ولا صخاب ولا عتاب ولا قداح، ولا عاب طعاما قط، كان إذا اشتهاه أكله وإن لم يشتهه تركه. وكان رؤوفا رحيما حليما لينا هينا شفيقا رفيقا لطيفا.
وأوصافه صلّى الله عليه وسلّم أجل وأعظم من أن يحيط بها ناعت بوصفه، ولكن ما وصفه من وصفه إلا بقدر ما ظهر منه.
وذكر الترمذي في «الشمائل» نقلا عن قتادة رضي الله عنه / قال: ما بعث الله تعالى نبيا إلا [حسن الوجه] (2)، حسن الصوت، فكان نبيكم صلّى الله عليه وسلّم أحسن الأنبياء وجها وأحسن صوتا (3).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما عددت في رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ولحيته] (4)، إلا أربع عشرة شعرة بيضاء (5).
عن أبي هريرة قال قالوا: يا رسول الله، نراك قد شبت! قال: شيبتني هود وأخواتها.
ذكر في «صحاح المصابيح» قال ابن عباس رضي الله عنهما، قال لي معاوية رضي الله عنه: إني قصرت من رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند المروة بمشقص فكان معاوية أول من قص من شعره الشريف.
وفي «المظهر [في] (6) شرح المصابيح» أنه صلّى الله عليه وسلّم حلق رأسه ثم دعا أبا
__________
(1) إلى هنا ينتهي ما سقط من (ب).
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(3) في (ب): أحسن وجها وصوتا.
(4) من (ج).
(5) حديث أخرجه مسلم باختلاف في كتاب الفضائل 4/ 1821.
(6) الزيادة من (ب).(1/279)
طلحة الأنصاري فأعطاه إياه فقال له: اقسمه بين الناس. وإنما قسمه ليكون بركة باقية، بين أظهرهم وتذكرة لهم ومعجزة باقية لأنه لم تحرقه النار إذا ألقي فيها كأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل وانقضاء زمان الصحبة، وإنما خص أبا طلحة بالقسمة لأنه حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن (1).
ذكر أهل التاريخ والسير أنه صلّى الله عليه وسلّم أقام في بني سعد خمس سنين، ومات أبوه عبد الله في المدينة وهو في بطن أمه، ثم توفيت أمه في الأبواء وكفله جده عبد المطلب فتوفي فكفله عمه أبو طالب (2).
مسألة: هل كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم أخ من أبيه وأمه؟ فقيل: لم يكن لعبد الله ولا لآمنة ولد غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: كانت لهما بنت تسمى فاطمة، ماتت صغيرة.
وسافر صلّى الله عليه وسلّم إلى الشام مع عمه أبي طالب وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم خرج مع ميسرة في تجارة خديجة، وكان ابن خمس وعشرين سنة، وبعث صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة.
وفي «أحاسن المحاسن» (3): لما ابتدأه الله تعالى بالنبوّة كان إذا خرج لحاجته فلا يمر بحجر ولا شجر إلا ويسلم عليه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن (4).
ومن معجزاته: انشقاق القمر له نصفين نصفه فوق الجبل ونصفه دونه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل، وحنين الجذع إليه، وإقرار الضب بنبوته ورسالته بين يديه، ونزول العذق من النخلة مبادرا إليه، وتظليل
__________
(1) في (ج): وأرى إنما حض أبا طلحة بالقسمة التفاتا إلى هذا المعنى، لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن.
(2) هذا المعروف عن سيرته الشريفة.
(3) في (ب): محاسن المحاسن.
والحديث أخرجه الأصبهاني في الدلائل 389، والحاكم في المستدرك 2/ 620.
(4) أخرجه مسلم في الفضائل 4/ 1782، ودلائل الأصبهاني 1/ 397.(1/280)
الغمامة عليه، ومشي الشجرة إليه، وتكلم الذراع المسمومة له، وإخباره بما كان وبما سيكون من المغيبات، وانحباس الشمس لأجله، وإحياء والديه له وإسلامهما، والإسراء من مكة ليلا إلى بيت المقدس إلى السماوات العلى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ووطؤه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وإحياء الأنبياء له، وصلاته إماما لهم وبالملائكة (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: علمني ربي ليلة أسري بي علوما شتى، فعلم أخذ علي كتمانه، وعلم خيرني فيه، وعلم أمرني أن أبلغه / فكان صلّى الله عليه وسلّم يسر إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ مما كان خيره الله فيه.
وفي «مسامرة الأخيار»: أنه لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دحية الكلبي إلى قيصر يدعوه لتوحيد الله تعالى وكان بطريق بيت المقدس واقفا عند رأسه فذكر قصة الإسراء قال البطريق: قد علمت به تلك الليلة، فنظر إليه قيصر وقال: ما أعلمك بهذا؟ قال: كنت لا أنام كل ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد، فلم استطع أن أحركه فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا: هذا باب سقط عليه السجاف والبنيان، فلا نستطيع أن نحركه، فتركت الباب مفتوحا، فلما أصبحت غدوت عليه فإذا الحجر الذي من زاوية المسجد مثقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة قلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا لأجل نبي يصلي فيه (2).
وكان الإسراء على أصح الأقوال حال اليقظة وهو ابن إحدى وخمسين سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما (3)، فلا ينبغي أن ينكر، لأن خرق العادات أساس إثبات النبوات.
__________
(1) معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم توقفت عندها كتب السيرة وبوجه خاص دلائل النبوة للأصبهاني والبيهقي، والقاضي عياض في كتابه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
(2) محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار 2/ 133132.
(3) الخبر بهذا الشكل ذكره مغلطاي، وانظر خبر الإسراء في كتب السيرة. وفي سيرة ابن حبان 116.(1/281)
ومما أبرأه (1) بكفه الشريف: أن قتادة أصيبت عينه يوم أحد وسالت عينه على وجنته فردها صلّى الله عليه وسلّم فكانت أحسن عينيه (2).
وقطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألصقها فلصقت (3).
وأصيب يوم بدر خبيب على عاتقه بضربة حتى مال شقه، فرده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونفث عليه حتى صح (4).
وانكفأت القدر على ذراع محمد بن حاطب وهو طفل فمسح عليه ودعا له وتفل في فيه فبرىء لحينه (5).
وجاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح صدره فقاء فخرج من جوفه مثل الجر والأسود فبرىء (6).
ومما روي عن حبيب أن أباه فديك ابيضت عيناه فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عينيه فأبصر فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين سنة (7). وهذا باب لا يحاط به خصوصا؟ / في انقلاب الأعيان ببركة لمسه (8).
ومما يتعلق في صبره (9) على الجوع وإعراضه عن حطام الدنيا ما رواه الطبراني بإسناد حسن: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان هو وجبريل على الصفا فقال: يا جبريل (10)،
__________
(1) من هنا ساقط من (ب).
(2) ابن هشام 2/ 82، المستدرك 3/ 295، دلائل الأصبهاني 484.
(3) الشفا 1/ 324.
(4) في (ب) و (ج): وأصيب يوم بدر حبيب ضربة على عاتقه، وصوابه خبيب.
والخبر في دلائل الأصبهاني 484.
(5) دلائل الأصبهاني 467، المستدرك 4/ 62.
(6) البداية والنهاية 6/ 159.
(7) البداية والنهاية 6/ 162.
(8) إلى هنا ينتهي ما سقط من (ب).
(9) أورد الخبر ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 48.
(10) في (ب): يا أمين رب العالمين.(1/282)
والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق ولا كف من سويق فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة من السماء أفزعته فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا أمين رب العالمين، هل أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا ولكن أمر إسرافيل أن ينزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه فقال: إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرضها عليك وأن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة، فإن شئت فكن نبيا ملكا وإن تكن نبيا عبدا. فأومأ إليه جبريل أن تواضع فقال: بل نبيا عبدا، ثلاثا. فانظر إلى همته العالية كيف عرضت عليه خزائن الأرض فأعرض عنها وأباها، مع أنه لو أخذها لم ينفقها إلا في طاعة الله، لكنه اختار العبودية المحضة فيا لها من همة شريفة رفيعة ما أسناها، ونفس زكية كريمة ما أبهاها.
ذكر شأن البردة النبوية والخاتم وغيره
قال صاحب «الطيوريات» (1)، بسنده إلى أبي عمرو بن العلاء: إن كعب بن زهير لما أنشد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصيدته (بانت سعاد)، رمى إليه بردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية دفع له فيها (2) عشرة آلاف درهم فأبى، فلما مات كعب بعث معاوية إلى أولاده بعشرين ألف درهم وأخذ منهم البردة.
وقد كانت هذه البردة لم تزل عند الخلفاء يتوارثونها ويطرحونها على أكتافهم في المواكب والأعياد، جلوسا وركوبا، وكانت على المستعصم لما خرج لملاقاة هلاكو كبير التتار، وقضيب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده، فأخذهما منه هلاكو وأحرقهما في طبق، وألقى رمادهما في دجلة وقال: إني ما أحرقتهما استهانة بهما، وإنما أحرقتهما تطهيرا لهما، كما سيأتي بيان ذلك في محله إن شاء الله تعالى.
وذكر الذهبي في «تاريخه»: أن البردة التي كانت عند الخلفاء هي البردة التي
__________
(1) هو السلفي، على ما ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء 2.
وفي الأصل: صاحب الطوريات.
(2) من (ج). وفي (أ) و (ب): دفع فيه.(1/283)
أعطاها صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك لأهل أيلة مع كتابه الذي كتب لهم بالأمان، فاشتراها أبو العباس السفاح بثلاثمائة دينار (1)، وأظن أنها هي البردة التي وصلت لسلاطين بني عثمان، فهي اليوم عندهم يتباركون بها ويسقون ماءها لمن به ألم فيبرأ بإذن الله تعالى. واتخذ لها المرحوم السلطان مراد خان، تغمده الله بالرحمة والغفران، صندوقا من ذهب زنته [] (2) مثقال، فوضعها فيه تعظيما لها. والبردة التي اشتراها معاوية فقدت عند زوال بني أمية، وقيل: كفن فيها معاوية.
وعن عروة بن الزبير: أن ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يخرج فيه للوفد رداء حضرمي طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر، فهو الذي كان عند الخلفاء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله (3) عنها كساء ملبدا وإزارا غليظا فقالت: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذين.
وعنها قالت: كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي ينام عليه من أدم حشوه ليف (4).
وعن (5) أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوداء وعمامته سوداء / ولواؤه أسود، كذا في «عيون التواريخ» (6).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من فضة وكان في يده ثم كان في يد أبي بكر ثم عمر ثم في يد عثمان حتى وقع في بئر
__________
(1) الخبر عن السلفي والذهبي اقتباس عن تاريخ الخلفاء، وما بعده رأي المؤلف.
(2) كذا فراغ في جميع الأصول.
(3) في (ب): وعن أبيها.
والخبر في تاريخ الخلفاء 23.
(4) طبقات ابن سعد 1/ 464.
(5) من هنا ساقط من (ب).
(6) لم أقع على الخبر من طريق عيون التواريخ، والخبر من هذه الطريق أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 455.(1/284)
أريس نقشه: «محمد رسول الله». وكان يتختم في يمينه. وكان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه (1).
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكتحل قبل أن ينام بالاثمد ثلاثا في كل عين وقال: إن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر (2).
في ذكر ركابه وسلاحه
كان له صلّى الله عليه وسلّم ثلاث نياق: الجدعاء والعضباء والقصواء (3).
وستة أفراس: السكب، والمرتجز، والظرب، واللحيف، والورد، واليعسوب (4).
وسيوفه ستة: ذو الفقار، والمخذم، والرسوب، والعضب، والبتار، والحتف (5).
وأدراعه ثلاثة: الصغدية، وفضة، وذات الفضول (6).
__________
(1) طبقات ابن سعد 1/ 473472.
(2) إلى هنا ينتهي ما سقط من (ب).
والخبر في طبقات ابن سعد 1/ 485484.
(3) طبقات ابن سعد 1/ 492، وأنساب الأشراف 1/ 512، وتاريخ الطبري 3/ 174، وعيون الأثر 2/ 43، وفيها أنها أسماء لناقة واحدة، ويذكر السهيلي في الروض أن العضباء غير الجدعاء (الروض 2/ 6220)، وفي المعارف 65ثلاث نياق، وانظر شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 3/ 390.
(4) المعارف 65، وطبقات ابن سعد 1/ 489، وتاريخ الطبري 3/ 173، وأنساب الأشراف 1/ 509، وعيون الأثر 1/ 401، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية 3/ 385، ويرد في بعض المصادر (اللخيف).
(5) طبقات ابن سعد 1/ 485، وتاريخ الطبري 3/ 177، وأنساب الأشراف 1/ 521، وعيون الأثر 1/ 397، وشرح الزرقاني 3/ 378.
(6) في (أ): قصة وذات الفصول.
وانظر: طبقات ابن سعد 1/ 487وفيه: السعدية عوضا عن الصغدية، وفي عيون الأثر 2/ 398 (السغدية)، وأنساب الأشراف 1/ 523، وشرح المواهب اللدنية 3/ 379.(1/285)
وقسيه ثلاثة: الروحاء، والصفراء، والبيضاء (1).
وأرماحه ثلاثة: لم يسمهم لنا أحد (2).
وكان له ترس واحد (3).
وروى ابن سعد في «طبقاته» (4)، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهدي له ترس فيه تمثال كبش، فوضع النبي صلّى الله عليه وسلّم يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال.
واسم جبته الدكناء (5).
واسم عمامته السحاب (6).
واسم لوائه الحمد (7).
واسم قصعته الغراء، وكان يحملها أربعة رجال، فيها أربع حلق من حديد (8).
واسم بغلته دلدل (9).
واسم حماره يعفور (10).
وذكر ابن عساكر (11) في تاريخه قال: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبرا أصاب
__________
(1) ابن سعد 1/ 489، وتاريخ الطبري 3/ 177، وشرح المواهب اللدنية 3/ 380.
(2) سمى اثنان منها ابن سيد الناس في عيون الأثر وهما: المثوي والمثنى، وسماهما أيضا الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية 3/ 381.
(3) سماه الزرقاني في شرحه 3/ 381، وهو الزلوق، وفي عيون الأثر: الزلوق وفتق.
(4) في جميع الأصول (ابن سعيد)، والخبر في طبقات ابن سعد 1/ 489.
(5) لم أقع على من أطلق اسم الدكناء على جبته، صلّى الله عليه وسلّم.
(6) شرح المواهب 3/ 384.
(7) لم أقع على من أطلق اسم الحمد على لوائه صلّى الله عليه وسلّم.
(8) في (أ): أربع رجال فيها أربع حلق حديد وانظر: شرح المواهب اللدنية 3/ 383.
(9) طبقات ابن سعد 1/ 491، وتاريخ الطبري 3/ 174، وشرح المواهب 3/ 389، وعيون الأثر 2/ 174.
(10) طبقات ابن سعد 1/ 491، وتاريخ الخميس 2/ 187، وشرح المواهب 1/ 391.
(11) القصة عن ابن عساكر نقلها الدياربكري في تاريخ الخميس 2/ 187.(1/286)
حمارا أسود، فكلم الحمار النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أخرج الله تعالى من نسل جدي ستين حمارا لا يركبهم إلا نبيّ، وقد كنت أتوقعك لتركبني ولم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك، وكنت عند رجل يهودي وكنت أعثر به لئلا يركبني، فسماه النبي صلّى الله عليه وسلّم يعفورا.
فلا يخفى على كل ذي لب ما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم من الجمال وتناسب الأعضاء وسلامته من العيوب، وما كان من العبادة والعلم والحلم. وكل خصلة حميدة مما لو تتبع، لضاقت عن حصره الدفاتر، وكلت دون مرماه الأقلام وجفت المحابر.
ولله در القائل:
أيجيد مخلوق ثناءك بعدما ... أثنى عليك إلهنا الخلاق /(1/287)
أيجيد مخلوق ثناءك بعدما ... أثنى عليك إلهنا الخلاق /
ذكر أولاده صلّى الله عليه وسلّم (1)
الذكور (2): القاسم (3)، وبه كان يكنى، ثم الطيب، ثم الطاهر، وعبد الله وإبراهيم.
والإناث منهن: أكبرهن رقية (4)، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، وجميع أولاده من خديجة، غير إبراهيم فإنه من مارية القبطية، سرية أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية (5).
__________
(1) في (ب): في ذكر أولاده عليهم السلام وعلى أبيهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
(2) هذه رواية ابن إسحاق في سيرة ابن هشام 1/ 191190. أما الدمياطي في (نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأولاده ومن سالفه: 3534) فيذكر: القاسم وعبد الله، وهو الطيب والطاهر والمطهر، لقب بهذا لأنه ولد بعد النبوة. وانظر أيضا: المحبر 79، أنساب الأشراف 1/ 405396.
وقال بعضهم: ما نسمعها ولدت إلا القاسم، والعقد الثمين 8/ 204. وحول إبراهيم عليه السلام، انظر: نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 7574.
(3) في (ب): قاسم.
(4) يعتمد الدمياطي تسلسلا في بناته (صلّى الله عليه وسلّم) فيبدأ بزينب، وهي أكبرهن بلا خلاف، إلّا شيئا يروى لا يصح، ثم رقية ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، وهذا هو المشهور في ترتيب البنات. ويذكر ابن سعد ترتيبا آخر (طبقات 1/ 133).
(5) انظر حول مارية رضي الله عنها: طبقات ابن سعد 8/ 212، أنساب الأشراف 1/ 448، تاريخ الطبري 3/ 21، 95، 167، ذيل المذيل في ذيول الطبري 11/ 617، نهاية الأرب 18/ 207، نساء رسول الله 73، البداية والنهاية 5/ 303، شرح المواهب اللدنية 3/ 271، شذرات الذهب 1/ 29.(1/288)
ذكر فضائل فاطمة الزهراء البتول رضي الله عنها (1)
بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبها (2) لأنها كانت زاهدة عابدة، وكانت تذكرة له من خديجة. وكانت لها أسماء تدعى بها: أحدها بتول (3)، والثاني زهراء، والثالث طاهرة، والرابع مطهرة، والخامس فاطمة.
قالت عائشة رضي الله عنها (4): كنا نخيط ونغزل وننظم الإبرة بالليل في ضوء وجه فاطمة (5). وقالت: إذا أقبلت فاطمة كان مشيها مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (6).
وكانت لا تحيض قط لأنها خلقت من تفاحة الجنة. ولقد وضعت الحسن بعد العصر وطهرت من نفاسها فاغتسلت وصلت المغرب ولذلك سميت الزهراء (7). وفي «عيون الأخبار» نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر القبل لفاطمة رضي الله عنها فقالت له عائشة: بأبي أنت وأمي، إني أراك تكثر تقبيل فاطمة. فقال عليه السلام: إن جبريل ليلة أسرى بي وأدخلني الجنة وأطعمني من جميع ثمارها فصار ذلك ماء في صلبي فحملت مني خديجة
__________
(1) طبقات ابن سعد 8/ 18، أنساب الأشراف 1/ 402، تاريخ خليفة بن خياط 65، 96، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/ 373، الإصابة في معرفة الصحابة 4/ 377، نهاية الأرب 18/ 213، نساء رسول الله 38، سير اعلام النبلاء 2/ 119، المحبر 53، المستدرك 3/ 151، سيرة مغلطاي ق 6ب، العقد الثمين 8/ 283، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى 26.
(2) في (أ): كان يحبها.
(3) في (ب) و (ج): البتول.
(4) ليست في (ج).
(5) حديث عائشة رضي الله عنها ساقط من (ب).
(6) في (ب): مشيتها مشية أبيها.
والخبر في ذخائر العقبى 39.
(7) ذخائر العقبى 44.(1/289)
بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من ريح تلك الثمار التي أكلتها (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كانت الليلة التي زفت فيها فاطمة إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (2)، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمامها وجبريل عن يمينها وميكائيل عن شمالها وسبعون ألف ملك من خلفها يسبّحون الله تعالى ويقدسونه حتى طلع الفجر.
وعن النبي عليه السلام أنه قال: يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك (3).
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال (4): قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة نادى مناد [من بطنان العرش] (5) يا أهل الجمع (6)، نكسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد (7) على الصراط / قال:
فتمر ومعها سبعون (8) ألف جارية من الحور العين كالبرق الخاطف (9).
وقد ورد في الخبر أنها لما سمعت بأن أباها زوجها وجعل الدراهم مهرا لها فقالت: يا رسول الله، إن بنات الناس يتزوجن بالدراهم فما الفرق بيني وبينهن؟
__________
(1) في (ب) و (ج): التقبيل. وفي (ب): بأبي أنت وأمي يا رسول الله. وفي (ب): أيضا: فقال عليه السلام: إن جبريل عليه السلام. والخبر في ذخائر العقبى 36.
(2) في (ب) و (ج): علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والخبر في ذخائر العقبى 32.
(3) الحديث أورده المحب الطبري في ذخائر العقبى 39. والخبر ساقط من (ب).
(4) الخبر عن أبي أيوب ساقط من (ب).
(5) ما بين الحاصرتين من (ج)، وقبلها في (ب): نادى مناديا.
(6) في (ب): يا أهل الجنة.
(7) في (أ): حتى تمر بنت رسول الله.
(8) في (أ): ومعها ألف جارية، وفي (ج): فتمر مع سبعين ألف جارية، وما أثبته من (ب)، فهو يتفق وما أورده المحب الطبري في ذخائر العقبى 48.
(9) في (ج): كمر البرق.(1/290)
أسألك أن تردها (1) وتدعو الله تعالى أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك (2)
فنزل جبريل عليه السلام ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: جعل الله مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها. فلما احتضرت أوصت بأن توضع تلك البطاقة على صدرها تحت الكفن فوضعت وقالت: إذا حشرت يوم القيامة رفعت تلك البطاقة بيدي وشفعت في عصاة أمة أبي (3).
ولما احتضرت اغتسلت بنفسها وأوصت أن لا يغسلها أحد، فدفنها عليّ رضي الله عنه بغسلها (4) ذلك، كذا في «كشف الغمة» للشيخ عبد الوهاب الشعراني (5).
[بمحمد وببنته وببعلها ... وابنيهما السبطين أعلام الهدى]
[فرّج عن المكروب واكشف غمه ... يا خير من رفع العباد له يدا] (6)
__________
(1) في (ب): أن تردهن.
(2) في (ب): الشفاعة في أمة أبيها.
(3) في (أ): في عصاة المذنبين من أمة أبي.
(4) الخبر في طبقات ابن سعد 8/ 27، نساء رسول الله 40، ذخائر العقبى 53.
(5) في (أ) و (ج): في غسلها ذلك كذا في كشف الغمة، وفي (ب): كذا كان فيكشف الغمة.
(6) البيتان ساقطان من (أ) و (ب).(1/291)
ذكر أزواجه أمهات المؤمنين
كانت عدة أزواجه خمس عشرة، دخل بإحدى عشرة (1) منهن، ولم يدخل بأربع، وتوفيت في حياته اثنتان، وقبض عليه السلام عن تسع.
فأولهن: خديجة (2) بنت خويلد: كان صداقها عشرين بكرة، لم ينكح عليها امرأة حتى ماتت.
وكان تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة وشهور، فهي أول من آمنت من النساء وصلّت (3).
وتزوج بعد وفاتها: سودة بنت زمعة بن قيس (4)، روي أنها رأت في المنام
__________
(1) في جميع النسخات: بإحدى عشر.
(2) طبقات ابن سعد 1/ 131، 8/ 14، 52، والمحبر 77، والمنتخب من أزواج النبي 23، وأنساب الأشراف 1/ 396، وتاريخ الطبري 3/ 161، وذيل المذيل 493، والمعارف 58 ونسب قريش 230، وجمهرة ابن الكلبي 22، 84، 90وجمهرة ابن حزم 120، وسيرة ابن هشام 1/ 189، وسيرة ابن سيد الناس 1/ 62، ومغلطاي سيرة المصطفى ق 5آ، والروض الأنف 1/ 213، ونساء رسول الله 31، وشرح الزرقاني 1/ 197، وتاريخ ابن الأثير 2/ 210، وتهذيب تاريخ دمشق 1/ 304، ودلائل البيهقي 1/ 9، والاستيعاب 4/ 279، والإصابة 4/ 286، ونهاية الأرب 18/ 170، وشذرات الذهب 1/ 14، وتاريخ الخميس 1/ 213، والبداية والنهاية 2/ 293، وسير أعلام النبلاء 2/ 109، والوافي بالوفيات 13/ 294، والعقد الثمين 8/ 203، والمستدرك 3/ 640، والتبيين في أنساب القرشيين 71.
(3) في (ب): وهو ابن خمس وعشرين وبعض شهور، فهي أول من آمنت من النساء. وفي (ج):
وهي أول من آمن من النساء ولفظ (وصلّت) ساقط منهما.
(4) المعارف 59، وطبقات ابن سعد 8/ 52، وطبقات خليفة بن خياط 335، والمحبر 79، والتبيين في أنساب القرشيين 75، وأنساب الأشراف 1/ 407، وتاريخ الطبري 3/ 161، وسيرة ابن هشام 1/ 239، وعيون الأثر 2/ 377، ونساء رسول الله 42، وتهذيب تاريخ دمشق 1/ 304، ونسب قريش 422، وجمهرة ابن حزم 166، والوافي بالوفيات 16/ 41، والعقد الثمين 8/ 240، وشرح الزرقاني 3/ 229.(1/292)
أن النبي عليه السلام أتاها ووضع رجله على رقبتها، فلما انتبهت أخبرت زوجها.
قال: صدقت، فأنا أموت ويتزوجك محمد.
ورأت رؤيا أخرى أن القمر وقع عليها من السماء، فما مضى كثير (1) حتى مات زوجها فتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ثم تزوج بعائشة (2): وفي «السبعيات» أنه تزوج بعائشة [رضي الله عنها] (3)، بعد وفاة خديجة.
ومن أزواجه: حفصة بنت عمر بن الخطاب (4)، رضي الله عنه. روي أنه طلقها فنزل جبريل عليه السلام وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوامة قوامة فراجعها (5).
__________
(1) في (ب) و (ج): فما مضى.
(2) المعارف 59، والتبيين في أنساب القرشيين 73، والمحبر 80، وطبقات ابن سعد 8/ 58، وأنساب الأشراف 1/ 409، وتاريخ الطبري 3/ 162، وتاريخ خليفة بن خياط 225، ومنتخب الزبير 35، وسيرة ابن إسحاق 225، وسيرة ابن سيد الناس (عيون الأثر) 2/ 378، ودلائل البيهقي 2/ 409، ونساء رسول الله 45، والإستيعاب 4/ 356، والإصابة 4/ 359، وتهذيب ابن عساكر 1/ 303، وسير أعلام النبلاء 2/ 378، وشذرات الذهب 1/ 9، 61، وشرح المواهب اللدنية 3/ 274، والعقد الثمين 8/ 262.
(3) ليست في (أ).
(4) المحبر 83، والتبيين في أنساب القرشيين 75، وطبقات ابن سعد 8/ 81، والمعارف 59، وتاريخ خليفة 66، وأنساب الأشراف 1/ 422، وتاريخ الطبري 3/ 164، وسيرة ابن إسحاق 257، ودلائل البيهقي 3/ 158، وعيون الأثر 2/ 380، ومنتخب الزبير 39، ونساء رسول الله 49، والإستيعاب 4/ 268، والإصابة 4/ 273، ونسب قريش 348، وسير أعلام النبلاء 2/ 227، والوافي بالوفيات 13/ 105، والعقد الثمين 8/ 200، وشرح الزرقاني 3/ 236.
(5) الجملة (روي أنه طلقها فراجعها) ساقطة من ب.
والخبر عن حفصة أخرجه ابن سعد 8/ 84، والحاكم في المستدرك 4/ 15، وفي سنن أبي داود 2/ 285.(1/293)
وأم سلمة (1): واسمها هند (2) بنت أبي [أمية] (3) بن المغيرة، وهي آخر من مات من أزواجه بعده.
ومنهن: زينب (4) بنت جحش، توفيت بالمدينة سنة عشرين وهي / أولهن وفاة.
ومنهن أم حبيبة (5)، واسمها رملة (6) بنت أبي سفيان.
__________
(1) في (ب): ثم أم سلمة.
(2) المعارف 60، المحبر 83، طبقات ابن سعد 8/ 86، نسب قريش 337، طبقات خليفة 334، المنتخب 42، تاريخ الطبري 3/ 164، المستدرك 4/ 16، سيرة ابن إسحاق 260، دلائل النبوة (البيهقي) 3/ 463، نساء رسول الله 55، الاستيعاب 4/ 421، 454، الإصابة 4/ 423، 459، نهاية الأرب 18/ 179، شذرات الذهب 1/ 69، البداية والنهاية 4/ 90، العقد الثمين 8/ 321، وشرح الزرقاني 3/ 238، والتبيين في أنساب القرشيين 76.
(3) في النسخات الثلاث: هند بنت أبي بن المغيرة. وضبط الاسم من المصادر.
(4) طبقات ابن سعد 8/ 101، المنتخب 48، المعارف 59، طبقات خليفة 332، جمهرة ابن الكلبي 186، جمهرة ابن حزم 191، تاريخ الطبري 3/ 165، ذيل المذيل 607، أنساب الأشراف 1/ 433، دلائل البيهقي 3/ 465، المستدرك 4/ 23، الاستيعاب 4/ 313، الإصابة 4/ 313، عيون الأثر 2/ 382، نساء رسول الله 63، نهاية الأرب 18/ 180، سير أعلام النبلاء 2/ 211، الوافي 15/ 61، العقد الثمين 8/ 226، شرح المواهب 3/ 245، والتبيين في أنساب القرشيين 77.
(5) المنتخب 50، طبقات ابن سعد 8/ 96، طبقات خليفة 332، تاريخ خليفة 79، 86، أنساب الأشراف 1/ 438، نسب قريش 122، المحبر 88، جمهرة ابن حزم 111، سيرة ابن هشام 1/ 223، مغلطاي ق 13ب، تاريخ الطبري 3/ 165، ذيل المذيل 604، المستدرك 4/ 20، دلائل البيهقي 3/ 459، الإستيعاب 4/ 303، الاصابة 4/ 305، نهاية الأرب 18/ 184، سير أعلام النبلاء 3/ 218، نساء رسول الله 70، عيون الأثر 2/ 384، شذرات الذهب 1/ 54، الوافي 14/ 145، العقد الثمين 8/ 218، والتبيين في أنساب القرشيين 80.
(6) في الأصل (رميلة)، وضبطه من المصادر.(1/294)
وزينب بنت خزيمة (1)، وهي أم المساكين، توفيت في حياته بالمدينة، ولم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة.
ومنهن: ميمونة بنت الحارث (2)، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل:
الواهبة نفسها خولة بنت حكيم (3).
ومنهن: جويرية بنت الحارث (4)، سباها النبي عليه السلام في غزوة المريسيع وتزوج بها (5).
__________
(1) المحبر 83، المنتخب 41، المعارف 59، طبقات ابن سعد 8/ 115، تاريخ الطبري 3/ 167، أنساب الأشراف 1/ 429، الاستيعاب 4/ 312، الإصابة 4/ 315، المستدرك 4/ 33، دلائل البيهقي 3/ 159، نساء رسول الله 53، عيون الأثر 2/ 381، شرح المواهب 3/ 249، شذرات الذهب 1/ 10، نهاية الأرب 18/ 178، والتبيين في أنساب القرشيين 76.
(2) منتخب الزبير 53، ومغازي الواقدي 2/ 738، 740، وطبقات ابن سعد 8/ 132، وطبقات خليفة 338، وتاريخ خليفة 86، وجمهرة أنساب العرب 274، وتاريخ الطبري 3/ 166، وذيل المذيل 611، والمعارف 61، وأنساب الأشراف 1/ 444، والاستيعاب 4/ 404، والاصابة 4/ 411، ونساء رسول الله 83، وسير أعلام النبلاء 2/ 238، ونهاية الأرب 18/ 188، وتهذيب تاريخ دمشق 1/ 309، وشرح المذاهب 3/ 250، والعقد الثمين 8/ 319، وسيرة ابن إسحاق 226، وعيون الأثر 2/ 387، والمستدرك 4/ 30، والتبيين في أنساب القرشيين 84.
(3) طبقات ابن سعد 8/ 158، الروض الأنف 4/ 218، نساء رسول الله 103، الوافي 13/ 431، العقد الثمين 8/ 213.
(4) سيرة ابن إسحاق 263، ومغازي الواقدي 1/ 411، وطبقات ابن سعد 8/ 116، وطبقات خليفة 342، والمحبر 89، والمنتخب 45، والمعارف 61، وتاريخ الطبري 3/ 165، وأنساب الأشراف 1/ 441وجمهرة ابن حزم 60، والاستيعاب 4/ 258، والاصابة 4/ 265، ونساء رسول الله 60، وعيون الأثر 2/ 383، والروض الأنف 4/ 19، وتهذيب تاريخ دمشق 1/ 306، وسير أعلام النبلاء 2/ 261، ونهاية الأرب 18/ 182، وشذرات الذهب 1/ 61، والتبيين في أنساب القرشيين 79.
(5) كانت غزوة المريسيع في شعبان سنة خمس للهجرة، وتعرف أيضا بغزوة بني المصطلق (مغازي الواقدي 1/ 404، سيرة ابن هشام 2/ 289، معجم ما استعجم 1220).(1/295)
ومنهن: صفية بنت حيي بن أخطب (1)، سباها يوم خيبر (2).
فهؤلاء إحدى عشرة امرأة دخل بهن النبي صلّى الله عليه وسلّم بلا خلاف.
__________
(1) في (أ) و (ب): صفية بنت جبير، وضبط الاسم من (ج) وسائر المصادر.
وأخبارها في سيرة ابن إسحاق 264، وسيرة ابن هشام 2/ 366، والمنتخب 49، وتاريخ خليفة 82، 83، 86، والمحبر 90، ومغازي الواقدي 2/ 668، 673، وطبقات ابن سعد 8/ 120، والمعارف 61، والمحبر 90، وتاريخ الطبري 3/ 166، وذيل المذيل 610، وأنساب الأشراف 1/ 442، ودلائل البيهقي 4/ 227، والمستدرك 4/ 28، والاستيعاب 4/ 346، والاصابة 4/ 349، وتهذيب تاريخ دمشق 1/ 307، ونساء رسول الله 78، ونهاية الأرب 18/ 186، والوافي 16/ 324، وشرح المواهب 3/ 255، والتبيين في أنساب القرشيين 83.
(2) كان يوم خيبر في جمادى الأولى سنة سبع، وخبره في مغازي الزهري 84، مغازي الواقدي 2/ 634، سيرة ابن هشام 2/ 328.(1/296)
ذكر فضائل خديجة الكبرى أم المؤمنين رضي الله عنها
كان يحبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حبا شديدا. وكان صلّى الله عليه وسلّم سافر لتجارتها (1)، مع عبدها ميسرة إلى مدينة بصرى، قبل أن يدخل بها. وأنفق مالها في سبيل الله تعالى بعد أن تزوجها، ولم يزل يذكرها بخير بعد وفاتها حتى أخذت عائشة منها الغيرة فقالت يوما: يا رسول الله هل هي إلا عجوز (2) فعوضك الله [تعالى] (3) خيرا منها! فقال: لا والله، ما عوضني الله خيرا منها، آمنت بي والناس كذبوني، وبذلت مالها دوني والناس منعوني، فإنها كانت وكانت. قالت عائشة رضي الله عنها (4): نويت أن لا أذكرها إلا بخير (5).
روى أبو هريرة قال: أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه أدام وطعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من فضة لا صخب فيه ولا نصب (6).
توفيت بمكة وعمرها أربع وستون سنة وشهور، ودفنت في المعلا.
__________
(1) في (ب): وسافر بتجارتها.
(2) في (أ): إلّا عجوزة.
(3) ما بين الحاصرتين من (ب).
(4) (رضي الله عنها) ليست في (ب) و (ج).
(5) الخبر أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 1889 (فضائل الصحابة)، وأخرجه القسطلاني في شرح المواهب اللدنية 3/ 224.
(6) في (أ): لا صخب ولا نصب.
والحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 48، وأخرجه مسلم في صحيحه 4/ 1887، وفي شرح المواهب 3/ 222.(1/297)
ذكر فضائل عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حبيبة حبيب رب العالمين (1)
ذكر في «عيون الأخبار» أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاة خديجة بصورة عائشة في حريرة وقال: يأمرك / ربك أن تتزوج بكرا هذه صورتها (2).
قالت عائشة رضي الله عنها: تزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا بنت سبع، ودخل بي وأنا بنت تسع سنين، ومات وأنا بنت ثماني عشرة سنة. وذلك بعد الهجرة بسبعة أشهر وتسعة أيام. وكان صداقها أربعماية درهم.
عن عروة عن أبيه قال: كان الناس يقدمون هداياهم يوم عائشة، فاجتمع زوجات النبي عليه السلام وقالوا لأم سلمة: قولي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان. فذكرت ذلك أم سلمة للنبي عليه السلام، فأعرض عنها ثم قال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي وحي وأنا في لحاف امرأة غيرها (3).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو كانت امرأة خليفة لكانت غائشة. وإذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال: حدثتني المرأة الصادقة بنت الصديق حبيبة النبي صلّى الله عليه وسلّم (4).
__________
(1) (حبيبة حبيب رب العالمين) ليست في (ب) و (ج).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 1889، وفي طبقات ابن سعد 8/ 64، وفي المستدرك 4/ 9، 10.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 36، والحاكم في المستدرك 4/ 9.
(4) الحديث أخرجه ابن سعد 8/ 64، 66، عن غير طريق.(1/298)
روي عن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله، أي النساء أحب إليك؟ فقال: عائشة. قلت: ومن الرجال؟ قال: أبوها (1).
قال عروة: ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث ولا بنسب من عائشة رضي الله عنه (2).
عن حرب بن نوفل قال (3): أرسل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستأذنت في الدخول عليه وهو مضطجع مع عائشة في مربطها، فأذن لها فقالت:
يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة فقال لها رسول الله: ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، قال: فأحب هذه.
وفي «صحيح البخاري» عن عائشة قالت: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وتوفي ورأسه بين سحري ونحري، وفي رواية بين حاقنتي وذاقنتي وجمع الله / بين ريقه وريقي عند موته. وذلك لأنها كانت تلين السواك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم (4).
قال عروة: رأيت عائشة رضي الله عنها تقسم سبعين ألف درهم وترقع ثوبها (5).
قال مصعب بن سعد (6): فرض عمر رضي الله عنه لأمهات المؤمنين
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 12.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 1891 (فضائل الصحابة).
(3) رواه في شرح الزرقاني 3/ 234.
(4) صحيح البخاري 6/ 1614 (المغازي، باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم).
وورد الخبر في (ب): قالت عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وتوفي ورأسه في حجري، وجمع الله تعالى بين ريقي وريقه عند موته. وذلك أنها كانت تلين المسواك له.
(5) رواه ابن سعد 8/ 66.
(6) أخرجه ابن سعد 8/ 67.(1/299)
عشرة آلاف وزاد عائشة ألفين وقال: إنها حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1).
وكانت وفاتها سنة ثمان وخمسين من الهجرة بالمدينة ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان في أيام معاوية وقد قاربت السبعين (2).
__________
(1) (وقال: إنها حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) ليست في (ب).
(2) طبقات ابن سعد 8/ 7776، نساء رسول الله 4847.(1/300)
ذكر وفاته صلّى الله عليه وسلّم
قال صاحب «المختصر في أخبار البشر» (1): لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع، أقام بالمدينة، وابتدأ مرضه لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهو في بيت زينب بنت جحش وكان يدور على نسائه، فجمعهن وهو في بيت ميمونة بنت الحارث، واستأذنهن في أن ينام في بيت إحداهن، فأذنّ له أن يمرض في بيت عائشة [رضي الله عنها] (2)، فانتقل إليها.
وكان في أيام مرضه يصلي بالناس، وإنما انقطع ثلاثة أيام فأول ما انقطع قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وكان صلاة العشاء، فلما صلى أبو بكر رضي الله عنه بعض الصلاة وجد في نفسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفة، فدعا بعلي والعباس وانكب عليهما وخرج إلى المسجد، ففرح الناس [بذلك] (3). فعرف أبو بكر رضي الله عنه أن رسول الله قد حضر الصلاة فنكص عن مصلاه، فدفعه رسول الله في ظهره وقال: صل بالناس، وجلس إلى جنبه. فصلى قاعدا وأبو بكر قائما يقتدي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر (4).
وروى نافع أنه صلى في مرضه ذلك خلف أبي بكر ولم يصل خلف أحد غيره.
ولما احتضر صلّى الله عليه وسلّم ورأى حزن بنته فاطمة رضي الله عنها قال لها (5): أبشري،
__________
(1) في (ب): المختصر في أخبار سيد البشر.
والخبر في المختصر في أخبار البشر 1/ 151.
(2) ليست في (أ).
(3) ليست في (أ).
(4) طبقات ابن سعد 2/ 218.
(5) طبقات ابن سعد 8/ 27.
وورد الخبر في (أ): فقال لها.(1/301)
إنك أول أهلي يجيء إليّ، وإنك تكونين سيدة نساء هذه الأمة أو نساء المؤمنين.
وكان عنده قدح فيه ماء يدخل في يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول (1): اللهم أعني على سكرات الموت، وفي رواية: للموت / سكرات.
قالت عائشة رضي الله عنها (2): وثقل رأسه صلّى الله عليه وسلّم في حجري، فنظرت في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى. فعلمت أنه قد خير فلم يخترنا. وكان يحدثنا أنه لا يموت نبي حتى يخير في اللحاق بالله تعالى أو البقاء في الدنيا (3)، واستأذن عليه ملك الموت ولم يستأذن على أحد قبله.
وفي «حياة الحيوان»: أن أسماء بنت عميس، زوجة الصديق وضعت يدها بين كتفيه فقالت: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد رفع الخاتم من بين كتفيه (4)، وبه عرف موته صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يتغير عما كان في حياته.
وتوفي يوم الإثنين ضحوة النهار لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
وتولى غسله حسب ما أوصى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والعباس، والفضل وقثم ابنا العباس، وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانا يصبان الماء عليه من بئر أريس من وراء الستر، وأعينهما معصوبة (5)، لحديث علي رضي الله عنه: لا يغسلني إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه،
__________
(1) طبقات ابن سعد 2/ 258.
(2) (رضي الله عنها) ليست في (ب) و (ج).
والخبر في طبقات ابن سعد 2/ 229.
(3) في (ب) و (ج): حتى يخير في البقاء في الدنيا أو اللحاق بالله تعالى.
(4) انظر: طبقات ابن سعد 2/ 272.
(5) طبقات ابن سعد 2/ 276275.(1/302)
كذا في «الشفا» (1). واختلفوا في نزع قميصه فسمعوا صوتا: لا تنزعوا عنه قميصه.
وكان يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا.
ولم ير منه ما يرى من ميت. وكفّن في ثلاثة أثواب (2).
ذكر السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (3) أنه اختلف المهاجرون والأنصار في محل دفنه فمنهم من قال: ندفنه بمكة بلده الذي ولد فيه (4). وقال آخرون بل بمسجده وقال آخرون (5): بالبقيع وقال آخرون: بل ببيت المقدس مدفن الأنبياء، فما وجدوا عند أحد من ذلك علما. فقال أبو بكر الصديق: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه.
فرجعوا إلى كلامه ودفنوه ليلة الأربعاء في حجرة عائشة تحت فراشه الذي مات عليه، وهو موضع طينته التي خلق منها. وحفر له أبو طلحة الأنصاري ونزل في قبره علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (6)، وابنا العباس. / وعزى أهل بيته الخضر عليه السلام وصلى عليه جبريل وميكائيل وخازن الدنيا (7) وخازن الجنة ومعهم ألوف من الملائكة يسمع خفيق أجنحتهم وكثرة استرجاعهم ولا يرى منهم أحد (8). وصلى الناس عليه أرسالا، ولم يؤم الناس أحد حتى إذا فرغ الرجال دخل الصبيان (9).
__________
(1) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 1/ 66، 368، طبقات ابن سعد 2/ 278.
(2) طبقات ابن سعد 2/ 276.
(3) السيوطي، تاريخ الخلفاء 8281.
(4) في (ج): بلده التي ولد فيها.
(5) في (أ): وقال آخرون بل بالبقيع وفي (ب): وقال آخرون بل في مسجده وقال آخرون ببيت المقدس.
(6) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(7) (وخازن الدنيا) ساقطة من (ب) و (ج).
(8) في (أ) سمعوا حفيف أجنحتهم ولا يرون أحدا.
(9) الخبر في طبقات ابن سعد والشفا. وفي (أ): حتى إذا فرغوا الرجال.(1/303)
وفي «شواهد النبوة»: سئل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (1) عن سبب زيادة فهمه وحفظه قال: لما غسلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اجتمع ماء في جفونه فرفعته بلساني فازدردته فأرى قوة حفظي منه.
ثم إنهم لما فرغوا من دفنه صلّى الله عليه وسلّم خرجت فاطمة وقعدت تندب على قبر أبيها وتقول: وا أبتاه وا رسول الله، وانبي الرحمة، الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقطع عنا جبريل. اللهم ألحق روحي بروحه وأسعفني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة (2). وأخذت تربة من تراب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشمته ثم أنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت على مصائب لو أنها ... صبت على الأيام صرن لياليا (3)
قال أنس بن مالك: مررت على باب عائشة رضي الله عنها وكانت تندب النبي عليه السلام وتقول: يا من لا يشبع من خبز الشعير، يا من اختار الحصير على السرير، يا من لم ينم الليل خوف السعير (4).
ولما صار من أمر عثمان ما صار كانت عائشة رضي الله عنها تخرج قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشعره وتقول: هذا قميصه وشعره لم يبليا (5) وقد بلي دينه. لكنها لم تظن أن الأمر ينتهي إلى ما انتهى إليه (6)، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ماية ألف وأربعة وعشرين ألفا من الصحابة (7).
__________
(1) في (ب) و (ج): رضي الله عنه.
(2) أورد ابن سعد ما ندبت به فاطمة أباها، وهو مختلف كليا.
(3) في (أ): عدن لياليا.
(4) في (ب): يا من لم ينم الليل خوف السعير، وفي (ج): يا من لم ينم الليل كله خوف السعير.
(5) في (أ): لم يبل.
(6) في (أ): ما ينتهي إليه.
(7) في (ج): وأربعة وعشرين ألفا.(1/304)
قال صاحب «فردوس الأخبار»: يخرج نور النبي عليه السلام من قبره وهو النور الذي يراه الناس فيتلألأ فوقه ثم ينقسم ستة وأربعين قسما فيصير كل قسم منه إلى رجل من أمته فيصير عاشقا ولا يزال هكذا إلى يوم القيامة.
وفي «نزهة النواظر»: / إن الله تعالى خص نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن ينزل عليه سبعون ألف ملك كل يوم في فجره يحفون بتربته الزكية الثناء ويصلون عليه إلى المساء ثم يصعدون، ويأتي مثلهم على نوبهم في الكرامة ليلا ونهارا إلى يوم القيامة.
واختلف الصحابة في ميراثه صلّى الله عليه وسلّم فما وجدوا عند أحد من ذلك علما فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة (1).
[وذكر أن ميراثه صلّى الله عليه وسلّم مصحف وثوب من وبر الجمل وسجادة من وبر الجمل وثوب من قشر النخل وسواك ومسبحتين إحداهما: من الفوّه والأخرى من شجرة الزيتون، ومشط من خشب السماء وعصا من الصندل الأحمر وإبريق من التراب ونعلين وحصيرة عتيقة] (2).
__________
(1) أخرجه ابن سعد في طبقاته 2/ 315.
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).(1/305)
الباب الثاني في ذكر الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين (1)، رضوان الله عليهم أجمعين
وفيه أربعة فصول:
__________
(1) في (أ): في ذكر الأربعة المهديين. وفي (ج): في ذكر خلفاء الراشدين. وما أثبتناه من (ب).(1/306)
الفصل الأول في ذكر أبي بكر الصديق معدن الهدى والتصديق رضي الله عنه
وهو خليفة (1) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيام مرضه، وابن عمه الأعلى، وصهره ووزيره، وخير الخلق بعده (2)، وكان كبير الشأن زاهدا خاشعا، إماما حليما وقورا، شجاعا، صابرا رؤوفا.
اسمه عبد الله بن أبي قحافة، عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي (3). يلتقي مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرّة.
ولقبه عتيق لعتقه من النار، وقيل: لعتاقة وجهه، أي جماله، ومن ذلك:
الخيل العتاق، أي الحسان.
__________
(1) أخباره في المعارف 73، وتاريخ محمد بن يزيد 22، والمحبر 12، وطبقات ابن سعد 3/ 213169، وتاريخ خليفة بن خياط 100، 121، وتاريخ اليعقوبي 2/ 128127، وتاريخ الطبري 3/ 218، 419، وصحيح البخاري 5/ 3، والمستدرك 3/ 61، والكامل في التاريخ 2/ 287، وحلية الأولياء 1/ 28، والتنبيه والأشراف 247، ومروج الذهب 1/ 515، ومختصر التاريخ 61، والوافي بالوفيات 17/ 305، والبداية والنهاية 6: في أماكن كثيرة، ونهاية الأرب 19/ 1358، والاصابة 2/ 243، ووفيات الأعيان 3/ 64، والاستيعاب 2/ 341، وعيون التواريخ 1/ 475وما بعدها، وتاريخ الإسلام ط. بيروت (حوادث ووفيات 13هـ) 105وتاريخ الخلفاء 12131، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 5/ 206، وتاريخ الخميس 2/ 199، والجوهر الثمين 1/ 33، والفخري في الآداب السلطانية 96، وتاريخ مختصر الدول 9998، ونسب قريش 275، وجمهرة ابن حزم 135، والتبيين في أنساب القرشيين 305، ودول الإسلام 6، والنزهة السنية 39.
(2) وخير الخلق بعده، ساقطة من (ب).
(3) في (ب): كعب بن سعد بن تميم.(1/308)
واجتمعت الأمة على تسميته بالصديق، لأنه بادر إلى تصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم ولازم الصدق.
وكان رجلا أبيض، نحيف الجسم، خفيف العارضين أجنأ (1)، يمسك إزاره يسترخي عن حقويه (2)، معروق الوجه غائر العينين، ناتىء الجبهة، عاري الأشاجع، وكان يخضب بالحناء والكتم.
ومولده قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين ونصف. وأمه بنت عم أبيه، اسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، وتكنى أم الخير.
وهو أول من أسلم من الرجال على أصح الأقوال. ولله در حسان (3)، حيث قال (4):
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا /
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس ممن صدق الرسلا
وخاتمه خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكانت له في الإسلام المواقف الرفيعة منها: قصة تصديقه بالإسراء وجوابه للكفار في ذلك، وهجرته مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتركه عياله بين العدو (5)، ومرافقته له في الغار وسائر الطرق، وثباته حين وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وخطبته الناس وتسكينهم، ثم قتاله أهل الردة.
__________
(1) في (ب): أجب والاجنأ: الذي يشرف كاهله على صدره، وفي المعارف 74: أجنأ.
(2) الخبر في المصادر كما يلي: لا يمسك إزاره، يسترخي عن حقويه. وفي (أ) و (ب): يمسك إزاره يسترخي عن حقويه، وفي (ج): يمسك إزاره لئلا يسترخي عن حقويه.
(3) في (ب): ولله در القائل.
(4) الأبيات في ديوان حسان باعتناء وليد عرفات 1/ 125.
(5) في (ب): بين الأعداء.(1/309)
ومن أحسن مناقبه وأجلّ فضائله: استخلافه على المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان منشؤه بمكة لا يخرج منها إلا لتجارة. وكان ذا مال جزيل ومروة تامة (1)
وإحسان وتفضل في قومه، وكان من رؤساء قريش في الجاهلية وأهل مشاورتهم. فكان إليه الأمور كلها، وذلك أن قريشا لم يكن لها ملك ترجع إليه، بل كان لهم في كل قبيلة رئيس تكون الولاية له. فكانت في بني هاشم: السقاية والرفادة، ومعنى ذلك أنه لا يأكل ولا يشرب أحد إلا من طعامهم وشرابهم.
وكان من أعف الناس، ولقد ترك هو وعثمان بن عفان رضي الله عنهما شرب الخمر في الجاهلية (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما كلمت في الإسلام أحدا إلا أبى علي وراجعني الكلام، إلّا ابن أبي قحافة، فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه) (3).
وفي حديث رواه عبد الله التميمي قال: (ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه) (4)
قال العلماء: صحب أبو بكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ولبث إلى أن توفي لم يفارقه سفرا ولا حضرا، إلا فيما أذن له، وشهد المشاهد كلها (5).
أخرج البزار في «مسنده» عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت. قال: إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن
__________
(1) ومروة تامة، ليست في (ب) و (ج).
(2) التبيين في أنساب القرشيين 307، والاستيعاب 2/ 258.
(3) الحديث ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء.
(4) الحديث أورده الفاسي المكي في العقد الثمين 5/ 207.
(5) تطابق مع خلفاء السيوطي 40.(1/310)
أخبروني بأشجع الناس، قالوا: لا نعلم. فمن؟ قال: أبو بكر، إنه لما كان يوم بدر جعلنا / لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عريشا فقلنا: من يكون معه لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا سيفه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهذا أشجع الناس) (1).
وإنه أجود الصحابة قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مََالَهُ يَتَزَكََّى} (2) أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر (3))، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ (4).
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه. وكان له يوم أسلم أربعون ألف دينار أنفقها في سبيل الله حتى تخلل بالعباءة (5).
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه الله بها يوم القيامة) (6).
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما أحد عندي أعظم يدا من أبي بكر، واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته) (7).
__________
(1) الخبر في تاريخ الخلفاء 40.
(2) سورة الليل، الآية: 17.
(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 246، تاريخ الخلفاء 43.
(4) تاريخ الخلفاء 43، وتاريخ الإسلام 107، وانظر فيه رواية الحديث عن أحمد بن حنبل.
(5) تاريخ الخلفاء 43، وانظر الاستيعاب 2/ 246، والتبيين في أنساب القرشيين 307.
(6) تاريخ الخلفاء 45.
(7) في (ب): ما لأحد عندي أعظم يدا.
والخبر في تاريخ الخلفاء 46.(1/311)
وإنه أعلم الصحابة وأذكاهم. استدل العلماء على عظيم علمه بأحاديث كثيرة: منها ما ذكره ابن إسحاق في طبقاته أنه سئل ابن عمر رضي الله عنه: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: أبو بكر وعمر، وما أعلم غيرهما (1).
وكان أقرأ الصحابة، أي أعلمهم بالقرآن، لأنه صلّى الله عليه وسلّم قدمه إماما للصلاة بالصحابة مع قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) (2).
وهو أول من جمع القرآن بين اللوحين وسماه مصحفا (3).
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره) (4).
وكان / مع ذلك أعلمهم بالسنة كما رجع إليه الصحابة في غير موضع فبرز عليهم بنقل سنن عن النبي عليه السلام يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم (5).
وكان يعبر الرؤيا في زمن النبي عليه السلام، وكان أعبر هذه الأمة بعد النبي عليه السلام (6).
وكان من أفصح الناس وأخطبهم، وكان من أعلم الناس بالله وأخوفهم له وكان أسدّ الصحابة رأيا وأكملهم عقلا (7).
وأخرج تمام الرازي في «فوائده» وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص
__________
(1) تاريخ الخلفاء 46.
(2) تاريخ الخلفاء 47.
(3) طبقات ابن سعد 3/ 193، والاستيعاب 2/ 252.
(4) تاريخ الخلفاء 47.
(5) في (ج): فتبرز عليهم. وانظر تاريخ الخلفاء 47.
(6) تاريخ الخلفاء 47.
(7) تاريخ الخلفاء 4948.(1/312)
قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر) (1).
قال النووي في «تهذيبه»: روى الصديق عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماية حديث واثنين وأربعين حديثا. وسبب قلة روايته قصر مدته وسرعة وفاته بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان الذين في زمنه من الصحابة لا يحتاج أحدهم أن ينقل عنه ما قد شاركه هو في روايته، فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم (2).
وفي «نزهة الأسرار» نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لما عرج بي إلى السماء وقفت بين يدي رب العزة فقال: يا أحمد على من تركت أهل أرضي؟ فقلت على أبي بكر الصديق. فقال: أما إنه أحب عبادي إليّ بعدك، فاقرئه مني السلام).
وكم للصدّيق من موقف وأثر ومناقب وفضائل لم تخف.
أجمع أهل السنة على أن أفضل الناس بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم سائر العشرة، ثم باقي أهل بدر، ثم باقي أهل أحد، ثم باقي أهل البيعة ثم باقي الصحابة [رضي الله عنهم] (3).
وفي «الأوسط» عن أسعد (4) بن زرارة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إن روح القدس جبريل أخبرني أن خير أمتك بعدك أبو بكر).
وأخرج ابن سعد (5)، عن الزهري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم / لحسان بن ثابت: (هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال: نعم فقال: قل وأنا أسمع، فقال:
__________
(1) تاريخ الخلفاء 49.
(2) تاريخ الخلفاء 47.
(3) ما بين الحاصرتين من (ب).
والخبر في تاريخ الخلفاء 50.
(4) في (ب): عن سعد بن زرارة.
(5) في الاصول: ابن سعيد، وكذا هو في تاريخ الخلفاء 53. ولعل هذا من أثر النقل وصوابه ما أثبتناه، حيث يرد الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 174.
وفي رواية عجز البيت الثاني اختلاف، فمن المشهور قوله: طاف العدو به إذ صعد الجبلا.(1/313)
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... خاف العدو به إذ صعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه قال: صدقت يا حسان، هو كما قلت).
وأخرج الترمذي (1)، والحاكم عن ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج ذات يوم فدخل المسجد وأبو بكر وعمر أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وهو آخذ بأيديهما وقال: (هكذا نبعث يوم القيامة) (2).
وأخرج الطبراني في «الأوسط» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر) (3).
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي) (4).
وأخرج ابن سعد عن ابن شهاب قال: رأى صلّى الله عليه وسلّم رؤيا فقصها على أبي بكر فقال: (رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف قال: يا رسول الله، يفبضنا الله إلى مغفرته ورحمته، وأعيش بعدك سنتين ونصفا)، فكان كذلك (5).
وكان سبب موته وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمدا فما زال جسمه ينقص حتى مات (6). وأخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب: ان أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خربزة أهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر:
__________
(1) من هنا ساقط من (ب).
(2) المستدرك 3/ 68.
(3) الخبر ساقط من (ج).
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 465، 3/ 68.
(4) المستدرك 3/ 73 (معرفة الصحابة)، وتاريخ الخلفاء 60.
(5) في (ج): وأخرج أبو سعد. وصوابه ما أثبتناه.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 177، وتاريخ الخلفاء 118.
(6) المستدرك 3/ 64.(1/314)
ارفع يدك يا خليفة رسول الله، إن فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد.
فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة (1).
وأخرج الواقدي والحاكم عن عائشة قالت: كان أول بدء مرض أبي أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى / الصلاة (2). وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة وسنّه ثلاث وستون سنة. وافق عمره عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان أسن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أخرج الطبراني عن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لما احتضر أبو بكر قال: يا عائشة، أنظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها والجفنة التي كنا نطبخ فيها والقطيفة التي كنا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين، فإذا مت فاردديه إلى عمر. فلما مات أبو بكر أرسلت به إلى عمر [رضي الله عنه] فقال عمر: رحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك (3).
فلما احتضر دعا عثمان رضي الله عنه بعد أن شاور أعيان الصحابة فقال أكتب (4):
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب.
إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاستمعوا له وأطيعوا.
__________
(1) الطبقات 3/ 198، والمستدرك 3/ 64، وبه ينتهي ما سقط من (ب).
والخربزة: البطيخة، فارسية.
(2) طبقات ابن سعد 3/ 202، المستدرك 3/ 63.
(3) طبقات ابن سعد 3/ 196192، وتاريخ الخلفاء 87، وما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(4) عهد أبي بكر والخبر بكامله في طبقات ابن سعد 3/ 200، ومنه الاستدراك. وانظر تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين: 117116).(1/315)
وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا. فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل أمرىء ما اكتسب [من الإثم] والخير أردت، ولا أعلم الغيب. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم أمر بالكتاب فختمه رضي الله تعالى عنه.
ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوما، فبايع الناس ورضوا به ثم دعا أبو بكر عمر خاليا فأوصاه بما أوصاه به ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه فقال: اللهم إني ما أردت بذلك إلّا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعلمت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت إليهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم، وأقواهم عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم. وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم ولاتهم، واجعله من خلفائك الراشدين، وأصلح رعيته (2).
عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما احتضر أبو بكر قال: انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما / وكفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت (3).
وفي «أخبار الزمان»: أن أبا بكر لما توفي غسلته زوجته أسماء بنت عميس وصلى عليه عمر رضي الله عنه بين الحجرة والمنبر، وحمل على سرير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سرير عائشة، وكان من خشبتين ساجا، منسوجا بالليف.
وفي «نزهة النواظر»: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه:
لما حضرت أبا بكر الوفاة دعاني فقال: يا علي، غسلني بالكف التي غسلت بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكفني بثوبي، وأت باب البيت الذي قبر فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن
__________
(1) سورة الشعراء، الآية: 227.
(2) في (ب): فلله درّ أبي بكر، بسقوط لفظي: وأصلح رعيته.
(3) الخبر ساقط من (ب).
وهو في طبقات ابن سعد 3/ 275.(1/316)
انفتحت الأقفال بغير مفاتيح، فأدخلوني وادفنوني، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين.
قال علي: فلما غسلته وكفنته، كنت أول من بادر إلى الباب، فو الله ثم والله، لقد رأيت الأقفال انفتحت من غير مفاتيح وسمعت قائلا يقول: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق. قال: فدفناه معه وجعلنا رأسه عند كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألصق اللحد بقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان مدة خلافته كما سبق سنتين ونصفا والله أعلم (1).
__________
(1) في (ب): وكان مدة خلافته سنتين ونصفا والله أعلم، بسقوط لفظي (كما سبق).(1/317)
الفصل الثاني في ذكر عمر بن الخطاب الموفق للصواب رضي الله عنه
هو عمر بن الخطاب (1) بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي، يلتقي (2) مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كعب.
وكان رجلا طويلا مشرفا على الناس كأنه على دابة، أصلع، أبيض، شديد الحمرة، في عارضيه خفة، سبلته كثيرة.
وأمه حنتمة بنت هشام، أخت أبي جهل (3).
ولي الخلافة بعهد من أبي بكر كما سبق، يوم توفي، صبيحة نهار الثلاثاء
__________
(1) تاريخ الخلفاء 121، وطبقات ابن سعد 3/ 265، والمحبر 13، وصحيح البخاري 5/ 12، وتاريخ خليفة 122، 152والأخبار الطوال 113، والمعارف 77، وتاريخ محمد بن يزيد 22، وتاريخ الطبري 3/ 428، ومروج الذهب 1/ 521، والكامل في التاريخ 2/ 291، و 3/ 26 ونهاية الأرب 19/ 390، والاستيعاب 2/ 458، والاصابة 2/ 518، والمستدرك 3/ 80، وحلية الأولياء 1/ 5538، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 6/ 261، ومختصر التاريخ لابن الكازروني 65، والجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين 1/ 40، والتنبيه والاشراف 250، وأسماء المغتالين 155، والبداية والنهاية 7/ 141133، وتاريخ اليعقوبي 2/ 161139، والعقد الفريد 4/ 273267والوافي بالوفيات 22/ 459، والفخري في الآداب السلطانية 9796، وتاريخ مختصر الدول 10399، وتاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون): 253وما بعدها، وتاريخ الخميس 2/ 239، والتبيين في أنساب القرشيين 402، ونسب قريش 347، ودول الإسلام 6، والنزهة السنية 41.
(2) في (ب): ويلتقي.
(3) في (ب): أخت أبا جهل.(1/318)
لثمان بقين من جمادى الاخرة سنة ثلاث عشرة (1)، وكان خاتمه خاتم النبي صلّى الله عليه وسلّم (2).
أسلم في ذي الحجة في السنة السادسة من النبوة وله سبع وعشرون سنة. وكان من أشراف قريش (3)، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، فكانت قريش إذا وقعت حرب (4) أو أمر بينهم، بعثوه سفيرا، أي رسولا.
وهو أحد السابقين الأولين، / وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار النبي عليه السلام، وأحد كبار علماء الصحابة وزهادهم وروي له عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خمسماية وتسعة وثلاثون حديثا.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه) (5).
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لو كان بعدي نبي، لكان عمر بن الخطاب) (6).
وأخرج ابن ماجه والحاكم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أول من يصافحه الحق عمر وأول من يسلم عليه) (7).
وأخرج البزال عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (عمر سراج أهل الجنة) (8).
وأخرج الطبراني في «الأوسط»، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء
__________
(1) في (ب): ثلاث عشر.
(2) في (أ): عليه السلام.
(3) في (ب): أشرف قريش.
(4) في (ب): حدث حرب.
(5) المستدرك 3/ 87، الاستيعاب 2/ 462.
(6) المستدرك 3/ 85، الاستيعاب 2/ 462، وتاريخ الإسلام 261.
(7) في (ب) و (ج): وأول من يسلم عليه.
والخبر أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 84.
(8) السيوطي، تاريخ الخلفاء 131.(1/319)
جبريل إلى النبي عليه السلام وقال: اقرىء عمر [مني] السلام (1)، وأخبره أن غضبه عز ورضاه حكم.
عن عثمان بن مظعون قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (2): (هذا غلق باب الفتنة وأشار بيده إلى عمر لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد المغلق ما عاش هذا بين أظهركم).
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما في السماء ملك إلا وهو يوقر عمر ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفر من عمر) (3).
وفي كتاب «فضائل الإمامين» لأبي عبد الله الشيباني قال: وافق عمر ربه في أحد وعشرين موضعا (4).
قال قتادة (5): كان عمر يلبس وهو خليفة جبة صوف مرقوع بعضها بأدم ويطوف في الأسواق على عاتقه الدرة يؤدب الناس بها ويمر بالنوى فيلتقطه ويلقيه في منازل الناس فينتفعون به.
قال النخعي: كان عمر يتجر وهو خليفة فقام بالأمر أتم قيام.
وكثرت الفتوح في أيامه (6).
__________
(1) في (أ): اقرىء عمر السلام.
والحديث أخرجه الذهبي في تاريخ الإسلام 258257.
(2) في (ب): وقال عليه السلام ولا يزال بينكم وبين الفتنة ما عاش عمر.
والخبر في تاريخ الخلفاء 131.
(3) في (ب): وما في السماء، بسقوط ما قبلها. ورواية الحديث في تاريخ الخلفاء 131: إلّا وهو يفرق من عمر.
(4) في (أ): إحدى وعشرين موضعا.
والخبر في تاريخ الخلفاء 136.
(5) في (ب): وكان عمر. وفي (أ) و (ج): مرقوعة بعضها.
والخبر في تاريخ الإسلام 268، وتاريخ الخلفاء 143.
(6) في (ب): وقال النخعي، وفي (ج): الفتوحات.(1/320)
ففي سنة أربع عشرة (1)، فتحت دمشق وحمص وبعلبك صلحا والبصرة والأبلّة كلاهما عنوة.
وفيها جمع الناس على صلاة التراويح.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني كنت هذه التبنة، يا ليتني لم أك (2) شيا ليت أمي لم / تلدني.
وقال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء (3).
وكان له كرامات جليلة لا تحصى منها: ما ذكر في «تبصرة الأدلة» و «دلائل النبوة»: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهرت له كرامات في العناصر الأربعة، تصرف في عنصر التراب، وذلك أنه وقعت زلزلة في سنة عشرين من الهجرة في خلافته فضرب برمحه الأرض قائلا: يا أرض اسكني، ألم أعدل عليك؟
فسكنت. وفي النار في قصة احتراق قرية رجل حين كلفه أن يغير اسمه فأبى، وكان متعلقا بالنار كالشهاب والقبس والثاقب. وفي الهواء في قصة ندائه لسارية وهو على المنبر لما كشف له حاله. وفي الماء في قصة إرسال بطاقة إلى نيل مصر لما بلغه عدم جريانه (4).
قال الحسن: إن كان أحد يعرف الكذب إذا حدث به أنه كذب، فهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه (5).
وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز إلى الشام وأخر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت.
__________
(1) في (ب): ففي سنة أربع عشر.
والخبر في تاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون): 123.
(2) في (ب): فقال: ليتي لم أك شيئا.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 360، وتاريخ الخلفاء 144.
(3) تاريخ الخلفاء 143.
(4) انظر بعضا من كراماته في تاريخ الخلفاء 144139.
(5) في (ب): ان كان أحدا يعرف الكذب إذا حدث به فهو عمر بن الخطاب.
والخبر في تاريخ الخلفاء.(1/321)
وأول من سمي أمير المؤمنين، وأول من ضرب على الخمر ثمانين [جلدة] (1)، وأول من حرم المتعة، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات وهو أول من نصب القضاة في الأمصار (2).
وأخرج البخاري في «تاريخه» عن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من الهجرة بمشورة عليّ رضي الله عنه (3).
وأخرج ابن سعد عن شداد قال: كان أول كلام تكلم به عمر حين ولي الخلافة وصعد المنبر أن قال: اللهم إني شديد فليني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخني (4).
قال سعيد بن المسيب: لما نفر عمر من منى أناخ بالأبطح، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبر سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل (5).
قال كعب الأحبار لعمر: أجدك في التوراة تقتل شهيدا قال: وأنى لي بالشهادة وأنا بجزيرة العرب؟ فقال: اللهم ارزقني شهادة / في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك (6). أخرجه البخاري.
وقال سعد بن أبي طلحة (7) رضي الله عنه: خطب عمر رضي الله عنه فقال:
رأيت كأن ديكا نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن قوما
__________
(1) في (أ): على الخمر ثمانين.
(2) أوائل العسكري 1/ 240222.
(3) أوائل العسكري 1/ 222.
(4) طبقات ابن سعد 3/ 274.
(5) طبقات ابن سعد 3/ 334.
(6) في (ب): اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(7) في (ب): سعد أبي طلحة.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 7336، وتاريخ الخلفاء 148: عن معدان بن أبي طلحة.(1/322)
يأمرونني أن استخلف، وإن الله لم يكن أن يضيع دينه ولا خلافته، فإن عجل بي فأمر الخلافة شورى بين هؤلاء الستة، الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض، وقد جعلتها شورى في عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد.
وكان سبب وفاته أنه كان للمغيرة عبد مجوسي اسمه أبو لؤلؤة، وكان ضرب عليه المغيرة ماية درهم في الشهر، فجاء إلى عمر يشتكي شدة (1) الخراج فقال:
ما صنعتك؟ قال حداد ونقاش ونجار (2)، قال ما خراجك بكثير فانصرف ساخطا، ثم عاد بعد ليال فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة زاد علي (3)، فكلمه كي يخفف عني، فقال: أحسن إلى مولاك. ومن نية عمر أن يكلم المغيرة فيه فغضب وقال: يسع الناس (4) كلهم عدله غيري. وأضمر قتله واتخذ خنجرا ذا رأسين، نصابه في وسطه، وسنه، فكمن في زاوية من زوايا المسجد (5) في الغلس، فلم يزل هناك حتى خرج عمر يوقظ الناس للصلاة (6). فلما دنا منه، طعنه ثلاث طعنات (7)، وفي رواية أخرى: كان عمر يقول: اقيموا صفوفكم، قبل أن يكبر، فجاء أبو لؤلؤة فقام حذاءه في الصف وضربه في كتفه وفي خاصرته، فسقط عمر، وطعن معه ثلاثة عشر رجلا، فمات منهم ستة، وحمل عمر إلى (8) أهله وكادت الشمس تطلع وصلى بالناس عبد الرحمن بن عوف بأقصر سورتين.
وأتي عمر بلبن فشربه فخرج من جرحه فقال: الحمد لله الذي لم يجعل
__________
(1) في (ب): يشتكي إلى شهرة الخراج.
(2) في (ب): قال: حداد، دون الباقي.
(3) في (ب): وقال: ان المغيرة ظلمني فسلم بنفسه فيه.
(4) في (ب): وقال: ليسع الناس.
(5) في (ب): نصابه في وسطه وأكمن في زاوية المسجد.
(6) في (ب): إلى الصلاة.
(7) الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 345.
(8) في (ب): وحمل إلى أهله.(1/323)
منيتي بيد رجل يدعي الإسلام (1). ثم قال لابنه: يا عبد الله، أنظر ما عليّ من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا ونحوها. فقال: إن وفى مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا (2) فاسأل في بني عدي، فإن لم تف أموالهم، فاسأل في قريش. وقال: إذهب إلى أم المؤمنين / عائشة فقل لها: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه. فذهب إليها فقالت: كنت أريده، يعني المكان، لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي. فأتى عبد الله فقال: قد أذنت، فحمد الله (3).
وقيل له: أوص يا أمير المؤمنين واستخلف. قال: ما أرى أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء الستة فسماهم (4).
وأصيب عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين الهجرة، ودفن يوم الأحد مستهل المحرم، وصلى عليه صهيب في المسجد، ودفن بجنب صاحبه، وألصق لحده بلحد الصديق ورأسه عند كتفي الصديق (5).
واختلفوا في سنه، والأصح ستون سنة (6)، ورجحه الواقدي. وكانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر إلا يوما.
وأخرج سليمان بن يسار: أن الجن ناحت على عمر (7).
عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول: دعوت الله أن يريني عمر في المنام، فرأيته بعد عشر سنين، وهو يمسح العرق عن جبينه
__________
(1) في (ب): يدعى إلى الإسلام.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1340.
(2) في (ب): إن وفىّ المال آل عمر وإلّا.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 338.
(3) الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 338.
(4) في (ب): وسماهم.
(5) في (ب): عند كتفيه.
(6) في (ب): واختلفوا في سنّه، بسقوط كلمتي: (والأصح ستون).
(7) تاريخ الخلفاء 161.(1/324)
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما فعل الله بك؟ قال: الآن فرغت، ولولا رحمة ربي لهلكت (1).
وأخرج الطبراني عن طارق بن شهاب قال: قالت أم أيمن يوم قتل عمر:
اليوم وهى الإسلام (2).
وعن عبد الرحمن بن يسار قال: شهدت موت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فانكسفت الشمس يومئذ [رضي الله تعالى عنه] (3)
__________
(1) طبقات ابن سعد 3/ 376.
(2) بعدها في (ب): أي ضعف.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
والخبر في تاريخ الخلفاء 151.(1/325)
الفصل الثالث في ذكر عثمان بن عفان [خليفة التقى والإيمان] رضي الله عنه (1)
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي الأموي. يلتقي [نسبه] (2) مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عبد مناف، ويقال له: أبو عمرو وأبو عبد الله (3).
كان رجلا ربعة، ليس بالقصير (4) ولا بالطويل، حسن الوجه أبيض مشربا بحمرة، بوجهه نكتات جدري، كبير اللحية، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، جدل الساقين، طويل الذراعين، شعره قد كسا ذراعيه جعد الرأس أصلع، أحسن الناس ثغرا، يخضب / بالصفرة. وكان قد شد أسنانه بالذهب.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
وأخباره في تاريخ الخلفاء: 183163، والمحبر 14، وطبقات ابن سعد 3/ 8453، والمعارف 82، وتاريخ خليفة 156، 168، وتاريخ الطبري 4/ 421317، وأنساب الأشراف 4/ 600481، وتاريخ محمد بن يزيد 23، وحلية الأولياء 1/ 6155، والاستيعاب 3/ 269، والاصابة 2/ 462، والمستدرك 3/ 94، ومختصر التاريخ 71، وصحيح البخاري 5/ 16، والكامل في التاريخ 3/ 9841، والتنبيه والاشراف: 253، ومروج الذهب 1/ 543، والأخبار الطوال 139، والعقد الفريد 4/ 543، ونهاية الأرب 19/ 402، وتاريخ الخميس 2/ 254، وتاريخ اليعقوبي 2/ 177162، وتاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون) 482467، والفخري 9997، والعقد الثمين 6/ 32، والجوهر الثمين 1/ 52، والتبيين في أنساب القرشيين 181178، ونسب قريش 101، ودول الإسلام 13.
(2) ساقطة من (أ).
(3) في (ب): أبو عمر، وفي الاستيعاب: كان يقال له أبو عبد الله وأبو عمرو وأبو عمر.
(4) في (ب): كان رجلا ليس بالقصير، بسقوط كلمة (ربعة).
وحليته رضي الله عنه في تاريخ الإسلام 468.(1/326)
وأمه أروى بنت كريز (1).
وكان خاتمه خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما سقط في البئر اتخذ خاتما من فضة نقش عليه: لتصبرن أو لتندمن. وقيل: نقش عليه: آمنت بالذي خلق فسوى.
قيل: كان سبب اختلال أمر الخلافة وقوع الخاتم، ولو لم يقع خاتمه صلّى الله عليه وسلّم في البئر لانتظم أمر الخلافة في أمته إلى يوم القيامة (2)، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا [وكان مولده قبل النبي [صلّى الله عليه وسلّم] (3) بست سنين.
أخرج ابن عدي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما زوج النبي عليه السلام بنته أم كلثوم لعثمان رضي الله عنه قال لها: (إن بعلك أشبه الناس بجدك إبراهيم الخليل عليه السلام وأبيك محمد) (4).
عن عبد الله بن حزم المازني قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فما رأيت قط ذكرا ولا أنثى أحسن وجها منه (5).
قال ابن إسحاق (6): هو أول الناس إسلاما بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، فهو ثالث الخلفاء، وزوج بنتي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، تزوج رقية قبل النبوة وماتت في ليالي بدر عنده، فزوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها بأختها أم كلثوم وتوفيت عنده سنة تسع من الهجرة، ولذلك سمي ذا النورين، ولم يعقبا.
وأخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت
__________
(1) في (ب): وامه زوي بنت كريز.
(2) في (ب): قيل: كان سبب اختلال أمر الخلافة في امته إلى يوم القيامة، وما بينها ساقط.
(3) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(4) الخبر عن ابن عدي ساقط من (ب). ونقله السيوطي في تاريخ الخلفاء 167، وانظر تاريخ الإسلام 469.
(5) الخبر في تاريخ الإسلام 468.
(6) في (ب): وقال ابن إسحاق.(1/327)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لعثمان: (لو أن لي أربعين بنتا لزوجتك واحدة (1) بعد واحدة حتى لا تبقى منهن واحدة).
قال العلماء (2): لم يعرف أحد تزوج بتتي نبي غيره. فهو من السابقين الأولين، وأول المهاجرين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض، وهو الذي جمع القرآن.
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماية حديث وستة وأربعون حديثا (3).
أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم (4)، جمع ثيابه حين دخل عثمان وقال: (إني لأستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) (5).
وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن حباب قال: / شهدت النبي عليه السلام وهو يحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: يا رسول الله علي ماية بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حض على الجيش فقال عثمان: يا رسول الله عليّ مئاتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حض عليّ الجيش فقال عثمان: يا رسول الله عليّ ثلاثماية بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: (يا عليّ، ما ضر عثمان ما عمل بعد هذه) (6).
__________
(1) في (أ): زوجتك.
والخبر نقله السيوطي في تاريخ الخلفاء 169.
(2) في (أ): لا يعرف.
والخبر في تاريخ الإسلام 471وتاريخ الخلفاء 164.
(3) في (ب): ماية وست وأربعون حديثا.
(4) في (أ): عليه السلام.
(5) وفي (ب): إني لأستحيي من رجل استحيت منه ملائكة السماء، وفي (ج): ألا أستحيي.
الخبر ساقط من (ب).
(6) وأورده السيوطي في تاريخ الخلفاء 167.(1/328)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنة فقال: (يقتل فيها هذا مظلوما)، يعني عثمان [رضي الله عنه] (1).
بويع له بالخلافة بعد دفن عمر بثلاث ليال وذلك أن الناس كانوا يجتمعون في تلك الأيام إلى عبد الرحمن بن عوف يشاورونه فقال عبد الرحمن: إجعلوا أمركم إلى ثلاثة من الستة، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقال سعد:
قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان.
قال: فخلا هؤلاء الثلاثة فقال عبد الرحمن: أنا لا أريد الخلافة، فأيكما يبرأ من هذا الأمر ويجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه وليحرصن على صلاح الأمة؟ فسكت علي وعثمان فقال عبد الرحمن: إجعلوه إلي، والله لا أعدل به عن أفضلكم. قالا: نعم، فخلا بعلي وقال: لك من التقدم في الإسلام والقرابة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قد علمت، الله عليك لئن أمرّتك لتعدلن ولئن أمرّت عليك لتسمعن ولتطيعن؟ قال نعم، ثم خلا بعثمان فقال له كذلك.
فلما أخذ ميثاقهما بايع عثمان وبايعه علي وبقية المهاجرين والأنصار.
وفي «مسند» أحمد عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا؟ قال ما ذنبي! قد بدأت بعلي فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر؟ فقال: فيما استطعت (2)، ثم عرضت ذلك على عثمان، فقال: نعم.
وفي سنة / ست وعشرين من الهجرة زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه واشترى أماكن كثيرة للزيادة، وزاد أيضا في مسجد المدينة مما يلي القبلة ووسعه وجعل طوله ماية وستين ذراعا وعرضه ماية وخمسين ذراعا.
__________
(1) في (ب): عن عمر رضي الله عنه، وفي (ج): وعن ابن عمر، وما بين الحاصرتين من (ب).
والخبر عن ابن عمر ذكره في تاريخ الخلفاء 168.
(2) في (ب): فما استطاع.
والخبر في تاريخ الخلفاء 170.(1/329)
وفتح في أيامه فتوحات جليلة كثيرة، حتى كثر الخراج وأتاه المال من كل وجه، حتى اتخذ له الخزائن وأدر الأرزاق.
قال الزهري (1): وكان عثمان أحب إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأن عمر كان شديدا عليهم، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم.
وكان سبب قتله أنه ولى عبد الله بن أبي سرح مدينة مصر فمكث عليها سنين (2)، ثم عزله بشكوى أهل مصر وولى مكانه محمد بن أبي بكر بطلبهم، فلما سار، وكان على مسيرة ثلاث فراسخ من المدينة (3)، إذا هو بغلام أسود على بعير يسرع في مشيه كأنه رجل يطلب أو يطلب فسألوه فقال: أنا غلام أمير المؤمنين، وجهني إلى عامل مصر قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: معك كتاب؟
قال: لا، ففتشوه فوجدوا معه كتابا ففتحوه، فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي في ذلك إنشاء الله تعالى.
فلما قرأ الكتاب، رجع إلى المدينة مع من معه والغلام معه، ودخل على عثمان ومعه علي بن أبي طالب [كرم الله وجهه] (4)، فقال عليّ كرم الله وجهه (5): هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، والبعير بعيرك؟ قال نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله تعالى ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا علم لي (6) به. قال له علي: والخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به؟ فحلف بالله تعالى بأني (7) ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط.
__________
(1) هذه الفقرة مقتبسة من تاريخ الخلفاء 173.
(2) في (ب): فمكث فيها.
(3) في (ب): ثلاث من المدينة، بسقوط كلمة (فراسخ).
(4) ما بين الحاصرتين من (ب) وفي (ج): علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(5) في (ب): فقال علي.
(6) في (أ): ما كتب هذا الكتاب ولا أمر به. وفي (ب): ولا أعلم به.
(7) في (ب): بأنني.(1/330)
وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان. وشكوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فخاف أن يقتلوه فأبى. وكان مروان عنده في الدار، وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل وأنه بريء من هذا / الأمر إلّا أن قوما قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان، حق نباحثه ونعرف حال الكتاب، فحاصروا عثمان رضي الله عنه (1)، ومنعوه الماء.
قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: كنا مع عثمان رضي الله عنه وهو محصور في الدار فقال: وبم يقتلونني وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحل دم أمرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث (2): رجل كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير حق فيقتل بها». فو الله ما أحببت لديني بدلا منذ هداني الله تعالى، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت نفسا بغير حق فبم يقتلوني؟
فلما اشتد عطشه أشرف على الناس فقال: أفيكم علي؟ فقالوا: لا. فقال:
أفيكم سعد؟ فقالوا لا، فسكت ثم قال: ألا أحد (3) يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء فما وصل إليه حتى جرح بسببها عدة من بني هاشم وبني أمية.
فلما بلغ عليا أن عثمان محاصر يراد قتله قام خارجا (4) من منزله معتما بعمامة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقلدا سيفه، وأمامه ابنه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من الصحابة والمهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ودخلوا على عثمان وهو محصور فقال له علي كرم الله وجهه: السلام عليك يا أمير المؤمنين، إنك أمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالا ثلاثا إختر إحداهن (5):
__________
(1) في (أ): فحاصروا عثمان وفي (ب): فحاصروا عثمان وهو محصور في الدار وفي (ج): فأبى عثمان من دفعه فحاصروه في داره.
(2) في (ب): بأحد.
والحديث أخرجه ابن سعد 3/ 69، والبلاذري في أنساب 4/ 566.
(3) في (ب): ألا أحدا.
(4) في (أ) و (ب): فقام.
(5) في (ب): أحدها.(1/331)
إما أن تخرج فتقاتلهم ونحن معك، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه، فتركب رواحلك وتلحق بمكة فإنهم لن يستلحقوك (1). وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية.
فقال عثمان: أما أن أخرج إلى مكة (2)، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم» فلن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فإذا فأذن (3)
لنا أن نقاتلهم ونكشفهم عنك. قال: فلا أكون أول من يأذن في محاربة أمة محمد [صلّى الله عليه وسلّم] (4)، فخرج علي وهو يراجع وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل إليه. وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه (5) وبعث عدة من أصحاب محمد (6) أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان [ويسألونه إخراج مروان.
فلما رأى ذلك محمد بن أبي بكر وقد رمى الناس عثمان] (7)، بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه وغيره (8)، فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن، ويكشفوا الناس عن عثمان، فأخذ بيد رجلين من أهل مصر فدخلوا من بيت كان بجواره، لأن كل من كان مع عثمان (9) كانوا فوق البيوت ولم يكن في الدار / عند عثمان إلا امرأته فنقبوا الحائط، فدخل عليه محمد بن أبي بكر فوجده يتلو القرآن فأخذ بلحيته فقال له عثمان: والله لو رآك
__________
(1) في (ج): يستحلوك.
(2) في (ب): اما أن تخرج.
(3) في (ب): قال: فأذن لنا.
(4) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(5) في (أ) و (ب): وبعث ابن طلحة ابنه.
(6) في (ب): من أصحابه أبناءهم.
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ) و (ب).
(8) في (أ): وغيرهم.
(9) في (ب): لأن كل من كان بجوار عثمان.(1/332)
أبوك لساءه فعلك، فتراخت يده [عنه] (1)، ودخل الرجلان عليه فقتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا.
قيل: جلس عمرو بن الحمق (2)، على صدره وضربه حتى مات، ووطىء عمر بن صابي على بطنه فكسر له ضلعين من أضلاعه، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها (3)، لما كان حول الدار من الناس، وصعدت امرأته فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل، فدخل الناس فوجدوه مذبوحا، وانتشر الدم (4) على المصحف على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللََّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5)، وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة، فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم، حتى دخلوا على عثمان، فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا. وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن وضرب على صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله. وجاء الناس يهرعون إليه، فقالوا له: نبايعك فمد يدك، فلا بد لنا من أمير. فقال علي: والله إني لأستحيي أن أبايع قوما قتلوا عثمان وإني لأستحيي من الله تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن بعد (6). فافترقوا ثم رجعوا، فسألوه البيعة، فقال: اللهم إني مشفق مما (7) أقدم عليه، ثم قال لهم (8): ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر حتى أتى عليا فقالوا: ما نرى أحدا أحق بها منك، مد يدك نبايعك،
__________
(1) ساقط من (أ) و (ج).
(2) في (ب): وقيل.
(3) في (ب): صوتها.
(4) في (ب): وقد انتشر. وفي (ج): وانتثر.
(5) سورة البقرة، الآية: 137.
(6) في (أ) و (ب): والله إني استحي. وفي (ب): أن أبايع وعثمان لم يدفن.
والخبر أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 103.
(7) في (ب): فقال لهم: إني مشفق بما أقدم عليه.
(8) في (أ) و (ج): فقال لهم، وما أثبتناه من (ب).(1/333)
فبايعوه، وهرب (1) ومروان وولده وجاء عليّ وسأل امرأة عثمان، فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت، لا أدري، دخل عليه محمد بن أبي بكر (2) ومعه رجلان لا أعرفهما، فدعا محمدا فسأله عما ذكرت امرأة عثمان فقال محمد: لم تكذب، والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمت عنه وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا مسكته. فقالت امرأته: صدق، ولكنه أدخلهما عليه.
وكان قتل عثمان في وسط أيام التشريق يوم الجمعة لثمان (3) بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حش كوكب بالبقيع، وهو أول من دفن به (4). وكان / عمره اثنتين وثمانين سنة.
وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة (5)، وصلى عليه الزبير ودفنه.
وعن زيد بن أبي حبيب قال: بلغني أن عامة من أشار إلى قتل عثمان جنّوا.
عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال. والذي نفسي بيده، لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان (6)، إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه آمن به في قبره.
وعن ابن عباس [رضي الله عنهما] (7)، قال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.
وأخرج ابن عدي (8)، وابن عساكر من حديث أنس رضي الله عنه: (أن لله
__________
(1) في (ج): وهرب مروان.
(2) في (ب): محمد بن أبا بكر.
(3) في (ج): لثماني عشر. ولا تتفق المصادر على تاريخ وفاته رضي الله عنه.
(4) في (أ) و (ب): بها.
وحش كوكب هو نخل لرجل قديم يقال له كوكب قريب من البقيع، أصبح بعد دفن عثمان مقابر بني أمية (أنساب الأشراف 4/ 577).
(5) في (أ) و (ب): اثني عشر سنة.
(6) في (ب): مثقال حبة من قتل عثمان.
(7) في (أ) عن ابن عباس، وفي (ج): عن ابن عباس رضي الله عنهما. وما أثبتناه من (ب).
(8) في (أ) و (ج): أخرج ابن عدي.(1/334)
سيفا مغمودا في غمده ما دام عثمان حيا، فإذا قتل عثمان جرد ذلك السيف لم يغمد إلى يوم القيامة).
أخرج ابن عساكر عن أبي خلدة الحنفي (1) قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: إن بني أمية يزعمون أني قتلت عثمان، لا والله الذي لا إله إلا هو، ما قتلت ولا مالأت، ولقد نهيت فعصوني.
وعن سمرة (2) قال: إن الإسلام كان في حصن حصين وإنهم ثلموا في الإسلام بقتلهم عثمان ثلمة لا تسند إلى يوم القيامة (3)، وإن أهل المدينة كانت تتم الخلافة فيهم فأخرجوها ولم تعد إليهم.
أخرج عبد الرزاق في «مصنفه» عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن سلام يدخل على محاصري عثمان فيقول: لا تقتلوه فو الله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له وإن سيف الله لم يزل مغمودا، وإنكم والله إن قتلتموه ليسلنه الله (4) ثم لا يغمده عنكم أبدا. وما قتل نبي قط (5) إلا قتل بسببه سبعون ألفا ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا قبل أن يجتمعوا (6).
وفي «الروض النضر» (7)، أن ملك الروم لما سمع بقتله تعجب وقال:
يقتلون خليفتهم ونحن نكرم خشبة زعموا أن المسيح صلب عليها (8)؟ وقالوا: إنه
__________
(1) في (ج): عن أبي خلدة، بسقوط كلمة الحنفي. والخبر أورده في تاريخ الخلفاء 180.
(2) في (أ) و (ج): عن.
(3) في (ب): وانهم ثلموا بقتلهم لعثمان ثلمة لا تسد إلى يوم القيامة، وكانت الخلافة تتم في أهل المدينة. وفي (ج): وانهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان.
(4) في (أ) و (ج): أخرج عبد الرزاق. وفي (ب): ليسكن الله سيفه.
(5) في (ب): نبيا.
(6) في (ب): خمسون ألفا، وقيل: خمسة وثلاثون ألفا قبل أن تجتمعوا.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 83.
(7) في (أ): الروض الناضر، وفي (ب): الروض الأنيق.
(8) في (ب): صلبوه عليها.(1/335)
طلب الماء فما سقي (1). فقال: والله لو حضرته واستنصرني لنصرته. وفي هذا كفاية لمن يعي.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن / بن المهدي قال: خصلتان لعثمان ليستا لأبي بكر ولا لعمر: صبر على نفسه حتى قتل وجمع الناس على المصحف (2). [ومحاسن مناقبه ظاهرة وافرة] (3).
__________
(1) في (ب): فما أسقي.
(2) في (ب): صبره على نفسه حتى قتل، وجمعه الناس على المصحف.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).(1/336)
الفصل الرابع في ذكر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه [ذي الفضائل والمناقب رضي الله عنه] (1)
واسم أبي طالب، عبد مناف بن عبد المطلب.
وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم (2). وهي أول هاشمية ولدت هاشميا، وقد أسلمت وهاجرت.
وكنيته أبو الحسن وأبو تراب. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
وكان شيخا أصلع، كثير الشعر، ربعة، إلى القصر أقرب، عظيم البطن، عظيم اللحية جدا، قد ملأت ما بين منكبيه، بيضاء، كأنها قطن. آدم شديد الأدمة.
وكان خاتمه من الورق ونقشه: «الملك لله».
__________
(1) كرّم الله وجهه، ليست في (ب) و (ج)، وما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(2) الإرشاد (للشيخ المفيد) 9/ 186، والمحبر 16، والمعارف 88، وطبقات ابن سعد 3/ 4018، وتاريخ خليفة بن خياط 180، 198، والأخبار الطوال 140، وأنساب الأشراف 2/ 1في قسم كبير منه، وتاريخ الطبري 5/ 152142، والمغتالون 156، ومقاتل الطالبين 24، وصحيح البخاري 5/ 22، والمستدرك 3/ 107، وحلية الأولياء 1/ 8761.
والتنبيه والاشراف 255، ومروج الذهب 1/ 557، والكامل في التاريخ 3/ 201194، ومختصر التاريخ 75، والاصابة 2/ 507، والاستيعاب 3/ 26وما بعدها، ونهاية الأرب 20/ 2231، وتاريخ ابن يزيد 2524، والجوهر الثمين 1/ 56، والتبيين في أنساب القرشيين 120، والعقد الثمين 6/ 188، وتاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون):
652621، وتاريخ الخلفاء 205183، والبداية والنهاية 7/ 223وما بعدها، والفخري 10299، وتاريخ الخميس 2/ 54، ودول الإسلام 20.(1/337)
وهو ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصهره على فاطمة، سيدة نساء العالمين (1)، وأحد السابقين إلى الإسلام وأحد العلماء الربانيين، والشجعان المشهورين، والزهاد المذكورين، والخطباء المعروفين. وأحد من جمع القرآن وعرضه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وهو أول خليفة من بني هاشم وهو أول من أسلم من الأولاد. وعنه رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء.
وشهد المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلها، إلا تبوك، فإن النبي عليه السلام (2)، استخلفه على المدينة. وأعطاه اللواء في مواطن كثيرة، خصوصا يوم خيبر، وأخبر أن الفتح يكون على يديه.
قال جابر بن عبد الله: حمل عليّ الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، وأنهم جروه بعد ذلك، فلم يحمله إلا أربعون رجلا.
وروي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسماية حديث وست وثمانون حديثا.
وأخرج مسلم (3)، عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزل قوله تعالى:
{نَدْعُ أَبْنََاءَنََا وَأَبْنََاءَكُمْ} (4)، دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال:
اللهم هؤلاء أهلي.
وأخرج الترمذي عن أبي سريحة عن النبي عليه السلام (5) قال: (من كنت مولاه / فعليّ مولاه). وفي أكثرها زيادة: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
__________
(1) في (ب): سيدة النساء، نساء العالمين.
(2) في (ب): عليه الصلاة والسلام.
(3) في (أ) و (ج): أخرج مسلم.
والحديث في صحيح مسلم 4/ 1871.
(4) سورة آل عمران الآية 61.
(5) في (أ) و (ج): أخرج الترمذي. و (ب): عن النبي عليه الصلاة والسلام.
والحديث في تاريخ الإسلام 629، والترمذي في المناقب 3797.(1/338)
وأخرج الترمذي (1) والنسائي وابن ماجه عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (علي مني وأنا من علي).
أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه فجاء عليّ تدمع عيناه فقال (2): يا رسول الله، آخيت بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (3): (أنت أخي في الدنيا والآخرة).
أخرج مسلم عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (4)، قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إليّ، أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.
عن أم سلمة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (من أحب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغض عليّا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله).
وفي حديث آخر يقول: (من سب عليّا فقد سبني) (5).
وقد أخرج ابن سعد عن علي كرم الله وجهه قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا
__________
(1) في (أ): وخرج الترمذي، وفي (ب): وأخرج الترمذي والنسائي، عن ابن ماجه. وفي (ج):
أخرج الترمذي.
وانظر الحديث في تاريخ الإسلام: 630.
(2) في (ب): فجاء علي وعينيه تدمع فقال:
والخبر في تاريخ الإسلام 626.
(3) في (ب): فقال له: اني أخي.
(4) في (ب): وروى مسلم عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وفي (ج): رضي الله عنه.
والحديث في صحيح مسلم 1/ 86.
(5) في (ب): من أحب علي فقد أحبني، ومن أبغض عليا فقد أبغضني.
والخبر في المستدرك 3/ 121، وتاريخ الخلفاء 190.(1/339)
ناطقا، وليس من آية إلا وقد عرفت بليل (1) نزلت أو بنهار، وفي سهل أم في جبل.
قال ابن سعد (2): بويع عليّ بالخلافة من الغد من قتل عثمان بالمدينة، فبايعه جميع من كان بها من الصحابة، ويقال: إن طلحة والزبير بايعا كارهين غير طائعين، ثم خرجا إلى مكة، وعائشة بها، فأخذاها وخرجا إلى البصرة يطلبون بدم عثمان، فبلغ ذلك عليا فخرج إلى العراق، فلقي بالبصرة طلحة والزبير وعائشة ومن معهم، وهي وقعة الجمل، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين من الهجرة، وقتل بها طلحة والزبير وغيرهما، وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألفا وأقام عليّ بالبصرة خمس عشرة ليلة (3)، ثم انصرف إلى الكوفة.
ثم خرج عليه معاوية بن أبي سفيان ومن معه بالشام، فبلغ عليا فسار إليه، فالتقوا بصفين في سنة سبع وثلاثين، ودام القتال بها أياما (4)، فرفع أهل الشام المصاحف يدعونه إلى ما فيها، مكيدة من عمرو بن العاص، فكره الناس الحرب / وتداعوا إلى الصلح وحكمّوا حكمين، فحكّم علي أبا موسى الأشعري وحكّم معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا بينهم كتابا على أن يوافوا رأس الحول بأذرح، فينظروا في أمر الأمة (5).
فافترق الناس، ورجع معاوية إلى الشام، وعليّ إلى الكوفة، فخرجت عليه.
الخوارج من أصحابه ومن كان معه، وقالوا: لا حكم إلا لله، وعسكروا بحروراء
__________
(1) في (ب): إلّا وقد عرفت نزولها بليل أو نهار.
والخبر في طبقات ابن سعد 2/ 338، و 3/ 34.
(2) في (أ) و (ب): ابن سعيد، وهو ابن سعيد أيضا في تاريخ الخلفاء 191، والخبر عن طبقات ابن سعد 3/ 31، ومنه ضبط المصدر.
(3) في (أ) و (ب): خمس عشر ليلة.
والخبر من طبقات ابن سعد 3/ 32، ومن هنا يقتبس المؤلف اقباسا شبه تام عن السيوطي في تاريخ الخلفاء 2191.
(4) في (ب): ودام على ذلك القتال أياما.
(5) في (ب): على أن لا يوافوا رأس الحول بأذرع، فينظروا في الأمة.(1/340)
فبعث إليهم ابن عباس، فخاصمهم وحجهم (1)، فرجع منهم قوم كثير وثبت قوم وساروا إلى النهروان فتعرضوا السبيل (2)، فسار إليهم عليّ ليقتلهم [فاجتمع الناس للمحاكمة] (3) بأذرح في شعبان من هذه السنة، وحضرها سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما من الصحابة. فقدم عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري مكيدة منه (4)، فتكلم فخلع عليا، وتكلم عمرو فأقرّ معاوية وبايع له، وتفرق الناس على هذا، وصار عليّ في خلاف من أصحابه، حتى صار يعضّ على إصبعه ويقول: أعصى ويطاع معاوية؟
وأخرج ابن عساكر عن الحسن (5) قال: لما قدم عليّ البصرة قام إليه ابن الكواء وقيس بن عباد فقالا له: ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه، تتولى على الأمة تضرب بعضهم ببعض؟ أعهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (6) عهده إليك؟
فحدثنا، فأنت الموثوق والمأمون على ما سمعت (7).
فقال: أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فلا (8)، والله إني كنت أول من صدق به، فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي من النبي عليه السلام (9) عهد في ذلك، ما تركت أخا بني تيم بن مرة (10)، وعمر بن
__________
(1) في (ب): وحجبهم.
(2) في (ج): وساروا إلى النهروان فسار إليهم علي.
(3) ما بين الحاصرتين من (ج)، ويتفق مع ما ورد في طبقات ابن سعد.
(4) في (أ) و (ب): مكيدة منه.
(5) الخبر بكامله مقتبس من تاريخ الإسلام 640وتاريخ الخلفاء 196194.
(6) (صلى الله عليه وسلم) ليست في (ب).
(7) في (أ): فأنت المتوثق والمأمون، وفي (ب): فأنت الموثق والمأمون. وفي (ج): فأنت الموثوق به والمأمون. وما أثبتناه من تاريخ الخلفاء وتاريخ الإسلام.
(8) في (ب): أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا، بسقوط (في ذلك).
(9) في (ب): صلّى الله عليه وسلّم.
(10) في (أ) و (ب): ما تركت بني تيم بن مرة، وما أثبتناه من (ج) وتاريخ الخلفاء.
وأخو بني تيم بن مرة، يعني به أبا بكر رضي الله عنه.(1/341)
الخطاب يقومان على منبره، ولقاتلتهما (1) بيدي ولو لم أجد إلا بردتي (2) هذه.
ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقتل قتلا ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي (3) بالناس وهو يرى مكاني، ثم يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني (4). ولقد أرادت امرأة من نسائه (5)، أن تصرفه عن أبي بكر (6) فأبى / وغضب وقال: (أنتن كصواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) (7).
فلما قبض الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم (8)، نظرنا في أمورنا فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله لديننا وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي قوام الدين، فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم نقطع منه البراءة، فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جنوده وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي (9).
فلما قبض، ولاها عمرا فأخذ بسنة (10) صاحبه وما يعرف من أمره، فبايعنا عمر لم يختلف عليه منا اثنان، فأديت إلى عمر حقه وعرفت طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني وأضرب بين يديه الحدود (11)
بسوطي.
__________
(1) في (ب): فلا أقاتلهما.
(2) في (ج): بردتي هذه.
(3) في (أ): ليصلي، وما أثبتناه متفق مع رواية السيوطي.
(4) في (ب): ثم يأتيه المؤذن ولقد أرادت.
(5) في (أ) و (ب): ولقد أرادت عائشة وما أثبتناه من (ج)، وهو متفق مع ما ورد في تاريخ الإسلام وتاريخ الخلفاء.
(6) في (ب): أن تصرفه عن أبا بكر.
(7) في (ب): مروا أبا بكر يصلي بالناس.
(8) (صلّى الله عليه وسلّم) ليست في (ب).
(9) في (ب): الحدّ.
(10) في (ب): لسنة صاحبه.
(11) في (أ): وأضرب بين يده الحد، وفي (ب): وأضرب بين يديه الحد.(1/342)
فلما قبض تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وفضلي (1)، وأنا أظن أن لا يعدل بي أحدا، ولكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده ذنبا إلا لحقه في قبره، فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة منه لأتربها ولده، فبرىء منها إلى رهط من قريش، ستة، أنا أحدهم. فلما اجتمع الرهط تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يعدلوا بي [أحدا فأخذ عبد الرحمن مواثيق على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم أخذ ابن عفان فضرب يده على يده، فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي] (2)، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود (3) بسوطي. فلما اصيب نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له الميثاق قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين (4)، وأهل هذين المصرين، فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه.
ذكر السيوطي (5) في «تاريخ الخلفاء»: أن ثلاثة نفر من الخوارج انتدبوا وهم:
عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله التميمي وعمرو بن بكير التميمي / فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص. فقال ابن ملجم: أنا لكم بعلّي، وقال البرك: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو بن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا على ذلك ليلة سبع عشرة من رمضان (6).
__________
(1) في (أ): تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وسالفتي.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ). وفي (ب): فأخذ عبد الرحمن بسقوط لفظ (احدا).
(3) في (ج): واضرب بين يده الحدود.
(4) في (ب): أهل هذين الحرمين الشريفين.
(5) في (ب): وذكر السيوطي. والخبر في تاريخ الخلفاء 192، وطبقات ابن سعد 3/ 35.
(6) في الأصول: ليلة سبعة عشر.(1/343)
ثم توجه كل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه، فقدم ابن ملجم الكوفة، فلقي أصحابه من الخوارج، فكاتمهم بما يريده (1)، إلى ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين. فاستيقظ عليّ سحرا وقال لابنه الحسن: رأيت الليلة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من امتك من الأود واللدد (2)؟ فقال لي:
أدع الله تعالى عليهم. فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرا لي منهم، وأبدلهم بي شرا لهم مني. ودخل [سرح] المؤذن (3)، فقال: الصلاة، فخرج عليّ من الباب ينادي: أيها الناس الصلاة الصلاة، فاعترضه ابن ملجم فضربه بالسيف، فأصاب جبهته ووصل إلى دماغه. فشد عليه الناس من كل جانب، فأمسك وأوثق.
وأقام عليّ رضي الله تعالى عنه الجمعة والسبت (4)، وتوفي ليلة الأحد، وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر [ومحمد بن الحنفية] (5)، وصلّى عليه الحسن ودفن بدار الإمارة بالكوفة ليلا (6)، وأخفي قبره لئلا ينبشه الخوارج، ثم قطعت أطراف ابن ملجم، وجعل في قوصرة وأحرقوه بالنار.
وأما البرك، فإنه ضرب معاوية فأصاب أوراكه، وكان معاوية عظيم الأوراك، فقطع منه عرق النكاح فلم يولد له بعد ذلك ولد، فأمر معاوية باتخاذ المقصورة في الجوامع من ذلك الوقت.
وأما عمرو بن بكير فإنه رصد عمرو بن العاص بمصر، فاشتكى عمرو بطنه فلم يخرج إلى الصلاة، فصلى بالناس رجل من بني تميم يقال له: خارجة، فضربه ابن بكير فقتله، وإليه أشار ابن عبدون في قصيدته (7):
__________
(1) في (ب): ما يريدونه، وفي (ج): بما يريده.
(2) في (ب): ما لقيت من الأولاد.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 36.
(3) ما بين الحاصرتين من (ب).
(4) وأقام علي الجمعة والسبت.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(6) (ودفن) ساقطة من (ب).
(7) في (ب): في قصيدته حيث قال، وفي (ج): في قصيدته الرائية.(1/344)
فليتها إذ فدت عمروا بخارجة ... فدت عليّا بما شاءت من البشر (1)
وقيل: إن عليا رضي الله عنه كان إذا رأى ابن ملجم يتمثل بهذا البيت (2):
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيري من خليلي من مرادي
فقيل لعلي رضي الله عنه: كأنك عرفته وعرفت ما يريد، أو لا قتلته؟ قال كيف أقتل قاتلي؟
أخرج ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حملوه على جمل ليدفنوه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (3)، فبينما هم في المسير ليلا، إذ ند الجمل الذي هو عليه فلم يدروا أين ذهب ولم يقدر عليه أحد (4)، فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب. وقال غيره: إن البعير قد وقع في بلاد طيء فأخذوه ودفنوه.
وكان أوصى أن يخفى قبره لعلمه أن الأمر يصير إلى بني أمية، فلم يأمن أن يمثلوا (5) بقبره.
وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل أزيد.
وكان له تسع عشرة سرية.
ومدة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ويوم واحد (6).
وكانت مدة إقامته بالمدينة أربعة أشهر، ثم سار إلى العراق. وللناس خلاف في مدة عمره وفي قدر خلافته.
__________
(1) في (ج): بمن شاءت من البشر وهو أصح.
(2) والبيت في طبقات ابن سعد 3/ 34، وروايته: اريد حباءه.
(3) في (ب): وأخرج ابن عساكر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، حملوه يدفنوه.
(4) في (أ) و (ج): فلم يدر أين ذهب. وفي (ب): ولم يقدر أحدا عليه.
(5) في (ب) و (ج): يتمتلوا.
(6) في (ب): ومدة خلافته أربعة أشهر ويوم واحد.
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 38، وتاريخ الخلفاء 194.(1/345)
الباب الثالث في ذكر الحسن والحسين ابني أمير المؤمنين وسيد المرسلين واولادهما رضوان الله عليهم اجمعين (1)
وفيه عدة فصول (2):
__________
(1) في (أ): في ذكر الحسن والحسين وأولادهما رضوان الله عليهم أجمعين.
(2) في (ب): وفيه فصول.(1/346)
الفصل الأول في ذكر الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (1)
وهو (2) أبو محمد، سبط (3) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وريحانته، وآخر الخلفاء بنصه / فهو الخامس، فخلع.
كان أبيض اللون، مشربا بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كأن عنقه أبريق فضة. ليس بالطويل ولا بالقصير. كان يخضب بالسواد، جعد الشعر، حسن البدن. وكان شبيها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم (4)، ونقش خاتمه «العزة لله وحده» (5).
أخرج ابن سعد عن عمران بن سليمان قال: الحسن والحسين إسمان من أسماء أهل الجنة ما سمت العرب بهما في الجاهلية.
ولد الحسن في نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة (6)، فلما ولد أتاه
__________
(1) في (ب) و (ج): في ذكر برزخ الكرم والمنن، الإمام أبي محمد الحسن رضي الله عنه.
(2) تاريخ الخلفاء 205، والمحبر 18، والمعارف 92، وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 6041 هـ): 33، وأنساب الأشراف 2/ 2/ 75، والمستدرك 3/ 164، وتاريخ الطبري 5/ 263، ومقاتل الطالبين 46، والكامل في التاريخ 3/ 197، وحلية الأولياء 2/ 35، وتهذيب تاريخ دمشق 4/ 199، وشذرات الذهب 1/ 52، 56، وذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى 118، والاصابة 1/ 328، ووفيات الأعيان 2/ 65، والوافي بالوفيات 12/ 107، والجوهر الثمين 1/ 67، والعقد الثمين 4/ 157، وتاريخ بغداد 1/ 138، والتنبيه والاشراف 260، والمغتالون 164، وتاريخ الخميس 2/ 289، والإرشاد 193187، والتبيين في أنساب القرشيين 128125، وسير أعلام النبلاء 3/ 245، والبداية والنهاية 8/ 14، 33، 45، ودول الإسلام: 25.
(3) في (ب) و (ج): ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو ابو محمد.
(4) في (ب): وكان شبيها برسول الله.
(5) نقش خاتمه في مختصر التاريخ 80: الله أكبر وبه استعنت.
(6) في (ب): ولد سنة ثلاث من الهجرة في نصف رمضان.(1/348)
النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسره والبأه (1) بريقه وقال: (اللهم إني أعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم)، وسماه وعق عنه يوم سابعه، وحلق شعره، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة (2).
أخرج الشيخان عن البراء قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحسن على عاتقه وهو يقول: (اللهم إني أحبه فأحبه) (3).
أخرج (4) الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد حمل الحسن على رقبته، فلقيه رجل فقال: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ونعم الراكب هو».
كان الحسن رضي الله عنه سيّدا حليما ذا سكينة ووقار وخشية، جوادا ممدوحا، يكره الفتن والسيف. وكان كثير التزوج، مطلاقا للنساء، وأحصين تسعين امرأة.
عن علي بن زيد بن جدعان قال: أخرج (5) الحسن من ماله لله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى إنه كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا ويعطي خفا ويمسك خفّا، وله مناقب كثيرة.
وأما عبادته وزهده (6) فأمر مشهور بين الناس مذكور.
__________
(1) في (ب): ولثأه.
(2) في (ب): وأمر أن يتصدق بزنة فضة.
(3) في (ب) و (ج): الشيخان عن البزار الهم إني أحبه.
والخبر في صحيح مسلم 1882، 1883.
(4) في (أ) و (ج): أخرج.
والخبر في المستدرك 3/ 170.
(5) في (ب) و (ج): خرج.
والخبر في حلية الأولياء 2/ 38.
(6) في (أ) و (ج): وزهادته، وما أثبتناه من (ب).(1/349)
نقل أبو نعيم في «الحلية» (1) أنه قال: لأستحيي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة من المدينة إلى مكة على قدميه.
وروي انه حج خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه وأن النجائب لتقاد بين يديه (2).
ولي الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة، فأقام فيها ستة أشهر وأياما، ثم سار إلى معاوية لتسليم الأمر إليه، على أن تكون له الخلافة من بعده، وعلى أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان في أيام أبيه، وعلى أن يقضي عنه ديونه، فأجابه معاوية إلى ما طلب، فاصطلحا على ذلك وظهرت المعجزة النبوية في قوله / صلّى الله عليه وسلّم: «يصلح الله به بين فئتين من المسلمين» (3). ونزل له عن الخلافة، وذلك في سنة احدى وأربعين، في شهر ربيع الأول، فكان أصحابه يقولون له: يا عار المؤمنين، فيقول: العار خير من النار. ثم ارتحل الحسن عن الكوفة إلى المدينة فأقام بها (4).
قال ابن الجوزي: مات الحسن مسموما، سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث، دس إليها يزيد بن معاوية أن تسمه ويتزوجها ففعلت (5). فلما مات الحسن، بعثت إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها فقال: إنا لم نكن نرضاك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟ فخسرت الدين والدينا.
وكانت وفاته في خامس ربيع الأول سنة خمسين، وصلى عليه سعيد بن العاص (6).
__________
(1) في (ب): أبو تميم.
والخبر في حلية الأولياء 2/ 35.
(2) المستدرك 3/ 169.
(3) الحديث في المستدرك 3/ 175.
(4) في (ب): ثم ارتحل من الكوفة إلى المدينة وأقام بها.
(5) بتدسيس معاوية.
(6) في الأصول: سعد بن العاص، وما أثبتناه في تاريخ الإسلام: 40، فقد كان سعيد بن العاص والي المدينة.(1/350)
وجهد به أخوه أن يخبره عمن سقاه فلم يخبره فقال: الله أشد نقمة إن كان الذي أظن، وإلا فلا يقتل بي بريء.
توفي رضي الله عنه أدخله قبره أخوه الحسين (1) ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس، ودفن بالبقيع بعد أن أوصى أن يدفن عند جده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وسمحت له عائشة بذلك ومنعه مروان، فإنه كان والي المدينة، فلبس الحسين ومن معه السلاح حتى رده أبو هريرة، ثم دفن بالبقيع إلى جنب أمه (2).
ولم يكن للحسن عقب من أولاده إلا من اثنين: وهما الحسن وزيد.
وكانت خلافته ستة أشهر وخمسة أيام. وهي تكملة ما ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مدة الخلافة، (ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون جبروتا وفسادا في الأرض).
فكان كما قال صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمره سبعا وأربعين سنة.
__________
(1) في (ب): ادخله قبره الحسين.
(2) تاريخ الإسلام: 40.(1/351)
الفصل الثاني في ذكر الحسين رضي الله عنه (1)
ولد بالمدينة (2) لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وكانت والدته المطهرة البتول فاطمة بنت الرسول علقت به بعد أن ولدت أخاه الحسن بخمسين ليلة، هكذا صح النقل، فلم يكن بينه وبين أخيه من التفاوت سوى هذه المدة (3) المذكورة ومدة الحمل.
ولما ولد الحسين، أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم به فجاء وأخذه وأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، وجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يسميه حسينا / كما جاء في الحسن وأمره أن يسميه حسنا (4)، وقال لأمه: (احلقي رأسه، وتصدقي بوزنه فضة) وفعل به كما فعل بأخيه الحسن.
واعلم أن غالب فضائله قد وردت مشتركة بينه وبين أخيه الحسن. فمن خواص الحسين رضي الله عنه ما رواه الترمذي عن يعلى بن مرة قال: قال
__________
(1) في (ب): في ذكر النجم الطالع من بين القمرين الإمام أبي عبد الله الحسين رضي الله عنه. وفي (ج): في ذكر النجم الطالع بين القمرين الإمام أبو عبد الله الحسين رضي الله عنه.
(2) المعارف 93، والإرشاد 252195، وتاريخ الطبري 5/ 470347، والوافي بالوفيات 12/ 423، وأنساب الأشراف 2/ 2/ 228142، والمستدرك 3/ 164، 176، والإستيعاب 1/ 378، وتهذيب تاريخ دمشق 3/ 332، وذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى 118، وشذرات الذهب 1/ 66، والعقد الفريد 4/ 376، والعقد الثمين 4/ 202، والتبيين في أنساب القرشيين 130129، ومقاتل الطالبيين 78، والبداية والنهاية 8/ 88، وتاريخ الخميس 2/ 297، وتاريخ الخلفاء 225، وتاريخ بغداد 1/ 241.
(3) في (ب): (إلّا هذه المدة).
(4) في (ب) و (ج): كما جاء في الحسين.(1/352)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط) (1).
وكان نقش خاتمه «لكل أجل كتاب».
وروت أم الفضل بن العباس أنها دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: (يا رسول الله، رأيت حلما منكرا، قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك اقتطعت (2)، ووضعت في حجري. فقال: خيرا رأيت، تلد فاطمة غلاما فيكون في حجرك). فولدت فاطمة الحسين فوضعته في حجري كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ثم حانت مني التفاته فإذا عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تدمعان فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لك؟ قال: (أتاني جبريل وأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا بطف (3)
وأتاني بتربة من تربته حمراء).
وقد صحح أهل الأثر في صحائف السير أن أهل الكوفة لما بلغهم موت معاوية وولاية يزيد كتبوا كتابا إلى الحسين رضي الله عنه يدعونه إليهم للبيعة، فكتب جوابهم مع القاصد وسير معه ابن عمه مسلم بن عقيل، فلما وصل إليهم اجتمع الشيعة عليه وأخذ عليهم البيعة للحسين (4). ثم لما أراد الحسين المسير أتاه جماعة كابن عباس وابن عمر وغيرهما وحذروه غدر أهل العراق فلم ينته.
وتوجه إلى العراق وبلغ الخبر إلى يزيد فولى العراق عبيد الله بن زياد وأمره بقتال الحسين فدخل ابن زياد الكوفة قبل الحسين وظفر بمسلم بن عقيل (5) فقتله، وأرسل جيشا إلى الحسين وأمرّ عليهم عمر بن سعد (6)، وأمره أن / يحول بين الحسين وبين الماء.
__________
(1) مجمع الزوائد 9/ 181، وأنساب الأشراف 2/ 2/ 142.
(2) في (ب) و (ج): اقطعت.
(3) (بطف) ساقطة من (أ) و (ب).
(4) أنساب الأشراف 2/ 2/ 160157.
(5) في (ب): فظفر.
(6) في (ب): وأمرّ عليهم عمر بن سعيد.(1/353)
ذكر الدميري في «حياة الحيوان» أن الحسين رضي الله عنه لما وصل إلى كربلاء سأل عن اسم المكان فقيل له: كربلاء فقال: كرب وبلاء، لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه، فوقف وسأل عن هذا المكان (1) وقال:
هاهنا محط ركابهم وهاهنا مهراق دمائهم. فسأل عن ذلك فقال: نفر من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، يقتلون هاهنا. ثم أمر بأثقاله فحطت في ذلك المكان، فلما التقيا قال الحسين لعمر بن سعد (2) ومن معه: اختاروا مني واحدة من ثلاث، إما أن تدعوني فألحق بالثغور أو أذهب إلى يزيد أو أنصرف من حيث جئت. فقبل ذلك عمر بن سعد (3)، ولم يقبله ابن زياد وقال: حتى يضع يده في يدي. فقال الحسين: لا يكون ذلك ابدا.
روي أن عمر بن سعد المذكور، حال بين الحسين وأصحابه و [بين] (4)
الماء، فخرج إليه من جماعة الحسين رضي الله عنه يزيد بن حصين (5)
وكلمه فقال: هذا الفرات تشرب منه الكلاب والدواب وهذا الحسين ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته يموتون عطشا، وأنت تزعم أنك تعرف الله ورسوله؟
فأطرق عمر رأسه (6) ولم يجبه، وكان وعده ابن زياد ولاية الري إذا فرغ من قتال الحسين (7).
وفي «بهجة المحاسن»: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم (8) رأى كأن كلبا أبقع ولغ في دمه،
__________
(1) الجملة (عند مسيره إلى صفين وأنا معه فوقف وسأل عن هذا المكان) ساقطة من (ب)
(2) في (ب): لعمرو بن سعد. والخبر في حياة الحيوان 1/ 60.
(3) في (ب): عمر بن سعيد.
والخبر في أنساب الأشراف 2/ 2/ 182.
(4) ساقطة من (أ).
(5) في (ب): ابن يزيد وحصين.
(6) لفظ (عمر) ساقط من (ب).
(7) في (ب) و (ج): وكان يزيد وعد لابن زياد ولاية الري. وما أثبتناه من المصادر.
(8) في (ب): وفي بهجة النواظر قال النبي عليه السلام. وفي حياة الحيوان: بهجة المجالس(1/354)
فأوّل أن رجلا يقتل الحسين ابن بنته، فكان شمر (1) قاتل الحسين رضي الله عنه أبرص، فتأخرت الرؤيا بعده صلّى الله عليه وسلّم خمسين سنة (2)، فلما أصبح الصباح وكان يوم عاشوراء خرج عمر بن سعد ومن معه وتهيأ أصحاب الحسين، وكانوا اثنين وثلاثين فارسا وأربعين راجلا فركب الحسين وابنه وقال لهم: هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ الست ابن بنت نبيكم وابن ابن عمه؟ فلم يكلموه وفي دون ساعة قتل أصحاب الحسين رضي الله عنه كلهم (3)، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وأصاب (4) ابنا للحسين، وهو في حجره، سهم، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا. وبقي الحسين زمانا كلما انتهى إليه رجل منهم (5)، انصرف عنه وكره أن يتولى قتله. وأتي بصبي صغير من أولاده اسمه عبد الله فحمله وقبله فرماه رجل من بني أسد، فذبح ذلك الغلام، فتلقى الحسين دمه في يده وألقاه نحو السماء وقال: رب (6)، إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعله لما هو خير، وانتقم من الظالمين.
واشتد العطش به فمنعوه فحصل له شربة ماء، فلما أهوى ليشرب رماه حصين بن تميم (7) بسهم في حنكه، فصار الماء دما ثم رفع يده (8) إلى السماء وهو يقول: اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا.
ثم حمل الرجال على الحسين رضي الله عنه (9) من كل جانب، وهو يجول فيهم
__________
(1) في (ب): الشمر.
والخبر في الوافي بالوفيات والمصادر.
(2) في (ب): خمس سنين.
(3) (رضي الله عنه) ليست في (ب).
(4) في (ج): فأصاب.
(5) في (ب): كلما انتهى إليه رجلا منهم.
(6) في (ج): يا رب.
(7) في (أ) و (ج): حصين بن نمير، وهو كذلك في أنساب الأشراف. وما أثبتناه يتفق مع رواية الطبري 5/ 437435.
(8) في (ب): فرفع.
(9) في (ب): حمل الرجال على الحسين من كل جانب.(1/355)
يمينا وشمالا، فضربه زرعة بن شريك على يده اليسرى، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس بالرمح فوقع، فنزل إليه الشمر فاحتز رأسه وسلمه إلى خولي الأصبحي ثم انتهبوا سلبه.
حكي أنه (1) وجد بالحسين رضي الله عنه حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، وهمّ شمر الملعون، عليه ما يستحق من الله (2)، بقتل عليّ الأصغر بن الحسين وهو مريض، فخرجت إليه زينب بنت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقالت: والله لا يقتل حتى اقتل، فكف عنه.
ثم إن عبيد الله بن زياد جهز علي بن الحسين ومن كان معه (3) من حرمه، بحيث تقشعر من ذكره الأبدان (4) وترتعد منه مفاصل الإنسان، إلى البغيض يزيد بن معاوية، وهو يومئذ بدمشق (5)، مع الشمر بن ذي الجوشن (6)، فساروا إلى أن وصلوا إلى دير في الطريق، فنزلوا ليقيلوا به، فوجدوا مكتوبا على بعض جدرانه [هذا البيت] (7):
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب
فسألوا الراهب عن السطر من كتبه؟ فقال: إنه مكتوب ههنا من قبل (8) أن يبعث نبيكم بخمسماية عام وقيل: إن الجدار انشق وظهر فيه كف مكتوب عليه هذا السطر.
__________
(1) في (ب): وحكي.
(2) في (ب): وهمّ شمر بقتل علي الأصغر.
(3) في (أ): ومن كان مع الحسين.
(4) في (ب): تقشعر منه الأبدان وفي الخبر نقص عما ورد في حياة الحيوان.
(5) في (ب): في دمشق.
(6) في (ب): ابن أبي الجوشن.
(7) ما بين الحاصرتين من (ب).
والبيت منسوب لأبي الأسود الدؤلي.
(8) في (ب): إنه مكتوب من قبل.(1/356)
فلما دخل زجر بن قيس على يزيد برأس الحسين رضي الله عنه (1)، وحكى له ما وقع، دمعت عينا يزيد وقال: كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحسين (2)، لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين (3)، ولم يصله بشيء.
فلما وضع الرأس بين يديه بعدما غسلوه (4)، وسرحوا لحيتة وشعره وجعلوه في طشت من ذهب فجعل يزيد ينكث ثناياه بقضيب في يده فقال له أبو برزة الأسلمي: / أتنكث بقضيبك في ثغر الحسين [رضي الله عنه]؟ (5)، والذي لا إله إلا هو (6)، لقد رأيت شفتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على هاتين الشفتين يقبلهما أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة (7) وابن زياد شفيعك ويجيء هذا ومحمد شفيعه، ثم قام فولى.
ثم إن يزيد وجه الذرية صحبة علي بن الحسين رضي الله عنه (8)، ووجه النعمان بن بشير مع ثلاثين رجلا يسير أمامهم حتى انتهوا إلى المدينة، وكان النعمان يسأل عن حوائجهم ويتلطف بهم فقالت فاطمة لاختها زينب بنت علي (9) رضي الله عنه: لقد أحسن هذا الرجل إلينا، فهل لك أن تصليه بشيء؟
فقالت: والله ما معنا (10) ما نصله به إلا حلينا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما
__________
(1) في (ب): برأس الحسين.
(2) في (ب): بدون قتله الحسين.
(3) في (ب): رحم الله الحسين.
(4) في (ب): بعد أن غسلوه.
(5) ما بين الحاصرتين من (ج).
(6) في (ب): (والذي نفسي بيده) ولا معنى لها هنا.
(7) في (ب): أما انك يا يزيد يوم القيامة.
(8) (رضي الله عنه) ليست في (ب).
(9) في (ج): زينب بنت علي بن أبي طالب.
(10) في (ب): ما معنا شيء نصله به.(1/357)
فبعثتا (1)، إليه واعتذرتا، فرد الجميع وقال: ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وذكر في «الفصول المهمة» (2)، أن الناس مكثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحيطان (3) بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع.
وقد حكى أبو حباب الكلبي (4) وغيره أن أهل كربلاء لا يزالون يسمعون نوح الجن على الحسين رضي الله عنه وهن يقلن (5):
مسح الرسول جبينه ... فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قريش ... جده خير الجدود
ذكر السيوطي في «تاريخ الخلفاء» أن الحسين رضي الله عنه، لما قتل، مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضا، وكسفت الشمس يوم قتله، واحمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة ترى بعد ذلك اليوم ولم تكن ترى فيها قبله وقيل: إنه لم يقلب حجر ببيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط (6).
وتكلم رجل في الحسين بكلمة فرماه الله بكوكب من السماء.
أخرج البيهقي في «الدلائل» (7)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامي نصف النهار أشعث أغبر وبيده قارورة فيها دم فقلت:
__________
(1) في (أ) و (ج): فبعثنا به.
(2) في (ب): وذكر في فصول المهمة.
(3) في (أ): كأنما تلطخ الحوائط بالدماء.
(4) في (ب): وقد حكى عن حبان الكلبي.
(5) في (ج): وهم يقولون.
(6) الفقرة من: ذكر السيوطي إلى آخرها ساقطة من (ب).
(7) الخبر ساقط من (ب).
والخبر في تاريخ الخلفاء.(1/358)
بأبي / [أنت] (1) وأمي يا رسول الله، ما هذا؟ قال: دم الحسين [وأصحابه رضي الله عنهم] (2)، لم أزل التقطه منذ اليوم. فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ.
واختلفوا في مكان دفن (3) رأس الحسين رضي الله عنه. وفي «مسالك الأبصار» أنه حمل أعظم (4) الحسين ورأسه إلى المدينة المنورة حتى دفنوه عند قبر أخيه الحسن وقيل: دفن الرأس بالقاهرة بالمشهد المعروف بباب القرافة وقيل:
إنه دفن رأسه عند قبر أمه بالمدينة المنورة. والأصح أنه دفن في جامع دمشق (5)، واستمر جسده بكربلاء له مشهد عظيم يزار ويتبرك به. وقال السيد الشريف الرضي:
كربلا لا زلت كربا وبلا ... ما لقي عندك أهل المصطفى
كم على تربك لما صرعوا ... من دم سال ومن دمع جرى
ووجوه كالمصابيح فمن ... قمر غاب وبدر قد هوى
وليس للحسين عقب من الذكور إلا من علي المعروف بزين العابدين [رضي الله عنه] (6).
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(3) في (أ) و (ج): واختلفوا في مكان دفن فيه رأس الحسين.
(4) في (ب): عظم الحسين، وفي (ج): جسد الحسين.
(5) في (ب): وقيل: إنه دفن بجامع دمشق، بسقوط ما قبلها.
(6) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/359)
الفصل الثالث في ذكر علي بن الحسين الملقب بزين العابدين [رضي الله عنه] (1)
ولد (2) بالمدينة في أيام جده علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (3)، قبل وفاته بسنتين. وكان أسمر رقيقا قصيرا.
نقش خاتمه «وما توفيقي إلا بالله».
كان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه (4)، فقيل له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: أما ترون بين يدي من أريد أن أقف؟ (5) وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة. وكان يتصدق سرا ويقول: صدقة السر تطفىء غضب الرب (6).
__________
(1) في (ب): في ذكر برزخ سرطان الراكعين الإمام علي بن الحسين زين العابدين. وفي (ج): في ذكر برج سرطان الراكعين الإمام علي بن الحسين زيد العابدين رضي الله عنه.
(2) طبقات ابن سعد 5/ 211، ومروج الذهب 2/ 123، وذيل المذيل 641، وسير أعلام النبلاء 4/ 386، ووفيات الأعيان 3/ 266، وحلية الأولياء 3/ 133، ونثر الدرّ 1/ 338، والبداية والنهاية 9/ 103، والنجوم الزاهرة 1/ 229، والإرشاد 261253، والتبيين في أنساب القرشيين 132131.
(3) في (ب): ولد في أيام جده، وفي (ج): ولد بالمدينة في أيام جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4) في (ب): وكان إذا توضأ للصلاة اصفر لونه.
والخبر في نثر الدرّ 1/ 338.
(5) في (أ) فيقول: أما تدري بين يدي من أريد أن أقف. وفي (ب): فقال: ما ترون بين يدي من أريد أن أقف بين يديه.
والخبر في نثر الدر 1/ 338.
(6) حلية الأولياء 3/ 136.(1/360)
وقال محمد بن إسحاق: كان أناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون (1)
من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين رضي الله عنه (2)، فقدوا ما كانوا (3)
يؤتون به ليلا إلى منازلهم، فعلموا أن معايشهم كانت من علي بن الحسين رضي الله عنه (4).
وسقط ابن له في بئر ففزع أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه، وكان قائما يصلي في المحراب، فما زال عن مكانه فقيل له في ذلك فقال: ما شعرت، لأني كنت أناجي ربّا عظيما (5).
وكان رضي الله عنه يقول لأولاده: يا بني، إذا أصابتكم مصيبة من الدنيا أو نزل بكم فاقة أو أمر فادح فليتوضأ الرجل منكم وضوءه للصلاة وليصلّ أربع ركعات أو ركعتين، فإذا فرغ من صلاته فليقل: يا موضع كل شكوى، يا سامع كل نجوى، يا شافي كل بلوى، ويا عالم كل خفية / ويا كاشف ما يشاء من كل بلية، يا منجي موسى، يا مصطفي محمدا، يا خليل إبراهيم (6)، أدعوك دعاء من اشتدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته، دعاء الغريب الغريق، الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين (7).
قال رضي الله عنه: لا يدعو به أحد أصابه بلاء إلا فرجه الله عنه.
__________
(1) في (ب): كان ناس من المدينة يعيشون ولا يدرون.
(2) في (ب): لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا.
(3) في (أ): ما كان يؤتون به.
(4) في (ب): من علي بن الحسين.
والخبر في حلية الأولياء 3/ 136.
(5) نثر الدرّ 1/ 9338.
(6) (يا منجي موسى، يا مصطفي محمدا، يا خليل إبراهيم) ساقطة من (ب) و (ج)، وفي (ب): يا موضع كل شكوى ويا سامع كل نجوى، ويا شافي كل بلوى.
(7) في (ب): لا إله إلّا أنت سبحانك لا إله إلا أنت.(1/361)
ومن دعائه رضي الله عنه: اللهم كما أسأت فأحسنت إلي، فإذا عدت فعد عليّ (1).
وحكي: أنه لما حج هشام بن عبد الملك، في حياة أبيه، دخل إلى الطواف، وجهد أن يستلم الحجر الأسود، فلم يصل إليه لكثرة ازدحام الناس عليه، فنصب له منبر إلى جانب زمزم وجلس عليه ينظر إلى الناس وحوله جماعة من أعيان أهل الشام (2)، فبينا (3) هو كذلك إذ أقبل زين العابدين يريد الطواف، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلمه، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي قد هابته الناس هذه الهيبة (4)؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الفرزدق حاضرا فقال: أنا أعرفه.
فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فقال (5):
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم (6)
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل أمر ومختوم به الكلم
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
__________
(1) في (ب): اللهم كما أحسنت فأحسن، فإن عدت فعد إليّ.
(2) في (أ): حكي أنه لما حج. وفي (ب): وحوله جماعة من أعيان دمشق.
(3) في (ب): فبينما.
(4) في (ب): من الذي قد هابته الناس لهيبته؟
(5) في (ج): (من هو) دون الباقي.
والقصة والأبيات في حلية الأولياء 3/ 139، وهي في ديوانه 2/ 178 (ط. صادر).
(6) في (ب):
إذا رأته قريش قال قائلهم ... إلى مكارم هذا انتهى الكرم(1/362)
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... ولا يكلم إلا حين يبتسم (1)
فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق بعسفان.
وقال الفرزدق يهجو هشاما (2)، وكان هشام أحول فأنشد يقول (3): /
أيحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوي منيبها (4)
يقلب رأسا لم يكن رأس سيّد ... وعينا له حولاء باد عيوبها (5)
توفي (6) زين العابدين رضي الله عنه سنة أربع وتسعين من الهجرة، وله من العمر سبع وخمسون سنة. وقيل مات مسموما، سمه الوليد بن عبد الملك، ودفن بالبقيع، [هكذا قيل في تاريخ الخلفاء، والله سبحانه وتعالى أعلم] (7).
__________
(1) في (ب): عجز البيت: فما يكلم إلّا حين يبتسم.
وهو رواية الديوان.
(2) في (ب) و (ج): يهجو هشام.
(3) البيتان في ديوانه 1/ 47.
(4) في (ب): إليها قلوب الناس تهوي منيبها.
(5) في (ب): بادي عيوبها.
(6) في (ب): وتوفي.
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ). ولم أقع على الخبر في تاريخ الخلفاء.(1/363)
الفصل الرابع في ذكر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي الله عنه (1)
وإنما سمي بالباقر (2)، لأنه بقر العلم. وقيل: لقب بالباقر لما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (يا جابر يوشك أن تلحق بولد لي من ولد (3) الحسين اسمه كاسمي يبقر العلم بقرا، أي يفجره تفجيرا، فإذا رأيته فاقرئه مني السلام (4). قال جابر: فأخر الله مدتي حتى رأيت الباقر، فاقرأته السلام عن جده محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكان خليفة أبيه من بين إخوته ووصيه والقائم بالإمامة من بعده.
وكان معتدل القامة أسمر اللون.
ونقش خاتمه: «رب لا تذرني فردا» وقيل: «ظني بالله حسن، وبالنبي المؤتمن وبالوصي ذي المنن، وبالحسين والحسن».
ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين من علم الدين والسنن وعلم القرآن والسير وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر الباقر.
__________
(1) في (ب) و (ج): في ذكر منبع الفضائل والمفاخر، الإمام محمد بن علي الباقر، رضي الله عنه.
(2) طبقات ابن سعد 5/ 32، وذيل المذيل 641، والتبيين في أنساب القرشيين 133132، وحلية الأولياء 3/ 188، والإرشاد 267216، وسير أعلام النبلاء 4/ 401، وشذرات الذهب 1/ 149، ومروج الذهب 2/ 172، والوافي بالوفيات 4/ 102.
(3) في (ب) و (ج): أن تلحق بولد من ولد الحسين.
(4) (يبقر العلم بقرا، أي يفجره تفجيرا) ساقطة من (ب).
والحديث أورده الصفدي في الوافي بالوفيات.(1/364)
روى عنه في معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفيه يقول القرطبي:
يا باقر العلم لأهل التقى ... وخير من لبى على الجبل
ولد بالمدينة قبل قتل جده الحسين بثلاث سنين.
وأمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فهو هاشمي من هاشميين.
وقال رضي الله عنه: ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله [تعالى] (1)، إلا وحرم الله عز وجل وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين دموعه لم يرهق (2) وجهه قتر ولا ذلة. وما من شيء إلا له جزاء، إلا الدمعة، فإن / الله تعالى يكفر بها بحور الخطايا. ولو أن باكيا بكى في أمة لحرم الله تلك الأمة على النار (3).
وحدث بعضهم قال: كنت بين مكة والمدينة، فإذا أنا بشيء يلوح تارة ويختفي أخرى حتى قرب مني، فتأملته فإذا هو غلام سباعي أو ثماني، فسلم عليّ فرددت عليه السلام فقلت: ممن أنت؟ قال: رجل عربي، قلت: أبن لي، قال:
قرشي، قلت: أبن لي، قال: علوي، ثم أنشأ يقول:
ونحن على الحوض رواده ... نذود وتسعد ورّاده
فما فاز من فاز إلا بنا ... وما خاب من حبنا زاده
فمن سرّنا نال منا السرور ... ومن ساءنا ساء ميلاده
ومن كان غاصبنا حقنا ... فيوم القيامة ميعاده
ثم قال: أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب [كرم الله
__________
(1) ليست في (أ) و (ج).
(2) فإن سالت دموعها على الخدين لم يرهق.
(3) في (ب): ولو أن باكيا بكى في أمة لحرّم الله النار على تلك الأمة.(1/365)
وجهه] (1)، ثم التفت فلم أره، فلا أدري نزل في الأرض أم صعد في السماء وتوفي [رضي الله عنه] (2)، سنة سبع عشرة ومائة، وله من العمر ثمان وخمسون سنة.
قيل: مات بالسم في زمن إبراهيم بن الوليد.
ودفن في البقيع في القبة التي فيها العباس، في القبر الذي دفن فيه أبوه وعم أبيه، رضي الله عنهم وأرضاهم (3).
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب).
(2) ما بين الحاصرتين من (ب).
(3) (وعم أبيه رضي الله عنهم وأرضاهم) ساقطة من (ب).(1/366)
الفصل الخامس في ذكر جعفر الصادق [رضي الله عنه] (1)
كان [رضي الله عنه] (2) من بين إخوته، خليفة أبيه ووصيه (3)، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره.
وكان رأسا في الحديث روى عنه يحيى بن سعيد، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري، وابن عيينة، وأبو حنيفة، وشعبة، وأبو أيوب السجستاني (4)، وغيرهم.
ولد بالمدينة سنة ثمانين من الهجرة.
وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي سمرة.
وكان رضي الله عنه معتدل القامة (5)، آدم اللون.
نقش خاتمه: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله استغفر الله».
نقل أن كتاب الجفر الذي بالمغرب يتوارثه بنو عبد المؤمن، له.
__________
(1) في (ب): في ذكر عالم الدقائق الإمام أبي جعفر بن محمد الصادق، وفي (ج): في ذكر عالم الحقائق والدقائق الإمام أبي جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه.
(2) (رضي الله عنه) ليست في (أ).
(3) مشاهير علماء الأمصار 127، والكامل في التاريخ 5/ 127، وسير أعلام النبلاء 6/ 255، وتاريخ الإسلام (حوادث 160141)، وشذرات الذهب 1/ 220، وحلية الأولياء 3/ 192، ونثر الدر 1/ 351، ووفيات الأعيان 1/ 327، والوافي بالوفيات 11/ 126، وسير أعلام النبلاء 6/ 252، والإرشاد 284270، والتبيين في أنساب القرشيين 133، والنجوم الزاهرة 2/ 8.
(4) في (ب): أبو أيوب السختياني.
(5) في (ب): وكان معتدل القامة.(1/367)
ومن كلامه لسفيان الثوري (1): يا سفيان، إذا أنعم الله عليك بنعمة وأحببت بقاءها فأكثر من الحمد والشكر عليها، فإن الله عز وجل قال في كتابه العزيز {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (2)، وإذا استبطأت الرزق / فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى بقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كََانَ غَفََّاراً يُرْسِلِ السَّمََاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرََاراً} (3)، الآية.
وإذا أحزنك (4) أمر من سلطان أو غيره، فأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة.
وكان رضي الله عنه يقول: لا يتم المعروف إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره (5).
وروي أنه وقع الذباب على وجه المنصور مرات (6)، كلما ذبه عاد حتى أضجره، فدخل عليه تلك الساعة جعفر بن محمد الصادق رضي الله تعالى عنه (7). فقال: يا أبا عبد الله لم خلق الله الذباب؟ فقال: ليذل به الجبابرة، فسكت المنصور (8).
وروي عنه أنه قال لمولاه نافذ: إذا كتبت رقعة أو كتابا في حاجة وأردت أن تنجح حاجتك فاكتب في رأس الرقعة بقلم غير مديد: بسم الله الرحمن الرحيم وعد الله الصابرين المخرج مما يكرهون والرزق من حيث لا يحتسبون. جعلنا الله وإياكم من الذين {فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (9). قال نافذ: فكنت أفعل ذلك فتقضى حوائجي.
__________
(1) حلية الأولياء 3/ 193، نثر الدر 1/ 351.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 7.
(3) سورة نوح، الآيتان: 1110.
(4) كذا في الأصول. وفي المصادر: (أحزبك).
(5) حلية الأولياء 3/ 198.
(6) في (ج): مرارا.
(7) في (ب): جعفر الصادق.
(8) حلية الأولياء 3/ 198، الوافي 12/ 128.
(9) سورة البقرة الآية: 38، وفي مواضع أخرى وفي سور أخرى كثيرة.(1/368)
ومناقبه كثيرة.
توفي في سنة ثمان وأربعين وماية وله من العمر ثمان وستون سنة.
وقيل: إنه مات مسموما في زمن المنصور. دفن بالبقيع في القبر الذي فيه أبوه (1) وجده وعم جده، فلله دره [من قبر ما أكرمه وأشرفه] (2).
__________
(1) في (ج): في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).(1/369)
الفصل السادس في ذكر موسى الكاظم رضي الله عنه (1)
هو الإمام الكبير (2) القدر، الأوحد، الحجة، الساهر ليله قائما، القاطع نهاره صائما، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظما. وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج، لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجة قط.
ولد بالأبواء (3)، سنة ثمان وعشرين وماية.
وأمه حميدة البربرية، وكنيته أبو الحسن.
وكان أسمر اللون، ونقش خاتمه «الملك لله وحده».
وكان له كرامات ظاهرة ومناقب باهرة (4) اقترع قمة الشرف / وعلاها رسما إلى أوج المزايا فبلغ علاها.
فمن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في كتابه «مثير الغرام الساكن، إلى أشرف الأماكن» (5)، عن شقيق البلخي (6)، قال: قصدت الحج فنزلت القادسية فأنا أنظر
__________
(1) في (ب) و (ج): في ذكر المجتهد القائم والمتصدق الصائم الإمام موسى بن جعفر الكاظم رضي الله عنه.
(2) مروج الذهب 2/ 195، وتاريخ بغداد 13/ 57، ومقاتل الطالبيين 499ومروج الذهب 2/ 274، ونثر الدرّ 1/ 358، ووفيات الأعيان 5/ 308، وشذرات الذهب 1/ 304، وسير أعلام النبلاء 6/ 270، والإرشاد 302288، والبداية والنهاية 10/ 183، والتبيين في أنساب القرشيين 133.
(3) في (ب): بالأبواب.
(4) في (ب): له كرامات ظاهرات ومناقب باهرات.
(5) في (ب): مثير الغرام الساكن إلى أشرف المساكن.
(6) في (ب) وعن شقيق البلخي.(1/370)
إلى الناس وزينتهم، إذ رأيت شابا حسن الوجه شديد السمرة نحيفا، في رجليه نعلان، فجلس منفردا فقلت: هذا من الصوفية، يريد أن يكون كلّا على الحجاج. فقلت: والله لأمضين إليه ولأوبخنه. فدنوت منه فقال: يا شقيق، اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم.
ثم تركني وولى، فقلت: هذا عبد صالح كاشفني لألحقنه ليستغفر لي، فأسرعت في أثره فغاب عني، فلما نزلنا واقصة إذ هو قائم يصلي (1)، وأعضاؤه ترجف ودموعه تجري فقلت: هذا صاحبي. فلما فرغ قال: يا شقيق أتل [قوله تعالى] (2): {وَإِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ََ} (3)، ثم تركني. فقلت: هذا من الأبدال كاشفني مرتين. ثم رأيته على مورد وبيده ركوة فسقطت منه في البئر فرمق إلى السماء بطرفه وقال: أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء، وقوتي إذا أردت طعاما. ثم قال: اللهم سيدي ما لي سواك فلا تعدمنيها.
قال شقيق: فو الله لقد رأيت الماء ارتفع حتى تناول الركوة، فتوضأ وصلى أربع ركعات، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل منه في الركوة، وحركها وشرب، فجئت وسلمت عليه وقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك، فقال: يا شقيق، لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة، فأحسن ظنك بربك، وناولني الركوة، فشربت منها سويقا بسكر ما شربت ألذ ولا أطيب منه، وبقيت أياما لا أشتهي طعاما ولا شرابا.
ثم رأيته بمكة قد طاف، وإذا له خدم وحشم وموالي يلقونه وطافوا به (4)، يمينا وشمالا، وانكفأ الناس يقبلون أطرافه فتعجلت (5) وقلت: من هذا؟ قالوا:
هذا موسى الكاظم. فقلت: لا يكون ما رأيت إلا بمثل هذا.
__________
(1) في (ب): إذ هو يصلي.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) سورة طه، الآية: 82.
(4) في (ب): فطافوا به.
(5) في (ب): فعجبت.(1/371)
وله مناقب جليلة فمن ذلك: أن / المهدي لما حبسه رأى في النوم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو يقول له: يا محمد {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحََامَكُمْ} (1)، فأرسل الربيع ليلا فأحضره وعانقه، وأخبره بالواقعة وقال له: يا موسى، تعاهدني أن لا تخرج علي ولا على أحد من ولدي؟ قال: والله لا فعلت ذلك (2)، ولا هو من شأني، قال: صدقت، أعطه يا ربيع ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى المدينة مكرّما.
وسأله الرشيد يوما فقال: يا موسى لم قلتم إنكم أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم. فقال: لكنه لا يخطب إليّ ولا أزوجه، لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم ثم قال وهل كان يجوز (3) أن يدخل على حرمك وهن منكشفات؟ فقال: لا قال:
لكنه كان له أن يدخل على حرمي ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب منكم (4).
[وقد (5) أكثر الأدباء في مدائحه، فمن ذلك قول أبي الفتح:
أنا للسيد الشريف غلام ... حيثما كان فليبلغ سلامي
وإذا كنت للشريف غلاما ... فأنا الحر والزمان غلامي] وكانت وفاته رضي الله عنه سنة ثلاث وثمانين وماية. فلما توفي، أمر الرشيد بوضع نعشه على الجسر ببغداد وينادى عليه: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الشيعة (6) أنه لا يموت، فانظروا إليه ميتا، ثم دفن بمقابر قريش وله من العمر خمس وخمسون سنة.
__________
(1) سورة محمد، الآية: 22.
(2) في (ب): والله ما فعلت ذلك.
(3) في (ب) و (ج): وهل كان يجوز له أن يدخل.
(4) الخبر في نثر الدر 1/ 359.
(5) هذه الفقرة ساقطة من (أ) و (ب).
(6) في (أ): هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة. وفي (ب): هذا موسى بن جعفر الصادق الذي زعم الرافضة.(1/372)
وكان له سبعة وثلاثون ولدا ما بين ذكر وأنثى (1)، وكان المخصوص من بينهم بجلالة القدر صاحب هذا الفصل وهو علي بن موسى [الرضا رضي الله عنه] (2).
__________
(1) في (ب): ما بين ذكور وإناث.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/373)
الفصل السابع في ذكر علي بن موسى الرضا رضي الله عنه (1)
وكانت مناقبه عليّة وصفاته سنية (2).
ولد بالمدينة (3)، سنة ثمان وأربعين وماية. وأمه أم ولد. وكان شديد السمرة.
نقش خاتمه: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
وكنيته أبو الحسن، ولقبه الرضا والصابر والزكي. وكراماته كثيرة، ومناقبه شهيرة.
فمن ذلك أنه كان عند المأمون بالمحل الأعلى، فكان إذا جاء إليه بادر الحجاب والخدم بين يديه ورفعوا له الستر.
فلما بلغهم أن المأمون يريد أن يبايع له، تواصوا (4) على أنه إذا جاء لا يقومون له / ولا يرفعون له (5) الستر، فلما جاء رضي الله عنه (6) على عادته
__________
(1) في (ب) و (ج). في ذكر مشبه شجاعة جده علي المرتضى الإمام علي بن موسى الرضا، رضي الله عنه.
(2) تاريخ خليفة بن خياط 470، 471، وأسماء المغتالين 201، وتاريخ الطبري 8/ 568، ومروج الذهب 2/ 347، ومقاتل الطالبيين 561، ووفيات الأعيان 3/ 269، وخلاصة الذهب المسبوك 200، وتاريخ الخلفاء 307، والتنبيه والاشراف 302، والوافي بالوفيات 2/ 248، وشذرات الذهب 2/ 6، والإرشاد 316304، والتبيين في أنساب القرشيين 133.
(3) في (ب): ولد بالمدينة، وكان شديد السمرة، بسقوط ما بينهما.
(4) في (ب): تواطئوا.
(5) في (ج): ولا يرفعون الستر.
(6) (رضي الله عنه) ليست في (ب).(1/374)
ورأوه، لم يملكوا أنفسهم أن فعلوا معه فعلهم الأول، ثم تلاوموا فيما بينهم وأقسموا إذا عاد ثانية أن لا يرفعوا له الستر، فلما عاد في اليوم الثاني قاموا وسلموا عليه، غير أنهم لم يرفعوا له الستر (1)، فجاءت ريح شديدة فرفعته كعادته وأكثر، فلما دخل سكنت، فلما أراد الخروج رفعته الريح أيضا ثم سكنت، فقال بعضهم لبعض: إن لهذا الرجل شأنا، ولله به عناية، ارجعوا إلى خدمتكم له، فرجعوا.
وقال له رجل: امرأتي حامل، ادع الله أن يجعله ذكرا. فقال: هما اثنان.
فقلت: أسمي الواحد محمدا والآخر عليا. فدعاني فقال: سم واحدا عليا والآخر (2) أم عمرو. فولدت لي غلاما وجارية، فسميتهما كما ذكر. وقالت أمي: جدتك كانت تسمى أم عمرو.
وروى الحاكم بإسناده عن أبي حبيب قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام في مسجد (3)، وبين يديه طبق فيه تمر صيحاني فوقفت بين يديه فقبض لي قبضة من التمر وناولنيها، فعددتها فوجدتها ثمانى عشرة تمرة، فتأولت أني أعيش عدتها (4) ثم بعد أيام قيل (5): جاء علي الرضا من المدينة فمضيت إليه، فإذا هو في الموضع الذي رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه (6)، والطبق والتمر بين يديه فناولني قبضة عدتها كقبضة (7) النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: زدني، فقال: لو زادك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزدناك.
__________
(1) في (ب): ولم يرفعوا الستر.
(2) في (ب): والأخرى.
(3) في (ب): في المسجد.
(4) في (أ): فتأولت أني أعيش بعد ذلك سنتين. وفي (ب): ثمانية عشر تمره، فعلمت أني أعيش بعد ذلك سنتين، وما أثبتناه من (ج)، إذ لا ينطبق تأويل الحلم مع العدد الذي ذكره في كل من (أ) و (ب).
(5) (قيل) ليست في (ب) و (ج).
(6) في (أ) في الموضع الذي رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي (ج): في الموضع الذي رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم حاليا فيه
(7) في (ب): فعددتها.(1/375)
ونظر إلى رجل فقال: يا عبد الله أوص بما تريد، واستعد لما لا بد منه، فمات بعد ثلاث.
ومر عليه جعفر بن عمر العلوي وهو رث الهيئة، فضحك منه بعض من حضره، فقال رضي الله عنه: سترونه عن قريب بخدم وحشم، فلم يمض شهر إلا وقد ولي المدينة فحسنت حاله. وفيه يقول أبو نواس (1):
قيل لي: أنت أحسن الناس شعرا ... في فنون من المقال النبيه
لك من جوهر القريض بديع ... يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلى ما تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي تجمعن فيه /
قلت لا أستطيع مدح إمام ... كان جبريل خادما لأبيه
وكان رضي الله عنه أسود اللون، لأن أمه كانت سوداء، فدخل يوما حماما، فبينا (2) هو في مكان من الحمام، إذ دخل عليه جندي فأزاله عن موضعه وقال: صب على رأسي يا أسود، فصب على رأسه. فدخل من عرفه فصاح: يا جندي هلكت وأهلكت، أتستخدم ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإمام المسلمين (3)؟ فانثنى الجندي يقبل رجليه ويقول: هلا عصيتني إذ أمرتك؟
فقال: إنها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه، ثم أنشأ يقول:
ليس لي ذنب ولا ذنب لمن ... قال لي يا عبد أو يا أسود
إنما الذنب لمن ألبسني ... ظلمة وهو الذي لا يحمد (4)
__________
(1) أبيات أبي نواس في وفيات الأعيان والوافي بالوفيات، ولم أقع عليها في ديوانه ط. صادر.
(2) في (ب): فبينما.
(3) في (ب): تستخدم ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمام المسلمين؟
والخبر في الوافي 22/ 251.
(4) في (أ) و (ج): ظلمة وهو الذي لا يحمد. وما أثبتناه من (ب) لأنه يتفق والمعنى الذي قصده صاحبه. ويروي صاحب الوافي عجز البيت: ظلمة وهو سنى لا يحمد.(1/376)
وكان رضي الله عنه قليل النوم كثير الصوم، وكان جلوسه في الصيف على حصير، وفي الشتاء على جلد شاة.
وفي «تاريخ نيسابور»، أن علي بن موسى الرضا لما دخل نيسابور في السفرة التي خص فيها بفضيلة الشهادة، كان راكبا على بغلة شهباء وعليه قبة مستورة، فشق سوق نيسابور فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما خلائق لا يحصون من طلبة العلم والحديث ورواته، فقالا: أيها السيد ابن السادة الكرام، بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين ألا أريتنا وجهك المبارك الميمون ورويت لنا حديثا عن آبائك عن جدك؟
فاستوقف البغلة وكشف المظلة وأقر العيون بطلعته المباركة، فكانت له ذؤابتان مدليتان على عاتقه والناس ما بين صارخ وباك، ومقبل لحافر بغلته، وعلا الضجيج فصاحت الأئمة والعلماء: معاشر الناس، أنصتوا. وكان المستملي أبو زرعة ومحمد بن أسلم فقال علي الرضا: حدثني أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين عن أبيه / الحسين شهيد كربلاء عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال:
حدثني أخي وحبيبي وقرة عيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «حدثني جبريل عليه السلام قال: سمعت رب العزة يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي» ثم أرخى الستر على القبة وسار (1).
قال: فعد أهل المحابر والدوي (2) الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفا. قال القشيري: اتصل هذا الحديث بهذا السند ببعض أمراء السامانية، فكتبه بالذهب، وأوصى أن يدفن معه في قبره (3).
__________
(1) الخبر في حلية الأولياء 3/ 192، في ترجمة محمد الباقر.
(2) في (ب): فعدّ أهل المحابر والدوي بسقوط لفظ (قال).
(3) الخبر عن الأمير الساماني ساقط من (ب).(1/377)
رؤي بعد موته فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بتلفظي بلا إله إلا الله وتصديقي بأن محمدا رسول الله.
وكانت وفاة علي بن موسى الرضا بطوس من خراسان في قرية يقال لها سناباد (1)، في آخر صفر سنة ثلاثة ومايتين، وله من العمر خمس وخمسون سنة، رحمه الله (2)
__________
(1) في (أ) و (ب): اسنباذ، وما أثبتناه يتفق وما أورده ياقوت الحموي 3/ 259 (سناباذ).
(2) في (ب): رحمة الله تعالى عليه.(1/378)
الفصل الثامن في ذكر محمد الجواد بن علي الرضا [رضي الله عنه] (1)
ولد بالمدينة (2)، تاسع رمضان سنة خمس وتسعين وماية.
وأمه أم ولد، وكنيته أبو جعفر، ولقبه الجواد.
وكان أبيض [اللون] (3)، معتدل القامة.
نقش خاتمه «نعم القادر الله» (4).
وأما مناقبه فما امتدت أوقاتها ولا تأخر ميقاتها، بل قضت عليه الأقدار الإلهية بقلة بقائه في الدنيا، فقل مقامه، وعاجله حمامه، ولم تطل أيامه. غير أن الله عز وجل، خصه بمنقبة شريفة وآية منيفة. وهي أن المأمون لما قدم بغداد وخرج يوما في موكبه متصيدا فمر بصبيان يلعبون وفيهم الجواد، رضي الله عنه، ففر الصبيان هيبة للمأمون إلا الجواد رضي الله عنه، وعمره إذ ذاك تسع سنين (5)، فلما رآه المأمون قال له: ألا فررت مع الصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك، والظن
__________
(1) في (ب): في ذكر من ظهرت فضائله وكرامته من ليلة الميلاد، الإمام محمد بن علي الجواد. وفي (ج): في ذكر من ظهرت كراماته ليلة الميلاد الإمام محمد بن علي الجواد، رضي الله عنه.
(2) تاريخ بغداد 3/ 54، ووفيات الأعيان 1/ 570، والوافي بالوفيات 4/ 105، والإرشاد 327316.
(3) ساقطة من (أ).
(4) في (ب): القدرة لله.
(5) في (ب): وفيهم الجواد إذ ذاك، بسقوط ما بينها.(1/379)
بك حسن، إنك لا تضر من لا ذنب له. فأعجبه كلامه وترحم على أبيه ومرّ وخلاه.
فلما بعد عن العمارة، أرسل بازا على دراجة (1)، فغاب الباز ساعة في الجوّ، وعاد وفي منقاره سمكة صغيرة، وفيها بقية روح، فعجب من / ذلك، ورجع من الصيد فمر بالصبيان الذين فيهم الجواد. فلما دنا من الجواد قال (2):
يا محمد، ما في يدي؟ فألهمه الله تعالى أن قال: إن الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكا صغارا، يصيدها بزاة الملوك والخلفاء، تختبر بها سلالة (3) أهل بيت المصطفى. فعجب المأمون منه، وأطال النظر إليه، وعزم أن يزوجه بنته أم الفضل (4)، فعارضه العباسيون خوفا أن يؤول الأمر إليه، فقال المأمون: إن شككتم في فضله فجربوه وناظروه. فأجمعوا أن يكون (5) المناظر له والسائل يحيى بن أكثم، فسأله مسائل أعدها له، فأجاب أحسن جواب، وأبان عن علم كثير وفضل غزير.
فقال له المأمون: أحب أن تسأله كما سألك، ولو مسألة واحدة.
فقال يحيى: يسأل، فإن حضرني الجواب، وإلا استفدت منه الصواب.
فقال له: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة في أول النهار بشهوة، فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما أغربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل العشاء حلت له، فلما انتصف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، فبماذا حلت له وبماذا حرمت عليه؟
فقال يحيى: لا أدري!
__________
(1) في (ب): فلما بعد عن العمار، أرسل بازا على الدراجة.
(2) في (ب): فلما دنا منه قال:
(3) في (ب): يختبر به لسلالة أصل بيت المصطفى.
(4) في (ب) و (ج): ابنته أم الفضل.
(5) في (ب): فأجمعوا على أن يكون.(1/380)
فقال أبو جعفر: هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار بشهوة وذلك حرام عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء كفرّ عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه فلما كان الفجر راجعها فحلت له.
فأقبل المأمون عليهم وقال: أعذرتموني؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى الجواد (1) وزوجه بنته (2)، وفرق المأمون فيهم البدر والجوائز (3) على قدر طبقاتهم. ولم يزل الجواد عنده مكرما إلى أن توجه بزوجته / أم الفضل إلى المدينة الشريفة.
حكي أنه لما أراد التوجه إلى المدينة المنورة صلّى في مسجد عند باب الكوفة، وفي صحن المسجد شجرة نبق، وكان يتوضأ في أصلها، فحملت النبقة صبيحة اليوم كرامة له.
قبض رضي الله عنه (4) ببغداد، لأن المعتصم استقدمه مع زوجته أم الفضل بنت المأمون، ودفن في مقابر قريش في ظهر جده موسى الكاظم [رضي الله عنهما] (5).
__________
(1) في (ب): فالتفت الجواد إلى المأمون.
(2) في (ب) و (ج): ابنته.
(3) في (ب): وفرق الدر.
(4) في (ب): وقبض رضي الله عنه.
(5) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/381)
الفصل التاسع في ذكر أبي الحسن علي بن محمد الهادي رضي الله عنه (1)
ولد بالمدينة (2)، وأمه أم ولد، وكنيته أبو الحسن. ولقبه الهادي والمتوكل. وكان أسمر.
نقش خاتمه: «الله ربي هو عصمتي من خلقه».
وأما مناقبه فنفيسة وأوصافه شريفة (3).
حكي أنه قصده أعرابي فقال: أنا من أعراب الكوفة المتمسكين بولاء جدك علي بن أبي طالب، وقد ركبني دين فادح، أثقلني حمله، ولم يكن لوفائه سواك. قال: كم هو؟ قال: نحو عشرة آلاف درهم. قال: أفعل.
ثم أنزله عنده (4)، فلما أصبح قال له: يا أخا العرب، أريد منك خصلة لا تعصني فيها، فقال: نعم فأخذ أبو الحسن ورقة وكتب فيها دينا عليه للأعرابي قدر المبلغ المذكور، وقال له: خذها، فإذا رأيتني في المجلس العام (5)، فتقاضاني إياها بالعنف والغلظة. فلما أخذ مجلسه أقبل الأعرابي وتقاضاه،
__________
(1) في (ب) و (ج): في ذكر بيت الحلم والعلم والأيادي، علي بن محمد الهادي، رضي الله عنه.
(2) تاريخ الطبري 9/ 381، مروج الذهب 2/ 365، تاريخ بغداد 12/ 56، الكامل في التاريخ 5/ 339، وفيات الأعيان 3/ 272، الوافي بالوفيات 22/ 72، البداية والنهاية 11/ 14، النجوم الزاهرة 2/ 342، شذرات الذهب 2/ 128، والإرشاد 334327.
(3) في (أ): وأوصافها شريفة.
(4) في (ب): ثم تركه عنده.
(5) في (ب): فإذا رأيتني في الصف في المجلس العام.(1/382)
فاعترف وطلب منه المهلة، فأغلظ عليه الأعرابي، ثم صبره الحاضرون. فنقل المجلس للمتوكل، فأمر له بثلاثين ألف درهم في الحال وجاء الأعرابي فقال له:
خذ هذا المال كله فاقض منه دينك، واستعن بالباقي، فأخذه وانصرف.
وقيل للمتوكل (1): إن في بيته مالا وسلاحا، فأمر المتوكل سعيدا الحاجب أن يهجم عليه ليلا ويأتيه به على الهيئة التي يجده عليها، فوجده قائما يصلي على حصير (2)، وعليه جبة من صوف، ولم ير مالا ولا سلاحا.
وقبض يوم الاثنين [لخمس بقين أو لأربع من رجب] (3)، سنة أربع وخمسين ومايتين، ودفن في داره بسرّ من رأى، وله من العمر أربعون سنة. /
__________
(1) الخبر في الوافي بالوفيات.
(2) في (ب): ويأتيه به على الهيئة التي يكون عليها، فوجده قائم يصلي.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصول الثلاثة، والاستدراك من الوافي بالوفيات.(1/383)
الفصل العاشر في ذكر أبي محمد الحسن الخالص بن علي العسكري رضي الله عنه (1)
ولد بالمدينة (2)، لثمان خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومايتين للهجرة (3). وأمه أم ولد. وكنيته أبو محمد ولقبه الخالص.
وكان بين السمرة والبياض.
ونقش خاتمه: «سبحان من له مقاليد السماوات والأرض».
وأما مناقبه رضي الله عنه، فلم تطل أيامه في الدنيا (4)، ليظهر للناس مآثره ومزاياه.
عن (5) الهيثم بن عدي قال: لما أمر المعتز بحمل أبي محمد الحسن إلى الكوفة كتب إليه: ما هذا الخبر الذي بلغنا فغمنا؟ فكتب: بعد ثلاث يأتيكم الفرج، إن شاء الله تعالى، فقتل المعتز في اليوم الثالث.
وسأله رجل أن يدعو له بالغنى لفقر مسه، فقال: أبشر مات ابن عمك، وخلف ماية ألف درهم، وعن قريب يأتيك، فورد الخبر عن قريب، والمال كما ذكر.
__________
(1) في (ب) و (ج): في ذكر برج الأصل الزكي والمكاشف بالأمر الخفي الإمام الحسن بن علي العسكري رضي الله عنه.
(2) تاريخ بغداد 7/ 366، وفيات الأعيان 2/ 94، الوافي بالوفيات 12/ 112، شذرات الذهب 2/ 141، اللباب في تهذيب الأنساب 2/ 137، المنتظم 5/ 22، والإرشاد 345334.
(3) في (ج): من الهجرة.
(4) في (ب): وأما مناقبه رضي الله عنه نفيسة، ولم تطل أيامه في الدنيا.
(5) في (ب): وعن الهيثم بن عدي.(1/384)
قال أبو هاشم: قحط الناس فأمر المعتمد بالاستسقاء، فما ازدادت السماء إلا صحوا، فخرج بعدهم النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب (1) كلما مد يده إلى السماء هطلت السماء، ففتن به الناس.
فأرسل المعتمد إلى أبي الحسن (2) أن أدرك أمة جدك محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يرتدوا، وأطلقه من الحبس ومن معه.
فلما رفع الراهب يده أمطرت السماء، وكان في ذلك المشهد الخليفة فمن دونه (3)، فلما رفع الراهب يده كما ذكرنا، أمر أبو الحسن بالقبض على يد الراهب، فإذا بين أصابعه عظم آدمي، فأخذه أبو الحسن ولفه ودفنه، وقال للراهب: استسق، فانكشف السماء فعجب الناس (4)، وقال الخليفة: ما هذا يا أبا محمد؟ قال: هذا عظم نبي من أنبياء الله تعالى، ظفر به هذا الراهب، وما كشف عن عظم نبي تحت السماء إلا هطلت (5) بالمطر. فامتحنوا ذلك العظم فكان كما / قال.
توفي (6) رضي الله عنه سنة ستين ومايتين (7) بسر من رأى، وله من العمر ثمان وعشرون سنة.
__________
(1) في (ب): فكان فيهم راهبا.
(2) في (ب): إلى ابن الحسن.
(3) في (ب): وكان في ذلك المشهد الخليفة.
(4) في (ب): فتعجب الناس.
(5) في (ب): وما كشف عن عظم نبي إلّا هطلت السماء بالمطر.
(6) في (ب): وتوفي.
(7) في الأصول: (توفي سنة اثنتين ومايتين) وصوابه ما أثبتناه.(1/385)
الفصل الحادي عشر في ذكر أبي القاسم محمد الحجة الخلف الصالح (1)
وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين (2)، آتاه الله فيها الحكمة، كما أوتيها يحيى عليه السلام صبيا.
وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أفتى الأنف، أجلى الجبهة.
وزعم الشيعة أنه غاب في السرداب ببغداد، والحرس عليه، سنة ست وستين ومائتين، وأنه صاحب السيف، القائم المنتظر قبل قيام الساعة.
وله قبل قيامه غيبتان: إحداهما (3) أطول من الأخرى.
فأما القصرى، فمنذ ولادته إلى انقطاع السفارة بينه وبين الشيعة.
وأما الطولى فهي التي بعد الأولى، وفي آخرها يقوم بالسيف.
وكان من عادة الشيعة ببغداد أن في كل يوم جمعة (4)، يأتون بفرس مشدودة (5)، ويقفون على باب السرداب ويدعون باسم المهدي، واستمروا على هذه الحال إلى أن آل الأمر للسلطان سليمان خان من بني عثمان (6)، واستولى على مدينة بغداد وأبطل تلك العادة.
__________
(1) في (ب): في ذكر ناصر الدين المحمدي، الإمام العام أبي القاسم محمد بن حسن العسكري، رضي الله عنه. وفي (ج): في ذكر الخلف الصالح الإمام أبي القاسم محمد بن حسن العسكري رضي الله عنه.
(2) الوافي بالوفيات 12/ 113 (في ترجمة أبيه)، والإرشاد 346وما بعدها.
(3) في (ب): أحدهما.
(4) في (أ): في كل يوم الجمعة.
(5) في (ب): مشدود.
(6) في (ب): إلى أن آل الأمر إلى السلطان سليمان خان ابن عثمان.(1/386)
واتفق العلماء على أن المهدي هو القائم في آخر الوقت، وقد تعاضدت الأخبار على ظهوره، وتظاهرت الروايات (1) على إشراق نوره، وستسفر ظلمة الأيام والليالي بسفوره، وينجلي برؤيته الظلم انجلاء الصبح عن ديجوره، ويسير عدله في الآفاق، فيكون أضوأ من البدر المنير في مسيره.
وأما السنة التي يقوم فيها القائم، واليوم الذي يبعث فيه، فقد جاءت فيه آثار:
عن أبي نصير، عن أبي عبد الله قال: لا يخرج القائم إلا في وتر من السنين، سنة إحدى أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع، ويقوم في يوم عاشوراء ويظهر يوم السبت العاشر / من المحرم، قائما بين الركن والمقام، وشخص قائم على يده ينادي: البيعة البيعة، فيسير إليه أنصاره من أطراف الأرض يبايعون فيملأ الله تعالى به الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما، ثم يسير من مكة حتى يأتي الكوفة فينزل على نجفها، ثم يفرق الجنود منها إلى جميع الأمصار.
وعن عبد الكريم النخعي قال: قلت لأبي عبد الله: كم يملك القائم؟
قال: سبع سنين، تطول له الأيام والليالي، حتى تكون السنة من سنينه (2) بمقدار عشر سنين، فيكون مدة ملكه سبعين سنة من سنينكم.
__________
(1) في (ب): الرايات.
(2) في (أ): من سنيه.(1/387)
الباب الرابع فيما ورد في فضائل قريش وما للصحابة في العقبى من أرغد عيش (1)
وما ورد من الأخبار في فضل المهاجرين والأنصار (2)
ذكر أبو المعالي في «عيون الأخبار» بسند متصل إلى الزبير رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضل الله قريشا بخصائل منها: أنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قرشي ومنها: أنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون ومنها: أنه نزل فيهم سورة {لِإِيلََافِ قُرَيْشٍ} (3)، ومنها: أن فيهم النبوة والخلافة والحجابة والسقاية».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أتاني جبريل عليه السلام وقال: يا محمد، إن الله عز وجل أمرني أن آتي مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وسهلها وجبلها، فآتيه بخير أهل الدنيا، فأتيتها فوجدت خير أهل الدنيا العرب، ثم أمرني أن آتيه بخير العرب فوجدت خير العرب مضر، ثم أمرني أن آتيه بخير مضر، فوجدت خير مضر قريشا، ثم أمرني أن آتيه بخير قريش، فوجدت خير قريش بني عبد المطلب، فوجدتك خير بني عبد المطلب وما كنت يا محمد في صنف من الناس، إلا كانوا أخيار أهل الدنيا) (4).
وقال صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله عز وجل اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى
__________
(1) هذا الباب ساقط كليا من (ب).
(2) بعدها في (ج): رضي الله عنهم.
(3) سورة قريش، الآية الأولى.
(4) انظر: المنمق في أخبار قريش 21، طبقات ابن سعد 1/ 20.(1/388)
من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم / واصطفاني من بني هاشم (1).
وذكر صاحب «المختصر في أخبار البشر» (2): إن كل من كان من ولد فهر بن مالك فهو قرشي، ومن لم يكن من نسله فليس قرشيا وقيل: سمي قريشا لشدته تشبيها لها بدابة من دواب البحر يقال لها القرش (3) تأكل دواب البحر وتقهرهم. وقيل: إن قصي بن كلاب لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر سموا قريشا، لأنه قرش بني فهر أي جمعهم حول الحرم، فعلى هذا يكون لفظة قريش اسما لبني فهر لا لفهر نفسه ولم يولد لمالك غير فهر المذكور (4).
ويقال: إنما سميت قريشا لتجمعها من تفرقها، لأن التجميع التقريش فلما سكنت قريش مكة ونفت عدوها كان الناس لا يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره ولا يعقدون لواء حرب قوم من غيرهم إلا في داره يعقده لهم بعض ولده (5).
ذكر الشيخ محيي الدين النووي في «التهذيب» في تعريف الصحابي والتابعي: إن الصحابي كل مسلم رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يجالسه ولم يخالطه وقيل: بشرط مجالسته.
وأما التابعي فهو الذي رأى صحابيا، وقيل: إنه الذي جالس صحابيا، كذا في «مجمع الأحباب».
وما ورد من الأخبار المجتمعة في فضائل الائمة الأربعة رضي الله عنهم
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي).
__________
(1) طبقات ابن سعد 1/ 20.
(2) المختصر في أخبار البشر 1/ 107.
(3) في (أ): يقال له القرش.
(4) إلى هنا ينتهي الاقتباس من المختصر في أخبار البشر.
(5) انظر: المنمق 28، والروض الأنف 1/ 115، وذخائر العقبى 9.(1/389)
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (يا علي، إن الله عز وجل أمرني أن اتخذ أبا بكر والدا، وعمر مشيرا وعثمان سندا، وأنت يا علي ظهيرا، فأنتم أربعة قد أخذ الله ميثاقهم في أم الكتاب، أنتم خلائف نبوتي وعقدة ذمتي وحجتي على أمتي، لا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تنافروا).
عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبد الله بن عثمان؟ فيقوم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وأن شيبنه تتوهج نورا، فتأخذه الملائكة بعضده فتزج به في النور زجا، ويرفع له الحجاب الذي بينه وبين الله تعالى فيقول الله جل شأنه: هذا كتابك إن شئت فانظر فيه وإن شئت لا، فقد غفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قم على باب الجنة فأدخل من شئت برحمتي، وامنع من شئت بقدرتي).
(ثم يأتي النداء من قبل الله تعالى: أين الفاروق عمر بن الخطاب؟ فيقول:
لبيك لبيك فتأخذ الملائكة بعضديه فتزج / به في النور زجا ويرفع له الحجاب الذي بينه وبين الله تعالى فيقول الله له: مرحبا بأبي حفص، هذا كتابك إن شئت فانظر فيه وإن شئت لا، قد غفر الله لك (1) ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قم على الميزان فثقّل حسنات من شئت برحمتي، وخفف سيئات من شئت بقدرتي).
(فإذا تقدم الحجاب تلقاه الإسلام في صورة حسنة فيقف بين يدي الله تعالى فيقول: يا رب، هذا عمر بن الخطاب أعزّني في دار الدنيا وقد كنت ذليلا، فأعزه كما أعزني. قال: فيكسوه الله تعالى ويقول لإسرافيل: أخرج بين يدي عمر بن الخطاب سبعين ألف لواء من نور حتى يقف على الميزان).
(ثم يأتي النداء من قبل الله [تعالى] (2) فيقال: أين المقتول ظلما عثمان بن عفان؟ قال: فيثب وأوداجه تشخب دما، اللون لون دم، والريح ريح مسك إذفر، فتأخذ الملائكة بعضديه حتى يقف بين يدي الرحمن فيقول: يا عثمان، مرحبا،
__________
(1) في (ج): قد غفرت لك.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/390)
هذا كتابك إن شئت فانظر فيه، وإن شئت لا، قد غفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. إن أخذت ممن ظلمك أخذت بحق، وإن عفوت عفوت. فيقول عثمان: يا رب، العفو العفو. فيقول الله عز وجل: قف على الصراط فجوّز من شئت برحمتي، وامنع من شئت بقدرتي. ويكسوه الله حلتين خضراوين ويقول: يا عثمان البسهما، فإني خلقتهما لك قبل أن أخلق سماواتي وأرضي بألفي عام).
(ثم يأتي النداء من قبل الله تعالى: أين الرضي علي؟ فيجيب: لبيك لبيك، فتأخذ الملائكة بعضديه فتزج به في النور زجا، ويرفع له الحجاب الذي بينه وبين الله تعالى، فيقول الله: مرحبا بأبي الحسنين، هذا كتابك، فإن (1) شئت فانظر فيه، وإن شئت فلا. قد غفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قم على الحوض فاسق من شئت برحمتي، وامنع من شئت بقدرتي. وترفع إليه العصا التي خلقها الله لآدم عليه السلام فيقال: رد بها / مبغضي أصحاب رسول الله عن الحوض ذات اليمين وذات الشمال).
وما ورد في فضل الطّيّب ميلادهم علي وفاطمة وأولادهم رضي الله عنهم
عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجى بثوب أبيض في بيتي {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (2)، فأمرني أن لا أدع أحدا يدخل عليه فأغفيت، فجاء الحسن والحسين حتى دخلا عليه، ثم جاء علي وفاطمة رضي الله عنهم [أجمعين] (3) حتى دخلا عليه، فجمعهم وأخذ كساء كنا نلبسه أحيانا ونبسطه أحيانا فغطاه عليهم ثم قال:
(ربّ هؤلاء خاصتي وأهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم باصبعه فأدارها عليهم، قلت: يا رسول الله وأنا منهم؟ فسكت، ثم أعدتها ثلاثا، فقال: (إنك على خير).
__________
(1) في (ج): إن شئت.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/391)
عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ بيد الحسن والحسين فقال: «من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي في الجنة».
وفي حديث آخر: «من أحب هؤلاء فقد أحبني ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني».
أنشد الزبير بن بكار لكثّير (1):
طبت بيتا فطاب أهلك أهلا ... أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم ... كلما قام قائم بسلام
وما ورد في فضل العباس المنزه عن الإدناس رضي الله عنه (2)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم من أشد الناس لطفا بالعباس رضي الله عنه.
عن سعيد بن المسيب قال: قحط الناس على عهد عمر رضي الله عنه، فأمر بالمنبر فأخرج إلى مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخرج الناس، فجاء عمر يتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى المنبر وإذا (3) هو بالعباس، عم النبي صلّى الله عليه وسلّم قاعدا عند المنبر، فأخذ بيده / فقال: قم فاصعد يا عم رسول الله، فإنك أحق. فقال
__________
(1) البيتان ليسا في ما حققه احسان عباس من شعره، ط دار الثقافة، بيروت.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
وانظر ترجمة وأخبار الفضل بن العباس في: طبقات ابن سعد 4/ 5، والمحبر 16، 63، وطبقات خليفة 10/ 10، وأنساب الأشراف 3/ 41، والمنمق 38، وأخبار العباس وولده (في مواضع كثيرة) وذيل المذيل 505، 548، وجمهرة ابن حزم 17، والمستدرك 3/ 320، والاستيعاب 3/ 394، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 229، وذخائر العقبى 186، وسير أعلام النبلاء 2/ 78، والبداية والنهاية 7/ 161، والإصابة 2/ 271، والوافي بالوفيات 16/ 629، وشذرات الذهب 1/ 38، والعقد الثمين 5/ 93، والتبيين في أنساب القرشيين 155.
(3) في (ج): فإذا هو بالعباس.(1/392)
العباس: لا والله لا أفعله، إصعد أنت وادع، ونؤمّن فصعد عمر فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك هذا، فاسقنا. فلا والله ما نزل حتى تتابع المطر (1).
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي العباس: يا بني، لما انصرفت من بيعة الشجرة رأيت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما كنت أرى من البشرى والإعظام، فلما كان بعد أيام قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أبشرك يا عم؟ فقلت: بلى بأبي أنت وأمي.
قال: إن الله عز وجل بنى لإبراهيم خليله عليه السلام قصرا من ياقوتة خضراء في الجنة، وبنى لي قصرا من ياقوتة بيضاء، وبنى لك قصرا من ياقوتة حمراء، فأنت بين خليل وحبيب» (2).
ذكر الأصمعي قال: كان للعباس راع يرعى له على مسيرة ثلاثة أيام، فإذا أراد العباس منه شيئا صاح به، فأسمعه حاجته.
عن جعفر بن محمد رضي الله عنهما قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العباس بن عبد المطلب فقال: «يا عم، إذا كان بالغداة فاجلس في البيت حتى آتيك»، فجاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد بنيه في البيت متفرقين فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجتمعوا، فاجتمعوا إلى أبيهم فألحفهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثوب ثم رفع رأسه إلى السماء فقال:
«اللهم هذا عمي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كما سترهم ثوبي هذا، فأمنت اسكفة الباب: آمين آمين» (3).
عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للعباس: «أنت وولدك المنصورون إلى يوم القيامة» (4).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هبط علي الأمين جبريل عليه السلام وعليه قباء أسود وعمامة سوداء في وسطه منطقة من ذهب فقلت
__________
(1) الخبر في المستدرك 3/ 334، وذخائر العقبى 200199.
(2) أنساب الأشراف 3/ 5، وذخائر العقبى 197، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 240.
(3) المستدرك 3/ 326، ذخائر العقبى 195، أنساب الأشراف 3/ 54.
(4) انظر أنساب الأشراف 3/ 4، وذخائر العقبى 205، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 243.(1/393)
له: يا جبريل ما هذه الصورة التي ما رأيتك هبطت عليّ في مثلها؟ قال: هذه صورة الملوك من ولد العباس عمك. قال فقلت: وهم يومئذ على / الحق؟ قال:
نعم، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اغفر لولد العباس حيث كانوا وأينما كانوا».
وفيما (1) ورد في فضل سيد الشهداء حمزة عمّ سيد الأنبياء [رضي الله عنه] (2)
عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (3).
عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: ولد لرجل منا غلام فقلت: يا رسول الله بم نسميه؟ قال: «سموه بأحب الناس إليّ، حمزة بن عبد المطلب» (4).
عن جعفر بن عمرو الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي عازمين الصائفة في زمن معاوية، فمررنا بحمص وفيها وحشي بن حرب الحبشي، فأردنا أن نسأله عن قتله حمزة كيف كان فوافيناه شيخا كبيرا أسود، ورأسه مثل الثغامة، وهو بفناء داره، فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال: أنت عبيد الله بن عدي؟ قال:
نعم. قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية، التي أرضعتك بذي طوى وهي على بعيرها، إلى اليوم، فلما رأيتك عرفتك.
فقلنا: أتيناك نسألك عن حديث قتلك حمزة كيف كان؟
__________
(1) في (ج): وما.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
وترجمته في طبقات ابن سعد 3/ 48وأنساب الأشراف 3/ 282، ونسب قريش 17، 152، 200وجمهرة ابن حزم 17، والاستيعاب 1/ 271، وذخائر العقبى 172، وسير أعلام النبلاء 1/ 171، والوافي بالوفيات 13/ 169، وشذرات الذهب 1/ 10، وتاريخ الخميس 1/ 164، والإصابة 1/ 353، والمستدرك 3/ 191، والعقد الثمين 4/ 227، والتبيين في أنساب القرشيين 144.
(3) المستدرك 3/ 195.
(4) المستدرك 3/ 196.(1/394)
فقال: إني سأحدثكم بما حدثت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. كنت بمكة [عبدا] (1)
لجبير بن مطعم، وكان عمه قتل يوم بدر فقال لي: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت حر. وكانت لي حربة أقذفها قلّ ما أحذفها إلا قتلت. فخرجت مع الناس يوم أحد وإنما حاجتي قتل حمزة، فلما التقى الناس أخذت حربتي وخرجت أنظر حمزة رضي الله عنه، وهو في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهدّ الناس بسيفه هدا، فما ضرب أحدا وأخطأ. فدنا مني فهززت حربتي ودفعتها عليه، فوقعت بين كتفيه حتى خرجت من بين يديه، فتركته حتى مات، ثم قمت إليه فانتزعتها منه، ولم يبق لي حاجة في غيره، وإنما قتلته لأعتق.
فلما قدمنا مكة عتقت وأقمت بها، حتى فتحت مكة، فضاقت عليّ الأرض بما رحبت، فهربت إلى الطائف فقلت: ألحق باليمن أو بالشام. فو الله إني في غم من ذلك إذ قال لي قائل: ويحك إلحق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فو الله / ما يقتل أحدا دخل في دينه، قال: فخرجت فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم أدعه يراني إلا وأنا قائم على رأسه أشهد بشهادته، فلما رآني قال: وحشي؟ قلت: نعم، قال: إجلس فحدثني كيف كان قتلك حمزة؟ فجلست بين يديه، فحدثته كما حدثتكم، ثم قال: (ويحك يا وحشي، غيّب عني وجهك فلا أراك). فغبت عنه حتى توفي [صلّى الله عليه وسلّم] (2). فلما سار المسلمون إلى مسيلمة زمن الصديق خرجت بحربتي تلك حتى إذا امكنتني منه الفرصة دفعت إليه حربتي فوقعت فيه، فوربك أعلم أني قتلته (3).
عن علي كرم الله وجهه في حديث ذكره قال: (إن أفضل الشهداء حمزة رضي الله عنه) (4).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في (أ).
(3) القصة في أنساب الأشراف 3/ 293، وفي ذخائر العقبى.
(4) المستدرك 3/ 192.(1/395)
وما ورد من الأخبار في فضل جعفر الطيار رضي الله عنه (1)
عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلق الناس من أشجار شتى، وخلقت أنا وجعفر بن أبي طالب من شجرة واحدة» (2).
عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إن الله عز وجل اختارني في ثلاثة من أهل بيتي وأنا رابعهم وسيدهم»، قالوا: يا رسول الله سم لنا الثلاثة، قال: «كنت نائما وعلي وحمزة وجعفر بن أبي طالب، جعفر عن يميني وعليّ عن يساري وحمزة عند رجلي، كل واحد منهم مسجى بثوبه، فما نبهني إلا حفيف (3) أجنحة الملائكة فانتبهت فإذا جبريل في ثلاثة أملاك سمعت ملكا يستفهم يقول: يا جبريل من هذا؟
قال: محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وهذا جعفر بن أبي طالب المزين بالجناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء».
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (دخلت الجنة فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة وإذا حمزة متكىء على سرير).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ قال: «يا أسماء، هذا جعفر بن أبي طالب قد مر مع جبريل وميكائيل عليهما السلام فسلّم، فردّي عليه السلام، وقد أخبرني أنه لقي العدو فأصابه ثلاث وسبعون ما بين طعنة وضربة قال: وأخذت اللواء / بيميني فقطعت يميني، ثم أخذت اللواء بيساري فقطعت يساري، فعوضني الله تعالى جناحين أطير بهما في الجنة مع جبريل وميكائيل حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت».
قالت أسماء: هنيئا لجعفر ما آتاه الله عز وجل، ولكن أخاف أن لا يصدقني الناس، وأنه أصيب قبل ذلك اليوم، فأتاه الخبر بعدما أعلم الناس بثلاث أو أربع،
__________
(1) ابن سعد 4/ 34، ومقاتل الطالبيين 6، والإصابة 1/ 337، وحلية الأولياء 1/ 114، والمستدرك 3/ 208، وسير أعلام النبلاء 1/ 150، والإستيعاب 1/ 10، وذخائر العقبى 207، والتبيين في أنساب القرشيين 113، ونسب قريش 39.
(2) المستدرك 3/ 211.
(3) في (ج): خفيق.(1/396)
فلذلك سمي الطيار في الجنة (1).
قتل جعفر وهو ابن خمس وعشرين سنة.
وما صح من الخبر والدليل في فضل من أحب أولاد عقيل رضي الله عنهم (2)
عن ابن عقيل عن أبيه (3) عقيل بن أبي طالب قال: نازعت عليّا وجعفر بن أبي طالب، بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء فقلت: والله ما أنتما بأحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مني، إن قرابتنا لواحدة، وإن أبانا وأمنا لواحد كذلك يا رسول الله (4) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أحب أسامة بن زيد». فقلت: إني لست عن أسامة أسألك، وإنما أسألك عن نفسي. فقال: يا عقيل والله، إني لأحبك لخلتين: لقرابتك ولحب أبي طالب أبيك، وكان أحبهم إلى أبي طالب (5)، وأما أنت يا جعفر، إن خلقك يشبه خلقي، وأما أنت يا علي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».
وفي الخبر، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، فكان أبو طالب في عيال كثيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمه العباس، وكان من أيسر بني هاشم: انطلق بنا إلى أخيك أبي طالب نخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه.
قال: فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك، حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل عليّ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بعثه الله تعالى نبيا فآمن واتبعه وصدقه، ولم
__________
(1) المستدرك 3/ 210، 212.
(2) أخبار عقيل في طبقات ابن سعد 3/ 42، المستدرك 3/ 575وذخائر العقبى 3/ 575.
(3) في (أ): عن أبيه عن جده.
(4) في (أ): برسول الله.
(5) الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 44، ذخائر العقبى 3/ 44.(1/397)
يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه (1).
وما ورد في فضل / العشرة المبايعين تحت الشجرة رضي الله عنهم أجمعين
عن أبي صالح في قوله تعالى: {إِخْوََاناً عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ} (2)، قال هم عشرة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم.
عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار».
وما ظهر واستفاض من فضل طلحة الفياض [رضي الله عنه] (3)
إن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه نحر جزورا وحفر بئرا يوم ذي قرد (4)، فأطعم الناس وسقاهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طلحة الفياض».
وعنه قال: لما كان يوم أحد، حملت النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى صيرته على الصخرة،
__________
(1) الخبر في المستدرك 3/ 576.
(2) سورة الحجر، الآية: 47.
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
وأخبار طلحة في طبقات ابن سعد 3/ 214، والمحبر 355، ومروج الذهب 1/ 69، وأنساب الأشراف 1/ 438، وحلية الأولياء 1/ 87، والإستيعاب 2/ 219، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 74، وسير أعلام النبلاء 1/ 23، والوافي بالوفيات 16/ 473، وغاية النهاية في طبقات القراء 1/ 342، والإصابة 2/ 229، وشذرات الذهب 1/ 42، والعقد الثمين 5/ 68، ونهاية الأرب 20/ 85، والاعلام 3/ 229.
(4) ذي قرد، وردت في الأصل (ذي قود)، وهو على نحو يوم من المدينة مما يلي غطفان، ويقال: هو بين المدينة وخيبر على يومين من المدينة.
ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في ذي قرد، وهو في طريقه لغزوة الغابة، ويقول الواقدي في المغازي 2/ 547541: ان الذي أطعم الناس كان سعد بن عبادة، وسقاهم طلحة.(1/398)
فاستتر بها من المشركين فأومأ بيده إلى وراء ظهره [فقال] (1): «هذا جبريل يخبرني أنه لا يراك يوم القيامة في هول إلا أنقذك منه» (2).
عن النوال بن سبرة الهلالي قال: قلنا لعلي بن أبي طالب: حدثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} (3)، طلحة بن عبيد الله منهم لا حساب عليه في المستقبل.
عن زياد بن جرير الأسدي قال: قدمت على طلحة بن عبيد الله بثمن غلة ضيعة كانت له بالعراق وكان ثلاثماية ألف، فقبض المال، فلما أصبحت دعاني ودعا بالمال حتى نثره من أوعيته فجعله صررا بين يديه، فما زال يفرقه لمن حوله ولجيرانه من الفقراء، حتى فضلت فضلة أعطاها لسعدى بنت عوف، حتى لم يبق منه شيء، فرأيته في ذلك اليوم وهو يجمع بين طرفي إزاره ويخيطه بيده.
وما ورد في حواري خير الأنام الزبير بن العوام [رضي الله عنه] (4)
يكنى أبا عبد الله أسلم وهو ابن [ثماني] (5) سنين. استشهد بناحية البصرة وهو ابن بضع وخمسين سنة.
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يأتيني بخبر القوم؟» يوم الأحزاب قال: فقال الزبير: أنا. ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «من يأتيني بخبر القوم؟» فقال
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) الخبر في الإستيعاب.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 23.
(4) في (أ): (عبد الله بن الزبير بن العوام)، وما أثبتناه من (ج).
وأخباره في طبقات ابن سعد 3/ 100، والمعارف 96، وحلية الأولياء 1/ 89، وتهذيب تاريخ دمشق 5/ 355، والإستيعاب 1/ 580، والإصابة 1/ 545، والوافي بالوفيات 14/ 180، ونهاية الأرب 20/ 98، والعقد الثمين 4/ 429، والإعلام 3/ 43، وأسماء المغتالين 158، والتبيين في أنساب القرشيين 255، ونسب قريش 235، وتاريخ الخميس 1/ 172.
(5) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/399)
الزبير: أنا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل نبي حواريّ [وإن] (1) حواريّ الزبير».
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو تركت تركة أو عهدت إلى أحد، لعهدت / إلى الزبير، إنه ركن من أركان الدين».
قال الزبير بن العوام: ما مني موضع إلا وقد جرح مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
عن عبد الله بن الزبير قال: كنت صغيرا (2) يوم الأحزاب [وجعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء] (3)، فنظرت، فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة [مرتين أو ثلاثا فلما رجعت قلت: يا أبت، رأيتك تختلف قال: أو هل رأيتني يا بنيّ؟ قلت: نعم] (4)، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من يأت [بني] (5) قريظة فيأتني بخبرهم؟» فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبويه فقال: «فداك أبي وأمي». اتفق على صحته الشيخان في كتابيهما (6).
وما ورد في فضل الآمن يوم الخوف عبد الرحمن بن عوف [رضي الله عنه] (7)
يكنى أبا محمد 8.
ولد بعد الفيل بعشر سنين، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع وله خمس وسبعون سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
والخبر في صحيح مسلم 4/ 1879.
(2) في (ج): (كنت يوم الأحزاب) بسقوط لفظ (صغيرا).
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ). وفي (ج): وجعلت أنا وعمرو بن أبي سلمة في النساء، وضبط الاسم من صحيح مسلم.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ)، ووضع عوضا عنها: (فسألته).
(5) ما بين الحاصرتين من (ج).
(6) الخبر في صحيح مسلم 4/ 1880.
(7) ما بين الحاصرتين من (ج).
أخباره في طبقات ابن سعد 2/ 340، و 3/ 124، والإستيعاب 3/ 393، والإصابة(1/400)
عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي بالناس، فأراد أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن امكث مكانك، قال: فصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم بصلاة عبد الرحمن بن عوف (1).
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: شكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله: «يا خالد، لا تؤذ رجلا من أهل بدر، لو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تبلغ عمله».
عن الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قال أغمي على عبد الرحمن في وجعه فظنوا أنه قد فاضت نفسه، ثم أفاق فقال: إنه أتاني ملكان فظان غليظان فقالا لي: انطلق بنا نحاكمك إلى العزيز الأمين. قال: فلقيهما ملك فقال: إلى أين تذهبان به؟ فقالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين، قال: خلّيا عنه، فإنه ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه (2).
وما ورد في فضل سيّد الرماة بالإخلاص سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (3)
يكنى أبا إسحاق.
مات بالمدينة في ولاية معاوية سنة خمس وخمسين وهو ابن ثلاث وثمانين سنة.
أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة. وكان آخر المهاجرين.
__________
3/ 416، ونهاية الأرب 19/ 450، والعقد الثمين 5/ 396، والأعلام 3/ 321، والتبيين في أنساب القرشيين 295، ونسب قريش 265، وحلية الأولياء 1/ 98، وتاريخ الخميس 2/ 257.
(1) الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 9128.
(2) طبقات ابن سعد 3/ 135134، الإصابة 3/ 416.
(3) أخباره في طبقات ابن سعد 3/ 137، وحلية الأولياء 1/ 92، والاستيعاب 2/ 18، ونهاية الأرب 20/ 231، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 93، وسير أعلام النبلاء 3/ 113، الإصابة 2/ 33، والوافي بالوفيات 16/ 144، والعقد الثمين 4/ 537، والأعلام 87، والتبيين في أنساب القرشيين 287.(1/401)
وكان أول من رمى سهما في سبيل الله إلى المشركين (1).
وكان مجاب الدعوة لما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم استجب لسعد / إذا دعاك».
عن عبد الرحمن بن قتيبة عن جده قال: دعا سعد بن أبي وقاص فقال: يا رب لي بنون صغار فأخر عني الموت حتى يبلغوا، فأخر الله عنه الموت عشرين سنة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة سهر قال:
(ليت رجلا صالحا يحرسنا الليلة. فبينما نحن كذلك، إذ سمعت صوتا لسلاح فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن أبي وقاص، جئت لأحرسك الليلة. فجلس ونام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعت غطيطه) (2).
وما ورد في فضل السالم من الكيد سعيد بن زيد رضي الله عنه (3)
يكنى أبا الأعور.
أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
مات سنة احدى وخمسين، وغسله سعد بن أبي وقاص، وصلّى عليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ودفن بالمدينة وكان سنّه بضعا وسبعين سنة، وهو أحد (4) العشرة المبشرة.
__________
(1) أوائل العسكري 1/ 310.
(2) صحيح مسلم 4/ 1875.
(3) أخباره في طبقات ابن سعد 3/ 379، وحلية الأولياء 1/ 95، الاستيعاب 2/ 2، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 127، والإصابة 2/ 46، والوافي بالوفيات 16، 220، والعقد الثمين 4/ 559، والأعلام 3/ 94، والمستدرك 3/ 437، ونهاية الأرب 20/ 235، والتبيين في أنساب القرشيين 424، ونسب قريش 365، وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 6040) 221، وتاريخ اليعقوبي 2/ 160، وجمهرة ابن حزم 151، 170، وسير أعلام النبلاء 1/ 124.
(4) في (أ): إحدى العشرة.(1/402)
روي أنه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم (1)، فقال: يا رسول الله، إن زيدا كان كما رأيت أو كما بلغك فاستغفر له. قال: نعم، واستغفر له. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده» (2).
وما ورد في فضل الحسن العزيمة والاقتراح أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه (3)
مات بالشام في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقبر (4) ببيسان وله قبر يزار ويتبرك به. توفي وهو ابن ثمان وخمسين سنة. صلّى عليه معاذ بن جبل.
أنزل الله فيه {لََا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} (5)، الآية. وهو الذي قتل أباه مشركا بيده يوم بدر.
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة» (6).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه يحدث عن يوم أحد فقال: انتهينا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كسرت رباعيته وشج وجهه، وقد دخل في جبينه حلقتان من حلق المغفر، فذهبت لأنزع ذلك من وجهه فقال أبو عبيدة:
أقسمت عليك بحقي عليك لما تركتني، فتركته فكره أن يتناولها بيده فيؤذي / النبي صلّى الله عليه وسلّم، فألزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع
__________
(1) في (أ): عليه السلام.
(2) المستدرك 3/ 438.
(3) أخباره في طبقات ابن سعد 3/ 409، وتاريخ خليفة 247، وجمهرة ابن حزم 177، والمستدرك 3/ 262، وحلية الأولياء 1/ 100، والاستيعاب 3/ 2، وسير أعلام النبلاء 1/ 5، وشذرات الذهب 1/ 29، والإصابة 2/ 252، والعقد الثمين 5/ 84، والأعلام 3/ 252.
(4) في (ج): وقبره ببيسان.
(5) سورة المجادلة، الآية: 22.
(6) المستدرك 3/ 267، الإصابة 2/ 252.(1/403)
الحلقة، وذهبت لأصنع كما صنع؟؟؟ فقال: أقسمت بحقي عليك لما تركتني (1) قال:
ففعل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة (2). وكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما.
وما ورد في فضل المقرّب يوم الورود عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3)
عن شقيق بن مسلمة قال: كنت جالسا مع حذيفة فمرّ عبد الله بن مسعود فقال حذيفة: لقد علم المجتهدون، لقد علم المحققون من أصحاب [محمد صلّى الله عليه وسلّم] (4)، أن عبد الله أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة.
عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله بن مسعود: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته فلقيته بماء فقال: من أمرك بهذا؟ فقلت: ما أمرني أحد. فقال عليه السلام: «أبشر بالجنة».
عن عبد الله: أنه كان في المسجد يدعو فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعو فقال رسول الله (5): «سل تعط»، وهو يقول: اللهم أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، ومرافقة النبي صلّى الله عليه وسلّم في أعلى غرف جنة الخلد (6).
__________
(1) في (ج): إلّا ما تركتني.
(2) الخبر في المستدرك.
(3) أخباره في طبقات ابن سعد 2/ 342، 3/ 150، أخبار القضاة 2/ 188، حلية الأولياء 1/ 124، المستدرك 3/ 312، سير أعلام النبلاء 1/ 331، الاستيعاب 1/ 316، البداية والنهاية 7/ 162، غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 458، شذرات الذهب 1/ 38، الإصابة 2/ 368، الوافي بالوفيات 17/ 604، العقد الثمين 5/ 283، الأعلام 4/ 137.
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).
(5) في (ج): فقال صلّى الله عليه وسلّم.
(6) الخبر في المستدرك 3/ 317.(1/404)
وما ورد في فضل الشاهد بصدق الإعلام عبد الله بن سلام [رضي الله عنه] (1)
وكان اسمه قبل إسلامه اشماويل.
عن عامر بن سعد عن أبيه قال: ما سمعت أحدا يقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه من أهل الجنة» إلا عبد الله بن سلام (2).
وكان سبب إسلامه ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهود خيبر وأرسل لهم كتابا، وكان كبيرهم وعالمهم عبد الله بن سلام، أتوا له واستشاروه فقال لهم: قد علمتم أن في التوراة علامات تعرفونها بشّر به موسى بن عمران، وأن محمدا رجل أمي لا يكتب ولا يقرأ، فأنا استخرج من التوراة ألفا وأربعماية مسألة وأربع مسائل من غوامضها، وأتوجه بها إليه، فإن عرفها وأجاب عنها، فهو الذي، بشر به موسى بن عمران، فنؤمن به. فأجابوه إلى الذي قال، فاستخرج المسائل من التوراة وتوجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم (3)، فلما اجتمع به قال: أنا رسول اليهود جئت / لأسألك عن مسائل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قل ما بدا لك من المسائل يا ابن سلام، فقد أخبرني بها جبريل، وإن شئت أخبرتك بها قبل أن تتفوّه بالكلام، فسكت. فلما أجابه عن جميع ما سأله قال: صدقت يا رسول الله ونهض قائما على قدميه وقال: أمدد يدك الكريمة لتشملني بركتها، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك يا محمد رسول الله. فكبر الصحابة عند ذلك، وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله، وكان من أكابر الصحابة.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
وأخباره في طبقات ابن سعد 2/ 352، والاستيعاب 2/ 382، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 443، وسير أعلام النبلاء 2/ 296، والإصابة 2/ 320، والوافي بالوفيات 17/ 198، وحلية الأولياء 1/ 124، والمستدرك 3/ 413، والأعلام 4/ 90.
(2) صحيح مسلم 4/ 1930.
(3) في (أ): عليه السلام.(1/405)
روي أن الناس لما حاصروا عثمان يوم الدار جاء عبد الله بن سلام قال:
أنشدكم الله هل فيكم من سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين نزلت هذه الآية {وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (1)، أنها نزلت فيّ؟ قالوا: اللهم نعم، سمعنا أنها نزلت فيك قال: وأشهدكم بالله هل فيكم من سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتََابِ} (2)، أنها نزلت فيّ؟ قالوا: اللهم نعم، سمعنا أو بلغنا.
قال: فإني أشهد أني قرأت الكتاب الأول والكتاب المنزل على نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، فقرأت في الكتاب الأول: محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن أبا بكر خير الناس بعده وأن عمر خير الناس بعد أبي بكر، وأن عثمان خير الناس بعد عمر، ذي النورين، فلا تقتلوه، والله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له.
وما ورد في فضل المستبشر بموته أهل السماء سعد بن معاذ المحكم في الأعداء رضي الله عنه (3)
عن قتادة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نام حتى أمسى، فلما استيقظ جاءه جبريل فقال له: رجل من أمتك الليلة استبشر بموته أهل السماء، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا أعلمه (4) إلا أن سعد بن معاذ أمسى دنفا»، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (5) «ما فعل سعد؟» فقالوا: يا رسول الله قد قبض، وجاءه قومه فاحتملوه إلى ديارهم قال: فصلّى بالناس صلاة الصبح، ثم خرج وخرج الناس معه، فحضره رسول الله وهو يغسل فجلس صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وجمع نفسه، فسئل عن ذلك فقال: «دخل ملك فلم يجد مجلسا فأوسعت له» (6).
__________
(1) سورة الأحقاف، الآية: 10.
(2) سورة الرعد، الآية: 43.
(3) مأخوذ من طبقات ابن سعد 3/ 420، وانظر أخباره في الاستيعاب 2/ 27، والإصابة 2/ 33، والوافي بالوفيات 15/ 152، وتاريخ الإسلام (المغازي): 319.
(4) في (أ): لأعلمه.
(5) في (أ): عليه السلام.
(6) الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 423، 430.(1/406)
عن عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم مات سعد: «لقد نزل سبعون ألف / ملك شهدوا جنازة سعد ما وطأوا الأرض قبل ذلك اليوم (1)».
عن محمد بن شرحبيل: أن رجلا أخذ من تراب سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم دفن ففتحها بعد ذلك فإذا هي مسك (2).
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اهتز العرش بموت سعد بن معاذ وفتحت له أبواب السماء» (3).
عن أبي سعيد الخدري قال: إن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد، أرسل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء على حمار فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيّدكم»، أو «إلى خيركم».
وما ورد في فضل المهاجرين الذين أيد الله بهم الدين [رضي الله عنهم] (4)
عن صهيب عن أبي بريدة عن أبيه قال: انكشف الناس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلته الشهباء، التي أهداها له المقوقس، وزيد آخذ بركاب بغلته، فقال النبي لزيد: ويحك، ادع الناس. فقال زيد: يا أيها الناس (5)، هذا رسول الله يدعوكم. فلم يأت أحد فقال: ويحك ادع الناس. فنادى: يا معاشر الأنصار هذا رسول الله. فلم يأت أحد. فقال: ويحك، خص الأوس والخزرج. فقال زيد: يا معشر الأوس والخزرج، فلم يأت أحد. فقال: ويحك، ناد المهاجرين، فإن لله في أعناقهم بيعة. فقال: يا معشر المهاجرين، هذا رسول الله يدعوكم. قال بريدة: فأقبل منهم طائفة قد ألقوا الجفون أو كسروها حتى أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم مشوا قدما ففتح الله عليهم.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3/ 429، الوافي 15/ 153.
(2) طبقات ابن سعد 3/ 431.
(3) طبقات ابن سعد 3/ 434، صحيح مسلم 4/ 1915، الوافي 15/ 153.
(4) زيادة من (ج).
(5) في (ج): يا معشر الناس.(1/407)
عن زيد بن سلام أخبره أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء حبر من اليهود وذكر حديثا اختصرته أنا فقال: جئتك أسألك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سل ما [بدا لك]» (1)، فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في الظلمة دون الحشر» قال: فمن أول من يجوزه؟
فقال: «فقراء المهاجرين». قال: صدقت، ثم ذكر حديثا طويلا.
عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «للمهاجرين منابر من نور يجلسون / عليها يوم القيامة قد أمنوا من الفزع».
وما ورد من الأخبار في فضائل الأنصار [رضي الله عنه] (2).
عن الحارث بن زياد صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من أحب الأنصار أحبه الله تعالى حين يلقاه، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله تعالى يوم القيامة).
عن البراء بن عازب يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم).
وعن أنس بن مالك، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار.
وما ورد في فضل جماعة من أعلام الدين الذين اختصهم بالشرف خاتم النبيين [رضي الله عنهم] (3)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأقضاهم عليّ،
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من (أ).
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).(1/408)
وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وإن لكل أمة أمينا (1)، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
عن النوال بن سبرة الهلالي قال: وافقنا من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ذات يوم طيب نفس وفرح فقلنا: يا أمير المؤمنين حدثنا عن طلحة بن عبيد الله، قال: ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} (2) طلحة بن عبيد الله منهم، لا حساب عليه في المستقبل.
قلنا: يا أمير المؤمنين حدثنا عن الزبير بن العوام قال: ذاك امرؤ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لكل نبي حواري، وحواري الزبير».
قلت: فحدثنا عن حذيفة، قال: ذاك امرؤ عرف المعضلات والمفصلات، وعلم أسماء المنافقين، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالما.
قلنا: فحدثنا عن أبي ذر قال: ذاك امرؤ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، طلب شيئا من الزهد عجز عنه الناس».
قلت: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن سلمان الفارسي، قال: ذاك امرؤ منا أهل البيت / أدرك علم الأولين وعلم الآخرين، من لكم بلقمان الحكيم؟
قلت: فحدثنا عن ابن مسعود، قال: ذاك امرؤ قرأ القرآن فعلم حلاله وحرامه وعمل بما فيه.
قلت: فحدثنا عن عمّار بن ياسر، قال: ذاك رجل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عمار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه بلحمه ودمه، يدور مع الحق حيث ما دار، وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا».
رضي الله عنهم.
عن عبادة بن الصامت قال: خلوت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أي أصحابك
__________
(1) الخبر أورده السيوطي في تاريخ الخلفاء 53.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 23.(1/409)
أحب إليك حتى أحب من تحب؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اكتم عليّ يا عبادة حياتي. فقلت:
نعم، قال: أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ»، ثم سكت.
قال: قلت: ثم من يا رسول الله؟ قال: «من عسى أن يكون إلا الزبير وطلحة [وسعدا وسعيدا] (1)، وأبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة، وأبا أيوب، وأنت يا عبادة، وأبي بن كعب، وأبا الدرداء، وابن مسعود، وابن عوف (2)»؟
ثم هؤلاء الرهط ما عسى يقولون في سعد بن أبي وقاص؟ سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما وقد أوتر قوسه أربع عشرة مرة يرفعها ويقول: (إرم فداك أبي وأمي)، ما عسى يقولون في عبد الرحمن بن عوف؟ رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في منزل فاطمة رضي الله عنها، والحسن والحسين يبكيان جوعا ويتضرعان، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من يصلنا بشيء؟» فطلع عبد الرحمن بن عوف بصحفة (3) فيها حيسة ورغيفان، بينهما إهالة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كفاك الله أمر دنياك، فأما آخرتك فأنا لها ضامن».
ما ورد في عمار عن النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم (4)
إنه قال لعمار بن ياسر: (تقتلك الفئة الباغية) (5).
واستسقى يوم صفين، فأتى بقعب فيه لبن فلما نظر إليه كبّر ثم قال: أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن آخر رزقي من الدنيا ضياح لبن في هذا القعب. ثم حمل فلم يثن حتى قتل (6).
__________
(1) في (أ): وسعد وأبا عبيدة.
(2) بعدها في (أ): وابن عفان.
(3) في (أ): بصفيحة.
(4) في (ج): (وبقية ما ورد في عمار بن ياسر عن النبي المختار).
وأخباره في طبقات ابن سعد 3/ 246و 6/ 14، والمحبر 289، 295، وأنساب الأشراف 1/ 156و 4/ 537، وتاريخ الطبري 5/ 38، وحلية الأولياء 1/ 139، والإستيعاب 2/ 476، وتاريخ بغداد 1/ 150، والكامل في التاريخ 3/ 157، وسير أعلام النبلاء 1/ 406، والعقد الثمين 6/ 279، وشذرات الذهب 1/ 45، والوافي بالوفيات 22/ 376، والإصابة 2/ 512، والمستدرك 3/ 383.
(5) المستدرك 3/ 7386.
(6) الخبر في أنساب الأشراف 1/ 172، والإستيعاب 2/ 480.(1/410)
وما ورد في جابر بن عبد الله [رضي الله عنه] (1)
قال جابر: لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مهتم فقال: «ما لي أراك / منكسرا؟» قلت: استشهد أبي يوم أحد وترك عيالا ودينا. فقال: «ألا أبشرك بما لقي الله به أبوك؟» قلت: بلى.
قال ما كلّم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأنه أحياه فكلمه كفاحا فقال:
يا عبدي، تمنّ علي أعطك، فقال: يا رب تحييني فأقتل ثانيا. قال سبحانه: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون فنزلت {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ} (2).
وما ورد في فضل الصحابة أولي الفضل والإنابة رضوان الله عليهم أجمعين
عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] (3)، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي [والذي نفسي بيده] (4) لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه».
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني».
عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه (5)، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
وأخباره في المحبر 413، 415، والاستيعاب 1/ 221، وسير أعلام النبلاء 3/ 126، والاصابة 1/ 213، والنجوم الزاهرة 1/ 198، وتهذيب تاريخ دمشق 3/ 386، وشذرات الذهب 1/ 84، والوافي بالوفيات 11/ 27، والاعلام 2/ 104.
(2) سورة آل عمران، الآية: 169.
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ج). وفي (أ): فلو أن أحدكم انفق
(5) في (ج): عن أبي هريرة.(1/411)
أبغضهم فبغضبي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه».
ذكر أهل الصّفّة (1)
وهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا أناسا فقراء لا منازل لهم ولا عشائر، ينامون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، ويظلون فيه، وكانت صفة المسجد مثواهم، فنسبوا إليها.
وكان إذا تعشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو منهم طائفة يتعشون معه، ويفرق منهم طائفة على أصحابه ليعشوهم.
وكان من مشاهيرهم: أبو هريرة وواثلة بن الأسقع، وأبو ذر الغفاري.
[عودة إلى فضل الصحابة]
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة».
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر» (2).
وقال (3) صلّى الله عليه وسلّم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
وقد ورد أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين»، أو كلمة نحوها قال: فكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: (اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
__________
(1) انظر حلية الأولياء 1/ 347337، في أهل الصفة، ويلي ذلك أخبار لبعضهم.
(2) في (ج): فإني أحب أن أخرج إليكم.
(3) في (ج): قال صلّى الله عليه وسلّم.(1/412)
تم المجلد الأول ويليه المجلد الثاني وأوله: الباب الخامس في ذكر خلفاء بني أمية ومن وصف منهم بأخلاق سنية(1/413)
تم المجلد الأول ويليه المجلد الثاني وأوله: الباب الخامس في ذكر خلفاء بني أمية ومن وصف منهم بأخلاق سنية
الكشاف العام
1 - كشاف الآيات الكريمة.
2 - كشاف الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
3 - كشاف الأعلام.
4 - كشاف الأقوام والقبائل.
5 - كشاف الأماكن والمواضع.
6 - كشاف الأيام والمغازي.
7 - كشاف الشعر.
8 - كشاف الكتب الواردة في المتن.
9 - كشاف المصادر.
10 - كشاف المحتويات.(1/414)
كشاف الآيات الكريمة
الآية: السورة: رقم الآية: الصفحة {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}: الطلاق: 12: 22
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لََا قِبَلَ لَهُمْ بِهََا}: النمل: 37: 181
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}: يونس: 91: 133
{آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ}: يونس: 90: 133132
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً}: طه: 12: 126
{اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ}: طه: 2624: 127
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هََذََا فَأَلْقُوهُ عَلى ََ وَجْهِ أَبِي}: يوسف: 93: 106
{أَلْقِهََا يََا مُوسى ََ فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ}: طه: 2019: 126
{اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}: القمر: 1: 27
{إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ}: يوسف: 26: 104
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}: هود: 80: 84
{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ}: يوسف: 28: 104
{إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلََا أَنْ تُفَنِّدُونِ}: يوسف: 94: 106
{إِنََّا لَمُدْرَكُونَ}: الشعراء: 61: 131
{أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ}: الشعراء: 63: 132
{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهََا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}: النمل: 38: 181
{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}: النمل: 40: 181
{أَهََكَذََا عَرْشُكِ؟ قََالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}: النمل: 42: 183
{أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا}: البقرة: 259: 193، 198
{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمََنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قََالَ إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلََاماً زَكِيًّا}: مريم: 1918: 214
{إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}: الأحزاب: 33: 358(1/416)
الآية: السورة: رقم الآية: الصفحة {إِنِّي عَبْدُ اللََّهِ آتََانِيَ الْكِتََابَ}: مريم: 3230: 216
{إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمََا أَدْرََاكَ مََا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}: القدر: 31: 227
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، إِنَّهُ كََانَ غَفََّاراً يُرْسِلِ السَّمََاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرََاراً}: نوح: 1110: 335
{إِخْوََاناً عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ}: الحجر: 47: 365
{بَقِيَّةٌ مِمََّا تَرَكَ آلُ مُوسى ََ وَآلُ هََارُونَ}: البقرة: 248: 156
{خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ}: الرحمن: 15: 15
{خُذْهََا وَلََا تَخَفْ سَنُعِيدُهََا سِيرَتَهَا الْأُولى ََ}: طه: 21: 127
{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مََا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: آل عمران: 35: 203
{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهََا أُنْثى ََ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ََ}: آل عمران: 36: 203
{رَبَّنََا تَقَبَّلْ مِنََّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: البقرة: 127: 90
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنََا وَبَيْنَ قَوْمِنََا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفََاتِحِينَ}: الأعراف: 89: 119
{سَبْعَ لَيََالٍ وَثَمََانِيَةَ أَيََّامٍ حُسُوماً}: الحاقة: 7: 70
{سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكََاذِبِينَ}: النمل: 27: 180
{سَيِّداً وَحَصُوراً}: آل عمران: 39: 209
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللََّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: البقرة: 137: 300
{فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}: فصلت: 11: 10
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}: الأحزاب: 23: 366، 376
{فَلَمََّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيََابَتِ الْجُبِّ}: يوسف: 15: 102
{فَذََلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}: يوسف: 32: 105(1/417)
الآية: السورة: رقم الآية: الصفحة فقال لأهله {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ}: النمل: 7: 126
{فَذََانِكَ بُرْهََانََانِ مِنْ رَبِّكَ}: القصص: 32: 127
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}: الصافات: 142: 161
{فَسََاهَمَ فَكََانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}: الصافات: 141: 161
{فَأَرْسَلْنََا إِلَيْهََا رُوحَنََا}: مريم: 17: 204
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحََامَكُمْ}: محمد: 22: 339
{قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ}: الإخلاص: 1: 231
{قََالَتْ مََا جَزََاءُ مَنْ أَرََادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً}: يوسف: 2625: 104103
{قََالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ}: يوسف: 30: 104
{قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ}: النمل: 39: 181
{كُنْ فَيَكُونُ}: البقرة: 18: 12
{كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ}: آل عمران: 185
الأنبياء: 35: 58
العنكبوت: 57
{كَلََّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ}: الشعراء: 62: 131
{كَفَّلَهََا زَكَرِيََّا}: آل عمران: 37: 204
{لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ}: يوسف: 92: 106
{لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ}: الأنبياء: 87: 161، 162
{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ}: غافر: 16: 58
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}: الحجر: 72: 241
{لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: القصص: 88: 177
له الملك {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ}: المؤمنون: 14: 177
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ}: النمل: 21: 180
{فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ}: البقرة: 38: 335(1/418)
الآية: السورة: رقم الآية: الصفحة {لِإِيلََافِ قُرَيْشٍ}: قريش: 1: 355
{لََا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ}: المجادلة: 22: 370
{نَكِّرُوا لَهََا عَرْشَهََا}: النمل: 41: 182
{نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لََا يَهْتَدُونَ}: النمل: 41: 183
{نَدْعُ أَبْنََاءَنََا وَأَبْنََاءَكُمْ}: آل عمران: 61: 305
{هَيْتَ لَكَ}: يوسف: 23: 103
{هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ لَكُمْ آيَةً}: هود: 64
الأعراف 73: 74
{هََذََا مِنْ فَضْلِ رَبِّي}: النمل: 40: 182
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا، أَخْرَجَ مِنْهََا مََاءَهََا وَمَرْعََاهََا} النازعات: 31: 10
{وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ كََانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: الكهف: 50: 18
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا}: مريم: 71: 59
{وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ}: البقرة: 34: 22
التحريم: 6
{وَمََا هُمْ مِنْهََا بِمُخْرَجِينَ}: الحجر: 48: 52
{وَلَّوْا إِلى ََ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}: الأحقاف: 29: 6
{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً}: يوسف: 31: 105104
{وَآتَيْنََاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ}: الأنبياء: 84: 114
{فَأَخَذَهُمْ عَذََابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}: الشعراء: 189: 120
{وَبَشَّرْنََاهُ بِإِسْحََاقَ}: الصافات: 112: 92
{وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}: يوسف: 58: 106
{وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ}: طه: 1817: 121
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: النمل: 12: 127
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ مَرْيَمَ}: مريم: 16: 204
{وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}: يوسف: 109: 200(1/419)
الآية: السورة: رقم الآية: الصفحة {قََالُوا يََا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا}: مريم: 2827: 216
{قََالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}: مريم: 29: 216
{وَالسَّلََامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}: مريم: 33: 216
{وَآوَيْنََاهُمََا إِلى ََ رَبْوَةٍ ذََاتِ قَرََارٍ وَمَعِينٍ}: المؤمنون: 50: 217
{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}: الحج: 45: 234
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مََالَهُ يَتَزَكََّى}: الليل: 17: 278
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}: الشعراء: 227: 283
{وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً، بَلْ أَحْيََاءٌ}: آل عمران: 169: 378
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}: إبراهيم: 7: 335
{وَإِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ََ}: طه: 82: 338
{وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}: الأحقاف: 10: 373
{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتََابِ}: الرعد: 43: 373
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ}: البقرة: 189: 7
{يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}: الأنعام: 30: 20
{يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ}: هود: 84: 119
{يََا نََارُ كُونِي بَرْداً وَسَلََاماً عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ}: الأنبياء: 69: 79
{يََا لُوطُ إِنََّا رُسُلُ رَبِّكَ}: هود: 81: 83
{يََا مُوسى ََ إِنََّا لَنْ نَدْخُلَهََا أَبَداً مََا دََامُوا فِيهََا، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا، إِنََّا هََاهُنََا قََاعِدُونَ}: المائدة: 24: 141، 142
{يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ}: القصص: 30: 126
{يََا مُوسى ََ أَقْبِلْ وَلََا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}: القصص: 31: 127
{يََا بُنَيَّ، إِنَّهََا إِنْ تَكُ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ}: لقمان: 16: 196
{يََا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هََذََا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا}: مريم: 23: 215
{يََا عِيسى ََ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرََافِعُكَ إِلَيَّ}: آل عمران: 55: 220(1/420)
كشاف الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
الحديث: الصفحة أبشري، إنك أول أهلي يجيء إليّ 269268
إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش 257
إذا مات العبد قال الملكان الموكلان به: يا رب مات فلان 24
اللهم أعني على سكرات الموت 269
ألا أعلمكم الكلمات التي تكلم بهنّ موسى عليه السلام حيث جاز البحر ببني إسرائيل؟ 132
إن اسم الله الأعظم الذي دعا به 182
إن بين يدي الله تعالى لوحا فيه مائة وخمس عشرة شريعة 10
إن جبريل ليلة أسري بي أدخلني الجنة وأطعمني من جميع ثمارها 256
إن خير أكحالكم الإثمد 252
إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد 11
إن الله تعالى خلق الخلق 240
إن عيسى عليه السلام أرسلته أمه إلى الكتّاب ليتعلم فقال له المعلم 218
إن مدة عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وإني بعثت في الألف الأخيرة 33
أنا أعربكم، أنا من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر 243
أنا سيد المرسلين 241240
أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي 240
إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة 272
الأنبياء إخوة وأمهاتهم شتى ودينهم واحد 222
إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط 23
إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابني بنتك سبعين ألفا 211
إني لأراكم من خلفي كما أراكم من أمامي 245(1/421)
الحديث: الصفحة إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلّم علي قبل أن أبعث، ولإني لأعرفه الآن 247
أهلا ببنت خير نبي ضيّعه قومه 231
أول ما خلق الله نوري 9
أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر 280
أتاني جبريل وأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا بطف 320
إني لأستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة 295
إن لله سيفا مغمودا في غمده مادام عثمان حيا 302
أنت أخي في الدنيا والآخرة 306
إن لكل نبي حواري، وحواريّ الزبير 367
أنتن كصواحب يوسف 308
اللهم إني أعيذه بك ووالده من الشيطان الرجيم 316
إن روح القدس جبريل أخبرني أن خير أمتك بعدك أبو بكر 280
أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر 281
أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي 281
إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه 286
إن أفضل الشهداء حمزة 362
أول من يصافحه الحق عمر 286
إن الله عز وجل اختارني من ثلاثة من أهل بيتي 363
إن بعلك أشبه الناس بجدك إبراهيم الخليل عليه السلام وأبيك محمد 297
اللهم هذا عمي وهؤلاء أهل بيته فاسترهم من النار 360
اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه 301
إنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة 370
إحلقي رأسه وتصدقي بوزنه فضة 223
ألا أبشرك يا عم 360
إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبد الله بن عثمان؟ 357
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للعباس: أنت وولدك المنصورون 360
اهتز العرش بموت سعد بن معاذ 374(1/422)
الحديث: الصفحة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نام حتى أمسى ما فعل سعد؟ 353
آية الإيمان حب الأنصار 375
أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدها في دين الله عمر 375
أكتم علي يا عبادة حياتي 377
اللهم استجب لسعد إذا دعاك 369
إرم فداك أبي وأمي 377
الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي 378
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم 379
أطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم 379
أتاني جبريل عليه السلام وقال: يا محمد، إن الله أمرني أن آتي مشارق الأرض 355
إن الله عزّ وجل اصطفى من بني كنانة قريشا 356355
بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة سهر، قال: ليت رجلا يحرسنا الليلة 369
تقتلك الفئة الباغية 377
ثم يكون ملكا عضوضا 322
حدثني جبريل عليه السلام قال: سمعت رب العزّة يقول: لا إله إلّا الله حصني 344
حسين مني وأنا من حسين 324
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته أبشر بالجنة 371
خلق الناس من أشجار شتى 363
ذاك إبراهيم 76
رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة 281
رب هؤلاء خاصتي وأهل بيتي 358
رحم الله قسا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة 237(1/423)
الحديث: الصفحة سل تعط 371
سمّوه بأحب الأسماء إلي، حمزة بن عبد المطلب 361
سيد الشهداء حمزة 361
شيبتني هود وأخواتها 241
عمر سراج أهل الجنة 286
عليّ مني وأنا من علي 306
عمّار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه بلحمه ودمه 376
فضلت على جميع الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب 241
فضّل الله قريشا بخصائل منها: أنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلّا قرشي 355
قال رسول الله: من يأتيني بخبر القوم؟ 366
قوموا إلى سيدكم 374
كان الله ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء 9
كانت نعله من جلد حمار ميت غير مدبوغ 126
كل آدمي يخلق، فإن الشيطان يطعنه في جنبه حين يولد، إلّا عيسى وأمه مريم 283
كنت نبيا وآدم بين الماء والطين 45
كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى في آخرها والشهداء من أهل بيتي في وسطها؟ 223
كنت نائما وعلي وحمزة وجعفر بن أبي طالب 363
كنت قاعدا عند رسول الله فجاء حبر من اليهود 375
كفاك الله أمر دنياك 377
لا والله، ما عوضني الله خيرا منها 264
لا يدخلن أحدكم القرية ولا يشرب من مائها 75
لا يغسلني إلّا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتي إلّا عميت عيناه 269
لما أراد الله تعالى حبس يونس في بطن الحوت، أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما 162(1/424)
الحديث: الصفحة لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره 279
لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب 286
لما عرج بي إلى السماء وقفت بين يدي رب العزّة فقال: يا أحمد، على من تركت أهل أرضي؟ فقلت: على أبي بكر الصديق 280
لو أن لي أربعين بنتا لزوجتك واحدة بعد واحدة 295
لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلّا في قلب مؤمن: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي 356
لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار 365
لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا جنازة سعد، وما وطئوا الأرض قبل ذلك اليوم 374
للمهاجرين منابر من نور يجلسون عليها يوم القيامة، قد أمنوا من الفزع 375
لكل نبي حواري 376
لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مهتم فقال: ما لي أراك منكسرا 378
لا تسبوا أصحابي 378
لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني 378
لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا 379
ما اطلع أحد على قبر موسى عليه السلام إلّا الرّخمة 145
ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر 25، 376
ما بين الأرض إلى السماء مسيرة خمسماية عام 25
ما تصنعين يا أم سليم؟ 244
ما من أحد إلّا يلقى الله تعالى وقد همّ بخطيئة أو عملها، إلّا يحيى عليه السلام، فإنه لم يهم بها ولم يعملها 210
ما من نبي يقبض إلّا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه 270
مررت على موسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر 144
مروا أبا بكر فليصلّ بالناس 268
من أنا؟ أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق 240
ما كلمت في الإسلام أحدا إلّا أبى عليّ وراجعني الكلام، إلّا ابن أبي قحافة 277
ما لأحد عندنا يد إلّا كافيناه، إلّا أبا بكر 278(1/425)
الحديث: الصفحة ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر 278
ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر 278
ما في السماء ملك إلّا وهو يوقر عمر 278
من كنت مولاه فعلي مولاه 306
من أحب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله 306
من سبّ عليا فقد سبني 306
من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي من الجنة 359
من أحب هؤلاء فقد أحبني، ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني 359
من يأت بني قريظة فيأتني بخبرهم؟ 367
من أحب الأنصار فبحبي أحبهم 375
من أحب الأنصار أحبه الله تعالى 375
ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة 379
هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ 28
هل رأيت ربك قط؟ 28
هل قلت في أبي بكر شيئا 280
هكذا نبعث يوم القيامة 281
هذا غلق باب الفتنة 287
هبط عليّ الأمين جبريل عليه السلام وعليه قباء أسود وعمامة سوداء 361360
هذا جبريل يخبرني أنه لا يراك يوم القيامة في هول إلّا أنقذك منه 366
ولو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر 144
ونعم الراكب هو 316
ويحك يا وحشي، غيب عني وجهك فلا أراك 362
يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ 26
يا ابن الذبيحين فقال: أبي عبد الله وجدّي إسماعيل 92(1/426)
الحديث: الصفحة يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة 265
يا جبريل، والذي بعثك بالحق، ما أمسى لآل محمد سفّة من دقيق ولا كف من سويق 250
يا رسول الله، أي النساء أحب إليك؟ قال: عائشة 266
يا علي، أتدري من أشقى الأولين؟ 75
يا فاطمة، إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك 257
يحشر صالح على ناقته يوم القيامة 75
يمكث الناس بعد يأجوج ومأجوج في الرخاء والخصب والدعة عشر سنين 223
ينزل عيسى عليه السلام عند انفجار الصبح بين مهرودتين عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق 223
يؤم القوم أقرؤهم لكتابه 279
يا عليّ، ما ضرّ عثمان ما عمل بعد هذه 295
يصلح الله به بين فئتين من المسلمين 321
يا رسول الله، رأيت حلما منكرا 324
يا جابر، يوشك أن تلحق بولد لي من ولد الحسين اسمه كإسمي، يبقر العلم بقرا 331
يا علي، إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر والدا وعمر مشيرا 357
يا خالد، لا تؤذ رجلا من أهل بدر، لو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تبلغ عمله 368
يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب قد مرّ مع جبريل وميكائيل 363(1/427)
كشاف الأعلام
أآدم عليه السلام: 7، 17، 18، 19، 20، 22، 26، 30، 31، 33، 43، 44، 46، 47، 48، 49، 50، 51، 52، 53، 56، 59، 60، 67، 110، 124، 155، 177، 187.
آزر: 78، 80، 185.
آسية: 123.
آصف بن برخيا: 177، 181، 182.
آمنة بنت وهب: 239، 240، 242.
إبراهيم عليه السلام: 7، 22، 30، 32، 52، 62، 76، 77، 78، 79، 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86، 88، 89، 90، 91، 92، 95، 97، 100، 107، 109، 111، 122، 163، 184، 328.
إبراهيم بن محمد صلّى الله عليه وسلّم: 255، 271.
إبليس: 16، 17، 18، 22، 45، 46، 48، 49، 91، 112، 203، 215، 216.
أجب: 152، 209.
أحمد: محمد صلّى الله عليه وسلّم.
أحمد بن حنبل: 23.
أخنوخ: إدريس عليه السلام.
إدريس (عليه السلام): 31، 55، 56، 57، 58، 59، 60.
أربيل: 152.
أرغو بن فالغ: 71.
أرفخشذ: 65، 66.
إرم: 65، 67.
إرميا بن خلقيا: 191، 193، 194.
أروى بنت كريز: 294.
إسحق (عليه السلام): 31، 77، 91، 94، 95، 97، 100.
ابن إسحق: محمد بن إسحق.
إسرافيل: 10، 45، 83، 250.
أسعد بن زرارة: 280.
أسعد أبو كرب الحميري: 235.
إسكندر: 7، 36.
أبو أسماء الرحبي: 375.
أسماء بنت عميس: 269، 287، 363.
إسماعيل (عليه السلام): 31، 77، 81، 84، 85، 86، 88، 89، 90، 91، 92، 93، 100.
أشار: 99.
الأصبع بن نباتة: 77.(1/428)
الأصمعي: 7، 360.
ألعيزار: 144.
أفرائيم: 105.
أفلاطون: 27.
أفلون (صنم): 122.
أليارد: 54، 55.
إلياس (ع): 31، 58، 122، 153، 155، 158.
أليسع: 153، 154، 155.
أبو أمامة الباهلي: 298.
أمية بن أبي الصلت: 237.
أنس بن مالك: 10، 24، 76، 244، 246، 360، 375.
أم أيمن (بركة): 292.
أيوب عليه السلام: 31، 100، 111، 113، 114.
أبو أيوب الأنصاري: 257.
أبو أيوب السجستاني: 334.
أوريا: 172.
إيشا: 168.
إيليا بن ملكان: الخضر عليه السلام.
ب باران: 186.
بالق بن صافون: 135، 141.
بتومين: 50.
بحيرا الراهب: 238.
بخت نصر: 7، 189، 191، 195، 196.
البراء بن عازب: 375.
أبو بردة بن موسى الأشعري: 196.
برقان: 50.
البرك بن عبد الله: 310، 311.
البزار: 277.
بزوزادان: 210، 211.
بشر بن أيوب: 116، 117.
أبو بكر الصديق: 156، 223، 236، 238، 248، 251، 268، 275، 276، 277، 278، 279، 280، 282، 283، 284، 285، 291، 294، 304، 309، 362، 365، 370، 372.
بكر بن عياش: 83.
بلال بن رباح: 238.
بلعام بن باعوراء: 123، 135، 136.
بلقيس: 179، 180، 182، 183.
بنيامين: 9، 167.
البوني: 32.
ت الترمذي: 279، 280، 306، 319.
أبو تمام: 147.
تيمور: 38.
ث الثعلبي: 10، 21، 26، 43، 103.
ثوبان (مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم): 375.
ج جابر بن عبد الله: 305، 361.(1/429)
الجارود بن عبد الله: 235.
جالوت: 167، 168، 169.
جبريل (عليه السلام): 17، 28، 45، 52، 57، 63، 79، 80، 81، 83، 84، 86، 102، 113، 132، 159، 176، 204، 205، 213، 217، 219، 249، 250، 257، 260، 264، 270، 271، 291، 319، 372.
جرجيس: 32، 224، 225، 226.
ابن جريج: 334.
جرير بن عبد الله: 241.
جعدة بنت الأشعث: 317.
جعفر بن أبي طالب: 363، 364.
جعفر بن علي: 343.
جعفر بن عمرو الضبي: 361.
جعفر بن محمد: 35، 334، 335، 360، 363.
أبو جهل: 249، 285.
الجواليقي: 6.
ابن الجوزي: 118، 317.
الجوهري: 21، 23.
حويرية بنت الحارث (رضي الله عنها):
262.
ح الحارث بن زياد: 375.
الحاكم: 281، 282.
الحاشر: محمد عليه الصلاة والسلام.
حام: 61، 65.
أبو حامد الأندلسي: 134.
حبيب النجار: 222.
أم حبيبة رضي الله عنها: 261.
الحجاج بن يوسف: 91.
حذيفة: 301، 376.
حرب بن نوفل: 266.
حزقيل: 121، 150، 151.
حسان بن ثابت: 276، 280، 281.
الحسن البصري: 11، 17، 26، 205، 288، 308.
الحسن بن الحسن بن علي: 308، 359.
الحسن بن علي بن أبي طالب: 34، 256، 282، 298، 305، 311، 315، 316، 317، 318، 319، 331، 359.
الحسن بن علي العسكري: 35.
الحسين بن علي: 34، 256، 300، 305، 311، 318، 319، 321، 322، 323، 324، 325، 326، 327، 331، 359.
أبو الحسين بن المنادي: 25.
حفصا بنت عمر (رضي الله عنها):
260.
حليمة السعدية: 242، 243، 245، 247، 256.
أبو حمزة اليماني: 83.
حميدة البربرية: 237.(1/430)
حنتمة بنت هشام: 285.
حنظلة بن صفوان: 231.
حنّة: 203.
أبو حنيفة: 203.
حواء: 48، 49، 51، 52، 53.
أبو حيان، أثير الدين: 104.
خ خالد بن سنان: 230.
خالد بن الوليد: 368.
خبيب: 249.
خديجة (رضي الله عنها): 237، 238 247، 255، 256، 259، 264.
خردوش: 210، 211.
الخضر (عليه السلام): 58، 110، 122، 134، 146، 189، 270.
الخطابي: 25
خولة بنت حكيم: 262.
د دارا: 97.
داود عليه السلام: 31، 168، 171، 172، 173، 183، 185، 189، 192.
أبو داود: 281.
دان: 99.
دانيال: 192، 193، 195، 196.
دانيال الأكبر: 195.
دحية الكلبي: 248.
دعلة بنت مضاض: 89، 93.
ذ أبو ذر الغفاري: 23، 26، 379.
ذو النورين: 294.
ر راحيل: 98.
رحبعم: 183.
رحمة بنت أفرائيم: 105، 11، 113.
الرضي، الشريف: 326.
رفقا بنت تنويل: 104.
رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 255، 294.
روبيل: 192.
روم بن العيص: 117.
ابن أبي رياح: 151.
الريان بن الوليد: 103، 105.
ريحانة: 179.
ز زبولون: 99.
الزبير بن بكار: 359.
الزبير بن العوام: 290، 295، 296، 299، 300، 301، 302، 307، 365، 366، 367.
الزجاج: 12.
زجر بن قيس: 324.
زرائيل: 57.
زرارة بن أبي أوفى: 28.
زرعة بن شريك: 323.
زكريا عليه السلام: 31، 202، 204، 205، 206، 208، 214، 216.(1/431)
زليخا: 103، 105.
الزمخشري: 104، 243.
زمري: 136.
أبو الزناد: 196.
الزهري: 80، 280، 287.
زيد بن ثابت: 374.
زيد بن حارثة: 294.
زيد بن أبي حبيب: 301.
زيد بن الحسن: 318.
زيد بن سلام: 375.
زيد بن عمرو بن نفيل: 237.
زيد بن واقد: 212.
زينب بنت جحش (رضي الله عنها):
260، 268.
زينب بنت خزيمة (رضي الله عنها): 266.
زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 255.
زينب بنت علي: 323.
س سارة: 80، 81، 84، 86، 94.
سارية: 288.
سالم بن عبد الله بن عمر: 291.
سام: 61، 65.
سواع: 54.
السدي: 21، 99، 128، 156، 199.
سعد بن أبي طلحة: 289.
سعد بن معاذ: 5، 372، 373، 374.
سعد بن أبي وقاص: 280، 281، 289، 306، 307، 315.
سعدي بنت عوف: 366.
سعيد بن جبير: 17، 24.
سعيد بن زيد: 365، 369.
سعيد بن العاص: 317.
سعيد بن المسيب: 176، 289، 359.
سفيان الثوري: 79، 334، 335.
سفيان بن عيينة: 334.
سلمان الفارسي: 376.
أم سلمة رضي الله عنها: 261، 358.
سلمى بنت صخر (أم أبي بكر): 276.
سليم: 97.
سليمان عليه السلام: 17، 31، 32، 156، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 180، 181، 182، 183، 184، 188، 192، 202.
سليمان خان العثماني: 353.
سمرة: 302.
سمعان: 235.
سنحاريب: 188، 189.
سودة بنت زمعة، رضي الله عنها: 259.
سيف بن ذي يزن: 36.
ش شالخ بن أرفخشذ: 66.
شداد: 64، 289.
شداد بن عاد: 68، 71.
شديد بن عاد: 67.
شعبة: 334.
شعيا بن آصف (عليه السلام): 188، 189، 191.(1/432)
شعيب (عليه السلام): 31، 100، 118، 119، 129، 121، 122، 124، 128، 158.
شقران: 269.
شقيق البلخي: 335، 338.
شقيق بن سلمة: 371.
شمسون: 227، 228.
شمعون: 32، 97، 192، 201، 220، 221.
شمويل: 167، 168، 169، 170.
شيت: 30، 31، 51، 53، 54.
ص صالح (عليه السلام): 72، 73، 100، 195.
الصالحي: 92.
صحر الجنّي: 765.
صديقة: 188، 189.
صفورا: 135.
صفية بنت حيي (رضي الله عنها): 263.
الصولي: 6.
ض الضحاك (عامل نمرود): 78.
الضحاك بن مزاحم: 12، 26، 75.
ضياء الدين المقدسي: 145.
ط طارق بن شهاب: 281، 292.
أبو طالب: 247، 394.
طالوت: 167، 168، 169، 170.
الطاهر بن محمد صلّى الله عليه وسلّم: 255.
الطبراني: 162، 249، 282، 286، 292.
طلحة: 290، 295، 296، 307، 365، 366، 376.
أبو طلحة الأنصاري: 247، 270.
الطيب بن محمد صلّى الله عليه وسلّم: 255.
ظ الظاهر بيبرس: 145.
ع عائشة رضي الله عنها: 182، 205، 244، 251، 256، 260، 264، 265، 266، 267، 268، 271، 279، 282، 283، 291، 307، 318، 370.
عابر: هود.
عاد: 68.
عامر بن الجراح: 360، 370، 371، 377.
عامر بن سعد: 372.
عبادة بن الصامت: 376.
العباس بن عبد المطلب: 240، 682، 269.
أبو العباس السفاح: 251.
أبو عبد الله البجلي: 120، 173.
العباس بن عبد المطلب: 240، 268، 269، 356، 360، 361.(1/433)
عبد الرحمن بن عوف: 290، 296، 310، 365، 367، 368، 377.
عبد الرحمن بن ملجم: 310، 311.
عبد الرحمن بن مهدي: 303.
عبد الرحمن بن يسار: 392.
عبد القادر الكيلاني: 161، 162، 165.
عبد الكريم النخعي: 354.
عبد الله التميمي: 277.
عبد الله بن جعفر: 311.
عبد الله بن حزم المازني: 294.
عبد الله بن الزبير: 293.
عبد الله بن أبي سرح: 297.
عبد الله بن سلام: 23، 302، 372.
أبو عبد الله الشيباني: 287.
عبد الله بن عامر: 288.
عبد الله بن عباس: 11، 12، 13، 17، 20، 24، 25، 44، 51، 62، 68، 85، 91، 104، 114، 119، 150، 151، ي 165، 171، 176، 181، 210، 211، 223، 240، 241، 248، 277، 278، 285، 286، 316، 318، 372، 376.
عبد الله بن عبد المطلب: 240، 247.
عبد الله بن عمر: 140، 251، 281، 291، 298، 308.
عبد الله بن عمرو بن العاص: 279.
عبد الله بن عيسى: 288.
عبد الله بن محمد (صلّى الله عليه وسلّم): 255.
عبد الله بن مسعود: 161، 371.
عبد المطلب: 247.
عبد مناف: أبو طالب.
عبيد الله بن زياد: 320، 323، 324.
عثمان بن عفان (رضي الله عنه): 34، 156، 248، 251، 271، 277، 280، 282، 283، 290، 293، 294، 295، 296، 297، 298، 301، 302، 303، 310، 357، 358، 372.
عثمان بن مظعون: 287.
ابن عدي: 292، 301، 361.
عروة بن الزبير: 265، 266.
عزرائيل: 45، 108.
عزير: 192، 193، 198، 199، 200.
ابن عساكر: 77، 278، 279، 294، 297، 301، 302، 312.
عطاء بن أبي رباح: 360، 361.
عقيل بن أبي طالب: 364.
عكرمة: 13، 17.
علي بن الحسين: 34، 324، 326، 327، 328، 329، 330.
علي بن زيد بن جدعان: 316.
علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): 26، 34، 71، 77، 156، 205، 248، 257، 258، 265، 268، 269، 270، 271، 277، 280، 283،
284، 289، 294، 295، 296، 297، 298، 299، 302، 305، 306، 307، 308، 312، 327، 349، 357، 358، 362، 364، 365، 376.(1/434)
علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): 26، 34، 71، 77، 156، 205، 248، 257، 258، 265، 268، 269، 270، 271، 277، 280، 283،
284، 289، 294، 295، 296، 297، 298، 299، 302، 305، 306، 307، 308، 312، 327، 349، 357، 358، 362، 364، 365، 376.
علي بن محمد الهادي: 35، 349.
علي بن موسى الرضا: 35، 340، 341، 342، 344، 345.
عمار بن ياسر: 376.
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): 8، 34، 156، 195، 205، 237، 248، 251، 266، 277، 280، 282، 283، 285، 287، 288، 289، 291، 292، 296، 297، 303، 309، 357، 359، 365، 367، 369، 372.
عمر بن سعد: 321، 322.
عمر بن أبي سلمة: 367.
عمرو بن مالك بن أمية: 26.
عمر بن ضابيء: 299.
عمران بن سليمان: 315.
عمران بن ماثان: 202، 203.
عمرو بن بكر: 308، 309.
عمرو بن دينار: 361.
عمرو بن العاص: 307، 308، 310، 311.
عملاق بن لاوي: 135.
عوج بن عناق: 123، 135، 140، 187.
عيسى بن مريم عليه السلام: 31، 58، 188، 203، 206، 214، 215، 216، 217، 218، 219، 220، 223، 230، 231، 238.
العيص: 95، 98، 99.
ف فاطمة (رضي الله عنها): 255، 256، 257، 258، 268، 271، 305، 319، 358.
فاطمة بنت أسد: 304.
فاطمة بنت الحسين: 232.
فاطمة بنت علي: 324.
أبو الفتح: 166، 336.
أبو الفتوح، نصر بن أبي الفرج الحنبلي:
198.
فديك: 269.
الفراء: 12.
الفرزدق: 329.
أم فروة بنت القاسم: 334.
أم الفضل بن العباس: 320.
أم الفضل بنت المأمون: 347.
فيحاص بن ألعيزار: 136.
ق قابيل: 50، 51، 54، 55، 56.
قارون: 123، 138، 139.
أبو القاسم: محمد صلّى الله عليه وسلّم.
القاسم بن محمد صلّى الله عليه وسلّم: 255.
القبطي: 54.(1/435)
قتادة: 246، 249، 287، 373.
قحطان بن عاد: 65.
ذو القرنين: 122.
القزويني: 232.
قس بن ساعدة: 235.
قسطنطين: 217.
قصيّ بن كلاب: 356.
القن بن حسن: 185.
قيس بن عباد: 308.
قيصر: 248.
قينان: 54.
ك كال: 99.
كالب بن يوفنا: 142، 149.
كثيّر عزة: 395.
الكسائي: 97، 103، 112، 141، 218.
كعب الأحبار: 79، 162، 176، 205، 289.
ذو الكفل: بشر بن أيوب.
الكلبي: 68.
أم كلثوم بنت محمد صلّى الله عليه وسلّم: 255، 294.
ابن الكواء: 308.
الكواشي: 230.
ل لاوي: 98، 108، 192.
لايا: 98.
لقمان بن عاد: 187.
لقمان (لقمان بن عنقاء) الحكيم: 172، 185، 186.
لمك: 59.
لوط: 81، 82، 83، 84، 100، 111.
أبو لؤلؤة: 290.
ليا بنت تنويل: 98.
م ابن ماجة: 306.
الماحي: محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
مارون: 221.
مارية القبطية (رضي الله عنها): 255.
مالك بن أنس: 334.
المأمون: 341، 347، 348.
متوشلخ: 59.
المتوكل (جعفر): 350.
مجاهد: 11، 20، 182، 185.
المحب الطبري: 7.
محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 5، 7، 8، 9، 25، 27، 30، 31، 58، 85، 86، 100، 154، 156، 165، 166، 230، 231، 235، 237، 238، 239، 240، 241، 242، 260، 263، 264، 276، 278، 284، 287، 291، 293، 294، 305، 309، 315، 328، 342، 344، 345، 352.(1/436)
محمد بن إسحاق: 122، 145، 146، 191، 195، 279.
محمد بن أسلم الطوسي: 344.
محمد بن أبي بكر: 296، 299، 301، 328.
محمد بن جرير الطبري: 32، 153، 169، 230.
محمد بن حاطب: 249.
محمد بن حسن المهدي: 35، 351، 352، 353.
محمد بن الحنفية: 311، 318.
محمد بن طلحة: 301.
محمد بن علي الباقر: 34، 331.
محمد الجواد بن علي الرضا: 346، 348.
محمد بن كعب القرظي: 92.
محمد بن المتوكل: 122.
محي الدين العربي: 13، 20، 21، 30.
مدين بن إبراهيم الخليل (عليه السلام):
81.
مراد خان، السلطان: 251.
مروان بن الحكم: 298، 299، 301، 318.
مريم (عليها السلام): 202، 203، 204، 213، 214، 215، 216، 217، 218، 219، 220، 220.
المستعصم بالله: 250.
المسعودي: 7، 9، 13، 22، 144، 169.
مسلم بن عقيل: 320.
المسيح: عيسى (عليه السلام).
مسيلمة: 362.
مصعب بن سعد: 266.
مضاض بن عمرو: 89.
المطلب بن أبي وداعة: 240.
معاذ بن جبل: 370.
معاوية بن أبي سفيان: 92، 246، 250، 251، 267، 299، 307، 308، 310، 311، 361، 368.
المعتضد بالله العباسي: 351.
المعتمد: 352.
معد: 239.
معوذ بن عفراء: 249.
المغيرة بن شعبة: 290.
مقاتل بن سليمان: 79.
ابن المقفع، عبد الله: 10.
المقوقس: 255، 374.
مكيل بنت لوط: 118.
ملعب بن الإرشاد: 159.
ابن مليك: 150.
المنصور (أبو جعفر): 335، 336.
المنتصر بن المنذر: 120.
مهدا: 69.
مهلائيل: 55.
المهدي العباسي: 338.(1/437)
المهدي القائم: 354.
موسى (عليه السلام): 31، 49، 123، 124، 125، 126، 127، 128، 129، 130، 132، 133، 134، 138، 139، 141، 142، 143، 144، 146، 156، 202، 328.
أبو موسى الأشعري: 73، 195، 308.
موسى بن جعفر الكاظم: 35، 337، 338، 339، 348.
موسى بن عمران: 108، 109، 110.
موسى بن ميشا: 110.
ميسرة: 247، 264.
ميشا: 105.
ميشائيل: 192.
ميكائيل (عليه السلام): 83، 257، 270.
ميمونة بنت الحارث: (رضي الله عنها):
262، 268.
ن ابن أبي نجيح: 227.
النخعي: 287.
النسائي: 306.
أبو نعيم الأصبهاني: 223، 316.
نفتال: 99.
نمرود الجبار: 71، 78، 79، 80، 85، 86، 92.
أبو نواس: 343.
النوال بن سبرة: 376.
نوح (عليه السلام): 31، 52، 59، 60، 62، 65.
هـ هابيل: 50، 51.
هاجر: 84، 85، 86، 92.
هارون (عليه السلام): 128، 131، 143، 144، 146، 156، 201، 204، 216.
هارون (عم إبراهيم عليه السلام): 80.
هارون الرشيد: 339.
هامان: 131.
هردوش: 217.
هرمس الهرامسة: 57.
أبو هريرة: 28، 162، 222، 243، 246، 251، 267، 280، 219، 356، 357، 379.
هشام بن عبد الملك: 329.
هود: 31، 66، 67، 68، 69، 70، 72، 100، 195.
الهيثم بن عدي: 351.
وواثلة بن الأسقع: 379.
وادنة: 224.
الواقدي: 24، 282، 291.
وحشي بن حرب الحبشي: 361.
ود: 54.
ورقة بن نوفل: 237، 238.(1/438)
الوليد بن عبد الملك بن مروان: 212، 331.
الوليد بن مصعب: 123.
وهب بن منبه: 23، 25، 64، 107، 173، 183، 186، 200، 220، 221.
ي يافث: 61، 65، 66.
يالون: 192.
يحيى بن زكريا: 152، 207، 208، 209، 210، 211، 212، 214، 220، 221، 353.
يحيى بن أكثم: 347.
يحيى بن معاذ: 206.
يزيد بن حصين: 320.
يزيد بن معاوية: 317، 323، 324.
يساخار: 98.
يعرب بن قحطان: 95، 179.
يعقوب (عليه السلام): 81، 94، 95، 96، 99، 100، 102، 106، 107، 110، 192.
يعلى بن مرة: 319.
يعوق: 54.
يغوث: 54.
يهودا: 96، 103، 106، 108، 109، 171، 192، 202.
يوسف (عليه السلام): 31، 80، 95، 98، 99، 100، 101، 102، 103، 104، 105، 106، 107، 110، 111، 130، 147، 149، 192.
يوسف (ابن خالة مريم عليها السلام):
214، 217، 219.
يوشاقوس: 149، 150.
يوشع بن نون (عليه السلام): 109، 131، 142، 146، 147، 149.
يوشك: 193.
يونس بن متى (عليه السلام): 158، 159، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 221.(1/439)
كشاف الأقوام والقبائل
أالأتابكية: 38.
أهل أحد: 280.
بنو أرتق: 38.
بنو إسحاق: 7.
بنو إسرائيل: 40، 108، 109، 110، 122، 123، 124، 129، 130، 132، 133، 134، 136، 140، 141، 143، 144، 146، 147، 149، 155، 157، 167، 188، 189، 191، 192، 193، 199، 201، 202، 205، 209، 211، 217، 227، 230.
إشبان: 66.
أصحاب الكهف: 200.
بنو الأصفر: 39، 95، 99.
آق قويناي: 38.
بنو أمية: 35، 251، 312، 355.
الأنصار: 236، 291، 296، 298، 374.
الأوزبكية: 39.
الأوس: 374.
بنو أيوب: 35.
ب البابليون: 167.
برجان: 66.
أهل بدر: 280، 300، 379.
أهل البيعة: 280.
أهل البيت: 347.
ت التتار: 250.
الترك: 35، 66.
بنو تميم: 7، 311.
بنو تيم بن مرّة: 308.
ث ثمود: 72، 73، 74، 75، 234.
ج الجراكسة: 35.
جرهم: 36، 81، 88.
ح حبش: 185.
بنو حفص: 37.
آل حمدان: 37.
آل حيدر الصوفي: 39.(1/440)
خ الخزر: 66.
الخزرج: 374.
الخوارج: 307.
الخوارزمشاهية: 38.
د الدانشماندية: 38.
الدربندية: 39.
ذي الغادرية: 38.
الرمضانية: 39.
الروم: 7، 66، 82، 95، 117، 200، 212، 217، 221، 302.
ز بنو زياد: 36.
س آل سامان: 37، 334.
بنو سعد: 247.
بنو سبكتكين: 37.
السريانيون: 39.
بنو سلجوق: 37، 38.
ش أهل الشام: 329.
بنو شداد: 40.
الشيعة: 320، 339، 353.
ص الصحابة: 297، 299، 332، 372، 379.
أهل الصفة: 379.
الصقالية: 66.
ط بنو طباطبا: 36.
الطبرستانية: 36.
بنو طغتكين: 38.
بنو طغج: 37.
ع بنو عاد: 40، 47، 71، 187، 195
العباسيون: 35، 347، 348.
بنو عبد شمس: 240.
بنو عبد مناف: 240، 293.
بنو عبد المؤمن: 334.
العبيديون: الفاطميون:
آل عثمان: 38.
بنو عدي: 291.
العرب: 85، 230، 237، 315.
أهل العراق: 312، 337.
العماليق: 88، 96، 103، 167.
غ آل غسان: 36، 237.
الغورية: 38.(1/441)
ف الفاطميون: 35.
الفرس: 39، 200.
ق القبط: 7، 108، 124، 129، 130، 131.
آل قرمان: 38.
قره قوينلي: 38.
قريش: 35، 238، 243، 277، 286، 287، 291، 296، 298، 310، 355، 356.
بنو قريظة: 367، 374.
قيس: 7.
ك أهل كربلاء: 325.
كندة: 36.
الكنعانيون: 76، 81، 96، 136.
أهل الكوفة: 317، 320.
ل بنو الليث بن الصفار: 37.
م المجوس: 196.
بنو مخزوم: 240.
أهل المدينة: 302.
آل مرداس: 302.
بنو مرداويج الديلمي: 37.
أهل مصر: 299.
مضر: 355.
معد: 87.
الملثمون: 37.
المهاجرون: 236، 296، 298، 368، 374.
بنو المهدي: 36.
ن النبط: 39.
آل نجاح: 36.
النوبي: 185.
هـ بنو هاشم: 276، 299، 305.
ي يأجوج ومأجوج: 66.
اليهود: 5، 134، 151، 219، 254، 286، 372، 375.
اليونانيون: 7، 39، 66، 95، 200.(1/442)
كشاف الأماكن والمواضع
أالأبطح: 289.
الأبواء: 447، 337.
أبو قبيس: 87، 90.
أحتف: 90.
الأحقاف: 67.
أذربيجان: 231، 233.
أذرح: 307، 308.
أرض كنعان: 134، 140.
إرم ذات العماد: 68.
أرمينية: 233.
أريحا: 142، 144، 146.
الإسكندرية: 129د 155.
أفريقية: 37.
أنطاكية: 221، 222.
الأهواز: 78.
أيلة: 251.
إيليا: 192.
ب باب القرافة: 236.
بابل: 39، 78، 155، 188، 189، 192، 193، 196، 198، 202، 210.
بئر أريس: 252، 269.
بازبرى: 63.
باقردى: 63.
البثنيّة: 112.
بحر الروم: 162.
البحر المحيط: 232.
برزة: 78، 80، 81،
بسر: 155.
البصرة: 51، 288، 307، 366.
بصرى: 242، 264.
بعلبك: 54، 152، 288.
بغداد: 14، 346، 353.
البقيع: 267، 270، 301، 330، 336، 367.
بلاد طيء: 312.
بلاد العرب: 88.
بلاد نوى: 113.
البلقاء: 135.
بيت إيليا: 95.
البيت الحرام: 69، 91، 288.
بيت لحم: 98، 215.
بيت المقدس: 10، 52، 98، 99، 108، 144، 145، 170، 171، 173، 174، 179، 184، 188،
189، 191، 193، 196، 200، 201، 205، 206، 210، 212، 215، 217، 248، 270، 325.(1/443)
بيت المقدس: 10، 52، 98، 99، 108، 144، 145، 170، 171، 173، 174، 179، 184، 188،
189، 191، 193، 196، 200، 201، 205، 206، 210، 212، 215، 217، 248، 270، 325.
بيسان: 169، 370.
ت تبوك: 305.
تدمر: 178، 183.
تهامة: 250.
تونس: 37.
ث الثريات: 102.
ج الجابية: 112.
جبل أفرائيم: 148.
جامع دمشق: 71.
جبال فارس: 60.
جبل الأحمر: 64.
جبل حراء: 51، 237،
جبل حران: 144.
جبل حسبان: 136.
جبل الرهون: 49.
جبل الشراة: 144.
جبل صهيون: 166.
جبل الطور: 133، 144، 200.
جبل قاسيون: 51، 170.
جبل لبنان: 64.
جبل مخ: 231.
الجبل المقدس: 55.
جبل نود: 51.
جدّة: 52.
الجزيرة: 63.
جزيرة العرب: 289.
الجولان: 112، 113.
ح حبرون: 52، 81.
الحجاز: 73، 81، 288، 317.
الحجر: 73، 75، 88، 93.
الحجر الأسود: 90، 359.
الحجرة: 283.
حرّان: 78، 80.
الحرم: 65، 187، 356.
حروراء: 307.
الحسينية: 51.
حش كوكب: 301.
حضرموت: 65، 67، 68، 71.
حطين: 121.
حلب: 38، 221، 231.
حلحول: 166.
حمص: 288، 361.
الحيرة: 36.
خ خراسان: 37، 325.
خط الإستواء: 232.(1/444)
الخليل: 166.
خوزستان: 196، 227.
د دجلة: 14، 50، 159، 160، 164، 195، 198، 251.
دمشق: 51، 92، 112، 170، 217، 223، 227، 228، 324.
ديار بكر: 38.
دير هرقل: 198.
ر الردم: 38، 227.
الرس: 231، 232، 234.
الركن: 354.
الركن الشامي: 93.
الركنية: 170.
الرملة: 75، 186، 226.
روحين: 221.
رومية الكبرى: 221.
الري: 321.
ز زرع: 155.
زمزم: 89، 329.
س سدوم: 81، 82، 84.
سرعين: 54.
سر من رأى: 350، 352.
سرنديب: 49.
سمرقند: 26.
سناباد: 345.
السوس: 78، 196، 226.
سوق ثمانين: 63.
ش الشام: 35، 36، 38، 40، 62، 73، 77، 81، 86، 88، 91، 117، 119، 147، 180، 181، 182، 183، 192، 217، 218، 224، 237، 238، 247، 288، 299، 307، 362، 370.
الشحر: 67.
شردان: 39.
شعب بني هاشم: 242.
ص الصالحية: 170.
الصخرة الشريفة: 52.
الصعيد: 129.
الصفا: 86، 249.
صفد: 121، 148، 219.
صيدا: 152.
الصين: 26، 39.
ض ضيعة: 84.
ضيعون: 84.
ط الطائف: 45.(1/445)
طبرية: 166.
الطف: 320.
طهماسفان: 71.
الطور: جبال الطور.
طوس: 345.
ع عامورا: 83.
العراق: 35، 37، 78، 195، 317، 320، 366.
عرفات: 50، 60، 87.
عريش مصر: 106.
عسفان: 330.
عسقلان: 167.
عمان: 65.
عين وردة: 62.
غ غار الكنز: 52.
الغرب: 37.
غزة: 167.
غزنة: 38.
الغور: 169.
غور الشام: 102.
ف فارس: 122، 193، 195.
الفرات: 14، 50، 195.
فلسطين: 75، 102، 133، 167، 192، 212.
ق القادسية: 337.
القاهرة: 236.
قبة الصخرة: 206.
قدس: 148.
القسطنطينية: 39.
ك الكتيب الأحمر: 144.
كربلاء: 321، 326.
الكرك: 64.
الكعبة: 10، 90، 93، 235.
كفر بريك: 84.
كفل حارس: 117.
كنيسة الجسمانية: 221.
كنيسة صهيون: 173.
كنيسة القيامة: 174.
كوثى: 78.
الكوفة: 14، 36، 62، 64، 166، 307، 317، 351، 354.
ل لد: 223.
م مأرب: 182.
ماردين: 38.
ما وراء النهر: 37.
مجمع البحرين: 134.
محراب داود: 209.(1/446)
مدين: 118، 119، 124، 125، 128.
المدينة المنورة: 223، 247، 248، 297، 303، 306، 312، 317، 318، 324، 326، 334، 341، 343، 346، 349، 351، 367، 368، 369.
المروة: 86، 246.
المسجد الحرام: 296.
مسجد الخليل: 84.
مسجد الخيف: 52.
مسجد المدينة: 307.
مشهد خالد: 231.
مصر: 31، 35، 36، 37، 39، 40، 81، 95، 99، 101، 103، 104، 106، 107، 108، 109، 119، 124، 125، 128، 167، ژ 192، 217، 297، 307.
معرّة النعمان: 148.
المعلى: 264.
مغارة الأرواح: 206.
المغرب: 35، 334.
مقابر قريش: 339، 348.
مقام إبراهيم: 288، 354.
مكة: 45، 50، 51، 71، 75، 77، 86، 92، 93، 144، 179، 237، 238، 242، 248، 264، 272، 277، 299، 303، 307، 310، 317، 338، 354، 356، 362.
المنبر: 283.
منف: 109.
منى: 52، 91، 92، 289.
مهد عيسى: 221.
الموصل: 63، 159، 166، 224، 226.
الميزاب: 93.
ن نابلس: 97، 109، 117، 147.
ناصرة: 219.
نصيبين: 176.
نهر الأردن: 146، 204.
نهر الرس: 233.
النهروان: 308.
النيل: 14، 53، 109، 123، 147، 283.
نينوى: 159، 160، 163.
هـ الهند: 49، 51، 62.
وواسط: 150.
وادي القرى: 73.
ي اليمامة: 234.
اليمن: 36، 37، 65، 67، 69، 88، 178، 179، 182، 183، 362.(1/447)
كشاف الأيام والأعوام والمغازي
يوم أحد: 362، 365، 378.
يوم الأحزاب: 366، 367.
يوم بدر: 249، 294، 306.
غزوة تبوك: 251.
يوم حنين: 374.
يوم خيبر: 5، 253، 263، 306.
يوم الدار: 373.
يوم ذي قرد: 365.
بيعة الشجرة: 295.
وقعة صفين: 306، 377.
يوم الطوفان: 140.
يوم الظلة: 120.
يوم عاشوراء: 354.
جيش العسرة: 295.
طاعون عمواس: 370.
عام الفتح: 5.
عام الفيل: 5، 244.
يوم قريظة: 5.
غزوة المريسيع: 262.
حجة الوداع: 298.(1/448)
كشاف أبيات الشعر
مطلع الأبيات: القافية: عدد الأبيات: الصفحة أترجو أمة: الحساب: 1: 323
تغيرت البلاد: قبيح: 2: 51
أعيذه بالواحد: حاسد: 5: 242
مسح الرسول جبينه: الحدود: 1: 325
ليس لي ذنب: يا أسود: 2: 343
أريد حياته: مرادي: 1: 312
ونحن على الحوض: ورّاده: 4: 332
إني أرى وسط: الشرارا: 5: 70
ملوك بني حطى: الحجر: 3: 120
فليتها إذ فدت: البشر: 1: 312
في الذاهبين الأولين: بصائر: 5: 237236
لحقنا بأخراهم: وقع: 3: 147
أيجيد مخلوق: الخلّاق: 1: 254
إن الذبيح: والنزيل: 2: 92
إذا تذكرت شجوا: بمافعلا: 3: 276
وثاني إثنين في الغار: الجبلا: 2: 281
يا باقر العلم: الجبل: 2: 330
شهدت على أحمد: النسيم: 2: 235
أنا للسيد الشريف: سلامي: 2: 339
طلبت بيتا: الإسلام: 2: 359
هذا الذي تعرف: والحرم: 8: 329
جرى قلم القضاء: والسكون: 2: 10(1/449)
مطلع الأبيات: القافية: عدد الأبيات: الصفحة لقد طفتم: أجمعينا: 1: 20
قيل لي: النبيه: 4: 343
يحسبني: منيبها: 2: 330
كلمن قد هدّ ركني: المجلة: 2: 120
كربلا لا زلت: المصطفى: 2: 236
بمحمد وببيته: الهدى: 2: 258
ماذا عليّ: غواليا: 2: 271(1/450)
كشاف الكتب الواردة في المتن
اتحاف الأخصا، للسيوطي: 52، 280، 212، 221.
الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي: 10، 30.
أحاسن المحاسن: 247.
أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، للمسعودي: 28، 122، 283.
الإشارات إلى معرفة الزيارات، للهروي:
221.
أصول التواريخ: 33، 44.
آكام المرجان في أحكام الجان: 16.
الأنساب، ابن قتيبة: 56.
الأنس الجليل: 56، 145، 211.
أنوار التنزيل: 185.
الأوسط (الطبراني): 280، 281.
بانت سعاد لكعب بن زهير: 250.
البحر الزخار: 81.
بحر العلوم: 44.
البحر العميق: 90
بحر الوقوف في علم الحروف للبوني:
44.
بلغة الغواص في أوهام الخواص:
202.
بهجة المحاسن: 321.
تاج السلاطين في معرفة الأبالسة والشياطين: 177.
تاريخ الإسلام للذهبي: 250.
تاريخ البخاري: 289.
تاريخ الخلفاء للسيوطي: 270، 310، 325، 330.
تاريخ دمشق لابن عساكر: 7، 253.
تاريخ القدس: 49.
تاريخ نيسابور: 334.
التبصرة لابن الجوزي: 23، 288.
التفسير، لأثير الدين أبو حيان: 104.
تفسير ابن عربي: 30.
تفسير الفصول: 43.
تفسير القرطبي: 157.
التفسير الوسيط للواحدي: 106.
تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي:
221.
التهذيب للنووي: 280، 356.
التوراة: 6وفي أماكن أخرى.
كتاب الجفر: 334.
حياة الحيوان للدميري: 17، 183، 269، 321.(1/451)
خريدة العجائب لابن الوردي: 13.
دلائل النبوة للبيهقي: 289، 325.
ربيع الأبرار للزمخشري: 29.
روض الرياحين لليافعي: 31.
الروض النضر: 298.
السبعيات: 205، 226، 258، 260.
سلوة الأحزان لابن الجوزي: 195، 241.
شرح الفصوص: 57.
شرح المقامات: لأبى البقاء العكبري: 231
شفاء الصدور: 51.
الشفاء، للقاضي عياض: 245، 270.
الشمائل للترمذي: 246.
شواهد النبوة: 271.
الصحاح للجوهري: 7، 15.
صحاح المصابيح: 246.
صحيح البخاري: 266.
صحيح مسلم: 244.
صدق المودة في شرح البردة: 244.
طبقات ابن سعد: 253.
الطيوريات: 250.
عرائس المجالس للثعلبي: 29، 51، 98، 174، 191.
العمدة: 29.
عوارف المعارف للسهروردي: 45.
عجائب الدنيا للمسعودي: 56.
عجائب المخلوقات (خريدة): 22.
عيون الأخبار: 240، 256، 265.
عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي: 251.
الفتوحات المكية لابن عربي: 16، 20، 29، 58.
فردوس الأخبار: 272.
الفصول المهمة: 325.
فضائل الإمامين (للشيباني): 287.
الفوائد (تمام الرازي): 279.
قوت القلوب: 58.
الكشاف (للزمخشري): 10.
كشف الأسرار (للأفقهسي): 112، 208.
كشفة الغمة لعبد الوهاب الشعراني:
258.
كنز الأسرار (لابن الجوزي): 15.
مثير الغرام الساكن (لابن الجوزي): 81، 215، 219، 221، 337.
المجسطي لبطليموس: 14، 33.
مجمع الأحباب: 356.
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، لابن عربي: 198، 215، 223، 241.
محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر، للسكتواري.
المختصر في أخبار البشر: لأبي الفدا:
56، 116، 268، 356.
مدارك التنزيل (للنسفي): 9.
مرآة الزمان: لسبط ابن الجوزي: 17، 72، 88، 92.
مروج الذهب للمسعودي: 91، 239.
مزهر اللغة: 44.(1/452)
مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري:
326.
المستدرك للحاكم: 153، 243.
مسند البزار: 277.
مسند أحمد بن حنبل: 296.
المظهر في شرح المصابيح: 246.
المصنف لابن أبي شيبة: 398.
معالم التنزيل: 46.
المعرّب للجواليقي: 6.
المغرب للمطرزي: 13.
مفاتيح العلوم للخوارزمي: 6.
المنتقى: 243.
نزهة الأسرار: 280.
نزهة النواظر: 76، 92، 240، 272، 283.
نور المقابيس: 7.
الهيئة السنية للسيوطي: 24.
الوسائل إلى معرفة الأوائل السيوطي: 16.(1/453)
كشاف المصادر
اتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى، السيوطي، بعناية أحمد رمضان أحمد، الهيئة المصرية العامة، 1982م.
الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، عالم الكتب، بيروت.
أخبار الزمان، المسعودي، بيروت.
أخبار مكة، الأزرقي، باعتناء ملحس، دار الأندلس، بيروت.
الإرشاد، الشيخ المفيد، بيروت.
الإستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، دار صادر، بيروت (بهامش الإصابة).
الإشارات إلى معرفة الزيارات، باعتناء سوردل، النسخة الفرنسية.
الإشارة إلى سيرة المصطفى، مغلطاي (خط).
الإصابة في معرفة الصحابة، ابن حجر العسقلاني، دار صادر.
الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، السخاوي، بيروت.
أنساب الأشراف، البلاذري، دار المعارف، القاهرة، ودار التعارف، بيروت، وطبعة فيسبادن بألمانيا.
إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، (السيرة الحلبية)، بيروت.
الإنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، الحنبلي، القاهرة.
الأوائل، الطبراني، مؤسسة الرسالة، بيروت.
الأوائل، العسكري، دمشق.
البداية والنهاية، ابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت.
تاريخ الإسلام، الذهبي باعتناء تدمري، بيروت.
تاريخ الأمم والملوك، الطبري، دار المعارف بمصر.(1/454)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، بيروت، نسخة مصورة.
تاريخ الخلفاء، محمد بن زيد، مؤسسة الرسالة، بيروت.
تاريخ الخلفاء، السيوطي، دار الثقافة، بيروت.
تاريخ خليفة بن خياط، دمشق.
تاريخ الخميس، الديار بكري، دار صادر، بيروت.
تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت. 1960م.
تاريخ مختصر الدول، ابن العبري، نسخة مصورة، بيروت.
التبصرة، ابن الجوزي، القاهرة.
التبيين في نسب القرشيين، عالم الكتب، بيروت.
تفسير الخازن، لباب التأويل، دار الفكر، بيروت. (لا. ت).
تفسير ابن كثير، دار القلم، بيروت.
تفسير ابن عربي، المعرفة، بيروت.
تفسير النسفي، مدارك التنزيل على هامش تفسير الخازن.
التنبيه والإشراف، المسعودي، بإعتناء دن، بيروت.
تهذيب تاريخ دمشق، دار المسيرة، بيروت.
التوراة.
جمهرة أنساب العرب، ابن حزم، دار المعارف، القاهرة.
جمهرة النسب، ابن الكلبي، تحقيق ناجي حسن، عالم الكتب، بيروت 1986م.
الجوهر الثمين، ابن دقماق، بإعتناء محمد كمال عز الدين، عالم الكتب بيروت 1985م.
حذف من نسب قريش، السدوسي، بإعتناء المنجد، بيروت.
حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، بيروت.
حياة الحيوان، الدميري، دار الفكر، بيروت.
خريدة العجائب، ابن الوردي، ط. استانبول، ونسخة خطية لدى فهمي سعد، أحد المحققين.(1/455)
خلاصة الذهب المسبوك، قنيتو الأربلي، بغداد. 164.
دلائل النبوة، الأصفهاني، بيروت.
دلائل النبوة، البيهقي، المكتبة العلمية، بيروت.
دول الإسلام، الذهبي، حيدر أباد. 1364هـ.
ديوان أبي تمام، ط. صعب، بيروت.
ذخائر القربى في مناقب ذوي القربى، المحب الطبري، المعرفة، بيروت.
ذيل المذيل، الطبري، ضمن ذيول تاريخ الطبري، دار المعارف، القاهرة.
الروض الأنف، السهيلي، دار المعرفة، بيروت.
سير أعلام النبلاء، الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
السيرة النبوية، ابن هشام، نسخة مصورة عن طبعة القاهرة.
السيرة النبوية، ابن حبان، بيروت.
سيرة ابن إسحاق، بإعتناء زكار، دار الفكر، بيروت.
شذرات الذهب، العماد الحنبلي، بيروت. 1979م.
شرح المواهب اللدنية، الزرقاني، دار المعرفة، بيروت.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية.
الشماريخ في علم التاريخ، السيوطي، بغداد.
صحاح الجوهري، دار العلم للملايين.
صحيح البخاري، ط. القاهرة.
صحيح مسلم، بإعتناء محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
طبقات خليفة بن خياط، بيروت.
الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار صادر، بيروت.
عرائس المجالس، الثعلبي، بيروت.
العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، المكي الفاسي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
العقد الفريد، ابن عبد ربه، بيروت.(1/456)
عيون الأثر (في السيرة النبوية) ابن سيد الناس، بيروت.
عيون التواريخ (السيرة النبوية)، ابن شاكر الكتبي، القاهرة.
الفخري في الآداب السلطانية، ابن الطقطقى، دار صادر، بيروت.
قصص الأنبياء، ابن كثير، بيروت.
الكامل في التاريخ (91) ابن كثير، (نسخة مصورة عن طبعة القاهرة)، بيروت. 1966م.
الكشاف، تفسير الزمخشري، بيروت.
لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت. لا. ت.
مجمع الزوائد، الهيثمي، بيروت.
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، ابن عربي، بيروت.
محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر، السكتوراي، بيروت.
المحبر، ابن حبيب، بيروت.
مختصر التاريخ، ابن الكازروني، بغداد.
المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء، دار المعرفة، بيروت.
مرآة الزمان، سبط ابن الجوزي، بإعتناء إحسان عباس، السفر الأول، بيروت.
مروج الذهب، ط. دار الشعب، القاهرة.
المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، المعرفة، بيروت.
المعارف، ابن قتيبة، بيروت.
معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت. 1979م.
المعرّب، الجواليقي، القاهرة.
المغازي، الزهري، بإعتناء زكار، بيروت.
المغرب، المطرزي، بيروت.
مفاتيح العلوم، الخوارزمي، نسخة مصورة عن الطبعة الأوروبية.
المنتخب من كتاب أزواج النبي، الزبير بن بكار، دمشق.(1/457)
النزهة السنية، ابن الطولوني، تحقيق محمد كمال عز الدين عالم الكتب، بيروت 1988م.
نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الدمياطي، بإعتناء فهمي سعد، عالم الكتب، بيروت.
نسب قريش، الزبيري، دار المعارف، القاهرة.
نهاية الأرب في فنون الأدب، النويري، القاهرة.
الوافي بالوفيات، الصفدي، باعتناء عدة محققين، فيسبادن. 19881931م.
الوسائل لمعرفة الأوائل، السيوطي، القاهرة.
وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1972م.(1/458)
كشاف المحتويات
الموضوع: الصفحة مقدمة التحقيق أ
النص المحقق 1
مقدمة المؤلف 3
الفصل الأول: في بيان معنى التاريخ وموضوعه 5
الفصل الثاني: في بداية المخلوقات وأولية المنشئات 9
الفصل الثالث: في خلق الجن والشياطين وذكر إبليس اللعين 15
الفصل الرابع: في ذكر الأرضين وما ورد في خلقها 20
الفصل الخامس: في خلق السماوات وإنشاء العلويات 23
الفصل السادس: في معنى النبوة والرسالة وما ورد في حرف الأنبياء وأقلامهم 29
الفصل السابع: في ذكر تراجم الأبواب المظهرة لأسرار الكتاب 34
الباب الأول في ذكر الأنبياء والمرسلين 41 الفصل الأول: في ذكر آدم أبي البشر عليه السلام 43
الفصل الثاني: في ذكر شيث عليه السلام 53
الفصل الثالث: في ذكر إدريس عليه السلام 56
الفصل الرابع: في ذكر نوح عليه السلام 60
الفصل الخامس: في ذكر هود عليه السلام 67
الفصل السادس: في ذكر صالح عليه السلام 72(1/460)
الفصل السابع: في ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام 76
الفصل الثامن: في ذكر لوط عليه السلام 82
الفصل التاسع: في ذكر إسماعيل عليه السلام 87
الفصل العاشر: في ذكر إسحاق عليه السلام 94
الفصل الحادي عشر: في ذكر يعقوب عليه السلام 96
الفصل الثاني عشر: في ذكر يوسف الصديق عليه السلام 101
الفصل الثالث عشر: في ذكر موسى بن حيث عليه السلام 110
الفصل الرابع عشر: في ذكر أيوب عليه السلام 111
الفصل الخامس عشر: في ذكر ذي الكفل عليه السلام 116
الفصل السادس عشر: في ذكر النبي شعيب عليه السلام 118
الفصل السابع عشر: في ذكر الخضر عليه السلام 122
الفصل الثامن عشر: في ذكر موسى الكليم، وما حل لبلعام وقصة قارون وعوج بن عناق 123
قصة قارون وما حاز من الفنون 138
في ذكر عوج بن عناق 140
الفصل التاسع عشر: في ذكر هارون عليه السلام 143
الفصل العشرون: في ذكر يوشع عليه السلام 146
ذكر كالب بن يوفنا 149
الفصل الحادي والعشرون: في ذكر حزقيل وما وقع مع بني إسرائيل 150
الفصل الثاني والعشرون: في ذكر إلياس عليه السلام 152
الفصل الثالث والعشرون: في ذكر أليسع بن أخطوب 155
في ذكر السكينة والتابوت 155
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر يونس عليه السلام 158
الفصل الخامس والعشرون: في ذكر شمويل عليه السلام 167
الفصل السادس والعشرون: في ذكر داود عليه السلام 171(1/461)
الفصل السابع والعشرون: في ذكر سليمان عليه السلام 174
ذكر قصة بلقيس وعرشها 179
الفصل الثامن والعشرون: في ذكر لقمان عليه السلام 185
الفصل التاسع والعشرون: في ذكر النبي شعيا عليه السلام 188
الفصل الثلاثون: في ذكر إرميا عليه السلام 191
الفصل الحادي والثلاثون: في ذكر دانيال عليه السلام 195
الفصل الثاني والثلاثون: في ذكر عزير عليه السلام 198
الفصل الثالث والثلاثون: في ذكر شمعون عليه السلام 201
الفصل الرابع والثلاثون: في ذكر زكريا عليه السلام 202
في ذكر قصة مريم عليها السلام 203
الفصل الخامس والثلاثون: في ذكر يحيى عليه السلام 207
الفصل السادس والثلاثون: في ذكر عيسى عليه السلام 213
الفصل السابع والثلاثون: في ذكر جرجيس عليه السلام 224
الفصل الثامن والثلاثون: في ذكر شمسون عليه السلام 227
الفصل التاسع والثلاثون: فيمن كان في الفترة بين عيسى ونبينا محمد رفع الله قدره 230
خالد بن سنان 230
حنظلة بن صفوان 231
ذكر من آمن في الفترة 235
أسعد أبو كرب الحميري 235
قس بن ساعدة الإيادي 235
زيد بن عمرو بن نفيل 237
أمية بن أبي الصلت الثقفي 237
بحيرا الراهب 238
الفصل الأربعون: في ذكر محمد عليه الصلاة والتسليم 239(1/462)
ذكر شأن البردة النبوية والخاتم وغيره 250
في ذكر ركابه وسلاحه 252
ذكر أولاد صلّى الله عليه وسلّم 255
في ذكر فضائل فاطمة الزهراء البتول رضي الله عنها 256
ذكر أزواجه أمهات المؤمنين 259
ذكر فضائل خديجة الكبرى رضي الله عنها 264
ذكر فضائل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها 265
ذكر وفاته صلّى الله عليه وسلّم 268
الباب الثاني في ذكر الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين 273 الفصل الأول: في ذكر أبي بكر الصديق 275
الفصل الثاني: في ذكر عمر بن الخطاب 285
الفصل الثالث: في ذكر عثمان بن عفان 293
الفصل الرابع: في ذكر علي بن أبي طالب 304
الباب الثالث في ذكر الحسن والحسين وأولادهما 313 الفصل الأول: في ذكر الحسن بن علي 315
الفصل الثاني: في ذكر الحسين 319
الفصل الثالث: في ذكر علي بن الحسين 327
الفصل الرابع: في ذكر أبي جعفر محمد بن علي الباقر 331
الفصل الخامس: في ذكر جعفر الصادق 334
الفصل السادس: في ذكر موسى الكاظم 337(1/463)
الفصل السابع: في ذكر علي بن موسى الرضا 341
الفصل الثامن: في ذكر محمد الجواد 346
الفصل التاسع: في ذكر علي بن محمد الهادي 349
الفصل العاشر: في ذكر أبي محمد الحسن بن علي العسكري 351
الفصل الحادي عشر: في ذكر أبي القاسم محمد الحجة الخلف الصالح 353
الباب الرابع فيما ورد في فضائل قريش وما للصحابة في العقبى من أرغد عيش 335 فضائل الأئمة الأربعة 356
ما ورد في فضل علي وفاطمة وأولادهم 358
ما ورد في فضل العباس 359
ما ورد في فضل سيد الشهداء حمزة 361
في فضل أولاد عقيل 364
في فضل العشرة المبايعة تحت الشجرة 365
فضل طلحة الفياض 365
في حواري خير الأنام الزبير بن العوام 366
في فضل عبد الرحمن بن عوف 367
في فضل سعد بن أبي وقاص 368
في فضل سعيد بن زيد 369
في فضل أبي عبيدة عامر بن الجراح 370
في فضل عبد الله بن مسعود 371
في فضل عبد الله بن سلام 372
في فضل سعد بن معاذ 373
في فضل المهاجرين 374(1/464)
في فضائل الأنصار 375
في فضل جماعة من أعلام الدين 375
ما ورد في عمار 377
ما ورد في فضل الصحابة 378
ذكر أهل الصّفّة عودة إلى فضل الصحابة 379
الكشاف العام 381
كشاف الآيات الكريمة 383
كشاف الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 388
كشاف الأعلام 395
كشاف الأقوام والقبائل 407
كشاف الأماكن والمواضع 410
كشاف الأيام والمغازي 415
كشاف الشعر 416
كشاف الكتب الواردة في المتن 418
كشاف المصادر 421
كشاف المحتويات 427(1/465)
ألجزء الثالث
الباب السابع والأربعون في ذكر دولة بني عثمان أبقاهم الله إلى آخر الدوران
وهم من أعظم سلاطين الدنيا أبهة وجلالة، وأشدهم قوة وآثارا.
وأول من ملك منهم، في ممالك الروم،
الأمير عثمان الغازي ابن الأمير أرطغرل بن سليمان شاه
، وله نسب يتصل إلى يافث بن نوح، عليه السلام. وهو الجد الثاني والأربعون (1) لحضرة سلطاننا الأعظم، السلطان محمد خان، لا زالت أعلام خلافته مرفوعة، وألوية سلطنته منصوبة.
ولما كانت أسماؤهم بلغة الترك القديمة، لم نذكرها لعسر ضبطها، وهي مشهورة، وفي التواريخ التركية مذكورة.
وكان سليمان شاه المذكور سلطانا في بلاد ماهان قرب بلخ (2)، فلما ظهر جنكيز خان وأخرب بلاد بلخ، وأخرج منها السلطان علاء الدين خورزمشاه، وتفرقت أهلها في سنة احدى عشرة وستماية، ترك البلاد مع من تركها من الملوك وغيرها، وقصد بلاد الروم، وكان قد سمع بدولة السلاجقة بالروم وعظم شوكتهم، وكثرة غزوهم إلى الكفار، وتبعه في ذلك خلق كثيرة.
فلما وصلوا إلى أذربيجان، تقاتلوا مع الكفار، وغنموا منهم / شيئا كثيرا.
ثم قصدوا صوب حلب من ناحية البستان، فوصلوا إلى نهر الفرات أمام قلعة
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وهو الجد الثالث عشر».
(2) وهي قاعدة بلاد خراسان.
أبو الفدا، تقويم: 461460.(2/5)
جعبر (1)، ولم يعلموا المعبر، فعبروا النهر فغلب عليهم الماء (2)، فغرق سليمان شاه، فأخرجوه ودفنوه عند قلعة جعبر، وقبره اليوم هناك يزار ويتبرك به.
وكان مع سليمان شاه المذكور أولاده الثلاثة، وهم: سنقور زنكي (3)، وكون طوغدي، وأرطغرل. فلما وصلوا إلى موضع، يقال له ياسين أوه سي، رجع سنقور زنكي (4)، وكون طوغدي، ابنا سليمان شاه، إلى بلاد العجم، وتخلف أرطغرل جد الملوك العثمانية مع أبنائه الثلاثة، وهم: كوندز (5)، وصارو بني، وعثمان، ومكث في ذلك الموضع يجاهد الكفار. ثم أرسل ابنه صاروبني إلى صاحب قونية وسيواس السلطان علاء الدين كيقباد السلجوقي يستأذنه في الدخول إلى بلاده، ويطلب منه موضعا ينزل فيه، فعين له جبال طومالج (6)، وجبال أرمناك (7)، وما بينهما موضعا للسكنى، فأقبل أرطغرل مع أربعماية خركاه من قومه، فتوطنوا في قره جه طاغ (8).
وفي سنة خمس وثمانين وستماية، نازل السلطان علاء الدين بعساكر كثيرة ومعه الأمير أرطغرل قلعة كوتاهية (9)، وهي يومئذ بيد الكفار، ففوّض أمر القلعة إلى الأمير أرطغرل، وسار إلى قتال التتار بسبب تعرضهم لبعض بلاده. ولم يزل الأمير
__________
(1) تقع قلعة جعبر على نهر الفرات مقابل صفين، كانت تعرف باسم بدوسر، فتملكها رجل من بني نمير يقال له جعبر بن مالك، فسميت به.
ياقوت 4/ 390.
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «فغلب عليهم الغرق والماء».
(3) «زنكي»: ساقط في (ج).
(4) «زنكي»: ساقط في (ج).
(5) في (ب): «ندر» وفي (ج): «كوندز آلب».
(6) كذا وفي (ب): «طويانج» وفي (ج): «طوماليج».
(7) تقع هذه الجبال جنوب لارندة من بلاد الروم.
لسترنج: 181180.
(8) كذا في (ج) وفي (ب): «قرجه طاغ».
(9) سمّاها المؤرخون العرب قطيّة، وهي من مدن بلاد الروم.
لسترنج: 186.(2/6)
أرطغرل يجتهد حتى فتحها عنوة، وغنم من الأموال أشياء كثيرة، فازداد عند السلطان قربا ومنزلة.
ولم يزل الأمير أرطغرل بعد هذا يقاتل ويجاهد في سبيل الله، عز وجل، حتى توفي في سبيل الله سنة سبع وثمانين وستماية.
فلما سمع السلطان وفاته تأسف عليه، وعين مكانه ولده:
السلطان عثمان بيك (1) الغازي ابن الأمير أرطغرل
وكان تفرّس في الغزاة (2) في سبيل الله منذ نشأ. [وكان] (3) مولده سنة ست وخمسين وستماية. فلما رأى السلطان علاء الدين جده واجتهاده في الجهاد، وعلم نجابته في فتح تلك البلاد، أكرمه وأمده بأنواع الإعانة والإمداد، وأرسل إليه الراية السلطانية، والخلع السنية، والطبل والزمر. فلما ضرب الطبل بين يدي السلطان عثمان بيك (4)، نهض قائما على قدميه إعظاما للسلطان علاء الدين، فما زال كذلك حتى فرغوا. فمن / ذلك اليوم كان بين العساكر العثمانية القيام على أرجلهم عند ضرب طبل السلطنة في الأسفار والأعياد.
وكان يحب العلماء والصلحاء، وكان كثير التردد إلى الشيخ العارف آده بالي القرماني، وربما يبيت في زاويته. فرأى ليلة في منامه أن قمرا خرج من حضن الشيخ المذكور، فدخل في حضنه. وعند ذلك نبتت من سرته شجرة عظيمة سدت أغصانها الآفاق، وتحتها جبال راسيات ذات أنهار وعيون، والناس ينتفعون من تلك المياه. فلما استيقظ الأمير عثمان وقص رؤياه للشيخ، فقال له الشيخ: لك البشارة بمنصب السلطنة، وسيعلو أمرك وينتفع الناس بك وبأولادك،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «خان».
(2) «في الغزاة»: ساقطة في (ب).
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) لفظة «بيك»: ساقطة في (ج».(2/7)
وإني زوجتك ابنتي هذه!. فقبلها عثمان وتزوجها فولد له (1) منها أولاده، من جملتهم السلطان أورخان.
ثم إن السلطان علاء الدين عظم بلاؤه من التتار، وقد شاخ (2) وكبر سنه وعجز عن الحركة والنهوض (3)، فاشتغل بنفسه عن غيره، فتسلطن عثمان الغازي في البلاد التي افتتحها، وخطب له فيها بالسلطنة وخطب [له] (4) ختن الشيخ آده بالي مولانا طورسون (5)، الفقيه في مدينة قره حصار (6)، يوم الجمعة سنة تسع وتسعين وستماية، وهي أول خطبة خطبت في الدولة العثمانية باسم الأمير عثمان الغازي، وقيل بل أجاز له في ذلك السلطان علاء الدين [المذكور] (7)، وهو مجاز من الخلفاء العباسيين.
ثم شرع الغازي عثمان شاه في الغزو والجهاد واستخلاص البلاد، ففتح قلعة بيلجيك (8)، وأينه كل (9)، ويكي شهر.
وفي سنة سبعماية، توفي السلطان علاء الدين السلجوقي، وتولى مكانه ولده، كما مر، وكثر الهرج والمرج في بلاده، فلحق غالب عساكره بالسلطان الغازي عثمان.
وفي سنة سبع وسبعماية، فتح الأمير عثمان ناحية مرمره. وكان الأمير عثمان
__________
(1) لفظة «له»: ساقطة في (ج).
(2) عبارة «وقد شاخ»: ساقطة في (ب).
(3) لفظة «والنهوض»: ساقطة في (ب).
(4) ما بين الحاصرتين يقتضيه السياق.
(5) كذا في (ج) وفي (ب): «طورستان».
(6) وهي قلعة تابعة لقونية في شرقيها، قيل إن بانيها هو بهرام شاه.
لسترنج: 182181.
(7) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(8) كذا في (ب) وفي (ج): «بيله جك».
(9) كذا في (ب) وفي (ج): «واينه كول».(2/8)
الغازي قسّم البلاد بين أولاده وأقطعهم إياها، واستقر هو في بلدة يكي شهر، وتمكن بها وجعلها دار الإمارة، وأسكن فيها الجند.
وفي هذه السنة، فتح الغازي عثمان (1) حصن كته، وحصن لفكه، وحصن آق حصار، وحصن قوج حصار.
وفي سنة اثنتي عشرة وسبعماية، افتتح المسلمون حصن كيوه، وحصن طراقلو يكيجه (2)، وحصن تكور بيكاري، / وغيره.
وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعماية حاصر الغازي عثمان خان مدينة بروسا مدة، ثم لما امتد أمر الحصار أمر ببناء قلعتين في طرفي المدينة، وأسكن فيهما الجند، وأمرهم بالتضييق على أهل البلد وقطع الميرة عنهم، وعاد هو إلى مكانه.
فلما امتد ذلك، أرسل الملك عثمان ابنه أورخان وصحبته عساكر كثيرة لفتح بروسا، وكان السلطان عثمان إذ ذاك مريضا من علّة النقرس، فتخلف عن الغزو.
وفي هذه الأثناء، توفي الملك المذكور في سنة ست وعشرين وسبعماية، وقيل بل عاش بعد فتح بروسا بعض أيام، ودفن في قرية سكوتجك (3)، وله قبر هناك يزار ويتبرك به.
وكان، رحمه الله، ملكا عادلا، شجاعا، مرابطا، مجاهدا، يراعي الأبطال، ويحسن للأيتام والأرامل، ولم يترك من المال شيئا، وإنما ترك بعضا من الخيل وشيئا من الغنم فالغنم التي ترعى في نواحي بروسا باسم السلاطين العثمانية من تلك الأغنام. توفي رحمه الله، وله من العمر تسع وستون سنة.
وكانت مدة ملكه ستا وعشرين سنة، وتولى مكانه ولده:
__________
(1) في (ب): «الأمير الغازي عثمان» وفي (ج): «السلطان الغازي عثمان خان».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «طراقلويكيجه».
(3) كذا وفي (ب): «سكوتجاك» وفي (ج): «سوتجك».(2/9)
السلطان المجاهد الغازي أورخان (1)
جلس على سرير الملك في ابتداء سنة سبع وعشرين وسبعماية، وسنّه ثمان وأربعون سنة. وكان مولده في سنة ثمان وسبعين وستماية.
ثم إنه بالغ وبذل جهده في فتح مدينة بروسا، ففتحها بعد جهد جهيد بالأمان (2)، واستولى على القلعة وأسكنها من المسلمين، وجعلها دار الإسلام بعد أن كانت معقلا لأهل الأوثان والأزلام، وانتقل الملك إليها وجعلها دار السلطنة، وبنى بها جامعا ومدرسة وتكية يطبخ فيها الطعام للفقراء والغرباء.
وهذه المدينة من الاقليم الخامس، وهي من أعظم المدن الإسلامية وأعمرها، وهي مدينة كثيرة الثمار والعيون، وفي جانب منها مياه سخنة، بقدرة الله تعالى، جعلوها حمامات ينتفع بها خلق كثير، وهي من عجائب الدنيا.
وفي سنة احدى وثلاثين وسبعماية، سار السلطان أورخان ففتح حصون قيون حصاري، وفتح أزنكميد (3)، وفتح مدينة أزنيق (4)، وكانت من معظم مدائن الكفار ومجمع عظمائهم وعلمائهم (5)، فغنم المسلمون منها غنيمة لم يعهد بمثلها، وفتح حصونا / كثيرة.
وفي سنة ثمان وخمسين وسبعماية، أمر السلطان أورخان لولده سليمان أن يجتاز البحر الأبيض إلى طرف روم إيلي للجهاد، ولم يكونوا يملكون السفن،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «السلطان المجاهد أورخان خان ابن السلطان عثمان خان».
(2) لفظة «بالأمان»: ساقطة من (ج).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «أرمكيد» ولعل الرسم الوارد في الأصل و (ج) هو الصحيح.
وأزنكميد الاسم التركي، والاسم العربي لهذه المدينة نقمودية. واسمها الحالي: أزميد.
انظر: لسترنج: 190.
(4) وترد أيضا «يزيق»، وأطلق عليها البلدانيون العرب اسم نيقية.
المرجع نفسه: 190.
(5) «وعلمائهم»: ساقطة من (ج).(2/10)
فعملوا ألواحا شبه السفينة (1)، فركبوا عليها بالليل من موضع يقال له كمر، فوصلوا إلى ذلك البر، فصادفوا حصنا يسمى جمنى، فاستولوا عليه بما فيه، ثم هجموا على قلاع آخر، فاستولوا عليها قهرا.
وكان الأمير سليمان بن أورخان على جانب عظيم من الشهامة والعدالة.
فلما رأى الكفار حسن سيرته، ونشر عدله، وضبطه جنده، أطاعوه ورضوا به، فصار أمر المسلمين ينمو وصيتهم يسمو. فخرج لقتالهم تكور [صاحب] (2) مدينة كليبولي (3)، في عسكر كثير، وكان المسلمون في نفر قليل، فتوكّلوا على الله، واستمدوا من روحانية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتقاتلوا قتالا كثيرا (4)، فانتصر المسلمون واستولوا على عدة حصون، منها مدينة كليبولي، وهي مدينة جليلة على شاطىء البحر، بينها وبين قسطنطينية ستة وثمانون ميلا ونصف ميل، ومنها قلعة قره جك، وقلعة خيره يولي، وهي بلاد متسعة ومنها ويزه (5)، ومنها تكفور (6) طاغي وغيره، وأخرب الكنائس والبيع، وبنى مكانهما المساجد والمعابد.
وفي سنة ستين وسبعماية، خرج الأمير سليمان المذكور للصيد، فكبا به الفرس، فمات من وقته وجزع عليه والده جزعا شديدا.
وفي هذه السنة عبر الأمير مراد الغازي بن السلطان أورخان إلى طرف روم إيلي من خليج كليبولي، ففتح مدينة جورلي، وهي من القسطنطينية مسيرة ثلاث مراحل. ولم يزل مراد الغازي يحاصر البلاد، ويقاتل الكفار العناد، حتى فتح مدينة ديمتوقه، وهي من كبار البلاد الإسلامية يومئذ.
وفي سنة احدى وستين وسبعماية، توفي السلطان أورخان الغازي، وعمره
__________
(1) في (ب): «كهيئة السفينة» وفي (ج): «شبه السفن».
(2) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «كليبلولي».
(4) كذا وفي (ب) و (ج): «شديدا».
(5) لم ترد في (ج).
(6) كذا في (ب) وفي (ج): «تكور».(2/11)
ثلاث وثمانون سنة، ودفن بمدينة بروسا وكانت مدة ملكه خمسا وثلاثين سنة (1).
وكان رحمه الله ملكا جليلا ذا صورة حسنة، وسيرة مرضية، وكرم وافر، وعدل متكاثر. بنى بأزنيق جامعا ومدرسة، وهي أول مدرسة بنيت في الدولة العثمانية.
ومن العلماء في زمانه داود القيصري القرماني، / اشتغل في بلاده، ثم انتقل إلى مصر، وقرأ على علمائها وغيرهم.
ومن المشايخ كيكلوببا، كان يركب الغزلان، وحضر فتح بروسا مع السلطان أورخان، وهو راكب على غزال، وله كرامات يعجز الإنسان عن حصرها.
ومنهم الشيخ العارف بالله قره جه أحمد، أصله من بلاد العجم من أبناء الملوك.
ومنهم الشيخ المجذوب موسى بابا. ومن كراماته أنه أخذ جمرة فوضعها في قطنة، وأرسلها إلى الشيخ كيكلوببا الذي كان يركب الغزلان. فلما رآها الشيخ أرسل إليه قصعة فيها لبن. فلما رآه تعجب فسأل عنه، فقال: إنه لبن الغزال، وتسخير الحيوان أصعب من تسخير الجمادات.
ومن المشايخ أيضا في زمانه آخي أوران، ودوغلو بابا، وآبدال مرادا، كلهم من أولياء الله تعالى، ظهرت كراماتهم (2).
وبويع بالسلطنة بعد وفاة والده:
__________
(1) الأصل و (ب): «احدى وأربعون سنة»، وهو خطأ، ذلك لأن أورخان قد ولي الحكم سنة 727هـ وقيل 726، والتصحيح بعد مراجعة (ج)، وابن العماد: شذرات الذهب 6/ 189.
(2) المقطع «ومن العلماء في زمانه ظهرت كراماتهم»: ساقط من (ب).(2/12)
السلطان مجاهد الدين مراد خان بن أورخان (1)
استقر على سرير الملك بمدينة بروسا، وكان عمره إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة. مولده سنة سبع وعشرين وسبعماية، وجلوسه على التخت سنة احدى وستين وسبعماية.
فلما جلس على سرير الملك، سار وحاصر مدينة أنكوريه ففتحها عنوة، وكانت من أمنع الحصون، وهي مدينة يجلب منها الأصواف إلى العالم. فلما سمع بخبره ابن قرمان، صاحب مدينة لارنده، خشي على بلاده، فجمع خمسة من القبائل والعشائر، وهم التتار، وورسق وطورغود، والتركمان، وغيرهم جماعة لا تحصى، فنهض كل من الملكين إلى قتال الآخر، فجرى بينهما قتال شديد وحرب أكيد، ثم انجلى الأمر عن هزيمة ابن قرمان، وانتصار السلطان مراد خان بن عثمان.
وفي سنة احدى وستين وسبعماية، أرسل السلطان مراد خان الغازي شاهين لالا الأتابك إلى فتح مدينة أدرنة في جيش كثيف، فاقتتلوا قتالا شديدا، وعجز عن أخذها وسألوا السلطان أن يقدم إليهم بنفسه، فسار السلطان مع جيوش الموحدين وغزاة المجاهدين، فاجتاز البحر. فلما سمع الكفار بقدومه تزلزلت أركانهم فهرب سلطانهم. فلما سمع المسلمون بذلك هجموا على المدينة فأخذوها، وأرسلوا أعلموا / السلطان، فحمد الله وأثنى عليه، وجاء فدخل المدينة. وهي من أعظم مدن الدنيا، وهي مدينة كثيرة البساتين تجري من تحتها الأنهار الثلاثة وهي: تونجه، وأربله، ومريج. وهي من الاقليم الخامس، بينها وبين قسطنطينية خمسة وتسعون ميلا.
ثم إن السلطان الجليل، عامله الله بالجميل، أرسل لالا شاهين الأتابكي (2)، بعد أن نصّبه أمير الأمراء بروم إيلي، وسار وفتح مدينة فلبه، وهي مدينة لطيفة، ثم فتح زغرة بنواحيها، وعاد إلى مدينة بروسا.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «السلطان مجاهد الدين مراد خان ابن السلطان أورخان».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الأتابك».(2/13)
وفي سنة ثلاث وستين وسبعماية، أشار قره خليل باشا على السلطان بأن يأخذ خمس الأسارى من الغانمين على زقاق كليبولي، وكان الغزو والجهاد في بلاد روم إيلي، فكانت تسبى الأسارى كالسيل الهامي والبحر الطامي، فاجتمع منهم عند السلطان طايفة كثيرة، فأمر بهم السلطان بتعليم علم المكاحل، فتعلموا. ثم ميّزهم أن أرسلهم إلى خدمة الشيخ العارف بالله الحاج بكتاش ليعلمهم بعلامة ويسميهم باسم، ويدعو لهم بالخير والظفر. فلما اجتمعوا بالشيخ قطع كم قباه، وكان من لبده فألبسه على رأس رئيسهم ودعا لهم بالبركة والظفر، وسماه ينكجري (1)، معناه العسكر الجديد.
وفي سنة ثلاث وثمانين وسبعماية، اشترى السلطان مراد [خان] (2) من صاحب بلاد حميد (3) خمس قلاع، وهي: يلواج، ويكي شهر، وآق شهر، وقره أغاج، وسيدي شهر.
وفي سنة احدى وتسعين وسبعماية، خرج السلطان المذكور إلى قتال رئيس الكفار ابن لاز، فاتفق موافاته بعسكر الكفار بموضع يقال له قوس أوه، ببلاد روم إيلي، فالتحم بين الفريقين القتال، وضرب السيوف والمكاحل، ورشق النبال إلى أن هبت رياح النصر من طرف المسلمين، وانقلب الكفار على أدبارهم صاغرين.
ثم إنه لما انهزم الكفار، أقبل من أمرائهم أمير يقال له ميلوش (4) بن قوبيل مع خيله ورجله، مظهرا للطاعة. فلما هم بتقبيل يد السلطان ضربه بخنجر كان في
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «ينك جرى».
(2) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(3) وهذه البلاد التي تعرف بإمارة حميد تقع حول البحيرات الأربع: اكريدور، وبردور، وبقشهر، وآقشهر.
لسترنج: 184.
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «ويلوش».(2/14)
كمه، فمن ذلك سن العثامنة (1) عند قدوم الوافد وتقبيل يد السلطان أن يمسك واحد من طرف كمه وآخر من كمه الآخر احترازا من ذلك. فلما قتل [السلطان] دفنوا أمعاءه / هناك، وحملوا جسده ودفنوه بمدينة بروسا، وقبره اليوم يزار ويتبرك به.
وكان، رحمه الله، ملكا جليلا، عادلا، عارفا، وكان أفنى عمره في الجهاد. وكان شجيعا مقداما على الهمة. توفي وعمره خمس وستون سنة، ومدة سلطنته احدى وثلاثون سنة. وتولى الملك بعده ولده:
السلطان السعيد إيلدرم بايزيد ابن السلطان مراد خان (2)
وكان السلطان إيلدرم بايزيد وأخوه يعقوب مع أبيهما في السفر، فلما قضى نحبه، اتفق رأي أركان الملك على تولية بايزيد فدعوه إلى الوطاق (3)، فأعلموه بوفاة والده، فعزوه وهنوه بالسلطنة، وأجلسوه على سرير الملك، ودعوا أخاه يعقوب، فقالوا له: إن السلطان قد ضعف ويريد حضورك إليه. فلما دخل الوطاق قبضوا عليه وخنقوه، وكان ذلك في رمضان سنة اثنتين وتسعين وسبعماية.
ثم بعد ذلك فتح السلطان المذكور قره طوه، وهي معدن الفضة الخالصة التي لا نظير لها، وفتح بلاد اسكوب، وهي من أجل البلاد الإسلامية.
وفي هذه السنة فتح قلعة ودين.
وفيها خاف صاحب بلاد آكرين (4) من السلطان، وسلم مفاتيح قلاعه إلى السلطان.
وفيها أطاع السلطان أهالي بلاد قره سي وصار وخان.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «العثمانية».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «السلطان السعيد يلدرم بايزيد خان الغازي ابن السلطان مراد خان».
(3) الوطاق: المخيم.
. 819،،.،
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «خاف ابن آيدين».(2/15)
وفيها هرب صاحب قسطموني، وهو ابن منتشا، فأرسل السلطان من يضبط تلك البلاد جميعا.
ولما نقض العهد علاء الدين، صاحب بلاد قرمان، وبلغ السلطان أنه أغار على بعض بلاد أناطولي (1)، هجم عليه السلطان، فانهزم، فلحقه بموضع يقال له آق جاي، فأسر هو وابناه محمد وعلي، فنازل السلطان مدينة قونية، وهي كرسي مملكته، وحاصرها. وكان وقت إدراك الغلال، فرسم السلطان بأن لا يتعرض أحد لشيء من الغلال، وأن لا يظلموا أحدا، وأذن لأهل القلعة بأن يخرجوا، ويشتغلوا ويبيعوا على مقدار ما شاءوا، فخرج أهل القلعة وأصلحوا شأن غلالهم وحصادهم، وباعوها من العسكر على أبلغ وجه أرادوا. فلما شاهدوا ذلك رجعوا إلى أنفسهم، فقالوا: «إن ملكا بلغ منا هذا المبلغ لا ينبغي أن نعصيه ونخرج عن طاعته!». فحضروا برمتهم طايعين ولحكم الملك السعيد / راضين، وسلموه مفاتيح القلعة، وقالوا: «أنت أحق بها وأهلها!».
فلما رأى أهل سائر القلاع ما فعل أهل قونية، وهم عمدة بلاد قرمان، رغبوا في المتابعة فجاءوا بمفاتيح قلاعهم، وهي بلدة آقسراي، ونكدة، وقيصرية، ودوه لو (2)، وقره حصار، وسلموها إلى الملك السعيد إيلدرم با يزيد.
ثم رجع السلطان إلى مقر مملكته بروسا، بعد ما قتل علاء الدين بن قرمان، وحبس ولديه بمدينة بروسا، إلى أن أطلقهما الخارجي تيمور حين قدم الروم.
وفي سنة خمس وتسعين وسبعماية، استولى السلطان المذكور على سيواس، وأماسية، ومدينة توقات، ونكسار، وجانيك، وصامسون.
وفي آخر هذه السنة، بلغه أن بايزيد الزمن (3)، صاحب قسطموني، أغار على بعض البلاد التي بيد السلطان، وعاث فيها نهبا وتخريبا. فلما بلغه
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «أناضولي»، ويقصد بلاد الأناضول.
(2) في (ب): «دوّه» وفي (ج): «دولّى».
(3) كذا في (ج) وفى (ب): «بايزيد بيك».(2/16)
[ذلك] (1)، وكان قد جاز البحر لغزو الكفار إلى طرف روم إيلي، فتركه ورجع قاصدا لقتال بايزيد، فاتفق أنه مات وتولى مكانه ولده أسفنديار.
فلما وصل السلطان، استولى منها على بلدة طرقلي بورلي (2)، ومدينة قسطموني، وقلعة عثمانجق (3)، وكان قصده أن يستولي على جميع البلاد التي يملكها بايزيد بيك.
وأهل هذا البيت يزعمون أنهم من نسل خالد بن الوليد المخزومي (4)، فأرسل أسفنديار إلى الملك وافدا ومعه هدية يستعطفه ويسترضيه، ويقول: «إن أبي جنى وقد مات، وأنا مطيع لأوامر مولانا السلطان ومن جملة مماليكه، فالمناسب لعدله أن لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، وأرجو من مكارمه أن يترك لي مدينة صناب (5)، وهي مدينة أبي ومسقط رأسي، ويجعلني فيها نايبا من قبله!».
فأجاب السلطان إلى سؤاله، وأعطاه، وعاد إلى مدينة بروسا.
وأرسل [السلطان] إلى تكور [صاحب] (6)، القسطنطينية يقول له: إما أن تخرج من البلاد وتسلمها إليّ، وإما سرت إليك فأتيتك في أعز أماكنك إليك!.
فخاف منه والتزم له بالخراج في كل سنة عشرة آلاف ذهب، وأن يبني للمسلمين في داخل المدينة محلة يسكنون فيها، ويكون لهم فيها مسجد وجامع وقاض يفصل الخصومات، فرضي بذلك ولم يتعرض له السلطان، فاستمرت هذه الحالة إلى / زمان وقعة تيمور، فعند ذلك نقض العهد، وأخرب الجامع وأخرج المسلمين من البلد، وساقهم إلى الروم.
قال الحافظ ابن حجر في كتابه
«إنباء الغمر في إنباء العمر»: واشتهر إيلدرم
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «طرقلو بولي».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «عثمان جق».
(4) الجملة: «وأهل هذا البيت المخزومي» ساقطة من (ب) و (ج).
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «سينوب».
(6) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/17)
بايزيد بالجهاد في الكفار حتى بعد صيته، وكاتبه الملك الظاهر برقوق وهاداه، وأرسل إليه أميرا بعد أمير، ولم يبق أحد من ملوك الأرض حتى كاتبه وهاداه حتى كان يقول الظاهر برقوق: أنا لا أخاف من الكفار، فإن كل أحد يساعدني عليهم، وإنما أخاف من ابن عثمان.
وفي سنة اثنتين وثمانماية، سار ملوك الطوائف ببلاد الروم الذين اقتلعهم إيلدرم بايزيد خان عن ممالكهم، مثل ابن كرميان، وابن منتشا، وابن آيدين، وابن أسفنديار وغيرهم، إلى تيمور، صاحب الشرق، يشكون إليه من السلطان بايزيد ويرغبونه إلى الروم، ويستنجدون به عليه في رد ممالكهم. فأجاب تيمور إلى سؤالهم، بعد أن رجع من البلاد الشامية وبغداد، فدخل حدود الروم في أواخر سنة أربع وثمانماية، وأرسل تيمور إلى الملك السعيد بايزيد في الصلح على عادته من المكر والدهاء، وقال: «إنك رجل مجاهد في سبيل الله، وأنا لا أحب قتالك، ولكن انظر أي البلاد التي كانت معك من أبيك وجدك، فاقنع بها، وسلم لي البلاد التي كانت مع أرتنا!». وكان عند السلطان بايزيد خفة وشجاعة، ولم يكن عنده صبر ساعة، وكان إذا تكلم وهو في صدر مكان، فلا يزال في حركة واضطراب حتى يصل إلى طرف الإيوان.
فلما وقف على كتابه، وفهم فحوى خطابه، قال: «أيخوفني بهذه التّرهات؟
ويستفزني بهذه الخزعبلات؟ أو يحسب أنني مثل ملوك الأعجام (1)، أو تتار الدشت الأغنام؟ أو ما يعلم أن أخباره عندي أن أول أمره فحرامي (2)، سفّاك الدماء، هتاك الحرم، نقاض العهود والذمم، وكيف ختل الملوك وختر، وكيف تولى / وكفر، وأين للتتار الطغام، الضرب بالبتار الحسام، وما لهم رشق سوى النبال والسهام، بخلاف ضراغم الأروام.
وأما نحن، فالحرب دأبنا، والضرب طلابنا، والجهاد صنعتنا، رجالنا باعوا
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «الأعاجم».
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «حرامي».(2/18)
أنفسهم وأموالهم من الله (1)، بأن لهم الجنة، فكم لضرباتهم في آذان الكفار من طنة، ولسيوفهم في قلانس الفوارس من رنة. وأنا أعلم أن هذا الكلام يبعثك إلى بلادنا انبعاثا، فإن لم تأت تكن زوجاتك طالقا ثلاثا، وإن قصدت بلادي وفررت عنك، ولم أقابلك البتة، فزوجاتي إذ ذاك طوالق ثلاثا بتة (2)!). ثم أنهى خطابه، ورد على هذه الطريق جوابه.
فلما وقف تيمور على جوابه، استقبح بما ختم بالنساء لكتابه، وكان السلطان إيلدرم بايزيد على مدينة استانبول محاصرا آثمها وكفارها (3)، وقد قارب أن يفتحها، وتضع الحرب أوزارها، فتركها وتوجه لقتاله، واستعد لاستقباله، وخاف من الهجوم على بلاد الروم، فأجرى من عساكره السيول الهامرة، وأخذ بهم على قفار غامرة، حذرا على رعاياه من مواطىء مطاياه فإنه كان على الضعيف من رعيته شفوقا، وبالفقير من حشمه وخدمه رفيقا.
وكان غالب عسكره من التتار، وهم (4) قوم ذو يمين ويسار، فأرسل تيمور إلى زعمائهم والكبار من رؤسائهم وأمرائهم يستميلهم، ويذكرهم الجنسية ويعدهم ويمنّيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فوعدوه بالمعاونة والمعاودة.
وكان تيمور قد نازل أنكورية فلم يفق السلطان من رقاده إلا وتيمور قد مرّ على جميع بلاده، فقامت عليه القيامة، وأكل يديه حسرة وندامة، وتدانت الجيوش من الجيوش، واضطربت الوحوش على الوحوش، وامتلأت منهم الصحاري والقفار، وتقابلت اليسار باليمين، واليمين باليسار، / واندفعت من عساكر العثمانية التتار، واتصلت بعسكر (5) تيمور كما رسم أولا وأشار، وكانوا هم
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «لله».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «البتة».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «محاصرها».
(4) «وهم»: ساقطة من (ج).
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «بعساكر».(2/19)
صلب العسكر، والأوفر والأكثر، بل قيل إن ذلك الجمهور كانوا نحوا من جند تيمور.
وكان مع السلطان من أولاده أكبرهم الأمير سليمان، فلما رأى ما فعله التتار، علم أنه قد حل بأبيه البوار، فأخذ باقي العسكر، وقهقر عن ميدان المصاف، وتأخر، وترك أباه في شدة البأساء، ورجع بمن معه إلى جهة بروسا.
فلم يبق مع السلطان إلا المشاة ومن داناهم، وبعض من الكماة وقليل ما هم، فثبت للمجاولة بمن معه من الرفاق، وخاف إن فر أن يقع عليه الطلاق. فصبر لحادثات الدهر وما انهزم، وما أراد أن يفي على مذهب الإمام مالك بما التزم، فأحاطت به أساورة الجنود، إحاطة الأساورة بالزنود، ووقع السلطان في القفص، وصار مقيدا كالطير في القفص. وكانت هذه المعركة على نحو ميل من مدينة أنقرة يوم الأربعاء سابع عشر ذي الحجة سنة أربع وثمانماية.
ووصل ولده الأمير سليمان إلى بروسا، معقل ابن عثمان، فاحتاط على ما فيها من الخزائن والأموال، والحريم والأولاد، ونفائس الأثقال، واشتغل بنقل ذلك إلى برّ أدرنه، وكان للسلطان المذكور من الأولاد الذكور الأمير سليمان هذا هو أكبرهم، وعيسى، ومصطفى، وموسى وهو أصغرهم، وكل طلب لنفسه مهربا، وانحاز إليه من العسكر طائفة نجبا فكان محمد وموسى في قلعة أماسية، وهي خرشنه الشاهقة العاصية (1).
وأما عيسى فإنه لجأ إلى بعض الحصون، واستكان إلى أن قتله أخوه الأمير سليمان، وموسى فيما بعد قتل الأمير (2) سليمان بعيسى، ثم بعد الكل محمد [قتل] (3) موسى، ونسخت الأحكام المحمدية شرائع آثار الملة الموسوية والعيسوية (4) وأما مصطفى فإنه فقد، وقتل نحو من ثلاثين بسببه.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «شاهقة عاصية».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الأمير».
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) عبارة: «ونسخت الأحكام العيسوية» ساقطة من (ج).(2/20)
ثم إنه لم يزل السلطان في أسر تيمور، وقصده أن يطلقه إذا وصل إلى حدود تبريز، فمرض فلم ينجع، حتى توفي في مدينة آق شهر، يوم الخميس رابع شعبان سنة خمس وثمانماية، من علة الخناق وضيق النفس، ودفن / في المدينة المذكورة بطريق الأمانة، ثم نقله ولده موسى جلبي بمعرفة تيمور إلى تربته بمدينة بروسا.
فلما سمع تيمور بوفاته، تأسف وحزن وبكى. ثم إن تيمور قسم بلاد الروم على زعمه للملوك الذين خلفهم الملك السعيد بايزيد ما كان لهم، وأطلق ابني قرمان من الحبس، وسلّم إليهما مقاليد أبيهما، وفوض بلاد أنا طولي على زعمه إلى موسى وعيسى، ابنا السلطان إيلدرم خان. ثم مضى إلى سبيله بعد ما خان، وأفسد العباد، وأخرب البلاد، وهتك الستور، وأباح البكور، ولم يسلم من شره من رعايا الروم لا الثلث ولا الربع، وصارت جماعاتهم (1) فيهم، ما بين منخنقة وموقودة (2)، ومتردّية ونطيحة، وما أكل السبع.
وكان السلطان السعيد إيلدرم بايزيد من خيار ملوك الأرض، وكان مجاهدا مرابطا، وقد فتح من بلاد الكفار ومدنهم الكبار ما لم يمسها من المسلمين خف ولا حافر. وكان قوي النفس، شديد البطش، عالي الهمة.
ذكر الحافظ ابن حجر في تاريخه، بعد ما أثنى عليه، أن الحوض الذي يغتسل (3) منه كان فضة، وكذا كانت أوانيه التي كان يأكل فيها ويشرب ويستعملها (4). وكان الأمن في زمانه بحيث يمر الرجل بالحمل مطروحا بالبضاعة، فلا يتعرض له أحد.
وكانت مدة ملكه أربعة عشر عاما وثلاثة أشهر، وعمره ثمان وخمسون سنة،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «جماعتهم».
(2) هذه اللفظة لم ترد في (ب).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «فيه».
(4) كذا وردت هذه العبارة في (ج) وفي (ب): «وكانت أوانيه التي يأكل فيها ويشرب ويستعملها فضة».(2/21)
وخلف خسمة أولاد ذكورا، وهم: عيسى، وموسى، وسليمان، وقاسم، ومحمد كما سبق، وصار بينهم النزاع والقتال نحو اثنتي عشرة سنة إلى أن استقل بالملك:
السلطان محمد بن الملك السعيد إيلدرم بايزيد خان (1)
جلس على سرير الملك بمدينة بروسا في سنة ست عشرة وثمانماية، وعمره إذ ذاك تسع وثلاثون سنة، لأن مولده في سنة سبع وسبعين وسبعماية.
وكان دأبه الإشتغال بالحروب، وكان من جملة من خرج عليه وحاربه قره دولتشاه من التتار في نواحي أماسية، فسار عليه وهزمه وبدد شمله. ثم قصد قتال أسفنديار بيك صاحب صناب، وجرى بين الفريقين قتال شديد انتصر فيه السلطان محمد، وانهزم أسفنديار أقبح هزيمة، واستولى السلطان محمد على جميع ما يملكه. ثم بعد ذلك صفا له الأمر، وانتظم له الدهر (2)، ولم يبق من ينازعه في ملكه.
ثم لما بلغه / أن ابن قرمان نقض العهد وتعرض لأخذ بعض البلاد، فسار إليه بجيش كثير، فقاتله وهزمه، فتبعه حتى أسره وأسر ولديه محمد ومصطفى، فأحضر بين يدي السلطان، فعاتبه على سوء صنيعه، ثم عفا عنه وعن ولديه وأطلقهما، وعين لهما بعض بلادهما، وأخذ عليهما العهد والميثاق بأن لا يخوناه بعد ذلك. واستولى على عدة قلاع لابن قرمان منها قلعة سوري حصار، وقلعة قير شهري، وقلعة نكدة، وقلعة آق شهر، وقلعة سيدي شهر، وقلعة أوغازي، [وقلعة بكشهري] (3)، وقلعة حميد إيلي (4)، ثم سار واستولى على قلعة سامسون، وغالب هذه البلاد كان افتتحها السلطان بايزيد، ثم لما قدم تيمور إلى بلاد الروم ردها إلى أصحابها.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «السلطان محمد خان الغازي ابن السلطان يلدرم بايزيد خان».
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «صفا له الدهر وانتظم له الأمر».
(3) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «سعيد إيلي».(2/22)
وفي سنة أربع وعشرين وثمانماية، مرض السلطان محمد خان من الإسهال، وهو يومئذ بمدينة أدرنه، ولم يزل يثقل مرضه حتى مات. وكان قد عهد في حياته بالملك لولده مراد خان، وسبب ذلك أنه رأى رؤيا أنه جالس في محل لطيف، فمدوا له سماطا فتناول منه شيئا يسيرا، ولم ينل منه غرضه، فرفعوه ووضعوه بين يدي ولده العادل مراد خان، وهو في بيت غير البيت الذي هو فيه. فلما انتبه علم أنه لا يدوم في الملك، وأن ولده سيلي الملك بعده، وأمر ببناء الجامع والمدرسة والعمارة بمدينة بروسا.
وكان ولده مراد خان يوم وفاة أبيه في أقصى بلاد روم إيلي في الغزو، فأخفى الوزراء موت السلطان مدة احدى وأربعين يوما، حتى وصل السلطان مراد خان إلى مدينة بروسا، واستقر على التخت بها. ثم بعد ذلك أظهروا موت السلطان وشيعوه إلى مدينة بروسا، ودفنوه قبالة جامعه الذي أنشأه بالمدينة المذكورة.
وكانت مدة ملكه ثمانية أعوام وعشرة أشهر، وعاش ثمانية وأربعين عاما.
وكان، رحمه الله، ملكا جليلا، مهيبا محبا للعلماء والصلحاء (1)، وهو أول من عين الصر، من محصول أوقافه، لأهل الحرمين الشريفين (2)، من سلاطين بني عثمان، وتولى السلطنة بعده ولده:
الملك العادل مراد بن محمد خان (3)
جلس / على سرير الملك، بعد وفاة والده بعهد منه إليه، في أواخر سنة أربع وعشرين وثمانماية، وعمره ثماني عشرة سنة.
وفي سنة خمس وعشرين وثمانماية، ظهر رجل يدعى مصطفى في نواحي سلانيك، وادعى أنه الأمير مصطفى ابن الملك السعيد إيلدرم بايزيد الذي فقد في وقعة تيمور، ولم يعلم له خبر، فاجتمع عليه خلق كثير، فاستفحل أمره جدا
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «جليلا مجالسا للعلماء، محبا للصلحاء».
(2) لفظة «الشريفين»: ساقطة من (ج).
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «الملك العادل السلطان مراد خان ابن السلطان محمد خان».(2/23)
حتى قام واستولى على جميع بلاد روم إيلي وعلى مدينة أدرنه. ثم اجتاز البحر إلى طرف أناطولي ليقاتل السلطان مراد، وكان السلطان مراد بعث قبل هذا لقتاله (1) وزيره بايزيد باشا وصحبته عساكر كثيرة إلى قتال الخارجي المذكور، فقاتلوه بقرب أدرنه، فانتصر الخارجي وانهزم عسكر مراد خان، وأسر الوزير (2)
بايزيد باشا وقتله الخارجي.
فلما بلغ ذلك السلطان مراد خان اندهش، فقام وتضرع إلى الله تعالى، والتجأ إلى قطب العارفين مولانا السيد محمد البخاري، وكان الشيخ إذ ذاك في قيد الحياة، واستمد منه، فوعده الشيخ بالنصر.
حكي عن الشيخ المذكور أنه قال: توجهت في هذا الأمر توجها تاما، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم، فقبّلت قدمه المباركة، وسألته النصر، فلم يقل شيئا. ثم توجهت ثاني مرة فرأيته صلى الله عليه وسلّم، فقبّلت رجليه وتضرعت، فلم يقل شيئا. ثم توجهت ثالث مرة فرأيته صلى الله عليه وسلّم، فقبّلت رجليه وتضرّعت، وقلت: «يا ملاذ الملهوفين، يا رسول رب العالمين، سألتك العون في حق مراد!». فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلّم: «نعم النصر، إن شاء الله تعالى!». فلما أصبح بعث الشيخ إلى السلطان مراد، وبشّره بالنصر وقلده بيده السيف، وقال: «سر بإذن الله في حفظ الله، فإنك منصور!» فشكر له السلطان ذلك وقبّل يده المباركة (3). فسار بعساكره ونزل نهر أولوباد، وهو نهر كبير من عجائب الدنيا، لأنه يجري ستة أشهر إلى الشرق، وستة أشهر إلى الغرب لأمر اقتضى ذلك (4)، فأمر برفع الجسر الراكب على النهر المذكور، فرفعوه.
ثم قدم الخارجي، فنزل في شط النهر إلى الجانب الآخر، واستمر العسكران هناك زمانا من غير أن يجري بينهما قتال.
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «وكان السلطان مراد قبل هذا عين لقتاله».
(2) العبارات: «وانهزم عسكر مراد وقتله الخارجي» لم ترد في (ب).
(3) لم ترد قصة التجاء السلطان مراد إلى الشيخ الصوفي في النسخة (ب).
(4) في (ب) و (ج): «لأمر اقتضته قدرته».(2/24)
ثم إن الله تبارك / وتعالى، وهو الواحد القهار، ينصر من يشاء من عباده، سلط على الخارجي الرعاف، فاستمر به ذلك ثلاثة أيام حتى ضعف جدا، وجعل يخلط في الكلام واختل عقله. فلما تحقق ذلك أركان دولته ووجوه عسكره، تيقّنوا بخذلانه، فداخلهم الخوف فتفرقوا شذر مذر، وهرب الخارجي مع ضعفه إلى طرف روم إيلي. فلما شاهد ذلك عسكر السلطان مراد، اجتازوا النهر، فساقوا خلف المنهزمين، فأسروا منهم خلقا كثيرا، وقتلوا غالبهم، وغنموا منهم أموالا ودوابا كثيرة. ثم أمر السلطان بعض أمرائه حتى لحقوا الخارجي بقرب أدرنه، فظفر به فقتله.
وفي سنة تسع وأربعين وثمانماية، نزل السلطان مراد خان عن السلطنة لولده السلطان محمد خان، وخلع نفسه عن السلطنة، واختار لنفسه مدينة مغنيسا، فاعتزل بها عن الملك. وشاع هذا الخبر في الآفاق، وقال ملوك الكفار بعضهم لبعض: إن ملك المسلمين قد صار شيخا كبيرا فاعتزل عن الملك، وجعل منصبه لولده، وهو صبي صغير لا يخشى منه. فاتفق قرال أنكروس، وقرال ألمان، وقرال جه، وأمير لاطين، وأمير بوسنة، وصاحب بوليه، وصاحب أفلاق، وطايفة الإفرنج على قتال المسلمين، وأن لا يدعوا من بلاد الإسلام حجرا على حجر.
فلما بلغ ذلك أركان الملك، خافوا واسترهبوا، واستصوبوا أن يدعوا السلطان مراد من مغنيسا ليكون معهم، لأنه سلطان شاع بذكره الأخبار، وطال ما أنكى الكفار. فأرسلوا يطلبونه، فامتنع وقال: سلطانكم دونكم، فخذوه وخلّوني!. فلم يزالوا يدخلون (1) عليه حتى رضي، وسار مع ولده السلطان محمد إلى طرف العدو.
فلما تصاف الطائفتان والتقى الجمعان، تكاثر كل من الفريقين على الآخر، واتفق أن انهزم (2) المسلمون، وجعل الكفار يطردونهم ويقتلونهم، ولم
__________
(1) الأصل: «يبرمون» وما هنا من (ب) و (ج).
(2) الأصل: «انهزمت» وما هنا من (ب) و (ج).(2/25)
يبق إلا السلطان مراد خان في القلب. فلما شاهد هذه الحالة رفع يديه إلى السماء، وتضرع إلى الله تعالى، وسأله النصر والعون، واستغاث / بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم. فلم تمض ساعة إلا اغتر قرال أنكروس (1)، وهو كبيرهم، فبرز من بين عسكره وانفرد وجعل يدعو السلطان مراد إلى مبارزته (2)، ثم هجم على المسلمين، فاتفق أن تقنطر به فرسه، فتسارع إليه المسلمون، فحزوا رأسه ورفعوه على رمح، وجعلوا يصيحون: «هذا رأس قرال الملعون!».
فلما رأى الكفار ذلك انهزموا عن آخرهم، وساق المسلمون خلفهم وقتلوهم قتلا ذريعا. وكان يوم غم وسرور والعاقبة للمتقين، وأما الغنائم والأسارى فلا تحصى ولا تحصر.
ثم إن السلطان لما عاد من الغزو، أمضى سلطنة ابنه السلطان محمد [خان] (3)، على ما كان عليه، وسار هو إلى طرف مغنيسا، واستمر الحال على هذا المنوال (4)، إلى أن تحركت طائفة الينكجرية، وعاثوا وكبسوا بيوت الأمراء والوزراء، ونهبوها، وكان ذلك في سنة خمسين وثمانماية. فعند ذلك رأى الوزراء وسائر أركان الملك أن يعيدوا السلطان مراد خان إلى الملك ليستهيبوه (5)، فطلبوه وأجلسوه على سرير الملك، وعاد ابنه السلطان محمد خان إلى مكان أبيه مغنيسا.
واستمر السلطان مراد يغزو نحو بلاد يوان (6)، وأرنود، واستولى على معظم بلاد الكفار.
__________
(1) كذا وفي (ب): «فلما شاهد ذلك، تضرع إلى الله تعالى وإلى نبيه في الاعانة بالنصر، فلم يكن غير ساعة حتى اغتر قرال أنكروس» وفي (ج): «فلما شاهد ذلك الحال، رفع يديه إلى الله تعالى، وسأله النصير العون، واستغاث بنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، فلم تمض ساعة حتى اغتر قرال أنكروس».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «لمبارزته».
(3) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «واستمر الحال كذلك».
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «ليسترهبوه».
(6) لم ترد في (ج).(2/26)
وفي سابع المحرم، سنة خمس وخمسين وثمانماية، نهار الأربعاء، توفي السلطان مراد خان، وكان ملكا عالما، عاقلا، عادلا، شجاعا. وكان يرسل لأهالي الحرمين الشريفين وبيت المقدس من خاصة ماله في كل عام ثلاثة آلاف وخمسماية دينار. وكان يعتني بشأن العلم والعلماء، والمشايخ والصلحاء. مهد الممالك، وأمّن المسالك، وأقام الشرع والدين، وأذل الكفار والملحدين.
وكانت مدة سلطنته احدى وثلاثين سنة، وله من العمر تسع وأربعون سنة. وتولى مكانه ولده:
الملك المجاهد أبو المعالي محمد خان بن مراد خان (1)
جلس على سرير الملك بعد وفاة أبيه بعهد منه إليه، وكان عمره إذ ذاك تسع عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام. وهو السلطان الضليل، الفاضل النبيل، أعظم الملوك جهادا، وأقواهم إقداما واجتهادا، وأكثرهم توكلا على الله تعالى واعتمادا. وهو الذي أسس ملك / بني عثمان، وقنن لهم قوانين، صارت كالطوق في أجياد الزمان. وله مناقب جميلة، ومزايا فاضلة جليلة، وآثار باقية في صفحات الليالي والأيام، ومآثر لا يمحوها تعاقب السنين والأعوام.
ولما تسلطن خرج إلى قتال صاحب قرمان، فخاف منه صاحب قرمان، وصالحه، فعاد إلى مقر ملكه.
ثم لم يكن له هم إلا فتح المدينة الكبرى قسطنطينية العظمى، فشرع في مهماتها ومقدماتها، وهي من أعظم البلدان وأكثرها أهلا، وأمنعها حصنا، لأنها أحاطها البحر من كل صوب إلا الطرف الغربي، وهو طرف يسير، وقد حصنوه بثلاثة أسوار وعدة خنادق يجري فيها ماء البحر مع ما فيها من المكاحل والمدافع. فأظهر السلطان مسالمة صاحب قسطنطينية، وذلك في سنة ست وخمسين وثمانماية. ثم طلب من طرف بلاده أرضا مقدار جلد ثور يهبها له،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «الملك المجاهد أبو المعالي السلطان محمد خان ابن السلطان مراد خان».(2/27)
فاستقل ذلك قسطنطين، وقال: «سبحان الله، ما يفعل به، فهو له!». فأرسل السلطان المذكور، شكر الله سعيه المبرور، جماعة البنائين والصناع، فاجتازوا الخليج الداخل من بحر نيطس، وهو البحر الأسود، إلى بحر الروم، فقدّوا جلد الثور قدّا رقيقا، فبسطوه على وجه الأرض على أضيق محل من فم الخليج، فبنوا على القدر الذي أحاطه ذلك الجلد سورا منيعا شامخا، وحصنا رفيعا باذخا، فركب فيها المدافع الرعدية، والمكاحل الشهاببة.
ثم بنى السلطان المجاهد في مقابلة ذلك الحصن في بر أناطولي حصنا آخر وهو طرف بلاده، فشحنها بالآلات النارية، والمرامي الرعدية، حتى ضبط فم الخليج، فلم يقدر يسلكه بعد شيء من مراكب بحر الأسود إلى قسطنطينية وإلى بحر الروم.
ثم انثنى عزمه إلى مدينة أدرنه، فأمر بإنشاء دار السعادة الجديدة، فشرعوا في بنائها.
ثم أمر بسبك المدافع الكبار، وعمل المكاحل لأجل فتح مدينة قسطنطينية، فأكثروا منها.
ثم لما تكاملت الآلات والأسباب المتعلقة بالقتال، نهض في أوائل شهر جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانماية بعسكر كثير، وجيش كبير، وعزم صارم، ورأي حازم، / في أسعد أوقات الحركات، متوكلا على فائض الخير والبركات، فخيم على قسطنطينية ونازلها من طرف الشمال، وكان له أربعماية غراب، قد أنشأها هو وأبوه قبل ذلك التاريخ، فأرساها عند الحصن الذي أنشأه هو على مقدار جلد الثور الموسوم، ببغزكسن (1) فأمر بتلك الأغربة، فسحبت إلى البر، بعد أن جعلت تحتها دواليب تجري عليها كالعجلة، وشحنها بالرجال والأبطال. ثم أمر بنشر قلاعها فنشرت في ريح شديدة موافقة، فساروا في البر على هذه الهيئة، حتى انصبوا إلى الخليج الواقع شمالي البلد من طرف مدينة
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «بثغركش».(2/28)
غلطة، فامتلأ الخليج من تلك الأغربة، ثم قربوا بعضها من بعض وربطوها بالسلاسل، فصارت جسرا ممدودا ومعبرا لطيفا للمسلمين.
وكان أهل البلد آمنين من هذه الجهة ولم يحصنوها، وإنما كان خوفهم من جهة البر، فكانوا حصنوها وغفلوا من هذه الجهة، لأمر يريده الله تعالى، فشرع المسلمون في الحصار والقتال من جهة البر والبحر مدة أحد وخمسين يوما حتى أعيا المسلمين أمرها. وكان أهل قسطنطينية، لما سمعوا بقصد المسلمين إليهم، استمدوا من الإفرنج، فأمدوهم بجيش عظيم وعدد، فتقووا به.
وكان السلطان محمد خان قد أرسل وزيره أحمد باشا ابن ولي الدين [باشا] (1)، قبل هذا التاريخ، إلى خدمة العارف بالله الشيخ آق شمس الدين، وإلى خدمة الشيخ آق بيق، يدعوهما للجهاد والحضور معه في فتح قسطنطينية، فحضرا. وبشّر الشيخ شمس الدين الوزير المذكور بالنصر، وقال: ستفتح قسطنطينية، إن شاء الله تعالى، على يد المسلمين في هذا العام، وأنهم سيدخلونها من الموضع الفلاني في اليوم الفلاني من هذا العام، وقت الضحوة الكبرى، وأنت تكون حينئذ واقفا عند السلطان محمد. فبشّر الوزير السلطان بما بشّر به الشيخ من خبر الفتح.
فلما صار ذلك الوقت الموعود له، ولم تفتح القلعة، حصل للوزير خوف شديد من جهة السلطان، فذهب إلى الشيخ، فمنعوه من الدخول إليه، لأنه أوصى جماعته أن لا / يدخلوا عليه أحدا. فرفع الوزير أطناف الخيمة، فنظر، فإذا الشيخ ساجدا على التراب ورأسه مكشوف، وهو يتضرع ويبكي، فما رفع الوزير رأسه إلا وقد قام الشيخ على رجليه، وكبّر، فقال: الحمد الله الذي منحنا بفتح هذه المدينة! قال الوزير: فنظرت إلى جانب المدينة، فإذا العسكر قد دخلوا بأجمعهم، ففتح الله ببركة دعائه في ذلك الوقت الذي كان أشار به، وكانت دعوته تخرق السّبع الطّباق.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/29)
فلما دخل السلطان محمد خان المدينة، نظر إلى جانبه، فإذا وزيره ابن ولي الدين واقف عنده، فقال: «هذا ما أخبر به الشيخ!». وقال: «ما فرحت بهذا الفتح، وإنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زماني!».
ومن مناقب هذا الشيخ أنه كان طبيبا يداوي الأبدان، كما هو طبيب لداء الأرواح، حتى يحكى أن الأعشاب كانت تناديه، وتقول له: أنا أنفع من المرض الفلاني (1).
وكان فتح المدينة نهار الأربعاء، العشرين (2) من جمادى الآخرة، سنة سبع وخمسين وثمانماية. وكانت أيام محاصرته أحدا وخمسين يوما، فغنم المسلمون من الأموال والأسباب والدواب ما لم يسمع بمثله في عصر من الأعصار، لأن السلطان، لما شاهد العي والفتور من العسكر في الحصار، أمر بأن ينادى (3) أن الغنائم كلها لهم، ويكفيني فتح المدينة. فلما بلغهم ذلك، بذلوا جهدهم واجتهدوا حتى يسر الله لهم فتح المدينة.
فلما شاع خبر هذا الفتح إلى الآفاق، هابه ملوك العالم، فأرسل إليه صاحب مصر، وصاحب العجم، وصاحب العرب، بالمكاتبات والمراسلات يهنونه بالفتح.
ولا شك أن هذا الفتح من أعظم الفتوحات الجليلة، وكم رام من الخلفاء والملوك فتح هذه المدينة، وصرفوا همهم وبذلوا جهدهم وأموالهم (4)، وأفنوا أعمارهم وعساكرهم، فلم ينالوه، وإنما حباه الله تعالى لهذا السلطان الجليل، والملك الجميل، ولكونه أعلم الملوك وأعدلهم، وأحسنهم سيرة وأخلصهم نيّة وطوية، وضمن بعضهم هذا المعنى في تاريخ الفتح، فقال:
__________
(1) أخبار مناقب الشيخ ساقطة في (ب).
(2) في (ب) و (ج): «لعشرين».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «أمر منايا».
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «وصرفوا دراهمهم، وبذلوا أموالهم وأفنوا أعمارهم».(2/30)
رام أمر الفتح قوم أولون ... حازه بالنّصر قوم آخرون /
وقع لفظة آخرون تاريخ فتح المدينة بعدد حساب الحروف.
وقيل في تاريخها أيضا: بلدة طيبة، وهي كذلك في طيب الهواء وعذوبة الماء، وهي من الإقليم الخامس، بينها وبين مكة المكرمة ألف ميل وثلاثماية وسبعة وثمانون ميلا ونصف ميل.
ولما دخل السلطان المدينة، سارع بالتوجه إلى كنيستها العظمى آيا صوفيا، فدخلها وطهّرها من خبائث الكفر، وصلّى فيها، ودعا إلى الله تعالى وحمده، وأثنى عليه، وجعلها مسجدا جامعا للمسلمين، وعيّن له أوقافا ومراتب.
ثم إن السلطان محمد خان التمس من الشيخ شمس الدين، أن يريه موضع قبر أبي أيوب الأنصاري، فقال الشيخ: «إني شاهدت في موضع نورا، لعل قبره هناك!». فجاء إليه وتوّجه زمانا، ثم قال: «اجتمعت مع روحه فهنّاني بهذا الفتح، وقال: «شكر الله سعيكم الذي خلصتموني من ظلمة الكفر!». فأخبر السلطان بذلك، فحضر بنفسه إلى هناك، فقال: «ألتمس منك يا مولانا الشيخ أن تريني علامة أراها بعيني، ويطمئن بذلك قلبي!». فتوجه الشيخ ساعة، ثم قال: احفروا هذا الموضع، وهو من جانب الرأس من القبر مقدار ذراعين، يظهر لكم رخام عليه خط عبراني.
فلما حفروا، ظهر رخام عليه خط عبراني، فقرأه من يعرفه وفسره، فإذا هو قبر أبي أيوب الأنصاري، فتحير السلطان محمد خان، وغلب عليه الحال حتى كاد أن يسقط لولا أن مسكوه.
ثم أمر ببناء القبة عليه، وأمر ببناء الجامع والحجرات، والتمس من الشيخ آق شمس الدين أن يجلس في ذلك المكان مع توابعه، فامتنع واستأذن بالرجوع إلى وطنه قصبة كوينك، فأذن له السلطان تطييبا لقلبه (1).
__________
(1) لم ترد قصة قبر أبي أيوب الأنصاري في النسخة (ب).(2/31)
ولمّا دخل المسلمون إلى مدينة قسطنطينية، أرسل صاحب غلطة مفتاح (1)
قلعتها ففتحت، ودخلها المسلمون، وتسارعوا إلى مسجدها القديم الذي كان بناه مسلمة بن عبد الملك يوم حصارها (2)، وكان الكفار صيّروه كنيسة لهم، كما سيأتي بيان ذلك في محله، إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة، بعث أهل مدينة سكوري، وهي من أمنع الحصون وأحسنها موقعا، بمفتاح قلعتها، وكذلك بعث بمفتاح قلعة برغرس / بقرب أدرنه، وسلك هذا المسلك كثير من أهل القلاع، بعد ما بلغهم فتح القسطنطينية.
وفي سنة ستين وثمانماية، غزا السلطان محمد خان بلاد أنكروس، وانتصر عليهم، وانجرح كبيرهم جرحا منكرا، حتى آل عاقبة أمره أن توفي منه. ثم سار فنزل مدينة بلغراد مدة، ثم ارتحل منها لمصادفة الشتاء ووقوع بعض فتن في البلاد الإسلامية.
وفي سنة ثمان وخمسين وثمانماية، أمر السلطان ببناء دار السعادة العتيق بقرب الجامع الذي أنشأه السلطان بايزيد خان، وهي أول دار أنشأها الملوك العثمانية في مدينة قسطنطينية.
وفي سنة إحدى وستين وثمانماية، غزا السلطان محمد بلاد موره، فافتتحها واستولى عليها وصيّرها دار الإسلام، وأسكن فيها طائفة من العرب، ثم غلب عليهم الروم فتنصر جماعة منهم، ورحل جماعة عنها. ثم عاد السلطان لما بلغه ذلك، وافتتح نحو ستين قلعة لم يدخلها مسلم قط، وبالجملة لم يبق في بلاد موره حصن حتى فتحه.
وفي هذا السنة، خاف على نفسه من صولة السلطان محمد خان صاحب صناب (3)، الأمير قزل أحمد بن أسفنديار بن بايزيد الزمن، ولحق إلى سلطان
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «مفاتيح».
(2) كذا في (ب) وفي (ج) «حصرها».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «سينوب».(2/32)
العجم حسن بيك الطويل، ليستنجده ويحركه على المسير على السلطان محمد خان، كما فعله سلفه. فلما بلغ السلطان ذلك سار إلى بلاد أسفنديار واستولى على مدينة قسطموني، وعلى صناب، وعلى قلعة طرابزون. ثم توجه إلى بلاد الكرج، فعاث عسكره فيها، وغنموا منها أشياء كثيرة.
وفي سنة خمس وستين وثمانماية، جهز السلطان من جهة البحر عمارة عظيمة إلى فتح جزيرة مدللو، وكان قد كثر الضرر منها للمسلمين في البحر، فضبطوا جميع الجزيرة، وصيّروها دار الإسلام، وشحنوها بالمسلمين.
وفي هذه السنة، أمر السلطان محمد خان ببناء جامع في محلته المعروفة الآن، وثماني مدارس حوالي الجامع على ترتيب لطيف، ثم بنى خلف المدارس الثماني تتمات للمدارس ذات حجرات كثيرة للطلبة المستعدين، واستجلب العلماء الكبار من أقصى الديار، وأنعم عليهم، وعطف بإحسانه / إليهم، مثل مولانا علي القوشجي، والفاضل الطوسي، والعالم الرباني مولانا الكوراني، وغيرهم من علماء الإسلام، وفضلاء الأنام، وقنن قوانين تطابق المعقول والمنقول، وجعل لهم مراتب يرتقون إليها ويصعدون بالتمكن والإعتبار عليها إلى أن يصلوا إلى سعادة الدنيا، ويتصلوا بها أيضا إلى سعادة العقبى. وعين للأرامل والأيتام في كل سنة من النفقة والكسوة ما يفي لهم (1). وقد اتفق الفراغ من بنائه في رجب سنة خمس وسبعين وثمانماية.
وفي سنة ثمان وخمسين وثمانماية، غزا السلطان بلاد بوسنة بعسكر كثير، وقاتلهم أشد القتال، واستولى على عامة بلادهم وصيّرها دار الإسلام، ولم يقم للكفار بعد ذلك قائم هناك.
ثم بعد ما مهد أمور تلك البلاد، صوب عنان عزيمته إلى فتح بلاد أرنود، وهم صنف من النصارى يتصبرون على المحن ويتكلفون الأعمال الشاقة. قيل أصلهم من عرب الشام، من بني غسان، ارتحلوا من الشام بعد ما أتى الله بها
__________
(1) المقطع: «مثل مولانا علي القوشجي ما يفي لهم» لم يرد في (ب).(2/33)
الإسلام، فقدموا من هناك إلى هذه البلاد، وتوطنوا بها، فازدادوا وكثروا. وقيل هم طائفة من عرب البربر، عبروا البحر إلى هذا الصوب مع يعقوب بن منصور الموحدي، فبقوا فيها مدة، لم يزالوا بها حتى غلب عليهم الجهل، فتنصروا.
ثم إن السلطان دخل بلاد أرنود (1)، فنهبها، واستولى على عدة قلاع هناك، وأمر ببناء قلعة حصينة في ثغر عظيم هناك كالسد بيننا وبين الكفار، وأشحنها بالرجال وسماها آق حصار، وأودع فيها [من] (2) المدافع والمكاحل ما يفيها (3).
وفي سنة اثنتين وسبعين وثمانماية، تعصب السلطان محمد خان على صاحب قونية ولارندة أحمد بيك بن قرمان، فانتزع الملك منه وفوض بلاد قرمان لابنه السلطان مصطفى. ثم استولى على بعض قلاع عاصية هناك، مثل قلعة أركلي، وقلعة آقسراي، وقلعة كولك، وقلعة كول (4)، وسلم الجميع إلى ابنه المذكور.
وفي سنة ست وسبعين وثمانماية، بعث صاحب العجم حسن بيك الطويل الأمير يوسفجه (5)، مع عسكر التتار، إلى نهب بلاد ابن عثمان، فجاءوا ونهبوا / مدينة توقات، وأضرموا فيها النار، وأحرقوها. ثم اغتر بذلك يوسفجه بيك فهجم على بلاد قرمان وأغار عليها، وكان واليها يومئذ السلطان مصطفى، وكان شجيعا إلى الغاية فقابل العدو وقاتله وهزمه، وأسر رئيسهم يوسفجه بيك وكبّله في الحديد، وأرسله مع عدة أسارى من الأمراء إلى أبيه السلطان محمد، فكان ذلك عنوان الفتح ومقدمة النصر.
وفي سنة سبع وسبعين وثمانماية، استجاش كل من الملكين سلطان الروم وصاحب العجم حسن الطويل إلى قتال الآخر، فسار كل من الملكين في عسكر
__________
(1) المقطع: «وهم صنف من النصارى بلاد أرنود» لم يرد في (ب).
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) في الأصل وفي (ب) «ما يفيه» وما هنا من (ج).
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «كولى».
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «يوسفجه بيك».(2/34)
ضخم كثيف لا يحدون، وجيش كثير عرمرم لا يعدّون، واتفق ملاقاتهما بقرب من بلدة بابيرت، فاقتتل الفريقان، وامتزج البحران، وتصاول الأسود، واختلط الأعلام والبنود. ومال السلطان مصطفى، وهو كالسيف الصارم، والشجاع الحازم، على طرف ولد سلطان العجم زينل شاه، فقاتله قتالا شديدا حتى ظفر به وقتله.
فلما بلغ ذلك حسن الطويل انقصم ظهره، وفنى نور بصره، وانتصر العساكر المحمدية، فلم يبق له مجال القرار، حتى صوب عنان فرسه للفرار، وجعل الجيوش العثمانية يطردونهم ويقتلونهم ويأسرونهم، حتى أسروا منهم عدة أمراء كبار، وقتلوا من عسكره ما تفرشت المفاوز بجثثهم وأبدانهم، وجرت الشعاب والأودية بدمائهم، وفاز السلطان محمد خان بالنصر والغنايم.
ثم سار [السلطان] إلى قره حصار الشرقي، وهي من بلاد حسن الطويل، فاستولى عليها وأدرجها في جملة ممالكه.
وفي هذ السنة، بعث السلطان محمد خان وزيره كدك أحمد باشا لفتح بلاد كفة، فلما وصل إليها حاصرها حتى غلب عليها وفتحها، ثم افتتح هناك عدة قلاع وحصون.
وفي سنة تسع وسبعين وثمانماية، سار الملك المجاهد السلطان محمد خان إلى قتال كفار بغدان، فخاف منه كبيرهم استفان النصراني، فهرب إلى أقصى بلاده. فدخل السلطان بلاد بغدان، فتوغل بها وقتل من قدر عليه، فكانوا خلقا لا يحصى وأسر وسبى، وغنم منهم أموالا لا تحصى، حتى أذعن رئيسهم استفان المذكور بالطاعة وإعطاء الجزية.
وفي / سنة ثلاث وثمانين وثمانماية، أمر السلطان بإنشاء دار السعادة الجديدة في محلها المعروف الآن، فشرع فيها، فجاءت على أوسع مكان، وبساتين وقصور، ورتّبه ترتيبا بحيث لم يدرك مثله.
حكي أن السلطان محمد خان الغازي أمر ابنه السلطان بايزيد بأن يبعث إليه بابنيه السلطان أحمد والسلطان سليم ليختنهما. فلما قدما إليه جلس السلطان
محمد خان على التخت، وأخذ يجر من أذن كل منهما ليدنيه إليه، فبكى السلطان سليم من شدة غضبه، فأمر السلطان بإحضار ظرائف التحف من الخزينة ليرضيهما، فرضي السلطان أحمد وقام وقبّل يديه، وأبى السلطان سليم أن يرضى. ثم أمر له بنفائس الأموال فأحضرت، فأعطاها له ليرضى فلم يرض، فعند ذلك قال له السلطان: يا ولدي نصطلح معك! فقال السلطان سليم: والله ما أصطلح معك، إن لي عليك حقّا أبقيه إلى يوم القيامة! فانزعج السلطان، وقال لوزرائه: «اعلموا أن ولدي هذا هو الذي يملك هذا التخت!». ثم ختنهما وأرسهلما إلى والدتهما.(2/35)
حكي أن السلطان محمد خان الغازي أمر ابنه السلطان بايزيد بأن يبعث إليه بابنيه السلطان أحمد والسلطان سليم ليختنهما. فلما قدما إليه جلس السلطان
محمد خان على التخت، وأخذ يجر من أذن كل منهما ليدنيه إليه، فبكى السلطان سليم من شدة غضبه، فأمر السلطان بإحضار ظرائف التحف من الخزينة ليرضيهما، فرضي السلطان أحمد وقام وقبّل يديه، وأبى السلطان سليم أن يرضى. ثم أمر له بنفائس الأموال فأحضرت، فأعطاها له ليرضى فلم يرض، فعند ذلك قال له السلطان: يا ولدي نصطلح معك! فقال السلطان سليم: والله ما أصطلح معك، إن لي عليك حقّا أبقيه إلى يوم القيامة! فانزعج السلطان، وقال لوزرائه: «اعلموا أن ولدي هذا هو الذي يملك هذا التخت!». ثم ختنهما وأرسهلما إلى والدتهما.
فلما تم أمر الختان (1)، بدا للسلطان محمد خان أن يسافر إلى بلاد أناطولي، فقام وخيّم بعسكره ظاهر أسكدار بسفح جبل هناك، يقال له مادپسي، فاتفق أن مرض السلطان مرض الموت، فأوصى بالملك إلى ولده بايزيد، وذلك في سنة ست وثمانين وثمانماية.
وتوفي ليلة الجمعة، خامس شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، فحمل وصلّي عليه بجامعه الذي أنشأه. وكانت مدة ملكه استقلالا بعد أبيه ثلاثين سنة وشهرين، وعمره احدى وخمسون سنة.
فلما أوصى السلطان محمد بالملك لولده بايزيد خان، وهو كان قد توجه في ذلك العام إلى سفر الحج، فقيل له ذلك، فقال: «والله، ما أنثني عن هذا السفر أبدا، وأن ولدي قورقود ينوب عني في السلطنة إلى أن أعود!». فاستقر قورقود على التخت نيابة عن والده، وأحسن إلى الجند، واستمال خواطرهم وضاعف عطاياهم، فأحبوه محبة عظيمة. وكان سنّه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة. فغاب السلطان بايزيد مدة تسعة أشهر، فأقام شعار الملك السلطان قورقود / وخطب له على المنابر، وضرب على وجوه الدراهم والدنانير اسمه.
فلما عاد أبوه من الحج، ووصل إلى أزنيق مكث هناك حتى استقبله ولده مع
__________
(1) حكاية ختان أحمد وسليم، ولدي السلطان محمد، لم ترد في (ب).(2/36)
الوزراء والعساكر، وخلع نفسه عن الملك ودعا له والده، وانصرف إلى مكانه مغنيسا، وكان يقول والده: «هذه عارية السلطان قورقود!». واستقر في الملك:
السلطان الغازي ضياء الدين بايزيد خان بن السلطان محمد [خان] (1)
جلس على سرير الملك في ثامن عشر ربيع الأول، سنة سبع وثمانين وثمانماية، وعمره إذ ذاك ثلاثون سنة، وهو من أعيان السلاطين العظماء. تفرع من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وتزيّنت باسمه رؤوس المنائر، وتوشحت بذكره صدور المنائر (2).
فلما بلغ أخاه جم سلطان ذلك، وافى إلى طرف بروسا، وهو التخت قديما، فاستولى عليها وصادر الناس على أموال كثيرة. ثم قام منها إلى قتال أخيه السلطان بايزيد [خان] (3)، فالتقى العسكران في المكان المعروف بسلطان أوكي على شاطىء نهر يكي شهر، فوقع بينهما قتال شديد، ثم انتصر السلطان بايزيد [خان] (4) على أخيه جم، وانهزم إلى طرف حلب مستنصرا بالملك الأشرف قايتباي.
فلما وصل إلى مدينة مصر، بدا له أن يحج إلى بيت الله الحرام، فأكرمه السلطان قايتباي إكراما عظيما.
فلما أتم مناسك الحج وعاد إلى البلاد القرمانية، استمال طائفة من الورسق وطورغود، فنهض معهم (5) إلى قتال أخيه.
فلما قاتل معه، انهزم مرة أخرى أقبح من الأولى، فوصل إلى ساحل البحر، ولقي هناك سفينة تريد البلاد الإفرنجية، فركبها حتى وصل إلى بلاد
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) كذا في (ج): وفي (ب): «وتزينت باسمه المنابر، وتوشحت بذكره المحابر».
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).
(5) كذا في (ج) وفي (ب): «فنهضوا معه».(2/37)
الكيتلان، فأكرمه ملكها غاية الإكرام، وعيّن له الإقامة في أنابولي، وهي من أجل بلادهم وأنزهها.
فلم يزل هناك حتى احتال عليه أخوه السلطان بايزيد خان، بأن بعث رجلا من خواص غلمانه، وهو مصطفى باشا الوزير الذي استوزره بعده، في صورة حلاق مجيد [كأنه] (1) هارب من المسلمين، فحظي عند ملك الإفرنج، ولم يزل عنده حتى وصفه الملك عند جم سلطان بأنه ماهر في صنعة / الحلاقة، كامل في الخدمة. فاستدعاه، وأمر بحلق رأسه فحلق، وكان معه موسى مسمومة، فاتفق أنه توفي عقيب الحلق، ولم يشك الإفرنج في أنه مات حتف أنفه. ثم تخلّص [الحلاق المذكور] (2)، ولحق إلى البلاد الإسلامية، فحظي عند السلطان بايزيد [خان] (3) بذلك إلى الغاية، فجعله وزيرا.
وفي سنة ثمان وثمانين وثمانماية، بنى السلطان المذكور، لا زال في عزّ وسرور، بمدينة أدرنه على شط النهر الموسوم بتونجه، جامعا ومدرسة ومأكلا، ثم سار من الغد إلى بلاد قره بغدان، فافتتح قلعة كلي وقلعة آق كره (4).
وفيها فتحت قلعة لموان، وقلعة طرسوس، وقلعة نقشه، وقلعة كولك (5).
وفيها كان ابتداء الفتن بين السلطان بايزيد، وبين السلطان قايتباي صاحب مصر والشام، وذلك بسبب أن الملك الأشرف قايتباي كان قد آوى أخاه جم سلطان وأكرمه، فاغتاظ من ذلك السلطان بايزيد [خان] (6)، ولما تعرض علاء الدولة ابن ذو (7) الغادر إلى بعض بلاد قايتباي، فجهّز له قايتباي جيشا لقتاله،
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «آق كرمان».
(5) العبارات: «وفيها فتحت قلعة قلعة كولك» لم ترد في (ب).
(6) ما بين الحاصرتين من (ج).
(7) كذا في (ب) وفي (ج): «علاء الدين ذو الغادر».(2/38)
استعان عليهم علاء الدولة (1) المذكور بالسلطان بايزيد، فأمده بعسكر، وقواه ببعض أمرائه الشجعان.
ثم لم تزل تقع الفتن والحروب بين الفئتين، واستولى جيش هذا على كولك، وسيس، وقيسارية، وأذنة، وعينتاب، واستولى جيش ذلك عليها تارة، بعد أن جرى بينهما ما لا خير فيه، حتى تم الصلح بينهما.
وفي سنة سبع وتسعين وثمانماية، توجه الوزير يعقوب باشا لغزو بلاد بوسنة، فظفر بملكها رنجيل (2)، وقيّده في وثاق، وأرسله إلى السلطان بايزيد [خان] (3).
وفي سنة احدى وتسعماية، توفي السلطان قايتباي، واستولى الملك السعيد بايزيد على القلاع المتنازع فيها بينهما.
وفي سنة ثلاث وتسعماية، شرع السلطان بايزيد [خان] (4) في بناء الجامع بقرب دار السعادة العتيقة بمدينة قسطنطينية.
وفي سنة خمس وتسعماية، سار السلطان الغازي بايزيد [خان] (5)
بعساكره، فاستولى على قلعة أينه بختى، وعلى قلعة متون، وعلى قلعة قرون.
وفي سنة ثمان وتسعماية، ظهر شاه إسماعيل بن حيدر الصوفي (6)، في أطراف الشرق، واستفحل أمره، / وانتزع الملك من يد أخواله.
وفي سنة ست عشرة وتسعماية، ظهر في بلدة بك بازاري، من أعمال مدينة أنقرة، رجل يقال له شيطان قولي، فانتسب إلى شاه إسماعيل ملك العجم، واجتمع عنده كل شقي مفسد مارق عن الدين، حتى صار [له] (7) جماعة عظيمة، فسير السلطان إلى قتالهم طائفة مع الوزير الأعظم علي باشا.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «علاء الدين».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «درنجيل».
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).
(5) ما بين الحاصرتين من (ج).
(6) كذا في (ب) وفي (ج): «الصفوي».
(7) ما بين الحاصرتين من (ج) وفي (ب): «معه».(2/39)
فلما تراءى الجمعان، استقلّ الوزير جمعهم، فهجم عليهم بشرذمة من العسكر فقتلوه، ثم لم يقابلهم أحد حتى اتصل إلى إسماعيل المذكور.
وفي سنة ثمان عشرة وتسعماية، نزل السلطان بايزيد خان عن السلطنة لولده السلطان سليم خان. وسبب ذلك أن السلطان بايزيد خان شاخ وكبر سنه وتعطلت رجله عن الحركة بعلة النقرس، فرام الفراغ عن الملك لولده السلطان أحمد أمير أماسية، وهو أكبر أولاده، وأحبهم إليه على حسب ما فعله السلطان مراد خان بولده السلطان محمد خان، فانغاظ من ذلك ولده السلطان سليم خان، فقام وتوجه إلى طرف القسطنطينية، كأنه يريد زيارة أبيه السلطان بايزيد [خان] (1) وتقبيل يده، وليس له غرض في الملك.
فلما وقف السلطان بايزيد خان على جلية الأمر، نهض نهضة من قسطنطينية بعساكره، واستقبل ولده المذكور، ولاقاه بين قسطنطينية وأدرنه بقرب مدينة جورلي، أمام قرية باغراش، فجرى بينهما حرب شديد، ثم انجلى عن هزيمة سليم خان، فرام العسكر أن يطرده، فمنعهم أبوه السلطان بايزيد خان، وقال: «اتركوه لعله ينصلح!».
وأما السلطان سليم، فإنه ركب البحر من بندر أدرنه وقصد بلاد كفة. فبينما هو فيه، إذ بعث السلطان بايزيد [خان] (2) إلى ولده أحمد يدعوه إلى الملك وتقليد الأمر إليه، فلم يرض، وتعلل في ذلك بأن هذا لا يمكن [أن] (3) يقبله في حياة والده، وأنه يخاف من الطائفة الينكجرية، فإن هو اهم مع أخيه سليم خان.
وبالجملة، لما علم أبوه أنه ليس لابنه أحمد سهم ولا نصيب في الملك، وأن الملك لله يؤتيه من يشاء، وخاف على الملك، أرسل إلى ولده السلطان سليم خان يدعوه إلى الملك وتسليم الأمر إليه. فقدم سليم خان / بالرأي الحازم والسيف الصارم حتى قرب من قسطنطينية، فأمر السلطان بايزيد [خان] (4) العسكر ووجوه الأمراء والوزراء، فاستقبلوه وهنوه بالملك.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/40)
فلما أراد الدخول إلى البلد، رفعت الينكچرية سيوفهم ومكاحلهم والعسكر رماحهم، وشبكوا بعضها ببعض، وقالوا: «فليعبر السلطان من تحت سيوفنا ورماحنا حتى يكون من تحت أيدينا!». فعرف السلطان قصدهم، [فأنف السلطان سليم] (1)، وما اختار ذلك لشهامة نفسه، ودخل البلد من باب آخر على حين غفلة من أهلها، واجتاز من وسط يكي باغجه حتى دخل دار السعادة، ولم يشعر بذلك أحد من العسكر إلا بعد أن وصل إلى مقر الخلافة. ثم وعدهم بخير كثير وطيب خواطرهم، فتفرقوا ودخل على أبيه وسلم عليه وقبّل يديه، فعند ذلك دعا له أبوه بالخير، وقلّده الأمر وأوصاه بأشياء تليق بالسلطنة. ثم أمر من يومه بتجهيز أسباب السفر له للإقامة بمدينة ديمه توقه بمعرفة ابنه وإجازة منه له، وكلما تضرع ولده سليم خان في الإقامة معه لم يفد (2)، وقال: «السيفان لا يجتمعان في قراب واحد!».
فلما كان السلطان بايزيد خان ببعض الطريق، رام أن يتوضأ لصلاة الظهر، فوضعوا له السم في الماء، فلما توضأ تساقط شعر لحيته، فحس بذلك، فقال:
«ردوني!». فردوه. وتوفي قبل أن يصل إلى القسطنطينية، ودفن أمام مدرسته التي أنشأها بالمدينة المزبورة.
وكان رحمه الله ملكا جميلا، كبيرا، عالما، ورعا، مجاهدا، مرابطا. بنى المدارس والجوامع والجسور والقناطر، وفتح فتوحات جليلة. عاش سعيدا ومات شهيدا.
وكان له عدة أولاد، وصار لأولادهم أولاد، منهم: السلطان أحمد، والسلطان قورقود، والسلطان جهانشاه، والسلطان سليم، والسلطان محمود، والسلطان عبد الله، والسلطان علمشاه، فعيّن لأكبر أولاده السلطان أحمد مملكة أماسيا وما والاها، وكان يتوقع منه أن يكون ولي عهده، ويأبى الله إلا ما أراد،
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «لم يقدر».(2/41)
وكان عيّن للسلطان قورقود مملكة منتشا (1)، وجعل للسلطان سليم مملكة طربزون، وجعل للسلطان محمود مملكة مغنيسا (2)، وعيّن / للسلطان عبد الله مملكة الكفار وما يليها من التتار، وانتقل ثلاثة منهم بالوفاة في حياة والدهم، وكفاهم الله القتل والقتال.
ومما يحكى عن السلطان بايزيد، عليه رحمة الملك المجيد (3)، أنه كان يجمع في كل منزل حل به من غزواته ما على ثيابه من الغبار ويحفظه. فلما دنا أجله المحتوم وقدم على الحي القيوم، أمر بذلك الغبار فضرب منه لبنة صغيرة، وأمر بأن توضع معه في القبر تحت خده الأيمن، ففعل ذلك، فكأنه أراد بذلك فحوى قوله صلى الله عليه وسلّم: «من اغبرّت قدماه في سبيل الله، حرّم الله عليه النار».
وكانت مدة ملكه احدى وثلاثين سنة إلا أياما، وعمره اثنتان وستون سنة، لأن مولده سنة ست وخمسين وثمانماية. وتولّى مكانه ولده:
السلطان القاهر والملك الناصر سليم خان ابن بايزيد خان بن السلطان محمد (4)
ولد بمدينة أماسية سنة اثنتين وسبعين وثمانماية. وأمه عائشة خاتون من بنات بعض أمراء التركمان الذين سكنوا في حوالي أماسية.
ولما تسلطن، كان عمره إذ ذاك ستا وأربعين سنة، جلس على سرير الملك في ثامن عشر صفر الخير، سنة ثماني عشرة وتسعماية.
وفي السنة الثانية، قصد كل واحد من الأخوين السلطان سليم خان
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «مغنيسا».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «منتشا».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «عليه رحمة الله».
(4) في (ب): «السلطان سليم خان ابن بايزيد خان ابن محمد» وفي (ج): «السلطان القاهر والملك الناصر سليم خان ابن السلطان بايزيد خان».(2/42)
والسلطان أحمد قتال الآخر، فتقاتلا أمام مدينة يكي شهر، فانتصر سليم خان، وأمر بأخيه أحمد فخنق، وحملوا جسده ودفنوه في مدينة بروسا.
ثم عيّن جماعة من العسكر إلى قتال أخيه قورقود المتسلطن نيابة عن والده، كما مر، وكان بمغنيسا، فهزموه وظفروا به، ثم خنقوه بأمر أخيه السلطان سليم خان، ودفنوه في مدينة بروسا.
ثم أمر بقتل السلطان محمود، والسلطان سليمان، والسلطان أورخان، والسلطان موسى، أولاد أخيه، فخنقوهم، وقتل من أهل بيت السلطنة سبعة عشر نفرا.
ولما استقر السلطان سليم خان على سرير الملك، وهيهات أين الاستقرار! وثبت على تخت السلطنة من غير منازع، وأنّى له بالثبات والقرار، شرع في قهر الملوك وأخذ الممالك والاستيلاء على الأقاليم والمسالك. بدأ بقتال شاه إسماعيل بن حيدر الصوفي (1).
فلما دخلت سنة عشرين وتسعماية، توجه من مقر سلطنته / بعسكر كثيف، وسار نحو الشرق لقتال شاه إسماعيل المذكور، فالتقيا في مكان يقال له چلدران.
فحال وصوله لم يؤخر الحرب، فالتحم القتال وتكسرت النصال على النصال، فعند ذلك أمر السلطان الينكچرية، وكانوا إذ ذاك أربعة عشر ألف نفر، فدفعوا مكاحلهم سبع نوب، ورموا ما عندهم من المدافع، ولم ينج منهم إلا من طول الله عمره، فانهزم الأعجام وطردتهم عساكر الإسلام، ونالوا منهم ما أرادوا من القتل والنهب والأسر، وما نجا كبيرهم إلا بجهد جهيد. واستولى السلطان على خزائنه وأمواله وخيمه ونسائه. ونهى السلطان العسكر عن المسير خلفهم، وقال: «يكفيه ما حل به من البلاء!».
ثم دخل السلطان مدينة تبريز، وهي كرسي مملكته، وصلّى فيها الجمعة،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «الصفوي».(2/43)
وخطب باسمه. ثم ارتحل إلى بلاد الروم، وذلك لحلول الشتاء وقلة العلف، فشتى في مدينة أماسية.
ولما حلت أيام الربيع، رجع إلى بلاد الشرق، وافتتح قلعة كماخ، وهي من أمنع الحصون في الدنيا.
ثم افتتح مدينة بابيرت، وأرسل وزيره فرهاد باشا بعسكر كثير إلى قتال ملك مرعش والبستان الأمير علاء الدولة، فانتصر عليه فرهاد باشا وقتله، وعيّن إمارة تلك البلاد إلى علي بيك بن شهسوار ابن أخي علاء الدولة، وكان قد هرب من عمه والتجأ إلى كنف السلطان، وشرط عليه بأن تكون الخطبة والسكة باسم السلطان.
وفي هذه السنة، أحب أهل آمد أن يدخلوا في طاعة السلطان سليم خان، فأخرجوا واليهم الذي من قبل سلطان العجم، وأغلقوا أبواب المدينة، وأرسلوا يطلبون أميرا من أمراء السلطان [المذكور] (1) يكون واليا عليهم. فعيّن لهم أبا الشوارب (2)، محمد بيك الآمدي، ونصبه أمير الأمراء، فوصل إلى تلك البلاد، وقاتل مع واليها قره خان، فانتصر عليه فقتله.
ثم إن محمد باشا المذكور حاصر مدينة ماردين مدة أربعين يوما فافتتحها، ثم افتتح بلاد الموصل، وعانه (3)، وحديثه (4)، وهيت (5)، وسنجار (6)، وحصن
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «بيقلو».
(3) بلدة صغيرة من بلاد الجزيرة في وسط الفرات.
أبو الفدا، تقويم: 287286.
(4) بلدة صغيرة من بلاد الجزيرة، واقعة على نهر الفرات تحت عانه وفوق الأنبار. وهناك مدينة أخرى بهذا الاسم واقعة على دجلة.
المصدر نفسه: 287286.
(5) مدينة على الفرات فوق الأنبار، وهي حد من حدود العراق.
المصدر نفسه: 299298.
(6) مدينة من ديار ربيعة.
المصدر نفسه: 283282.(2/44)
كيفا (1)، وجمشكزك (2)، وقلعة العمادية (3)، وحصن سوران (4)، وسائر بلاد الأكراد، وعامة جزيرة / بني عمر (5).
وفي سنة اثنتين وعشرين وتسعماية، قصد السلطان سليم خان قتال [الملك الأشرف قانصو] (6) الغوري، ملك مصر والشام وحلب واليمن، فخرج من قسطنطينية بعسكر ضخم، وسار حتى وصل إلى مدينة حلب، والتقى مع الغوري في مرج دابق (7)، بقرب حلب. واقتتل العسكران، فانهزم الجراكسة شذر مذر وقتل الغوري في المعركة. وخرج أهل حلب بعلمائهم وصلحائهم حاملين المصاحف على رؤوسهم يستقبلون السلطان سليم خان ويهنونه بالفتح، ويسألونه الرفق والصفح، فقابلهم السلطان المذكور بالجميل، ودخل المدينة وخطب له فيها. ثم خرج إلى طرف الشام فاستقبله أهلها بالإكرام والإحترام، وسألوا منه
__________
(1) بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين ميافارقين وجزيرة ابن عمر من ديار بكر.
أبو الفدا، تقويم: 181280البغدادي، مراصد الاطلاع 1/ 407.
(2) ويرد أيضا «شمشكاراك» و «جمشكاراك»، وهي مدينة لطيفة لها سور وقلعة حصينة، من جملة ديار بكر.
ابن شاهين الظاهري، زبدة كشف الممالك: 52.
(3) من بلاد الجزيرة، وهي قلعة عامرة على ثلاث مراحل من الموصل من الشرق ومن الشمال.
أبو الفدا، تقويم: 275.
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «حصن ثوران»، ولعل المقصود حصن سيوان الذي افتتحه عماد الدين زنكي عام 530هـ، ووهبه لصاحب ماردين ثم استرده منه عام 539هـ.
(5) وتعرف أيضا باسم جزيرة ابن عمر أو الجزيرة، وهي مدينة في تركية يقال لها الآن الجزيرة. وهي واقعة على الضفة اليمنى الغربية للمجرى الأوسط لنهر دجلة، على ارتفاع 1200قدم فوق البحر.
ياقوت، معجم 2/ 138.
(6) ما بين الحاصرتين من ابن العماد، ويعرف السلطان بالغوري، وقد سماه ابن طولون جندب.
والغوري نسبة إلى طبقة الغور التي كانت بمصر، والتي أعدت لتعليم المؤدبين.
ابن العماد، شذرات 8/ 113.
(7) وذلك في 25رجب سنة 922/ 1516.
المصدر نفسه: 115114.(2/45)
الإنعام واللطف، فعاملهم بالجميل، وحضر يوم الجمعة في جامع بني أمية للصلاة، وخطب باسمه.
ومكث السلطان سليم خان بالشام مدة ثلاثة أشهر ونصف شهر، وأمر بعمارة قبة على قبر العارف بالله الشيخ محيي الدين [بن] (1) العربي، قدس الله سره، وبنى مأكلا للطعام.
ثم سار يريد البلاد المصرية، فافتتح في مسيره مدينة بيت المقدس، وزار المشاهد وأنعم على أهلها. ثم سار وفتح مدينة غزة، وطبرية، وصفد، واللجون، ورملة، ووصل إلى مدينة مصر في ثالث عشري محرم، سنة ثلاث وعشرين وتسعماية، فالتقى مع الأشرف طومانباي الداودار بالريدانية، وكان معه أربعون ألف چركسي، فاشتد الخطب وعظم الحرب، فانهزم طومانباي إلى بلاد ابن بقر، فأرسل السلطان إليه وطلبه منه، فلم يمكن مخالفته فأرسله إليه.
ولما وصل طومانباي إلى السلطان الصارم والملك الحازم، قرّبه إليه وأدناه، وسأله عن عوائد المملكة المصرية وأحوالها. وبعد عشرة أيام صلبه في باب زويلة. ثم أمر بالقبض على كل من كان چركسيا، فأحضروا عنده جمعا كثيرا. ثم أمر بهم فضربت أعناقهم. ثم دخل المدينة وصلّى بها الجمعة. ثم خرج إلى طرف الاسكندرية، فتفرج بها ومهد أمرها، وقتل بها من الأمراء الچراكسة المحبوسين نحو سبعة عشر أميرا. ثم قدم إلى القاهرة، ودعا / خير بيك (2)، وفوّض إليه إمارة مصر والقاهرة، وخلع عليه.
ثم خرج في شعبان من هذه السنة إلى طرف الروم. فلما وصل إلى مدينة رملة، بلغه من الثقات أنهم قتلوا ما كان عندهم من العسكر المجروحين، فأمر بقتل عامة أهل البلد، بحيث لم يبق منهم ديار ولا نافخ نار.
وبينما هو في أثناء الطريق إذ قدم عليه والي مكة والمدينة الشريف بركات
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) كذا وفي (ج): «خير باي» وفي (ب): «جبرييل» وهو خطأ.(2/46)
الحسني وولده الشريف أبو نمي محمد، واجتمعا بحضرة السلطان وهنياه بالفتوحات، وأخبره الشريف بركات بأنه حين بلغه الخبر خطب له بمكة والمدينة، فشكر له السلطان ذلك، وأثنى عليه وأنعم عليه وعلى ولده بالخلع، وقرر الإمرة لولده الشريف أبي نمي برضى والده.
ثم قدم السلطان إلى دمشق، وعين أمرتها مع أعمالها إلى الأمير جان بردي الغزالي، لكونه كان مواليا له حين كان أميرا بحلب في دولة الچراكسة. واستولى على مدينة ملطية، ودوركي، ودرنده (1)، وبهسنى (2)، وكركر (3)، وكاخته (4)، والبيرة (5)، وعينتاب (6)، وأنطاكية، وقلعة الروم (7) وأطاعته قبائل العرب المجاورين للشام ومصر.
ثم إن السلطان، لما قدم قسطنطينية، قصد أن يشتي بمدينة أدرنه على حساب عوائد آبائه في ذلك. فلما وصل إلى منزل كان تحارب فيه مع والده السلطان بايزيد خان، ظهر في جنبه دمل، ولم يزل يتعاظم هذا الدمل حتى اتسع
__________
(1) قلعة في جهة الغرب من ملطية، على مقربة من قيسارية، بينها وبين حلب عشرة أيام.
القلقشندي، صبح 4/ 132.
(2) من حصون الشام الشمالية، بينها وبين سيواس ستة أيام.
أبو الفدا، تقويم: 265264.
(3) من أعمال حلب، واقعة على نهر العاصي.
القلقشندي 7/ 174.
(4) أحد الثغور الإسلامية، في طرف الحد الشمالي للشام، بينها وبين ملطية مسيرة يومين.
أبو الفدا، تقويم: 263262.
(5) قلعة حصينة شمالي الفرات قرب سميساط. وهي اليوم بلدة جنوب تركية يطلق عليها اسم «بيرجك»، أي «البيرة الصغيرة».
ياقوت 1/ 526.
(6) مدينة تركية، إلى الشمال من مدينة حلب السورية التي تقابلها. كانت قلعة حصينة ورستاق بين حلب وأنطاكية.
المصدر نفسه 4/ 176أبو الفدا، تقويم: 269268.
(7) قلعة منيعة في البر الغربي الجنوبي من الفرات، على نحو مرحلة من البيرة من جهة الغرب.
أبو الفدا، نفسه: 269268.(2/47)
الخرق على الراقع، وتعطل السلطان عن الحركة، فأقام في ذلك المحل نحو أربعين يوما.
فلما كان تاسع شوال، سنة ست وعشرين وتسعماية، ليلة السبت، توفي إلى رحمة الله تعالى، فأخفى موته الوزراء وأرسلوا يعلمون ولده السلطان سليمان خان، ويدعونه إلى التخت معجلا. فلما تيقنوا بوصول السلطان سليمان إلى مدينة قسطنطينية، أشاعوا موت سلطانهم ورجعوا به إلى قسطنطينية (1). فلما قرب من المدينة، استقبله ولده السلطان سليمان خان مع وجوه العلماء والأعيان، وصلوا عليه في جامع السلطان محمد، ثم حملوه ودفنوه في محل قبره. وأمر السلطان سليمان ببناء / جامع عظيم وعمارة لطعام الفقراء عند تربته.
وكان، رحمه الله عالما، فاضلا، ذكيا، حسن الطبع، بعيد الغور، صاحب رأي وتدبير وحزم. وكان يعرف الألسنة الثلاثة: العربية والتركية والفارسية، وينظم نظما بارعا حسنا. وكان دايم الفكر في أحوال الرعية والمملكة، وقهر الملوك وأبادهم. ولما كان بمصر كتب على رخام في حايط القصر الذي سكن فيه بخطه، فقال:
الملك لله من يظفر بنيل منى ... يردّ (2) قهرا ويضمن بعده الدّركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركا
توفي رحمه الله، وله من العمر أربع وخمسون سنة. وكانت مدة ملكه تسعة أعوام وثمانية أشهر. وتولى مكانه ولده:
السلطان الأعظم والخاقان المفخم سليمان خان بن سليم خان
جلس على سرير الملك في سنة ست وعشرين وتسعماية، وعمره إذ ذاك ست وعشرون سنة، لأن مولده في سنة تسعماية.
__________
(1) في الأصل وفي (ب): «إلى البلد» وما هنا من (ج) منعا للإلتباس.
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «يردده».(2/48)
ولما بلغ جان بردي الغزالي موت السلطان سليم، خرج عن الطاعة ورام أن يتسلطن بدمشق ونواحيها، ولم يدر أن الدولة عنهم قد ولت، وأن السعادة قد أدبرت، فجمع الجموع وحشد الحشود من طوائف الجنود، فسار إلى مدينة حلب ليستولي عليها، فحاصرها مدة ولم يقدر عليها. وكان نائب حلب إذ ذاك قرجه (1)
أحمد باشا، فجد في دفعه واجتهد، وكان غرضه أن يخرج من البلد ويقابل العدو ويقاتله، إلا أنه خاف من أهل البلد لأنهم كانوا قريبي العهد من الچراكسة. فلما رأى الغزالي أنه لم يجد إلى الدخول سبيلا عاد راجعا إلى دمشق، فشرع في تحصين القلعة وترميمها.
فلما بلغ السلطان سليمان خان أنه غدر وخان، أمر وزيره فرهاد باشا بأن يسير مع جند الباب (2)، وجماعة من طائفة الينكچرية إلى قتال الخارجي المذكور، وعيّن معه أمير الأمراء بروم إيلي وأناطولي وقرمان [إياس باشا] (3)، بأن يسيروا بمن معهم من الجيوش، وكان معهم ثمانية عشر من المدافع الكبار.
فلما / سمع الغزالي بقدومهم، خرج من الشام لأرض القابون مغترا بشهامته وحسن رأيه، طالبا لأخذ الإنتقام من الأروام، فاتفق ملاقاة أول العساكر بموضع يقال له المصطبة بأرض القابون، وكان ذلك يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر الخير، سنة سبع وعشرين وتسعماية، فاندهك الخارجي بمن معه تحت أرجل الخيل، فلم يعلم له ولجنوده أثر.
ولما وصل الوزير فرهاد باشا، لم يجد من يقابله ويقاتله، فدخل البلد ومهدها وفوّض نيابة الشام إلى أمير الأمراء أناطولي إياس باشا، وفرق إمارة القدس وغزة وغيرهما إلى عبيد السلطان، وبعث يخبر السلطان بالفتح، ففرح السلطان. ولما قدم الوزير خلع عليه، وزاد قدره ورتبته.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «قره جه».
(2) من أعمال حلب.
ياقوت 1/ 303ابن شداد، تاريخ الملك الظاهر: 505
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/49)
وفي هذه السنة، قصد السلطان سليمان خان قتال قرال أنكروس (1)، وكان قد تكبّر وتجبّر وأظهر العصيان، فأمر السلطان بتجهيز عمارة كبيرة في البحر الأبيض لحفظ البلاد من الإفرنج العناد، وأمر بإنشاء خمسين زورقا كبيرا للمجاهدين، وأربعماية سفينة للدواب، وسيروا (2) من بحر نيطس الأسود حتى يدخلوا في نهر تونه (3)، وهو نهر واسع أعظم من النيل والفرات، فيرسوا بقرب مدينة بلغراد، وهي مدينة حصينة لها سور منيع حصين، وقد أحاط بها نهران عظيمان، وهما نهر تونه ونهر صوه (4).
ثم إن السلطان، أسكنه الله فسيح الجنان، توجه بنفسه من البر فخرج من مقر سلطنته، في حادي عشر جمادى الآخر من هذه السنة، إلى مدينة أدرنه، مع شوكة عظيمة وصحبة العساكر المنصورة، وأمر أمير الغزاة والمجاهدين بالي بيك بن يحيى باشا على العساكر، وأمره بأن يسير بجيوش الموحدين ويحاصر قلعة بلغراد، وأنه قادم من خلفه.
ثم إن السلطان عزم بعدهم من طريق قلعة بوكردلن، وهي قلعة حصينة على شاطىء نهر ساوه، وهو الفاصل بين بلاد الإسلام والكفر، فأمر أحمد باشا، أمير الأمراء بروم إيلي، أن يحاصر القلعة المذكورة، فسار وحاصرها حتى أخذها بعد أيام ومقاساة آلام وحروب عظيمة. ثم جاء السلطان ونزل أمام بلغراد، بموضع / يقال له زمون، فأمد الغزاة بالعساكر، ولم يزل يشتد الأمر ويعظم القتال وتقطع الرؤوس وتزهق النفوس، حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وفازوا بغنائم لا تحصى.
فلما شاهد الكفار هذا الفتح العظيم، انقادوا، وجاءوا إليه بمفاتيح ثماني قلاع منيعة هناك.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «لاوش».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «وسيرهم».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «طونه».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «نهر مناره».(2/50)
ثم إن السلطان أمر بعمارة ما هدم من قلعة بلغراد، وعين لها أميرا وقاضيا، وعاد إلى كرسيه، لأن الشتاء أقبل والوقت ضاق.
ثم إن السلطان، لما بلغه ما يحصل بالمسلمين السائرين على وجه البحر من التجار والحجاج والمسافرين والصادرين والواردين من جهة كفار (1) ردوس، أحب الجهاد إليهم، فعيّن لهم وزيره فرهاد باشا المذكور بأن يسير إلى طرف سيواس لحفظ البلاد، وكان بلغه خيانة علي بيك بن شهسوار (2)، صاحب مرعش (3)، وأمر بقتله إن ظفر به. فسار فرهاد باشا حتى إذا وصل إلى قريب بلاده، وأرسل إلى علي بيك المذكور بأن يقدم إليه ليشاوره في أمر المملكة. فلما اجتمع به قتله وقتل أولاده معه.
ثم إن السلطان أمر الوزير الثاني مصطفى باشا بأن يسير بالعمارة في البحر، فلا يرسي إلا على جزيرة ردوس. وخرج السلطان بنفسه في عساكر لا تحصى، في ثامن عشر رجب سنة ثمان وعشرين وتسعماية، فسار من البر حتى نزل بقرب يكي شهر، من بلاد آيدين.
ثم إن المسلمين الذين عيّنوا مع الوزير الثاني من جهة البحر، ساروا في نحو سبعماية غراب، حتى أرسوا في مرسى من مراسي ردوس، يقال له أنف الثور، وكانت قلعة ردوس من أمنع حصون الدنيا، وكان بانيها ماهرا في الهندسة بحيث أنه بنى سور القلعة تحت الأرض، وعمل لها خندقا عريضا عميقا، وشحنها بالمدافع وجعل للبلد سورين في عرض سبعة أذرع، وملأ ما بينهما، وهو مقدار عشرة أذرع، بالتراب والحجارة. ولها من جانب البحر مينا عظيمة مدورة كالحوض، ولها باب مخصوص، وجعلوا عليها سلسلة من حديد، ولها بعض قلل وبروج تناغي في الرفعة والإحكام سماك السماء.
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «نصاره».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «شاه سوار».
(3) مدينة بالثغور بين الشام وبلاد الروم، بناها الرشيد العباسي.
البغدادي، مراصد الاطلاع 3/ 1259.(2/51)
وفي رابع شهر رمضان، اجتاز السلطان مع العسكر / من البحر إلى جهة ردوس، فنزل بمحل رفيع مشرف على الحصن. وقدم خير الدين بيك الجركسي نائب مصر في أربعة وعشرين غرابا مددا (1) للمسلمين. واستمروا في أمر الحصار بالمكاحل والمدافع مدة تزيد على ثلاثين يوما، فلم يغنوا شيئا، لأن سورها كان مملوا بالتراب وحجارتها رخوة، فشرعوا في نقل التراب وطم الخنادق ونقب الأسوار من تحت الأرض. ثم إنهم ملؤا النقوب بالبارود وأضرموها بالنار، فانفتح بسبب ذلك عدة مواضع يمكن العبور منها إلى القلعة.
فلما شاهد الكفار (2) ذلك استأمنوا على أنفسهم وأولادهم، فأمنهم السلطان، ثم رجعوا عن ذلك لأنه أتاهم مدد من الكفار في عدة مراكب بالليل.
ثم شرع المسلمون في الحرب ثانيا حتى اضطر الكفار، ونادوا: «يا أهل الإيمان، الأمان، الأمان!»، وذلك في وقت العصر. وأرسل أمير القلعة خمسين نفرا من كبارهم بالرسالة، فقبل السلطان سؤاله وأذن لهم في المسير مع جماعة، وأمرهم بأن يطلقوا أسارى المسلمين، فأطلقوا أمة كثيرة، كانوا مأسورين من الأشراف والأعيان والعباد من مدة متطاولة، في سلاسل وأغلال، فدخلوا البلد وأخربوا الكنائس وجعلوها جوامع. وهؤلاء الطائفة الذين خرجوا من ردوس عمروا قلعة ملطية وسكنوا بها، فأفسدوا طريق الحاج وغيرهم من المسلمين. ثم توجه السلطان إلى مدينة استنبول (3).
وفي رمضان سنة تسع وعشرين وتسعماية، ولي أحمد باشا نيابة مصر. فلما وصل إليها رفع راية الخلاف، واستمال من بقي من الچراكسة المفسدين، وأعلن بالملك لنفسه وضرب السكة باسمه، وخطب له على المنابر.
وكان أحمد باشا استصحب معه محمد بيك وجعله وزيرا، وكان عاقلا،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «امدادا».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «فلما شاهدوا النصارى».
(3) في (ب): «قسطنطينية» وفي (ج): «اسلامبول».(2/52)
فرأى عاقبة هذا الأمر خاسرة. وتدارك في تلافيه، فترصد الفرصة، فاتفق أن دخل أحمد باشا المذكور الحمام، فكمن الوزير مع جماعة من العثامنة (1)، وظفروا به فقتلوه، وضبط أحوال مصر إلى أن وصل من الباب العالي الوزير كوزلجه قاسم باشا.
وفي سنة ثلاثين وتسعماية، كانت وليمة الوزير إبراهيم باشا في مدينة / استنبول، وكان عرسا عظيما حضره السلطان وجميع العلماء والأعيان.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وتسعماية، خرج السلطان سليمان إلى قتال الطائفة الطاغية أنكروس، فلما وصل إلى بلغراد، لم يزل مشغولا بفتح الحصون والقلاع، وجاء أكثر أربابها مستأمنين بمفاتيح القلاع.
ثم سار السلطان حتى انتهى إلى نهر دراوه (2)، وهو من أعظم أنهار الدنيا، فأمر السلطان فاتخذوا عليه جسرا ممدودا أمام قلعة أوسك، فاجتاز العسكر منه جميعا إلى بلاد الكفار. ثم أمر السلطان برفع الجسر فرفع، فبقي المسلمون في بلاد الكفار، وذلك لشهامته وقوة عزيمته، وقطع أطماع العسكر من الفرار إلى بلادهم.
ولما سمع القرال لاوش، رئيس كفار أنكروس، قصد المسلمين، جمع مردته الشياطين، وسار من كرسي مملكة بودين إلى طرف عسكر الإسلام نحو خمس منازل، وخيّم في مفازة هناك تسمى صهارج، وأشرف المسلمون على محل الكفار وربوة القتال، فرتبوا الميمنة والميسرة، وأخذوا أهبة الحرب، وتضرّع السلطان إلى الله تعالى وسأله (3) النصر، واستمد بروحانية سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام (4)، وجعلوا أمام الينكچرية، في هيئة الحاجز بين
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «العثمانية».
(2) كذا وفي (ب): «دارف» وفي (ج): «صاوه».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «وسأل لهم».
(4) كذا وفي (ج): «صلى الله عليه وسلم».(2/53)
العسكرين، ماية وخمسين عجلة كانت تجر المدافع الكبار وركبوا عليها المدافع، وقيدوا بعضها ببعض بالسلاسل، لأن غالب العسكر مشاة يخاف عليهم من خيل الكفار (1)، ووقف الينكچرية تسعة صفوف، كما هي عادتهم في الحروب، فجاء الكفار وهجموا بأجمعهم على القلب، فرأوا أنه لا سبيل إلى العبور بسبب العجلات، فانحازوا إلى طرف اليمين، فوقع بينهم وبين عسكر روم إيلي مقتلة عظيمة.
فلما علم (2) الكفار أن لا طاقة لهم بهم، انحازوا إلى طرف عسكر أناطولي فاقتتلوا قتالا شديدا، وقد كان أصاب رئيس الكفرة قرال الملعون (3) مدفع من جهة المسلمين، فضعف عن المقاومة. وامتد القتال إلى غروب الشمس، ثم انتصر المسلمون وانهزم المشركون كحمر مستنفرة، فرت من قسورة، فتبعهم المسلمون وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى صارت الأجساد كالتلال. ثم أقبل الليل فباتوا / وقد جرت (4) الدماء كالسيل، فغنم العسكر منهم شيئا لا يحصى.
ثم نهض السلطان إلى فتح كرسي مملكة قرال بودين (5)، فوصل إليها فوجدها خالية لا أنيس بها ولا جليس، فاستولى عليها. وأتي له بمفتاح بشته، وهي بلدة مقابل بودين، في الطرف الآخر من نهر تونه، وكان هذا الفتح من أعظم الفتوحات الجليلة.
فلما دخل السلطان إلى حدود بلاد الإسلام، بلغ السلطان أنه توغل في بلاد الكفار، وانقطع خبره عن المسلمين، فخرج في بلاد أناطولي عدة خوارج، منهم قلندر، ومنهم سيدي خليفة، فاستفحل أمرهم وكثر جمعهم، وخرج كل منهم في
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «الأعداء».
(2) الأصل: «علموا» وما هنا من (ج).
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «القرال لاوش».
(4) الأصل: «جرى» وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «القرال قلعة بدون».(2/54)
ناحية، وقتلوا ونهبوا من المسلمين والأمراء المودوعين لحفظ البلاد خلقا كثيرا.
فعيّن لهم السلطان عساكر، فقتلوهم وهزموهم.
وفي سنة أربعين وتسعماية، أمر السلطان سليمان خان لنظام الملك إبراهيم باشا، الوزير الأعظم، أن يشتي في حلب، ثم يسير إذا حل زمن الربيع إلى طرف العراق، وأمره على العساكر المنصورة، فوصل إلى حلب، وكان قد صادف أول الشتاء.
فلما سمع سلطان بلاد العجم أن الوزير إبراهيم باشا شتى بحلب ارتحل من تخت أذربيجان إلى بلاد خراسان، وكان فكر الوزير في استخلاص قلعة وان وعاد الجوز، وسائر القلاع التي في تلك النواحي.
فلما أقبل الربيع، خرج الوزير المذكور من حلب وقارب تلك النواحي، إذ أقبل رسول حاكم تلك القلاع بمفاتيحها، فعين الوزير أناسا لضبطها وحراستها، ووصلت أيضا مفاتيح عدة قلاع من بلاد الأكراد.
ولما وصل الوزير مع العساكر إلى بلاد العجم، توقف العسكر وقالوا: «لا يقابل السلطان إلا السلطان، فنحن لا نقابل سلطان العجم ما لم يكن السلطان معنا!».
فخاف الوزير من غايلة هذا الأمر، فأرسل يريد السلطان بالنهوض والوصول إليه وإلا تلاشت الأمور. فخرج السلطان من مدينة قسطنطينية في ثامن شهر ذي القعدة سنة أربعين وتسعماية، فاستقبله أهل تبريز وهنوه بالقدوم.
وفي غد ذلك اليوم، نهض السلطان فنزل بأوجان، وكان الوزير إبراهيم / باشا حل ركابه فيه، فتلاطم البحران واجتمع العسكران، واستعد الوزير بتقبيل ركاب السلطان، فخلع عليه وعلى بقية الأمراء الذين كانوا معه.
وكان صاحب كيلان السلطان مظفر، قد قدم إلى الوزير إبراهيم باشا بمدينة تبريز بعشرة آلاف من عسكره، كلهم مشاة، ما فيهم فارس غير سلطانهم. فلما اجتمع بالسلطان سليمان خان، طيب خاطره ووعده بمساعدته حين الاحتياج.(2/55)
وفي سادس عشر ربيع الأول، رحل السلطان من أوجان (1)، ونزل بالسلطانية (2)، في سلخ الشهر.
وفيها، ورد محمد خان بن شاه رخ بن ذي الغادر طائعا إلى السلطان، وأذن السلطان لصاحب كيلان بالمسير لبلاده.
ونهض السلطان بالعسكر، وقد نزل الشتاء وأقبل البرد، فتوجه إلى طرف العراق ليشتي، فوصل إلى مدينة بغداد في ثامن عشر جمادى الأولى سنة احدى وأربعين وتسعماية، وكان النائب بها من قبل سلطان العجم بكلو محمد خان.
فلما سمع بوصول العسكر إلى حدود العراق، بعث إلى السلطان بالطاعة. ثم أخذ أمواله وعياله فهرب إلى بلاد العجم، فدخل العسكر بغداد، ونصبوا الرايات العثمانية على بروجها.
ثم قصد السلطان زيارة سيدنا أبي حنيفة، رحمه الله، وكان شاه إسماعيل، لما ملك بغداد، أمر بنقض تربته، فجدد السلطان عليه مشهدا عظيما، وبنى فيه تكية يطبخ فيها الطعام، وبنى عليه قلعة حصينة ووضع فيها المدافع والمكاحل والحراس. وزار سيد بني هاشم موسى الكاظم، روّح الله روحه، في ظاهر بغداد، وقصد زيارة سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني، قدّس الله سره. ثم قصد زيارة المشهدين المعظمين: مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومشهد ولده الحسين، رضوان الله عليهما (3)، واستمد من أرواحهما، ثم زار المزارات المتبركة.
ثم إن السلطان، لما أقبل الربيع، نزل في عشري ذي الحجة، سنة احدى
__________
(1) وترد «أجان»، وهي مدينة في أذربيجان في الجانب الأيسر لنهر سر او على عشرة فراسخ من تبريز.
لسترنج: 198.
(2) مدينة من إقليم الجبال، أنشأها أرغون خان المغلي، وأتمها السلطان ألجايتو وجعلها قاعدة ملكه.
المرجع نفسه: 258257.
(3) كذا وفي (ج): «عليهم أجمعين».(2/56)
وأربعين وتسعماية بمنزل يقال له صاروجة قمش، فوصل رسول صاحب الشرق يعرض الإخلاص ويطلب الصلح، فلم يلتفت السلطان إلى كلامه، واستمر في مسيره إلى مدينة مراغة (1)، ثم / إلى مدينة تبريز.
وفي رابع شهر محرم سنة اثنتين وأربعين وتسعماية، ركب السلطان، ودخل مدينة تبريز ليتفرج ويصلي صلاة الجمعة، ففرشوا له جامع السلطان حسن، فصلّى فيه صلاة الجمعة، وخطب الخطيب خطبة بليغة باسمه.
ثم نهض بالعسكر الجرار (2) والبحر الزخّار، يريد قتال شاه طهماسب المذكور، فتوغل في بلاده حتى وصل إلى بلاد مدينة دركزين.
وفيها، وصل وافد شاه طهماسب بالكتاب يريد الصلح، وأنه لا يقابل ولا يقاتل أبدا، ويرجو من كرم السلطان أن يرحم الرعايا والبرايا، فقد هلكت دوابهم وخرجت بلادهم، وأن يعفو عنا فيعود بالعز والإكرام إلى طرف الروم، وعاهده أن لا يخونه وتكون له البلاد التي أخذها منه، ولا ينازعه فيها أبدا، وأنه يلبيه كلما دعاه.
فلما تحقق السلطان منه ذلك، أمر العسكر بالعود فعاد، حتى دخل مقر سلطنته قسطنطينية في رابع عشر رجب، وقد زينت المدينة واستبشروا بقدومه.
وفي ليلة الثاني والعشرين من رمضان من هذه السنة، استمر إبراهيم باشا في مجلس السلطان، وجلس معه وصاحبه حتى إذا حان وقت النوم قام إلى محله على جاري عادته، أرسل السلطان بوستانجي (3) باشى اسكندر آغا لقتل إبراهيم باشا فقتله، فأصبح ميتا، فتعجب الناس من قتله، لأنه كان أحب الناس عند السلطان، وخفي عن العامة سببه.
__________
(1) مدينة في أذربيجان على سبعين ميلا جنوب تبريز.
لسترنج: 198.
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «بالعساكر الجرارة».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «بوستنجي».(2/57)
والذي اشتهر أن اسكندر جلبي الدفتري وشى إلى السلطان بأنه يروم قتل السلطان ويتسلطن هو مكانه، وكان قد أظهر هذا السر لصاحبه اسكندر المذكور، وقيل إن السلطان لما بلغه ذلك، سأل منه في مجلس أنسه، فقال: «يا إبراهيم، إني أريد أن أجعل السلطنة لك!». فقال: «يا مولانا السلطان، العبد لا يبلغ مرتبة السيد!». فقال: «لا بد من ذلك!». فقال: «إن تفضل السلطان بأن يضرب وجه السكة باسم مولانا السلطان والوجه الآخر باسمي، أكتفي بالمشاركة في السكة!». فلما اطلع السلطان على جلية الحال، قتله من غير مهل.
وفي سنة أربع وخمسين وتسعماية، وصل القاسب / ميرزا بن إسماعيل بن حيدر والي الروم. وكان سببه أن أخاه طهماسب، لما استولى على شروان (1)، جعل القاسب واليا بها من قبله، وهو أخوه الصغير، وكان أشجع إخوانه. ثم وقع بينه وبين طهماسب عدة حروب، وكان النصر فيها إلى القاسب المذكور. ثم نهض طهماسب إلى قتاله. فلما سمع هجومه خاف منه القاسب، فترك شروان خالية، وهرب مع جماعة من خواصه إلى الروم.
فلما قدم القسطنطينية، أحسن السلطان إليه ووهب له من الذهب الأحمر شيئا كثيرا، ووهب له عدة أحمال من الأقمشة وعدة خيول (2)، وأعطاه الطبل والعلم، ووعده بتخليص بلاد أبيه وردها إليه.
فلما ذهب الشتاء وأقبل الربيع، تجهز السلطان إلى المسير لقتال طهماسب، وأمر القاسب ميرزا بالتقدم وقواه بطائفة من عسكر الباب، وجعل أولمه (3) باشا أتابكا له.
وفي ثامن صفر سنة خمس وخمسين وتسعماية، توجه السلطان قاصدا بلاد
__________
(1) مدينة من مدن كيلان على بحر قزوين.
لسترنج: 214.
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «ووهب له من المال والقماش والخيل شيئا جزيلا».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «أولامه».(2/58)
العجم، فلما قرب من حدود أذربيجان نزل ببرهان، وفيها بقية من نسل ملوك شروان من الجبل، فاستخلص شروان من يد جماعة طهماسب، فاستولى على شروان.
وفي عشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصل السلطان إلى كرسي طهماسب تبريز، ففوّض أمرها إلى القاسب ميرزا، وأعطاه من العسكر والمدافع الكبار ما يكفيه. فلما تولى القاسب إمرة تبريز، جعل يصادر الرعايا والبرايا ويظلمهم على عادة ملوك العجم.
ولما تحقق السلطان منه ذلك، استصحبه معه، فكان قصد السلطان أن يسير على مدينة وان (1)، وأن يخلصها من أيدي العدو، لأنهم كانوا ملكوها بعد أن ملكها نواب السلطان، فوصل إليها في عاشر رجب. وكان طهماسب شحنها بالرجال والأبطال وحصنها غاية التحصين (2). ولم يزل العساكر يعالجون الحصار بضرب المدافع وعمل النار حتى أخربوا منها (3) أكثر القلل.
فلما تيقّن من بالقلعة أنهم مأخوذون، تدلى بعضهم من القلعة بحبل واجتمع بالقاسب ميرزا، وتضرع واستشفع / به.
فلما شفع القاسب عند السلطان في استيمانهم والعفو عنهم، عفا عنهم السلطان، فخرجوا منها وسلموا القلعة لصاحبها، فدخلها أهل السنة والجماعة، فنصبوا عليها الأعلام الإسلامية، وولى السلطان اسكندر باشا الدفتري، أمير الأمراء بها.
ولما قرب الشتاء، قصد السلطان أن يتصوب إلى طرق ديار بكر، فسار ليشتي بها حتى وصل إلى مدينة آمد (4). فبينما هو مخيم فيها، إذ ورد أن العدو،
__________
(1) من مدن جيلان على شاطىء بحيرة مشهورة تعرف بها.
لسترنج: 218217.
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الإحصان».
(3) الأصل: «منه» وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(4) تكتب أحيانا «حامد» و «آمدا» عند الرومان، ثم اشتهرت بعد تلك الأزمان باسم «ديار بكر»،(2/59)
لما بلغهم عود السلطان، دخلوا مدينة أذربيجان وأحرقوها وشردوا أهلها، وقتلوا من قدروا عليه، وأحرقوا الزروع.
فلما بلغ ذلك السلطان، أمر الوزير أحمد باشا بالمسير إليهم وعضده بجماعة من العسكر، واستخبروا بأن جماعة طهماسب مخيّمون بقرب مدينة تبريز، فساروا وكبسوهم في الليل، وقاتلوهم وشردوهم.
ثم إن القاسب ميرزا تضرع إلى السلطان بأن يعطيه جماعة من العسكر ليسير بهم إلى بلاد أصفهان، وقم، وكاشان، لأن بها معظم أموال أخيه طهماسب وخزائنه، وفيها أولاد جماعته وأزواجهم وأموالهم. فأجاب السلطان إلى مسؤوله، وعضده بطائفة من الأكراد والأعجام، واجتاز السلطان والعسكر نهر الفرات، ووصل إلى حلب.
وفي بعض هذه الأيام، وصل القاسب ميرزا إلى حدود عراق العجم، فتوغل بها، وبدأ بالنهب والتحريق والتخريب حتى وصل إلى حدود فارس، وأخرب ضياعهم وأحرق بيوتهم، وأسر أولادهم وأزواجهم، ثم عاد إلى بغداد وشتى بها. ووقع بينه وبين الوزير محمد باشا وحشة، اقتضت إلى أن عرض محمد باشا إلى السلطان بأن القاسب ترفّض ورفض طاعة السلطان (1)، ولم يكن الأمر على حقيقته، وإنما هو مكيدة فعلها في حقه بغضا وعداوة.
فلما اطلع القاسب على ذلك، خاف على نفسه من صولة السلطان، فهرب إلى بلاد الأكراد، ولم يزل بها حتى قدر عليه أخوه طهماسب، فقتله قتلة شنيعة.
وفي ثامن عشر رمضان، سنة ستين وتسعماية، خرج السلطان من مدينة القسطنطينية، / وصمم عزمه إلى بلاد الشرق، فأرسل إلى أولاده السلطان بايزيد،
__________
وهو ما تعرف به اليوم، وقيل لها أيضا: «قره آمد» أي: آمد السوداء، لأن حجارة بنائها سود وهى في غربي دجلة.
لسترنج: 142140.
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «تشيّع وخرج عن طاعة السلطان».(2/60)
والسلطان سليم، والسلطان مصطفى، بالقدوم إليه. فلما وصل إلى بلدة يكي شهر، قدم إليه ولده بايزيد فقبّل يده، وفوض إليه السلطان حراسة بلاد روم إيلي، وأرسله أن يقيم بمدينة أدرنه.
ولما وصل السلطان إلى بلاد ودين قدم إليه ولده السلطان سليم خان، فاستسعد بتقبيل يده، وأمزه بالمسير معه إلى بلاد العجم.
ولما وصل إلى مدينة أركلي وصل ولده السلطان مصطفى، وكان قد بلغه أنه يريد أن يتسلطن مكان أبيه، وأن قلوب العسكر معه. فلما دخل وطاق السلطان لتقبيل يده، أمر السلطان بخنقه فخنقوه، وأرسل من يضبط أمواله، وعزل في ذلك اليوم الوزير الأعظم رستم باشا، ونسب إليه هذه الفتنة، وولى مكانه الوزير الثاني أحمد باشا، وبعث بجسد ولده المرحوم السلطان مصطفى إلى مدينة بروسا ليدفن بها، ويقال:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي جلدا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا
وأمر لولده السلطان سليم خان أن يشتي بمرعش، وتوجه السلطان بنفسه إلى حلب، فدخلها في غرة ذي الحجة، وكان ولده الصغير جهانكير معه، فاتفق أنه مرض ومات، فتأسف عليه السلطان تأسفا شديدا، وصلّى عليه وأرسل بجثته إلى مدينة استنبول (1).
ولما اقبل الربيع، خرج السلطان مع العساكر من حلب، وتوجه إلى بلاد الشرق. ولما وصل إلى المكان المعروف بباسين (2)، أنعم على العساكر وحرضهم على الجهاد والقتال، ووعدهم بالأنعام والأفضال، ورتب الميمنة والميسرة والقلب والساق، وكان يوما مشهودا.
ولما وصل إلى بلاد أذربيجان، كتب إلى الشاه ما محصّله يدعوه للمبارزة،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «اسلامبول».
(2) يذكر ياقوت (1/ 322) باسين العليا وباسين السفلى، وهما كورتان قصبتهما أرزن الروم.
انظر أيضا: لسترنج: 150.(2/61)
ويعيّره على ترك الحرب والإختفاء في الكمون، وأرسله مع رجل أطلقه من السجن من أصحاب الشاه.
وتوجه السلطان حتى وصل إلى مدينة وان، وهي من أحسن مدن الدنيا / وأنزهها، فأخربها العسكر جميعا، وكان دأبهم كذلك من حين دخلوا بلاد العجم.
ثم لم يزالوا كذلك حتى وصلوا، في سادس عشري شعبان سنة ستين وتسعماية، إلى مدينة نخجوان (1)، مقر سلطان العجم، وفيها دور وقصور شامخة الأركان، رفيعة البنيان، ودور أولاده وأحفاده ووزرائه وسائر أعيان دولته. فلما دخلها العسكر ألقوها خالية فقطعوا أشجارها، وخربوا قصورها، فصارت البلدة كأنها أرض قفر ما عمرت قط.
وكان أمير العمادية أغار بشجعان قومه على مدينة تبريز فنهبها، وقتل من قدر عليه ثم سار إلى مراغة فنهب وأحرق وقتل، وأغار على ألوف من جماعة الشاه، فقاتلهم وانتصر عليهم، وأخذ تيجانهم المرصعة وأعلامهم وطبولهم.
ففي أثناء ذلك وصل وافد من جانب الشاه، ومعه مكتوب ما محصله أنه ندم فيما أظهر من العداوة، وأظهر التذلل والاستغفار، والتجأ إلى عتبة السلطان يطلب منه الصلح، فأجابه السلطان إلى سؤاله (2)، وخلع على الوافد. وتوجه السلطان بعد أن شتى بمدينة أماسية إلى صوب كرسي مملكته.
وبلغ السلطان أن رجلا من الملبسين خرج عن الطاعة في مدينة كمليجه (3)، بروم إيلي، وادعى أنه السلطان مصطفى المقتول، فاجتمع عنده من أسافل الناس تقدير أربعين ألف رجل. فاهتم السلطان في أمره، وأمر الوزير محمد باشا بالمسير إليه، وكان السلطان بايزيد قد بعث أيضا لقتاله. فلما تحقق
__________
(1) ويقال أيضا «نقجوان»، وهي مدينة في أذربيجان شمالي نهر أرس، ويذكرها البلدانيون العرب باسم نشوى.
ياقوت 5/ 286لسترنج: 201.
(2) في الأصل وفي (ج): «مسؤله» وما أثبتناه من (ب).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «كما عنه».(2/62)
من كان عند الخارجي هجوم العسكر عليهم، تفرقوا من عنده شيئا فشيئا، ثم هجم عليه الوزير فقتله.
وفي سنة احدى وستين وتسعماية، شرع في بناء الجامع والعمارة بمدينة قسطنطينية، فجاءت من عجائب الدنيا ونوادر الدهر.
وفي سنة أربع وستين وتسعماية، أمر بعمارة الجامع والمأكل بمدينة دمشق بمكان يعرف بالقصر الأبلق (1) بالمرجة.
وفي سنة ست وستين وتسعماية، وقع بين السلطان سليم والسلطان بايزيد ولدي السلطان سليمان خان، بسبب تبديل أماكنهما، حروب، لأن السلطان بايزيد كان مقره بمدينة كوتاهيه، والسلطان سليم بمدينة مغنيسا. فلما أمر السلطان أن يبدل / أماكنهما لم يرض السلطان بايزيد بالبعد، فوقع بينهما حروب شديدة آل الأمر إلى انهزام السلطان بايزيد وولده أورخان مع إخوته إلى بلاد العجم، واجتمع مع الشاه طهماسب فاستقبله وراعاه. فبعد ذلك أرسل والدهم السلطان سليمان يطلبهم من الشاه، وأرسل أمير الأمراء خسرو باشا لخنقه مع أولاده [الأربع، وهم السلطان: أورخان، والسلطان محمود، والسلطان عبد الله، والسلطان عثمان، وكان له ولد صغير في مدينة برسا، فخنقوا الجميع، وذلك في سنة سبعين وتسعماية] (2)، ونقل أجسادهم من قزوين إلى بلاد السلطان، فدفنهم في سيواس، وسكن الله الفتنة والوسواس.
[وكان السلطان بايزيد هذا سمع بأن في مدينة دمشق رجلا يعرف علم الزايرجا (3)، يقال له الشيخ منصور، فأرسل إليه وطلبه إلى بلاده، وسأله عن
__________
(1) قصر عظيم بناه السلطان الظاهر بيبرس البندقداري عام 665/ 1267، تحت قلعة دمشق، في الميدان القبلي.
ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار 1/ 437كرد علي، خطط الشام 5/ 270269.
(2) ما بين الحاصرتين على الهامش بالقلم نفسه.
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «بالزيرجه السبتية».(2/63)
وصول السلطنة إليه، وطلب منه أن يعين الذي يصير سلطانا هو أو أخوه. وكان الشيخ منصور خجل من السلطان بايزيد أن يخاطبه بأن السلطنة ليست له، فكتب إليه بعد سفره عنه:
ملك الملوك إذا وهب ... لا تسألنّ عن السّبب
الله سلطن من أراد ... فكن على نهج الأدب
ففهم الإشارة من هذه العبارة، وسار إلى بلاد العجم غير ثابت على القدم] (1).
وفي هذه السنة، وقع في إقليم الدشت (2)، ببلاد التتار، قحط عظيم حتى باع بعضهم بعضا من أهل المملكة العثمانية بشيء من القمح والشعير.
وفي تاسع شوال سنة أربع وسبعين وتسعماية، نهض السلطان سليمان خان إلى فتح مدينة سكدوار، وهي من مدن نصارى مجر. والحال أن السلطان قد شاخ وكبر وهرم، وازداد عليه علة النقرس، فسار بعسكر كثير متزاحم الأفواج، متلاطم الأمواج، وبعث وزيره برتو باشا إلى فتح قلعة كله (3)، فلم يلبث إلا قليلا حتى فتحها.
وأما قلعة سكدوار، فكانت في المناعة إلى حد الغاية، وقد أحاطتها (4)
المياه والأوحال من كل جانب، فلم يزدد أمر الفتح (5) إلا استصعابا، واشتد مرض السلطان حتى أحس بالموت، فرفع يديه إلى السماء، وقال: يا رب
__________
(1) ما بين الحاصرتين ورد على الهامش بالقلم نفسه.
(2) منطقة زراعية خصبة في بلاد فارس.
لسترنج: 288، 296و 318.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «كوله».
(4) كذا وفي (ب) و (ج): «أحاط بها».
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «القلعة».(2/64)
العالمين، افتح على عبادك المسلمين، وانصرهم، واضرم النار على الكفار (1)! وأوصى بالسلطنة لولده السلطان سليم، وكتب إليه كتابا وأوصاه بالرعية والاستعجال (2) بالمسير إليه لئلا يضيع عسكر المسلمين في بلاد الكفار (3). ثم انتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى، وأخفى الوزير الأعظم محمد باشا وفاته، ودعا رئيس الأطباء، فشق بطنه وملأه بالأجزاء الحارة، ودفن إمعاءه هناك.
ثم لم يزالوا يجدون في أمر الفتح، حتى فتحوها نهار السبت في وقت الضحى، في سابع شهر صفر الخير، سنة خمس وسبعين وتسعماية، وذلك بعد وفاة السلطان المبرور بثلاثة أيام بالحريق.
ولم يزل العسكر هناك في ترميم القلعة وإصلاحها، حتى بعث الوزير محمد باشا / إلى السلطان سليم خان يدعوه إلى سكدوار، فنهض السلطان سليم خان، وكان يومئذ على إمارة كوتاهيه، ودخل القسطنطينية على حين غفلة من أهلها، وجلس على سرير الملك، يوم الإثنين التاسع من ربيع الأول، سنة أربع وسبعين وتسعماية، وقت الضحوة الكبرى، وكان الطالع إذ ذاك المريخ، وذلك بعد نقطة الاعتدال الخريفي الموسوم بمهرجان بعشرة أيام، ودخل عليه العلماء وعزوه بأبيه وهنوه بالسلطنة.
ثم خرج في اليوم الثالث إلى جهة سكدوار، فلحق بالعسكر وصلّى على أبيه هناك، ثم بعثه في العجلة صحبة الوزير أحمد باشا إلى مدينة القسطنطينية.
فلما قرب من المدينة استقبله وجوه العلماء والمشايخ بالذكر والتوحيد إلى البلد، ودفنوه في مدفنه بجامعه الذي بناه بمدينة قسطنطينية.
وكان رحمه الله، عالي الهمة، عالما، شجيعا إلى الغاية، طويل القامة، حسن الصورة، وهو ممن اشتهر في الآفاق بالعدل والخيرات من بناء المدارس
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «حتى أحس بالموت، فتضرع إلى الله تعالى في نصرة المسلمين وخذله أعداء الدين».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «والسرعة».
(3) كذا في (ج) وفي (ب) «في بلاد العدو».(2/65)
الأربعة بمكة، وإجراء عين عرفه (1). وهذا الذي ذكرناه بعض ما فعله من الحسنات، ولو أردنا استيفاء ما فعله من الخيرات لاحتجنا إلى عدة مجلدات.
عاش، رحمه الله، أربعا وسبعين سنة، وبقي في الملك ثمان وأربعين سنة.
وكان له عدة أولاد توفي الجميع (2) في حياته. وتولى الملك بعده ولده:
السلطان سليم شاه بن السلطان سليمان خان (3)
ثم إن السلطان سليم خان، أيد الله ملكه، وأجرى في بحر المرادات فلكه، قدم من سكدوار بالعسكر الجرار، إلى مدينة قسطنطينية، في شهر جمادى الآخرة، سنة أربع وسبعين وتسعماية، فاستقبله جميع أهل البلد واستبشروا بقدومه. فلما استقر في دار الملك أمر بالجوائز، ففرقت على العسكر وغيرها (4)، وزاد في معالم الجند.
ثم شاع في هذ السنة عصيان بني عليان، من سكان الجزيرة (5)، وخروجهم عن الطاعة، فجهز إليهم من الباب العالي وغيره عساكر صحبة أمير الأمراء بالبصرة / وبغداد، فساروا وحاربوهم عدة أيام وشهور، حتى غلبوا عليهم وهزموهم بعد عدة حروب وخطوب يطول شرحها، واستولوا على معظم قلاعهم وأخربوا أماكنهم، ثم عادوا سالمين. وكان الفتح في أواخر سنة خمس وسبعين وتسعماية.
ثم إن السلطان الأعظم سليم خان، أمر الوزير مصطفى باشا بالمسير مع العسكر في البحر والتوجه إلى فتح جزيرة قبرس، وعين كاشف البحر علي باشا
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب) «عين عرفات».
(2) كذا وردت في النسخ الثلاث، ولا بد أن المؤلف يستثني السلطان سليم بن سليمان.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «السلطان الغازي سليم خان بن السلطان سليمان خان».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «وغيرهم».
(5) هي البلاد التي بين دجلة والفرات.
انظر: لسترنج: 158114، حيث تجد تفصيلات وافية عن هذه البلاد.(2/66)
القيودان (1) أن يدور بسائر العمارة في وجه البحر، صيانة للعساكر من هجوم الكفار.
فلما حل أول الربيع، وقد تكاملت الأغربة والسفن، وشحنت بالرجال وأنواع السلاح، خرجوا في سنة ثمان وسبعين وتسعماية من فم الخليج القسطنطيني بأبهة هائلة وأهبة زايدة. فلما وصلوا إلى الجزيرة المذكورة، خرجوا من طرف مملحتها، فخيّم العسكر هناك.
ثم استقرت الآراء على حصار قلعة لفقوسه أولا، إذ هي مدينتهم الكبرى وقاعدة مملكتهم، فحاصروها مدة شهر واحد ثم افتتحوها في أواسط ربيع الآخر من السنة المذكورة. ثم بعث الوزير المشار إليه، أحسن الله إليه، عدة رؤوس مقطوعة من عظماء أهل لفقوسه ورؤسائهم في أطباق من فضة إلى أهل قلعة كرينه. فلما شاهدوها خافوا وذلّوا، فطلبوا الأمان، وبعثوا بمفتاح القلعة، فتسلمها وصيّرها دار الإسلام، بعد أن كانت مقرا لأهل الشرك والأزلام.
ثم توجه الوزير المذكور، لا زال في عز وسرور، بعد ما مهد قواعد مدينة لفقوسه، وبنى ما خرب منها، إلى حصار قلعة ما غوصه، وهي من أمنع الحصون وأصعب المعاقل وأكرب المناهل، وهي في ساحل البحر الأبيض على صخرة صماء، حصنوها بشيء كثير من المدافع والمكاحل، وشحنوها بجماعة من أسود المحاربين، وقد أحدق بها خندق واسع عميق بأسوار عرضها (2) ماية ذراع وعشرة أذرع، وعمقها (3) تسعة وعشرون ذراعا، وقد ركبت في هذه القلعة سبعماية وأربعة وستون مدفعا كبيرا، والبنادق لا يعلم عددها إلا الله تعالى، فحاصرها العسكر / حصارا شديدا، وقاتلوا أهلها بالآلات النارية والأحجار المنجنيقية، وشقوا بطون الأرض شقا، وفتقوا قعورها فتقا، وجروا في عروقها جريا، وتصوبوا
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «القبوضان».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «بسور عرضه».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «وعمقه».(2/67)
إلى صوب الحصن هويا. فاتفق أن أقبل الشتاء واشتد البرد، ولم توجد هناك مرسى ترسي فيه عمارة السلطان، فعاد كاشف البحر إلى طرف الروم، وبقي العسكر صحبة الوزير هناك، لا يفترون الليل والنهار عن الحصار.
فلما انقضى زمن الشتاء وطاب الهواء، عاد كاشف البحر علي باشا بالمسير إلى طرف قبرس عونا للمسلمين، ومددا لمن هناك من الموحدين. فلما عاين الكفار (1) ذلك، وكانوا يرجون أن يصل إليهم مدد من بلاد الكفار (2)، يئسوا (3)، ونادوا بالأمان، فأمّن لهم الوزير المذكور، فبعثوا بمفاتيح القلعة، وطلبوا أن يمكّنوا من المسير إلى بلادهم، كما فعل بأشياعهم من قبل أهل ردوس، وكانوا نحو سبعة آلاف محارب، فأجاب الوزير، قبل الله سعيه المشكور، إلى ما اقترحوا عليه، فخرجوا من المدينة وخيّموا خارجها، فدخلها المسلمون ونصبوا فيها الأعلام الإسلامية، وعمّروا ما وهن وخرب، وشيّدوا بروجها وأحكموا حصونها.
وكان الوزير المذكور قاسى من صاحب هذه القلعة أمورا حقد عليه بذلك، فلم ير إطلاقه ومعه من المقاتلة والأسباب ما لا مزيد عليه، فأراد الاحتيال عليه، وكان قد عيّن لهم عشرين غرابا. فلما ركبوا في الأغربة، واستقروا فيها جميعا مع أموالهم وأرزاقهم، جاء أميرهم ليسلم على الوزير ويودعه، فأمر به الوزير، فقيد وقطع أذنيه في مجلسه، ثم غدر به فقتله أشر قتلة، ثم أمر بمن في المراكب فأخرجوا واستوسروا، واستولى على جميع ما معهم من الغنايم.
ثم سار بعمارة لنهب جزائر الكفار، فطلعوا على جزيرة كفالينه فنهبوها، وهدموا بنيانها، ثم إلى جزيرة كرمس (4)، وهي مفتاح بلاد البنادقة، فحاصروها بعض أيام، وعاثوا فيها نهبا وتخريبا، ثم / فعلوا ذلك بعدة جزائر هناك.
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «العدو».
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «الافرنج».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «فآيسوا».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «كورفس».(2/68)
فلما طال مكثهم على وجه البحر، ورأوا أن العدو ما قابلهم، اغتروا، فأذن الوزير برتو باشا بالتفرق، فتفرّق [العسكر] (1) غالبهم، وقد ملأوا المراكب بأسباب الغنايم وشحنوها، فسابقته العسكر راسين في ميناء أينه بختى، إذ وصل إليهم الخبر بأن الكفار استخبروا عن تفرقهم (2)، فهاهم سائرون عليكم وواصلون إليكم في ملل كثيرة، وقبائل شتى، من أهل الأوثان وغيرهم.
فتشاور المسلمون بعضهم مع بعض، فكان رأي الوزير الأعظم پرتو باشا في ذلك أن لا يقابلهم ولا يقاتلهم، وكان ذلك مقتضى طبعه، لأنه كان جبانا إلى الغاية، وكان ما رآه هو الأنسب بمقتضى الحال. وخالفه كاشف البحر علي باشا في ذلك، وكان رجلا شجاعا بطلا مغرورا (3)، فقال: «لا بد من لقاء الكفار (4)، فإن وهج العار أشد من وهج النار، وقد أيدنا الله بالإسم، وزاد فينا قوة وبسطا، فلو سارت أغربتنا وهي خالية عن عسكر الإسلام لكفت قبائل الكفار، فكيف وأنا بينكم وفينا من العسكر ما يفي بالمقابلة؟!». فلم يزل يناظرهم حتى غلب على رأيهم، فاتفق الجميع على لقاء العدو.
ولما كان يوم الأحد السابع عشر من جمادى الأولى، سنة تسع وسبعين وتسعماية، التقى الجمعان وتقابل الفريقان في طرف من بلاد المسلمين، فهبت الريح على المسلمين، وألجأهم إلى البر فانكسروا، وذلك بعد قتال شديد دام من طلوع الشمس إلى الغروب، وقتل المرحوم علي باشا المغرور (5)، وجماعة كثيرة لا تحصى، وغنم الكفار غنايمهم من الأموال والأسباب والأغربة والشواني وما فيها، وقل من سلم من هذه الوقعة، فسبحان الحكيم الصمد، القادر، يفعل ما يشاء.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «عن تفرقكم».
(3) كذا وفي (ب): «معروفا» وفي (ج): «مغوارا».
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «لقاهم».
(5) كذا وفي (ب) و (ج): «المذكور».(2/69)
فاهتم السلطان في إنشاء عمارة أخرى مع ما يناسبها من المدافع، فجدوا حتى تم لهم ما راموا في مدة سبعة أشهر، وما كان ذلك إلا عناية من الله تعالى، فصاروا كأن لم يمسهم ضر ولا شر.
وفي هذه السنة، برز أمر السلطان / بأن تهدم رواقات المسجد الحرام لوهنها ونفوذ المطر منها، وأن يبنى مكانها قباب عالية، فشرع فيها، فصارت في غاية ما يكون من الحسن واللطافة. وجدد أبواب الحرم، فلم يبق من البناء القديم إلا البيت العتيق.
وفي سنة ثمانين وتسعماية، خرجت عمارة السلطان من فم الخليج القسطنطيني صحبة كاشف البحر قليج علي باشا القيودان (1)، في ماية وخمسين غرابا، غير ما انضم إليهم من المراكب، فسار يحمي البلاد عن هجوم العدو.
فلما كان ببعض أطراف البلاد، صادف عمارة الإفرنج، فوقع بين الفريقين بعض مقاتلة ومناوشة، وأصاب عدة مدافع لبعض سفن العدو فأغرقها، ثم انجلى كل من الفريقين نحو بلاده لمصادفة الشتاء.
وفي هذه السنة، أمر السلطان بهدم البيوت والحيطان الملاصقة بجامع آيا صوفيا بمدينة قسطنطينية، وكان الناس قد أكثروا من البنيان، حتى استتر الجامع واغتم، ونفذت القاذورات إلى داخل الجامع، فهدمت نحو أربعين ذراعا، وصار حوالي الجامع مفازة لطيفة، فصارت في غاية ما يكون من الحسن. وأمر السلطان بترميم الجامع المذكور، وأن يبنى منارتان أخريان، وأمر أن يبنى حواليها مدرستان جليلتان، فشرع في ذلك، وقضى السلطان نحبه.
وفي هذ السنة، ورد الخبر بأن عين عرفة وصلت إلى مكة المشرفة، وجرت على وجه الأرض في أماكن متعددة. وكان من أمرها أنه كان أنهي إلى السلطان سليمان خان، أسكنه الله غرف الجنان، بأن عين حنين قد ضعفت إلى الغاية، وأن أهل مكة في ضيق عظيم بسبب الماء، فأمر بإجراء عين عرفة إلى مكة،
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «القبوضان».(2/70)
فصرفوا في ذلك أموال الدنيا، ولم يزالوا يباشرونها من ذلك العهد حتى تيسّر مجيئها في عهد ولده السلطان سليم خان، وهذه نعمة جليلة لهذه الدولة حيث تيسر لهم هذا الأمر، ولم يتيسر لمن كان قبلهم من الخلفاء والملوك، وكم سعوا في هذا الأمر، فلم يقدروا عليه (1).
وفي سنة اثنتين وثمانين وتسعماية، خرجت عمارة عظيمة في سفن وأغربة / وقلاين وشواني مشحونة بالرجال وآلات الحرب، صحبة الوزير سنان باشا وصحبة كاشف البحر علي باشا، قاصدين فتح قلعة حلق الواد (2)، وتخليص مدينة تونس من أيدي الإفرنج، وقد مر ذكرها في قصة بني حفص، إلى أن آل الحال إلى فتح القلعة والمدينة وتحصينها، فلله الحمد والمنة.
وفي هذه السنة، أنشأ السلطان حماما بدار السعادة على ضفة قبلوجة بروسا، بحيث لم يبصر مثله. فلما تم، دخل السلطان الحمام المذكور، فبينما هو يمشي إذ زلق قدمه، فسقط سقطة عظيمة اسود منها جنبه الذي سقط عليه. فلما برز من الحمام، عرض ذلك على رئيس الأطباء محمد بن غرس الدين، وكان جاهلا، فعالجه ببعض ضمادات، فلم ينجع، وكان الواجب فصده من غير تأخير، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
ثم لم ينشب (3) أن حم السلطان واشتد مرضه، فلم ينجح الطب فيه، وتوفي في ثامن عشري شعبان، سنة اثنتين وثمانين وتسعماية، يوم الاثنين، وقت الزوال، وأخفي موته أحد عشر يوما. وشاع بين الناس ضعفه، فلم يتيقنوا [موته] (4)، حتى قدم ولده النجيب السلطان مراد خان، ليلة الأربعاء، الثامن من رمضان، بعد ما مضى ثمان ساعات من الليل، وكان الطالع إذ ذاك الجدي.
__________
(1) المقطع: «وكان من أمرها فلم يقدروا عليه» ساقط من (ب).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «حلق الوادي».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «لم يلبث».
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/71)
وكان السلطان لما توفي، أمر الوزير لرئيس الأطباء أن يتولى غسله وعدة من خواصه الطواشية، وكفنوه وجعلوه في تابوت من غير إشعار أحد، ووضعوه في المكان الذي توفي فيه. فلما وصل السلطان، ولم يشعر به أحد، وكان أكثر الناس من القول بموته، وخيف الاضطراب من العسكر، أمر الوزير لأركان الملك بأن السلطان طيّب، وأنه يعمل لموكب يوم الثلاثاء، فتأهبوا.
فلما كان يوم الثلاثاء، توجه الوزير وقضاة العسكر وساير أركان الدولة إلى الديوان، فدخل الوزراء على السلطان، كما كانوا يدخلون أولا للعرض، فشاهدوه ميتا في جوف التابوت، فقال الوزير محمد باشا: «هذا سلطانكم قد مات، وإن / الذي لا يموت الحي القيوم، فترحموا عليه، وخفّضوا عنكم هذا، وسلطانكم الجديد قد وصل، فلا تهتموا!»، فترحموا عليه وخرجوا. فلما شاهد الناس منهم هذه الحالة، تيقنوا بموت السلطان.
فلما كان صبيحة يوم الأربعاء، أذّن المؤذنون على المنارات، ونادى المنادون في الأسواق بأن السلطان سليم توفي إلى رحمة الله تعالى، وأن سلطانكم السلطان مراد، أيّده الله تعالى، وأنه استقر على سرير الملك، فذهب العلماء والكبراء إلى دار السعادة، فسلموا عليه وعزوه بأبيه، وصلّي عليه قبل صلاة الظهر في دار السعادة. وهو أول سلطان صلّي عليه بدار السعادة، وهو شيء لم يسبق إليه. وهو أول سلطان توفي بمدينة قسطنطينية، وتقدم للصلاة عليه العالم الكامل أبو حامد المفتي بإشارة من السلطان إليه. ثم ذهبوا بالجنازة فوضعت تحت خيمة جعلوها في جنب آيا صوفيا لعدم تهيء القبر. ثم عاد الناس إلى دار السعادة لأجل الصلاة على أولاد السلطان سليم خان، وكانوا خمسة إخوة خنقوا في ذلك اليوم، على ما جرت به عوايدهم، فصلّوا عليهم بعد صلاة العصر، ثم جاءوا بهم إلى عند أبيهم. ولما أصبح الصباح من يوم الخميس التاسع من رمضان، حضر العلماء والوزراء والأعيان، فدفنوا جميعهم في ذلك الموضع.(2/72)
وكان، رحمه الله، شهما، شجاعا، ذكيا، مائلا إلى التقوى ووجوه الخير.
وكان مهيب الشكل، جليل القدر، صحيح العقيدة، حنفي المذهب، مواظبا للصلوات الخمس، وكان مع ذلك متهما بالميل إلى اللهو والطرب والتوغل في التنعم. وقد صح أنه رجع في مدة مرضه قبل موته بشهرين.
ومما يحكى عن صفاء مشربه وحسن حاله (1)، أنه لما أنشأ العمارة الجديدة من الأغربة والسفن، بعد وقعة الهزيمة، وجهزها من البحر، أخلص النية وتوضأ ودخل بيت خلوته فصلّى فيه ما شاء الله، وبكى وتضرع وخر ساجدا زمانا طويلا.
ثم أخذ المصحف فتفاءل فيما يؤول إليه حال العسكر المجهز للعدو، فجاء أول الصحيفة (2): {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ، الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى / الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللََّهِ} (3). فاستبشر السلطان، وحمد الله وأثنى عليه، وسكن ما به من الاضطراب.
وكانت مدة سلطنته ثمانية أعوام وخمسة أشهر وتسعة عشر يوما، وكان مولده في أواخر رجب سنة ثلاثين وتسعماية بالقسطنطينية. وتولّى الملك بعده ولده:
السلطان المعتصم بالله مراد خان بن السلطان سليم شاه (4)
ولد في مدينة قسطنطينية سنة ثلاث وخمسين وتسعماية، وتاريخ ولادته خير النسب بحساب الجمل. وتربى في حجر السعادة واشتغل بالعلوم حتى حصلها وفاق أكثر أسلافه العظام، وله نظم في الألسن الثلاثة، واشتغل في علم التصوف، ولم يصدر منه شيء من الكبائر. وكان عمره حين جلس على سرير الملك ثلاثين سنة.
__________
(1) كذا وفي (ب): «عن صفاته وحسن حاله».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «الصفحة».
(3) سورة الروم، الآيات: 41.
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «خان».(2/73)
وكان أكبر همه قتال صاحب أذربيجان وخراسان من أولاد حيدر الصوفي (1)، فعين الوزير مصطفى باشا فاتح بلاد قبرس، فتوجه في سنة ست وثمانين وتسعماية بعسكر كثير إلى بلاد الشرق، فبنى قلعة قارس وشحنها بالمدافع والمكاحل، وهي مدينة إسلامية، فوجد فيها المساجد والجوامع ومزارات الأولياء، وفيها مزار الشيخ العارف بالله أبي الحسن الخرقاني، من كبراء الصوفية (2)، فلما استولى عليها الكفار أخربوها.
ثم سار إلى تخوم بلاد العجم والكرج حتى وصل إلى مكان يسمى جلدر، من بلاد الشاه، فحاصر هناك قلعة لكفار الكرج تسمى بيكي قلعة، فاستولى عليها (3)، ثم هجم عليه عسكر الشاه صحبة وزيره دقماق، فبعث الوزير مصطفى باشا عسكرا إلى قتاله، فهزموهم وحصدوهم بالسيوف، واستولوا على أموالهم وخيولهم. ثم استولى الوزير المذكور هناك على عدة قلاع وشحنها بالرجال.
ثم سار حتى افتتح قلعة تفليس (4)، من بلاد أورخان، قاعدة مملكة الكرج، وكان المسلمون افتتحوها قديما، ثم غلب الكرج واستولوا عليها.
ولما فتحت مدينة تفليس أرسلت أم منوجهر الكرجي، ملكة تلك البلاد، ابنها إلى الوزير / بالطاعة ومعه مفاتيح ثمان قلاع من القلاع الست عشرة التي تملكها، فرحب به الوزير وآنس به، وعيّن له إمرة تلك البلاد، وذلك بعد أن أسلم منوجهر بين يدي الوزير.
ثم قام الوزير المذكور، بعد أن نصب في تفليس أمير الأمراء، إلى طرف شروان، وهي شماخى، وبث سراياه إلى الأطراف، وتمكن منها، ثم ترك فيها الوزير عثمان باشا ابن أزدمر واليا بها.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «الصفوي».
(2) الجملة: «وفيها مزار الصوفية» لم ترد في (ب).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «حتى وصل إلى مكان يسمى قلعة بيكي فاستولى عليها».
(4) بلدة من أذربيجان.
أبو الفدا، تقويم: 403402.(2/74)
فلما أقبل الشتاء توجه الوزير إلى طرف بلاد السلطان، وشتى هناك للإغارة في الربيع على بلاد العجم. ثم بلغه أن أرس خان، صاحب شروان القديم، قصده بنحو اثني عشر ألف عسكري لقتال عثمان باشا، فوقع بينهما قتال شديد، فاتفق أن انتصر عثمان باشا، وقتل أرس خان وغالب عسكره.
ثم وقع بينه وبين عسكر الشاه هناك ما ينوف عن عشرين وقعة، وكانت النصرة دائما في جانب عثمان باشا. وآخر ذلك أن عدل امام قولي بعسكر يقرب من ثلاثين ألف مقاتل على أرض شروان، فقاتل عثمان باشا مدة أربعة أيام. ثم نزل نصر العثمانية وقتل غالب الشاهية، وبنى عثمان باشا بعد هذه الوقعة في شماخى حصارا عظيما في دور سبعة آلاف ذراع بذراع البناء، في مدة أربعين يوما، ثم ترك فيها جعفر باشا نائبا بها. وبعد مدة قدم إلى مدينة قسطنطينية، وصار وزيرا أعظم، وذلك بعد أن قاتل في مسيره عدة أمم اعترضوه بالحرب وغلب عليهم. ثم لما وصل إلى بلاد كفه، بلغه أن خاقان التتار أظهر العصيان على سلاطين آل عثمان، فقاتله وانتصر عليه وقطع رأسه.
وفي سنة ثمان وثمانين وتسعماية، بعث السلطان مراد خان وزيره سنان باشا إلى قتال العجم، فسار مع عسكر جرار ووصل إلى حدود العجم، وأرسل إليه الشاه في الصلح، وبعث للسلطان أحد وزرائه، يدعى إبراهيم خان، بتحف سنية وهدايا جليلة، وظن سنان باشا أن هذه الحالة مما تعجب السلطان، ولم يقع كذلك، بل لما عاد الوزير من سفره عزله السلطان، وأقام مقامه فرهاد باشا.
وفي سنة تسعين وتسعماية، / احتفل السلطان بختان ولده النجيب السلطان محمد خان، وصنع لذلك وليمة عظيمة بحيث لم يقع في زمن من الأزمان مثلها، وامتدت الوليمة والفرجة واللهو والطرب مدة خمسة وأربعين يوما. وكان جالسا يتفرج في دار إبراهيم باشا بمحلة آت ميداني (1).
وفي سنة احدى وتسعين وتسعماية، توجه الوزير فرهاد باشا إلى بلاد
__________
(1) الجملة: «وكان جالسا ميداني» لم ترد في (ب).(2/75)
العجم، فسار وتوغل في بلاد أذربيجان نحو سبعة أيام، واستولى على مدينة وان، وبنى عليها حصنا حصينا، ونصب فيها يوسف باشا واليا وأميرا.
وفي هذه السنة، خرج إبراهيم باشا من مدينة قسطنطينية إلى الديار المصرية والشامية، ليصلح منها ما فسد.
وفي سنة اثنتين وتسعين وتسعماية، سار فرهاد باشا بعسكر عظيم للغزو ببلاد الكرج، فبنى هناك عدة قلاع.
وفي هذه السنة، بعث السلطان الوزير الأعظم عثمان باشا بعساكر كثيرة إلى قتال الأعجام، فتوجه بعد أن شتى في بلاد قسطموني.
وسار [عثمان باشا]، في سنة ثلاث وتسعين وتسعماية، ومعه من العساكر ما لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وكان ذلك لمحبة الناس إليه لكرمه وشهامته، وحسن تدبيره، فعارضه الأعجام في الطريق مرة أخرى، فقتل منهم مقتلة عظيمة.
ثم دخل تبريز في أواخر رمضان من السنة المذكورة، واستقبله أهل تبريز بمصاحف ووجوه الناس، فقابلهم الوزير باللطف.
ثم شرع أولا في بناء القلعة في مكان يسمى هشت بهشت، وكان ذلك في طرف المدينة. ثم شرع في بناء سور المدينة، فأتم الجميع في مدة خمسة وثلاثين يوما.
ثم ظهر من أهل تبريز بعض غدر في أمر العساكر، فهجم عليهم العساكر وقتلوهم ونهبوا أموالهم، ولم ينج منهم إلا النساء والأطفال، ومرض الوزير في تلك المدة.
ثم لما تمّ أمر القلعة، وسور المدينة، وخنادقها، خرج الوزير مع العسكر متوجهين إلى بلاد الروم، وذلك بعد أن أبقى في المدينة نحو ثلاثين ألف مقاتل، صحبة أمير الأمراء جعفر باشا، وشرط له أن يكون وزير السلطان.
فلما كان اليوم / الرابع من مسيرهم، اعترض الوزير حمزة ميرزا ابن شاه
محمد خدابنده، صاحب عراق العجم، عسكر كثير، فتهيأ الوزير لقتالهم وركب بغلته الشهباء، وهو آخر ركوبه على الدابة، فاستمر الحرب من غلس الصبح إلى الظهر.(2/76)
فلما كان اليوم / الرابع من مسيرهم، اعترض الوزير حمزة ميرزا ابن شاه
محمد خدابنده، صاحب عراق العجم، عسكر كثير، فتهيأ الوزير لقتالهم وركب بغلته الشهباء، وهو آخر ركوبه على الدابة، فاستمر الحرب من غلس الصبح إلى الظهر.
فلما رأى الوزير امتداد الأمر، أمر الوزير برمي المدافع الكبار، وكانت ثمانمائة مدفع، فأصابت من عسكر الأروام وجيش الأعجام ما قدر الله أجله، فانجلى الأمر عن هزيمة العجم.
ثم نزل الوزير في ذلك المحل، وفتح أبواب وطاقه لأجل إعطاء الترقي والعطيّة للعساكر. فلما صار نصف الليل غلق أبواب الوطاق، وانتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى، فأقام مقامه سنان باشا أمير الأمراء بمدينة وان.
فلما رحلوا، اعترضهم العدو يمينا وشمالا ووقع بينهما مناوشة، فلما وصلوا إلى حدود المملكة العثمانية، أمام قلعة سلماس، هجم حمزة ميرزا المذكور في نحو ثلاثين ألف راكب، فوقع بين العسكرين قتال كثير حتى انجلى الحرب عن هزيمة الأعجام، بعد أن حصد غالبهم بالسيف.
فلما دخلوا مدينة وان، شقوا بطن الوزير عثمان باشا وحشوه بالطيب، وبعثوا جسده، فدفنوه بمدينة آمد، وكان أوصى بذلك.
وكان الوزير المذكور رأى مناما، وهو بمدينة تبريز، أنه راكب فرسا أبيض، فألقاه الفرس إلى الأرض وسقطت عمامته عن رأسه، فعرف أنه يموت من مرضه الذي اعتراه، فأوصى بما أراد.
وكان الوزير المذكور، تقبل الله منه سعيه المشكور، من الشجاعة بجانب عظيم. كان تولى عدة صناجق في ابتداء حاله، ثم صار أمير الأمراء ببلاد الحبشة، فسار حتى انتهى إلى تخوم أرض الحبشة، فرأى مكانا ينبت الذهب فيه في سفح جبل كما ينبت القصب، فوصل إلى إقليم الميمون، أي القرود، وقاتل معهم كما يقاتل مع بني آدم، وقاتل مع أمم كثيرة مرات عديدة، فكان النصر له.(2/77)
وفي سنة أربع وتسعين وتسعماية، جهز السلطان فرهاد باشا، الوزير المذكور، مع عساكر عظيمة إلى بلاد العجم، فوصلوا إلى مدينة تبريز، وحصنوا قلعتها ورمّموا سورها، وكانت الشاهية حاصروها مرارا عديدة، وقربوا من أخذها. ثم بنى / هناك بين وان وبين تبريز قلعتين وشحنهما رجالا وسلاحا، ولم يزل الوزير المذكور يشتي ببلاد الروم، ويرجع في الصيف إلى بلاد العجم، حتى مهد البلاد التي أخذت من الكرج، وبنى قلعة كوري، ووصل إلى بلاد قره باغ وكنجه، وابتنى هناك حصنا على كنجه وحصنا على بردعه، وقاتل صاحب قره باغ محمد خان، فكسره وغنم أمواله، وعاد إلى بلاد الروم. وقد وقع فتح بلاد شروان في هذه السنة، لأن إمارات الفتح اتصال الممالك العثمانية بشروان، واستمر الحال والحرب بينهما سجال إلى أن وقع الصلح بينهما، وجعل حدّا لا يتعداه أحد منهما.
وفي نهار الثلاثاء ثالث عشري ربيع الآخر، سنة احدى بعد الألف، وقعت الحادثة العظمى بمدينة قسطنطينية التي لم يسمع بمثلها في سالف الدهر، وكنت إذ ذاك هناك، وذلك أن العساكر من طايفة غرباء اليمين واليسار، والسلحدارية وغيرهم، اتفقوا ودخلوا إلى ديوان السلطان بسبب إبطاء جوامكهم عن العادة، وأرسلوا يطلبون محمد الشريف الدفتر دار يومئذ، فامتنع السلطان من تسليمه لهم خوفا أن يقتلوه.
ولم تزل قضاة العساكر يترددون لهؤلاء الجماعة لدفع هذه الفتنة، فلم يقدروا فرجموهم، واستمروا واقفين وعلى ما هم عليه مصرين، حتى هجم عليهم من الداخل بعض الصبيان، وساعدهم من وجد من الجاوشية وخدمة الديوان، واستمروا يضربونهم بالحجارة التي رجموا بها، فازدحموا عند خروجهم من الباب الوسطاني، حتى تراكم بعضهم على بعض بين البابين، واسند الباب، فكان الناس يمشون عليهم، فقتل منهم ومن المتفرجين نحو من ماية وسبعة عشر
إنسانا. فأمر السلطان بإلقاء أجسادهم في البحر، وسلم الدفتر دار المذكور، لا زال في عزة وسرور (1).(2/78)
ولم تزل قضاة العساكر يترددون لهؤلاء الجماعة لدفع هذه الفتنة، فلم يقدروا فرجموهم، واستمروا واقفين وعلى ما هم عليه مصرين، حتى هجم عليهم من الداخل بعض الصبيان، وساعدهم من وجد من الجاوشية وخدمة الديوان، واستمروا يضربونهم بالحجارة التي رجموا بها، فازدحموا عند خروجهم من الباب الوسطاني، حتى تراكم بعضهم على بعض بين البابين، واسند الباب، فكان الناس يمشون عليهم، فقتل منهم ومن المتفرجين نحو من ماية وسبعة عشر
إنسانا. فأمر السلطان بإلقاء أجسادهم في البحر، وسلم الدفتر دار المذكور، لا زال في عزة وسرور (1).
وفي هذه السنة، عين السلطان الوزير الأعظم سنان باشا لمحاربة كفار المجر، وأرسل معه العسكر، ففتح تلك السنة قلعة بستريم، وقلعة طاجه، وشتى بمدينة بلغراد.
وفي السنة الثانية، فتح قلعة يانق، وهي من أحصن القلاع وأصعبها، قد أحاط بها الماء. / وهي مدينة ماتت الملوك بحسرتها لحصانتها ومنعتها ومتانتها، تنقطع الأطماع عن طلبها، وتقصر العزائم عن فتحها لقوة سببها. وكان فتحها عند النصارى بمنزلة المحال لصعوبة مرافيها واستعلاء مراميها، وفتحها الله تعالى على يد الوزير الأعظم سنان باشا لطفا منه تعالى، لا بضرب سيف ولا بطعن سنان.
توفي السلطان مراد خان في تاسع جمادى الأولى، سنة ثلاث بعد الألف، وله من العمر خمسون سنة. وكانت مدة ملكه عشرين سنة وثمانية أشهر، وخلف عشرين ولدا ذكرا غير الإناث.
فلما استقر ولده الأكبر / على سرير الملك، أمر بخنق إخوته فخنقوهم، وصلّوا عليهم مع أبيهم، ودفنوهم معه تجاه آيا صوفيا، وجلس على سرير الملك خليفة الله على كافة العباد، وظله الشامل لجميع البلاد، وهو سلطان هذا الزمان خلاصة خواقين آل عثمان:
__________
(1) كذا وردت رواية الفتنة العظمى بالقسطنطينية في (ج) وفي (ب) ورد ذكر الحادثة دون تفصيلها مع إشارة من الناسخ إلى إعراضه عن تلخيصها «خوف الإطالة».(2/79)
السلطان المجاهد الغازي محمد خان ابن المرحوم السلطان مراد خان
لا زال أمره ماضيا بلا مضارع، ونافذا في الأقطار بدون منازع. جلس على سرير الملك نهار الجمعة وقت الضحى، سادس عشر جمادى الأولى، سنة ثلاث بعد الألف. فهو إمام عصرنا، وغمام شامنا ومصرنا.
ففي ثامن يوم من جلوسه، أمر بقتل إبراهيم باشا الشهير بدا لي إبراهيم باشا الذي كان نائبا بديار بكر، فظلم العباد، وأضعف البلاد. وكان محبوسا في إحدى القلل (1) البحرية، وكان حبسه أبوه المرحوم السلطان مراد خان، عليه الرحمة والرضوان، بسبب أنه ظلم العباد، وفتك في البلاد، حتى أن الناس أجلوا أماكنهم وأخلوا مساكنهم (2) من ديار بكر في أيامه.
وبرز أمره العالي بإخراج كل من كان بدار السلطنة الجديدة من المساخر والجواري وامهات إخوته، وأرسلهم إلى السرايا العتيقة، وأمر لهم بما يكفيهم من الجوامك والرواتب، وكانوا شيئا كثيرا، فصاروا كأن لم يكن شيئا مذكورا.
ومن محاسنه، أنه وفى دين والده كله (3)، ومن جملة ما وفى ثمن خضروات المطبخ (4) ثمانين ألف دينار ذهبا، وقس على ذلك ما يناسبه.
ولما استقر على سرير الملك وجد الحرب قايمة بين المسلمين والكفرة على ساق، ورأى أن يشاور العلماء والوزراء في قتال أجناد الشقاوة والشقاق، إحياء لسنة الجهاد، وقطعا لدابر أهل الكفر والعناد، فأشار الجميع بذلك، وحسنوا له السير في هاتيك المسالك، فنادى بالسير في الغزاة، وعزم بنفسه في الجهاد في سبيل الله، فنهض نهضة الأسد الضاري، وأعاد ماء السلطنة إلى ما كان
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «قلال».
(2) كذا وفي (ج): «جلوا عن أماكنهم، وخلوا من مساكنهم».
(3) لفظة: «كله» ساقطة من (ج).
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «خضار المطبخ».(2/80)
له من المجاري، وأخرج الأموال الكثيره، وأبرز كل أسد باسل تخشى الأسود زئيره، ورافقه / في الجهاد شيخه الولي (1) سعد الدين، وقال: «أنا معك أسير، حتى أخلص وجودي من الذنوب، فإنني بها أسير!». ففرح باستصحاب المذكور، وعيّن له من المؤن ما يكفي الجمهور، وخرج بعساكر مجرورة بالفتح المبين، مصروفة إلى كسر جموع الكفار بلطف الله المعين، فوقعت الصواعق في هاتيك الديار، وعلموا أنه قد وقع بهم البلاء والدمار، فتجهزوا بما يقدرون عليه من العساكر، وبرزوا لجنود الإسلام بجندهم الكافر.
ولما وصل السلطان المذكور بعسكره المنصور إلى مدينة بلغراد، ومنها يتقرب إلى معاقل الكفر في هاتيك البلاد. ثم استمر يتقدم بعساكره المنصورة، ورايته المنشورة، إلى أن نزل على حصن عظيم يقال له أكرى، ومعناه الأعوج، وهو حصن مشهور بالمتانة، معروف عند الغزاة بالحصانة، قد قهر من ينازله، وغلب من يحاوله، وعلت شرفاته إلى مقارنة النجوم، وما عهد ناظر (2) طايرا هناك يحوم، ومع ذلك فأبطال المسلمين قد ثبتوا حتى كأنهم في مواقف حربهم قد نبتوا إلى أن اضمحل عمرانها، وتداعى بنيانها، فعلم أهلها أنها صايرة إلى الخراب راجعة، إلى أن توصف باليباب، فصاحوا: «الأمان، الأمان، على سلامة الأرواح والأبدان!». وأعطاهم السلطان أمانا من الممالك، فخرجوا من حصن أكرى وأعناقهم إليه ملتوية، وأجسامهم إلى مشاهدته منحنية، ودخل المسلمون إليها أفواجا، وأشعلوا من نور الإيمان في ظلمة الكفر سراجا.
فلما تم ذلك، جاء الخبر من جواسيس الإسلام، أن الكفار مرادهم من المسلمين الإنتقام، فنهض إليهم السلطان في جموعه قبل أن يقابلوه في رجوعه، فوقعت بينهم وقعة ما سمع بمثلها في غابر الأزمان، ولم يحدث مثلها في حوادث الحدثان، فوقع بين الفريقين، ودارت رحى الحرب بين العسكرين وكان عزم المسلمين قد فتر عن الكفار، وضعفت / القوى وتخاذلت الأنصار، فهجم الكفار
__________
(1) لفظة: «الولي» ساقطة من (ج).
(2) لفظة: «ناظر» ساقطة من (ج).(2/81)
على سرادق السلطان هجمة واحدة، ودخلوا إلى مخيمه بهمة ليست راقدة، حتى أن علجا (1) من الكفار دخل إلى المخيم، وركز رمحه فوق الخزينة، وعندها خيم، فرآه واحد من خواص السلطان، فثار إليه ثورة الأسد الغضبان، وضربه بالسيف فقده، وقطع بحده قده، وبعد ساعة أو ساعتين، نادى على الكفار منادي الحين، وسمعوا من هاتف الغيب كسر الكافرون من غير ريب (2)، وتراجعت الوزراء وأكابر الأمراء، خوفا على وجود السلطان من أصحاب النيران، لأنهم سمعوا دخولهم إليه، وهجومهم عليه (3). وفر غالب العسكر، ولم يلاحظوا فزع اليوم الأكبر، فقال المولى سعد الدين: «اثبت أيها الملك، فإنك منصور بعون مولاك الذي أعطاك، وبالنعم أولاك!».
فركب السلطان جواده، وطلب من مولاه إسعافه وإسعاده، وتضرع إلى مولاه، بعد ما تحقق أن لا ناصر له سواه، فما مضت ساعة من النهار، إلا وقد هب نسيم الانتصار، وارتفع علم الإسلام، وانخف أعلام الكفر الرغام، ولولا لطف الله بهذه الدولة السعيدة، لتزلزلت قواعدها السديدة، ولكن ردها الله تعالى ردا جميلا، وما جعل عليها للكافرين سبيلا. ولعمري إنها دولة ترف ظلالها، ويظهر اعتدالها، لما فيها من اتباع الشرائع، التي هي إلى دخول الجنة أقوى الذرائع.
وكان السلطان، أعز أنصاره الرحمن، عزل إبراهيم باشا من الوزارة العظمى، وولى مكانه سنان باشا ابن جغال. فلما رجع إلى دار الملك قسطنطينية المحمية، أعاد الوزارة لإبراهيم باشا، وأعاده لمحاربة المجر. ففتح في تلك السنة حصن قنجه، واستقام حاله حتى أحبه العساكر محبة عظيمة، واستمر يجاهد في سبيل الله إلى أن توفاه الله، وولى مكانه حسن باشا الشهير باليمشجي
__________
(1) جمعه علوج، يطلق على الجند من الإفرنج، ويعبر عنهم بالعلوج.
القلقشندي، صبح 5/ 138.
(2) الأصل: «بغير ريب».
(3) الأصل: «وهجمهم».(2/82)
في الوزارة العظمى، فتاهب لسفر المجر، فبعد مدة رجع، ولم ينتج له حال مع وجود / العسكر من الغزاة والأبطال (1). /
وتوفي المرحوم السلطان محمد خان، عليه الرحمة والغفران، نهار الأحد ثامن عشر رجب، سنة اثنتي عشرة وألف، ومدة ملكه تسع سنين وشهران ويومان، وله من العمر [ثمان وثلاثون سنة] (2). وتولى الملك بعده ولده:
السلطان الأسعد والخاقان الأمجد السلطان أحمد خان
ثبت الله قواعد سلطانه، وجعل ملائكة السماء من أنصاره وأعوانه. جلس على سرير الملك نهار الاثنين تاسع عشر رجب، سنة اثنتي عشرة وألف، وهو ثاني يوم وفاة والده، ولم يسبق لغيره أن يتسلطن، وهو عند والده، لأن العادة المعروفة، والطريقة المسلوكة المألوفة، في ملوك آل عثمان، أدام الله دولتهم إلى انقضاء الدوران، أنه إذا كبر ولدهم ولّوه السنجق الشريف، وأخرجوه من عندهم إلى المقام المنيف.
وكان عمره، حين جلوسه على كرسي الملك، ما يقرب من خمس عشرة سنة، فسار سيرة الأكابر من الملوك، وتعجب الناس مما شاهدوه منه من حسن السلوك، حتى كأنه تعلم سير الملوك من عالم الأرواح، وتكمل في علمه وفهمه وعدله قبل التصور في عالم الأشباح. أذعنت له رقاب الأكاسرة، ودانت لحكمه عرانين القياصرة، فهو البدر الكامل في السلطنة العلية، الطالع في مطالع أربعة عشر من ملوك العثمانية فمراتب سلاطين الزمان دون مراتبه، ومواكبهم تابعة في النصر لمواكبه، التجوا إلى بابه باذلين للطاعة، وخدموه اختيارا منهم بقدر الاستطاعة، وراسلوه طلبا للأمان، وإن لم يكن بعضهم من أهل الإيمان، لا زالت
__________
(1) في (ج): «مع وجود العساكر والأبطال».
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل وفي (ب)، ومستدرك في (ج).(2/83)
سلسلة سلطنته [متسلسلة] (1) إلى سلسلة انتهاء الدوران، / وأرواح أسلافه متنزهة في الروضة والرضوان.
وكانت الطغاة والبغاة في زمانه قاموا، ولغير استحقاقهم من غارات بلاد الإسلام راموا، فخالفوا طاعة الملك العلام، ونبذوا طاعة سلطان الإسلام، واستحلوا من دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم الحرام. وكانوا قد تمكنوا في بلاد أناطولي وقرمان، وتملك بعضهم من ديار العرب إلى حدود حوران، فاجتمع عندهم من القبائل والشعوب أصناف وضروب، بحيث لا يحصيه العدّ ولا يحصره الحد، فمشوا على ممالك الإسلام، وأرادوا إطفاء نور الإيمان من ظلمهم بظلام، فأدهشوا سهلها، وسبكوا (2) أهلها، ومدّوا إلى ذخائرها النهب العام، بعد أن قتلوا غالب الخواص والعوام، فقتلوا الرجال، وأسروا النساء والأطفال، وبعض أهل البلدان، الذين أظهروا عدم الطاعة والأمان (3)، أمروا بهدمها والإحراق، وإعدام عينها على الإطلاق، ولم يبق على طريقهم من الرعايا ديار، ولا نافخ نار، وانمحت من الوجود أمهات الأمصار، وشملها البوار.
وأما القرى والقصبات، والرساتيق والمزدرعات، فأكثر من أن تحصر وتضبط بحساب دفتر، فأبيد كله وأبير، فالحكم لله العلي الكبير، فانمحت مراسم نقوشها، فهي خاوية على عروشها، وانقطعت الطرقات مدة، فلم يسلك إلى بلاد الروم فيها نفس واحدة.
وأما ما فعله علي باشا ابن جان بلاط (4) في الشام من النهب [العام] (5)، وتخريب البلاد، فإنه لما ولي نيابة حلب، جمع كل شقي من القبائل والعشائر،
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) كذا وفي (ج): «ومسكوا».
(3) كذا وفي (ج): «الإيمان».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «جانبلاد».
(5) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/84)
مقدار ما رام وطلب، وتوجه إلى الديار الشامية، ليأخذ ثأره من جماعة / الينكچرية.
فلما بلغهم ذلك استقبلوه إلى مدينة حماه، ومعهم محمد باشا الطواشي (1)، نائب الشام، وعامة الجيوش من الكماة، فالتقى الجمعان، وتلاطم البحران، فما كان غير ساعة حتى دهمهم خلق ليس لهم لمقاومتهم طاقة، فولّوا على أدبارهم منهزمين، وقالوا: «الفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين!». فغنم (1)
الأشقياء أموالهم وأرزاقهم، وخيمهم ودوابهم، وكانت ساعة الله بها عليم، مما شاهدوه من العذاب الأليم.
واستمر ابن جان بلاط في أثرهم حتى وصل إلى حدود الشام، فاستقبله الأمير فخر الدين ابن معن بمن معه من الدروز وطائفة السكمانية، فوصل إلى البقاع، وأناخ هناك مدة، وجعل يراسل طائفة الينكچرية، وهم لا يتحركون بحركة، فجعل يقدم رجلا ويؤخر أخرى، حتى قوى قلبه بعض الأشقياء، فنهض نهضة أنام منها الأنام، وأقام قومة أقام بها ساعات القيام، فتوجه نحو مدينة الشام.
فلما بلغ العساكر الشامية ذلك، خرجوا إلى أرض العراق ومعهم من العشاير والقبايل والعربان وعامة الرعايا ومشايخ البلدان، بحيث لا يحصيهم إلا الملك الديان.
فلما كان نهار الأحد ثامن عشري جمادى الأولى، اجتمع الفريقان، وامتزج البحران. فما كان غير ساعة من نهار، ورأوا أن لا طاقة لهم على القرار، ولم يكن لهم إلا الفرار، تفرق عنهم القبائل والعشائر، ورجع إلى المدينة بعض العساكر، والغالب منهم توجهوا نحو البلاد. فوصل ابن جان بلاط (2) بمن معه إلى خيمهم، واستولوا على أموالهم وأرزاقهم، ونصب خيمه بأرض قرية المزة.
__________
(1) جمعه طواشية، وهم المماليك الخصيان.
القلقشندي، صبح 5/ 456، 489
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «جانبلاط».(2/85)
فلما رأى أهل دمشق ما حل بهم من البوار، ودخل القلعة / نائبها محمد باشا الطواشي فارّا، فحصن أسوار المدينة وأغلق أبوابها، وعيّن ما يكفيه من الرجال لحفظها وحراستها.
[وكان] (1) قاضيها بدر الموالي وصدر العلماء الأعالي إبراهيم أفندي، وصحبته أمير الأمراء الكرام حسن باشا [ومحمد باشا ابن منجك اليوسفي] (2)، فكانوا يطوفون داخل السور، ويتفقدون (3) ليلا ونهارا الذي بحفظهم مأمور، فهجم جيش الأشقياء، فنهبوا محلة القبيبات والميدان وسويقة المحروقة، إلى أن وصلوا سوق ساروجا ومحلة السودان، حتى وصلوا إلى الصالحية، فما أبقوا شيئا لأصحابها، فأرسل ابن جان بلاط يطلب من أهلها مايتين وخمسين ألف غرش حتى يرحل عنهم. فاجتمع به حضرة حسن باشا، ولم يزل يتلطف معه في الكلام حتى أرضاه بماية وعشرين ألف غرش.
وكان يوسف باشا ابن سيفا إذ ذاك بدمشق، وكان مقصوده أن يأخذ أهله ويرحل تلك الليلة إلى بلاده، فاجتمع به المولى إبراهيم أفندي والأعيان، ومنعوه من السفر ما لم يعط ما هو المراد، فأعطاهم ذلك ورحل ليلته نحو حصن الأكراد.
فلما قبض المبلغ [المذكور] (4) ابن جان بلاط، رحل من ساعته مع من معه من الرجال، وكفى الله المؤمنين القتال.
ولما حصل لبلاد الإسلام هذه الوعكة، واندعكت أجسام رعاياها أقوى دعكة، بلغ ذلك سلطان الإسلام ممن يثق به من الخواص والعوام، وأمر عبده المقتدر بالقدرة الربانية، وزيره الأعظم الأغر بالعزة السبحانية، القايم بخدمة العباد، بطريق النصيحة والسداد، المبشر بأنه أمير البلاد، وغفير العباد حضرة / الباشا مراد، لا زالت آيات جلاله في صحايف الأيام مسطورة، ورايات إقباله في
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(3) في الأصل: «فكانا يطوفان داخل السور، ويتفقدان». وما هنا من (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/86)
صناجق الأعلام منشورة. وعين معه من العساكر بعدد الرمال (1)، ومددا كالجبال، ومعه من الآلات (2) النارية والمدافع الرعدية كجبال النيران الحامية، وجنود كالبحار الطامية.
فلما تكاملت الآلات والأسباب المتعلقة بالقتال، نهض من مدينة اسكدار بعسكر كثير، وجيش كبير، وعزم صارم، ورأي حازم، في أسعد أوقات الحركات، متوكلا على فائض الخير والبركات، بنية إصلاح البلاد، وقمع أهل الضلال والفساد، نحو مدينة حلب الشهبا، لما بلغه أن علي باشا ابن جان بلاط ألهب قلوب الخلق لهبا، سار نحوه فما نزل في مرحلة إلا وضع العساكر بين يدي مخيمه رؤوسا كالتلال، وأسراء بعضهم على بعض كالجبال، والأشقياء متباعدون عنه وهو لا يلتفت إلى وجودهم. واستمر الحال على هذا المنوال حتى وصل إلى مدينة آذنة، فبلغه أن ابن جان بلاط، بعد أن وضع أثقاله بقلعة حلب وحصن أسوار البلد، لئلا يصيبه النكد، تأهب إلى ملاقاة (3) العساكر، وأرسل جندا من أجناده لتحصين جبل بغراص، ليمنعوا العساكر من المرور.
فلما رحل الوزير المذكور، شكر الله سعيه المشكور، من مدينة آذنة أعرض عن السلوك على بغراص، وتوجه نحو جبل قاز، فما شعر ابن جان بلاط إلا والجيوش أحاطت بالجنود، كإحاطة الأساور بالزنود (4).
وكانت الحرب والقتال، نهار الثلاثا / ثالث رجب، سنة ست عشرة وألف، بأرض مرج دابق، من أعمال قنسرين، وكان من الجانبين عسكر ضخم كثيف لا يحدون، وجيش كبير عرمرم لا يعدّون (5)، واقتتل الفريقان، وامتزج البحران، وتصاول الأسود واختلط الأعلام والبنود، وارتجت السماء بالعجاج، والأرض
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «عددا كالرمال».
(2) الأصل: «آلات» وما هنا من (ب) و (ج).
(3) الأصل: «ملاقات».
(4) الأصل: «الزندود» وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(5) كذا في (ج) وفي (ب): «عسكر ضخم لا يعد، وجيش عرمرم لا يحد».(2/87)
بالفجاج، والوزير المكرم كالسيف الصارم والشجاع الحازم، فدأبه السجود وتمرغ وجهه على التراب، وهو يبكي ويتضرع، ويطلب النصر من الملك الوهاب.
واستمر الحرب إلى آخر النهار، فانتصرت العساكر الإسلامية المحمدية، والجيوش الأحمدية، فلم يبق لابن جان بلاط مجال للقرار، فصوب عنان فرسه للفرار، وجعل الجيوش العثمانية يطردونهم، ويقتلونهم ويأسرونهم، فقتلوا من عسكره ما تفرست المفاوز بجثثهم وأبدانهم، وجرت الشعاب والأودية بدمائهم، فوصلوا إلى خيمهم واستولوا على أموالهم وخيولهم.
وأما ما كان من أمر ابن جان بلاط، فإنه في بحر الحيرة سبح، وعمل بقول من نجا برأسه فقد ربح، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وأخذ من الأموال ما استخف حملها، وتوجه إلى بلاد الروم، فالتجأ إلى العتبة العلية السلطانية، فأرسل يقول إنه رجع وتاب مما فعله، وقال: «أنا عبد من عبيد هذا الباب!». فقال السلطان: «عفا الله عما سلف، ولو كان ذنبه يستحق به الخنق والتلف!». فولاه نيابة مدينة دمشوار، من أعمال روم إيلي.
وفي نهار السبت سابع رجب دخل الوزير / مدينة حلب، وتسلم قلعتها من غير نكد ولا تعب، واستولى على ما ادخره ابن جان بلاط من الذخائر ونفائس الأموال التي جمعها من العباد، وأقام بها إلى أن بلغه أن الشقي قره سعيد، ومن معه من كل طريد وعنيد، عليهم مقامع من حديد، يوم يقول لجهنم: «هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد؟»، عازمين إلى لقائه، متّع الله المسلمين ببقائه، بمحاربة جيوش الموحدين، فتوجه إلى لقائهم، في سابع شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وتلاقيا نهار الثلاثا، الثالث عشر ربيع الآخر، بأرض كوكسون، من أعمال مدينة مرعش (1). فتقابل العسكران، وتلاطم البحران،
__________
(1) بلدة من الشام بينها وبين أنطاكية ثمانية وسبعون ميلا.
أبو الفدا، تقويم: 263262.(2/88)
فأطلقوا بعد أن وضعت الحرب أوزارها المدافع الكبار، فأظلم الأفق فصار لها دوي، فجفلت الخيل وهربت الغلمان، فهزموهم وحصدوهم بالسيف، فشقي المطرود سعيد، وتمزّق جلد رفيقه ابن قلندر، وهو سحيق بعيد.
ولم يزل الطرد والعسكر في أعقابهم، وقطع السيوف وطعن الرماح في مناكبهم ورقابهم، حتى خرجوا من حدود البلاد، والتجوا إلى ملّة الإلحاد، فاجتمعوا بأشياعهم من أهل الضلال، وكفى الله المؤمنين القتال، فصارت المملكة الأحمدية منهم مطهرة، وببعد ظلمهم مبتسمة منوّرة.
ثم توجه إلى قتال ابن الطويل، فاجتمعا بأرض يقال لها كل وارش، تابع قضاء شيراز (1)، فاجتمعا / نهار الثلاثا ثاني عشر جمادى الأولى من السنة المذكورة، فالتحم القتال وتكسرت النصال على النصال، ولم ينج منهم إلا من طول الله عمره، وطردتهم عساكر الإسلام، ونالوا منهم ما راموا من القتل والنهب وسائر المرام، وما نجا كبيرهم إلا بجهد جهيد، فلحق برفقائه من ابن قلندر وقره سعيد.
فلما أسرف هذا الشقي وأخوه من قبله في قتل الرجال، ونهب الأموال، وافتضاض البكور، وانتهاك الستور من النساء المخدرات، والكواعب الناهدات، عاملهما الله بما يقتضيه عدلا وجلالا، لا بما يرتضيه فضلا وجمالا. فلما مهد البلاد، ورجعت إلى أوطانها العباد، وأمنت الطرقات وسكنت الدهماء، وأمنت الشهباء، توجه الوزير المذكور إلى دار السلطنة، أيدها الله تعالى وأبدها.
وفي أثناء سنة ثماني عشرة وألف، خرج الوزير الأعظم المذكور، عامله الله بلطفه المشكور، إلى مدينة اسكدار، ونصب خيمه هناك، واجتمع عليه العساكر،
__________
(1) كذا وفي (ب): «شيزار» وفي (ج): «شيروان».(2/89)
ومقصوده تطهير الأرض ممن بقي من الأشقياء والطغاة، وهو يوسف باشا ورفقائه، فأطاعوه (1)، وتشرفوا بتقبيل أقدامه، راغبين في انعامه واحسانه (2).
__________
(1) الأصل: «أطاعوا» وما هنا من (ج).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «وإحسانه شاكرين». مع الإشارة إلى أن هذا الباب ينتهي في الأصل بلائحة السلاطين خلفاء السلطان أحمد، بدءا من ولده السلطان مصطفى، وانتهاء بالسلطان مصطفى خان بن أحمد خان بن محمد خان عام 1173هـ، وذلك بخط مختلف. مع الإشارة إلى أن الصفحات من 271 (ب) إلى 276 (ب) ساقطة في الأصل.(2/90)
/ الباب الثامن والأربعون في ذكر دولة آق قوينلي وقره قوينلي (1)
وهم طائفتان من التركمان، وكانت مساكنهم القديمة بلاد تركستان، ثم تحولوا عنها في زمن أرغون خان الملك إلى بلاد أذربيجان، ثم تحولت طائفة قره قوينلي إلى نواحي أرزنكان وسيواس، واستفحل بها أمرهم، وتحولت طائفة آق قوينلي إلى ديار بكر، واستولوا على الملك والسلطنة.
وأول من ظهر منهم وتأمر في البلاد علاء الدين طور علي بيك التركماني، وكان قد تأمر في حدود آمد وموصل، ثم توفي.
وقام مقامه فخر الدين قطلي بيك بن طور علي، ثم توفي.
وتولى بعده قره أيلوك عثمان، وكان شجاعا وله مع الترك والعرب وقائع.
ولما تصرّف تيمور في البلاد، وحضر معه الشام، انتهى إليه ودخل في طاعته، ودلّه على مسالك الروم، واستنابه تيمور في بلاده.
وكان له من البلاد آمد، وأرزنجان، وماردين، والرها، وعامة ديار بكر. ثم استولى على غير تلك البلاد.
وكانت له وقعة مع برسباي، صاحب مصر، قبل أن يلي الملك، وهو يومئذ أمير طرابلس، انكسر فيها برسباي. وسبب هذ الوقعة أنه غزا برسباي في سلطنته بلاد آمد. وكانت وقعة أخرى مع برهان الدين صاحب سيواس، فقتل فيها برهان الدين واستولى قره أيلوك على سيواس.
__________
(1) كذا في الأصل وفي (ب) و (ج): «في ذكر دولة قوينلي ووقايع قره قوينلي».(2/91)
وفي سنة تسع وثمانماية، اقتتل قره أيلوك واسكندر بن قره يوسف، وانهزم قره أيلوك، فوقع في خندق بأرض أرزن الروم (1)، فمات، وكان بلغ من العمر التسعين بل زاد عليها، فدفنوه هناك، ثم أخرجه اسكندر المذكور من قبره بعد ثلاثة أيام، وحزّ رأسه وأرسله إلى القاهرة، فنصب رأسه على باب زويلة (2)، وفرح أهل مصر بذلك، لأن الناس كانوا في خوف من جهته لكثرة حروبه وشدة فتكه.
فلما هلك، ملك بعده ولده حمزة بيك، وبقي ولده يعقوب في أرزن الروم، وجهانكير بن علي بيك بن عثمان شريكا له في الأمر.
وفي سنة ثمان وأربعين وثمانماية، توفي حمزة بيك المذكور، وكان مثل أبيه في قبح سيرته، وكثرة شروره وفسقه.
وملك بعده ولد أخيه جهانكير بن علي بيك. /
وفي سنة خمس وخمسين وثمانماية، وجه أخاه حسن الطويل، صاحب العجم، مع عسكر، فالتقى مع الشيخ حسن فقتله، وهذا أول ظهور حسن الطويل، وقتل جماعة من عسكر جهانشاه (3)، وتأكدت عداوته مع جهانشاه.
ثم إن حسن الطويل ما زال يطمع في الملك حتى وثب على آمد، فأخذها بالحيلة مع وجود جهانكير المذكور. وهو أحسن هذه الطائفة خيرا ودينا وعفة وعدلا.
وفي سنة احدى وسبعين وثمانماية، وقع بين حسن الطويل، صاحب ديار بكر، وبين جهانشاه صاحب العراقين، حروب كثيرة انتصر فيها حسن الطويل
__________
(1) مدينة مشهورة من مدن أرمينية بقرب خلاط، أهلها أرمن.
ياقوت 1/ 151150القزويني، آثار البلاد: 332.
(2) أحد أبواب مدينة القاهرة.
المقريزي، الخطط 1/ 381380.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «جهان شاه».(2/92)
المذكور، فقتله وقتل أولاده وكثيرا من عسكره، واستولى على بلاد العراق وأذربيجان.
وفي سنة ثلاث وسبعين وثمانماية، قصد صاحب ما وراء النهر الملك أبو سعيد ابن ميرانشاه (1) بن تيمور أن يسترد ما كان لجهانشاه من البلاد من حسن الطويل، فقابله بحدود أذربيجان، فالتحم الحرب بينهما إلى أن قتل [حسن الطويل] خلقا كثيرا من عظماء خراسان، وأسر الملك أبو سعيد في يد زينل بن حسن الطويل، ثم أمر بقتله، فقتل وأرسل برأسه إلى صاحب مصر، فأمر به صاحب مصر فدفن إجلالا له لأنه كان من أكابر ملوك الإسلام، وأرسل معه كتابا سلك فيه طريقة الملوك، وأبرق فيه وأرعد، وكان قبله يتلطف بهم. واستولى حسن الطويل على ما كان بيد أبي سعيد المذكور على ملك سمرقند وغيره.
وفي سنة ست وسبعين وثمانماية، وصل يوسفجه بيك بعسكر حسن الطويل إلى مدينة توقات فنهبها، وخرّب أسواقها، ثم أتم مسيره إلى بلاد قرمان، وكان بها السلطان مصطفى ابن السلطان محمد خان فاتح القسطنطينية، فكبسه السلطان مصطفى وظفر به، فأسره وقتل غالب عسكره، ثم بعث به إلى أبيه السلطان محمد خان، كما مرّ.
وفي سنة ثمان وسبعين وثمانماية، نهض كل من الملكين السلطان محمد خان وحسن الطويل إلى قتال الآخر، فالتقى العسكران بقرب مدينة بابيرت (2)، فوقع بينهما قتال شديد، ثم نزل النصر للسلطان محمد خان، فانهزم حسن الطويل وقتل ولده زينل على يد السلطان / مصطفى، كما ذكر في محله.
وفي سنة ثلاث وثمانين وثمانماية، توفي حسن الطويل في ليلة عيد الفطر،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «مير شاه».
(2) كذا وفي (ب) «بابيرت» وفي (ج): «بايبورد».
وقد وردت في معجم البلدان ولسترنج «بابرت»، وهي مدينة من نواحي أرزن الروم، أكثر أهلها أرمن.
ياقوت 1/ 307لسترنج: 150.(2/93)
وخلف خمسة أولادوهم: خليل ميرزا، وكان حاكم فارس، ومقصود بيك، وكان حاكم بغداد، ويعقوب، ومسيح، ويوسف.
وملك بعد أبيه خليل بن حسن الطويل بن علي بيك بن عثمان بن قطلو بيك بن طور علي التركماني بعهد من أبيه إليه، وكان أكبر أولاده وأحبهم إليه، فملك جميع ما كان يملكه أبوه من البلاد الشرقية، إلا أنه لم يتهنّ بالملك، لأنه لما تولى أخذ بالعنف والشدة وقتل كثيرا من الأمراء، وقتل أخاه وخلقا كثيرا من أقاربه، ومع ذلك اشتغل باللهو والملاهي، وكانت الفتن قائمة في أطراف البلاد بسبب بعض الملوك، ولم يمكن أحد أن يعرض عليه شيئا من ذلك لسوء خلقه وشدة جبروته، فاتفقوا على خلعه وتولية الملك لأخيه الصغير (1) يعقوب بيك صاحب ديار بكر، فخلع خليل، واستولى يعقوب بيك على ملكه. وكانت مدة سلطنته ستة أشهر ونصف شهر.
واستولى على سرير الملك بعده أخوه يعقوب المذكور.
وفي سنة تسع وثمانين وثمانماية، بعث يعقوب شاه عسكرا كثيرا إلى بلاد المشعشع، فكسروه كسرا شنيعا. وكان المشعشع يعد نفسه علويا، ثم تغالى حتى قال: «انتقلت روح علي بن أبي طالب إليّ!». واستفحل أمره واستولى على بلاد ابن علان.
وفي سنة ثلاث وتسعين وثمانماية، ظهر الشيخ حيدر ابن الشيخ صفي الدين بن جنيد الأردبيلي، شيخ الصوفية، بمردته، وهجم على شروان شاه صاحب شماخى، فغلب عليه. واستنجد صاحب شماخى بيعقوب شاه المذكور، وكان بينهما علاقة الصهارة، فاستنجده على حيدر بعسكر كثير كثيف، فأوقعوا بحيدر المذكور فقتلوه، وأعادوا شروان إلى مقر ملكه (2) شماخى.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وتولية أخيه الملك الصغير».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «ملك».(2/94)
وفي سنة أربع وتسعين وثمانماية، تحيل يعقوب شاه بحيلة غريبة حتى استولى على بلاد ديار بكر، ونزعها من يد الأكراد والتركمان، وانتصر عليهم.
وفي سنة ست وتسعين وثمانماية، ماتت أم يعقوب / شاه، وكان موتها سببا لاختلاف حصل بين أهل هذا البيت، وكانت دأبها أن تجمع في كل أسبوع أهل هذا البيت بمكان أعدت (1) لهم، وتتكلم عن لسان كل ما يناسب الحال التي فيه اتصال البعض إلى البعض. وأنها لما ماتت انقطع هذا التدبير وتفرقت الكلمة، فكان سببا ووسيلة لدس السم على يعقوب شاه، بعد وفاة والدته بثمانية عشر يوما، وأخيه ميرزا يوسف بيك، وكان وفاتهم في نواحي قره باغ (2).
وكانت مدة ملك يعقوب شاه اثنتي عشرة سنة وشهرين، وخلّف ثلاثة أولاد وهم: پاي سنقر، وحسن، ومراد.
وتسلطن بعده أخوه مسيح بيك بن حسن الطويل، فوقع بين الأمراء خلاف إلى أن آل الحال إلى تولية علي بيك بن خليل بيك بن حسن الطويل، ثم لم ينتظم به الأمر أيضا، حتى أقاموا پاي سنقر بن يعقوب بن حسن الطويل في الملك، وشيد أركانه، وأقام سلطانه، وكان يومئذ پاي سنقر صبيا صغيرا دون عشر سنين.
ثم وقع بين الأمراء عدة حروب وتشاجر، بسبب أن كل جماعة منهم اختاروا أحدا من أهل بيت الملك ومالوا إليه، وقتل جماعة منهم.
ثم اتفق الأمر أن قتل پاي سنقر في بعض الحروب، بعد أن ملك سنة وثمانية أشهر.
واستقر على سرير الملك رستم ميرزا بن مقصود بن حسن الطويل. وكان رستم هذا مغرما بحب النساء مغلوبا لينا، فاستولت كل واحدة منهن على أمور المملكة وأركانها، فاختل نظام الملك، وأرسلوا إلى الروم يدعون السلطان
__________
(1) كذا وفي (ب): «أعدته» وفي (ج) «اعتدته».
(2) من بلاد أذربيجان، غالب سكانها أرمن وهي اليوم تابعة لجمهورية أذربيجان السوفياتية.(2/95)
أحمد، وكان قد هرب من عمه يعقوب شاه بعد قتل أبيه، والتجأ إلى السلطان السعيد بايزيد خان العثماني، فصاهره السلطان المذكور وزوجه ابنته، فوصل إلى بلاد العجم، وقتل رستم المذكور، بعد أن ملك خمسة أعوام ونصف عام.
واستولى مكانه السلطان أحمد بن أوغورلي (1) بن محمد بن حسن الطويل. ورام أحمد المذكور أن يجري في تلك البلاد نواب الشرع وسياسة الملك على ما شاهده في الروم، / فلم يعجب ذلك أمراء تلك البلاد المطبوعين على الظلم وإراقة الدم، فثقل عليهم ذلك واتفقوا على خلعه، فأرسلوا إلى مراد بن يعقوب شاه، فجاء وقاتل أحمد ميرزا وهزمه، ثم ظفر به فقتله، وكانت مدة ملك أحمد نحو سنة.
ثم اتفق الأمراء والعساكر وأرسلوا إلى الوند ميرزا بن يوسف بن حسن الطويل، وكان في بعض بلاد الأكراد وعدوه بالملك، فحضر واجتمع عليه الأمراء والعساكر، فقاتلوا مراد ميرزا فكسروه، واستقر مكانه في سرير تبريز.
ولما مضى من ملكه مدة سنة واحدة، خرج عليه محمد ميرزا بن يوسف بيك، وادعى الملك لنفسه، واستفحل أمره بعراق العجم، فخرج الوند لقتاله، فلم يلبث ساعة إلا انهزم إلى طرف فارس، وتمكن بالملك محمد ميرزا، فعند ذلك خرج السلطان مراد بن يعقوب شاه، وكان محبوسا، وجلس على سرير الملك، وذلك بعد أن تمكن محمد ميرزا من التخت. ثم إنه التقى مع محمد ميرزا فقاتله وهزمه، ثم ظفر به فقتله، ثم سار منها إلى ديار بكر، وانتزعها من أيدي أعمامه.
وفي سنة ثمان وتسعماية، قصد شاه إسماعيل ابن الشيخ حيدر الصوفي (2)، ببغداد، وبها السلطان مراد المذكور، وكانت قد ضعفت دولتهم جدا وقويت شوكة الإسماعيلية الأزدبيلية جدا، وكانوا قد استولوا على غالب بلادهم التي بأيديهم.
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «أزغوني».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الصوفي».(2/96)
فلم يطق مراد المقاومة، فترك بغداد وأتى إلى الروم مستغيثا مستجيرا، فلم ينل بها قبولا، ثم ذهب والتجأ إلى علاء الدولة بن ذي الغادر (1)، فأخذ منه مددا وذهب إلى بغداد واستردها واستقر على سريرها.
وكان إسماعيل مشغولا بحرب بعض الملوك، ثم قضى أربه، وهجم على مراد المذكور ببغداد وطرده عنها، واستولى عليها، واضمحل حال مراد ميرزا، ولم يعلم له خبر، وهو آخر من ملك عراق العجم من أهل هذا البيت.
__________
(1) في الأصل و (ب): «ذو القادر» وما أثبتناه من (ج) لوروده سابقا ولا حقا في النسخ الثلاث كما في (ج).(2/97)
الباب التاسع والأربعون في ذكر دولة الغادرية (1)
وهم طائفة من التركمان توطنوا في نواحي البستين (2) ومرعش، ثم كثروا واستفحل أمرهم حتى ملكوا مرعش، والبستين، وملطية، / وعينتاب، وعزاز (3)، وخربوت (4)، وبهسنى، ودرنده، وقير شهري، وقيسارية، وحصن منصور (5)، وقلعة الروم (6)، وبلاد سيس، وقارس (7)، وضمانتي، وأودية عمق، وكوند زلي، وغير ذلك. وهم يزعمون أن نسبهم ينتهي إلى كسرى أنوشروان العادل، ملك فارس، ويعرفون من بين التركمان بالشهامة والشجاعة.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «في ذكر دولة ذي الغادرية ذوي الهمم العلية (والسير) المرضية».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «البستان»، ويقال أيضا: «البلستين» وقد سبق التعريف بهذا المكان.
(3) ويقال: «أعزاز»، وهي بلدة في بلاد الشام شمالي حلب.
الدر المنتخب في تاريخ قلعة حلب: 168.
(4) يقصد «خرتبرت» أو «خرت برت»، وتسمى أيضا «حصن زياد»، بلدة بأرمينية بين آمد وملطية، وهي اليوم مدينة تركية.
ياقوت: 2/ 264.
(5) يقع غربي الفرات، قرب سميساط من أعمال ديار بكر، وهو منسوب إلى منصور بن جعونة بن الحارث العامري، من قيس، ويقال له اليوم في الغالب أديمان.
ياقوت 2/ 265البغدادي، مراصد الاطلاع 1/ 407لسترنج: 155.
(6) قلعة حصينة في غربي نهر الفرات مقابل البيرة بينها وبين سميساط، بها مقام بطرك الأرمن.
ياقوت 4/ 390.
(7) كذا وفي (ب): «وبلاد قارس».(2/99)
وأول من ظهر منهم قرجا بن ذي الغادر في نواحي البستين (1)، تأمر بين قومه.
فلما توفي، قام مقامه ابنه خليل بن قرجا بن ذي الغادر، واستفحل أمره.
وكان من شأنه أن مبارك شاه الطازي، نائب البستان، نازل خليل المذكور ليقاتله في سنة ثمانين وسبعماية، فانكسر خليل وتبعه عسكر مبارك شاه المذكور، ثم عاد عليه خليل المذكور مع طائفة من التركمان فكسروه، وظفروا به فقتلوه.
وفي سنة ثلاث وثمانين وسبعماية، جمع خليل وإخوته جموعا كثيرة، فوصلوا إلى تبريز، وخاف أهل حلب منهم، فأمر الملك الصالح (2)، صاحب مصر، لنائب حلب والشام بالمسير على التركمان. فسار العسكر من حلب إلى مرعش، ثم إلى البستان، ثم إلى ملطية، والتركمان تفرّ منهم وتتحصن بالجبال المنيعة، ثم رجع التركمان، فهزموا العسكر وشرعوا في النهب (3).
وفي سنة ثمان وثمانين وسبعماية، قتل خليل بن قرجا، وله من العمر ستون سنة، فتك به بعض أمراء التركمان في جماعة بمواطأة صاحب مصر، وأرسل رأسه إلى مصر. فعند ذلك أمر صاحب مصر نواب الشام بالتوجه إلى قتال التركمان، فوصلوا إلى طنون، ما بين مرعش والبستين، فالتقى بهم سولي بن قرجا بن ذي الغادر (4)، فكسرهم وقتل من جماعة صاحب مصر سودون العلائي نائب حماه، وكذا نائب بهسنى. فبلغ ذلك صاحب مصر فشق عليه، ولم يزل يعمل الحيلة حتى دس على سولي بن قرجا من يقتله كما قتل أخاه، فقتله رجل يقال له علي خان، ضربه بسكين في خاصرته وهو نائم، في مكان بقرب مرعش، وهرب القاتل، وذلك في سنة ثمانماية.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «البستان».
(2) يقصد السلطان الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون.
(3) قارن بما ورد في المقريزي، السلوك 3/ 2: 443.
(4) قتل عام 800هـ.
ابن حجر، الدرر الكامنة 2/ 276.(2/100)
ولما قتل، توجه ولده إلى الملك / الظاهر (1)، فقرره مكان أبيه، وكان ناصر الدين محمد بن خليل بن قرجا قد استقر في الملك عوض عمه، فوقع بينه وبين ابن عمه الذي ولّاه الملك الظاهر مقتلة عظيمة، قتل فيها خلق كثير من التركمان.
وفي سنة اثنتين وعشرين وثمانماية، فوض الملك المؤيد شيخ، صاحب مصر، نيابة قيسارية وطرابلس إلى ناصر الدين المذكور مضافا إلى نيابة البستين.
وفي هذه السنة، كسر ناصر الدين محمد بن قرمان وإبراهيم بن رمضان على قيسارية كسرا منكرا، وقتل مصطفى بن محمد بن قرمان في المعركة، وقبض على أبيه (2) محمد بن قرمان، فاعتقل وأرسل مقيدا إلى مصر مع رأس ولده (3) صحبة ابنه داود بن ناصر الدين محمد، فخلع عليه وأكرم نزله.
وفي سنة ست وأربعين وثمانماية، توفي ناصر الدين، وقرر صاحب مصر مكانه ملك أرسلان بن سليمان.
وفي سنة سبعين وثمانماية، قدم أرسلان المذكور إلى القاهرة، فقتله صاحب مصر لكونه سلم بلاد خرتبرت (4) لحسن الطويل، وعين مكانه لأخيه شاه بداق بن سليمان، واعتضد أخوه شاه سواربيك بسلطان الروم، فاستولى على البستين. ولما بلغ ذلك صاحب مصر، أرسل لقتاله جمعا كثيرا من العسكر، فهزمهم شاه سوار (5)، وأفناهم بالقتل.
وفي سنة خمس وتسعين وثمانماية، التقى شاه سوار بابن رمضان
__________
(1) يقصد السلطان الملك الظاهر برقوق بن آنص الجركسي العثماني.
(2) في الأصل و (ب): «ابنه» وما أثبتناه من (ج) والمقريزي 4/ 1: 505.
(3) في الأصل و (ب): «والده» وما هنا من (ج).
(4) في الأصل و (ب): «خربت» وفي (ج): «خربوت»، والمقصود ما أثبتناه.
(5) في الأصل و (ب): «شهسوار» وما أثبتناه من (ج) باعتبار أن الاسم قد رسم «شاه سوار» في نسخة الأصل ونسخة (ب) عند وروده للمرة الأولى كما أعلاه.(2/101)
التركماني، صاحب آذنة، فهزمه إلى قلعة أياس (1)، وشاه سوار في أثره. فلما بلغ ذلك صاحب مصر اهتم في أمره، فجهز عسكرا ضخما إلى قتاله صحبتهم شاه بداق بن ذي الغادر، فوصلوا إلى مدينة البستين، فهرب شاه سوار، فقبض عليه بالأمان، فأتى به إلى مصر في السلسلة، وأمر به صاحب مصر، فصلب حيّا مكبلا بكلاليب من حديد في لوحي أكتافه، وكان عمره دون الخمسين سنة.
وكان أديبا عاقلا ذا رأي وشجاعة، وضرب اسمه على سكة الدراهم والدنانير، ودعي له على المنابر بمدينة البستين وما والاها من الممالك.
واستمر في الإمرة شاه بداق بن سليمان إلى أن غلب عليه أخوه علاء الدولة بن سليمان. ثم لم يزل يضخم أمره حتى ملك بلادا لم يملكها آباؤه الأقدمون. / واستمر في الملك وبعد صيته، واستولى على مدينة سيس وطرسوس، ثم على مدينة آمد وسائر بلاد ديار بكر.
وفي سنة اثنتي عشرة وتسعماية، قصد صاحب أذربيجان شاه إسماعيل استرداد ديار بكر عن أيدي ذوي (2) الغادرية، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا بعض أولاد علاء الدولة وقتل بعضهم في المعركة، واستولى شاه إسماعيل على آمد وغيرها إلى أن أخذها منه السلطان سليم خان بن بايزيد خان في سنة اثنتين وعشرين وتسعماية.
ولما توجه السلطان المذكور لقتال شاه إسماعيل، وجاوز حدود البستين، أغار جماعة من عسكر الدولة صحبة بعض أولاده على أحمال ذخائر عسكر السلطان المبرور، فأخذ منه شيئا كثيرا. فلم يلتفت إليهم السلطان حتى عاد من غزو العجم، وشتى بمدينة أماسية، وعين جماعة من العسكر، صحبة سنان باشا الطواشي، إلى قتال علاء الدولة.
__________
(1) بلدة كبيرة من بلاد الأرمن على ساحل البحر الأبيض.
أبو الفدا، تقويم: 249248.
(2) الأصل: «ذو» وما هنا من (ب) و (ج).(2/102)
واقتتل الفريقان بقرب البستين، فانهزم عسكر علاء الدولة وقتل هو، وكان عمره أكثر من تسعين سنة. فعين مكانه السلطان المبرور الأمير علي بيك ابن شاه سوار بن علاء الدولة.
وفي سنة ثمان وعشرين وتسعماية، أرسل السلطان فرهاد باشا الوزير أمامه، فلما وصل بقرب مدينة توقات، أرسل إلى علي بيك يدعوه إليه ليدبر معه.
فلما وصل إليه علي بيك مع ابنه البطل الصارم صارو أرسلان وعدة أولاد له، قبض عليهم وأمر بخنقهم، فخنقوا، ولم يبق منهم أحد، ودخلت بلادهم جميعا تحت تصرف الملوك العثمانية. فسبحان من لا يزول ملكه، وكل شيء هالك إلا وجهه.(2/103)
الباب الخمسون في ذكر الدولة الرمضانية (1)
وهم من طائفة التركمان الذين تغلبوا على بعض بلاد الروم.
وأول من ظهر منهم واشتهر واستفحل أمره أحمد بن رمضان.
وكان له من البلاد آذنة، وسيس وأياس وتوابعها. ولي الإمارة من قبل الثمانين وسبعماية، واستمر يشاقق العساكر الشامية تارة ويصالحونه أخرى.
وفي سنة ثمانين وسبعماية، سار تمربيك، نائب / حلب، بعساكر ضخمة على بلاد آذنة، فنهب أموالهم وسبى نساءهم، فانتهكت محارمهم. فلما رجعوا أخذت التركمان عليهم مضيقا من طرف البحر (2)، فقتلوا منهم غالب العسكر، فلم ينج منهم إلا الشارد النادر، وأسروا تمر بيك، نائب حلب، وملكوا سيس، واستعدوا لقتال أهل حلب ونهبها (3).
وفي سنة خمس وثمانين وسبعماية، تجمع عسكر الشام وحلب صحبة الأمير يلبغا (4)، فساروا إلى جهة التركمان، فتواقعوا عند الجسر على الفرات، فانكسر التركمان، وأسر أخو أحمد بن رمضان وابنه وأمه، فقتلهم يلبغا الناصري.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «في ذكر الدولة الرمضانية ذوي المحاسن السنية».
(2) يقال له: «باب الملك».
المقريزي 1/ 3: 348.
(3) راجع تفاصيل هذه الحادثة في المصدر نفسه.
(4) يقصد الأمير يلبغا الناصري نائب حلب.
المصدر نفسه 3/ 2: 489.(2/105)
ثم تجمع التركمان وواقعوا يلبغا عند آذنة فكسروه، وقلعت عين [يلبغا] الناصري وجرح (1).
ولما كانت الفتنة الكبرى في حدود الثمانماية، رجع تيمور إلى العراق واستقرت قدم أحمد في الإمرة ولم يزل في ذلك إلى أن مات في أواخر سنة تسع عشرة وثمانماية، وكان شجاعا مهابا.
ثم اختلف أولاده بعده، حتى استقر في الإمرة داود بيك بن رمضان، فاستمر إلى أن توفي.
ثم قام مكانه بعده ولده محمود بيك، فمات.
واستقر بعده أخوه (2) خليل بيك بن داود، وكان شهما، شجاعا، عاقلا، وقورا، صاحب خيرات ومبرّات. بنى في مدينة آذنة جامعا كبيرا، للمحاسن جامعا وهو من نوادر الدنيا حسنا وإتقانا.
ثم توفي في حدود سنة ست عشرة وتسعماية، ففوّض السلطان سليمان خان إمرة ولاية آذنة وسيس وتوابعهما إلى ولده النجيب بيري بيك (3). ثم ولاه السلطان المبرور نيابة حلب، ثم الشام، ثم رده إلى مكان أبيه وجده بطلبه. ولم يزل بها إلى أن مات في حدود سنة سبعين وتسعماية.
وكان على جانب عظيم من الصلاح، وكان كثير الخيرات والمبرات، وقد بنى بمدينة آذنة جامعا حسنا وعمارة لطيفة يفرق منها الطعام للفقراء وأبناء السبيل.
وبنى بها حماما وخانا وسوقا، وخلف ولدين، درويش بيك. وإبراهيم بيك. ثم توفي درويش بيك بعد أبيه بستة أشهر تقريبا.
وفوض السلطان الإمرة لأخيه (4) إبراهيم بيك مكان أبيه، ثم توفي.
__________
(1) قارن بالمصدر نفسه.
(2) في الأصل و (ب): «ولده» وما أثبتناه من (ج).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «سري بيك».
(4) في الأصل: «إلى أخيه» وما أثبتناه من (ب) و (ج).(2/106)
وتولى مكانه ولده محمد بيك بن إبراهيم. /
فأما قباد باشا، فهو أخو بيري بيك (1)، المقدم ذكره، تولى إمرة طرابزون أولا، ثم ولّي أمير الأمراء بحلب في حدود سنة ست وستين وتسعماية. ثم تولى مدينة وآن فتوفي بها، وخلّف ولدا اسمه سليمان ولاه السلطان إمرة الكرك والشوبك. ثم انتقل إلى إمرة نابلس، ثم إلى بيت المقدس وفعل فعلته التي فعل، ثم ولي أمير الأمراء بمدينة بغداد.
وكان سفاكا فتاكا لا يصبر عن قتل النفس، عامله الله بلطفه (2). وتولى نيابة مدينة دمشق مدة شهرين فعزل، قيل قتله عبيده، وهو نائم على فراشه بداره التي أنشأها بدمشق في محلة عيسى القاري.
__________
(1) في الأصل و (ب): «بيري باشا»، وما أثبتناه من (ج).
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «بما يستحق».(2/107)
الباب الحادي والخمسون في ذكر الدولة الدّربندية ملوك شروان (1)
وأول من ملك من هذه الطائفة الشيخ إبراهيم الدربندي، ونسبه على ما قيل يتصل بالملك كسرى أنو شروان.
وكان لهم الملك في تلك البلاد إلى أن أتى الله بالإسلام.
وكان الشيخ إبراهيم المذكور وأبوه وعشائره من أهل الفلاحة يسكنون في قرية من قرى شروان، فاتفق أن تعصب أهل المملكة على من يسوسهم، فاجتمعت كلمتهم على تقليد الملك الشيخ إبراهيم المذكور، فساروا إليه بالمطايا السلطانية والركائب الملوكانية (2)، فوجدوه وقد حرث وتعب، ونام في طرف الحرث، فنصبوا عليه الخركاه ووقفوا له من بعد (3) كهيئة الملوك وحرمته، ولم ينبهوه. فلما تنبه (4) سلموا عليه وبايعوه بالملك وجاءوا به إلى المدينة، وأجلسوه على سرير الملك، وجعل يفتح البلاد / ويعدل بين العباد، ويؤلف القلوب ويحسن إلى الناس، حتى عظم ملكه، وانتشر في الآفاق ذكره، وهو من جملة الملوك الذين تحمد سيرتهم.
وفي سنة سبع وتسعين وسبعماية، قصد تيمور المسير إلى دشت قبجاق وجعل طريقه إلى بلاد الشيخ إبراهيم المذكور، فاستشار الشيخ إبراهيم قومه في
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «في ذكر دولة (دولت) الدربندية ملوك شروان الباسقة الأغصان المشرقة اللمعان».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الملوكية».
(3) كذا وفي (ب) و (ج): «من بعيد».
(4) كذا وفي (ب) و (ج): «انتبه».(2/109)
أمر تيمور وما يفعله، قالوا: «نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك!». فقال:
«لا أجعل عسكري عرضة للسيف، ولا أترك رعيتي تحت سنابك الخيل، لا غرمت أن أقاتل (1)، ولكني أتوجه إليه بنفسي وأقتل (2) بين يديه سامعا مطيعا، فإن ردّني إلى مكاني فهو غاية الأمان، وإن قتلني فقد سلمت (3) رعيتي من القتل والخسار والنهب والأسار!». ثم أمر بالإقامات (4) فجمعت، وأذن للجيوش فتفرقت، وأمر بإقامة الخطبة باسم تيمور وبضرب السكة باسمه، ثم حمل التقادم وورد عليه وتمثّل بين يديه. وكان من عادة الجغتاي في تقديم الخدم أن يقدموا من كل جنس تسعة، فقدم الشيخ إبراهيم المذكور من كل جنس من أصناف ما قدم، من الهدايا والتحف وأنواع الغرايب والظرف تسعة، ومن المماليك ثمانية، فقال له المتسلمون لذلك: «وأين التاسع من المماليك؟». فقال: «التاسع نفسي الفانية!».
فلما بلغ تيمور هذا الكلام، أعجبه وحل من قلبه بمكان ومقام، وقال له:
«أنت ولدي وخليفتي في هذه البلاد ومعتمدي!». وخلع عليه خلع الملوك ورده إلى بلاده مستبشرا ببلوغ الأمنية.
وفي سنة احدى وعشرين وثمانماية، مات صاحب شروان الشيخ إبراهيم المذكور، وتولى مكانه ولده الجليل أولو سلطان خليل ابن الشيخ إبراهيم، فقصده قره يوسف التركماني بستة آلاف فارس، فسار إلى شماخى، فواقعه بعسكر شروان، فهزمه وقتل من عسكره أناسا كثيرة، ومكث السلطان خليل في الملك مدة متطاولة، مع ما له من الخير والعدل والنصر، حتى توفي.
وتولى مكانه ولده النجيب شروان شاه بن خليل بن الشيخ إبراهيم.
وفي أيامه ظهر الشيخ حيدر الصوفي الأردبيلي، صاحب عراق العجم /
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «لا أجعل عسكري عرضة للسيف، ولا أترك رعيتي تحت سنابك الخيل، ولا يكون ذلك، ولا أقاتل».
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «أتمثل».
(3) الأصل: «سلم» وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «التقادمات».(2/110)
واستفحل أمره، وجعل يركب في عشرة آلاف مقاتل، فملك بعض البلاد. ثم ظهر في سنة ثلاث وتسعين وثمانماية، وحاصر بلاد شروان، فاستنجد عليه صاحب شروان من صاحب العراق السلطان يعقوب بن حسن الطويل، فأنجده بجيش كثيف، فسار إلى قتال حيدر المذكور، فقاتله وهزمه وظفر به فقتله، وقتل عدة أولاد له. وكان شاه إسماعيل بن حيدر مع أبيه في الوجبة، فكان ممسوكا، فهمّ شروان شاه بقتله أيضا، فشفع فيه بعض أمرائه، وقال: «أيها الملك، استبقه فإنه منا، لأن أمه كانت بنت حسن بيك الطويل!». فعفى عنه شروان شاه، وطرده عن حوزة ملكه ونفاه.
فلما تخلص شاه إسماعيل من هذه الوقعة، تغرّب بوادي الحيرة. ثم سار إلى بلاد لاهجان وتعلم فيها الرفض. ثم سار منها إلى أذربيجان وهو دائما يدعو الخلق إليه، فاجتمع عليه من أسافل الناس وأشرارهم خلق كثير، فسار بهم في سنة ست وتسعماية إلى طرف شروان ليأخذ بثأر أبيه حيدر، فخرج إليه شروان شاه فقاتله فانهزم، فظفر به شاه إسماعيل فقتله واستولى على بلاد شروان، ودخلها وجلس على سريرها، ثم تركها بعد أن مكث مدة شهر.
ثم استولى الملك غازي بيك بن شروان شاه بن خليل بيك. فلما مضى من ملكه ستة أشهر، بغى عليه ولده السلطان محمود بن غازي فقتله، واستولى على ملك أبيه. وكان ظالما غشوما فاسقا، وامتنع الناس عن طاعته، وأرسلوا إلى أخيه، صاحب كيلان، شيخ شاه بن غازي.
فلما أحسّ السلطان محمود بقدوم شيخ شاه انهزم إلى شاه إسماعيل، صاحب أذربيجان، فوصل شيخ شاه ورأى التخت خاليا فجلس عليه، واستقر وأحسن السيرة، وعدل بين الرعية.
وبعد أن مضى على ذلك مدة، رجع السلطان محمود من بلاد العجم ومعه جماعة من العسكر، فحاصر أخاه شيخ شاه بقلعة كلستان أكثر من ثلاثة أشهر.
فاتفق أن مملوكا من مماليك السلطان محمود ذبح مخدومه على فراشه تحت
الليل، وبعث برأسه إلى أخيه شيخ شاه، فسر به الشيخ شاه، / وأمر بالطبول فضربت وبالأعلام فنشرت.(2/111)
فاتفق أن مملوكا من مماليك السلطان محمود ذبح مخدومه على فراشه تحت
الليل، وبعث برأسه إلى أخيه شيخ شاه، فسر به الشيخ شاه، / وأمر بالطبول فضربت وبالأعلام فنشرت.
ولما أصبحوا فتحوا باب القلعة، وهجموا على الذين أتوا مددا، فجعلوهم حصيدا أو طريدا أو شريدا (1)، ولم يتركوا منهم أحدا أبدا.
واستمر شيخ شاه في الملك إلى أن توفي في حدود سنة خمس وعشرين وتسعماية.
وكان ملكا دينا، منصفا، حسن السيرة، محبا للعلوم، والعلماء، والمشايخ. وخلف سبعة أولاد ذكور.
تسلطن منهم بعده ولده خليل بادشاه، ودام في الملك نحو عشرين سنة، ولم يخلف من الأولاد من يصلح للملك.
فسلطنوا بعده ابن أخيه شاهرخ (2) بن فرح ميرزا ابن الشيخ شاه بن شروان بن خليل بن شيخ إبراهيم، وكان سنه خمس عشرة سنة، وكان قد ضعفت في زمانه شوكة الدربندية جدا، وقويت دولة بني حيدر الصوفي.
وفي سنة خمس عشرة وتسعماية، بعث شاه طهماسب بن إسماعيل بن حيدر الصوفي أخاه القاسب ميرزا إلى فتح شروان، فانتزعها من يد شاهرخ بادشاه، فحاصر القاسب مدينة شماخى مدة سبعة أشهر، ولم ينل منها بطايل.
فلما طال أمر الحصار، نهض طهماسب بنفسه بجيش كثيف، وأرسل إلى صاحبها بالأمان، وبذل الإيمان ووعده بالإقطاعات والمواهب الجزيلة، وكانت كاذبة.
فاغتر بظاهر ذلك شاهرخ، فخرج طايعا، ولما وعده طامعا، فلم ير منه إلا خلاف ما وقع عليه الشرط (3). ثم أمر بمن في القلعة من كبار القوم، فقتل غالبهم، وعين طهماسب لأخيه القاسب إمرة شروان، ورجع هو إلى تبريز، واستصحب معه
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «وطريدا وشريدا».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «شاه رخ».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «إلّا خلاف ما وعد وشرط».(2/112)
صاحب شروان شاهرخ. وكان يهينه ويوقفه بين يديه كالعبد، واستخدمه في نعله ثم غدر به فقتله. ثم إن برهان [الدين] (1) علي سلطان، وهو من أعمام شاهرخ، جمع جيشا كثيرا، فسار إلى شروان لقتال القاسب ميرزا، فقاتله مرارا فلم يظفر به، وأتى إلى الروم يستمد من سلطانها المرحوم سليم خان، فأكرم نزله وقوّاه ببعض العسكر، فسار بهم إلى أن وصل إلى حدود شروان، فرأى أن العدو قد تقوّى وتمكن من البلاد، وأكثر من العدد، فانحاز إلى طرف داغستان، ومكث بها نحو ثلاثة أعوام.
فلما سار الملك الغازي السلطان سليمان خان، / في سنة خمس وخمسين وتسعماية، لقتال طهماسب المذكور، انتقل طهماسب إلى أقصى بلاده، فوجد برهان [الدّين] (2) غنيمة في الفرصة، فنزل عن مكانه واستولى على بلاد شروان وانتزعها من أيدي نواب طهماسب. فبقي واليا بها مدة سنتين ثم توفي، ولم يترك من يصلح للملك، فرجعت أولاده وعياله إلى طرف بلاد داغستان خوفا من الشاهية، واسترد طهماسب جميع بلاد شروان.
وخلّف برهان [الدين] (3) المذكور ولدين، أحدهما خلف ميرزا توفي صغيرا، والآخر أبو بكر ميرزا، وهو الآن حي في الجبل، وكانت مدة تمكنه أكثر من عشرين سنة. ثم إنه اتصل إلى حاكم التتار (4)، دولت كراي خان، وتزوج ابنته، وأرسل يشفع فيه، فقبل السلطان سليمان خان سؤاله، وعين له كل يوم وظيفة جليلة، ولم يزل في عزة مع صاحب الدشت حتى سار معه إلى فتح شروان، وتولى هناك الإمرة حين افتتح البلاد الشروانية الوزير الأعظم مصطفى باشا، وهو الآن هناك، والله أعلم.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) في الأصل و (ج): «التاتار» وما أثبتناه من (ب).(2/113)
الباب الثاني والخمسون في ذكر ملوك العجم من آل حيدر الصوفي الأردبيلي الاسماعيلي
وأول من قام من هذه الطائفة وجمع العسكر الشيخ جنيد ابن الشيخ إبراهيم ابن خواجه علي ابن الشيخ صدر الدين ابن الشيخ صفي الدين بن جبريل.
قيل كان جنيد هذا من العلوية الحسينية الإسماعيلية، والله أعلم بصحته، وإنه جمع طائفة من محبيه ومحبي آبائه، فغزا الكرج وقاتلهم، وغنم منهم شيئا كثيرا. ثم إن ابنه الشيخ حيدر بن جنيد سلك مسلك أبيه في جمع العسكر ومباشرة الغزاة، واجتمع عنده من العسكر نحو ستة آلاف أو أكثر، فغزا الكرج واتخذ التاج من الجوخ الأحمر باثنتي عشرة رقعة وسمي بتاج الحيدرية.
ثم هجم على صاحب شروان ووقع بينهما حروب، وانجلت عن انهزام الشيخ حيدر المذكور وقتله هو وأولاده، سوى ولديه إسماعيل ويارعلي، فسارا إلى طرف لاهجان، فاجتمع عليهما من مردة أبيهما.
فلما بلغ ذلك يعقوب بيك، صاحب تبريز، قبض عليهما وحبسهما في قلعة اصطخر (1)، فكانا بها / مدة حياة يعقوب بيك. فلما توفي يعقوب بيك، واستولى على ملكه رستم ميرزا، عفا عنهما، وأطلقهما وقال لهما: «اذهبا، فلازما قبر أبيكما، وكونا كأنكما من زمرة الفقراء!». فلم يزالا كذلك مدة حياة رستم ميرزا.
فلما توفي رستم ميرزا، تولى مكانه أحمد بيك بن أوغورلي، وخافا من صولته
__________
(1) من أقدم مدن فارس بينها وبين شيراز اثنا عشر فرسخا.
أبو الفدا، تقويم: 329328.(2/115)
وشدة بأسه، فهربا إلى كيلان، والتجيا إلى ملكه الشريف حسن خان. فلما سمع أحمد بيك بفرارهما والتجائهما إلى صاحب كيلان، أرسل يطلبهما منه، فأنكر صاحب كيلان كونهما عنده، فعيّن جماعة من العلماء والأعيان ليستحلفوه بالكلام المنزل أنهما ليسا في أرضه.
فلما تحقق ذلك، سلك صاحب كيلان مسلك الحيلة، واصطنع عريشا من الأخشاب في محل خفيّ، ثم أمر ابني الشيخ حيدر فصعدا عليه. ولما قدم الذين بعثهم أحمد ميرزا باستحلاف صاحب كيلان بادر بالحلف، فحلف بالله العظيم والكلام المنزل القديم أنهما ليسا في أرضه.
ثم استمر إسماعيل وأخوه يار علي عند صاحب كيلان حتى قتل أحمد بيك، وتولى مكانه الوند ميرزا، فخرج عند ذلك شاه إسماعيل وأتى إلى لاهجان (1)، وكان بها شيعة من أحباء والده فهيجوه وشيعوه، وعلموه الرفض ووعدوه بالنصر، وقالوا: «الآن نحن قليل مستضعفون، ولأبيك أحباء في بعض بلاد الروم، وعرفوه مكانهم، فارحل إليهم واتفق معهم فإن أطاعوك وتجمعوا عندك فات بهم إلينا، فترى منّا ما يسرك، ويشرح به صدرك!». فسار شاه إسماعيل إلى الروم، واستصحب بعضا من الخلق معه، وعاد إلى لاهجان.
وفي أواسط محرم سنة خمس وتسعماية، توجه شاه إسماعيل من لاهجان بطائفة من العسكر، فقصد بلاد أذربيجان وغلب على صاحبها الوند ميرزا بن يوسف بن حسن الطويل، وقتل عدة ملوك منهم، وهم أخواله، حتى استولى على بلاد أذربيجان وسمي بالشاه، وخطب له على منابرها، وهو أول من تجبر وطغى من هذه الطايفة.
وفي سنة ست وتسعماية، قصد صاحب / شروان وقتله، واستولى على بلاده. ثم سار إلى ديار بكر، فقاتل صاحبها واستولى على غالب بلاده، وتوجه
__________
(1) بلدة من بلاد الديلم مشهورة بصناعة الحرير.
أبو الفدا، تقويم: 429428.(2/116)
إلى العراق واسترد بغداد واستولى على جميع العراق، وعدّى على صاحب خراسان وما وراء النهر يشبك خان بن أوزبك خان، فكسره وقتله وجعل جمجمة رأسه مثل القدح، فكان يشرب منه الخمر مدة حياته، وتيسر له فتح بلاد خراسان.
وفي سنة عشرين وتسعماية، وقع بينه وبين المرحوم السلطان سليم خان قتال شديد، كما مر آنفا. وتوفي في سنة ثلاثين وتسعماية، وكان عمره إلى يوم وفاته ثمانيا وثلاثين سنة وأربعة أشهر، ومدة ملكه أربع وعشرون سنة. وكان مقداما هجاما، شجيعا باسلا، وكان مشغولا باللعب والملاهي، وترك عدة أولاد.
وتولى الملك أكبرهم شاه طهماسب، وكان فيه من الرأي وحسن التدبير والحزم ما لا مزيد عليه. وكان مشفقا (1) على الرعية، راعيا لأحوال المملكة (2)، وقد وقع بينه وبين سلطان الروم وقهرمان القروم السلطان سليمان خان، عليه الرحمة والرضوان، وقايع آل ذلك إلى انهزامه، وأخذ غالب بلاده. ووقع بينه وبين أوزبك خان وقايع وحروب يطول شرحها حتى توفي في سابع صفر سنة أربع وثمانين وتسعماية مسموما، سمته زوجته أم حيدر في النورة.
وكان متحرزا في مأكله ومشربه من هذه الجهة، فاتفق أن دخل الحمام فتنور، فجعلوا السم في النورة فتقطعت مذاكيره، فدعا ابنه حيدرا فقال: «لم فعلت بي هذا يا حيدر، ولم عجّلت عليّ، هب أنك ملكت ووصلت إلى ما رمت، فهل تتمتع بعدي؟!».
فلما مات، أخذت بنته بيري خان خاتم أخيها حيدر، فقالت: «يا أخي، ادخل إلى الخزانة وانظر إلى ما فيها، فإن الملك لا يتم إلا بالمال!». وكانت دست فيها رجالا مسلحين، فهجموا عليه فقتلوه، وأخرجت جنازته مع جنازة أبيه طهماسب. وكانت مدة ملك طهماسب المذكور أربعا / وخمسين سنة.
ثم ركبت بيري خان، وسارت إلى أخيها إسماعيل، وكان محبوسا في قلعة
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «شفوقا».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «الممالك».(2/117)
ألموت (1)، مدة حياة أبيه، وهي خمس وعشرون سنة، وكانت هي وإسماعيل من أب واحد وأم واحدة، فعمدت إليه فأخرجته وفوضت الأمر إليه جميعا. ثم إن إسماعيل قتلها ولم يمهلها.
وكان إسماعيل المذكور شيعيا ثم صار سنيا. وسببه أن ذات يوم ضاق صدره وهو محبوس فأراد أن يقتل نفسه، فغلب عليه النوم، فرأى النبي صلى الله عليه وسلّم ومعه أصحابه الأربعة، رضوان الله عليهم أجمعين، فأقبل نحو علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ليظهر له المحبة، فأعرض عنه الإمام ولم يلتفت إليه، فسأله عن سبب إعراضه، فقال له الإمام: «لبغضك لأبي بكر!». فأقبل نحو الصدّيق واعتذر عنده وقبّل رجليه وتاب ورجع عن بغضه إياه. فبشره الصدّيق بالفرج من هذا الضيق بعد سنتين، وعيّن له في شهر كذا ويوم كذا، وأخبره بأن يأتيه رجل يخبره بموت أخيه ويدعوه إلى الملك، وأوصاه بأن لا يجتمع بذلك الرجل ولا يلتفت إلى كلامه، ثم بعد ذلك يأتيه رجل آخر في ذلك اليوم، بعد الظهر، فيجتمع بذلك الرجل ويصدق كلامه، ويتوجه معه.
فلما توفي والده، وتولى الملك حيدر، أرسل من يقتله. فلما قتل حيدر في تلك الساعة، أرسلت إليه أخته فصدق كلامها، وخرج واستولى على سرير الملك، ورجع عن اعتقاده، وصار من أهل السنة والجماعة وقتل غالب الروافض.
وكان متجبرا، متعاظما إلى الغاية، فتحجب عن الخلق على خلاف قاعدة أسلافه، وفوّض الأمر إلى وكيله، وهو الوزير الأعظم عندهم، فكل من له حاجة يعرضها إلى الوكيل فيرفعه الوكيل إليه.
وكان يرجى منه حالات كثيرة من الشجاعة والشهامة، وكان يخاف منه أهل البلاد. فلما تولى الملك، صار أجبن الخلق وعجز عن ضبط المملكة. وكان أخوه
__________
(1) من قلاع الإسماعيلية الحصينة، وكرسي ملكهم ببلاد الجبال إلى الشمال الغربي لبحر قزوين.
لسترنج: 256255.(2/118)
محمد خدابنده بخراسان ما أطاعه، وكذلك أكثر القبائل هناك، وكان عمره جاوز خمسين سنة.
وتوفي في ثالث عشر رمضان، سنة / خمس وثمانين وتسعماية مسموما، لأنه كان يتعاطى أكل الترياق ويبالغ فيه، فسموه في الترياق فمات، وقيل هجم عليه خواص ملكه في صورة النساء فقتلوه، لأنه كان متغضبا على عسكر أبيه، حيث يزعم أنهم صاروا سببا لحبسه، فشرع في قتلهم حتى بلغ من قتل ثلاثين ألفا.
وكان يقول: إذا تجدد رأس الخيمة ينبغي أن تجدد الأطناب أيضا، فأبغضوه وملوا منه (1).
ثم تولى الملك بعده أخوه الكبير، صاحب خراسان، محمد خدابنده بن طهماسب، فلما بلغه موت أخيه قدم من خراسان إلى قزوين، واستقر على سرير الملك.
وكان يرجى منه الخير والعدل، ثم ظهر منه ما يخالف ذلك، وطغى وتجبر عن قبول الهدنة بينه وبين السلطان مراد خان، أيده الله تعالى. واستمر على قاعدة أخيه من الخلاف ووقوع النزاع والقتال بين الفئتين، وآل ذلك إلى دخول وهجوم عساكر الروم إلى بلاد العجم، وعاثوا فيها نهبا وتخريبا وسبيا وقتلا، كما مر آنفا، وانجلى الأمر عن استيلائهم على غالب بلاد العجم، والآن وقع الصلح بينهما ولله الحمد.
وكان محمد خدابنده هذا أعمى لا يبصر شيئا، ولذلك أخره أخوه شاه إسماعيل عن القتل مع أنه قتل جميع من يصلح للسلطنة من أولاد طهماسب، فاقتضت الحكمة الربانية أنه تسلطن سنين عديدة.
وتولى الملك بعده [شاه] (2) عباس بن خدابنده، وهو اليوم صاحب بلاد العجم. /
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «فبغضوه وملوه».
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/119)
الباب الثالث والخمسون في ذكر دولة الأوزبكية واليشبكية ملوك ما وراء النهر وخراسان (1)
[وأول من قام من هذه الطائفة] (2) فهو أوزبك بن طقطاي القان بن القان (3)، صاحب بلاد أوزبك. ومملكته من بحر القسطنطينية إلى نهر أرس مسافة ثمانماية فرسخ، وعرضها من باب الأبواب (4) إلى مدينة بلغار نحو ستماية فرسخ، ولكن أكثر ذلك مراعي وقرى، ولها في أيديهم ما ينيف على الماية سنة.
وكان أوزبك خان ذا بأس شديد وعبادة في المحراب. ولما أسلم وحسن إسلامه أسلم غالب رعيته، ولم يلبس سراقوجا (5)، ولا شيئا من شعارهم ولا رغب في درهمهم ولا في دينارهم. وكان يستعمل حياصة من فولاذ من غير ذهب، وكان يؤثر الفقراء ويحبهم ويتردد إلى بعض مشايخ الصوفية.
وكان السلطان الملك الناصر (6) قد خطب ابنته أو اخته، فأجابه إلى ذلك
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «في ذكر دولة الأزبكية والدوحة اليشبكية».
(2) ما بين الحاصرتين يقتضيه السياق.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «القاآن بن القاآن».
(4) وباب الأبواب هي التسمية العربية لدربند أهم موانىء بحر قزوين في أقصى شمالي بلاد شروان من اقليم كيلان.
لسترنج: 215214.
(5) قلنسوة في شكل مخروطي طويل بحافة مقلوبة إلى أعلى.
ماير، الملابس المملوكية: 56.
(6) يقصد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون.(2/121)
وجهزها في البحر إلى الإسكندرية، وتوجه القاضي كريم الدين (1) إلى لقائها إلى الإسكندرية، وعمل لها ضيافة في الميدان تحت القلعة، وبعد ذلك طلعت إلى القلعة وجرى من أمرها ما جرى (2).
ولم يزل القان أوزبك على حاله إلى أن خانته أم دفر، وامتلأ فمه وعينه من العفر. وكانت وفاته سنة اثنتين وأربعين وسبعماية، / ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة، هذا ما وصل إلينا من أخباره.
وأما يشبك خان بن برق خان بن أبي الخير، فينتهي نسبه إلى أوزبك خان بن طقطاي بن طغر لجه بن تقوقان بن بابوي بن چوچي بن چنكزخان.
وكان بدو حاله في بلاد تركستان، ثم وصل إلى خدمة السلطان أحمد ميرزا ابن السلطان أبي سعيد، حاكم ما وراء النهر، فوقع بينهما منافرة آلت إلى مفارقته، فرجع إلى تركستان، وجمع العساكر وهجم على السلطان أحمد ميرزا المذكور، وأخذ بعض بلاده.
ولما مات السلطان حسين ميرزا، حاكم خراسان، ووقع المخالفة بين أولاده، هجم عليهم واستولى على بلاد خراسان.
وفي سنة ست وتسعماية، جمع الجموع الشاه إسماعيل، وحاربه عند مدينة
__________
(1) يقصد عبد الكريم بن هبة الله بن السديد المصري، القاضي كريم الدين، أبو الفضائل، وكيل السلطان الناصر محمد بن قلاوون وناظر خاصه ومدبر دولته، وهو نصراني الأصل أسلم في شيخوخته أيام سلطنة بيبرس الجاشنكير. مات بأسوان في 23شوال سنة 724هـ / 13تشرين الأول 1324م.
ابن الدواداري، كنز الدرر 9/ 310، 315ابن الوردي 2/ 392391، 394الصفدي، أعيان العصر 3/ 111ظ 116و.
(2) عن قصة زواج السلطان الناصر محمد بن قلاوون بابنة أوزبك وطلاقها منه وانعكاسات ذلك على العلاقات بين السلطان وأوزبك خان.
راجع: اليوسفي، نزهة الناظر: 212، 236235.(2/122)
مرو، فقتل يشبك المذكور، وجعل جمجمة رأسه مثل القدح، فكان يشرب فيه الخمر مدة حياته.
وكان يشبك نقاشا ماهرا، وكان حسن الخط. ولما قتل يشبك خان هجم عبيد الله خان ابن السلطان محمود ابن أخي يشبك خان المذكور، وتحارب مع الشاه إسماعيل وانتصف منه، (1) / [وهذا ما انتهى إلينا من أخبارهم] (2).
__________
(1) الصفحة 287 (أ) ساقطة في الأصل.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/123)
/ الباب الرابع والخمسون في ذكر السلاطين المتقدمين والأساطين المقدمين وفيه عدة فصول(2/125)
الفصل الأول في ذكر ملوك الفرس الأولى والثانية وسيرهم المتوافقة والمتباينة
اتفق المحققون من أصحاب التواريخ أن أول ملوك الفرس أربع طبقات:
الأولى الفيشدادية، والثانية الكيانية، والثالثة الاشغانية، والرابعة الساسانية، وهم الأكاسرة، وكانت قاعدة ملكهم المداين بالعراق، ومدة ملكهم أربعة آلاف وماية واحدى وثمانون سنة وشهور، وهؤلاء من نسل كيومرث. أولهم كيومرث وآخرهم يزدجرد المقتول في زمن عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
الطبقة الأولى: الفيشدادية
لكل واحد منهم يقال فيشداد، ومعناه أول سيرة العدل، وهذه الطبقة قديمة.
وقد نقل أن سلاطين الدنيا صنفان: الصنف الأول قبل نبينا، والصنف الثاني بعد ظهور الإسلام.
وفي «سير الملوك» للغزالي، رحمه الله، أن آدم عليه السلام، لما كثرت أولاده وبلغ حدهم أربعين ألفا، اختار من جميعهم اثنين، أحدهما شيث، عليه السلام، والآخر كيومرث، فولى شيث لحفظ أمور الدين والآخرة وجعله ولي عهده، وأعطاه أربعين صحيفة، وولى كيومرث لحفظ أمور نظام الدنيا والسياسة وتعمير العالم. وكانت مدة ملك كيومرث مايتي سنة وثلاثا وعشرين سنة وعمره ألف سنة، وكان في عهد آدم عليه السلام. ولما مات بقيت الدنيا بغير ملك زمانا طويلا، وقد نقل عنه أشياء يأباها العقل.(2/127)
واختلفوا في مدة ملك الفيشدادية وحروبهم، فأوردنا منها ما يقرب إلى الذهن صحته، وهم تسعة أنفار أولهم:
هوشنج تولى الملك بعد وفاة كيومرث في عهد آدم، عليه السلام، وهو أول من رتب الملك ونظم الأعمال ووضع الخراج، وكان ملكه أربعين سنة، وهو الذي بنى (1) بابل والسوس. وكان فاضلا محمود السيرة والسياسة / ونزل الهند، وتنقل في البلاد وعقد على رأسه التاج، وجلس على سرير الملك، كذا ذكره صاحب «المختصر في أخبار البشر».
وفي «نظام التواريخ» أن أول الملوك كيومرث، وهو الذي ابتنى مدينة اصطخر ومدينة دماوند (2)، وهو أول من بنى وسكن الدور، وكانوا قبل ذلك يسكنون الكهوف والمغاير. وكان ملكه قريبا من مايتين وأربعين سنة، وعمره ألف سنة، كما مر، وأوصى هوشنج بالملك لابنه طهمورث (3)، وهو سبط هوشنج ملك الأقاليم السبعة، وسلك سيرة جده. وهو أول من أمر بالصوم، وسبب ذلك أنه ظهر الغلاء والقحط في زمانه، فأمر الأغنياء بطعام واحد بعد غروب الشمس، وبإمساكهم في النهار شفقة للفقراء، وإيثارا عليهم بطعام. وهو أول من كتب بالفارسية، وكان مطيعا لأوامر الله تعالى، وكانت مدة ملكه نحو أربعين سنة. ثم هلك وملك بعده الملك جمشيد، معناه شعاع الشمس، سمي بذلك لوضأة وجهه، وهو أخو طهمورث لأبويه، وملك جمشيد أيضا الأقاليم السبعة، وسلك السيرة الصالحة المتقدمة، وزاد عليها. وهو أول من استخرج الحرير من ديدانه، تعلّمه من الجن، وكانوا مسخرين له، كذا في «زبدة التواريخ». ورتب الناس على طبقات كالحجاب والكتاب، وأحدث النيروز وجعله عيدا يتنعم الناس فيه.
__________
(1) في النسخ الثلاث: «بنا».
(2) تعرف بيشيان أيضا، وهي بلدة صغيرة تقوم على القلل الجنوبية لجبل دماوند الذي يهيمن على أنحاء بلاد طبرستان.
لسترنج: 411.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «وملك بعده طهمورث.(2/128)
ثم بعد ذلك بدّل سيرته الصالحة بأن أظهر التكبر والجبروت على وزرائه وقواده، وآثر اللذات وترك كثيرا من السياسات التي كان يتولاها بنفسه، وعلّم بيوراسب، وكان من جملة عماله باستيحاش الناس من جمشيد، وتنكر خواصه عليه، فقصده بعد أن كثرت أتباعه وقويت شوكته، وهرب جمشيد وتبعه بيوراسب حتى ظفر به، فقتله بأن وضعه بين دفتين ونشره بمنشار.
ثم ملك بيوراسب الضحاك، وكان يقال له الدهاك، ومعناه عشر آفات، فلما عرّب / قيل الضحاك، وملك الأرض كلها وسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل وسن الأعشار والمكوس، واتخذ المغنين والملهين، ويقال إنه هو النمرود، لعنه الله.
وكان أول من سن الصلب والقطع. وكان على منكبيه سلعتان، ويدّعي أنهما حيتان تضطربان إذا جاعتا، فلا تسكنان حتى تطعما بدماغ إنسان، وكان يذبح لهما، كل يوم، رجلين من الذين كانوا يستحقون القتل. فلما تم من كان في سجنه، أمر بأن يجمع من العامة من كان مجرما وغير مجرم، وكانوا يقرعون القرعة على أهل الأمصار والقرى، فمن وقع عليه أخذوه. فلم تزل الناس في هذا البلاء نحوا من خمسماية سنة، حتى أراد الله إهلاكه.
وكان لرجل حداد من أهل أصفهان، يقال له كابي الحداد، أربعون ولدا، ولم يزالوا يذبحون من أولاده، حتى لم يبق له سوى ولد واحد. فلما أرادوا ذبح ذلك الولد، أخذ كابي المذكور عصا طويلة، وعلّق بطرفها الجلد الذي يستتر به عند شغله، ويتوقّى به النار، ورفعه وصاح في لناس، ودعاهم إلى مجاهدة الضحاك، فاجتمع عنده خلق كثير. وبقي ذلك العلم معظما عند الفرس، ورصّعوه بالجوهر وسموه درفش كابيان، وجعلوه علمهم الأكبر الذي يتبركون به، وهو الذي صار إلى المسلمين في وقعة القادسية، وكانت الفرس لا ينشرونه إلا في أمور عظيمة.
ولما قوي أمر كابي قصد الضحاك، فهرب منه الضحاك، وسأل الناس كابي
أن يتملك عليهم، فأبى لكونه ليس من بيت الملك، فأمرهم أن يملكوا أحدا من ولد جمشيد، وكان أفريذون بن أتقيان، من أولاد جمشيد، وقيل كان رجلا جسيما مليحا، وهو من بقية العمالقة، مقدار قامته سبعة أرماح، وعرض صدره رمح، وكان مستخفيا من الضحاك. فاستبشر الناس به وولوه الأمر مكان الضحاك، وكان كابي أحد أعوانه.(2/129)
ولما قوي أمر كابي قصد الضحاك، فهرب منه الضحاك، وسأل الناس كابي
أن يتملك عليهم، فأبى لكونه ليس من بيت الملك، فأمرهم أن يملكوا أحدا من ولد جمشيد، وكان أفريذون بن أتقيان، من أولاد جمشيد، وقيل كان رجلا جسيما مليحا، وهو من بقية العمالقة، مقدار قامته سبعة أرماح، وعرض صدره رمح، وكان مستخفيا من الضحاك. فاستبشر الناس به وولوه الأمر مكان الضحاك، وكان كابي أحد أعوانه.
فلما استولى أفريذون على منازل الضحاك، وجلس على سرير الملك، تبع الضحاك مدة، ثم أسره بدماوند. فلما مثل بين يديه، سأله كيف قتل جده جمشيد، قال: «وضعته بين دفتين، وأمرت بنشره». منذ / ذلك غضب، وأمر بأن يضعوا عمودا من حديد على فم بئر، ويربطوا رجليه في العمود، ويعلقوه منكوسا ويبنوا على فم البئر، ففعلوا كما أمر، وأحدثوا المهرجان يوم قتله.
وكان إبراهيم الخليل، عليه السلام، في أواخر أيام الضحاك. وكان نمرود عاملا من عماله، استعمله على السواد، وما اتصل به يمنة ويسرة.
وكانت مدة ملك الضحاك ألف سنة.
ولما ملك أفريذون، سار في الناس بأحسن سيرة، ورد جميع ما اغتصبه الضحاك على أصحابه.
وكان مؤثرا للعلم وأهله، وكان عارفا بعلم الطب، والفلسفة، والنجوم.
وكان لأفريذون ثلاثة أولاد، فقسم الأرض بينهم أثلاثا، خوفا من تفرّق الميثاق بعده، أحدهم إيرج، فجعل له العراق والهند والحجاز، وجعله صاحب التاج والسرير، وفوض إليه الولاية على أخويه، والثاني شرم (1)، وجعل له الروم وبلاد الشام ومصر والمغرب، والثالث طوخ (2)، وجعل له الصين والترك والمشرق جميعه.
__________
(1) كذا في الأصل وأبو الفدا (المختصر 1/ 41) وفي (ب): «ثرم» وفي (ج): «سلم».
(2) كذا في الأصل و (ب) وفي (ج): «تور» وفي المختصر: «طوج».(2/130)
فلما مات أفريذون وثب طوخ وشرم على إيرج فقتلاه، واقتسما بلاده، وملكا الأرض، ثم نشأ [ابن] لإيرج (1) المقتول، يقال له منوجهر بن إيران بن إيرج، فحقد على عمي أبيه (2)، وجمع العسكر وتغلب على ملك جده إيرج فقوي أمره (3). وكان موصوفا بالعدل والإحسان في مملكته. ويقال إنه أول من حفر الخنادق وجمع آلة الحرب، وأول من وضع الدهقنة، وجعل لكل قرية دهقانا. ولما قوي منوجهر المذكور قتل عمي أبيه (4) طوخ وشرم، وأخذ ثاره منهما.
ثم نشأ من ولده طوخ بن أفريذون المذكور أفراسياب وإليه تنسب الترك، فجمع العسكر وحارب منوجهر المذكور، وحاصره بطبرستان، ثم اصطلحا وضربا بينهما حدا لا يتجاوزه أحد منهما، وهو نهر بلخ (5). وكان تغلب أفراسياب المذكور على مملكة فارس في أيام منوجهر اثنتي عشرة سنة، وأكثر الفساد وأخرب البلاد، وطم الأنهار، فقحط الناس.
ثم ظهر زو (6) بن طهماسب وقيل زاب، وهو من أولاد منوجهر، فتسارع إليه الناس، وطرد أفراسياب عن مملكة فارس، حتى رده إلى بلاد الترك بعد حروب كثيرة، / وسار زاب المذكور بأحسن سيرة حتى عمّر البلاد وأصلح ما كان أخربه أفراسياب، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، فعمرت البلاد واستخرج للسواد نهرا وسماه الزاب، وبنى على حافته مدينة، وهي التي تسمى المدينة العتيقة، ونقل إليها أنواع الرياحين والأشجار. وهذا أول من اتخذ أنواع الأطعمة، وقسم الغنايم على جيوشه، وكانت مدة ملكه ثلاث سنين.
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) في الأصل و (ب): «على عميه».
(3) قارن بأبي الفدا، المختصر 1/ 41.
(4) في الأصل: «قتل عميه» وفي (ب): «قتل عمه» وما أثبتناه من (ج).
(5) نسبة إلى مدينة بلخ في خراسان، ويسمى هذا النهر دهاس ومعناه بالفارسية «عشر أرحية».
لسترنج: 463462.
(6) كذا في المختصر في أخبار البشر وفي (ب) و (ج): «زوا».(2/131)
وكان نايب من نواب المذكور وزيرا يقال له كرشاسب (1)، من أولاد طوخ بن أفريذون تولى الملك، ويقال إنهما اشتركا في الملك. وكان مسكنه ببابل ومدة ملكه عشرون سنة، وبعض المؤرخين لم يذكره في الملوك، وهو آخر من تولى من طائفة الفيشدادية.
الطبقة الثانية: الكيانية
ولما هلك كرشاسب ملك بعده كيقباذ بن زاب، وهو أول ملوك الكيانية.
سلك سيرة أبيه في الخير وعمارة البلاد، وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة، وكان مقيما بقرب نهر بلخ، وهو نهر جيحون، يمنع الترك عن العبور إلى أرض فارس، وقيل كان في زمانه من الأنبياء حزقيل، والياس، واليسع، وشمويل، عليهم السلام.
ثم هلك كيقباذ بعد أن ملك ماية وعشرين سنة، وقام مقامه بعده ابن ابنه كيكاوس بن كبيسه بن كيقباذ المذكور، فشدد على أعدائه وقتل خلقا كثيرا من عظماء البلاد، وسكن مدينة بلخ. وولد له فيها ولد بديع في الجمال، وكان يفتن بحسنه فسماه سياوش، ثم إنه سلّمه إلى رستم الشديد الذي كان نايبا على سجستان، فرباه رستم وأدبه حتى صار نهاية في الأدب والفروسية. ولما قدم به إلى أبيه امتحنه فأعجبه، ثم إنه كان لأبيه الملك زوجة بارعة الجمال [يقال لها آب رخ] (2)، يقال: إنها ابنة أفراسياب ملك الترك، وهي غير أم سياوش، فعشقت لسياوش وأرادت منه المواصلة فأبى سياوش، وقال: «معاذ الله، إنه أبي ومولاي، لا أخونه في أهله!».
فلما خافت المرأة، واستشعرت من سياوش بأنه ينمّها إلى الملك، قصدت إهلاكه، فذكرته عند / الملك بكل سوء (3)، حتى تنفر الملك عنه، فرام إهلاكه
__________
(1) كذا وفي المختصر: «كرشاسف».
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «بسوء».(2/132)
في يد العدو، خوفا من لحوق العار به في قتل ولده، فكتب إلى رستم في ذلك، وأرسله في جيش كثيف.
فلما التقى سياوش بالعدو انتظم الصلح بينهما من غير حرب، كتب سياوش إلى أبيه يخبره بأمر الصلح فلم يرض بذلك، فرأى سياوش نقض العهد عارا عليه، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه، وأجمع على الفرار إلى أفراسياب، فلحق به بعد أن أخذ منه على نفسه الأمان، فأكرمه أفراسياب وزوجه ابنته حتى إذا حبلت البنت من سياوش عدى أفراسياب على سياوش فقتله خوفا منه على ملكه (1)، لميل الناس إليه. واجتهد أفراسياب في إسقاط الولد فلم يمكن، وأمر قيران، وهو أكبر أمرائه (2)، وهو الذي استأمن لسياوش من أفراسياب، أن تكون (3) ابنته عنده حتى إذا وضعت الحمل قتل الولد. فلما ظهر الولد امتنع قيران من قتله وستر أمره، فكان عند قيران حتى بلغ أشده.
فلما سمع كيكاوس بقتل ابنه سياوش، وأنه ولد له ولد من بنت أفراسياب تحيّل في ذلك، وأرسل قوما شطارا في زي التجار بالمال، وأمرهم بسرقة ابن سياوش وزوجته فسرقوهما، وأحضروهما. وكان اسم الولد المذكور كيخسرو، وكان كيكاوس عقيما، فقرر الملك لولد ولده كيخسرو المذكور.
ولما ملك كيخسرو وقوي أمره، قصد ملك الترك أفراسياب، طالبا لثأر أبيه سياوش، فجرت بينهما حروب كثيرة، وظفر كيخسرو [بجده] (4) أفراسياب وأوثقه في حديد ثقيل، ووبخه على غدره بأبيه، ثم ذبحه، وقد غنم غنايم عظيمة. فلما استقر في الملك مدة تزهد وخرج عن الدنيا، وترك الملك، وعين مكانه لأعظم
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «كرسيه».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «وزرائه».
(3) في الأصل: «يكون» وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).(2/133)
قواده بهراسب (1)، وفقد كيخسرو. وكانت مدة ملكه ستين سنة، وكان ذلك في أيام سليمان بن داود، عليهما السلام.
ثم ملك بعده بهراسب، ويقال إنه ابن أخي كيكاوس، فاتخذ سريرا من ذهب مرصعا بالجوهر، وكان يجلس عليه.
وبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ الحسناء، وسكنها لقتال الترك. وكان بخت نصر عاملا من جانبه على العراق والأهواز وعلى الروم، / وتولى سبعا وخمسين سنة، وسبب تسمية بخت نصر أنه وجد، وهو رضيع، عند صنم اسمه نصر، ولم يعلم له أبوان، وكلبة ترضعه اسمها بخت، فسمي باسمهما.
فلما هلك بخت نصر، بعدما مسخ، تولى مكانه أولاق سنة واحدة، ثم قتل، وتولى مكانه ابنه بلطاش سنتين، ثم قتل وانقرضت به ذرية بخت نصر، وقد ذكرت قصته في ذكر أرميا عليه السلام.
وكان بهراسب المذكور، شديد القمع للملوك، وكانت ملوك الروم والعرب والهند يؤدون إليه الأتاوة في كل سنة، ويقرون له أنه ملك الملوك هيبة له. ثم إنه كبر سنه وأحس بالضعف، فتنسك وفارق الملك، واشتغل بالعبادة.
واستخلف ابنه كيشاشب (2)، وقيل اسمه بشتاسف. ولما تولى غضب على بخت نصر بسبب تخريبه البلاد وقتله العباد، فعزله وعيّن إقطاعه إلى أمير عظيم يقال له كورس، ثم أمر بإطلاق أسارى بني إسرائيل، فجهّزهم إلى بيت المقدس.
وظهر في أيامه زرادشت الحكيم، وهو مؤلف كتاب دين المجوس. وكان من تلامذة عزير النبي، عليه السلام، سمعه وقرأ عليه، ثم خالفه فدعا عليه عزير، عليه السلام، فتجذم، ثم ألف كتابه المذكور في اثني عشر مجلدا، كل مجلد في جلد ثور تحمله عجلة واحدة. أباح في كتابه تزويج الأم والأخت، وأحل شرب
__________
(1) كذا وفي المختصر (1/ 42) «لهراسف».
(2) كذا وفي المصدر نفسه (1/ 44): «كي بشتاسف».(2/134)
الخمر، وأمر بعبادة النيران، فتوقف كيشاشب عن الدخول في دينه، ثم صدقه فدخل في دينه.
وجرت بين كيشاشب وبين خرزاسب، ملك الترك، حروب عظيمة، قتل بينهما فيها خلق كثير بسبب دخوله في دين زرادشت.
وكان لكيشاشب ولد يقال له أسفنديار، هلك في حياة أبيه، وخلف ولدا يقال له أزدشير بهمن. فلما تولى أزدشير بهمن المذكور انبسطت يده، وتناول الممالك حتى ملك الأقاليم السبعة، وراعى وجوه بني إسرائيل وأحسن إليهم.
وكان كريما متواضعا علامته على كتبه: «من / أزدشير بهمن عبد الله، وخادمه والسايس لأمركم». وغزا رومية في ألف ألف مقاتل. ومعنى بهمن بالعربية الحسن النية.
وكان أزدشير بهمن متزوجا بابنته جمانى، وذلك حلال في دين المجوس، فتوفي بهمن، وهي حاملة منه بدارا. وكانت قد سألت بهمن أن يعقد التاج على ما في بطنها ويخرج ابنه ساسان بن بهمن (1) من الملك، فأجابها بهمن إلى ذلك، وأوصى أكابر دولته ففعلوا ذلك، وعظم على ساسان تولية أخيه، فلحق باصطخر وتزهد، وتجرد من حلية الملك، واتخذ غنما وتولى رعيها بنفسه. وساسان المذكور هو أبو الأكاسرة.
وساست جمانى (2) المذكورة بعده أحسن سياسة، ثم وضعت ولدا سمّته دارا، وهو ابنها وأخوها.
وكانت جمانى صاحبة رأي وتدبير، وعقل وحزم. ولم تزل قايمة بأمر الملك ضابطة له، وأغزت الروم جيشا وظفرت، فقمعت الأعداء وأشغلتهم عن الطريق إلى شيء من بلادها، وكان ملكها سبع عشرة سنة.
__________
(1) «بن بهمن»: ساقطة من (ج).
(2) كذا في النسخ الثلاث وفي المختصر: «خمانى».(2/135)
ولما بلغ دارا رشده عزلت جمانى نفسها، وتولى دارا بن بهمن الملك فضبطه بشجاعة وحسن سياسة. وكان صاحب العزيمة والفزع، وولد له ولد سماه دارا باسمه. وكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة.
وتولى الملك بعده ابنه دارا بن دارا، وكان حقودا ظالما، فتنفّرت منه قلوب الخاصة والعامة. وفي زمنه تملك الاسكندر بن فيلقوس المشهور مملكة فارس، لأنه عرف بوحشة خواطر أصحاب دارا منه، فقصده بجيشه، فلحق الاسكندر، لما دنا من دارا، بعض من يختص بدارا، وشكوا عليه من دارا، وشجعوه عليه، وطال بينهما القتال.
وذكر الشيخ جمال الدين بن الجوزي في «شرح القصيدة العبدونية» أن الاسكندر ذا القرنين (1) قد منع دارا من حمل الجزية التي كانت تعطيها الملوك بزمانه، وكانت الملوك تحمل الجزية في كل سنة وتوديها إلى ملك فارس، وذلك ماية بيضة ذهبا، وزن كل بيضة ألف مثقال.
فلما أظهر الاسكندر منع ذلك، وهو أن يؤدي إلى ملوك فارس / ما كان غيره يحمله، فخرج دارا لقتاله، فالتقيا بنصيبين من بلاد الجزيرة، فاقتتلا سنة كاملة.
وكان دارا قد ملّه قومه وأحبوا الراحة منه، فلحق كثير منهم بالاسكندر وأطلعوه على عورته وقوّوه عليه، ثم وثب على دارا حاجباه فقتلاه، وتقربا برأسه إلى الاسكندر، فأمر الاسكندر بقتلهما، وقال: «هذا جزاء من يتجرأ على أستاذه!».
وصار ملك دارا إلى الاسكندر بن فيلقوس اليوناني.
وفي «شرح رسالة ابن زيدون» أن الاسكندر لما امتنع من إرسال الأتاوة لدارا، بعث إليه بكرة وصولجان وخرقة فيها سمسم، وقال: «أنت صبي، فالعب بهذه الأكرة، فإن أديت الأتاوة، وإلا بعثت إليك بجنود عدد هذا السمسم، وأتيت بك في وثاق!» فكتب إليه الاسكندر: «أما بعد. فقد تيمنت بالأكرة والصولجان، فإن الدنيا مثل الأكرة وسألعب بها، وأضيف ملكك إلى ملكي، وأما السمسم فقد
__________
(1) في الأصل و (ب): «لما» وما أثبتناه من (ج).(2/136)
تيمنت أيضا به، فإنه بعيد عن الحرافة والمرارة. وأما الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض، فقد ذبحتها وأكلت لحمها!». فغضب دارا وسار إليه بجموعه، فصار من أمره ما صار، والله أعلم.
الطبقة الثالثة: الأشغانية
وهم ملوك الطوايف، وكان من أمرهم أن الاسكندر، لما غلب على الفرس وأسر ملوكهم وعظماءهم، قتل منهم جماعة وأراد قتل الباقين عن آخرهم، فمنعه أرستطاليس (1)، وقال له: «الرأي أن تملّك عدة منهم على الفرس، فيقع بينهم التشاجر والتباغض، فلا يجتمعون، فتأمن اليونان غايلتهم!». فمال الاسكندر إلى ذلك، وملك من كبار الفرس عشرين ملكا على الفرس، وهم المسمون بملوك الطوايف، واستمر بهم الحال على ذلك نحو خمسماية واثنتي عشرة سنة حتى قام أزدشير بن بابك وجمع ملك الفرس، ولم يبق منهم ملك غيره.
وكانت عدة ملوك الطوايف تزيد على تسعين ملكا، ولم تؤرخ في مبتدأ أمرهم أسماؤهم ولا عدد ملكهم فإنهم كانوا ملوكا صغارا في الأطراف، ولم يشتهر منهم إلا الأشغانية، فضبط أصحاب السير والتواريخ أيامهم، ومدد ملكهم وأساميهم.
فأول من اشتهر منهم أشغا بن أشغان (2)، ويقال أشك بن أشكان، وكان أول ملك أشغا المذكور لمضي مايتين وأربعين سنة من غلبة الاسكندر، وكان ملكه عشر سنين.
ثم ملك بعده شابور (3) بن أشغان ستين سنة. وكان مولد المسيح، عليه السلام، في بضع وأربعين سنة خلت من ملك شابور.
فلما هلك، ملك بعده جور بن أشغان، وقيل جودرز، عشر سنين.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «أرسطاليس».
(2) كذا في (ج) والمختصر (1/ 46) وفي (ب): «أشفا بن أشفان».
(3) كذا في (ج) وفي (ب) والمختصر: «سابور».(2/137)
فلما هلك، ملك بعده بيزن الأشغاني احدى وعشرين سنة، وهلك.
ثم ملك بعده جودون (1) الأشغاني تسع عشرة سنة، وهلك.
ثم ملك / بعده ترسي جودون (2) الأشغاني أربعين سنة، وقال يوم ملك:
«إني محب ومكرّم من أنفذ أمري»، وهلك.
ثم ملك بعده هرمز الأشغاني تسع عشرة سنة، وقال يوم ملك: «يا معشر الناس، اجتنبوا الذنوب كيلا تذلوا بالمعاذير (3)!»، ثم هلك.
وملك بعده أردوان الأشغاني اثنتي عشرة سنة، وهلك لمضي أربعماية وسبع وثلاثين سنة.
ثم ملك بعده خسرو الأشغاني أربعين سنة، وقال يوم ملك: «تسطع ناري ما دامت مضطرمة»، ثم هلك.
وملك بعده بلاش الأشغاني أربعا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده أردوان الأصغر ثلاث عشرة سنة، وظهر أمر أزدشير بن بابك وقتل أردوان وغيره من الأردوانيين، واجتمع له ملك جميع الطوايف. فيكون انقضاء ملك أردوان لمضي خمسماية واثنتي عشرة سنة للاسكندر.
الطبقة الرابعة: الساسانية
وهم الأكاسرة، أولهم أزدشير بن بابك، وهو ولد ساسان بن أزدشير بهمن، المقدم ذكره. وساسان المذكور هو الذي تزهد، لما أخرجه أبوه من الملك، وجعله لدارا قبل ولادته، حسبما تقدم ذكره.
وعدة ملوك الساسانية من أزدشير إلى يزدجرد المقتول في زمن عثمان، رضي الله عنه، ثلاثون ملكا، منهم امرأتان، وقيل اثنان وثلاثون.
__________
(1) كذا وفي (ب): «جوون» وفي (ج) والمختصر: «جودزر».
(2) كذا وفي (ب): «جوون» وفي (ج) والمختصر: «جودزر».
(3) كذا في (ب) والمختصر وفي (ج): «بالمعافير».(2/138)
وأزدشير هذا هو أبو الملوك الساسانية جميعا. وكان شجيعا حازما (1)، طويل الفكر، وكان ينزل اصطخر، وكتب إلى ملوك الطوايف يدعوهم إلى الاختلاع فمنهم من أقرّ له بالطاعة، ومنهم من تربص حتى قدم عليه، ومنهم من عصاه. فلما غلب عليهم لم يبق أحد منهم إلا من أخفى نفسه.
وكان قد أخذ في جملة من أخذ منهم ابنة ملكهم، تخجل البدر عند الكمال، والشمس قبل الزوال. فلما رآها قال لها: «أنت من بنات ملوكهم؟».
قالت: «بل من خدمهم!». وكان أزدشير قتل أباها وأخاها، فاتخذها لنفسه واصطفاها، فحملت منه.
فلما علمت بالحمل أشهرت نفسها، وقالت: «أنا ابنة الملك!» فخاف أزدشير من ضررها لئلا / تتذكر قتلاها (2)، فيستولي طلب الثأر عليها. فأمر شيخا من رجالها يقال له جندبان بأن يودعها بطن الأرض إشارة إلى قتلها، فحملها إلى منزله ووقع في صعب الأمر ومشكله. ثم تدبر في المآل، ونادته ربة الحجال: «مهلا أيها الناصح المشير، ذو الرأي والتدبير، هبني أنا أخطأت، وعن مرضاة (3) الملك أبطأت، فما ذنب الذي في بطني المودع من الملك ولم يجن، فامهلني إلى أن أضع، ثم تهلك الأم ويبقى التبع، وأنه لا بد، إذا برد قلبه وهمد كربه، يطالبك بالفرع، إن لم يطلب الأصل، وبعد القطع لا يمكن الوصل!». فرأى الشيخ المشير الرأي في التأخير، فعمل لها سربا تحت الأرض وجعلها فيه. ثم عمد إلى مذاكيره فجبّها ووضعها في حقّ وختم عليه، ورجع إلى الملك، وقال: «قد أودعتها بطن الأرض». ودفع إليه الحقّ، وقال: «إن لي فيه وديعة!» وتضرع إليه أن يرفعها له، وأقامت الجارية إلى أن أخذت مدتها النهاية، فوضعت ولدا ذكرا غصن بان، مثمرا قمرا، فسماه ذلك الشيخ سابور، وأقام بتربيته وإصلاح رضاعه وأغذيته إلى أن بلغ سبع سنين، وهو كبدر الأفق المبين.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «عارفا».
(2) في الأصل: «قتيلها» وما هنا من (ب) و (ج).
(3) في الأصل و (ج): «مرضات».(2/139)
فركب كسرى أزدشير في بعض الأوقات، وخرج يصطاد في بعض الجهات، فتبدد العسكر وصار كالحجيج إذا نفر، ووقع أزدشير في ناحية منفردا، فصادف غزالين يسوقان ولدا فهجم عليهما. فلما قصدهما تركا ولدهما، ففوّق السهم الخفيف نحو الخشف الضعيف. فلما رأت أمه السهم داخلها الوله والوهم، فقصدت السهم دون ولدها، واستقبلت نصل كبد القوس بكبدها، فأراد إطلاق السهم من الكبد ليصيب به نحر أم الولد، فاعترضه الفحل بصدره وتلقاه دون نحرها بنحره، وجعل نفسه وقاية لأم ولده وفداهما بروحه وجسده. فتذكر أزدشير ولده وأمه، وضاعف حزنه عليهما همه وغمه، ثم فاضت دموع عينيه فرمى القوس / والسهم من يده، ورجع متفكرا وعلى ما فرط منه متحسرا. ودعا الشيخ، وذكر له ذلك النكد، وما رآه من الغزالين والولد، وتحرّق على فقد حظيته، وتأرق لمصاب فلذة كبدته، ولم يكن له ولد، ولا من يرث الملك بعده أحد. ثم دعا له الشيخ وانصرف، وعبى حملا من الهدايا والتحف، وألبس ابن الملك أفخر ملبوس، وجهز أمه كما يجهز العروس، وأقبل بهما إليه، وعرض كل ذلك عليه.
وقال: «متّعك الله بهما، ومتّعهما بك!». فسر صدر أزدشير بذلك وانشرح، وأغمي عليه من شدة الفرح. فدعي [الشيخ] (1) بالحق المودع عند الملك، ففض خاتمه، فإذا فيه مذاكير الشيخ وكتاب يقول فيه: «لما أمرني الملك بقتل المرأة التي علقت من ملك الملوك أزدشير، لم أر أن أبطل زرع الملك الطيب، فأودعتها بطن الأرض كما أمرني، فتبرأت إليه من نفسي لئلا يجد عايب إلى عيبنا سبيلا!».
فأعجب الملك منه ذلك، وأفاض عليه خلع الأنعام، والرضى والإكرام. فعند ذلك أمر الملك أزدشير بعقد التاج لولده.
وكان لسانهم الفهلوي، وهي من اللغات التي لم يبق لها مترجم.
وكان أزدشير من أهل العقل والمعرفة، وله أشياء رتبها، واقتدى بها المتأخرون من الملوك. وكان قد رتب أصحابه على ثلاث طبقات (2):
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) في الأصل: «طباق» وما أثبتناه من (ب) و (ج).(2/140)
الطبقة الأولى على نحو من عشرة أذرع، مجلسهم من مجلسه، وهم بطانته وندماؤه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم.
والطبقة الثانية على نحو عشرة أذرع من هؤلاء، وهم وجوه المرازبة.
والطبقة الثالثة على مقدار عشرة أذرع من الثانية. وكان يقول ما من شيء أضر على نفس ملك أو رئيس من معاشرة سخيف [أو مخالطة لئيم] (1)، كما أن الريح إذا مرت بطيب حملت طيبا تحيي به النفوس.
وكان مدة ملك أزدشير (2) أربع عشرة سنة وعشرة أشهر.
ثم ملك بعده ابنه سابور، المقدم ذكره، احدى وثلاثين سنة. وكان جميل الصورة حازما، وظهر في أيامه ماني الزنديق، وادعى النبوة وتبعه خلق كثير، وكان جمع له كتب الفلسفة لليونانيين / ونقلها إلى اللغة الفارسية، فرجع سابور عن مذهب المجوسية إلى مذهب ماني والقول بالنور والبراءة من الظلمة، ثم عاد بعد ذلك إلى دين المجوسية، ولحق ماني بأرض الهند لأسباب أوجبت ذلك.
ثم ملك بعده ابنه هرمز بن سابور سنة واحدة وستة أشهر. وكان عظيم الخلق شديد القوة، وكان يلقب هرمز البطل لشجاعته. وبنى مدينة هرمز من كور الأهواز.
ثم ملك بعده ابنه بهرام بن هرمز ثلاث سنين وثلاثة أشهر. وكانت له حروب مع ملوك الشرق، واتبع سيرة آبائه (3) في حسن السياسة والرفق بالرعية، ويقال إنه أتاه ماني يعرض عليه مذهبه فصلبه على باب من أبواب المدينة، وقتل الرؤساء من أصحابه.
ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام سبع عشرة سنة، فأقبل في أول ملكه على
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) في الأصل و (ب): «ملكه» وما أثبتناه من (ج).
(3) كذا في (ج) والمختصر (1/ 48) وفي (ب): «أبيه».(2/141)
القصف واللهو والنزهة والصيد، لا يفكر في ملكه ولا رعيته، وأقطع الضياع لخواصه وخدمه، فخربت البلاد وقل ما في بيوت الأموال، وكان تدبير الملك مفوضا إلى وزرائه.
فلما أن كان في بعض الأيام، ركب إلى بعض نزهاته وصيده فجنّه الليل، وهو يسير نحو المداين، وكانت ليلة قمراء، فدعا بالموبذان لأمر خطر له، فجعل يحادثه، فانتهى بهم المسير إلى خرابات كانت من أمهات القرى، قد خربت في ملكه، لا أنيس بها إلا البوم، وإذا ببوم يصيح وآخر يجاوبه من بعض تلك الخرابات. فقال الملك: «هل ترى أحدا من الناس أعطي فهم كلام هذا الطائر؟». فقال الموبذان: «أنا أيها الملك ممن خصه الله بفهم ذلك!».
فاستفهمه الملك عما يقول فقال: «هذا بوم ذكر يخاطب بومة أنثى، وهو يقول لها متّعيني نفسك حتى يخرج من بيننا أولاد يسبحون الله تعالى، ويبقى لنا في العالم عقب يذكرون الله تعالى ويكثرون ذكرنا، والترحم علينا!». فأجابته البومة: «إن الذي دعوتني إليه هو الحظ الأكبر، والنصيب الأوفر، إلا أنني أشترط عليك خصالا إن أنت أعطيتنيها أجبتك إلى ذلك» فقال / لها الذكر: «وما تطلبينه مني؟».
قالت: «أن تعطيني من خرابات أمهات الضياع عشرين قرية مما قد خرب في أيام هذا الملك السعيد!». فقال له الملك: «وما الذي قال لها الذكر؟». قال الموبذان: «كان من قوله لها إن دامت أيام هذا الملك السعيد أقطعتك مما يخرب ألف قرية، فما تصنعين بها؟». قالت: «إن في اجتماعنا ظهور النسل وكثرة الولد (1)، فنقطع كل ولد (2) من أولادنا قرية من هذه الخرابات». قال لها الذكر:
«هذا أسهل أمر أردتيه وأيسر شيء طلبتيه مني، وقدّمت لك الوعد، وأنا مليء ثقة بذلك!».
فلما سمع الملك هذا الكلام من الموبذان، عمل في نفسه واستيقظ من نومه، وفكر فيما خوطب به، فنزل من ساعته وخلا بالموبذان، فقال له: «أيها
__________
(1) في (ب): «ان في اجتماعنا ظهور النسل وكثرة الولد».
(2) في (ب): «ولدين».(2/142)
الملك، إن الملك لا يتم إلا بالشريعة، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قيام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين البرّية نصبه الرب وجعله قيّما، وهو الملك!».
فلما سمع الملك ذلك، أقام في موضعه ثلاثة أيام، وأحضر الوزراء والكتّاب وأرباب الدواوين، فانتزعت الضياع من أيدي الصناع من الخاصة والحاشية وردت إلى أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، فانتظم ملكه حتى كانت أيامه تدعى بالأعياد، ولما عم الناس من الخصب وشملهم من العدل.
وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالا وجواهر، وقد كان ساسان أهدى غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا، فقذفه في زمزم، فوصل ذلك لعبد المطلب.
ثم ملك بعده بهرام بن بهرام بن بهرام، فكانت مدة ملكه أربع سنين وأربعة أشهر، وسلك سبيل آبائه من العدل والسياسة، وهو الذي يقال له شهنشاه.
ثم ملك بعده أخوه ترسي بن بهرام تسع سنين.
ثم ملك بعده ابنه هرمز بن ترسي تسع سنين أيضا.
ولما مات هرمز لم يكن له ولد، وكانت بعض نسائه حاملا، فعقد التاج على ما في بطنها فولدت ولدا سموه سابور. فلما اشتد ظهرت منه نجابة عظيمة من صباه، / فكان أول ما ظهر منه أنه سمع ضجيج الناس بسبب الزحمة على الجسر الذي على دجلة بالمداين، فقال: ما هذه الجلبة؟ فقيل: بسبب زحام المارين على الجسر! فأمر أن يعمل إلى جانب الجسر جسرا آخر يكون أحد الجسرين للخارجين والآخر للداخلين، فعملوه وزال الزحام. وكان سنه إذ ذاك خمس سنين، فتعجب الناس من نجابته.
وفي أيام صباه طمعت العرب في بلاده وأخربوها. فلما بلغ من العمر ست عشرة سنة، انتخب من فرسان عسكره عدة كثيرة، وسار بهم إلى العرب، وهم من
ولد أياد بن نزار، وملكهم يومئذ الحارث الأغر الأيادي [وكانوا يصيفون بالجزيرة ويشتون بالعراق] (1)، وقتل من وجد منهم ووصل إلى الحسا والقطيف، وشرع يقتل ولا يقبل فداء. ثم سار إلى اليمامة وسفك بها الدماء، ولم يمر بماء للعرب إلا غوّره، ولا ببئر إلا طمها، فعمهم القتل، فما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وصار ينزع أكتاف العرب حتى نزع، فيما قيل، كتف سبعين ألف رجل، فلذلك سمي سابور ذو الأكتاف، وصار لقبا عليه.(2/143)
وفي أيام صباه طمعت العرب في بلاده وأخربوها. فلما بلغ من العمر ست عشرة سنة، انتخب من فرسان عسكره عدة كثيرة، وسار بهم إلى العرب، وهم من
ولد أياد بن نزار، وملكهم يومئذ الحارث الأغر الأيادي [وكانوا يصيفون بالجزيرة ويشتون بالعراق] (1)، وقتل من وجد منهم ووصل إلى الحسا والقطيف، وشرع يقتل ولا يقبل فداء. ثم سار إلى اليمامة وسفك بها الدماء، ولم يمر بماء للعرب إلا غوّره، ولا ببئر إلا طمها، فعمهم القتل، فما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وصار ينزع أكتاف العرب حتى نزع، فيما قيل، كتف سبعين ألف رجل، فلذلك سمي سابور ذو الأكتاف، وصار لقبا عليه.
وقد أتى في مسيره على بلاد البحرين، وفيها يومئذ بنو تميم فأمعن في قتلهم، وشيخها يومئذ عمرو بن تميم بن مرة وله من العمر الماية (2) سنة، وكان يعلق في عمود البيت في قفة قد اتخذت له.
فلما سمعوا بمسير سابور إليهم رحلوا وأرادوا حمله معهم، فأبى عليهم إلا أن يتركوه في ديارهم، وقال: «أنا هالك اليوم أو غدا، ولعل الله ينجيكم من صولة هذا الملك!». فخلوا عنه وتركوه، فأصبحت خيل سابور في الديار، فلم يجدوا أحدا. فلما سمع عمرو صهيل الخيل وهمهمة الرجال، أقبل يصيح بصوت ضعيف، فنظروا إلى قفة معلّقة في شجرة، فأخذوه وجاءوا به إلى سابور.
فلما وضع بين يديه، نظر إلى دلايل الهرم ومرور الأيام عليه ظاهرة، فقال له سابور: «من أنت أيها الشيخ الفاني؟». قال: «أنا عمرو بن تميم، وقد بلغت من العمر ما ترى، وقد هرب الناس منك لإسرافك في القتل، وأنا أسألك عن أمر إن أنت / أذنت لي فيه!». فقال له سابور: «قل نسمع!». فقال: «ما الذي حملك على قتل رعيتك من رجال العرب؟». فقال: «أقتلهم لما ارتكبوا في بلادي وأهل مملكتي!». فقال عمرو: «فعلوا ذلك ولست عليهم بقيّم فلما ملكت رجعوا عما كانوا عليه من الفساد هيبة لك!». قال سابور: «وأقتلهم لأنا نجد في مخزون علمنا وبأخبار أوائلنا أن العرب ستدال علينا». قال عمرو: «وهذا أمر تظنه أم تتحققه؟».
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) في الأصل و (ج): «ثلثماية» وما أثبتناه من (ب) كونه أقرب إلى المعقول.(2/144)
قال: «بل أتحققه، ولا بد أن يكون ذلك!». قال عمرو: «فإن كنت تعلم ذلك فلم تسء إلى العرب، والله لئن تبقي العرب وتحسن إليهم، فيكافئوا قومك عند إزالة الدولة لهم بإحسانك، وإن أنت طالت بك المدة كافوك عند مصير الأمر إليهم فيبقون عليك!». فقال سابور: «الرأي ما قلت، ولقد صدقت ونصحت!». فرفع السيف وانكف عن قتلهم. ويقال إن عمروا بقي بعد ذلك ثمانين سنة.
وفي «سلوان المطاع» أن سابور، لما أراد أن يدخل بلاد الروم متنكرا، نهاه نصحاؤه وحذروه، فلم يسمع كلامهم، فسار واستصحب وزيرا كان له ولأبيه من قبله، وكان شيخا ذا دهاء وسداد ورأي، عالما بالديانات واللغات والمكايد، فتوجها معا نحو الشام فتزيّا الوزير بزي الرهبان، وتكلم بلسان الجلالقة، وتحرّف بصناعة الطب الجراحي، وكان معه الدهن الصيني إذا دهنت به الجراحات برئت واندملت في الحال، ولا يأخذ على تلك المداواة أجرا، فانتشر صيته في البلاد.
فلما طافا بلاد الشام وقصدا القسطنطينية فقدماها، فصادفا وليمة لقيصر، وقد اجتمع بها الخاص والعام، فدخلاها في جملتهم، وجلسا على موايدهم، وقد كان قيصر قد أمر مصوّرا فصور صورة سابور على أوانيه والستائر والأبواب.
وكان في المجلس رجل من حكماء الروم ودهائهم وقعت عينه على سابور، فأنكره، وجعل يتأمل شخصه، فرأى عليه مخايل الرياسة، وتأمل صورة سابور في كأس كانت بيده فتحقق أنه سابور، فعند ذلك نقر الحكيم جامه الذي بيده ووضعه على أذنه، فقال له قيصر: «ماذا تسمع أيها الحكيم؟». فقال: «يعلم الملك أن الجام يقول لي إن صاحب هذه الصورة التي عليه موجود (1) معنا في مجلسنا هذا!». وبحثوا عنه فعرفوه، فعرض ذلك على قيصر فقبض عليه.
فلما مثل بين يديه، سأله عن خبره فقال: «أنا من أساورة سابور وهربت منه لأمر خفته!.» فلم يقبل ذلك منه، وقدّم إلى السيف، فأقر بنفسه فعملت له من جلود البقر صورة بقرة، كأعظم ما يكون من البقر، تسع طاقات، واتخذ له باب من
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «حاضر».(2/145)
أعلاها في ظهر الصورة يدخل إليها ويخرج منها، وجعل من أسفلها موضع المبال. فأمر بسابور فجمعت يداه إلى عنقه بسلسلة من الذهب بحيث يتناول ما يصلحه من طعام وغيره، فسار قيصر في جنوده وقد عزم على خراب بلاد الفرس، وحمل معه تلك الصورة التي سجن فيها سابور، بعد أن وكل عليها ماية رجل من ذوي البأس والقوة يحفظونها ويحملونها دولا بينهم، فإذا نزل العسكر ضربت حولها قباب الحرس، وجعل المطران رئيسا عليهم.
فقدم وزير سابور على المطران في صورة راهب طبيب وصاحبه، فعرف له حقه وأنزله عنده، وجعل زمام أمره ونهيه بيده، وهو في كل ليلة يمتّع المطران بأخبار ظريفة، رافعا صوته ليسمع سابور حديثه ويتسلى بذلك، ويدس في أحاديثه ما يحب أن يعلمه سابور ويفطن له من الأسرار.
وكان سابور يجد لذلك أعظم راحة، ولم يزل قيصر سايرا بجنوده حتى وصل إلى أرض فارس، فافتتح المدن، وشن الغارات وعقر النخل، حتى انتهى إلى مدينة جند سابور (1)، وهي دار الملك لسابور، وقد تحصن بها وجوه فارس، فنزل عليها ونصب المجانيق.
فلما كانت الليلة القابلة تلطف وزير سابور، حتى دخل / على الطباخ، فألقى في جميع الأطعمة سما.
فلما أكلوا استمروا صرعى في مضاجعهم، فبادر الوزير بفتح باب الصورة عن سابور واستخرجه، وأزال الجامعة من عنقه، وتلطف حتى أخرجه من عسكر قيصر وقصد نحو المدينة، وهم يتحارسون على سورها، فراطنهم بالفارسية، فعرفوهما ورفعوهما إليهم بالحبال.
فلما دخل سابور المدينة فتح خزاين السلاح، وخرج على الروم فكبسهم،
__________
(1) ويقال أيضا «جنديسابور» أو «جند يشابور» و «جندي سابور». وهي مدينة في اقليم خوزستان، على ثمانية فراسخ شمال غربي تستر. وكانت أيام الساسانيين قاعدة خوزستان.
لسترنج: 273.(2/146)
وهم غافلون مطمئنون، فظفر بقيصر فأسره، واحتوى على خزاينه، ولم ينج من جنوده إلا القليل. وفي ذلك يقول الحرث:
هم ملكوا جميع الناس طرّا ... وهم رتقوا هرقلا بالسواد
وهم قتلوا أبا قابوس غصبا ... وهم أخذوا البسيطة من أياد
ثم أمر سابور، لقيصر ومن معه من الأسارى، أن يغرسوا بالعراق الزيتون بدلا مما عقروه من النخل، ولم يكن يعهد بالعراق الزيتون قبل ذلك، وأمر أن يعمّر ما أخربه من البلاد من تراب بلده حتى يطلقه، فأمر قيصر رعيته بنقل التراب من بلادهم إلى فارس. فلم يزل قيصر في أسره، حتى أثمر ما غرس وعمّر ما خرب، وأطلق ما كان في أسره من الفرس، ثم أطلقه بعد أن قال له: «خذ أهبتك واستعد عدتك، فإني غاز أرضك عن قريب!».
وقد كانت ملوك الساسانية تسكن بطمسوس غربي المداين، فسكن سابور في الجانب الشرقي، وبنى هناك الإيوان المعروف بإيوان كسرى الباقية آثارها إلى هذه الغاية، واستمر الإيوان في ملكه حتى مات بعد اثنتين وسبعين سنة، وهي مدة ملكه ومدة عمره.
ثم ملك بعده أخوه أزدشير بن هرمز (1) أربع سنين، بوصية له من سابور بالملك، لأن ابن سابور يومئذ كان صغيرا، فخلع.
وملك بعده سابور بن سابور [ذي الأكتاف] (2)، وسلك سيرة أبيه. وكانت له حروب كثيرة مع أياد بن نزار وغيرها (3) من العرب، فسقط عليه فسطاط كان منصوبا عليه، فمات من ذلك (4).
__________
(1) توفي أزدشير بن هرمز في سنة تسع وسبعين وستماية للاسكندر.
أبو الفدا، المختصر 1/ 49.
(2) ما بين الحاصرتين من المصدر نفسه.
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «وغيره».
(4) وكانت مدة ملكه خمس سنين وأربعة أشهر.
المصدر السابق: 49.(2/147)
ثم ملك بعده أخوه بهرام بن سابور، وهو الذي يدعى كرمان شاه، لأنه كان على كرمان. وسلك السيرة الحسنة، وملك احدى عشرة سنة، فوثب عليه جماعة من / الفرس فقتلوه (1).
فلما هلك ملك بعده ابنه يزدجرد بن بهرام، المعروف بالأثيم، وكان فظا غليظا لئيم الأخلاق، فسلك أقبح سيرة فاجتمع الناس (2)، ودعوا الله عليه. ذكروا أنهم رأوا فرسا (3) أقبل بشدة عدو حتى وقف على بابه، فتعجب الناس من حسنه فأخبروه بذلك فقام (4)، فنظر إليه فأعجبه، وأمر بإسراجه والجامه. فلما أسرج مسح وجهه وناصيته واستدار حوله، فرفسه رفسة أصاب بها كبده فقتله (5)، ثم هرب الفرس، فلم يعلم أحد أين ذهب. وكانت مدة ملكه احدى وعشرين سنة وخمسة أشهر.
ثم ملك بعده ابنه بهرام جور بن يزدجرد، وكان أبوه يزدجرد أسلمه للنعمان بن امرىء القيس، أحد ملوك اليمن من العرب، وهو صاحب الخورنق، ليربيه ويعلمه الفروسية. فلما مات أبوه تولى الملك شخص يسمى كسرى من ولد أزدشير. فلما بلغ ذلك بهرام جور انتصر بالنعمان (6)، ووقع بينهما مراسلات كثيرة، وآخر الأمر اصطلحا على أن يجعلا التاج بين أسدين شبلين، فمن تناوله فهو الملك. فلما حضر كلاهما الموعد دخل بهرام ووثب على أحد الأسدين فعصره بفخذيه. ثم تناول الأسد الآخر من أذنيه، فلم يزل يضرب رأس أحدهما بالآخر حتى قتلهما، فأخذ التاج ولبسه، واستقر على سرير الملك.
__________
(1) وكانت وفاة بهرام بن سابور في أواخر سنة خمس وتسعين للاسكندر.
المصدر نفسه: 49.
(2) في الأصل و (ب): «فاجتمعوا» والصيغة المثبتة من (ج).
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «وذكروا أنه تقبل الله دعاءهم، وذكروا أنهم رأوا فرسا».
(4) «فقام»: ساقطة من (ب) و (ج).
(5) مات يزدجرد بن بهرام في سنة سبع عشرة وسبعماية للاسكندر.
أبو الفدا، المختصر 1/ 50.
(6) كذا في النسخ الثلاث وفي المصدر نفسه: «فانتصر بالمنذر وبابنه النعمان».(2/148)
وكان عادلا عاقلا، ذا شغف بالقتال صؤولا على أعدائه، وكان يقول الشعر بالعربية، وممّا حفظ من شعره يوم ظفر بخاقان ملك الترك:
أقول له لمّا فضضت جموعه ... كأنّك لم تسمع بصولات بهرام (1)
وإني حامي ملك فارس كلها (2) ... وما خير ملك لا يكون له حام
وله أشعار كثيرة بالعربية والفارسية أعرضنا عن ذكرها طلبا للايجاز. وكان على خاتمه مكتوب: «بالأفعال تعظم الأخطار».
ويقال: إنه دخل أرض الهند متنكرا، فمكث حينا لا يعرف حتى بلغه أن فيلا هايجا بموضع قد قطع الطريق وأهلك الناس، فسألهم أن يدلوه عليه، فرفع أمره إلى الملك، فأرسل معه من يدله. فلما انتهى إليه صعد إلى شجرة لينظر ما يصنع بهرام مع الفيل.
فلما رآه الفيل أقبل إليه، فجعل بهرام يرميه بالنبل، ويثبت النشاب / بين عينيه، ثم دنا وأخذ بخرطوم الفيل وجذبه جذبة خرّ منها ميتا. ثم احتز رأسه وأتى به إلى الملك، فحياه الملك وأحسن إليه.
ثم إن ملكا من أعداء ذلك الملك، أقبل نحو بلاد الملك الذي بهرام عنده، فجزع ذلك الملك منه من كثرة جنود الآتي نحوه، فقال بهرام له: «لا يهولنّك أمره!». فركب بهرام وقال لأساورة الهند: «احرسوا ظهري، وانظروا إلى عملي!». وكانوا قوما لا يعرفون الرمي وأكثرهم رجّالة، فحمل عليهم حملة هزمهم، ثم جعل يضرب الرجل، فيقطعه نصفين، ويأتي الفيل، فيضرب مشفره ويكبه على أم رأسه، ويتناول من عليه فيقتله، ويأخذ الفارس، فيذبحه على قربوس سرجه، ويتناول الرجلين فيضرب أحدهما بالآخر فيموتان معا، ويرمي فلا تقع له نشابة في الأرض، فولوا منهزمين، وحمل أصحابه الذين كانوا معه يحرسون ظهره عليهم، فأكثروا القتل فيهم، فأنكحه ملك الهند ابنته، وأقطعه من بلاده جانبا
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «بصولة بهرام».
(2) كذا في (ج)، وفي (ب): «كله».(2/149)
كبيرا، ثم انصرف بهرام إلى مملكته. ولم تزل تحمل إليه (1) أموال تلك البلاد.
وذكر في «زهرة الأدب» أن بهرام جور خرج يوما متصيدا، فعن له حمار وحش، فاتبعه حتى صرعه، وقد انفرد عن أصحابه، فنزل عن فرسه يريد ذبحه، ومر براع، فقال له: «امسك لي فرسي!». وتشاغل بذبح الحمار، وحانت منه التفاتة فرأى الراعي يقلع جوهر عذار فرسه، وكان العذار ياقوتا أحمر، فحول بهرام جور وجهه عنه، وقال في نفسه: «تأمل العيب عيب، وعقوبة من لا يستطيع الدفاع عن نفسه سفه، والعفو من أفعال الملوك، وسرعة العقوبة من أفعال العامة!» فلما رجع إلى العسكر قال له الوزير: «أيها الملك السعيد، إني أرى جوهرة عذار فرسك مقلعا!». فتبسم وقال: «أخذه من لا يردّه، ورآه من لا ينم عليه، فمن وجد منكم صاحبنا فلا يطالبه!». وكان مغرما بالصيد، فبنى منارة من قرون الظبا وحوافر حمر الوحوش. وفي أواخر حالاته كان كلما اصطاد حمار وحش دمغ أذنه وأطلقه، وآخر أمره أنه هلك، بأن خرج للصيد، وأمعن في طرد الوحش حتى توحل في سبخة هو وفرسه (2).
وكانت مدة ملكه ثلاثا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا.
ثم ملك بعده ولده يزدجرد بن بهرام، فسار سيرة أبيه وقمع الأعداء وعمّر البلاد، وأحضر، حين ملك، رجلا فاضلا من حكماء / عصره، فقال له: «أيها الفاضل، ما صلاح الملك؟». فقال: «الرفق بالرعية، وأخذ الحق منهم من غير مشقة، والتودد إليهم بالعدل وإنصاف المظلوم من الظالم!». قال: «فما صلاح أمر الملك؟». قال: «وزراؤه وأعوانه، إن صلحوا صلح، وإن فسدوا فسد!».
فسار سيرة حسنة (3).
__________
(1) في الأصل: «عليه» وما هنا من (ب) و (ج).
(2) مات بهرام في سنة احدى وأربعين وسبعماية للاسكندر.
أبو الفدا، المختصر 1/ 50.
(3) توفي يزدجرد بن بهرام في سنة تسع وخمسين وسبعماية للاسكندر.
المصدر نفسه: 50.(2/150)
وكانت مدة ملكه ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر، فهلك وخلف ولدين أحدهما هرمز، والآخر فيروز، فتنازعا في الملك بعده.
فملك هرمز، وهو أصغر الولدين، لكونه كان حاضرا عند أبيه حين الوفاة، وكان أخوه الكبير فيروز غايبا في بلاد سجستان. فلما بلغ فيروز موت أبيه وتولية أخيه هرمز هرب إلى خنشوار (1)، ملك الهياطلة، وهم أهل البلاد التي بين خراسان وبين الترك، وهي بلاد طجارستان، واستعان بملكهم على رد ملك أبيه إليه واستخلاصه من أخيه هرمز، فاقتتلا في الري، وظفر فيروز بأخيه فسجنه، وكانت أمهما واحدة.
فملك فيروز وقتل أخاه (2). ثم إنه غزا خنشوار، ملك الهياطلة، حتى أخذه أسيرا، ثم عاهده أن يطلقه ولا يغزوه أبدا، فأطلقه فأخذته الحمية، فغزاه ثانية فظفر به، فقتله.
وظهر في أيامه غلاء شديد، وغارت الأعين والمياه، حتى سيحون وجيحون والفرات، ويبس النبات وهلك الوحش، ودام ذلك مدة سبع سنين، وبعد ذلك أرسل الله المطر وعادت الأكوان إلى أحسن ما كان.
وكان ملكه سبعا وعشرين سنة (3)، وتنازع في الملك إبناه قباذ وبلاش، فغلب بلاش على أخيه.
ثم ملك بلاس، وكان حسن السيرة إلى أن هلك بعد أربع سنين (4). وكان
__________
(1) كذا وفي المصدر نفسه: «الأخشنوار».
(2) قتل هرمز بن يزدجرد في سنة ست وستين وسبعماية للاسكندر.
المصدر نفسه 50.
(3) توفي فيروز في سنة ثلاث وتسعين وسبعماية للاسكندر.
أبو الفدا، المختصر 1/ 51.
(4) توفي بلاش بن فيروز في سنة سبع وتسعين وسبعماية للاسكندر.
المصدر نفسه: 51.(2/151)
قباذ قد سار إلى خاقان، ملك الترك، يستمده على أخيه، فمطله في ذلك أربع سنين، ثم وجه معه جيشا.
فلما قدم المداين، وجد أخاه قد هلك، فتملك عليهم قباذ المذكور، وكان ضعيفا مهينا في ملكه.
وفي أيامه ظهر مزدق (1) الزنديق، وتفسير مزدق جديد الملك، وإليه تضاف المزدقية. ادعى النبوة، وأمر الناس بالتساوي في الأموال، وأن يشتركوا في النساء لأنهم إخوة لأب وأم، آدم وحوى، ودخل قباذ في دينه، فشق ذلك على الناس وعظم عليهم، وأجمعوا على خلع قباذ، / وانضم إلى مزدق جماعة، وقالوا: «نحن نقسم الناس ونرد على الفقراء حقوقهم من الأغنياء!». فكانوا يدخلون على الرجل فيقتلونه على أمواله ونسائه، فوثب رجل من الأشراف، يعرف بابن ساجور، في جماعة من أصحابه على مزدق فقتله، ولم تبق ناحية إلا خرج منها خارج، فخلعوا قباذ، وولّوا مكانه أخاه جاماسب (2) بن فيروز، ولحق قباذ بالهياطلة، فأنجدوه، وانتصر على أخيه جاماسب، وحبسه.
واستمر قباذ في الملك، حتى قتل في بر العرب بمدينة الري (3)، وكان ملكه إلى أن هلك ثلاثا وأربعين سنة.
ثم ملك بعده ابنه أنو شروان العادل، ولما تولى الملك كان صغيرا، فلما استقل بالملك وجلس على السرير، وقال لخواصه: «إني عاهدت الله تعالى إن صار الملك إليّ، أني أعيد آل المنذر إلى الحيرة ثانيا، وأن أقتل طائفة المزدقية الذين أفسدوا في أموال الناس ونسائهم!».
وكان مزدقي قايما إلى جانب السرير، فقال: «هل تقتل الناس جميعا، هذا
__________
(1) كذا وفي المصدر نفسه: «مزدك».
(2) كذا وفي المصدر نفسه: «جاماسف».
(3) وذلك في سنة أربعين وثمانمائة للاسكندر.
أيضا: 51.(2/152)
فساد في الأرض، والله قد ولاك لتصلح لا لتفسد!». فقال له أنو شروان: «يا ابن الخبيثة أتذكر، وقد سألت أبي قباذ بأن يأذن لك في المبيت عند أمي، فأمر لك، فمضيت نحو حجرتها، فلحقت بك وقبلت رجلك، وما زال نتن جواربك في أنفي، منذ ذلك اليوم إلى الآن، وسألتك حتى وهبتها لي ورجعت!». فقال:
«نعم!».
فأمر بقتله فقتل بين يديه، وأخرج وأحرقت جثته، وأمر بقتل توابعه، فقتل منهم خلقا كثيرا، وأثبت ملة المجوسية القديمة، وكتب بذلك إلى أصحاب الولايات.
وقوى جنده بالأسلحة والكراع، وعمّر البلاد وقسم أموال الزنادقة على الفقراء، ورد الأموال التي لها أصحاب إلى أصحابها، وأجرى الأرزاق للضعيفات اللاتي مات عنهن أزواجهن، وأمر أن يزوجن من مال كسرى، وكذلك فعل بالبنات اللاتي لم يوجد لهن أب. وأما / البنون الذين لم يوجد لهم أب فأضافهم إلى مماليكه، ورد المنذر إلى الحيرة، وطرد الحارث عنها، وكان الحارث مزدقيا.
ثم سار إلى الهياطلة مطالبا بدم فيروز، فقتل ملكهم وخلقا كثيرا من أصحابه، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأرسل جيشا إلى اليمن فطردوا الحبشة عنها، وغزا برجان، وأذعن له قيصر بالطاعة. وهو الذي بنى سور باب الأبواب، وجعل مبدأ السور من جوف البحر مقدار ميل، وبناه بلبن الحديد والرصاص، وفي البر على جبل الفتح نحو أربعين فرسخا، حتى وصل إلى بلاد طبرستان، وجعل على ثلاثة أميال من هذا السور بابا من الحديد، وأسكن من داخله أمة من الناس، وذلك لدفع الأمم المتصلة بذلك الجبل.
ولما بنى أنو شروان هذا السور، هابته الملوك وهادته. وكان فيمن ورد عليه رسول ملك الروم قيصر بهدايا وتحف، فنظر إلى إيوانه وحسن بنائه، ورأى اعوجاجا في ميزانه، فسأل عن سبب ذلك، قيل له: «إن عجوزا لها منزل في جانب
الإعوجاج، وإن الملك أرغبها في الثمن، فأبت ولم يكرهها، وبقي الإعوجاج من ذلك على ما ترى!». فقال الرومي: «هذا الإعوجاج أحسن من الاستواء!».(2/153)
ولما بنى أنو شروان هذا السور، هابته الملوك وهادته. وكان فيمن ورد عليه رسول ملك الروم قيصر بهدايا وتحف، فنظر إلى إيوانه وحسن بنائه، ورأى اعوجاجا في ميزانه، فسأل عن سبب ذلك، قيل له: «إن عجوزا لها منزل في جانب
الإعوجاج، وإن الملك أرغبها في الثمن، فأبت ولم يكرهها، وبقي الإعوجاج من ذلك على ما ترى!». فقال الرومي: «هذا الإعوجاج أحسن من الاستواء!».
ولأربع وعشرين سنة خلت من ملكه، ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم في السنة الثانية والأربعين من ملكه. وكفى بعدله شهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم في حقه حيث قال: ولدت في زمن الملك العادل كسرى أنو شروان.
وكان ملكا عادلا عاقلا، مهيبا محببا للرعية، وله أفعال حسنة وآثار جميلة.
وكان يسمى كسرى الخير، وكان وزيره بزرجمهر الحكيم.
وفي «المستطرف» أن كسرى أنو شروان كان له معلم حسن التأديب، يعلمه في حال صباه، حتى فاق في العلوم، فضربه المعلم يوما بغير ذنب فأوجعه، فحقد أنو شروان عليه. فلما ولي الملك، قال للمعلم: ما حملك على ضربي يوم كذا وكذا ظلما! قال له: لما رأيتك ترغب في العلم، رجوت لك الملك بعد أبيك، فأحببت أن أذيقك طعم الظلم لئلا تظلم! فقال أنو شروان: زه، زه!. /
وكانت مدة ملكه ثمانيا وأربعين سنة (1).
ثم ملك بعده ابنه هرمز بن أنو شروان. وكان عادلا يأخد للدّنيّ من الشريف، وبالغ في ذلك حتى بغضه خواصه. وكان اصطنع صندوقا ليلقي المتظلم قصته فيه، والصندوق مختوم بخاتمه لئلا تصل إليه أيدي بطانته ومرزبانيته، ثم أمر باتخاذ سلسلة من الطريق نافدة إلى مكانه، وجعل فيها أجراسا، وكان المتظلم يجيء فيحرك السلسلة، فيعلم به، ويتقدم بإحضاره وإزالة ظلامته.
وكان مهيبا، سايسا، قتّالا، جوادا، مضى من ملكه عشر سنين، ولم يتحرك أحد بحركة، لأن أباه كان مهد الملك وسخر الرعية. ثم خرج عليه عدة أعداء،
__________
(1) توفي في سنة 688للاسكندر.
أبو الفدا، المختصر 1/ 52.(2/154)
منهم صاحب الروم في ثمانين ألف فارس، ومنهم ملك الخزر، ومنهم ملك الترك في جمع عظيم، فأرسل هرمز إليه رجلا من أهل الري يقال له بهرام جوبين (1).
وكان بهرام من قواده، وكان رجلا مبارزا، شجاعا بطلا، وكان وحيد دهره، وكان رجلا طويلا أعجف كأنه الخشب اليابس، ومن ثم لقب بجوبين، فقاتل بهرام الترك وهزمهم، ونهب أموالهم وطردهم، واستولى على بلاد جمة أرسل بها إلى هرمز. ثم بعد ذلك خاف هرمز على ملكه من بهرام جوبين، وجرى بينهما قتال، فصار أكثر العسكر مع بهرام.
وكان أبرويز بن هرمز مطرودا عن أبيه، مقيما بأذربيجان، فبلغه ضعف أمر أبيه، وخشي من استيلاء بهرام جوبين على الملك، فقصد أبرويز أباه ومسكه وسمل عينيه، ولبس التاج وجلس على سرير الملك. فكان أوّل ملك هرمز إلى استقرار ابنه أبرويز في الملك نحو ثلاث عشرة سنة ونصف سنة، وخالفه بهرام جوبين، وقصد أن ينتقم من أبرويز، لما فعله في أبيه هرمز من سمل عينيه، وجرى بينهما مراسلات. وآخر الحال أن بهرام جوبين تغلّب، وخشي أبرويز أن يقيم والده الأعمى صورة ويستولي على الملك، فاتفق مع خواصه على قتل أبيه هرمز فخنقه، فلحق أبرويز بملك الروم مستنجدا به.
وأقبل بهرام جوبين ولبس التاج، وجلس على سرير الملك، فوصل أبرويز إلى ملك الروم موريقش، وقدم إليه هدايا / كثيرة، فحمل إليه موريقش، ملك الروم، ألفي ألف دينار، وأنجده بماية ألف فارس، وألف ثوب من الديباج المنسوج بالذهب الأحمر، وعشرين جارية، من بنات ملوك برجان والجلالقة والصقالبة وغيرهم من الأجناس المختلفة، على رؤوسهن أكاليل الجوهر، وزوّجه بابنته مارية، فسار إليه بمن كان معه من العساكر، فالتقيا وجرى بينهما قتال كثير، وولى بهرام جوبين هاربا إلى خراسان.
ثم ملك أبرويز خسرو بن هرمز بعد طرد بهرام جوبين، وفرق في عسكر
__________
(1) كذا وفي أبو الفدا، 1/ 53: «بهرام جوبين بن بهرام خشنش».(2/155)
الروم أموالا جليلة، ثم أعادهم إلى ملكهم، وهو الذي أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأرسل إليه الكتاب مع دحية الكلبي يدعوه إلى دين الإسلام، فمزقه أبرويز، فدعا عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يمزق الله ملكه كل ممزق. فأرسل أبرويز يأمر بازان، ملك اليمن، بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فعين بازان إلى المدينة الشريفة قاصدا ينظر في قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيلة، فأوحى الله تعالى إلى نبيه ما أضمر بازان وقاصده، فأحضر القاصد وأخبره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن كسرى أبرويز قتله أولاده اليوم، فردّ خائبا خاسرا. فلما صح ذلك أسلم بازان وحسن إسلامه، وكان مدة ملك أبرويز ثمان وثلاثين سنة.
وفي أيامه، كانت حروب دقيار، وجمع في أيامه من الأموال ما لم يجمعه غيره من الملوك. روي أنه أصاب سفينة أتت بها الريح، وقصّته أنه لما وقع بين كسرى وقيصر مخالفة وقصد كسرى ملكه وسار إليه، فخاف قيصر وحمل خزاين آبائه وأجداده في السفن، فأدتها الريح إلى كسرى، والفرس بالغوا في ملكه وسلطنته.
وروى حمزة الأصفهاني أن أبرويز كان له أحد عشر ألف جارية، وستة آلاف خادم وحارس، وثلاثة آلاف امرأة، وعشرون ألف وخمسماية فرس، ويقال إنه خرج في بعض أعياده، وقد صفّت له الجيوش، وفيها صف ألف فيل. وقد أحدقت به خمسون ألف فارس دون الرجالة (1)، فلما رأته (2) الفيلة سجدت، فما رفعت رؤوسها حتى ضربت بالمحاجن، وراطنها الفيالون بالهندية.
وفي عهده ولد الفيل بخراسان، ولم يعهد هناك للفيل ولادة، / وكان حين يركب يمشي معه مايتا إنسان، معهم المجافر والمعاطر ليشم الروايح الطيبة.
وكان له ألف إنسان برسم رشّ الماء في الطريق لإطفاء الغبار. وكان رجلا حسن الوجه، حسن الشمايل، شجاعا ذا قوة.
__________
(1) كذا وفي (ب): «الرجال» وفي (ج): «الراجلة».
(2) في الأصل و (ب): «رآه» وما أثبتناه من (ج).(2/156)
وكانت له قصعة ذهب ليّن كالشمع، يصنع منها ما يريد من غير مساس النار.
وكانت له قصعة إذا شرب ماؤها تمتلىء بنفسها من غير أن يملأها أحد.
وكان تزوج بشيرين المغنية معشوقة فرهاد، ولهما أخبار وسير يطول شرحها، وقد صنّف في وقايعهما كتب بالفارسية والتركية، وبنى لها قصرا بقرب حلوان (1).
ثم إن أبرويز طغى وبغى، واحتقر الأكابر وظلم الرعية. وكان في حبسه ستة وثلاثون ألف رجل، وكان متولي الحبس رجل يقال له زادان (2)، قد تغيّر على أبرويز، فاتفق مع المحبوسين فأفرج عنهم، وساروا وهجموا على كسرى أبرويز في داره، فهرب فوجدوه وقيّدوه وحبسوه في دار رجل ووكل به جماعة (3)، ومضى إلى ابنه شيرويه وأجلسه مكان والده، وأطاعه الخاص والعام، وجرى بين شيرويه وبين أبيه مراسلات وتقريع، وآخر الأمر قال شيرويه لأبيه: لا تعجب إن أنا قتلتك، فإني أقتدي بك! فأرسل شيرويه بعض أولاد الأساورة الذين قتلهم أبرويز، وأمرهم بقتله فقتلوه (4).
ومعنى أبرويز بالعربية، المظفّر، وخلّف أبرويز ثمانية عشر ولدا غير شيرويه، فقتلهم شيرويه.
ولما قتل شيرويه أباه أبرويز، راود زوجته شيرين على نفسها، فامتنعت فضيّق عليها ورماها بالزنا، وأراد قتلها إن لم تفعل، فقالت: «أفعل على ثلاث شرائط!» قال: «وما هي؟» قالت: «تسلّم لي قتلة زوجي أقتلهم، وتصعد المنبر فتبرّيني مما قذفتني به، وتفتح لي ناووس أبيك، فإن له وديعة عندي عاهدني إن
__________
(1) من مدن اقليم الجبال، وقد عدها بعضهم في ضمن العراق العربي.
لسترنج: 226.
(2) كذا في النسخ الثلاث وفي المختصر (1/ 54): «زادان فروخ».
(3) قارن برواية المصدر نفسه.
(4) وذلك في سنة أربعين وتسعمائة للاسكندر.
المصدر نفسه: 55.(2/157)
تزوجت بعده رددتها إليه!». فدفع لها قتلة زوجها فقتلهم، وبرّأها (1) مما قال، وفتح لها ناووس أبيه وبعث الخدم معها، فجاءت إلى أبرويز فعانقته، ومصت فصا مسموما كان معها، فماتت من وقتها، وأبطأت على الخدم، فصاحوا فلم تتكلم، فدخلوا، فوجدوها معانقة لبرويز ميتة.
وأم شيرويه مارية بنت قيصر ملك الروم، وكان رديء المزاج كثير الأمراض صغير الخلق، وكانت إخوته كأنهم عوالي الرماح (2)، قد كملوا في الخلق والخلق والأدب ثم ندم على قتل إخوته، وجزع عليهم جزعا شديدا.
وكان أبوه أبرويز وضع في الخزاين براني سم (3)، وكتب عليها نافع مجرب للجماع. فلما تملك شيرويه وصفي له الأمر، دخل الخزينة فنظر إلى البرنية مكتوبا عليها، وكان مغرما بالجماع، فلما ذاق منها مات في الحال. والفرس تسمّيه الغشوم.
وكانت مدة ملكه ثمانية أشهر، وعمره اثنتان وعشرون سنة.
ثم ملك / بعده أزدشير بن شيرويه، وكان عمره سبع سنين، وحضنه رجل يقال له بهادر حشيش (4)، فأحسن سياسة الملك، فسار به شهريار (5) إلى أنطاكية فقتله، وقتل بهادر حشيش معه، وكانت مدة ملكه سنة وستة أشهر.
ثم ملك بعده شهريار، وكان من مقدمي الفرس، وكانت الشام إقطاعه، فاستولى على الملك ولبس التاج، وجلس على سرير الملك، ولم يكن من أهل بيت المملكة، فوثب عليه جماعة من الحرس وهو ساير إلى الصيد، وألقوه عن فرسه وقتلوا جماعة من أصحابه، وشدّوا في رجل شهريار حبلا، وجرّوه إقبالا وإدبارا لكونه تعرض للملك، وليس من أهله.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وأبرأها».
(2) الأصل: «الرمح» وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «في الخزاين البراني سم».
(4) كذا وفي المختصر (1/ 55): «مهاذر خشنش».
(5) كذا وفي المصدر نفسه: «شهريران».(2/158)
ثم ولّوا المملكة بوران بنت كسرى أبرويز، فأحسنت السيرة ودارت مع الروم وملكت سنة وأربعة أشهر، ثم هلكت.
فملك خشنشد (1)، من بني عم كسرى أبرويز. ولما ملك لم يهتد إلى تدبير المملكة فقتل، فكانت مدة ملكه نحوا من شهر.
ثم ملكت آزريدخت (2)، بنت كسرى أبرويز، وأظهرت العدل والإحسان، وكان أعظم الفرس حينئذ فروخ هرمز (3)، والي خراسان، وكانت آزريدخت من أحسن النساء صورة، فخطبها فروخ هرمز ليتزوجها، فامتنعت من ذلك، ثم أجابته بالاجتماع به في الليل ليقضي وطره منها، فلما حضر أمرت متولي حرسها فقتله.
وكان لفروخ ابن يقال له رستم، وقد ولاه على خراسان نيابة عنه حين توجه بسبب آزريدخت، فلما سمع بقتل أبيه جمع عسكرا وقصدها فقتلها آخذا بثأر أبيه، وكان ملكها ستة أشهر.
واختلف عظماء الفرس فيمن يولونه الملك، فلم يجدوا غير رجل من عقب أزدشير بن بابك اسمه كسرى فملكوه، ولم يلق به الملك فقتلوه بعد أيام، فلم يجدوا من يملّكونه من بيت الملك، فوجدوا رجلا يقال له فيروز يزعم أنه من نسل أنو شروان، فملكوا فيروز، المذكور ووضعوا التاج على رأسه، وكان رأسه ضخما، فقال: ما أضيق هذا التاج!. فتطير / العظماء من افتتاح كلامه بالضيق، وقالوا: هذا لا يصلح للملك! فقتلوه.
ثم ملكوا مكانه فرخ زاد خسرو، من أولاد أنو شروان، ملك ثلاثة أشهر.
ثم ملك بعده يزدجرد بن شهريار الساساني، وكان مختفيا باصطخر، لما قتل أبوه مع إخوته حسبما ذكرناه آنفا.
وكان ملك يزدجرد المذكور كالخيال بالنسبة إلى ملك آبائه، وكانت الوزراء
__________
(1) كذا وفي المختصر: «خشنشده».
(2) كذا وفي المصدر نفسه «أرزمى دخت».
(3) كذا وفي المصدر نفسه: «فرخ هرمز».(2/159)
تدبّر ملكه، وضعف ملك فارس، واجترأ عليهم أعداؤهم، وغزا المسلمون بلادهم. وكان رستم الشديد الأرمني وزيره وقائد جيوشه، فقال له: «خذ من الخزاين السلاح والعساكر ما تريد، واكفني أمر العرب النازلين بلادنا!». فذهب رستم في مايتي ألف مقاتل مع خمسة آلاف أمير تدور عليهم رحاء الحرب، ونقضت دهاقنة العراق عهودهم مع المسلمين، فوصل الخبر إلى أمير المؤمنين عمر الفاروق، رضي الله عنه، فوجه العساكر المنصورة من المدينة المحمدية مستمدّا من الحضرة النبوية، صلوات الله عليه وسلامه، وسعد بن أبي وقاص صاحب الجيش.
فلما اجتمع عساكر المسلمين مع عسكر رستم، رأى رستم رؤيا هالته، وكان منجما كاهنا، كأن يزدجرد يجمع السلاح من مماليك فارس ويعطيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعطيه أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، وهو يقسمها بين العساكر الإسلامية، فازداد رستم غمّا فجبن، وكان يكره حرب العرب.
فلما التقى الفريقان، وتزاحف الناس، اقتتلوا أياما، فهرب رستم ورمى نفسه في نهر العصق، فاقتحم هلال بن علقمة، رضي الله عنه، النهر فأخرجه منه إلى البر فقتله، ثم صعد إلى السرير، وصاح: قتلت رستما وربّ الكعبة!.
وفي «المستطرف» أن عمرو بن معدي كرب الزبيدي، صاحب الصمصامة، حمل يوم القادسية على رستم، وكان رستم على فيل، فضرب عمرو الفيل فقطع عرقوبه (1)، فسقط رستم وسقط الفيل عليه مع خرج كان فيه أربعون ألف دينار، فقتل رستم وانهزمت العجم، وقد بلغ ثمن تاجه ماية ألف دينار، فهزموهم وطردوهم، وفر يزدجرد إلى أرض الجبال، وبعث / خزاينه إلى الصين، ولم يجتمع شملهم، فقتل منهم ثلاثون ألفا.
وكان قتل رستم سنة أربع عشرة من الهجرة، وغزا المسلمون بلادهم في
__________
(1) العرقب: هو الوتر الذي خلف الكعبين، بين مفصل القدم والساق.
ابن منظور، لسان 1/ 594.(2/160)
خلافة عثمان، رضي الله عنه، وقتل يزدجرد بعد ذلك بمدة، وكان عمره إلى أن قتل عشرين سنة.
وهو آخر من ملك من ملوك الفرس، وزال ملكهم بالإسلام زوالا لا يرجى له القيام، وكانت عدة ملوك الفرس من كيومرت إلى يزدجرد المذكور ثمانين ملكا منهم ثلاث نسوة، والله أعلم بغيبه وأحكم، فسبحان من لا يزول ملكه (1).
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول».(2/161)
الفصل الثاني في ذكر ملوك الهند وأبنائها وبدو ممالكها وآرائها
ذكر المسعودي في «مروج الذهب» أن الهند كانت فيها الصلاح والحكمة، فإنه تجيلت الأجيال وتحزبت الأحزاب فيها، فقال كبراؤهم: نحن أهل البدو، وفينا التناهي، وفينا هبط آدم، عليه السلام، من الجنة، ومنّا سرى إلى الأرض فالرياسة لنا، ونصبت لها ملكا، وهو البهر الأكبر (1) والملك الأعظم، ظهرت في أيامه الحكمة، وتقدمت الأطباء والعلماء واستخرجوا الحديد من المعادن، وضربت في أيامه السيوف والخناجر، وأكثر من أنواع المقاتل وسبّل الهياكل (2)، ورصعها بالجواهر المنيرة، وصوّر فيها الأفلاك والبروج (3)، وكيفية العالم.
فكانت مدة ملكه إلى أن هلك ثلاثماية سنة وستين (4) سنة، وولده يعرفون بالبراهمة، والهند تعظّمهم، وهم أعلا أجناسهم وأشرفهم، ولا يأكلون شيئا من الحيوان.
ولما هلك أكبرهم، جزعت عليه الهند جزعا شديدا، وملك ابنه
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «البهرمن الأكبر» وفي المسعودي (مروج الذهب 1/ 149): «البرهمن الأكبر».
(2) كذا في (ب) وفي (ج) «وأكثر من أنواع المقاتلة وسبّل الهياكل» وفي المسعودي: «وكثير من أنواع المقاتل وشيّد الهياكل».
(3) كذا وفي المسعودي: «والبروج الاثني عشر».
(4) كذا وفي المصدر نفسه (1/ 154): «ثلثماية سنة وستا وستين سنة».(2/162)
الباهبود (1)، فسار فيهم سيرة أبيه، وقدم الحكماء وزاد في مراتبهم، فكان مدة ملكه إلى أن هلك ماية سنة.
وفي أيامه عمل النرد وأحدث اللعب بها، وجعل ذلك مثالا للمكاسب وأنها لا تنال [بالكيس ولا] (2) بالحيل في هذه الدنيا، وأن الرزق لا يتأتى فيها بالحذق.
ثم ملك مكانه رامان (3)، بعد الباهبود، فكان مدة ملكه ماية سنة وخمسين سنة، وله سير وأخبار وحروب مع ملوك الفرس وملوك الصين.
ثم ملك بعده فور، وهو الذي حارب الاسكندر فقتله الاسكندر مبارزة، فكان ملك فور إلى أن هلك ماية وأربعين سنة.
ثم ملك بعده / دبشليم (4)، وهو الواضع «كتاب كليلة ودمنة» الذي ترجمه ابن المقفع بلسان العربية من لسان الهند، فكانت مدة ملكه ماية سنة وعشرين (5)، سنة.
ثم ملك بعده يلهيت (6)، ووضع في أيامه الشطرنج، والواضع له صصه بن داهر الهندي، فقضى بلعبها على النرد وبيّن من الظفر الذي يناله الحازم، والنكبة التي تلحق الجاهل (7)، وكان مدة ملكه ثمانين سنة.
ثم ملك بعده كورش (8)، فأحدث للهند آراء في الديانات على حسب ما رأى من صلاح الوقت، وخرج من مذاهب من سلف، وعمل له كتاب في معرفة
__________
(1) في الأصل و (ب): «الناهود» وما أثبتناه من (ج) والمسعودي.
(2) ما بين الحاصرتين من المسعودي 1/ 158.
(3) في الأصل و (ب): «دامان» وما هنا من (ج) والمسعودي.
(4) في الأصل و (ب): «دابشليم» وما أثبتناه من (ج) والمسعودي.
(5) كذا في النسخ الثلاث وفي المسعودي (1/ 159): «ماية وعشر سنين».
(6) في الأصل و (ب): «بلهيب» والصيغة المثبتة من (ج) والمسعودي.
(7) كذا في الأصل والمسعودي وفي (ب) و (ج): «الخامل».
(8) كذا في الأصل و (ج) والمسعودي وفي (ب): «كورشى».(2/163)
العلل والعلاجات، وشكّلت الحشايش وصوّرت. وكانت (1) مدة ملكه ماية وعشرين سنة.
ولما هلك، اختلفت الهند في آرائها وانفرد كل رئيس بناحية، فملك على أرض السند ملك، وملك أرض الفتوح (2) ملك، وملك على أرض قشمير (3)
ملك. وتملّك مدينة المادكين، وهي الحوزة الكبرى، ملك يسمى البلهرا (4)، وهذا أول ملك سمي بهذا الإسم، فصارت سمة لمن ولّي هذه الحوزة من الملوك، والملك مقصور في أهل بيت لا ينتقل منهم إلى غيرهم، كذلك بيت الوزارة.
ومن عادة ملوكهم وخاصتهم وعامتهم أنهم لا يرون حبس الريح في أجوافهم، وليس هو عندهم عيبا، وأقبح ما يكون عندهم السعال والجشوة، لأن الريح واحدة في الجوف، وإنما تختلف أسماؤها باختلاف مخارجها، فما يذهب صاعدا سمي جشاء، وما يذهب سفلي سمّي فسوا، ولا فرق بينهما إلا باعتبار المخارج.
وأعظم ملوك الهند في وقتنا هذا جلال الدين الأكبر، وغالب ملوك الهند تتوجه إليه، وله جيوش وفيلة لا يدري كثرتها، وأكثر أهل الهند يحرقون أمواتهم، ويذرون رمادهم في الرياح، لغرض يذكرونه في المستقبل.
وفي الهند نهر يسمى بالكند، وهو نهر حاد الانصباب، سريع الجريان، بحيث يخطف البصر عليه، وتعذب أكثر أهل الهند أنفسها بالحديد، وتغرقها زهدا في العالم، ورغبة في النقل عنه، وذلك أنهم يقصدون موضعا في أعالي هذا النهر، وهناك / جبال عالية وأشجار عادية على حافة النهر، ورجال عندهم جلوس وحدايد وسيوف منصوبة على تلك الشجر وقطع من الخشب منجورة، فتأتيهم
__________
(1) الأصل: «وكان».
(2) كذا في (ج) وفي المسعودي (1/ 162): «الفتوج».
(3) كذا وفي المصدر نفسه «القسمير» والمقصود مدينة كشمير المعروفة.
(4) كذا في الأصل و (ج) والمسعودي وفي (ب): «البهلرا».(2/164)
أهل الهند من الممالك النائية والبلدان القاصية، فيسمعون كلام أولئك الرجال المرتبين على هذا النهر، وما يقولون من تزهيدهم في هذا العالم والترغيب فيما سواه، فيطرحون أنفسهم من أعالى تلك الجبال العالية على تلك الأشجار العادية والسيوف والحديد المنصوبة، فيتقطعون قطعا، ويصيرون إلى هذا النهر أجزاء.
وما ذكرناه فمشهور عندهم، وأهل الهند تعذّب نفسها بأنواع العذاب، وقد تيقنت لما ينالها من النعيم في المستقبل، فيصير الواحد إلى باب الملك، فيستأذن في إحراقه لنفسه فيدور في الأسواق، وقد أجّجت له النار العظيمة، وعليها من قد وكل بما يقدها. ثم يسير في الأسواق وقدامه الطبول والصنوج، وعلى بدنه أنواع من خرق الحرير قد خرقها (1) على نفسه، وحوله أهله وقرابته، وقد سلخ جلد رأسه ووضع عليه اكليل من الريحان، وقد جعل على بدنه الكبريت والسندروس، وروايح دماغه تفوح، وهو يمضغ ورق الفلفل تجلدا، فإذا أشرف على النار، وقد صارت جمرا كالتل العظيم، أخذ الخنجر فوضعه على فؤاده فشقه، ثم أدخل يده الشمال فقبض على كبده فجذب منه قطعة وهو يتكلم، فقطعها بالخنجر ودفعها إلى بعض إخوانه، متهاونا بالموت ولذة بالنقلة، ثم هوى بنفسه في النار (2).
وإذا مات ملك من ملوكهم أو قتل نفسه، أحرق خلق كثير من الناس أنفسهم لموته. وللهند أخبار كثيرة عجيبة تجزع من سماعها النفوس (3).
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «مزقها».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «فإذا أشرف على النار، أهوى بنفسه فيها».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «تجزع من سماعها النفوس وتشمئز منها العقول».(2/165)
الفصل الثالث في ذكر ملوك الصين في سالف الدهر والحين
قد تنازع الناس في أنساب أهل الصين وبدئهم، فذهب كثير منهم أن عامور بن تنويل بن يافث بن نوح (1)، عليه السلام، لما قسم الأرض بين أولاده، وانتشروا في الأرض، فصاروا عدة ممالك فمنهم: الديلم والجيل والطيلسان والبرير وفرغان وأهل جبل الفتح من أنواع الأمم، فبنوا المدن والضياع وكوّروا / الكور، ومصّروا المدن.
وكان أول من ملك عليهم منهم نسطرصاس بن فاغور (2)، وكان دار ملكه مدينة أنموا، وهي مدينة عظيمة، وكان مدة ملكه ثلاثماية سنة (3)، وفرّق أهله في تلك الديار وشقق الأنهار، وقتل السباع وغرس الأشجار، وأطعم الثمار.
فلما هلك، ملك ولده غزوان (4)، فجعل جسد أبيه في تمثال من الذهب جزعا عليه وتعظيما له، وأجلسه على سرير من الذهب مرصعا بالياقوت والجوهر، وأقبل يسجد لأبيه، وهو في جوف تلك الصورة هو وأهل مملكته في طرفي النهار إجلالا له، وعاش (5) مائتي سنة وخمسين سنة.
__________
(1) كذا وفي المسعودي (1/ 286): «ولد عامور بن سوبيل بن بافث بن نوح».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «نسطرصاس بن عامور» وفي المصدر نفسه: «نسطرطاس بن ياعور بن مدتج بن عامور بن بافث بن نوح».
(3) كذا وفي المصدر نفسه: «ثلثماية سنة ونيفا».
(4) كذا وفي المصدر نفسه: «عوون».
(5) كذا وفي المصدر نفسه: «وعاش بعد أبيه».(2/166)
فلما هلك، ملك ولد له يقال له غيزور (1)، فجعل جسد أبيه في تمثال من الذهب، وجعله دون مرتبته، وأجلسه على سرير من الذهب، فكان يبدأ بالسجود للأول، ثم لأبيه (2) مع أهل مملكته، فكان مدة ملكه نحوا من مائتي سنة، ثم هلك.
فملك ولده عينان (3)، فجعل أباه كما سبق من أفعالهم، وطال ملكه واتصلت بلاده ببلاد الترك، فعاش أربعماية سنة، ثم هلك.
فملك ولده بوبايان (4)، فجعل جسد أبيه كما تقدم، فاستقامت له الأمور، وزعم أن الملك لا يثبت إلا بالعدل، لأن العدل ميزان الرب. وضم (5) الناس إلى ديانة اخترعها برأيه، وأمرهم أن يعملوا (6) بها، فكانت مدة ملكه نحوا من ماية وخمسين سنة. وجعلوا يوم وفاته عيدا يجتمعون فيه عنده، وصوروا صورته على أبواب المدينة وعلى الدنانير والفلوس، وجعلوه في تمثال من الذهب كما فعل بآبائه.
ولم يستقم لهم حال حتى حدث في الملك أمر زال به النظام، وانتقضت به الأحكام، وهو أن نبغ خارجي من غير بيت الملك، يقال له يانسز (7)، فاجتمع إليه أرباب الشرور، واستولى على الملك إلى أن استنجد ولد الملك بخاقان ملك الترك، فالتقى الفريقان واستمر الحرب نحوا من سنة حتى قتل الخارجي.
__________
(1) كذا وفي المصدر نفسه: «عيثدون».
(2) كذا وفي المصدر نفسه: «ويبدأ بجده الأول ثم بأبيه».
(3) كذا وفي المصدر نفسه «عيثنان».
(4) كذا وفي المصدر نفسه: «توتال» مع الإشارة هنا إلى أن المسعودي قد ذكر ملكا قبل توتال يدعى «حراتان».
انظر: المسعودي 1/ 292وما بعدها.
(5) كذا في (ج) وفي (ب): «وتلمّ».
(6) عن مضمون هذه الديانة، راجع: المسعودي 1/ 295وما بعدها.
(7) كذا في (ب) وفي (ج) والمسعودي (1/ 302): «يانشو».(2/167)
وتولى الملك ولد الملك اسمه يعفور، وهو الذي ذكره صاحب «السكردان» أنه راسل كسرى أنو شروان بكتاب مضمونه: «من يعفور / ملك الصين، صاحب قصر الدر والجوهر، الذي يجري في قصره نهران يسقيان العود والكافور، الذي توجد رائحته على فرسخين، والذي تخدمه بنات ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل أبيض، إلى أخيه كسرى أنو شروان»، وأهدى إليه فرسا وفارسا من در منضد عينا الفرس، والفارس من ياقوت أحمر وقايم سيفه منضّد بالجوهر، وثوب صيني فيه صورة الملك يتلون بألوان مختلفة في سفط من ذهب تحمله جارية تغيب في شعرها، تتلألأ جمالا، وغير ذلك مما تهديه الملوك إلى أمثالها.
وفي كتاب «الفرج بعد الشدة» أن الاسكندر، لما انتهى في مسيره إلى الصين وحاصرها، أتاه حاجبه ذات ليلة وقد مضى من الليل شطره، فقال له: «أتى رسول ملك الصين يستأذن بالدخول عليك». فقال: «ائذن له!».
فلما دخل وقف بين يديه وقبّل الأرض، ثم قال: «إن رأى الملك أن يخلى المجلس، فليفعل!».
فأمر الملك من بحضرته بالإنصراف، فانصرفوا، ولم يبق إلا حاجبه، فقال له الرسول: «إن الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه أحد غيرك!».
فأمر الملك بتفتيشه ففتش، فلم يوجد معه شيء من السلاح، فوضع الإسكندر بين يديه سيفا مصلتا، وقال له: «قف مكانك، قل ما شئت!». وأمر حاجبه بالإنصراف.
فلما خلي المكان، تقدم الرسول وقال له: «اعلم اني أنا ملك الصين لا رسوله، وقد حضرت بين يديك لأسألك عما تريد مني، فإن كان مما يمكن الانقياد له، ولو على أصعب الوجوه أجبت إليه، واستغنيت أنا وإياك عن الحرب!». فقال له الاسكندر: «وما أمّنك مني؟». قال: «لعلمي بأنك رجل عاقل، وأنه ليس بيننا عداوة متقدمة، ولعلمي أنك تعلم أن أهل الصين متى قتلتني لا يسلمون إليك
ملكهم، ولم يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا ملكا من أولادي، ثم تنسب أنت إلى عين (1) الجهل وضد الحزم!».(2/168)
فلما خلي المكان، تقدم الرسول وقال له: «اعلم اني أنا ملك الصين لا رسوله، وقد حضرت بين يديك لأسألك عما تريد مني، فإن كان مما يمكن الانقياد له، ولو على أصعب الوجوه أجبت إليه، واستغنيت أنا وإياك عن الحرب!». فقال له الاسكندر: «وما أمّنك مني؟». قال: «لعلمي بأنك رجل عاقل، وأنه ليس بيننا عداوة متقدمة، ولعلمي أنك تعلم أن أهل الصين متى قتلتني لا يسلمون إليك
ملكهم، ولم يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا ملكا من أولادي، ثم تنسب أنت إلى عين (1) الجهل وضد الحزم!».
فأطرق الاسكندر مفكرا في مقالته، ثم رفع رأسه إليه، وقد تبين له صدق مقالته، وعلم أنه رجل عاقل، فقال: «أريد منك ارتفاع ملكك ثلاث سنين عاجلا، ونصف ارتفاعه في / كل سنة». فقال ملك الصين: «هل غير هذا؟».
قال: «لا!». قال: «قد أجبتك إلى ذلك!». قال الاسكندر: «قنعت منك لأجل مجيئك على السدس». فشكره وانصرف.
فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس، أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض كثرة، وأحاط بجيش الاسكندر حتى خافوا الهلاك، فتواثبوا إلى خيولهم، فركبوها واستعدوا. فبينما هم كذلك، إذ ظهر ملك الصين على فيل عظيم وعلى رأسه التاج.
فلما وصل إلى الاسكندر، ترجل ومشى إليه، وقبل الأرض بين يديه، فقال الاسكندر: «أغدرت؟». فقال: «لا والله!». فقال: «ما هذا الجيش؟». قال:
«أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلّة ولا ضعف ولا ذلّة، والذي غاب عنك من الجيش أكثر مما ترى، لكني لما رأيت العالم الأثير مقبلا عليك، ممكّنا لك ممن هو أقوى منك وأكثر عددا، فعلمت أن من حارب الإله غلب وقهر، فأردت طاعته بطاعتك، والذلة لأمره بالذلة لك!». فقال له الاسكندر: «ليس ينبغي أن يؤخذ من مثلك، وما رأيت أحدا يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك عن جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك!». فقال له ملك الصين: «أما إذا فعلت فإنك لا تخسر!». ثم قدم له ملك الصين، من الهدايا والتحف، أضعاف ما أمله، ورحل الاسكندر عنه.
وفي «ابتلاء الأخبار» أن الاسكندر، لما سار في الأرض، سمعت به ملكة الصين الأقصى، فأحضرت من أبصر صورة الاسكندر ممن يعرف التصوير،
__________
(1) الأصل: «غير» وما هنا من (ج).(2/169)
وأمرتهم أن يصوروا صورته، فصوروه في البسط والأواني والحيطان، وصارت تنظر إلى ذلك حتى أثبتت معرفته.
فلما قدم عليها الاسكندر ونازل بلدها، قال الاسكندر للخضر يوما: «قد خطر لي شيء أقول لك». قال: «وما هو؟» قال: «أريد أن أدخل هذا (1) البلد متنكرا وأنظر كيف يعمل فيها!». قال: «افعل ما بدا لك!». فلما دخلها الاسكندر ونظرت إليه الملكة من حصنها فعرفته بالصورة التي عندها، فأمرت بإحضاره.
فلما مثل بين يديها أمرت / به، فوضع في مطمورة لا يعرف الليل من النهار، فبقي فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، حتى كادت قوته أن تسقط، واختبط عسكره لأجل غيبته والخضر يسكنهم ويسليهم.
فلما كان في اليوم الرابع، مدت ملكة الصين سماطا نحو ماية ذراع، وضعت فيه أواني الذهب والفضة وأنواع الجواهر، وما في ذلك شيء يؤكل، إلا أنه مال لا يعلمه إلا الله تعالى، وأمرت فوضع في أسفل السماط صحن، فيه رغيف من خبز البر، وشربة من الماء، وبقية أواني السماط مملوءة ذهبا وفضة.
وأمرت بإخراج الاسكندر وأجلسته على رأس السماط، فنظر إليه فأبهره ذلك، وكان يبصر الجواهر في الأواني، ولم ير فيها شيئا مأكولا.
ثم نظر، فرأى في أدنى السماط إناء فيه طعام، فقام من مكانه ومشى إليه وجلس عنده، فأكل.
فلما فرغ من أكله شرب من الماء قدر كفايته، ثم حمد الله تعالى، وقام، فجلس مكانه أولا، فخرجت عليه الملكة، وقالت: «يا سلطان أما صد عنك هذا الذهب والفضة والجواهر سلطان الجوع، وقد أغناك عن هذا كله ما قيمته درهم واحد، فما لك والتعرض إلى أموال الناس، وأنت بهذه المثابة؟». فقال لها
__________
(1) في الأصل: «هذه» وما هنا من (ج).(2/170)
الاسكندر: «لك بلادك وأموالك، ولا بأس عليك بعد اليوم!». فقالت: «أما إذا فعلت هذا، فإنك لا تخسر!». ثم قدمت له جميع ما قد كانت أحضرته، وكان شيئا يحيّر الناظر ويسرّ الخاطر، فنزل إلى عسكره، وقبل هديتها ورحل عنها، وأنه دعاها إلى الله تعالى، فآمنت، وآمن أهلها.(2/171)
الفصل الرابع في ذكر ملوك السريانيين وما وقع لهم قبل هذا الحين
ذكر أهل العناية بأخبار ملوك العالم، أن أول ملوك السريانيين بعد الطوفان، وقد توزع فيهم وفي النبط فمن الناس من رأى أن السريانيين هم النبط، ومنهم من رأى أنهم إخوة، ومنهم من رأى غير ذلك.
وكان أول من ملك رجل منهم يقال له سوسان، وكان أول من وضع التاج على رأسه وانقادت له ملوك الأرض. وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة باغيا في الأرض، مفسدا للبلاد سفاكا للدماء.
ثم ملك بعده ولده بريد، وكانت مدة ملكه عشرين سنة.
ثم ملك بعده / سماسير سبع سنين.
ثم ملك بعده أهريموز عشر سنين، فخط الخطط وكور الكور، وجدّ في أمره وأتقن ملكه وعمارة أرضه. فلما استقامت له الأمور وانقاد له الجمهور، ووقع بينه وبين ملوك الهند حروب نحوا من سنة، فقتل ملك السريانيين واحتوى ملك الهند على الصقع، وملك جميع ما فيه. فسار إليه بعض ملوك الغرب وملك العراق، ورد الملك للسريانيين، فملكوا عليهم رجلا منهم يقال له سرا، وكان ولد الملك المقتول، فكان مدة ملكه إلى أن هلك ثماني سنين.
ثم ملك بعده أهرايمون، وكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة.(2/172)
وملك بعده ابن يقال له هوريا، فزاد في العمارة، وأحسن في الرعية، وغرس الأشجار، فكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ماروت، واستولى على الملك، فكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة.
ثم ملك بعده أزور وجلجاس، ويقال إنهما كانا أخوين، فأحسنا السيرة، وتعاضدا على الملك، ولم يتم لهما الأمر.(2/173)
الفصل الخامس في ذكر ملوك بابل وهم ملوك النبط (1)
ذكر المسعودي في «مروج الذهب» أن ملوك بابل هم أول ملوك العالم، وهم الذين شيدوا البنيان، ومدّنوا المدن وكوروا الكور، وحفروا الأنهار وغرسوا الأشجار ونصبوا قوانين الحرب.
وأما الفرس الأولى إنما أخذت الملك من هؤلاء. فكان منهم نمرود الجبار، فكانت مدة ملكه نحو ثمانماية سنة، منها أربعماية كان صحيحا، وأربعماية كان سقيما، وهو الذي احتفر أنهارا بالعراق أخذها من الفرات، فيقال إن ذلك نهر كوثا من طريق الكوفة. وعاش نمرود بعد إلقاء إبراهيم، عليه السلام، في النار أربعماية سنة لا يزداد إلا عتوا. فبعث الله إليه ملكا فدعاه للإسلام، فلم يؤمن، فقال نمرود للملك: «ألربّك جنود؟». قال: «نعم!». قال: «فليقاتلني!» قال: «اجمع جنودك إلى ثلاثة أيام!». فجمع جنوده وحشد، فأمر الله خزنة البعوض أن يفتحوا منها بابا، ففتحوا.
فلما كان في اليوم الثالث، أحاطت بهم البعوض، فأكلت منهم اللحوم، وشربت الدماء، فلم / يبق من جنوده ودوابهم إلا العظام، ونمرود على حاله لم يصبه شيء، وهو ينظر، فقال له الملك: «أتؤمن بالله؟». فقال: «لا!».
فأمر الله بعوضة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه، فأكلت منه حتى صارت كالفأرة، فأقام أربعماية سنة، فلا يستريح حتى يضرب رأسه بالمطارق حتى هلك.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «في ذكر ملوك بابل وهم النبط الأوائل».(2/174)
الفصل السادس في ذكر ملوك اليونانيين ولمع من أخبارهم وما قالته الناس في بدو أنسابهم (1)
ذكر المسعودي في «مروج الذهب» أن الناس تنازعوا في نسبهم، فذهبت طائفة أنهم ينتمون إلى الروم ويضافون إلى عيص بن إسحاق، وقالت طائفة إن يونان من ولد يافث بن نوح، عليه السلام، وذهب قوم إلى أنهم جيل متقدم في الزمان الأول ينتمون إلى جدهم إبراهيم عليه السلام، لأن الديار كانت مشتركة والمواطن كانت متساوية. وكان القوم قد شاركوا القوم في السجيّة والمذهب، فلذلك غلط من غلط في النسبة وجعل الأب واحدا.
وكانت اليونان من أعقل الناس وجميع العلوم العقلية مأخوذة عنهم، مثل العلوم المنطقية والطبيعية والإلهية والرياضية، وكانت خزائن ملوكهم وكتب علومهم بقبرس، فحملت إلى المأمون فأمر بنقلها إلى العربية، فهذه التي في أيدي الناس اليوم من العلوم المذكورة منها، وكان العالم بهذه العلوم يسمى فيلسوفا، وتفسيره محب الحكمة. وكانت ملوكهم من أعظم الملوك ودولتهم من أفخر الدول، ولم يزالوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم.
وفي كتاب أبي سعيد المغربي أن بلاد اليونان كانت على الخليج القسطنطيني من شرقيه وغربيه إلى البحر المحيط، وهذا هو الخليج الذي ينصب من بحر القلزم الذي يسمى في القديم بحر نيطس، والآن البحر الأسود إلى بحر الروم.
__________
(1) كذا في (ب) والمسعودي 2/ 242وفي (ج): «شأنهم».(2/175)
وذكر المسعودي أن يونان أخو قحطان، وأنه ولد عابر بن شالخ بن أرفخشذ، وأنه انفصل عن ديار أخيه في جماعة من ولده وأهله، فخرج من أرض اليمن حتى وافى (1) ديار العرب، فأقام هناك ونسك في تلك الأماكن، واستعجم لسانه فزالت نسبته، وصار منسيا غير معروف. وكان يونان جبّارا عظيما، وسيما، جسيما، وكان جزيل / الرأي، كبير الهمة.
وذكر بطليموس في كتابه، أن أول من اشتهر منهم بالملك فيلقوس (2) بن مصر بن هرمس (3) بن هروس بن منصور بن رومي (4) بن ليط بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام، ومعنى فيلقوس صاحب الفرس. وكان مقر ملكه مدينة مقدونية، وهي مدينة حكماء اليونانيين، وهي مدينة على جانب الخليج القسطنطيني من شرقيه. وكانت مدة ملك فيلقوس سبع سنين.
فلما مات، ملك بعده ابنه الاسكندر، وقد تنازع الناس فيه فمنهم من رأى أنه ذو القرنين صاحب الخضر، عليه السلام، وابن خالته، وهو المذكور في القرآن، ومنهم من رأى أنهما اثنان أحدهما الاسكندر المذكور والآخر في الفترة، وقد ذكر تفصيل ذلك في ذكر أقيال اليمن.
وكان ملوك اليونانيين يؤدون الطاعة، ويحملون الخراج إلى فارس، وكان خراجهم، في كل سنة، بيضا من ذهب، عددا معلوما ووزنا مفهوما.
فلما ملك الاسكندر، بعث إليه دارنيوش، ملك الفرس، يطالبه بما جرى من الرسوم، وهو دارا بن دارا، فبعث إليه الإسكندر: «إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض هذا البيض وأكلتها!». فكانت من حروبهم ما دعا الاسكندر إلى الخروج إلى أرض الشام وقتل دارا، كما مرّ.
__________
(1) في الأصل و (ب) و (ج) «وافا».
(2) وقيل أيضا: «يابس» و «فلبس».
انظر المسعودي 2/ 246، 247.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «هرمز».
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «روبي».(2/176)
وسار الاسكندر، بعدما ملك بلاد فارس، واحتوى على ملوكها وتزوج بابنة ملكها، متوجها نحو السند والهند فوطىء ملوكها، فذلت له جميع الملوك، وحملت إليه الهدايا. وكان معلمه أرستطاليس حكيم اليونانيين.
ولما اجتمع مع الفيلسوف في الهند، أمر له عند الوداع بجوائز كثيرة، فلم يقبل، فسأله عن عدم قبوله الهدية، فقال له الفيلسوف: «لو أحب المال ما أردت العلم، فلست أدخل على علمي ما يضاده وينافيه، واعلم أيها الملك أن العطية توجب الخدمة، وليس بحرّ عاقل من خدم غير ذاته، والذي يصلح النفس الناطقة العلم وهو صقالها (1)، وغذاؤها، وتناول اللذات الحيوانية وغيرها من الموجودات ضرّ لها، والحكمة سبيل إلى العلم وسلّم إليه، ومن عدم ذلك، عدم القربة من / باريه!». وللاسكندر مع هذا الفيلسوف مناظرات كثيرة من أنواع العلوم (2).
ولما توفي الاسكندر، عرض الملك على ابنه، فأبى واختار النسك، فانقسمت ممالك الاسكندر بين ملوك الطوايف وبين ملوك اليونان. وملك مصر والشام والمغرب البطالسة، وهم ملوك اليونان، وكان يسمى كل واحد منهم بطليموس، وهي لفظة مشتقة من الحرب، معناها أسد الحرب. وكان عدة البطالسة الذين ملكوا بعد الاسكندر ثلاثة عشر ملكا.
وأول البطالسة بطليموس شبسوس بن لاغوس (3)، كان يلقب بالمنطقي، وملك المذكور عشرين سنة.
ثم ملك بعده بطليموس الثاني واسمه قليودقوس، ومعناه محب أخيه (4)، وهو الذي نقلت له التوراة من العبرانية إلى اليونانية، وهو الذي عتق اليهود الذين وجدهم أسرى، لما ملك. وكانت مدة ملكه ثمانيا وثلاثين سنة.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «صفاؤها».
(2) عن مناظرات الاسكندر مع الفيلسوف الهندي، انظر: المسعودي 2/ 276260.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «ششوس بن لاغوش».
(4) كذا وفي المسعودي (2/ 282): «محب الأخ».(2/177)
ثم ملك بعده بطليموس الثالث، واسمه أوراخيطين (1)، ملك خمسا وعشرين سنة، وكان ملك الشام يومئذ أبطيحش (2). وهو الذي بنى مدينة أنطاكية، وكانت دار ملكه، وجعل بناء سورها أحد عجائب العالم في البناء على السهل والجبل، ومسافة السور اثنا عشر ميلا، وجعل عدد الأبراج فيها ماية وستة وثلاثين برجا، وجعل عدد شرّافاتها أربعا وعشرين ألف شرّافة، وجعل كل برج من الأبراج يسكنه بطريق من البطارقة برجاله وخيله.
ثم ملك بعده بطليموس الرابع، واسمه قيلوبطور (3)، ومعناه محب أبيه (4)، وملك سبع عشرة سنة.
ثم ملك بعده بطليموس الخامس واسمه فيقوس (5)، وملك أربعا وعشرين سنة، وهو صاحب علم الفلك والنجوم، وكتاب المجسطي. وكان نقش خاتمه:
«من صان لسانه كثرت إخوته». وكان حسن النطق كثير التزهد والصيام، نظيف الثياب. مات وعمره سبع وستون سنة.
ثم ملك بعده بطليموس السادس، واسمه فيلونيطور (6)، ومعناه محب أمه (7)، وملك خمسا وثلاثين سنة.
ثم ملك بعده بطليموس السابع، واسمه أوراخيطس (8)، ملك تسعا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده بطليموس الثامن، / واسمه سوطيرا ملك ست عشرة سنة.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «أوراخطيس».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «بطيحش» وفي المسعودي: «أبطنجنس».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «قيلونطول».
(4) كذا وفي المسعودي: «محب الأب».
(5) كذا وفي (ب) «قيوس» وفي (ج): «أفيفتوس».
(6) كذا وفي (ب) «فنلونيطوس» وفي (ج) «فيلومنطول».
(7) كذا وفي المسعودي: «محب الأم».
(8) كذا في (ب) وفي (ج): «أوراخطيس».(2/178)
ثم ملك بعده بطليموس التاسع، واسمه سيدريدس (1)، ملك تسع سنين.
ثم ملك بعده بطليموس العاشر، واسمه اسكندروس ثلاث سنين (2)، ويقال لهذا بطليموس الحديث.
ثم ملك بعده بطليموس الحادي عشر، واسمه فيلوقوس (3)، ثماني سنين.
ثم ملك بعده بطليموس الثاني عشر، واسمه ديوسيوس (4)، تسعا وعشرين سنة.
ثم ملكت ابنته قلنطرة (5)، وهي الثالثة عشرة من ملوك اليونان، وهي آخرهم، فملكت اثنتين وعشرين سنة.
وكانت حكيمة متفلسفة مقربة للعلماء معظمة للحكماء. ولها كتب مصنفة في الطب والرقية.
وكان لها زوج يقال له أفطونيوس مشاركا لها في ملك مصر، فلما أراد الله ذهاب ملك اليونان، سلط عليهم ملوك الروم. وقلنطرة المذكورة، هي آخر ملوك اليونانيين إلى أن انقضى ملكهم، ودرست رسومهم، وزالت علومهم، إلا ما بقي في أيدي الناس.
وكان لهذه الملكة خبر عجيب في موتها وقتلها لنفسها أعرضنا عن ذكره.
واتفق أهل المعرفة بأخبارهم أن جميع عدد ملوك اليونانيين أربعة عشر ملكا، وأن عدد جميع سني ملكهم ومدة أيامهم وامتداد سلطانهم ثلاثماية سنة وسنة واحدة، والله أعلم بغيبه وأحكم.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «سيديرنطيس».
(2) كذا وفي المسعودي (1/ 285): «ثلاثين سنة».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «فيلودقس».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «سوسنوس».
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «قيلونطورا» وفي المسعودي: «قلانطرة»، مع الإشارة إلى أنه ورد في المسعودي أن الملكة «قلانطرة» هي ابنة بطليموس الحديث.(2/179)
الفصل السابع في ذكر ملوك الروم وهم بنو الأصفر وكل ملك منهم يسمى قيصر
تنازع الناس في الروم ولأية علة سموا بهذا الإسم. قال المسعودي في «مروج الذهب» سموا روما لإضافتهم إلى مدينة رومية، واسمها روماس بالرومية، فعرّب هذا الإسم، فسمّي من كان بها روما.
وفي «كتاب البيان في تاريخ سني الزمان» أن الروم ينسبون لروم بن عيص بن إسحاق، عليه السلام. وكان أول ظهورهم سنة ست وسبعين وثلاثماية من وفاة موسى، عليه السلام.
وذكر أبو سعيد المغربي في كتابه أن الروم يعرفون ببني الأصفر، وكانوا يدينون بدين الصابئة، ويعبدون أصناما على أعداد أسماء الكواكب السبعة، وقد ملك رومية عدة ملوك، / منهم من لم يشتهر، ولا وقعت إلينا أخبارهم.
وكان أول من اشتهر من ملوكهم، وملك الروم بعد اليونانيين برومية توليس (1)، سبع سنين ونصفا، وقد كانت مدينة رومية بنيت قبل الروم بأربعماية سنة.
ثم ملك بعده أغسطس قيصر ستا وخمسين سنة، وهذا الملك أول من سمي من ملوك الروم قيصر، وهو الثاني من ملوكهم، وتفسير قيصر فتق عنه (2)،
__________
(1) كذا في (ب) وفي المسعودي (2/ 296) وفي (ج): «بولوس».
(2) كذا وفي المسعودي: «شق عنه».(2/180)
وذلك أن امه ماتت وهي حاملة به، فشق بطنها عنه، فكان هذا الملك يفتخر في وقته أن النساء لم تلدني، وكذلك يفتخرون من كان من ولده.
واحتوى هذا الملك على خزاين ملوك الاسكندرية ومقدونية ونقلها إلى رومية.
وخرج أغسطس المذكور، في السنة الثانية عشرة من ملكه، من رومية بعساكر عظيمة في البر والبحر، وسار إلى الديار المصرية، واستولى على ملك اليونان، وكانت قلنطرة هي ملكة اليونان، وكان مقامها في الاسكندرية.
ولما ملك أغسطس ديار مصر والشام، دخلت بنو إسرائيل تحت طاعته، كما كانوا طاعة، البطالسة، فولى بيت المقدس لهردوس اليهودي.
وفي أيام أغسطس المذكور، ولد المسيح، عليه السلام.
وكانت مدة ملكه ثلاثا وأربعين سنة.
ثم ملك بعده طيباريوس (1) اثنتين وعشرين سنة، وهو الذي بنى طبرية بالشام، ولهذا اشتق اسمها من اسمه.
ثم ملك بعده غاليوس (2) أربع سنين، ولمضي السنة الأولى من ملكه رفع المسيح، عليه السلام.
ولما هلك هذا الملك اختلفت الروم، فأقاموا على اختلاف الكلمة والتنازع في الملك مايتي سنة وثمان وتسعين سنة، لا نظام لهم ولا ملك يجمعهم.
فلما انقضت المدة المذكورة ملكوا عليهم طيارميس (3).
ثم ملك بعده قلوزنوس (4) أربع عشرة سنة، وهو الذي قتل في آخر ملكه
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث وفي المسعودي (2/ 299): «طباريس».
(2) كذا وفي (ب): «نمانيوس».
(3) كذا في النسخ الثلاث وفي المصدر السابق: «طباريس غانس».
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «قلوزيوس» وفي المسعودي: «قلوديس».(2/181)
بطرس وبولس برومية، وصلبهما منكوسين، وهما المذكوران في سورة يس.
ثم ملك بعده ساسيانوس عشر سنين.
ثم ملك بعده طيطوس (1) سبع سنين، وهو الذي غزا اليهود وأسرهم وباعهم، وأخرب بيت المقدس، وأحرق الهيكل.
ثم ملك بعده دومطينوس (2) خمس عشرة سنة، وتتبع النصارى واليهود وأمر بقتلهم. / وكان دينه ودين غيره من الروم عبادة الأصنام.
ثم ملك بعده نارواس (3) سنة واحدة.
ثم ملك بعده أزريانوس (4) احدى وعشرين سنة. ففي أول سنة من ملكه أطلق للناس الخراج والأتاوى الديوانية، وقضى ديونهم.
وفي زمانهم اشتهر جالينوس في الطب، ووضع كتبا كثيرة نحو ماية كتاب، وكان شيخه في الطب طبيبا اسمه إليانوس. وكانت (5) وفاة جالينوس بجزيرة صقلية، وقد بلغ من العمر ثمانيا وثمانين سنة، وتجذم بعد أن مضى من ملكه ثماني عشرة سنة، فسار إلى مصر يطلب الشفاء فلم يجده ومات.
ثم ملك بعده أنطرنيسوس (6) ثلاثا وعشرين سنة. وكان أخذ أرصاد بطليموس، صاحب المجسطي، في السنة الثالثة من ملكه.
ثم ملك بعده برقوس (7) تسع عشرة سنة.
__________
(1) كذا وفي المصدر نفسه: «ططس واسفيانوس مشتركين».
(2) كذا وفي المصدر نفسه: «دوبطياس».
(3) كذا وفي المصدر نفسه: «بيرنوس».
(4) لم يرد ذكر هذا الملك في المسعودي.
(5) في الأصل: «وكان».
(6) كذا في (ب) وفي (ج): «طرانانوس» وفي المصدر نفسه: «أبطوليس».
(7) كذا وفي المصدر نفسه: «مرلس».(2/182)
ثم ملك بعده تومودوس (1) ثلاث عشرة سنة. وفي آخر أيامه خنق نفسه، وقيل كان جالينوس في زمانه.
ثم ملك بعده توطخوس (2) ستة أشهر، وقتل غيلة في مجلسه.
ثم ملك بعده سوريانوس (3)، ثماني عشرة سنة.
فلما هلك ملك بعده أنطونياوس (4) سبع سنين، وقتل بين حران والرها.
ثم ملك بعده مقارنوس (5) سنة واحدة. وفي زمانه وقع حريق عظيم برومية، ووثب عليه غلمانه فقتلوه.
ثم ملك بعده أنطونياوس الثاني أربع سنين.
ثم ملك بعده الاسكندروس (6) ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك بعده مكسلميلوس (7) ثلاث سنين، وشدّد في قتل النصارى.
ثم ملك بعده غورديانوس (8) ست سنين، وقتل في حدود فارس.
ثم ملك بعده فيلبوس سبع سنين، وأحسن إلى النصارى، وأدام الاجتماع بهم.
فلما هلك، ملك بعده دقيانوس سنة واحدة، فأعاد عبادة الأصنام ودين الصابئيين، ومنه هرب الفتية، وكانوا سبعة، وهم من أشراف الروم، مؤمنون،
__________
(1) كذا وفي المصدر نفسه: «فرمودش».
(2) لم يرد ذكر هذا الملك في المسعودي.
(3) كذا وفي المصدر نفسه: «سويرس».
(4) كذا وفي المصدر نفسه: «أبطونيس».
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «مقدانوس»، مع الإشارة إلى أن هذا الملك لم يرد ذكره في المسعودي.
(6) كذا وفي المصدر نفسه: «الاسكندر مامياس».
(7) كذا وفي المصدر نفسه: «مقسمس».
(8) كذا وفي المصدر نفسه: «عزدانس».(2/183)
وقصتهم مشهورة، وفي الكتب مسطورة، وسيأتي شيء من أخبارهم وذكر آثارهم، في ذكر مدينة أفسوس (1).
ثم ملك بعده غالينوس ثلاث سنين.
ثم ملك بعده غليتوس وولده يانوس ملكا بالإشتراك. ثم إن يانوس انفرد بالملك بعد / سنتين، ثم غزاه سابور بن أزدشير، فانتصر عليه وأسره في المعركة، وأرسله إلى بابل وسجنه هناك.
ثم ملك مكانه ابنه غالينوس الثاني ست سنين.
ثم ملك بعده قاوديوس سنة واحدة. وفي أول السنة من ملكه ظهر في السماء إكليل من نار.
ثم ملك بعده أزرقاس (2)، وقيل أودليانوس، ملك ست سنين، ومات بصاعقة أصابته.
ثم ملك بعده طيطينوس ستة أشهر.
ثم ملك بعده قيلورياس شهرين، وقتل بمدينة طرسوس.
ثم ملك بعده قرونوس سبع سنين، ثم هلك في الحرب بمدينة سرخس.
وملك بعده قاروس مع شريك له، ملك سنتين ومات، وقتل شريكه في بعض الحروب.
وملك بعده قلطيانوس احدى وعشرين سنة.
وفي السنة التاسعة، أمر بهدم كنايس النصارى فهدمت كلها، وأحرق كتبهم وقتل منهم خلقا كثيرا.
__________
(1) بضم الهمزة وسكون الفاء: بلد بثغور طرسوس، يقال انه بلد أصحاب الكهف.
ياقوت: 1/ 231.
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «أزدفلينوس».(2/184)
وفي هذه السنة، وقع غلاء عظيم لم يسمع بمثله، حتى بلغ غرارة الشامي من الحنطة ألفين وخمسماية درهم، ثم إنه اعتزل من الملك إلى أن مات.
وذكر «صاحب المختصر في أخبار البشر» أن قلطيانوس المذكور آخر من عبد الأصنام من ملوك الروم، فإنهم تنصروا بعده.
وفي بعض الكتب المعتبرة أن ملك الروم انتهى إلى رجلين منهم على سبيل الاشتراك، وكان أحدهما يسمى مقسيمانوس، والآخر يسمى زرفلطيانوس، وكان تخت ملكهما برومية الكبرى، وكان للأول بنت اسمها مالرويه زوجها لرجل اسمه مقسلميوس، وللثاني بنت اسمها والريه زوجها لرجل اسمه قسطينة من نسل الملك قلابور (1). ثم إن مقسمانوس وزرفلطيانوس (2) تركا الملك وأعطى كل منهما حصته من ذلك، فكان للأول ولاية أناطولي وما والاها، وللثاني في بلاد الروم وما وراءها من الممالك إلى افرنجة وديار المغرب وإفريقية، وهو الذي بنى قسطينة بالغرب، وسماها باسمه. وكان لمقسيمانوس ابن اسمه مقنديوس، فسلطنوه في مدينة رومية، وتغلب عليها وعلى ما يقربها من ناحية موليا وغيرها. /
ثم إن قسطينة حكم احدى عشرة سنة وتوفي، فقام بالملك بعده ابنه قسطنطين.
وذكر المسعودي أن عدة ملوك الروم، الذين ملكوا مدينة رومية، تسعة وأربعون ملكا، وجميع عدد سنيهم أربعماية وسبع وثمانون سنة وتسعة أشهر وستة أيام. واختلف أصحاب التاريخ في أسماء ملوكهم لأنها بالرومية. ولهذه الملوك سير وأخبار هي موجودة في كتب النصارى الملكية، أعرضنا عن ذكرها لعدم نفعها، والله الموفق للصواب.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «قلورنوس».
(2) في الأصل و (ب): «يوقلطيانوس» وما هنا من (ج) لانسجامه مع السياق.(2/185)
الفصل الثامن في ذكر ملوك القسطنطينية الكبرى والمدينة العظمى
وكان أول من انتقل من ملوك الروم عن مدينة رومية إلى بوزنطا، وهي القسطنطينية، فبناها وسماها باسمه قسطنطين بن قسطينة. وهو أول من تنصّر من ملوك الروم، ثم تبعه من تبعه على الخصوص والعموم، وكانوا على دين الصابئة يعبدون أصناما على أسماء الكواكب السبعة.
وفي احدى عشرة سنة خلت من ملكه، خرجت أمه هيلانة إلى أرض الشام، فبنت الكنايس وصارت إلى بيت المقدس، وطلبت الخشبة التي صلب عليها المسيح عندهم، فحلتها بالذهب والفضة، واتخذت لوجوده عيدا وهو عيد الصليب.
ثم إنه أشير لقسطنطين في المنام أن يعمر حصنا في غاية الحصانة والإحكام، فشاور أكابر خواصه، فوقع اختيارهم على موضع يقابل استنبول ويسمى بقاضي كوبي.
يروى أنهم لما شرعوا في البناء في هذا المكان المذكور، جاءت حيوانات على صور شتى كالطيور والوحوش وما شاكلها، وجعلت تخطف آلات البنائين ومكاتل الفعلة ومعاول الحفارين، ودخلوا بها في البحر. فاجتازوا إلى جهة الغربية من البحر ليكشفوا أمر تلك الحيوانات، فرأوا مكان قسطنطينية الآن، وهي في غاية اللطافة، وكان إذ ذاك جزيرة خالية مثلثة الشكل، معروفة عند الأمم القديمة هفت جبل، لسبعة جبال كانت بها.
وروي في بعض الأخبار أن سليمان، عليه السلام، لما غزا كفار البحر،
وكان / مقر سلطنتهم مدية دشقار، اجتاز في بعض الأيام متصيّدا، فرأى مكان قسطنطينية، وقد أحاط به البحر، وكان ذلك وقت الربيع، وظهور أنواع النبت.(2/186)
وروي في بعض الأخبار أن سليمان، عليه السلام، لما غزا كفار البحر،
وكان / مقر سلطنتهم مدية دشقار، اجتاز في بعض الأيام متصيّدا، فرأى مكان قسطنطينية، وقد أحاط به البحر، وكان ذلك وقت الربيع، وظهور أنواع النبت.
فأمر ببناء عريش لطيف لأجل الاستظلال بين المشرق والشمال، وهو الآن موضع دار السعادة العامرة، فاستطاب ذلك المنزل، وكان يتصيد ويعود إليه ليلا. وكان وزيره آصف اختار مكان أيا صوفيا مع توابعه، وباقي العسكر في المكان المعروف الآن بآت ميداني.
وذكر في «تاريخ البلدان» أن عيسى، عليه السلام، دخل قسطنطينية في سياحته ودعا لها بالبركة، ولدخوله أخبار يطول شرحها.
وأول ما شرعوا في عمارة الغلطة، فهي على هذا أقدم من مدينة قسطنطينية، ويقال إن البحر من الجهة الغربية كان متصلا من عند قبر أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنه، إلى المرساة الجنوبية. وكان موضع البلد جزيرة مستقلة تدور المراكب حولها، فاستصوب بعض الملوك ردم الجانب الغربي ليسهل إليها السلوك، فردم.
وقيل كان دار ملكهم إذ ذاك بالمكان المعروف الآن بيدي قلة، وهي أول ما بني من المدينة، ويقال إن هذه البلدة عمرت ثلاث مرات قبل هذه، وهي الرابعة.
في المدة الأولى خربت بالزلزلة أولا وآخرا، ولم يسلم من أهلها إلا من كان خارجا عنها، وبقيت زمانا طويلا وموضعها موحش.
ثم إنهم عمروها ثانيا بالاستحكام وجعلوا لها أقبية تحت الأرض خوفا من الزلزلة، وبعضها باق إلى هذه الأيام، ثم حدث بها وباء عظيم في عام لم يفلت منه إلا القليل.
ثم إن بعض الملوك حشد الناس إليها من الأطراف، ورفع عنهم الخراج وعاملهم بالعدل والانصاف، فعمرت ثالثا.
واجتمع فيها طوايف كثيرة من الناس واشتهرت، ثم ظهر بها نوع من
الحيات والثعابين، فأهلكت أكثر الناس والمواشي، وهرب من سلم من الباقين، وبقيت خالية برهة من الدهر، لا يأتيها أحد من البر ولا من البحر.(2/187)
واجتمع فيها طوايف كثيرة من الناس واشتهرت، ثم ظهر بها نوع من
الحيات والثعابين، فأهلكت أكثر الناس والمواشي، وهرب من سلم من الباقين، وبقيت خالية برهة من الدهر، لا يأتيها أحد من البر ولا من البحر.
ثم إن / بعض السلاطين وهو يانقو بن مازيان، أحد أجداد قسطنطين، اصطنع طلسما لدفع تلك الآفات، ولعله الموجود الآن من النحاس على شكل ثلاث حيات بالمكان المعروف بآت ميداني، فارتفعت بعون الله تعالى، وما بقي منها صار ضعيفا كالدود بلا ضرر، وهو الذي ابتدأ عمارة أيا صوفيا في المرة الثالثة.
ولما شرع في البناء، أرسل إلى ملوك الأطراف يجمع ما يحتاج إليه البناء وطلب العواميد. وكان بحران، وهي قرية من أعمال دمشق، كنيسة عظيمة القدر جليلة الشأن، كان يتعبد فيها إبراهيم الخليل، عليه السلام، فيما قيل، فهدموها وأرسلوا منها عشرة أعمدة من السماقي. قيل إن مقطعه بجبل سرنديب وانقطع من الأرض بعد الطوفان، لأن الحجارة كانت كالطين قبله، فقطع ما قطع منها ثم يبست وازدادت صلابة وبقية الأعمدة جيء بها من رومية وبلاد الحبشة.
فلما كملت سقط نحو ثلثها، وكان سقوطها ليلة ولادة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك من جهة المحراب.
وكان الفراغ من بنائها، على ما ذكر من تواريخ الروم، في اليوم الحادي عشر من شهر مايس الرومي، وهو أيار، لمضي خمسة آلاف وثمانماية من هبوط آدم، عليه السلام، إلى الأرض.
ثم بنى قسطنطين بعده مدينة بعلبك، وكان أهلها كفارا يتشاركون فى النساء، ولم يخلص لأحد منهم نسب، وبنى بأنطاكية هيكلا.
فلنرجع الآن إلى ما كنا بصدده من البيان عن بيان أخبار ملوك الروم. ولما مات قسطنطين انقسمت مملكته بين بنيه الثلاثة، وكان الحاكم عليهم قسطس، وهو ابن الملك الماضي، فكان ملكه أربعا وعشرين سنة، وبنى كنايس كثيرة، وشيّد دين النصرانية، ثم خرج الملك عن أولاد قسطنطين.(2/188)
ثم ملك بعده ابن عمه الياتس، فرفض دين النصرانية، ورجع إلى عبادة الأوثان، وغزا العراق في ملك سابور بن أزدشير بن بابك في جنود لا تحصى، / فقهره، ثم قتل في أرض فارس بسهم أصابه من سهام العرب. فكان ملكه إلى أن هلك سنتين.
ثم ملك بعده بونيالوس فشيّد دين النصرانية، وردها إلى ما كانت عليه ومنع من عبادة الأوثان والتماثيل، فكان ملكه سنة واحدة.
ثم ملك بعده أواليس، وكان على دين النصرانية ثم رجع عنها، وهلك في بعض حروبه. وكان ملكه إلى أن هلك أربع عشرة سنة.
وقيل إن في أيامه استيقظ أصحاب الكهف من رقدتهم، حسب ما أخبر الله عز وجل عنهم، أنهم بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة، وهي مدينة أفسوس من أرض الروم، وللناس، ممن عني بعلم الفلك وازورار الشمس عن كهفهم، في حال طلوعها وغروبها، لموضعهم من الشمال، كلام كثير.
ثم ملك بعده أونبانوس ثلاث سنين.
ثم ملك بعده خرطيانوس ثلاث سنين أيضا.
ثم ملك بعده تاوذوسيوس تسعا وأربعين سنة.
ثم ملك بعده أرقاديوس بقسطنطينية، وشريكه أونوريوس برومية، ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك بعدهما تاوذوسيوس الثاني عشرين سنة. وفي أيامه غزا فارس الروم.
ثم ملك بعده مرقيانوس سبع سنين، وهو الذي بنى دير مر بحمص.
ثم ملك بعده والينطيس سنة واحدة.
ثم ملك بعده لاون الكبير سبع عشرة سنة. وفي أيامه كثر الخسف في أنطاكية بالزلازل.(2/189)
ثم ملك بعده أليون (1)، ثماني عشرة سنة.
ثم ملك بعده أستطينوس سبعا وعشرين سنة، وهو الذي بنى أسوار مدينة حماه، وفرغ من عمارتها في سنتين.
وفي زمانه أصاب الناس جوع شديد من الجراد.
ثم ملك بعده تونسطينوس تسع سنين.
ثم ملك بعده تونسطينوس الثاني ثمانيا وثلاثين سنة، وكثرت الحروب في أيامه بين الفرس والروم.
ثم ملك بعده مورنقيس عشرين سنة، وهو الذي نصر كسرى أبرويز على بهرام، وأحرق مدينة أفامية.
ثم ملك بعده / طبريوس ثلاث سنين.
ثم ملك بعده ماريقوس ثماني سنين.
ثم ملك بعده برقوس اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك بعده قوقاس ثماني سنين.
ثم ملك بعده هرقل، واسمه بالرومي أرقليس، وكانت الهجرة النبوية في السنة الثالثة عشرة من ملكه.
وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وهو الذي ضرب الدنانير والدراهم الهرقلية، وكان مقر سلطنته في مدينة أنطاكية.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «اليونان».(2/190)
الفصل التاسع في ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام وقبل استيلاء الأروام
وقد وقع التنازع في مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، في عصر من كان من ملوك الروم، فالذي ذكره أصحاب الزيجات في كتبهم (1)، ومن اعتنى بتاريخ ملوك الروم ممن سلف وخلف، أن ملك الروم كان في وقت ظهور الإسلام، وأيام أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، هرقل.
وفي كتب السير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما هاجر كان الملك قيصر بن نون، ويؤيد ذلك ما ذكره الشيخ الأكبر في مسامرته، بسند متصل إلى محمد بن كعب القرظي، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دحية الكلبي إلى قيصر وكتب معه إليه كتابا يدعوه إلى الإسلام، فلقيه دحية بحمص وقيصر ماش من قسطنطينية.
فلما لقيه أعطاه الكتاب ففتحه، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم. السلام على من اتبع الهدى، أما بعد.
يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا، فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون!». وفيه آيات من كتاب الله يدعوه إلى الله تعالى، ويزهده في ملكه، ويرغبه في الآخرة، ويحذره بطش الله وبأسه!.
فقرأ قيصر الكتاب، فقال: «يا معشر الروم، إني لأظن أن هذا هو الذي بشر
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب) «فالذي ذكره أصحاب التاريخ».(2/191)
به عيسى بن مريم عليه السلام (1)، لو أعلم أنه هو لمشيت إليه حتى أخدمه بنفسي.
لا يسقط ماء وضوئه (2) إلا على يدي!». قالوا: «ما كان الله ليجعل ذلك / في الأعراب الأميين، ويدعنا ونحن أهل الكتاب!».
فأرسل يبتغي قوما من أهل الحجاز يسألهم (3)، فوجدوا قوما كثيرا بالشام.
فأحضر بين يديه أبو سفيان وأصحابه كلهم لله ولرسوله عدو، فقال: «اخبرني يا أبا سفيان عن حال هذا الرجل الذي بعث فيكم!». قال: «أيها الملك، لا يكبر عليك شأنه، إنّا نقول هو ساحر، ونقول هو شاعر، ونقول هو كاهن!». قال قيصر: «كذلك والذي نفسي بيده، كان يقال للأنبياء قبله!».
فما زال يسألهم (4)، وهم يجيبونه حتى قال لهم: «ما تزيدونني عليه إلا بصيرة، والذي نفسي بيده، ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمي!».
قال: «يا معشر الروم، هلم إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعا إليه، ونسأله الشام أن لا يطأها!».
قال: «كيف تسأله ملكك الذي تحت رجليك، وهو هناك لا يملك من ذلك شيئا، فمن أضعف منك؟».
فقال: «يا معشر الروم، أليس تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبيا بشركم به عيسى عليه السلام، كنتم ترجون أن يجعله الله منكم، فجعله في غيركم، وهي رحمة الله يضعها حيث شاء!».
فلما رأى ممانعتهم وإباءهم، خاف على ذهاب ملكه منهم، وصمت عنهم، ثم قال: «يا معشر الروم، دعاكم ملككم لينظر كيف صلابتكم في دينكم»، فدعوا له وخروا له سجدا.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «عليهما السلام».
(2) في الأصل و (ب): «وضؤه» وما هنا من (ج).
(3) في الأصل: «يسئلهم».
(4) في الأصل: «يسئلهم».(2/192)
رجعنا إلى ما نحن بصدده، فلما هلك قيصر، ملك بعده ابنه قيصر، وذلك في أيام أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.
ثم ملك بعده هرقل بن قيصر في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهو الذي حاربه أمراء الإسلام حين فتحوا بلاد الشام، مثل أبي عبيدة وخالد بن الوليد وغيرهم حتى أخرجوهم.
وكان الملك على الروم مورق بن هرقل، في خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وفي خلافة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأيام معاوية بن أبي سفيان.
ثم ملك بعده قليط بن مورق بقية أيام معاوية، رضي الله عنه، واستمر أيام يزيد بن معاوية، وأيام معاوية بن يزيد، وأيام مروان بن الحكم، ومددا (1) من أيام / عبد الملك بن مروان.
ثم ملك أليون في بقية أيام عبد الملك، وأيام الوليد بن عبد الملك، وأيام سليمان بن عبد الملك، وخلافة عمر بن عبد العزيز.
وكان اضطراب أليون المذكور من أمر مسلمة بن عبد الملك، وغزو المسلمين إياهم برّا وبحرا، وقصته على ما ذكره الشيخ الأكبر محيي الدين، قدس الله سره، في «مسامرة الأخيار» أن عبد الملك بن مروان، لما جهز ابنه مسلمة إلى القسطنطينية، لغزو عدو الله أليون كلب (2) الروم، انتخب من المسلمين ثمانين ألف رجل، من أهل البأس والنجدة وأمّره عليهم، فتوجهوا نحو بلاد الروم وهم يغزون الكفار في طريقهم، ويقسمون الغنايم حتى وصلوا إلى شاطىء بحر القسطنطينية (3)، وهو بحر نيطس (4)، فأقاموا هناك ثمانية أشهر، حتى هيأوا لهم
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «ومدة».
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «صاحب».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «فتوجه نحو بلاد الروم، وهم يغزون في طريقهم ويغنمون الغنايم حتى وصلوا إلى شط بحر القسطنطينية».
(4) في الأصل و (ب): «يانطس» وما هنا من (ج) وكتب الجغرافية التاريخية.(2/193)
سفنا فركبوا فيها، فقاتلهم أهل المدينة في البحر ثلاثة أيام حتى وصلوا إلى الجزيرة التي فيها القسطنطينية، فأقام مسلمة بتلك الجزيرة، وبعث إلى أهل عمله من بلاد الروم التي افتتحها في طريقه، وأمرهم أن يبنوا له مدينة فرسخين في فرسخين (1)، فأقاموا فيها، وصارت بلاد الروم كلها في يد مسلمة ما بين الشام إلى جزيرة القسطنطينية، وجبي إليه الخراج. وأقاموا يحاصرونها سبع سنين، وسمى المدينة التي بناها مدينة القهر، لأنه قهرهم عليها. وهي مدينة غلظة، ولقد غرسوا فيها أنواع الفواكه فأثمر، فأقاموا إقامة قوم لا يرجعون إلى بلادهم، وكانوا مع هذا يغزونهم كل يوم. وكان البطال معه يقتل (2) من الكفار ما بين الخمسين إلى الماية، حتى قتل منهم في تلك الأيام نحو ستماية رجل.
فلما اشتد الحصار بهم، كتب ملك الروم إلى مسلمة يطلب منه الصلح، وأن يعطيه كل سنة عشرة آلاف اوقية فضة، وستة آلاف اوقية ذهبا، وخمسة آلاف رمكة. فلم يرض مسلمة، واستمروا واقفين على باب المدينة سبعة أيام، لا يفتر أحد منهم، ولا يرجع إلى مدينتهم، وهم يومئذ ستون ألف مقاتل.
فلما نظر أليون إلى ذلك، هاله، فقال لمسلمة: «ما الذي تريد؟». فقال له مسلمة: «عزمت أن لا أرجع حتى أدخل مدينتك!». / قال له أليون: «ادخل وحدك، ولك الأمان!». فقال له مسلمة: «نعم، على أن آمر البطال وأصحابه يقفون على باب المدينة ولا يغلقون الباب!». فقالوا له: «لك ذلك!».
ففتح الباب، ولم يفتح قبل ذلك سبع سنين إلا للقتال، فوقف البطال داخل عتبة الباب ثابتا لا يزول ولا يتحرك.
قال مسلمة: «إني داخل فانتظروني على الباب، فإن صليتم العصر ولم أخرج فاقحموا بخيلكم على المدينة، فاقتلوا من أصبتم، والأمير بعدي محمد بن مروان!».
__________
(1) كذا في (ج)، وفي (ب): «فرسخين في مثلها».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «يقاتل».(2/194)
فركب على فرسه الأشهب، وعليه ثياب بيض وعمامة، متقلدا بسيفين وبيده الرمح، فصف له ملك الروم عسكره بالخيل يمينا وشمالا من باب أدرنة إلى باب أيا صوفيا، وهي كنيستهم العظمى، كلما مر بقوم ساروا خلفه، وقد رمقوه بأبصارهم وهم متعجبون من شجاعته وشدة جرأته.
فلم يزل يتقدم حتى وصل إلى باب الكنيسة، فخرج إليه ملك الروم أليون وقبّل يده، ودخل الكنيسة وهو راكب على فرسه، فجزعت الروم من ذلك جزعا شديدا.
فلما دخل الكنيسة نظر إلى صليبهم الأعظم، وهو موضوع على كرسي من ذهب، وعيناه ياقوتتان حمراوتان، وأنفه زبرجدة خضراء، فلما نظر مسلمة إلى الصليب أخذه، فوضعه على قربوس سرجه، فقال الرهبان لأليون: «لا تدعه!»، فقال له أليون: «إن الروم لا ترضى بهذا!». فحلف أن لا يخرج حتى يأخذه معه.
فقال أليون للروم: «دعوه يخرج به، ولكن عليّ مثله، وإلا دخل عليكم البطال إن استبطأه». فأخذه وخرج وهو راكب، وأليون ماش في خدمته. فخرج والصليب على رأس رمحه بعد العصر.
وكان القوم قد هموا بالدخول، فلما نظروا إليه كبّروا تكبيرة واحدة كادت الأرض تمور بهم، وسرّوا بخروج مسلمة سرورا عظيما. فأرسل أليون له المال الذي عهد به، ومعه تاج مرصع، فباعوا التاج من بعض بطارقة الروم بماية ألف دينار، ثم عرض الناس فكانوا يومئذ / أربعة وأربعين ألف رجل، قد أصابهم الجهد، فقسم المال بينهم، ثم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: «أيها الناس، إني في غمرات الموت منذ سبع سنين، لم أحب أخبركم، وكرهت أن أفشلكم عن قتال عدوكم، وقد توفي خليفتكم عبد الملك، وولي ابنه الوليد فمات، وقد ولي أخوه سليمان بن عبد الملك فبايعوا له!».
فأقاموا بعد ذلك ثلاثة أشهر بالجزيرة حتى أصلحوا سفنهم، ثم أمر أبا
محمد البطال أن يحمل المسلمين في السفن، فلم يزل ذلك دأبة حتى عدى الناس كلهم، وبقي مسلمة في الجزيرة مع ماية فارس، فمضى إلى باب القسطنطينية، فخرج إليه أليون فسلم عليه، فلم يصافحه مسلمة، فقبّل أليون رجله وودعه، فعبر السفينة هو والماية فارس، ولم يتخلّف بالجزيرة منهم أحد، وتوجهوا نحو بلادهم.(2/195)
فأقاموا بعد ذلك ثلاثة أشهر بالجزيرة حتى أصلحوا سفنهم، ثم أمر أبا
محمد البطال أن يحمل المسلمين في السفن، فلم يزل ذلك دأبة حتى عدى الناس كلهم، وبقي مسلمة في الجزيرة مع ماية فارس، فمضى إلى باب القسطنطينية، فخرج إليه أليون فسلم عليه، فلم يصافحه مسلمة، فقبّل أليون رجله وودعه، فعبر السفينة هو والماية فارس، ولم يتخلّف بالجزيرة منهم أحد، وتوجهوا نحو بلادهم.
ففي أثناء الطريق أتاه كتاب عمر بن عبد العزيز بموت سليمان بن عبد الملك وبخلافته، وأن يقدم بمن معه جميعا، فقدموا دمشق في ثلاثين ألفا.
رجعنا إلى ما نحن بصدده، ثم اضطرب ملك الروم بعد أليون، فملكوا عليهم رجلا من أهل بيت الملك من أهل مرعش يقال له جرجين، وكان ملكه تسع عشرة سنة.
ثم ملك بعده قسطنطين بن أليون، وذلك في خلافة السفاح وأبي جعفر المنصور.
ثم ملك بعده أليون بن قسطنطين، وكانت أمه أرش شريكة معه في الملك لصغر سنه إلى أيام هارون الرشيد، فمات وسملت عينا أمه أرش بعد ذلك لأخبار يطول شرحها.
ثم ملك على الروم بعده يعفور بن استبراق، وكانت بينه وبين الرشيد مراسلات، فأعطى القود من نفسه، ثم غدر ونقض ما كان أعطاه من الانقياد، فغزاه الرشيد، فنزل على هرقلة (1)، وذلك في سنة تسعين وماية.
وللرشيد في محاصرة حصن هرقلة، ومراسلات يعفور المذكور، أخبار كثيرة.
__________
(1) بالكسر ثم بالفتح: مدينة حصيبة ببلاد الروم سميت بهرقلة بنت الروم بن ايفز بن سام بن نوح، وكان الرشيد غزاها بنفسه، ثم افتتحها عنوة بعد حصار شديد.
ياقوت 5/ 399398.(2/196)
ثم ملك بعد يعفور (1) / ولده استبراق، في أيام محمد الأمين. فلم يزل ملكا حتى غلب على الملك قسطنطين بن فلقط، وكان في خلافة المأمون.
ثم ملك بعده نوقيل، وذلك في خلافة المعتصم، وغزاه في فتح عمورية، كما مر.
ثم ملك بعده ميخاييل بن نوقيل، وذلك في خلافة الواثق والمتوكل والمستعين.
ثم كان بين الروم تنازع في الملك، فملكوا عليهم نوقيل بن ميخاييل.
ثم غلب على الملك يشبل الصقلي، ولم يكن من أهل بيت الملك، فكان ملكه أيام المعتز والمهتدي.
ثم ملك بعده أليون بن يشبل بقية أيام المعتز، ومدة من خلافة المعتضد، ثم هلك، فملكهم ابن له يقال له الاسكندروس، فلم يحمدوا أمره فخلعوه، وملكوا عليهم أخاه لاوي بن أليون بن يشبل الصقلي، فكان ملكه بقية أيام المعتضد والمكتفي، ومدة من أيام المقتدر، ثم هلك، وخلف ولدا صغيرا يقال له قسطنطين، فملك، وغلب على مشاركته في الملك، وذلك في بقية أيام المقتدر وأيام القاهر والراضي والمقتفي، فهذا ما وصل إلينا من أخبارهم.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «يعفور المذكور».(2/197)
الفصل العاشر في ذكر ملوك مصر قبل الطوفان وما لهم من الآثار والبنيان
ذكر أهل التاريخ أن بني آدم عليه السلام، لما بغى بعضهم على بعض وتحاسدوا، وتغلب عليهم بنو قابيل، تحول نقراوش الجبار بن مصريم بن مركابيل بن دواييل بن عرياب بن آدم (1)، عليه السلام، في نيف وسبعين رجلا جبابرة يطلبون موضعا ينقطعون فيه عن بني آدم. فلما نزلوا على النيل ورأوا وسعة البلد، وحسنه وحسن مائه، أقاموا فيه وعمّر مدينة مصر، وسماها باسم أبيه مصريم.
وكان نقراوش ملكا جبارا عنيدا، عالما بالكهانة والطلسمات. وبنى مدينة أمسوس، وبنى بها عجائب كثيرة. منها: أنه عمل صنمين من حجر أسود في وسط المدينة، إذا قدمها سارق لم يقدر أن يزول عنهما حتى يسلك بينهما، فإذا دخل بينهما أطبقا عليه فيؤخذ.
فهو وبنوه الجبابرة الذين / بنوا الأعلام، وأقاموا الأساطين العظام، ووضعوا الطلسمات واستخرجوا المعادن، وقهروا من ناوأهم من ملوك الأرض، وهم الذين حفروا النيل، حتى أجروا ماءه إليهم، ولم يكن محفورا، وإنما كان ينبطح وينفرش على وجه الأرض.
__________
(1) في الأصل: «نقراوش الجبار بن مصريم بن نزاكيل بن زارايل بن غرناب بن آدم» وما أثبتناه من (ج) وخطط المقريزي 1/ 18.(2/198)
فلما مات لطخوا جسده بالأدوية الممسكة وجعلوه في تابوت من ذهب، ودفنوا معه كنوزه من أنواع الجواهر، وزيروا عليها تاريخ الوقت.
فلما مات، ملك بعده ابنه نقراش (1)، فتجبر وعلا أمره. وكان كأبيه في علم الكهانة والطلسمات، وبنى مدينة بمصر وسماها جلجة، وعمل فيها جنة، صفح حيطانها بصفايح الذهب، وغرس فيها أنواع الفواكه. وكان معه شيطان يعمل له التماثيل العجيبة.
وهو أول من عمل بمصر هيكلا، وبنى في صحراء المغرب، وراء الواحات، ثلاث مدن، وبنى مداين ذات عجائب تكل العقول عن دركها، وقد أزال الطوفان جميعها، وركب هذه الأرض الرمال، فأزال طلسماتها، وملك نقراش مائة وتسع سنين، ثم هلك، فعمل له ناووس، وجعل معه من الأشياء العجيبة ما يطول الأمر بذكره.
وتملّك بعده أخوه مصرام بن نقراوش. وكان حكيما في الكهانة والطلسمات، فعمل أعمالا عظيمة، منها: أنه ذلّل الأسد وركبه (2)، ويقال إنه ركب عرشه وحملته الشياطين حتى انتهى إلى وسط البحر المحيط، وجعل فيه قلعة بيضاء، وجعل عليها صنما للشمس، وزير عليها اسمه وصفة ملكه، وعمل صنما من نحاس، وزير عليه: «أنا مصرام الجبار، كاشف الأسرار، الغالب القهار، وضعت الطلسمات الصادقة، وأقمت الصور الناطقة، ونصبت الأعلام الهائلة على البحار السائلة، ليعلم من بعدي أنه لا يملك أحد ملكي!».
وكان قد عمل في جنته شجرة مولدة، يؤكل منها جميع الفواكه، واحتجب عن الناس، وألقى على وجهه من سحره نورا شديدا، لا يقدر أحد أن يتمكن من النظر إليه، فادعى أنه إله، وغاب عن الناس ثلاثين سنة، واستخلف عليهم رجلا من / ولد غرناق (3)، يقال له عبقام.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «نقاوش».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «وركبها».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «عرياب».(2/199)
ثم برز لأهل مصر حين أحبوا أن ينظروه، فعرض نفسه في صورة هالتهم، وملأت قلوبهم رعبا، فخرّوا على وجوههم، ثم غاب عنهم، ولم يروه بعد ذلك.
ثم ملك مكانه خليفته عبقام المذكور فعدل فيهم، وعمل مدينة عظيمة عجيبة قريب العريش جعلها لهم حرسا. وقيل إن إدريس رفع في زمانه، ولم يطل ملكه.
ثم ملك بعده ابنه غرياق، فتجبر وأقبل على صيد السباع والوحوش.
ومن عجايبه أنه عمل شجرة من نحاس ذات أغصان، ولطّخها بدواء مدبر، فكل وحش يصل إليها لم يستطع الحركة حتى يؤخذ، فشبعت الناس في أيامه من لحوم الصيد والوحش. وقيل إن هاروت وماروت كانا في أيامه.
وكان فاسقا يجلب النساء بسحره ويغتصبهن، فاحتالت عليه امرأة فسمته.
ثم ملك بعده لوجيم بن نقراس. فلما جلس على سرير الملك، ولبس تاج أبيه، سار في الناس بالعدل والإحسان، ووفور الشفقة للرعية.
وفي زمانه كثرت الغربان والغرانيق، فأهلكت الزرع، فعمل أربع منارات من نحاس في أربع جوانب بلدة أمسوس، وجعل على كل منارة صورة غراب في فمه حية قد التوت عليه، فلم يقربهن شيء من الطيور. فلم يزل ذلك إلى أن كان الطوفان، فأزال تلك المنارات.
ثم ملك بعده خصليم الملك، وهو أول من عمل مقياسا لزيادة النيل، وعمّر بيتا من رخام على حافة النيل، وجعل في وسطه بركة من نحاس صغيرة فيها ماء موزون، وعلى حافة البركة عقابان من نحاس ذكر وأنثى، فإذا كان أول الشهر الذي يزيد فيه النيل، فتح البيت وجمع الكهنة فيه بين يديه، وتكلم رؤساء الكهان بكلام لهم حتى يصفّر أحد العقابين، فإن صفّر الذكر كان الماء تاما، وإن صفرت الأنثى كان الماء ناقصا، فيعتدون لذلك. وهو الذي بنى القنطرة التي ببلاد النوبة على النيل.(2/200)
ثم ملك بعده هرصال الملك، فبنى مدينتين: مدينة بالمشرق، وهي ذات عجايب كثيرة، وعمل في وسطها صنما للشمس يدور بدورانها، ويبيت مغربا ويصبح مشرقا، ومدينة بالمغرب، وهي / على صفتها.
ويقال إن نوحا عليه السلام، ولد في زمانه.
وولد له عشرون ولدا، وجعل مع كل ولد منهم ناظرا وهو رأس الكهنة.
وكان يعبد الكواكب، فاختفى عن عيون الناس.
ثم قام بنوه على حالهم، كل واحد منهم في قسمته التي اقتطعه إياها، حتى مضت عليه سبع سنين. ثم وقع بينهم تشاجر وتخالف، فاجتمع رؤوس الكهنة على أن يجعلوا أحدهم ملكا، ويقيم كل واحد منهم في قسمته، فأجمع أمرهم على أكبر أولاده فولوه، وهو ندرسان، فسار بسيرة أبيه وحمد الناس أمره، فعمل قصرا من خشب ونقشه بأحسن النقوش، وصوّر فيه صور الكواكب وحمله على الماء، وكان يتنزه عليه، فبينما هو يتنزه يوما إذ زاد النيل زيادة عظيمة، وهبت ريح عاصفة، فوقع القصر وهلك الملك.
وكانت له امرأة ساحرة من بنات عمه، فكتمت عن الناس موت الملك، وكان يخرج أمرها ونهيها إلى الوزراء عنه، فأقام الناس تحت طاعتها تسع سنين لا يعلمون بأمر الملك.
فلما رأى إخوته طول غيبته، جمعوا عليها جموعا كثيرة، وقدموا على أنفسهم أحدهم، وهو شمرود الجبار، وساروا إلى مدينة أمسوس، وتحاربوا معها وغلبوا عليها، وأيقنوا بهلاك الملك.
وجلس على سرير الملك شمرود المذكور، فسرّ الناس به ووعدهم بحسن السيرة فيهم. وطلب امرأة أخيه الساحرة وابنها ليقتلهما، وهربت هي وابنها إلى مدينة الصعيد، وكان أهلها كلهم كهانا وسحرة، فامتنعت بهم، ثم ادعت السلطنة لابنها، ودعت الناس إلى حرب شمرود، وزحف إليه ابن الساحرة، وقد عمل له
السحرة أصنافا من التخاييل الهايلة والنيران المحرقة، فأقامت الحرب بينهم أياما، وهزم شمرود وإخوته وتحصّنوا ببعض الجبال.(2/201)
وجلس على سرير الملك شمرود المذكور، فسرّ الناس به ووعدهم بحسن السيرة فيهم. وطلب امرأة أخيه الساحرة وابنها ليقتلهما، وهربت هي وابنها إلى مدينة الصعيد، وكان أهلها كلهم كهانا وسحرة، فامتنعت بهم، ثم ادعت السلطنة لابنها، ودعت الناس إلى حرب شمرود، وزحف إليه ابن الساحرة، وقد عمل له
السحرة أصنافا من التخاييل الهايلة والنيران المحرقة، فأقامت الحرب بينهم أياما، وهزم شمرود وإخوته وتحصّنوا ببعض الجبال.
ونزل ابن الساحرة بدار الملك، وجلس على سريره ولبس تاج أبيه وكان اسمه توميدون، فملكهم وهو حديث السن، وكانت أمه تدبر أمره. ثم خرج ابنها كاهنا منجما، حتى عملت له الشياطين قبة من زجاج، دائرة على دوران الفلك، وصور عليها صور / الكواكب، فكانوا يعرفون الطالع منها وما يحدث بعد طلوعه.
وبعد سنين من ملكه ماتت أمه الساحرة، وأوصت أن يجعل جسدها، إذا ماتت، تحت صنم القمر فإنها تخبرهم بالعجائب وبكل ما يسألون (1) عنه، ففعلوا ذلك. وكانت تتصور لهم في صور كثيرة، وملكهم توميدون ماية وستين سنة.
ولما حضرت الوفاة أمرهم أن يجعلوا له صنما من زجاج على شقين، ويطلى جسده بالأدوية الممسكة، ويجعل في ذلك الصنم ويلحم، ويقام في هيكل الأصنام، ويجعل له كل سنة عيد، ويقرب له قربان، وأن تدفن كتب علومه وكنوزه تحته، ففعل ذلك كله.
وملك بعده ابنه سرقاق، فعمل بسيرة أبيه وجدته، وقد جعل الكهنة بين يديه نارا عظيمة لا يصل إليه إلا من خاضها، ولا تضر إلا من أضمر للملك غايلة.
وكانت أطماع الملوك منقطعة من الوصول إلى مصر، لا سيما في زمن سرقاق المذكور.
وقد أحدث في زمانه عجائب كثيرة منها: أنه عمل على كل باب مدينة بطة من نحاس قائمة على أسطوانة، فإذا دخل الغريب من باب المدينة، صفقت بجناحيها وصرخت، فيؤخذ الداخل ويكشف عن أمره. وساق إلى مداين الغرب نهرا من النيل، وبنى على حافته منازل، وغرس أشجارا يتنزه عليها، وكان إذا خرج إليها سار في عمارة متصلة. وملكهم ماية وثلاثين سنة.
__________
(1) الأصل: «يسئلون».(2/202)
ثم تولى مكانه ابنه سهلوق (1). وكان عالما كاهنا منجما، قد أفاض العدل والإحسان على رعيته، وقسم ماء النيل قسما موزونا صرف إلى كل ناحية قسطها.
ومما عمل سهلوق المذكور القبة المركبة على سبعة أركان، وجعل لها سبعة أبواب، وبنى على كل باب صورة معمولة فإذا تقدم الخصمان إلى تلك الصورة التصقت بالظالم، وشدت عليه شدا عنيفا، وإن دعا المظلوم الظالم إلى تلك الصورة ولم يأتها أقعد الظالم من رجليه، وخرس لسانه ولم يتحرك. ولم يزل لها عمل حتى أزالها الطوفان.
فلما هلك، تولى مكانه ابنه سوريد، وهو الذي بنى الأهرامات، واقتفى سيرة أبيه في العمارة والعدل والإنصاف، وبنى بالصعيد ثلاث مداين، وعمل فيها عجايب كثيرة.
وهو أول من جبى الخراج / بمصر، وألزم أهل الصناعات على أقدارهم، وأول من أمر بالإنفاق على الزمنى والمرضى من خزاينه.
وعمل مرآة من أخلاط كان يرى فيها جميع الأقاليم، وما أخصب وما أجدب منها، وما حدث فيها، وركبها على منارة من نحاس وسط أمسوس، وعمل في المدينة صورة امرأة جالسة، وفي حجرها صبي كأنها ترضعه، وأيما امرأة أصابتها علة في عضو، فمسحت ذلك العضو بعضو منها يقابلها (2)، برئت، وأيما صبي أصيب عضوه، يمسح ذلك العضو بعضو ذلك الصبي، برىء.
ومن أعماله: بناء الهرمين الكبيرين، وسبب بنائهما أنه رأى رؤيا كأن الأرض انقلبت بأهلها، وكأن الناس يهوون على رؤوسهم، وكأن الكواكب تتساقط عليهم ويصدم بعضها بعضا بأصوات مختلفة هائلة، فغمه ذلك. ثم رأى بعد ذلك كأن الكواكب الثابتة في صفة طيور بيض، وكأنها تتخطف الناس وتلقيهم
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «سلهوق».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «بمقابلها».(2/203)
بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن النيرة مظلمة، فانتبه مذعورا. وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم، فجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا ماية وثلاثين كاهنا، وكبيرهم يقال له أقليمون، فقص عليهم ذلك. وكان أقليمون رأى رؤيا مثل ذلك، فأخذوا ارتفاع الكواكب، فأخبروا بأمر الطوفان. قال سوريد: «ويلحق بلادنا؟». قالوا: «نعم، وتخرب، وتبقى سنين خرابا».
فأمر بعمل الأهرام لتكون قبورا له ولأهل بيته، يحفظ أجسادهم وكتبهم وكنوزهم، وأمر بأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى المكان، ويخرج إلى مواضع من أرض المغرب والصعيد، وملأها طلسمات وعجايب وخزاين وغير ذلك، وزبر في سقوفها وأسطواناتها ما قالته الحكماء من العلوم الغامضة، وأسرار العقاقير ومنافعها ومضارها، وعمل الطلسمات والحساب والهندسة والطب وغير ذلك، وكل ذلك معلوم لمن يعرف كتابتهم ولغاتهم، وليس على وجه الأرض بناء أرفع وأعظم منها.
وكان ابتداء بنائهما في طالع سعيد، قد قرر عليهما، وبناء هذين (1) الهرمين والنسر الواقع في السرطان.
فلما فرغ / من بنائهما، كساهما ديباجا ملونا، وعمل لهما عيدا استحضر إليه أهل مملكته، وكتب عليهما: «إني بنيتهما في ستين سنة، فمن ادعى قوة يهدمهما في ستماية سنة، فإن الهدم أهون من البناء، وإني كسوتهما حريرا فليكسهما من بعدي حصيرا»!. وعددها ثمانية عشر هرما، ثلاثة منها بالجيزة مقابل الفسطاط، وعند مدينة فرعون يوسف، عليه السلام، إهرام دوره ثلاثة آلاف ذراع، وعلوه أربعماية ذراع، وعند مدينة فرعون موسى إهرام آخر، وآخرها يعرف بهرم ميدوم كأنه جبل فالهرم الشرقي فيه سوريد الملك، وفي الهرم الغربي أخوه هرجيب، وفي الهرم الملون أفريبون بن هرجيب، والصابئة تزعم أن أحدها قبر شيث عليه السلام، والآخر قبر هرمس، والملون قبر صابىء بن هرمس، وإليه
__________
(1) الأصل: «هذا».(2/204)
تنسب الصابئة. وجعل لكل هرم منها خازنا من الروحانيين، فالموكل بالهرم البحري في صفة امرأة عريانة مكشوفة الفرج ولها ذوايب إلى الأرض، وقد رآها جماعة تدور حول الهرم وقت القائلة، والموكل الذي إلى جانبه في صورة غلام أمرد عريان، وقد رؤي بعد المغرب يدور حول الهرم، والموكل بالثالث في صفة شيخ في يده مبخرة وعليه ثياب الرهبان، وقد رؤي يدور ويبخر ليلا، ووكل بسايرها أمثال ذلك من الروحانية.
وقيل إن إدريس، عليه السلام، حين استدل من أحوال الكواكب على وقوع الطوفان، أمر ببناء الأهرام، وأودعها الأموال وصحايف العلوم، وما يخاف عليه من الذهاب والدثور. وقيل بناها شداد بن عاد، وكانوا يعتقدون بالرجوع، فكان أحدهم إذا مات دفن معه ماله، وإن كان صانعا دفن معه آلات صنعته.
وأحوال هذه الأهرامات عجيبة، وحكاياتها غريبة، وكل شيء يخشى عليه من الدهر إلا الهرمين، فإنه يخشى على الدهر منهما، وفي ذلك يقول الشاعر:
حسرت عقول أولي النهى الأهرام ... واستصغرت لعظيمها الأجرام
ملس منقّبة البناء شواهق ... قصرت لعال دونهن سهام
لم أدر حين كبا التفكّر دونها ... واستوهمت لعجيبها الأوهام /
أقبور أملاك الأعاجم هنّ أم ... طلسم رمل كنّ أم أعلام
قال المتنبي:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... من قومه ما يومه ما المصرع
تتخلّف الآثار عن سكانها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
ثم إن سوريد، لما ملك ماية وسبعا وستين سنة، وكان منجموه عرفوه الوقت الذي يموت فيه، واليوم والساعة، أوصى بالملك لولده، وعرّفه جميع ما يحتاج إليه، وأمره بأن يدخل جسده إلى الهرم الذي أعده لنفسه، فامتثل ولده جميع ما أمره به.
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «مؤنقة».(2/205)
فلما مات، تولى الملك بعده هرجيب، وسار سيرة أبيه بالعدل والعمارة والرأفة بالناس، فأحبوه وأطاعوه، فبنى هرما ونقل إليه كثيرا من المال والجواهر.
وكانت له بنت أفسدت مع بعض خدامه، فنفاها إلى ناحية المغرب، وأمر بأن يبنى لها مدينة هناك، وأسكن معها كل امرأة مسنة من أهل بيته، ثم مات.
وكانت مدة ملكه نيفا وسبعين سنة.
وملك بعده ابنه مناوش، وكان جبارا أثيما، وشيطانا رجيما، آذى الناس، وسفك الدماء، واغتصب النساء. وكان يفتضّ ختامهن قبل أزواجهن، واستخرج كنوز آبائه، وبنى قصورا من ذهب وفضة، وفجر فيها الأنهار وجعل حصباءها من صنوف الجواهر. واستغرق في اللذات والشهوات وغفل عما يتعلق بالعمارات ومصالح العباد، فأبغضه الناس، وكل من امتنع من أمره أحرقه بالنار.
وأقام ملكا ثلاثا وسبعين سنة، ومات، فوضع في الهرم مع أجداده وحمل معه كنوزه.
ثم ملك بعده ابنه أقروش، وكان كاهنا ماهرا، خالف أباه في أفعاله وعدل في الناس.
وعمل فوارة قطرها ماية ذراع وطولها خمسون ذراعا، وركب في جوانبها أطيارا تصفر بأصناف اللغات المطربة لا تفتر.
وعمل في وسط المدينة منارا عاليا من نحاس أصفر (1)، عليه صورة إنسان يصفر (2)، كلما مضت ساعة صاح ذلك صياحا عاليا، فيعلم به دخول الساعات في الليل والنهار.
وعمل منارا آخر، وجعل / على رأسه قبة من صفر مذهب، وألطخها لطوخات، فإذا غربت الشمس اشتعلت تلك القبة نارا تضيء لها أكثر المدينة، ولا
__________
(1) في الأصل و (ج): «من صفر» وما أثبتناه من (ب).
(2) في الأصل و (ج): «من صفر» والصيغة المثبتة من (ب).(2/206)
تطفيها الأمطار ولا الرياح، فإذا كان النهار قل ضوءها لضوء الشمس. وعمل أمثال ذلك من الغرايب التي يطول ذكرها.
ويقال إنه نكح ثلاثماية امرأة يبتغي منهن أولادا، فلم يمكن ذلك في عصره، لأن الأرحام عقمت بأمر الله تعالى لقرب زمان الطوفان وهلاك العالم.
وكثرت في زمانه الأسود حتى كانت تدخل البيوت، وانقطعت الأمطار، وقلّ الماء في النيل، وهلكت الزروع من الريح الحارة.
وكانت مدة ملكه أربعا وستين سنة، وليس له ولد ولا أخ، ودفن في الهرم وجعلت معه خزاينه، فملكوا رجلا من أهل بيت الملك، يقال له أرميا لينوس.
فلما ملك، سر بسيرة سلفه، وكان له ابن عم يقال له فرعان، أحد الجبابرة الذين لا يطاقون، وهو أول فرعون سمي بهذا الاسم، وسمي باسمه تشبيها به، فعشقته بعض نساء الملك وراسلته بامرأة فامتنع. فلم تزل به المرأة حتى أرضته، ثم سمت الملك في شرابه فقتلته.:
وجلس فرعان على سرير الملك، فلم ينازعه أحد. وكان الطوفان وقع في زمانه، وكان علا في الأرض وتجبر، وغصب الناس أموالهم وأنفسهم ونساءهم، وعمل ما لم يعمله أحد من الملوك قبله. وأسرف في القتل وهابته الملوك، وأقرّوا له بالطاعة، وهو الذي كتب إلى الدرنسيل، ملك بابل، يشير إليه بقتل نوح، عليه السلام، فمنعه الله تعالى منه.
وكان عند أهل مصر علم بالطوفان، فاتخذوا السراديب تحت الأرض وصفّحوها بالزجاج، واتخذ الملك عدة منها له ولأهل بيته. وكان رئيس الكهنة أقليمون رأى رؤيا، وأمر فيها باللحوق إلى صاحب السفينة، وأقام فرعان الملك منهمكا في ضلاله وظلمه، فاستأذن أقليمون من الملك بالسير إلى بابل حتى ينظر في أمر نوح، عليه السلام، ويناظر معه ثم يأتيه بالخبر، فأذن له الملك في ذلك، فسار بأهله وولده وتلاميذه حتى إذا وصل إلى نوح، عليه السلام، آمن به هو
وجميع من معه. فلم يزل هو ومن معه في خدمة نوح، عليه السلام، إلى أن ركبوا السفينة معه.(2/207)
وكان عند أهل مصر علم بالطوفان، فاتخذوا السراديب تحت الأرض وصفّحوها بالزجاج، واتخذ الملك عدة منها له ولأهل بيته. وكان رئيس الكهنة أقليمون رأى رؤيا، وأمر فيها باللحوق إلى صاحب السفينة، وأقام فرعان الملك منهمكا في ضلاله وظلمه، فاستأذن أقليمون من الملك بالسير إلى بابل حتى ينظر في أمر نوح، عليه السلام، ويناظر معه ثم يأتيه بالخبر، فأذن له الملك في ذلك، فسار بأهله وولده وتلاميذه حتى إذا وصل إلى نوح، عليه السلام، آمن به هو
وجميع من معه. فلم يزل هو ومن معه في خدمة نوح، عليه السلام، إلى أن ركبوا السفينة معه.
وأقام / فرعان منهمكا في ضلاله وظلمه، مقبلا على لهوه، وقد ضاقت الدنيا بأهلها، وكثر الهرج والقتل، وفسدت الزروع وأجدبت البلاد، وظلم بعضهم بعضا من العباد.
وجاء الطوفان وأقبل المطر عليهم يوم الأحد، الرابع والعشرين من شهر آذار، عاشر رجب، وكان الملك سكرانا، فلم يتحرك من مكانه حتى جرى الماء عليه، فوثب مبادرا يريد الهرم الذي بناه، فتجلجلت الأرض، وطلب الأسراب فخانته رجلاه، وسقط على وجهه، وجعل يخور كما يخور البقر (1)، إلى أن أهلكه الطوفان.
ومن دخل الأسراب منهم هلك بفمها، ولحق الماء من أعلى الأهرام إلى آخر التربيع، وهو ظاهر عليها إلى الآن، وليس بين أهل التاريخ اختلاف في عموم الطوفان على جميع الأرض.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «الثور».(2/208)
الفصل الحادي عشر في ذكر ملوك مصر بعد الطوفان وما وضعوه من الآثار في الصحاري والكثبان
أجمع أهل الأثر على أن أول من ملك الديار المصرية، بعد الطوفان، مصريم بن بنصر بن حام بن نوح، عليه السلام (1)، وذلك بدعوة سبقت له من نوح جده لولده حام قال: «اللهم بارك فيه وفي ذريته، واسكنه أحسن الأرض المباركة التي نهرها أحسن الأنهار، واجعل فيها أفضل البركات!». فسأل أقليمون الكاهن نوحا، عليه السلام، أن يجعل له رفعة وقدرا يذكرونه به من بعده ويخلطه بأهله وولده، فزوج نوح، عليه السلام، ابن ابنه بنصر بن حام من ابنة أقليمون المذكور، فولدت له ولدا اسماه بمصر باسم بلده.
فلما قسم نوح، عليه السلام، الأرض بين بنيه، قال له أقليمون: «ابعث معي يا نبي الله ابني حتى أمضي به إلى بلدي، وأظهره على كنوزها، وأظهره على كتب العلوم ورموزها!». فبعثه معه في جماعة من أهل بيته، وكان غلاما مرفها.
فلما قرب من مصر، بنى له عريشا من أغصان الشجر وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له مدينة وسماها درسان، أي باب الجنة.
وكان عنده رجل ماهر يقال له مقيطام يعمل لهم الكيمياء والطلسمات الغريبة، فمن ذلك عمل قبة على أساطين من نحاس مذهب في ارتفاع ماية ذراع، قد ركب عليها مرآة من أخلاط شتى / قطرها خمسة أشبار، فإذا قصدهم قاصد من الأمم عملوا لتلك المرآة عملا، فألقت شعاعها على ذلك الشيء فأحرقته. فلم
__________
(1) قارن بأبي الفدا (المختصر 1/ 56) والمقريزي (الخطط 1/ 1918).(2/209)
تزل على حالها إلى أن غلب عليها الريح فسفها، ويقال إن الإسكندر إنما عمل المنارة تشبيها بها.
وكان مصريم مؤمنا بالله تعالى، ومصدقا بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، عاش بعد الطوفان سبعماية عام. فلم يعرض له فيها هم ولا سقم ولا هرم.
ولما أشرف على الموت عهد بالأمر لابنه قبطيم، يقال إن القبط منسوبون إليه، وهو أول من عمل العجايب، ويقال إنه لحق البلبلة، وخرج منها باللغة القبطية. وكانت مدة ملكه أربعماية وثمانين سنة.
فلما مات اغتمّ عليه بنوه، ودفن في سرب شرقي البلد، وحملوا معه جميع خزاينه، وزبروا عليه اسمه.
ثم ملك بعده ابنه الأكبر فقطريم، وكان جبارا عظيم الخلق، وهو الذي وضع الأهرام الدهشورية، وبنى مداين ومصانع عجيبة وحصل له من الكنوز ما لم يحصل لغيره. وكان يجد من الذهب مثل حجر الرحى، ومن الزبرجد كالأسطوانة في صحراء الغرب، فيعمل ما شاء من العجائب، ووجد هناك معدن زيبق فعمل منه بركة، فقيل إنها باقية إلى الآن. ويقال إن عاد هلك بالريح في آخر أيامه.
وفي زمانه أقام إبليس وأعوانه الأصنام التي كان الطوفان طمها وزيّنوا أمرها، ومن بعد الطوفان إلى زمانه لم يكن يشرك بالله تعالى أحد، وإنما كانوا مؤمنين موحّدين فيهم الحكماء والكهنة، ولم يكن اسم الكهنة عندهم عيبا، بل كان الكاهن كالحكيم الذي لا يعصى أمره.
ويقال إن فقطريم الملك بنى مداين وعمل فيها العجايب منها الماء القايم كالعمود لا ينحل ولا يذوب، والبركة التي تسمى قلسطين أي صيّادة الطير، لا يمر عليها طير إلا سقط فيها، والعمود من النحاس الذي يطرد الهوام عن دخول البلد بتصفير يصفر عليها، فترجع هاربة وغيرها. وكانت مدة ملكه أربعماية وثمانين سنة.(2/210)
فلما مات حمل جسده إلى سرب قد عمله لنفسه، وأودع فيه دفاين، ومن الغرايب ما لا يوصف.
ثم ملك بعده ابنه بودسير، فتجبر وتكبر وتكهن.
وهو أول من غيّر / الدين وتعبد الكواكب وعمل بالسحر، واحتجب عن العيون وقهر الملوك وغلبهم. وهو الذي بنى مدينة الواحات.
ومما عمل في زمانه: قبة لها أربعة أركان، وفي كل ركن منها كوة يخرج منها كالدخان الملفف في ألوان شتى كل لون من الألوان يدل على حكم من الأحكام. ومما عمل في زمانه بالغرب شجرة من النحاس لا يمر عليها شيء من الوحوش والطيور إلا اصطادته.
ثم إن الملك احتجب عن أعين الناس، وكان يتجلى لهم في صورة وجه عظيم، وربما خاطبهم ولا يرونه، ثم غاب مدة، وهم في طاعته، إلى أن رآه ابنه وهو يأمره بالجلوس على سرير الملك، فجلس، واسمه عديم، وكان جبارا لا يطاق، عظيم الخلق، شديد البطش.
وهو أول من صلب، وذلك أن امرأة زنت برجل فأمر بصلبهما.
ثم إنه بنى أربع مداين وأودع فيها صنوفا كثيرة من العجائب، وعمل في الشرق منارة، وأقام على رأسها صنما متوجها إلى الشرق، مادا يديه يمنع دواب البحر والرمال أن تتجاوز حدها، ويقال إن هذا المنار باق إلى وقتنا هذا، ولولاه لغلب الماء المالح من البحر الشرقي على أرض مصر. وعمل قنطرة على النيل في أول بلاد النوبة.
وتوفي وهو ابن تسعماية وثلاثين سنة.
ومما عمل في زمانه، صورة صنم قايم له إحليل، إذا أتاه المعقود [المحصور] (1) والمسحور ومن لا ينتشر، ومسه بكلتا يديه أزال عنه ذلك، وانتشر
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/211)
وقوي على الباه، وجعل مثلها للنساء لدر ألبانهن. وبعض القبط يحكي أنه أودع بمصر اثني عشر ألف أعجوبة وطلسم، ولم يعمل في بلد كما عمل فيها.
فلما هلك، ملك بعده ولده شدات، وكانت مدة ملكه تسعين سنة. وبنى مداين عجيبة، ووضع فيها أصنام الكواكب، وحلاها بأنواع الحلى والجواهر، فخرج للصيد وهو يطرد وحشا فأكبت (1) به فرسه في وهدة فقتله، وكان له من العمر أربعماية وأربعون سنة.
فلما هلك، عمل له سرب، فجعل فيه كما عمل لآبائه.
ثم ملك بعده ابنه منقاوش، وهو الذي أظهر صحايف الحكمة، وأمر بالنظر إليها، وأن تنسخ لهم بخط العامة / ليفهموها، ورد الكهنة إلى مراتبهم.
وهو أول من عمل له الحمام من ملوك مصر.
وكان كثير النكاح، فتزوج عدة من النساء من بنات عمه وبنات الكهنة، وجعل لكل امرأة منهن مكانا بجميع ما يصلحه من البنيان العجيب والفروش الحسنة، وأسكنهن فيها.
وقيل هو الذي بنى مدينة منف لبناته وكن ثلاثين بنتا، ونقلهن إليها.
وعمل للسنة اثني عشر عيدا، لكل شهر عيد يعمل فيها من الأعمال ما كان موافقا لبرج ذلك الشهر. وكان يطعم الناس في تلك الأعياد ويوسع عليهم في أحوالهم، ففرح الناس به ودلوه على معادن وكنوز.
وألزم أصحاب الكيمياء العمل، وكانوا لا يفترون ليلا ولا نهارا، فاجتمع عنده أموال عظيمة وجواهر كثيرة، فخاف أن يطمع فيه الملوك إذا سمعوا، فدعا أخاه وبعث معه اثني عشر ألف عجلة، منها ثلاثماية عجلة من الجواهر، والباقي ذهب أبريز صفايح ومضروب، ومن آلات الملوك وأوانيهم. فقال له: «امض في
__________
(1) كذا وفي (ج): «فأكبى».(2/212)
أرض المغرب، وانظر مكانا حريزا فادفنه فيه!». ففعل أخوه ما أمر به، ثم جعل يبعث في كل سنة عجلا عظيما من المال تدفن في نواحي شتى.
وعمل في مدينة أندميس بيتا تدور به تماثيل، فيها منافع لجميع العلل، وقد كتب على كل تمثال ما يصلح من العلاج، وعمل فيها صورة امرأة متبسمة لا يراها مهموم إلا انجلى همه. وعمل تمثالا روحانيا من صفر مطليا بالذهب ذا (1)
جناحين، لا يمر به زان ولا زانية إلا أعلمه (2).
وكان خراج مصر، إذ ذاك ماية، ألف ألف ألف وثلاثماية ألف دينار.
وكانت مدة ملكه احدى وتسعين سنة. ومات من علة الطاعون، وقيل مسموما، ودفن في سرب ومعه خزاينه وكنوزه، كما كان لآبائه من قبل.
وتولى مكانه مناوش، فطلب الحكمة مثل أبيه، واستخرج كتبها وأكرم أهلها، وبذل لهم الجوايز.
وهو أول من عبد البقر من أهل مصر وكان سببه أنه مرض فقيل له في المنام لا يخرجك من علتك هذه إلا عبادتك للبقر، لأن الطالع وقت حلول المرض صورة ثور، وقيل غير ذلك في عبادة البقر.
وبنى مدينة وجعل / حول المدينة طلسمات، رؤوسهم رؤوس الوحوش، وأيديهم أيدي الإنسان، لدفع المضار، وجلب [المصالح] (3) والمنافع. وعمل مدينة بالقرب من ذلك تعرف بقميطر ذات العجايب، في وسطها قبة عليها كالسحابة تمطر، صيفا وشتاء، مطرا خفيفا، وتحت القبة مطهر فيها ماء أخضر، يتداوى به من كل داء، ويقال إن هاتين المدينتين بنيتا على اسم هرمس (4)، وهو عطارد، وإنهما على حالهما.
__________
(1) الأصل: «ذات».
(2) كذا وفي (ج): «إلّا أعلم به».
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) كذا وفي (ج): «هرمز».(2/213)
وفي أيامه، بنيت البهنسا، وأقام بها أسطوانات، وجعل فوقها مجلسا من زجاج أصفر، وعليه قبة مذهّبة، فكانت الشمس إذا طلعت عليها ألقت شعاعها على المدينة.
قال أهل الأثر: إنه ملك ثمانماية عام، وإن قوم عاد انتزعوا منه الملك بعد ستماية سنة من ملكه، وأقاموا تسعين سنة واستوطنوا البلد، فانتقلوا إلى المدينة من طريق الحجاز إلى وادي القرى فعمروها، واتخذوا المصانع والمنازل، فسلط الله عليهم الدبور فأهلكهم، وعاد ملك مصر إلى أشمون بعد خروجهم من البلد.
فلما هلك، ودفن في أحد الأهرامات الصغار القبلية، استخلف مكانه ابنه مناقيوس. وكان جلدا فطنا مدبرا، استأنف العمارة وبنى القرى، ونصب الأعلام، وجمع الحكمة، وبنى لنفسه مدينة انفرد فيها، وأفرد فيها مصانع عجيبة، وكانت مدة ملكه نيفا وأربعين سنة. فلما مات دفن في بعض الأهرامات ومعه خزاينه.
وملك بعده ابنه الملك، وكان في سلك أبيه وحكمته، فعظم في أعين أهل مصر.
وهو أول من عمل البيمارستان لعلاج المرضى والزمنى، وصنع لنفسه عيدا يجتمع فيه الناس سبعة أيام يأكلون ويشربون، وهو مشرف عليهم من مكان عال، مصفح من الداخل والخارج بالزجاج المسبوك والذهب، فيعطي الناس عطيات جزيلة، ويهب لهم مواهب كثيرة، فيدعوا له الناس ثم ينصرفون (1).
فكان له عدة نسوة، ولكن خص منهن امرأتين بالصحبة، فمال في بعض الأيام إلى إحديهما دون الأخرى، فغارت الأخرى وأخذت سكينا فقتلت ضرتها وزوجها الملك، وقبض على المرأة وحبست. وكان ملكه ستين سنة.
ثم ملك بعده ابنه / مرقورة. فلما جلس على سرير الملك دخل عليه العظماء والأعيان، ودعوا له بدوام الملك والنعمة. وكان حازما جميلا، مدبرا عاقلا. وهو أول من ذلل السباع وركبها.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «يذهبون».(2/214)
ومدة ملكه نيف وثلاثون سنة.
وقلد ابنه بلاطس، وهو صبي، فدبرت أحواله أمه إلى أن كبر، ثم مات من الجدري.
وكان ملكه ثلاث عشرة سنة، وفيه انقطعت سلسلة قبطيم، فبقيت السلطنة في يد أثريب، وكان ساكنا في مدينته التي بناها في حياة أبيه وجده، وهي مدينة عجيبة طولها اثنا عشر ميلا ولها اثنا عشر بابا، وأودع فيها من العجايب والطلسمات وغرايب الأشياء ما لا تدركه العقول.
وبنيت في زمانه مدن كثيرة. وكان في زمانه رجل يقال له برسيان (1)، يعمل الكيمياء ويضرب منها دنانير، كل دينار سبعة مثاقيل عليها صورة الملك.
فكانت مدة ملكه ثلاثماية سنة، وقيل خمسماية سنة، وعمل له ناووسا ووضع فيه جسده وخزاينه على عادتهم، ومثل على قبره صورة تنين، لا يدنو منه أحدا إلا أهلكه.
وملكت بعده ابنته تدرورة (2)، فدبرت الملك وساسته بأيد وقوة خمسا وثلاثين سنة، وماتت.
فقام بالأمر بعدها ابن أختها (3) أقليمون. فلما تسلطن، سلك مسلك [آبائه] (4) وأجداده.
وفي زمانه، بنيت دمياط على اسم غلام كانت أمه ساحرة أقليمون. وملك أقليمون تسعين سنة ثم مات، ودفن في سرب.
وتسلطن ابنه فرسون، وكان شابا جميلا حسن الوجه، محبا للحكمة.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «بريسان».
(2) بياض في الأصل وفي (ب) وما هنا من (ج).
(3) كذا وفي (ب) و (ج): «أخوها».
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/215)
وكانت احدى (1) نساء أبيه عشقته وشغفت به، وكانت تتولى طيبة، فبعثت إلى ساحرة من أعظم سحرة منف، فسألتها تسخيره لها، وبذلت لها في ذلك أموالا، فإذا بالساحرة قد عشقته أشد من عشقها، فسعت لنفسها وأبعدتها من الملك.
ثم إن ملكا من ملوك حمير قصد مصر في جموع عظيمة، فاستقبله الملك، فتقاتلا أشد المقاتلة حتى تفانى الفريقان، فجاءت تلك الساحرة إلى الملك فقالت: «ما تجعل لي إن نصرتك على عدوك؟». قال: «ما شئت!». فجعلت الساحرة تدخن بدخن (2) / عجيبة، وتسحر وتظهر تخاييل هايلة حتى ولّى الحميري هاربا على وجهه في نفر يسير، وعاد الملك بأساراه وخزاينه، وعاد إلى منف سالما غانما. ثم أتته الساحرة وسألته الوفاء، فقال: «نعم!». فقالت: «ما أريد إلا الملك!». فتزوجها الملك بعد مدافعات كثيرة وممانعات عديدة. فعند ذلك غارت امرأة أبيه، فأخذت في أعمال الحيلة، فدست جارية لها، عاقلة لطيفة، على ساقي الملك، فاختلطت بجواريه حتى تمكنت من إناء كان يشرب فيه الملك، فألقت فيه سما وعادت تخبر مولاتها.
فلما سمعت ذلك دخلت على الملك فسجدت له، وقالت له: «قد كنت للملك ناصحة فأقصاني، وقرّب ساحرة فاجرة تريد قتل الملك، وقد وضعت السم في شرابه في إناء من صفته كذا، فليسقها الملك منه ليعلم صدقي!». فدعا الملك بالإناء فوجده على ما ذكرت، فأحضر الساحرة، وأمرها بشرب قدح منه فشربت، ولم تعلم ما سببه، فسقط لحمها من عظمها، فماتت ولم يغن عنها سحرها، وأعاد امرأة أبيه فتزوجها وقرّبها.
وفي زمانه، عمل منارة على بحر القلزم، وجعل على رأسها مرآة من أخلاط تجذب المراكب إلى شاطىء البحر، فلم يمكنها الذهاب حتى تعشر.
__________
(1) في الأصل وفي النسختين (ب) و (ج): «وكان أحد».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «بدواخن».(2/216)
فملك مايتين وستين سنة، ثم مات وجعل جسده في ناووس على سنن آبائه، وبه انقطعت السلطنة عن أهل بيته.
وكان اصطنع في مدينته حمامات توقد بنفسها. وكانت العمارة ممتدة في رمال رشيد، والإسكندرية إلى برقة.
وكان الرجل يسافر في أرض مصر، فلا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا في ظلال تستره.
فلما انقضى زمن أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحاري من آثار البلدان ورسوم البنيان. ولم يزل من دخل الصحاري يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجايب.
ثم تسلطن مرقوس، وكان محبا للحكمة وسائر العلوم، وعمل في أيامه أشياء عجيبة منها:
درهم إذا ابتاع به صاحبه شيئا، اشترط أن يوزن / له ما يبتاع منه بوزن ذلك الدرهم، ولا يطلب عليه زيادة، فيغتر البايع بذلك ويقبل الشرط، فإذا تم ذلك بينهما، وقع في وزن الدرهم عشرة أضعافه (1). وقد وجد في خزاين مصر في دولة بني أمية من هذا الدرهم.
ومنها: درهم إن سلّمته للبايع عاد إليك، ولم يجد البايع مكانه إلا ورقة آس أو قطعة قرطاس.
ومنها: آنية من زجاج يساوي وزنها مملوءة بالماء وزنها فارغة (2).
ومنها: آنية إذا جعل فيها الماء انقلب حجرا.
ومنها: صورة الضفادع والخنافس والذباب والعصافير، فكانت إذا جعلت
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وقع في وزن الدرهم أضعاف ذلك عشرة».
(2) الجملة: «ومنها آنية من زجاج فارغة» ساقطة من (ج).(2/217)
في موضع، اجتمع إليها ذلك الجنس بعينه، فلم يبرح من مكانه حتى يقتل ويهلك.
وكان هذا الملك يعبد عقابا من ذهب مسبوك وعيناه ياقوتتان، وكان الشيطان يحل به، فينطق له ويأمره بأشياء، وعمل من الكيمياء الذهب الخالص ما لم يعمله أحد من الملوك. يقال إنه دفن في صحراء الغرب خمسماية دفينة.
ومن العجايب التي عملت في زمانه، عمود قد ركب عليه صورة امرأة جالسة ناظرة إلى مرآة في يدها، فينظر إليها الطالب، فإن كان العليل يموت رآه ميتا، وإن كان يعيش رآه حيا. والمسافر إن كان مقبلا علم أنه راجع، وإن رآه مقيما علم أنه مقيم، وكذلك المريض والميت يرى شكلهما.
وكانت مدة ملكه ثلاثا وسبعين سنة، وله مايتان وأربعون سنة. فلما مات دفن في ناووس عمله لنفسه، وحملت معه خزاينه.
ثم تولى مكانه بعهد منه أيسار، وكان جبارا معجبا برأيه، فوض تدبير المملكة إلى وزيره مسرور، واشتغل هو بالملاهي والشهوات، لا بمر بموضع لطيف إلا أقام فيه أياما مع نسائه وخدمه، فاستنفد جميع ما في خزاينه وخزاين أبيه.
فلما أفرط في ذلك، همّ الناس على خلعه، فاستغفلهم ووضع فيهم السيف حتى قتل أكثرهم. فلم تزل الخاصة والعامة مستنفرين منه، حتى دس عليه ساقيه سما في شرابه فقتله.
وكانت مدة ملكه خمسا وستين سنة، وله من العمر ماية وعشرون سنة.
ثم تولى مكانه ابنه صا، وأكثر القبط تزعم أنه أخوه. / فلما تولى أحسن إلى الناس ووعدهم بالعدل والإنصاف، وسكن منف، وعمل فيها مرآة يرى فيها جميع البلاد التي تخصب والتي تجدب. وعمل صنما لكل من تعذر عليه أمر يأتيه، فيخبره فيتيسر عليه ذلك الأمر.
وبنى في الواح الأقصى مدينة، وأودع فيها جميع خزاينه. وفي تلك
الصحاري مدن كثيرة، إلا أن الرمال غلبت عليها فاندرست معالمها، وبطلت طلسماتها، وأكثر مدنها استولى عليها الجان.(2/218)
وبنى في الواح الأقصى مدينة، وأودع فيها جميع خزاينه. وفي تلك
الصحاري مدن كثيرة، إلا أن الرمال غلبت عليها فاندرست معالمها، وبطلت طلسماتها، وأكثر مدنها استولى عليها الجان.
وأقام ملكا سبعا وستين سنة، وله من العمر ماية وسبعون سنة، ودفن في ناووس بمنف.
ثم تولى بعده ابنه ندارس، فملك جميع الديار المصرية كأبيه. وكان عاقلا فطنا، ذا أيد وقوة ومعرفة بالأمور.
وبنى غربي منف بيتا عظيما للزهرة وصوّرها في صورة امرأة من الآجر مذهّبة متوّجة بذهب تلوح زرقته، وكان يتردد إليها.
وطمع في بلاده الزنج والنوبة، فجمع عساكره وتلقاهم وانتصر.
ثم بعد ذلك رأى رؤيا هالته، تدل على موته، فعمل له ناووسا، فلم يمض كثير حتى مات، وحمل إليه خزاينه.
وعهد بالملك لابنه ماليق، وكان عاقلا كريما، حسن الوجه والصورة، مؤمنا موحدا، مخالفا لأهل بلده وأبيه.
وكان القبط تذمه على ذلك، وسببه أنه رأى رؤيا في المنام أن رجلين اختطفاه من الأرض وحملاه إلى الفلك، إلى أن أوقفاه بين يدي شيخ أسود أبيض الرأس، فقال له الشيخ: «هل تعرفني؟». قال: «لا!». قال: «أنا زحل!». فقال له ماليق: «عرفتك، أنت إلهي!». قال الشيخ: «ما أنا إلا مخلوق وإلهي وإلهك الله الذي خلق السماوات والأرض، خلقني وخلقك!». فقال ماليق: «وأين هو؟». قال: «في العلو لا تراه العيون، ولا تدركه الظنون، ولا تلحقه الأوهام، ولا يتصف بصفات الأجسام!». فقال ماليق: «كيف أعمل؟». قال: «تضمر في نفسك ربوبيته علينا، وتخلص وحدانيته وتعرف أزليته!». ثم أمر الرجلان، فأنزلاه إلى الأرض، فانتبه مذعورا.
وكان كثير الغزو، ثم غزا يريد مدينة أسطا في الغرب، وملكتها ساحرة. فلما قرب منها / سترت مدينتها بسحرها، فلم يروها، وطمست المياه فلم يعرفوها،
فهلك أكثر العساكر فرجع. ثم عملت الساحرة بعض أدوية وأمرت بعض قومها، فألقاها في النيل، ففاض الماء وأفسد الزرع والغلال، وكثرت في بقية الماء التماسيح والضفادع، وظهرت العلل في الناس، وظهرت في أرضهم الثعابين والعقارب، فجمع ماليق الكهنة والحكماء، وسألهم عن هذه الحوادث، فأخبروه أنها من أعمال ساحرة أسطا. فأمرهم بالاجتهاد في هلاكها.(2/219)
وكان كثير الغزو، ثم غزا يريد مدينة أسطا في الغرب، وملكتها ساحرة. فلما قرب منها / سترت مدينتها بسحرها، فلم يروها، وطمست المياه فلم يعرفوها،
فهلك أكثر العساكر فرجع. ثم عملت الساحرة بعض أدوية وأمرت بعض قومها، فألقاها في النيل، ففاض الماء وأفسد الزرع والغلال، وكثرت في بقية الماء التماسيح والضفادع، وظهرت العلل في الناس، وظهرت في أرضهم الثعابين والعقارب، فجمع ماليق الكهنة والحكماء، وسألهم عن هذه الحوادث، فأخبروه أنها من أعمال ساحرة أسطا. فأمرهم بالاجتهاد في هلاكها.
فلما أمسى الملك، لبس المسوح وافترش رمادا واستقبل القبلة، وأقبل على الابتهال إلى الله تعالى والتضرع، وقال: «يا رب، أنت إله الآلهة، وخالق الخلق، ولا يكون شيء إلا بقضائك، أسألك أن تكفيني أمر هذه الساحرة!».
وغلبته عيناه فرأى رجلا يقول له: قد رحم الله تضرعك، وأجاب دعاك، وهو مهلك هؤلاء القوم ومدمرهم، وصارف عنك هذه البلية. فلما أصبح أتاه الكهنة ودعوه إلى الحضور معهم إلى الأصنام. فقال لهم: «قد كفيتكم أمر عدوكم، وأهلكتهم، وأزلت المياه الفاسدة والدواب المضرة عنكم». فنظر بعضهم إلى بعض كالمستهزئين به، ثم مضوا إلى مكانهم ينتظرون صحة مقال الملك.
فلما كان بعد يومين، انكشف ذلك الماء الفاسد، وهلكت تلك الدواب المضرة، فعلموا أن الذي أخبرهم به حق، فأرسل قايدا لينظر حال تلك القوم، فأتاهم، فوجدهم قد سقط عليهم حصن، وقد هلكوا بأجمعهم، واحترقوا، واسودت وجوههم، ووجدوا الأصنام متنكسة (1) على وجوهها، وأموالهم ظاهرة بين أيديهم.
فطاف بالمدينة فلم يجد بها غير رجل واحد، كان مخالفا لهم، فأخبر الملك، ونقل تلك الأموال والجواهر التي لا يحصيها إلا الله تعالى. وأمر بإحضار الرجل، فسأله، وأعجب بكلامه وعقله، فاستوزره.
ولم يزل الملك على التوحيد حتى مات، وأوصى أن يعمل له ناووس، وأن
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «منكسة».(2/220)
لا يدفن معه سوى الطيب وصحيفة مكتوبة بخطه فيها إيمانه بالله تعالى، وإيقانه بالبعث والنشور.
واستخلف مكانه ابنه خربتا، وكان ليّنا سهل الخلق، لم يمت أبوه حتى شرح له التوحيد، وأمره أن يدين / بدينه، ونهاه عن عبادة الأوثان، فرجع عنه بعد موت أبيه إلى دينهم.
وكان كثير الغزو، فعمل ماية سفينة وتجهّز إلى الغزو، فكان لا يمر بمدينة إلا أقام بها حجرا زبر عليه اسمه حتى بلغ أرض سرنديب (1)، فأوقع بأهلها ما أوقع، وغنم أموالا وجواهر كثيرة، ورأى فيها أقواما عجيبة، فاستمر ينقل المال من تلك الجزائر عدة سنين. ويقال إنه أقام في سفره ذلك سبع عشرة سنة، ورجع إلى أرض مصر غانما.
ثم غزا نواحي الشام وأدّى أهلها الطاعة وأهابوه، ورجع إلى مصر.
ثم غزا نواحي النوبة والسودان، فصالحوه على خراج يحملونه إليه، وملكهم خمسا وسبعين سنة.
فلما مات، قتل جماعة من نسائه أنفسهن جزعا عليه، لأنه كان جميلا.
وملك بعده ابنه كلكن، وكان يحب الحكمة وأهل المعرفة، ولم يزل يعمل الكيمياء طول عمره، فخزن أموالا كثيرة بصحاري الغرب.
وهو أول من أظهر علم الكيمياء بمصر، وكان علما مكتوما. وكان يطرح المثقال الواحد على القناطير الكثيرة من النحاس، فيصنعها بإذن الله تعالى ذهبا، فامتنعوا عن المعادن لقلة حاجتهم إليها.
وعمل أيضا أحجارا شفافة ملونة من الفيروزج واليشم والزبرجد وغيرها.
__________
(1) بفتح أوله وثانيه، وسكون النون، وهي جزيرة عظيمة في بحر هركند بأقصى بلاد الهند، وفيها الجبل الذي هبط عليه آدم، يقال له الرّهون.
ياقوت 3/ 216215.(2/221)
واخترع أشياء تخرج عن العقول، حتى كانت تسميه الحكماء حكيم الملوك.
وكان يخبرهم بالغيب فهابوه، واحتاجوا إلى علمه.
وكان نمرود في زمانه قد التقى معه على أبعة أفراس ذوات أجنحة تحمله، وقد أحاط به نور كالنار وحوله صور هائلة، فدخل بها وهو متوشّح بثعبان متحزّم ببعضه، والتنين فاغر فاه، ومعه قضيب من آس أخضر، فكلما حرّك التنين رأسه ضربه بالقضيب.
فلما رأى نمرود ذلك، هاله أمره وخاطبه، فاعترف له بجليل حكمته وسأله أن يكون له ظهيرا، مع أن نمرود كان جبّارا مشوه الخلق، قد آتاه الله قوة وقدرة وبطشا.
وكان الملك يرتفع ويجلس على الهرم الغربي في قبة تلوح على رأسه، فقصده ملك من ملوك العرب يقال له سادوم (1)، في جيش عظيم، فأقبل نحوهم، ثم سلّط / عليهم من سحره شيئا كالغمام، شديد السواد شديد الحرارة، فأقبلوا تحته أياما متحيّرين لا يدرون أين يتوجّهون. فطار الملك إلى مصر وأخبر أهلها بما جرى، وأمرهم بالخروج إليهم ليعرفوا خبرهم، فوجدوهم ودوابهم أمواتا. فعجبوا من ذلك.
وهابه الكهنة والملوك وملكهم زمانا، ثم أخبرهم بموته وغاب عنهم، فلم يقفوا له على حال موته.
وأوصى بالملك لأخيه ماليا، وكان ذواقا شرها، كثير الأكل والشرب، مشغولا بالتنزه غير ملتفت للحكمة، وفوض أمر البلد لوزيره. وكان محبا للنساء ومعاشرتهن، وله ثمانون امرأة، ثم اتخذ امرأة من بنات ملوك منف، وكانت عاقلة سديدة الرأي، وكان معجبا بها. وكان له بنون وبنات، فهجم عليه أكبر أولاده فقتله وهو سكران، وصلب تلك المرأة.
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «سادم».(2/222)
وجلس الولد المذكور طوطيس على سرير الملك، وكان جبارا جريا، شديد البأس مهيبا، والقبط تزعم أنه أول الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم، عليه السلام، وأن الفراعنة سبعة، وهو أولهم.
وكان من خبر إبراهيم، عليه السلام، معه، أنه لما هاجر إلى ربه من قومه ومن النمرود، خاف من المقام بالشام لئلا يتبعه قومه فيردّوه إلى النمرود. فخرج إلى مصر وكانت معه امرأته سارة، وهي أحسن نساء العالمين في وقتها، ويقال إن يوسف الصديق، عليه السلام، ورث جزءا من حسنها لأنها جدته.
فلما دخل مصر ورأى حرسة الباب حسن سارة، عجبوا من حسنها ورفعوا خبرها إلى الملك، فوجه الملك وزيره، فأحضر إبراهيم، عليه السلام، وسأله عن بلده، فأخبره وقال: «ما هذه المرأة منك؟». قال: «أختي، يعني في الدين!».
فأمر الملك بإحضارها، فلم يمكنه مخالفته، وعلم أن الله لا يسوءه في أهله. وسار مع سارة حتى أتوا قصر الملك فأدخلت عليه، فنظر منها منظرا أراعه وأفتنه، فأمر بإخراج إبراهيم، عليه السلام، فأخرج، ووقع في قلبه، صلّى الله عليه وسلّم، ما يقع في قلب الرجل على أهله، فكشف الله الحيطان والستور وكشف عن بصره، / بحيث كان يرى الملك ويراها.
ثم إنه راودها عن نفسها فامتنعت عليه، فذهب ليمد يده إليها ليجذبها إليه، فقالت: «إن وضعت يدك عليّ أهلكت نفسك، لأن لي ربا يمنعني منك!». فلم يلتفت إلى قولها ومدّ يده فجفت يده، وبقي حائرا حتى استغاث بسارة، فدعت له بشرط أن لا يعود لمثل ما أتى به. فلما وثق بالصحة راودها ومنّاها ووعدها بالإحسان فامتنعت وقالت: «قد عرفت ما جرى!».
ثم مد يده إليها فجفّت، وضربت عليه أعضاؤه وعصبه (1)، فاستغاث بها
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وضربت أعضاؤه عليه وعصبه».(2/223)
وأقسم بآلهته أنه إذا أزالت عنه ذلك لم يعاودها، فدعت له وصح، ثم قال: «إن لك ربا عظيما لا يضيعك!». وأعظم قدرها.
وسألها عن إبراهيم، عليه السلام، فقالت: «هو زوجي!». فقال: «إنه ذكر أنك أخته!». قالت: «صدق، وأنا أخته في الدين، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا». قال: «نعم الدين دينكم!». ووجهها إلى ابنته حوريا، وكانت من العقل والكمال بمكان كبير، فوهبت لها جارية قبطية، من أحسن الجواري، يقال لها هاجر، وهي أم إسماعيل، عليه السلام.
وعاش طوطيس إلى أن وجّهت إليه هاجر من مكة تعرفه بأنها بمكان جدب وتستغيثه، فكان يرسل إليها الحنطة وأصناف الغلات. وكانت مدة ملكه سبعين سنة.
ثم ملكت بعده ابنته حوريا المذكورة. جلست على سرير الملك ووعدت الناس بالإحسان، وأخذت في جمع المال وحفظه، فاجتمع عندها من الأموال والجواهر ما لم يجتمع لملك قبلها. وعملت بمصر عجايب كثيرة، وأمرت أن يبنى على حد مصر، بناحية النوبة، حصن وقنطرة يجري ماء النيل من تحتها.
فلما احتضرت، لم يوجد من بيت الملك أحد سوى ابنة عمها دليقة (1)، فقلّدتها الأمر، وكانت عذراء من عقلاء النساء، فجلست على سرير الملك واجتمعت الكلمة عليها، وأحسنت إلى الناس ووضعت عنهم خراج سنة.
وقام أيمين (2) الأتريبي يطالب بثأر خاله أنداخس واستنصر بملك العمالقة، فوجه معه جيشا / كبيرا كثيفا (3)، فهزمها إلى ناحية قوص، وسار خلفها وتمكن من المملكة. فلما رأت دليقة ما وقع [لها] (4)، سمّت نفسها وهلكت.
وملك مكانها أيمين (5)، فتجبّر وقتل خلقا كثيرا ممن كان حاربه.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «زليقا».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «أيمن».
(3) لفظة: «كثيفا» لم ترد في (ب).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل.
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «أيمن».(2/224)
وكان الوليد بن دومع العمليقي قد خرج في جيش كثيف يتنقل في البلدان، ويقهر ملوكها ليسكن ما يوافقه منها ويعتدل عليه جسمه. فلما صار بالشام أنهي إليه خبر مصر وعظم شأنها، وأن أمرها قد صار إلى النساء وباد ملوكها، فوجه غلاما له يقال له عون مع جيشه، فسار إلى مصر وفتحها، واستباح أهلها وحوى على أموالها (1). ثم سار الوليد بن دومع المذكور إلى مصر ودخلها، واستباح أموالها وقتل جماعة من كهنتها. ثم سنح له أن يخرج ليقف على مصب النيل، فأصلح ما يحتاج إليه واستخلف عونا على البلد، وخرج في جيش عظيم، فلم يمر بأمة إلا أبادها، فيقال إنه أقام في سفره أربعين سنة، وأنه مر على أمم السودان وجاوزهم، ومر على أرض الذهب وفيها قضبان نابتة. ولم يزل يسير حتى وصل إلى البطيحة التي ينصبّ ماء النيل إليها من الأنهار التي تخرج من تحت جبل القمر، وهو جبل عال لا يطلع عليه القمر لخروجه من خط الاستواء.
فلما رجع الوليد إلى مدينة مصر، أقام بها واستعبد أهلها، واستباح حرمها وأموالها. وكان ملكه (2) ماية وعشرين سنة، فسلط الله عليه سبعا افترسه وأكل لحمه. وقيل إنه آذاه ضرسه فقلعه، فكان وزنه ثمانية عشر منّا وثلثي منّ، وقس على ذلك عظم جثته.
ثم ملك مكانه ابنه الريان بن الوليد، وهو فرعون يوسف [الصديق] (3)، عليه السلام، والقبط تسمية نهراوش. وكان عظيم الخلق، جميل الوجه، عاقلا متمكنا، منكرا لأوضاع أبيه، وأسقط عن الناس خراج ثلاث سنين، فأثنوا عليه وشكروه، فأستوزر رجلا من أهل بيته يقال له قطفير، وهو الذي تسميه العرب بالعزيز، وهو الذي اشترى يوسف [الصدّيق] (4)، عليه السلام، وقال لأهله:
«أكرمي مثواه». وكان عاقلا أديبا متمكنا.
وكان خراج مصر في زمانه سبعة وستين ألف ألف مثقال من الذهب.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وحوى على أموالها».
(2) في الأصل و (ج): «ملكهم» وما هنا من (ب).
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/225)
واستعد الملك للغزو، فخرج في تسعماية ألف مقاتل، واتصل بالملوك خبره فمنهم من تنحى عن طريقه، ومنهم / من دخل تحت طاعته، ومر بأرض البربر ثم جزائر بني يافث وأخذ منهم أموالا كثيرة، ثم مضى إلى أفريقية وقرطاجنة حتى بلغ مصب البحر الأخضر إلى بحر الروم، وهو موضع الأصنام النحاس.
وضرب على أهل تلك النواحي خراجا.
ثم سار إلى الأرض الكبيرة وإلى الافرنجة والأندلس، فحاربهم وكسرهم، ثم صالحهم على أموال.
ثم أخذ نحو الجنوب، ومر ببلد الكوشانيين على معبر البحر الأسود، وهو بحر لا يستطيع أحد أن يركبه لشدة ظلمته، ثم على أمم السودان حتى بلغ إلى بلاد الدمدم (1)، الذين يأكلون الناس.
ثم سار حتى انتهى على وادي الرمل، ورأى أنه يجري كالنهر العظيم، فأقام حتى سكن جريان الرمل يوم السبت، فجاز عليه إلى بلاد الخراب (2)
المتصلة (3) بالبحر الأسود، فسمع أصواتا وصياحا هائلا، فخرج في شجعان أصحابه حتى أشرف على سباع كثيرة عظيمة، وإذا بعضها يهر على بعض ويأكل بعضها بعضا. فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع.
ومر بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه، وسار حتى انتهى إلى أرض صلوفه، وهي حية عظيمة كأنها جبل، ففرّوا عنها وتعوذوا منها بالرقاء (4)، فلم بمر بموضع إلا حارب أهله وكسرهم، وأخذ منهم أموالا وتحفا.
ثم أقبل على مصر، فلم يبق أحد من أهل مصر حتى استقبله بالرحب
__________
(1) الأصل: «الرمدم» وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(2) كذا وفي (ب): «فجاز عليه إلى أن وصل إلى البلاد الخراب» وفي (ج): «فجاز عليه حتى أنه وصل إلى بلاد الخراب».
(3) في الأصل و (ب): «المتصل» وما هنا من (ج).
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «وتعوذوا بالرقي عنها».(2/226)
والسعة، ووجد قد نفد من جيشه سبعون ألفا، وكانت مدة غيبته إحدى عشرة سنة.
وفي زمان يوسف [الصدّيق] (1)، عليه السلام، مات الملك الريان، وتولى مكانه ابنه دارم، وهو الفرعون الرابع.
وفي زمانه ظهر معدن فضة على ثلاثة أيام من مصر، فنقلوا منه شيئا كثيرا.
وكان دارم على خير من أمره إلى أن توفي يوسف، عليه السلام. ثم طغى وتجبر وأظهر عبادة الأصنام، فركب في النيل في سفينة، فبعث الله تعالى عليه ريحا عاصفة، فأغرقته ومن كان معه.
ثم ملك بعده ابنه معدان، وكان على ما زعموا ينكر على أبيه فعله.
وفي زمانه، وقع طوفان أضر ببعض البلدان، / فلما جلس على سرير الملك أنصف المظلوم من الظالم.
وفي زمانه، كثر بنو يوسف، عليه السلام، وأهله، فأشار الملك بأن يفرد الإسرائيليون ناحية من البلد لا يختلط بهم أحد غيرهم، فأقطعهم الملك موضعا في قبلي منف، فاجتمعوا إليه وعملوا فيه معبدا كانوا يتلون فيه صحف إبراهيم، عليه السلام.
ثم غيّب الملك شخصه بالكهانة، وأوصى بالأمر لابنه كاثم، وهو الفرعون السادس، فأقام سبع سنين بأجمل أمر وأصلح حال، إلى أن مات وزير أبيه الذي كان معه، واستخلف رجلا وهو من أهل بيت الملك على ما ذكر في تراجم الأمم، وكان يقال له: «طلما» (2)، وكان شجاعا، ساحرا، كاهنا، كاتبا (3)، حكيما، متصرفا في كل فن، وكانت نفسه تنازعه الملك، قيل هو من ولد أشمون، وقيل من ولد صار، وقيل من العمالقة. وكان يقوم بأمر البلد كما كان العزيز مع الوليد.
وقيل سبب استخلافه الملك أنه كان عطّارا بأصبهان، فأفلس وركبه الدين،
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «ظلما».
(3) لفظة «كاتبا»: ساقطة من (ج).(2/227)
فخرج هاربا من الدين وأتى الشام، فلم يستقم حاله، فجاء إلى مصر، فرأى على باب المدينة حمل بطيخ، فسأل عن سعره، فقيل بدرهم، فدخل المدينة وسأل عن سعره فقيل كل بطيخة بدرهم، فقال: «من هنا أقضي ديني!». فاشترى حملا بدرهم. وأتى المدينة فنهبه البوابون، فما بقي منه إلا بطيخة واحدة فباعها بدرهم، فقال: «ما هذا، ما هنا أحد ينظر في مصالح الناس؟». فقالوا: «ملكنا مشغول بلذته (1)، وفوّض الأمر إلى الوزير، ولا ينظر في شي!». فخرج فرعون إلى المقابر، فجعل لا يمكن أحدا من الدفن إلا بخمسة دراهم، فأقام على ذلك مدة لم يتعرض له أحد، فماتت بنت الملك، فقال: «هاتوا خمسة دراهم!».
فقالوا: «ويحك، هذه بنت الملك!». فقال: «هاتوا عشرة دراهم!».
فلم يزل يضعفها إلى أن وصلت إلى ماية درهم، فأخبروا الملك بحديثه.
قال: «ومن هذا؟». قالوا: «عامل الأموات!». فأرسل إلى الوزير فسأله عنه، فأنكر حاله، فأحضره الملك، وقال: «من أنت!». فأخبره بخبر البطيخ، / وقال:
«ما عملت عامل الموتى إلا حتى يصل خبري إليك، وتحضرني لأنصحك لتستيقظ من نومك وتحفظ ملكك وإلا ذهب عنك!». فاستوزره، فسار في الناس سيرة حسنة.
وفي زمانه، شكى القبط إليه حال الاسرائيليين، فقال: «هم عبيدكم، افعلوا بهم ما بدا لكم!». فكان القبطي يضرب الاسرائيلي، فلا يقدر يغير عليه أحد. وإن ضرب الاسرائيلي القبطي قتل.
وبنى في زمانه مدنا كثيرة وأعلاما ومصانع وطلسمات. ومن أعجب ما عمل التنور الذي يشوى فيه بغير نار، والقدر الذي يطبخ فيه بغير نار، والسكين تنصب، فإذا رآها شيء من البهائم، أقبل عليها حتى يذبح نفسه بها، والماء الذي يستحيل هواء وأشياء من النيرنج.
ثم إن الملك بعد أن ملك احدى وثلاثين سنة، غاب عن الناس ولم يعلموا
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «مشغول بلذات نفسه».(2/228)
حاله، وأقام طلما الوزير يدبّر أحوال الناس احدى عشرة سنة، ثم اضطرب الناس لفقد ملكهم، واتهموا الوزير بقتله فقال: «ما قتلته، بل غاب!».
وولي الملك بعده ابنه لاطس، فجلس على سرير الملك. وكان جريئا معجبا، فوعد الناس جميلا، وعزل طلما عن الوزارة، واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا الأكبر، ونفد طلما عاملا على الصعيد، وبعث معه جماعة من بني إسرائيل، فجدّد بناء الأعلام وأصلح الهياكل، وبنى قرى كثيرة وجعلها مقرا لنفسه.
ثم إن الملك تجبّر وعلا أمره، وأمر أن لا يجلس أحد في مجلسه، بل يقومون على أرجلهم إجلالا له، وبالغ في أذى الناس وأخذ أموالهم ونساءهم، واستعبد بني إسرائيل، فأبغضه الخاص والعام. فلما استولى طلما على الصعيد، خالف الملك ووضع يده على أموال الصعيد وخزاينه، فلم يرسلها للملك، وادّعى الملك لنفسه، وكاتب وجوه أهل البلاد، فأجابه بعض وتوقف عليه آخر (1)، فبعث إليه الملك جيشا مع قائد من قواده، فحاربه، فظفر به طلما واعتقله، ثم انفد إليه قائدا آخر، فحاربه وظفر به طلما. ثم سار الملك بنفسه، فحاربه وانكسر / فقتل نفسه. ثم سار طلما بعسكره حتى دخل منف.
فلما جلس طلما بن قومس على سرير الملك حاز جميع الخزائن والكنوز، ورتب مراتب الناس ورعى أحوالهم، وهذا الذي يذكر القبط أنه فرعون موسى، عليه السلام، وأهل الأثر يسمونه الوليد بن مصعب وأنه من العمالقة.
وكان قصيرا طويل اللحية، أشهل العينين، صغير العين اليسرى، وكان أعرجا (2). فسار بالناس سيرة حسنة، وأظهر الجود والعدل للخلق بقضاء الحق ولو على نفسه، وعمّر البلاد، فأحبه الناس، وعاش زمانا طويلا حتى مات منهم ثلاثة قرون وهو باق، فبطر وتجبر، وقال: «أنا ربكم الأعلى!». وقيل مكث
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وتوقف بعض».
(2) في الأصل: «أعرج».(2/229)
أربعماية سنة لم يصدع له رأس، ولم يشك من وجع، وكان يملك ما بين مصر وأفريقية. وكان يبعث في كل سنة، إذا اكتمل التخضير مع قائدين من قواده إردب قمح، فيذهب أحدهما إلى أعلا الصعيد، والآخر إلى أسفله، فيتأمل أرض كل قرية فإن وجد أرضا بائرا عطلا بذر فيها ذلك القمح، وكتب إلى فرعون باسم العامل على تلك الجهة. فأمر فرعون بقتله وأخذ ماله. فربما عاد القائدان بالإرب ولم يجدا موضعا خاليا.
وكانت الأنهار التي افتخر بها فرعون بقوله: «أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون ستة خلجان: خليج الاسكندرية، وخليج دمياط، وخليج مردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج بنها، وخليج سخا، وهي متصلة لا تنقطع، وبينها بساتين وزروع كثيرة، من أول مصر إلى آخرها؟». وقد دمّر الله تلك المعالم، وطمس تلك الأموال.
حكي أن المأمون، لما دخل مصر، قال: «قبّح الله فرعون إذ قال: أليس لي مصر، فلو رأى العراق؟». فقال له سعيد: «لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فإن الله تعالى قال: ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه، وما كانوا يعرشون، فما ظنّك بشيء دمره الله تعالى، هذا بقيّته».
وقد ذكر أهل التاريخ أنه لم تكن أرض أعظم من مصر، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها، وكانت / الأنهار تجري تحت منازلهم، وكانت البساتين بحافتي النيل من أوله إلى آخره، ما بين أسوان إلى رشيد لا تنقطع، ولقد كانت المرأة تخرج حاسرة ولا تتخمر لكثرة الشجر، ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها، فيمتلىء مما يسقط من الشجر.
وذكر صاحب «مباهج الفكر ومناهج العبر» أن حدّ مصر طولا من ثغر أسوان، وهو تجاه النوبة إلى العريش، مسافة ثلاثين مرحلة، وحدّه عرضا من مدينة برقة، التي على ساحل البحر الرومي، إلى أيلة التي على ساحل بحر القلزم، مسافة عشرين مرحلة.(2/230)
وفرعون هذا هو سابع الفراعنة على قول من يقول، وسموا فراعنة لفرعان الأول، فصار اسما لكل من تجبر وعلا أمره وطال ملكه. وكانت مدة ملكه أربعماية سنة، وعاش ستماية وعشرين سنة.
فلما أغرق الله فرعون وقومه، لم يبق من أهل مصر إلا العبيد والأجراء والنساء، فاتفقت أشراف النساء أن يولّين منهن، فولّين امرأة يقال لها دلوكه، ابنة زبا.
وكان لها عقل (1)، ومعرفة وتجارب، وهي يومئذ بنت ماية وستين سنة (2)، فخافت أن يطمع في بلادها أحد ملوك الأرض، فبنت حصنا (3) يحدق بجميع بلادها من المزارع والمدائن والقرى، ووضعت عليه الحرس من كل ناحية (4)، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء، فمنعت بذلك مصر ممن أرادها، وفرغت من بنائه في ستة أشهر. وهو الجدار الذي يقال له جدار العجوز، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا.
ثم استمدت دلوكه من ساحرة يقال لها تدوره، فعملت في وسط مدينة منف بيتا من رخام ذات أبواب أربعة، تفتح إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب، وصورت فيه صورة الخيل والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت: «فمن أتاكم من أي جهة تحرّكت هذه الصور، فما فعلتم بالصور التي تحرّكت من شيء إلا أصابهم ذلك في أنفسهم». فإذا طمع فيهم أحد من الملوك، وقصد نحوهم تحركت تلك الصور، وما كانوا يفعلون / بتلك الصور شيئا إلا أصاب ذلك الجيش الذي أقبل إليهم مثله من قطع رؤوس أو قلع أعين أو بقر بطون. وانتشر ذلك في البلاد فتناذرهم الناس.
وكان نساء أهل مصر حين غرق أزواجهن، لم يبق إلا العبيد والأجراء، ولم
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «وكانت ذات عقل».
(2) العبارة: «وهي يومئذ بنت ماية وستين سنة» لم ترد في (ب).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «فبنت لها حصنا».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «جهة».(2/231)
يصبرن عن الرجال، فجعلت المرأة تعتق عبدها وتتزوجه، وتتزوج الأخرى أجيرها، وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئا إلا بإذنهن، فأجابوهن لذلك، فكان أمر النساء على الرجال إلى يومنا هذا.
وظلت ملكتهم تدبر أمورهم عشرين سنة (1)، حتى بلغ من أبناء أكابرهم وأشرافهم رجل يقال له دركون بن بلطوس، فملّكوه عليهم. فلم تزل مصر ممتنعة (2) بتدبير تلك العجوز التي صنعت ذلك نحوا من أربعماية سنة.
ثم مات دركون، فاستخلف ابنه بودس، فملكهم مدة ثم توفي.
فاستخلف أخاه لقاس، فلم يمكث إلا ثلاث سنين حتى مات، ولم يترك ولدا.
فاستخلف أخاه مرنيا، فملكهم، ثم مات.
واستخلف ولده أستمارس، فطغى وبغى وتجبّر، وسفك الدماء وأظهر الفاحشة، فأجمعوا على خلعه، فخلعوه وقتلوه، وبايعوا رجلا من أشرافهم يقال له بلوطس (3) بن مناكيل، فملكهم أربعين سنة، ثم توفي.
واستخلف ابنه مالوس، ثم توفي.
واستخلف أخاه مناكيل، فملكهم أربعين سنة كذلك، ثم توفي.
واستخلف ابنه بوله، فملكهم ماية وعشرين سنة، وهو الأعرج الذي سبى ملك بيت المقدس، وقدم به إلى مصر. وكان بلغ مبلغا لم يبلغه أحد ممن كان قبله، فطغى وتجبر، فقتله الله بصرعة صرعته دابته، فدقّت عنقه فمات.
ثم ملك ابنه مرتيوس، فملكه زمانا، ثم توفي.
فاستخلف أخاه قرقورة، فملكهم ستين سنة، ثم توفي.
__________
(1) في الأصل: «وملكتهم دلوكة عشرين سنة تدبر أمورهم».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «ممنعة».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «بطلوس».(2/232)
واستخلف أخاه لقاس. وفي أيامه (1) انهدم موضع من بيت السحر الذي عملته تدوره الساحرة، فلم يقدروا على اصلاحه، وانقطع ما كانوا يقهرون به الناس، ثم توفي لقاس.
واستخلف ابنه قومس، فملكهم دهرا طويلا. فلما ظهر بخت نصر / على بيت المقدس وسبى بني إسرائيل، وخرج بهم إلى أرض بابل، أقام أرميا، عليه السلام، بإيليا وهي خراب، فاجتمع إليه بقايا بني إسرائيل، فأمرهم أرميا أن يقيموا بها، ويستغفروا الله تعالى، فأبوا إلا الانحياز إلى قومس ملك مصر، وقالوا: «نحن شرذمة قليلون، نخاف على أنفسنا أن يسمع بنا بخت نصر!».
فكلما منعهم أرميا عن ذلك وقال: «ذمة الله أوفى الذمم!». فما أفادهم حتى ساروا إليه واعتصموا به، فأرسل إليه بخت نصر: «إن لي قبلك (2) عبيدا أبقوا مني، فابعث بهم إليّ!». فكتب إليه قومس: «ما هم عبيدك، إنما هم أهل النبوة والكتاب وأبناء الأحرار، واعتديت عليهم وظلمتهم!». فحلف بخت نصر لئن لم يردّهم، ليغزونّ بلاده!.
فسار بخت نصر إلى مصر، فقاتله قومس سنة كاملة، ثم ظفر به بخت نصر فقتله، ثم سبى جميع أهل مصر، وخرب المدائن والقرى، فبقيت مصر أربعين سنة خرابا، ليس فيها ساكن، يجري النيل ويذهب، ولا ينتفع به أحد.
ثم إن بخت نصر ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة فعمّروها، فلم تزل معمورة من يومه (3).
ثم ظهرت الروم وفارس على ساير الملوك الذين في وسط الأرض، فقاتلت الروم أهل مصر ثلاث سنين، حتى غلبوهم واستولوا عليهم.
ثم ظهرت فارس على الروم. فلما غلبوهم على الشام، رغبوا في مصر
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «زمانه».
(2) كذا في (ب) وفي (ج) «إن لي عندك».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «من يومئذ».(2/233)
وطمعوا فيها. وقامت مصر بين الروم وفارس نصفين سبع سنين، ثم استجاشت الروم على الفرس، حتى ظهروا عليهم وأخربوا ديارهم التي بالشام ومصر. وكان ذلك في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبقي (1) الشام ومصر للروم، ولم يبق لفارس في الشام ومصر شيء، فأرسل هرقل المقوقس أميرا على مصر، وجعل إليه حرسها وجباية خراجها، فنزل الاسكندرية، فلم تزل مصر في يد ملك الروم حتى فتحها الله تعالى على أيدي أهل الإسلام، هذا آخر ما انتخبناه من «تاريخ مصر».
وذكر السيوطي في «المحاضرة» (2)، نقلا عن هشام (3) وغيره، أنه لما كانت سنة ست من الهجرة بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاطب بن أبي بلتعة، رضي الله عنه، / إلى المقوقس بكتاب فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد. فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين. يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون!».
فلما قرأه أخذه وضمه إلى صدره، وجعله في حق من عاج وختم عليه. ثم دعا كاتبا يكتب بالعربية. فكتب: «لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام.
أما بعد. فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج من الشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «فبقيت».
(2) يقصد كتاب «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» للسيوطي.
(3) لعله يقصد «ابن هشام»، صاحب السيرة النبوية.(2/234)
جاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبغلة شهباء وحمارا أشهب، وثيابا من قباطي مصر، وعسلا من عسل بنها، وبمال».
فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلمه أن ذلك كله هدية، قبله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبقى عنده مارية أم إبراهيم، ووهب أختها لجهم بن قيس العبيدي، وسمى البغلة دلدل، وسمى الحمار يعفورا، وأعجبه العسل، فدعا لبنها بالبركة، فبقيت.(2/235)
الفصل الثاني عشر في ذكر ملوك عاد [ولمع من] (1)
بناء شداد
ذكر أن الملك من بعد نوح، عليه السلام، في عاد الأولى، ومصداق (2)
ذلك قوله تعالى: {أَنَّهُ أَهْلَكَ عََاداً الْأُولى ََ} (3) فهذا يدل على تقدمهم، وأن هنالك عادا ثانية، وأخبر الله عن ملكهم، ونطق الكتاب بشدة بطشهم، وما بنوه من الأبنية المشيدة التي كانت تدعى على مرور الدهور العادية، وقد أخبر الله عن نبيهم هود، عليه السلام، يخاطبهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (4) (الآية).
وعاد أول من ملك الأرض بعد أن أهلك الله قوم نوح، عليه السلام، لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفََاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (5) (الآية). وذلك أن هؤلاء القوم كانوا في هيئات النخل طولا (6)، وكانت نفوسهم قوية وأكبادهم غليظة، ولم يكن على وجه الأرض أمة أشد بطشا، وأكثر آثارا، وأقوى عقولا، وأعظم / أخلاقا من عاد. وكان الرجل منهم لا يبلغ حتى يكون عمره مائتي سنة، كما ذكرنا أوصافهم ولمعا من أخبارهم في قصة هود، عليه السلام.
وكان عاد رجلا جبارا عظيم الخلقة، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وكان طويل العمر. ذكر أنه رأى من صلبه أربعة آلاف ولد،
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «ويصدق».
(3) سورة النجم، الآية 50.
(4) سورة الشعراء، الآية: 128.
(5) سورة الأعراف، الآية: 69.
(6) كذا وفي (ب) و (ج): «كانوا في هيئات عظام من القوة والشدة كالنخل طولا».(2/236)
وأنه تزوج ألف بكر. وكانت بلاده متصلة باليمن من بلاد عمان إلى حضرموت، وهي بلاد الأحقاف.
ولما توسط عاد العمر، واجتمع إليه الولد وولد الولد، ورأى البطن العاشر من ولده وظهور الكثرة (1)، مع تشييد الملك واستقامة الأمر، عم إحسانه الناس وقرى الضيف، وأحواله منتظمة وأمور الدنيا عليه مقبلة. وكان يعبد القمر، فعاش ألف سنة ومايتي سنة، ثم مات.
فتولى الملك بعده ولده الأكبر شديد (2)، فلما جلس على سرير الملك احتوى على سائر ممالك العالم، وكانت مدة ملكه خمسماية سنة.
فلما توفي، تولى مكانه أخوه شداد بن عاد، فدعاه هود، عليه السلام، إلى الله تعالى، فتجبر ولم يقبل كلامه وأصر على الكفر، وهو أحد الملوك الذين ملكوا الدنيا ودانت له ملوكها.
ثم إنه كان يسمع بصفة الجنة، وما أعده الله لأوليائه فيها من قصور الذهب والفضة المرصعة بالدر والياقوت والجوهر، فقال لعظماء قومه: «إني متخذ في الأرض مدينة على هذه الصفة!». وكتب إلى عمّاله الثلاثة، وهم الضحاك وبيوراسف وغانم بن علوان، وكان ولّاهم على أقطار البلدان وأطراف الأرض، وأمرهم أن يجمعوا ما في البلاد من الذهب والفضة وأنواع الجواهر، وأن يوجهوا الغواصين إلى البحار والحفارين إلى معادن الجواهر، فجمعوا واستخرجوا من ذلك أمثال الجبال، فبنى مدينته المشهورة بإرم لبنة من ذهب ولبنة من فضة، فمكث في بنائها خمسماية عام.
فلما تم البناء، سار هو وجنوده ليدخلها. فلما وصلوا إلى باب المدينة وهموا بالدخول، جاءته (3) صيحة من السماء، فمات هو وجنوده أجمعون قبل أن
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وظهورا كثيرة».
(2) كذا في النسخ الثلاث والمسعودي 3/ 81وفي أبي الفدا، المختصر (1/ 68): «شداد»، مع إشارة لأبي الفدا إلى اضطراب تاريخ بني عاد «فأضربنا عنه».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «جاءتهم».(2/237)
يدخلوها. وبقيت المدينة خالية لا أنيس بها، وأخفاها الله تعالى عن الأبصار، وهي باقية إلى وقتنا هذا. وهي احدى الجنان على ما قيل، وإلى هؤلاء القوم انتهت القوة / والبطش. وكانت مدة ملكه إلى أن هلك تسعماية سنة.
ولشداد بن عاد مسير في الأرض ومطاف في البلاد، وبأس شديد في ممالك الهند وغيرها، وحروب كثيرة أعرضنا عن ذكرها طلبا للاختصار.
وكان خلف مكانه ولده مرثد (1) بحضرموت مع بعض الجنود، ولما توجه إلى مدينته التي بناها، ولم يسلم من قومه سواهم، فجلس مكان أبيه. فلما بلغه ما أصاب والده وقومه، أمر بحمل جثّة أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت مطلية بالصبر والكافور، وأمر بحفر مغارة في الجبل وجعله على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بالذهب، ووضع عند رأسه لوحا من ذهب مكتوب فيه هذه الأبيات:
اعتبر بي أيها ال ... مغرور بالعمر المديد
أنا شداد بن عاد ... صاحب الحصن العميد
وأخو القوة (2) وال ... بأساء والملك الحشيد
دان أهل الأرض لي ... من خوف وعد (3) ووعيد
وملكت الشرق وال ... غرب بسلطان شديد
وبفضل الملك وال ... عدة فيه (4) والعديد
فأتى هود وكنّا ... في ضلال قبل هود
فدعانا لو أجبنا (5) ... هـ إلى الأمر الرشيد (6)
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «مزيد».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «والقدرة».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «قهري».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «أيضا».
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «قبلنا».
(6) كذا في (ب) وفي (ج): «منه للامر السديد».(2/238)
فعصيناه ونا ... دينا ألا هل من مجيد
فأتتنا صيحة ... تدوي (1) من الأفق البعيد
[فترامينا كزرع ... وسط بيداء حصيد] (2)
__________
(1) كذا في (ج) وفي ب: «تهوي».
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/239)
الفصل الثالث عشر في ذكر ملوك بني إسرائيل بالشام وغيره (1)
وكان بنو إسرائيل أولا يسكنون بيت المقدس [في زمن يعقوب عليه السلام] (2)، ثم انتقلوا إلى مصر في زمن يوسف، عليه السلام. وكانت بيت المقدس، في زمن بني إسرائيل، عظيمة البناء واسعة العمران، وكانت أكبر من مصر وبغداد على ما يوصف. وكان المتولي على أمرهم أولا موسى ثم يوشع، عليهما السلام، ثم لم يتول عليهم ملك، بل كان لهم حكام سدّوا مسد الملوك.
ولم يزالوا على ذلك، حتى قام فيهم طالوت ما شاء الله تعالى. فلما توفي دفن بمدينة دمشق، وله قبر شرقي الصالحية بقرب الركنية يزار ويتبّرك به، كما ذكر آنفا.
وفي «إتحاف الأخصّا» أن الوليد، لما بنى جامع دمشق وأراد أن يجعل سقفه رصاصا بدل الطين، وجمعوا غالبه / من النواويس، فكشفوا عن قبر، فأخرجوا الميت الذي فيه ووضعوه على الأرض، فوقع رأسه وانقطع عنقه، فسال من فيه الدم، فهالهم ذلك، فسألوا عنه، فأخبرهم عبادة بن بشير الكندي أنه طالوت الملك، فأعادوه إلى ناووسه.
فلما توفي طالوت، ملك بعده داود النبي، عليه السلام.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج). في ذكر ملوك بني إسرائيل بالسام ونواحيها ومدة ما ملكوا أقاصيها وأدان بها».
(2) ما بين الحاصرتين من (ج)(2/240)
ثم ملك بعده ولده سليمان عليه السلام.
فلما مات ملك بعده رحبعم (1) بن سليمان، عليه السلام، وكان رديء الشكل، شنيع المنظر، غليظ الحاجبين، فاختل في أيامه نظام الملك، وخرج عن طاعته عشرة أسباط، ولم يبق تحت طاعته سوى سبطين، وصار الأسباط العشرة ملوكا تعرف بملوك الأسباط. واستمر الحال على هذا المنوال نحو مايتي سنة واحدى وستين سنة، وارتحل الأسباط إلى جهة فلسطين وغيرها من بلاد الشام، واستقر رحبعم (2) على ما هو عليه ببيت المقدس سبع عشرة سنة، ثم مات.
وملك مكانه ابنه آفيا، وكانت مدة ملكه ثلاث سنين، ثم مات.
وملك بعده ابنه آسا، وكانت مدة ملكه احدى وأربعين سنة.
ثم ملك بعده ابنه يهوشافاط، وكان رجلا صالحا كثير العناية بعلماء بني إسرائيل. وخرج عليه عدو من ولد العيص، وجاء في جمع عظيم، وخرج يهوشافاط لقتالهم، فألقى الله تعالى بين أعدائه الفتنة، واقتتلوا فيما بينهم حتى تمحّقوا، وولّى الباقون منهزمين، فجمع يهوشافاط منهم غنائم كثيرة، وعاد بها إلى بيت المقدس مؤيّدا منصورا من غير قتال، وكانت مدة ملكه خمسا وعشرين سنة، ومات.
فملك بعده ابنه يهورام، وكانت مدة ملكه ثماني سنين.
ثم ملك بعده أحزياهو، وكانت مدة ملكه سنتين، ومات، واستمرت البلاد بغير ملك.
ثم حكمت امرأة ساحرة، أصلها من جواري سليمان عليه السلام، واسمها غثلياهو، فتتبعت بني إسرائيل فأفنتهم، وما سلم منها إلا طفل أخفوه عنها، وكان اسمه يواش بن أخربوا (3)، / واستولت غثلياهو سبع سنين.
__________
(1) وردت في (ب): رجعيم.
(2) وردت في (ب): رجعيم.
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «اخرياهو».(2/241)
ثم ملك بعدها يواش المذكور أربعين سنة.
ثم ملك بعده أمصياهو تسعا وعشرين سنة، فقتل.
ثم ملك بعده نمرياهو اثنتين وخمسين سنة، فمحقه البرص، فتغلّب عليه ولده يؤثم، فملك مدة ثم مات، وفي أيامه كان يونس عليه السلام.
فملك ابنه آحز (1)، وكان عمره لما ملك عشرين سنة، واستمر ملكا ستا وعشرين سنة. وكان في أيامه شعيا النبي، عليه السلام.
وفي السنة الرابعة من ملكه، قصده ملك دمشق واسمه رصين، فبشره شعيا، عليه السلام، بأن الله تعالى يصرف [عنه] (2) رصين الملك بغير حرب، فكان كذلك، كما مر، ثم مات.
وملك بعده ابنه خرقياهو، وكان رجلا صالحا مظفّرا أين ما ذهب. ولما خلت من ملكه ست سنين انقرضت ملوك الأسباط، وهم سبعة عشر ملكا، وانضم ملك الأسباط لملكه ودخلوا تحت طاعته. وكان ضعف وقرب أجله، فزاد الله في عمره خمس عشرة سنة، وأمره أن يتزوج، وأخبره بذلك شعيا، عليه السلام.
وكان قد خرج عليه سنحاريب ملك بابل والموصل، كما تقدم.
ثم ملك بعده ابنه منشا، وكان عمره لما ملك اثنتي عشرة سنة، فعصى وأظهر الفسق، ثم تاب إلى الله تعالى. وكانت مدة ملكه خمسا وخمسين سنة.
ثم ملك بعده ابنه آمون، فملك سنين (3).
وملك بعده ابنه يوشيا، فلما ملك أظهر الطاعة والعبادة، وجدد بيت المقدس وأصلحه. وكانت مدة ملكه احدى وثلاثين سنة، ومات.
ثم ملك بعده ابنه يهوياخين (4). ولما ملك، غزاه فرعون مصر الأعرج،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «آحاز».
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل ومستدرك في (ب) و (ج).
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «سنتين».
(4) كذا في (ب): «يهوتاخين» وفي (ج) «يهوماز».(2/242)
وظفر به فأسره وأخذه إلى مصر، فمات بها. وكانت مدة ملكه ثلاثة أشهر.
ثم ملك بعده أخوه يهوياقيم (1).
وفي السنة الرابعة من ملكه، تولى بخت نصر على بابل، وسار بالجيوش إلى الشام وغزا بني إسرائيل، فلم يحاربه يهوياقيم (2)، ودخل تحت طاعته، فأبقاه بخت نصر على ملكه. ثم خرج عن طاعته وعصى عليه، فأرسل / بخت نصر وأمسكه، وأمر بإحضاره إلى العراق، فمات في الطريق من الخوف. فكانت مدة ملكه نحو احدى عشرة سنة.
ولما أخذ إلى العراق، كان استخلف مكانه ابنه يخسنبوا (3)، ثم أرسل بخت نصر من أخذه إلى العراق، وأخذ معه جماعة من علماء بني إسرائيل، وحال وصوله سجنه، ولم يزل مسجونا حتى مات.
وكان قد ولي مكانه حين أمسك صدقيا، وكان في زمانه أرميا، عليه السلام.
وفي السنة التاسعة من ملكه عصى صدقيا على بخت نصر، فسار بخت نصر بالجيوش ودخل بيت المقدس، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وأخذ صدقيا أسيرا معه وأخرب بيت المقدس، وأمر جنوده أن يملوه ترابا ففعلوا، واستمر غالب البنيان تحت الأرض.
وكانت مدة ملك صدقيا احدى عشرة سنة، وهو آخر من ملك بيت المقدس من ملوك بني إسرائيل، فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول، وهو الواحد القهار.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج) «الياقيم».
(2) كذا في (ب) وفي (ج) «الياقيم».
(3) كذا في (ب) وفي (ج) «يختيو».(2/243)
خاتمة الكتاب وسجع طايره المستطاب
فكلّ من ذكرناه من الملوك والأكابر أبادهم الزمان الغابر، إلى أن لم يبق منهم ديّار، ولا نافخ نار، فأبيد كلهم وأبير. فالحكم لله العلي الكبير. فسبحانه من إله قادر، ومليك مقتدر قاهر، أبدع نظام العالم بسابغ حوله وقوته وقدرته، وأودع فيه دقائق الحكم ببالغ حكمته. يوتي ملكه من يشاء ممن لم يكن شيئا مذكورا، ولم يعرف له أحد أبا نبيها وجدا مشهورا. فكأيّ من ملك ملك أقطار العالم، ودانت له كافة الأمم، وبنوا مشيدا، وأملوا بعيدا، وحسبوا أن لا تبيد هذه أبدا، حتى أصابهم ريب المنون، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فأصبحوا مثل طيف خيال سار، كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بادوا جميعا، وانقرضوا سريعا، فنسيت أخبارهم، ودرست آثارهم، فلم يبق لهم حديث يروى إلا تاريخ يتلى.
سلطنة الدّهر هكذا دول ... فعزّ سلطان من يداولها
لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.
ولنختم كتابنا هذا بأخبار الأمم الماضية، والقرون الخالية، وما أوجده الله في / الأرض من عظيم قدرته، ولطيف حكمته، ما دل به على وحدانيته، مما يبهر العقول، ويحيّر المعقول، وهذا آخر الأبواب، ونسأل الله التوفيق والهداية إلى الصواب.(2/244)
الباب الخامس والخمسون في ذكر أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية وغرايب العجايب وعجايب الغرايب
ويشتمل على خمسة فصول:(2/245)
الفصل الأول في ذكر بعض الأمم في الأقاليم الدالّة على حكمة الحكيم
ذكر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: «خلق الله تعالى ألفا وعشرين أمة، منها ستماية في البحر وأربعماية وعشرون في البر، وفي الإنسان من كل الخلق، فلذلك سخر له جميع الخلق، واستجمعت له جميع اللذات، وله النطق، والضحك، والبكاء، والفكرة، والفطنة، واختراع الأشياء، واستنباط جميع العلوم».
وفي «مروج الذهب» أن الله سبحانه وتعالى خلق في الأرض قبل آدم، عليه السلام، ثمانيا وعشرين أمة على صور مختلفة، وهي أنواع مختلفة، منها ذوات أجنحة وكلامهم فرقعة. ومنها ما له أبدان كالأسود ورؤوس كالطير، ولها شعور وأذناب وكلامهم دوي. ومنها ما له وجهان، واحد من قبلها، والآخر من خلفها، وأرجل كثيرة. ومنها ما يشبه نصف الإنسان بيد ورجل، وكلامهم مثل صياح الغرانيق. ومنها ما وجهه كالآدمي وظهره كالسلحفاة، وفي رأسه قرنان، وله أنياب بارزة كالخناجر، وآذان طوال، وكلامهم كعوي الذياب. ويقال إن هذه الأمم تناكحت وتناسلت حتى صارت ماية وعشرين أمة، ولم يخلق الله تعالى أفضل ولا أجمل من هذا الإنسان.
وفي «تحفة الألباب» أن بالقرب من السد أمة قصار القدود، عراض الوجوه، سود الجلود، وفي جلودهم نقط بيض وصفر، أطول ما فيهم خمسة أشبار. وأيضا أمة بالقرب منهم صورهم كصور الآدميين، لا يفهم كلامهم، لهم
أجنحة يطيرون بها، وهم بيض وسود وخضر. وأيضا أمة بجزيرة الرامن (1)، طول / الرجل منهم أربعة أشبار، كلامهم كصفير الطير. وأيضا أمة وجوههم كوجوه الكلاب، وأبدانهم مثل أبدان بني آدم، وبالقرب منهم أمة لا شبيه لحسنهم على صور الآدميين، ليس لأرجلهم عظام بل من حدّ مقاعدهم إلى أقدامهم كهيئه الحبل الطويل، والقدم معلّق في آخره يزحفون زحفا، من وقع بهم من بني آدم احتالوا عليه، فإذا قرب تعلّقوا به، وركبوه ولفوا حبل أرجلهم على رقبته، ويدورون عليه في جزيرتهم، يأكلون من فواكه أشجارهم، فلا ينزلون عنه إلى أن يموت، فإنهم لا يقدرون على الأكل إلا مما يسقط من الثمار عند تناهي استوائه.(2/247)
وفي «تحفة الألباب» أن بالقرب من السد أمة قصار القدود، عراض الوجوه، سود الجلود، وفي جلودهم نقط بيض وصفر، أطول ما فيهم خمسة أشبار. وأيضا أمة بالقرب منهم صورهم كصور الآدميين، لا يفهم كلامهم، لهم
أجنحة يطيرون بها، وهم بيض وسود وخضر. وأيضا أمة بجزيرة الرامن (1)، طول / الرجل منهم أربعة أشبار، كلامهم كصفير الطير. وأيضا أمة وجوههم كوجوه الكلاب، وأبدانهم مثل أبدان بني آدم، وبالقرب منهم أمة لا شبيه لحسنهم على صور الآدميين، ليس لأرجلهم عظام بل من حدّ مقاعدهم إلى أقدامهم كهيئه الحبل الطويل، والقدم معلّق في آخره يزحفون زحفا، من وقع بهم من بني آدم احتالوا عليه، فإذا قرب تعلّقوا به، وركبوه ولفوا حبل أرجلهم على رقبته، ويدورون عليه في جزيرتهم، يأكلون من فواكه أشجارهم، فلا ينزلون عنه إلى أن يموت، فإنهم لا يقدرون على الأكل إلا مما يسقط من الثمار عند تناهي استوائه.
وفي جزائر الصين أمة لهم أجنحة وخراطيم دقاق، يمشون على أربعة أرجل مثل البهايم، وهم على صفة الآدميين إلا أن أفواههم دقاق طوال. وأيضا أمة طوال القدود، زرق العيون، لهم أجنحة يطيرون بها وجوههم ورؤوسهم كوجوه الخيل، وأبدانهم كأبدان بني آدم. وأيضا أمة لهم رأسان وثماني أرجل، أربع لفوق، وبينها رأس، وأربع لأسفل، وبينها رأس إذا أعيا من المشي على الأرجل التي كان ماشيا عليها، قلب أعلاه إلى أسفله ومشى على تلك الأرجل المستريحة، وإذا عدّا يمر كالبرق الخاطف، وصفاتهم كمثل بني آدم. وأيضا أمة وجوههم كوجوه بني آدم، وأبدانهم كأبدان الحيات والعقارب. وأيضا أمة بأرض الصين لا رؤوس لأبدانهم، وعيونهم وأفواههم في صدورهم، وجاء رجل منهم لملك التتار بكتاب من ملكهم. وأيضا أمة أبدانهم كأبدان الزلاحف، وجوههم كوجوه الآدميين، ولهم قرون طوال. وأيضا أمة يقال لهم النسناس لأحدهم نصف رأس ونصف وجه، ويد واحدة ورجل واحدة، كأنما قد نصفين طولا، يقفز قفزا شديدا، وكلامهم كالآدميين، ومقرهم بأطراف اليمن.
وفي جزيرة برطايل أناس وجوههم كالمجان المطرقة، وشعورهم كأذناب البرادين (2)، يسمع عندهم طبول وزمور وآلات مطربة، لا يكاد يسمع السامع مثل
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «رامني». راجع الصفحة 344من هذا المجلد.
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الخيل».(2/248)
أصواتهم، ولا يرى إلا واحدا أو اثنين، ولا يجسر أحد [أن] (1) يدخلها، وأيضا بجزيرة القصر شقر، غير أن وجوههم / في صدورهم لكل واحد منهم فرج رجل وفرج امرأة، وكلامهم يشبه كلام الطير، وطعامهم نبت يشبه الكمأة. وبها دابة عظيمة قدر الجبل، لها رؤوس كثيرة ووجوه مختلفة، وأنياب منعقفة. ولها جناحان إذا رفعتهما كانا كالرفرف المنكس بظل من الشمس. وفي جزيرة الدرر أمة شبه الآدميين وأخلاقهم كأخلاق الوحوش، ليس لهم كلام يفهم، يطيرون من شجرة إلى شجرة بغير أجنحة، ولا لهم قوة في الطيران أن يعلوا كالطيور. وبهذه الجزيرة حيات عظام منها ما يبلغ الفيل. وبها قرود بيض في غاية البياض، كل واحد بقدر الجاموس الكبير. وبها درر بيض وصفر وخضر وحمر يتكلمون بكل لغة تكون، كلما كلمهم أحد بلسان ردوا الجواب به.
وبالقرب منها جزيرة بها خلق كالآدميين بيض وسود وخضر، لهم أجنحة يطيرون بها، وليس لهم كلام يفهم. وأيضا أمة إذا هاج البحر ظهر من قاعه أشخاص سود شبه الآدميين، طول الواحد منهم أربعة أشبار، يصعد لمراكب المسافرين (2)، ولا يحصل منهم ضرر لأحد، ثم ينزلون للبحر عائدين (3).
ذكر أصحاب التواريخ أن يأجوج ومأجوج أمم مختلفون (4) في الخلق والعدد والأشكال. ولكل أمة منهم ملك ولغة منهم من طوله شبر، ومنهم من طوله ذراع وأكثر، ومنهم المشوهون، ومنهم من يفرش احدى أذنيه تحته (5)، ويتغطى بالأخرى، ومنهم من له أنياب وقرون وأذناب، ومنهم من مشيه وثب كالغراب، يأكلون الحيات وحشايش الأرض، ويأكلون كل ذي ناب ومخلب واللحم نيّا، ويغير بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم بعضا، وفيهم شدة وبأس
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «السفار».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «وينزلوا إلى البحر عايدين».
(4) في الأصل: «أمة يختلفون» والصيغة المثبتة من (ب) و (ج).
(5) لفظة: «تحته» ساقطة من (ب) و (ج).(2/249)
وافتراس وبطش، ومسيرة أماكنهم ومدى مساكنهم، فيما يقال، ثمانون، وقيل ماية سنة.
وفي جزيرة أطوران أمة على صفة الإنسان، رؤوسهم كرؤوس السباع، وبها نوع من السنانير لهم أجنحة من آذانهم إلى أذنابهم.
وفي بلاد قاقان قريبا من بلاد يأجوج ومأجوج على البحر المحيط أقوام ليس لهم رؤوس، وأعينهم في مناكبهم وأفواههم في صدورهم، وإذا رأوا الناس هربوا وقوتهم السمك. وأن هناك طائفة تزرع في الأرض بذرا / فيتولد منه غنم كما يتولد دود القز، ولا يعيش الخروف أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر مثل بقاء النبات في الأرض، وهذه الغنم لا تتناسل. ويؤيد ذلك ما ذكر أن في جبل فرغانة نباتا يخرج على صفة الآدميين ذكورا واناثا غير ناطقين ولا أرواح لهم، من رآهم يحسبهم آدميين قياما على أقدامهم. وفي بلاد قاقان المذكور آدمي بري وعلى جسمه شعر، وخيل برية لا تلحق.
وبأرض تركستان أمة ليس لهم زرع ولا ضرع، ولهم جبل فيه حجارة من خالص الذهب أكبرها قدر رأس إنسان إلى ما دونه، فمن أخذ من القطع الصغار انتفع به، ومن أخذ من القطع الكبار يموت هو وجميع أولاده وأهل بيته ما لم يردها إلى مكانها، وليس يعلم ما المراد من ذلك.
وفي أقصى بلاد الحبشة أمة لهم معز على قدر الحمير، ولها شعور تنجر إلى الأرض، فيحمل عليها التجار بضائعهم لتصعد الجبال العالية، وعندهم غنم على قدر فحول البقر جرد لا شعر لها، وعندهم بقر مستديرة الوجوه بقرون واقفة كقرون المعز.
وفي بلاد كش (1) أمة يقال لهم: «إرم ذات»، وهم ذو خلق عجيب وآراؤها جاهلية. ولهذا البلد خبر ظريف في سمكة تأتيهم من بحر مانطس، فيتناولون منها
__________
(1) مدينة من بلاد الصغد، تعرف اليوم باسم شهر سبز أي المدينة الخضراء.
لسترنج: 383، 503، 512.(2/250)
ثم تعود ثانية، فتتوجه نحوهم من الشق الآخر، فيتناولون منها وقد عاد اللحم على الموضع الذي أخذ منه أولا، وخبر هذه السمكة شائع في تلك الديار.
وفي جبل الفتح وباب الأبواب، بين جبال أربعة، كل جبل منها ممتنع ذاهب في الهواء، صحراء (1) نحو من ماية ميل. وفي وسط تلك الصحراء (2)
دارة (3) منقورة كأنها قد خطّت ببيكار، ودايرتها خسفة مجوفة في حجر صلد منخسف كما تدور الدايرة، واستدارة تلك الخسفة نحو من خمسين ميلا، يهوي سفلا كحائط مبني من سفل إلى علو، وعمق قعره نحو من ميلين لا سبيل إلى الوصول إليه، ويرى فيها بالليل نيران كثيرة في مواضع مختلفة، وبالنهار يرى فيها قرى وعماير وأنهار تجري من تلك القرى وأناس وبهايم، إلا أنهم يرون لطاف الأجسام لبعد قعر الموضع، لا يدري أحد / من أي الأمم هم، ولا سبيل لهم إلى الصعود إلى جهة من الجهات، ولا سبيل لمن فوقه إلى النزول إليهم بوجه من الوجوه.
ومن الأمم إنسان الماء، وهو حيوان يشبه الآدمي، ويخرج في بعض الأوقات ببحر الشام شيخ بلحية بيضاء، ويستبشر الناس برؤيته في تلك السنة بالخصب.
ومن ذلك نبات الماء، وهن أمة ببحر الروم يشبهن النساء، ذوات شعور وفروج، وهن (4) حسان، ولهنّ (5) كلام لا يفهم وضحك ولعب، ولهن (6) رجال من جنسهن (7) يقال إن الصيادين يصطادونهن (8) ويجامعوهن (9)، فيجدون لذّة عظيمة لا توجد في النساء، ثم يعيدونهن إلى البحر. يقال إن هذا الجنس يوجد بالأندلس ورشيد.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «صخرة».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الصخرة».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «دايرة».
(4) وردت هذه الألفاظ في الأصل و (ب) في صيغة المذكر وما هنا من (ج).
(5) وردت هذه الألفاظ في الأصل و (ب) في صيغة المذكر وما هنا من (ج).
(6) وردت هذه الألفاظ في الأصل و (ب) في صيغة المذكر وما هنا من (ج).
(7) وردت هذه الألفاظ في الأصل و (ب) في صيغة المذكر وما هنا من (ج).
(8) وردت هذه الألفاظ في الأصل و (ب) في صيغة المذكر وما هنا من (ج).
(9) وردت هذه الألفاظ في الأصل و (ب) في صيغة المذكر وما هنا من (ج).(2/251)
وحكى ابن زولاق في تاريخه أن رجلا من الأندلس بالجزيرة الخضراء، اصطاد جارية منهن حسناء الوجه، سوداء الشعر، حمراء الخدين، نجلاء العينين كأنها القمر ليلة تمامه، كاملة الأوصاف، فأقامت عنده سنين، وأحبها حبا شديدا، وأولدها ولدا ذكرا، وبلغ عمره أربع سنين. ثم إنه أراد السفر فاستصحبها معه ووثق بها. فلما توسطت البحر أخذت ولدها وألقت نفسها في البحر، فكاد الرجل أن يلقي نفسه خلفها حسرة عليها، فلم يمكنه أهل المركب من ذلك. فلما كان بعد ثلاثة أيام ظهرت له، وألقت إليه صدفا كثيرا فيه در وسلمت عليه، ثم تركته، فكان آخر العهد بها.
فتبارك الله ما أكثر عجائب خلقه، وقد أودع الله من عجائب المخلوقات والمصنوعات في الآفاق والسماوات، كما قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهََا وَهُمْ عَنْهََا مُعْرِضُونَ} الآية (1). فمن شهد حجر المغناطيس وجذبه الحديد، وكذلك حجر الماس الذي يعجز عن كسره الحديد ويكسره الرصاص، ويثقب الياقوت والفولاذ، ولا يثقب الرصاص، يعلم أن الذي أودعه هذا السر قادر على كل شيء، فعجايب الأشياء من آياته كما قيل:
ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ومن العجب ما نقله الشافعي، رحمه الله، أنه قال: «دخلت بلدة من بلاد / اليمن فرأيت بها إنسانا من وسطه إلى أسفله بدن امرأة، ومن وسطه إلى أعلاه بدنان مفترقان برأسين ووجهين وأربع أيد، وهما يأكلان ويشربان ويتقاتلان ويتلاطمان ويصطلحان». قال: «ثم غبت عنهما قليلا ورجعت، فقيل لي أحسن الله عزاك في أحد الشقّين، قيل ربط في أسفله حبل وثيق حتى ذبل، ثم قطع، ورأيت الجسد الآخر في السوق ذاهبا وراجعا».
__________
(1) سورة يوسف الآية: 105.(2/252)
ومنه ما أرسله بعض بطارقة الأرمن إلى ناصر الدولة بن حمدان، وهما رجلان متلاصقان في جسد واحد، وعمرهما خمسون سنة، وقيل خمس وعشرون سنة، والإلتصاق في الجنب، ولهما بطنان وسرتان ومعدتان، ولكل واحد كفان وذراعان ويدان وفخذان وساقان وإحليل واحد، فكان أحدهما يميل إلى النساء والآخر يميل إلى المرد (1)، فمات أحدهما وبقي أياما وأخوه حي فانتنّ، فأحضر ناصر الدولة الأطباء، وسألهم عن انفصال الميت عن الحي، فسألوا الحي: «هل كانا يجوعان معا ويعطشان معا!». قال: «نعم!». قالوا: «لا يمكن فصلهما!».
ثم مرض الحي من نتن الروايح ومات.
ومن ذلك ما حكي أنه أهدي إلى منصور الساماني فرس له قرنان وثعلب له جناحان، فإذا قرب إليه إنسان نشرهما، وإذا بعد ألصقهما.
وذكر الشيخ أبو الفرج في كتابه «الجليس والأنيس» عن محمد بن مسلم السعدي، قال: دخلت على يحيى بن أكتم القاضي فجلست، فإذا عن يمينه قمطرة مجلدة. فقال: «افتح هذه القمطرة!». ففتحتها، فإذا شيء قد خرج منها رأسه رأس إنسان، وهو من أسفله إلى سرته زاغ في صدره سلعتان، فكبرت وهلّلت وفزعت ويحيى يضحك، فقال بلسان فصيح طلق:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن اللّيث واللّبوه
أحب الراح والرّيحا ... ن والقهوة والنّشوه
فلا عربدتي تخشى ... ولا تحذر لي سطوه
ولي أشياء تستظر ... ف يوم العرس والدّعوه
فمنها سلعة في الظّهر ... لا تستّرها الفروه
وأما السّلعة الأخرى ... فلو كان بها عروه (2)
لما شكّت جميع النّا ... س فيها أنها ركوه
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «المردان».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «فلو كان لي بها عروه».(2/253)
ثم طار وسقط في القمطرة، فقلت: «أيها القاضي ما هذا؟». فقال: «هو ما ترى، وجّه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين وما رآه بعد، وكتب كتابا لم أفضضه، وأظن أنه ذكر فيه شأنه وحاله!». /
وذكر القاضي عياض، رحمه الله، أنه ولد مولود على أحد جانبيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن في جزيرة القصر وردا أحمر مكتوب عليه بالأبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله، كتابة قدرة إلهيّة.
وذكر عبد الرحمن بن هارون المغربي، قال: «ركبت بحر الروم، فوصلنا إلى وضع يقال له الرطون (1)، وكان معنا غلام صقلبي ومعه صنّارة، فصاد سمكة فنظرها فإذا مكتوب خلف أذنها الواحدة: لا إله إلا الله، وخلف أذنها الأخرى (2)
محمد رسول الله، وهذا لا يبعد، فإنه يوجد كثيرا في السور الديركي (3). وذكر أيضا أنه ولد بالقاهرة غلام له أربعة أرجل ومثلها أيد، وأما كبش (4) بأربعة قرون، ودجاجة بأربعة أرجل، وحيوان برأسين، والمخرج واحد، فكثير.
وفي سنة احدى وعشرين وثمانماية، ولد بمدينة بلبيس جاموسة برأسين وعنقين، وأربع أيد، وسلسلتي ظهر، ودبر واحد، ورجلين اثنتين لا غير، وفرج واحد انثى، والذنب مفروق باثنين، فكانت من بديع صنع الله.
وفي سنة ثلاث وعشرين وثمانماية، ذبح جمل بغزة، فأضاء لحمه كما يضيء الشمع، ورمي منه قطعة لكلب فلم يأكلها.
وفي سنة خمس وعشرين وثمانماية، ولدت بمصر فاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني ولدا خنثى، له ذكر وفرج، وله يدان زايدتان في كتفه، وفي رأسه قرنان كقرني الجدي، ومات بعد ساعة.
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «البرطون».
(2) كذا في (ج) وفي (ب) «وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «الدريكي».
(4) كذا في (ج) وفي (ب) «الكبش».(2/254)
ومن العجب ما نقله الحافظ أبو عبد الله محمد بن الهيثم، في تاريخه عن الربيع بن خالد العجلي، قال: كان ببغداد قائد من قواد أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله العباسي، وكان له زوجة لا تلد إلا إناثا فحملت منه سنة، فحلف إن ولدت أنثى يضرب عنقها. فلما كان وقت الولادة، ألقت جرابا وهو يضطرب فشقّوه، فخرج منه أربعون ولدا ذكرا، ليس فيهم أنثى وعاشوا كلهم. فسبحان القادر على ما يشاء.
ومثل ذلك ما أورده الشيخ الفاضل أبو المحاسن يوسف تغري بردي في تاريخه، مما نقله مسندا عن ابن كثير، أنه في سنة ثمان وخمسين وسبعماية، في أيام الملك الناصر حسن، ذكر أن جارية من عتقاء الهيدماني حملت نحوا من تسعين يوما، ثم شرعت تسقط حملها، فوضعت أربعين ولدا، منهم ستة وعشرون ذكورا والباقي إناثا.
وذكر القاضي ابن شهبة في كتاب «الإعلام بتاريخ الإسلام» (1) في حوادث سنة سبعين وسبعمائة، في شهر جمادى الأولى، ولدت امرأة امشاطي بدمشق في جوار / دار بني هلال، في مدة سبعة أيام، وضعت اثني عشر ولدا ذكورا وإناثا، بعضهم قد كمل خلقه وبعضهم قد تبين خلقه لأربعة أشهر ونصف، واشتهر ذلك في دمشق.
وفي نهار الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر، سنة ست وألف، ظهر بدمشق أن حرمة تسمى عائشة بنت علي كانت قد حملت، واستمرت نحو تسعين يوما، ثم أسقطت ولدين ذكرين كاملي الخلقة، ثم ألقت جرابا فشق، فوجد فيه اثني عشر ولدا إناثا. وأخبرني من شاهد ذلك من الثقات، وكانت المرأة ساكنة في جوارنا بمحلة باب البريد.
وذكر ابن أبي الدنيا في تاريخه أنه رأى رجلا عند البيت، وهو يقول:
«سبحان من جعل من القليل كثيرا!»، فسألته: «أي شيء تكثر هذه اللفظة؟».
قال: «أقمت مدة ولم يولد لي ولد، ثم ولد لي شق إنسان ولا يقدر على القيام،
__________
(1) في الأصل و (ب) و (ج): «تاريخ الإسلام».(2/255)
فكبر حتى بلغ فزوجناه، وقلنا لعلّه يولد له ولد. فلما أدخلناه على المرأة، أقام عليها إلى الصباح، فأقمناه عنها فوجدناه ميتا. فحملت منه، فلم تزل حاملا إلى أن أخذها الطلق، فوضعت جرابا. فشق، وإذا فيه أربعون ولدا ذكرا، فعاشوا وكبروا إلى أن ركبوا الخيل». /(2/256)
الفصل الثاني في ذكر ما في الدنيا من العجايب وما أودع الله فيها من الغرايب
ذكر في «مرآة الزمان» أن بساحل الهند بين مملكة شروان والمهراج نارا لا تخمد ليلا ولا نهارا، وتضيء في الليل منها نار، ترى في البحر الشرقي من ماية فرسخ، وتقذف بجمر كالجبال، وقطع من الصخور في الهواء، ثم تنعكس سفلا فتهوي في قعرها، وهي سود وحمر، لما نالها من الحرارة.
وفي جزيرة النار جبل عظيم مطل على البحر، له منافس في أعلاه، تخرج منها نار عظيمة، ترى من مسيرة عشرة فراسخ، ترمي بشرر كأعدال القطن، فيقع بعضه في البحر وبعضه في البر فما وقع في البحر صار حجرا خفافا يحك الأرجل، وما وقع في البر أحرق ما عليه من حجر ورمل وحيوان، ولا يحرق الخشبة ولا الشجرة ولا النبات. وحدثني رجل من علماء تلك البلاد أنه رأى حيوانا على شكل السمّاني، رصاصي اللون، يطير من وسط هذه النار، ويعود إليها، يقال إنه السمندل.
وفي «عجائب الأخبار» أن حيوانا يخرج من بحر فارس إلى البر، والنار تخرج من فيه ومنخريه، فيحرق ما حوله من النبات، فإذا رأى الناس تلك الأرض محترقة، علموا أن ذلك الحيوان وقع هناك.
وفي بحر الزنج جزيرة تسمى المحترقة، قال بعض التجار: «ركبت هذا البحر، فدارت بي الأوقات حتى حصلت في هذه الجزيرة، فرأيت فيها خلقا كثيرا، وأقمت بها زمانا. فلما كان في بعض الأيام، رأيت الناس مجتمعين
ينظرون إلى كوكب ظهر في أفقهم، وهم يبكون ويتودعون، فسألت عن السبب، فقالوا: إن هذا الكوكب يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة، فيحرق هذه الجزيرة. فلما سامت الكوكب رؤوسهم، ركبوا البحر مع جميع ما يملكونه، فسرت معهم فغبنا عن الجزيرة مدة، فلما عدنا وجدنا قد احترق جميع ما كان فيها من النبات والأشجار وصار رمادا، فشرعوا في تعميرها ولا يزالون كذلك على الدوام».(2/257)
وفي بحر الزنج جزيرة تسمى المحترقة، قال بعض التجار: «ركبت هذا البحر، فدارت بي الأوقات حتى حصلت في هذه الجزيرة، فرأيت فيها خلقا كثيرا، وأقمت بها زمانا. فلما كان في بعض الأيام، رأيت الناس مجتمعين
ينظرون إلى كوكب ظهر في أفقهم، وهم يبكون ويتودعون، فسألت عن السبب، فقالوا: إن هذا الكوكب يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة، فيحرق هذه الجزيرة. فلما سامت الكوكب رؤوسهم، ركبوا البحر مع جميع ما يملكونه، فسرت معهم فغبنا عن الجزيرة مدة، فلما عدنا وجدنا قد احترق جميع ما كان فيها من النبات والأشجار وصار رمادا، فشرعوا في تعميرها ولا يزالون كذلك على الدوام».
وفي «خريدة العجائب» أن بمدينة قليوب بحيرة ظهر بها في سنة من السنين نوع من السمك، كانت عظامها ودهنها تضيء في الليل، كما يضيء السراج، من أخذ من عظمها عظمة في يده أضاءت معه كالشمعة، فأغنت / الناس عن إيقاد السرج في بيوتها. وحكي أن رجلا تلوثت يده من دهنه فمسح يده في الحائط، فبقي أثر الدهن في الحائط كخمس شمعات تضيء، ثم انقطع ذلك النوع من السمك فلم يوجد شيء منه.
وذكر في «الخريدة» أن بأرض التيم، غربي بلاد فرغانة، جبالا فيها خسوف، تخرج منها النار في الليل، فترى على مسيرة خمسة أميال، وفي النهار يخرج منها الدخان.
حكى ابن السيرافي، قال: «كنت ببعض جزائر الزنج فرأيت وردا كثيرا أحمر وأبيض وأزرق وأخضر وألوانا شتى، فأخذت ملاة (1)، وجعلت فيها شيئا كثيرا من ذلك الورد الأزرق. فلما أردت حمله رأيت نارا في الملاة، فأحرقت جميع ما كان فيها من الورد، ولم تحرق الملاة، فسألت الناس عن ذلك، فقالوا:
لم يمكن اخراج هذا الورد من هذه الجزيرة بوجه من الوجوه».
وفي جزيرة الطويران (2) شجرة عظيمة تظل خمسماية رجل، فيها من كل ثمرة طيبة، وثمرها أحلى من الشهد، وطعم كل ثمرة لا يشبه الأخرى. وهذه
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «ملائة».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الطيور».(2/258)
الشجرة تسير بسير الشمس، ترتفع من الغد (1) إلى الزوال وتنحطّ من الزوال إلى الغروب حتى تغيب الشمس.
ذكر أن أصحاب ذي القرنين، لما وصلوا إلى هذه الجزيرة، ورأوا تلك الشجرة جمعوا من ثمرها شيئا كثيرا ليحملوه إلى ذي القرنين، فضربوا على ظهورهم بسياط مؤلمة ولا يرون من الضارب، ويصيحون بهم: «ردّوا ما أخذتم من هذه الشجرة!». فردوا ما أخذوا منها، وسافروا عنها.
وفي بحر عمان جزيرة تسمى الفندخ فيها صنم من رخام أخضر، دموعه تجري على ممر الليالي والأيام، وإذا دخل الريح في جوفه صفر صفيرا عجيبا.
ذكر المسافرون أنه يبكي على قوم كانوا يعبدونه من دون الله، وقيل إن بعض الملوك غزا عباد هذا الصنم فأفناهم وأبادهم عن آخرهم، واجتهد في كسر ذلك الصنم فلم يقدر، ولم تعمل فيه آلة، وكلما ضربوه بمعول عاد الضرب على الضارب فقتله، فتركوه وانصرفوا.
وفي بحيرة خوارزم يظهر شخص في بعض الأوقات عيانا على صورة إنسان، يطوف على وجه الماء ويتكلم ثلاث كلمات أو أربع كلمات مغفلات / غير مفهومات، ثم يغوص في الماء في الحال، وظهوره يدل على موت ملك جليل.
وذكر في «الخريدة» أن الاسكندر، لما فرغ من بناء السد، استلقى على ظهره ليستريح، ثم غفا غفوة، فخرج حيوان من البحر في غاية من العظم حتى سد الأفق من عظمه، وارتفع كالغمامة السوداء العظيمة، حتى سدت الضوء عن الأرض، فخافت الجيوش واشتد الصياح، فانتبه الاسكندر، فرآه قد أقبل نحو السد حتى علاه (2)، وارتفع عليه رمية سهم، ثم قال: «أيها الملك، أنا ساكن هذا البحر، وقد رأيت هذا المكان مسدودا سبع مرات. وفي تقدير الله تعالى: إن ملكا عصره عصرك، وصورته صورتك واسمه اسمك، يسد هذا الثغر سدا مؤبّدا،
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «غدوة».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «ملاه».(2/259)
فأحسن الله معونتك وأجزل مثوبتك، ورد غربتك، فأنت ذلك الهمام، فعليك من الله السلام!». ثم غاب عن بصره، فلم يعلم كيف ذهب.
وفي أطراف بلاد الزنج حيوان يسمى بالزبرق أصغر من الفهد. ولونه أحمر مزغب وعيناه براقتان، وثبته من الأرض خمسون ذراعا أو أكثر، إن رأى فيلا أو آدميا أو وحشيا (1)، فإنه يبول لوقته ويحمل من التراب الذي أصابه بوله على رأس ذنبه، ويرمي الحيوان أو الآدمي فيحرقه بوله لساعته، كأنه سقط في نار عظيمة.
وإن هرب منه آدمي وصعد شجرة عالية فيرش بوله عليها، وإن زاد علوها عن وصول بوله يضع رأسه في الأرض من شدة حنقه، ويصيح صيحة عظيمة مزعجة، فيخرج من فمه قطعة دم، فيموت.
وذكر أبو حامد الأندلسي عن سلام الترجمان، قال: «لما وجهني الخليفة بالرسالة إلى ملك الخزر، أقمت عندهم مدة، فرأيتهم يوما وقد اصطادوا سمكة عظيمة، فانفتحت أذن السمكة، فخرج منها جارية بيضاء وحمراء بشعر أسود، حسنة الصورة، طويلة القامة كأنها البدر المنير، وهي تضرب وجهها وتنتف شعرها وتصيح، فما زالت حتى ماتت».
وذكر المسعودي أنه رأى بأرض الزنج بقرا تبرك كما يبرك الجمال، ويحملوها وتثور كما تثور الجمال. وأهل تلك البلاد يركبونها، وليس في بلادهم خيل ولا بغال ولا حمير ولا جمال، وملكهم يركب في ثلاثماية ألف راكب، كلهم على البقر.
ومن العجائب، أن في جبل من جبال طبرستان / ينبت حشيش من قطعه ضاحكا غلب عليه الضحك يومه، ومن قطعه باكيا غلب عليه البكاء يومه.
وفي أرض كرمان جبل، من أخذ منه حجرا وكسره يرى في وسطه صورة إنسان قائما أو قاعدا أو مضطجعا، فإذا أخذت الحجر وسحقته ناعما وألقيته في
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «وحشا».(2/260)
الماء، تراه، إذا رسب في الماء، كهيئة ما كان أولا على الصورة التي كانت في الحجر.
وذكر الهروي في «كتاب الاشارات في معرفة الزيارات»، أن بين قلعة جعبر والرقة واديا فيه حجارة على شكل الخوخ واللوز وغيرهما من الفواكه، ولم أر مثله إلا بموضع بين الاسكندرية وطرابلس الغرب، يقال له: «لك»، فإن هناك واديا أي (1) شيء وقع فيه تحجر وصار حجرا، وأخذت من ذلك الوادي حيّة قد صارت حجرا بقدرة الله تعالى، وهي عندي إلى الآن.
وذكر القزويني أن قرية من قرى قزوين، يقال لها سلاسم، فيها صور الحيوانات وصور الآدميين، وقد مسخوا حجارة، وفيها الراعي متكىء على عصاه والماشية حوله كلها حجارة، وامرأة تحمل ولدها وقد تحجر.
وذكر الهروي، في كتابه، أن في بلاد الصعيد وجبالها مغاير مملوة من الموتى والطيور والسنانير والكلاب، جميعهم بأكفانهم إلى اليوم، والكفن كأنه قماط المولود (2)، عليه أدوية لا تبلى. قال: رأيت جويرية أخذ كفنها وفي يديها ورجليها أثر الحنّا. والموميا تؤخذ منهم ولا يعرف من أي أمة هم. وبها حجارة كأنها الدنانير المضروبة وعليها شبه السكة، وحجارة كأنها العدس يزعمون أنها أموال فرعون وقومه. وفي جبل ميعار غار عظيم، في أعلاه صفة حيتين من حجر منقوش حولهما كتابة من أصابه سمّ حيّة أو غيرها يمضي لتلك المغارة، وتحت الحيتين عين ماء ينبع، يأخذ من ذلك الماء ويرش به تلك الحيتين والكتابة، فيسيل الماء على الجدران، فيلحسه المسموم فيبرأ لوقته، وإن عجز المسموم عن التوجه إليها، وكّل شخصا غيره فحال لحسة الوكيل الماء يبرأ الملسوع لوقته.
ومن العجائب بيتان ببلاد الأندلس بمدينة يقال لها مدينة الملوك، فلما
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «كل».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «الولد».(2/261)
فتحت الأندلس، في زمن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وجدوا هذين البيتين، ففتحوا أحدهما فإذا فيه أربعة وعشرون تاجا، على كل تاج اسم صاحبه مكتوب عليه ومبلغ سنّه، وما ملك من السنين، ووجدوا / فيه مائدة سليمان، عليه السلام، وهي من الذهب، وقيل من الياقوت، وعليها أطواق الجوهر الثمين، فحملت إلى الوليد. ووجدوا على باب البيت الآخر أربعة وعشرين قفلا، كان كلما ملك واحد منهم تلك البلاد (1) زاد قفلا، ولا يعلمون ما في البيت. فلما ملك إزريق، وهو آخر ملوكها، قال: «لا بد من فتحه!». فقال له بعض الرهبان: «ما وضعت هذه الأقفال إلا لحكمة!». فخالفهم، وفتحه فرأى رجالا من العرب قد صوروا على خيولهم بعمايمهم ونعالهم ورماحهم، فلم يلبث أن وصلت العرب جزيرة الأندلس (2) في السنة التي فتح فيها الباب.
وفي جبل الطائر حوض ماء، إن وضع يده فيه جنب أو حايض وقف ماؤه وبطل جريانه، فلا يجري حتى يراق ما فيه من الماء ويغسل ويطهر، فإذا طهروه عاد الماء كعادته.
وبأرض طبرستان جبل فيه غار عظيم، وفيه نقرة فيها ماء لا يكفي إلا واحدا من غير زيادة، وليس للنقرة ما ينصب إليها، إن دخله واحد كفاه واثنان كفاهما (3)، وماية كفاهم (4)، وألوف كفاهم، وهذا دائما.
وفي جبل مورخان يجري من أعلاه ماء غزير كثير، عظيم القوة في نزوله، فإذا وقف بإزائه إنسان وزعق عليه: «قف!» فإنه ينقطع لساعته، فإن زعق عليه من قال له: «اجر!»، فإنه يجري لساعته.
في «تحفة الغرائب»، أن بقرب جرجان عينا ينبع منها ماء كثير، وينقطع في بعض الأوقات شهرا كاملا، فيخرج أهل تلك الأرض رجالها ونساؤها في
__________
(1) كذا وفي (ج): «الديار»، مع الإشارة إلى أن الجملة: «كان كلما ملك زاد قفلا» ساقطة من (ب).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «فلم يلبث إلّا أن العرب قد وصلت جزيرة الأندلس».
(3) الأصل: «كفاه» وما هنا من (ب) و (ج).
(4) الأصل: «كفاه» وما هنا من (ب) و (ج).(2/262)
أحسن زينة وأجمل هيئة بالدفوف وأنواع الملاهي، ويرقصون ويلعبون ويضحكون، فلا يرجعون إلا وقد بدت العين بالماء الكثير مقدار ما يريدون. وذكر أيضا أن بقرب حاج عقبة على رأسها عين ماء، إذا كانت السماء صاحية لا يرى فيها قطرة ماء، وإذا كانت السماء مغيمة تراها مملوة طافحة.
وبالقرب من نهاوند عين ماء في سفح جبل وتحته وطأة، فكل من احتاج إلى الماء ليسقي أرضه مضى إلى العين، ودخل شعبا هناك، وهو يقول بصوت عال: «أنا محتاج إلى الماء!». ثم يغمس رجله في ماء العين، ويمشي نحو أرضه، والماء يمشي معه حتى يسقي زرعه، فإذا انقضت حاجته يرجع إلى الشعب، ويقول: «قد اكتفت أرضي، وربحتم أجري»، ثم يضرب برجله الأرض فينقطع / الماء عنه. وهذا دأب أهل تلك الأرض، كذا في «تحفة الغرائب».
وفي شرقي الموصل جبل عليه دير يقال له دير الخنافس للنصارى، فيه عيد في ليلة من السنة يصعد إليه جميع الخنافس التي في الدنيا، وتبات فيه ألوف من الناس يمشون عليها طول الليل بدوابهم، فإذا طلعت الشمس لم يوجد للخنافس أثر.
وحكى ابن الجوزي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «بين الهند والصين، في أرض يقال لها كثار، بطة من نحاس على عمود من نحاس، قال:
إذا كان يوم عاشوراء مدت عنقها إلى بئر تحتها، فشربت، ثم تعود إلى مكانها، وتفتح منقارها، فيفيض منه الماء ما يكفي لسكان تلك الأرض وزروعهم ومواشيهم إلى مثل عاشوراء في السنة القابلة، وذلك في كل عام على الدوام».
وفي «التبصرة» أن على الباب الشرقي بمدينة رومية الكبرى سوداني (1)
من نحاس على قضيب من نحاس، فإذا كان أوان الزيتون، صفر ذلك السوداني، فلا يبقى سودانية إلا جاءت بثلاث زيتونات، زيتونة في منقارها (2)، وزيتونتان في
__________
(1) كذا وفي (ب): «زرزور» وفي (ج): «سودانية».
(2) عبارة «زيتونة في منقارها»: ساقطة من (ج)، مع الإشارة إلى اختلاف في الصياغة في (ب).(2/263)
رجليها، فألقتها (1) على تلك السودانية، فيجمعه أهل رومية، فيعصرون منه ما يكفيهم لسرجهم وآدامهم إلى العام القابل، وليس عندهم و [لا] (2) بقربهم زيتون.
وذكر [أبو حامد] الأندلسي أن بقرب غرناطة كنيسة، عندها عين ماء وشجرة زيتون، يقصدها الناس في يوم معلوم في السنة، فإذا طلعت الشمس في ذلك اليوم، فاضت تلك العين، ثم تظهر على تلك الشجرة زهر (3) الزيتون في ذلك اليوم، ثم ينعقد زيتونا في الحال والوقت، ويكبر ويسودّ في يومه ذلك، ويأخذه الناس، ويأخذون من ماء تلك العين، كل أحد مقدرته، للتداوي من جميع الأمراض.
وذكر أيضا أبو حامد الأندلسي أن في بحر الغرب جزيرة فيها كنيسة منقورة من الصخر في الجبل، وعليها قبة عظيمة، وعلى تلك القبة طائر غراب يطير ويرجع، ولا يزال عليها، ومقابل القبة مسجد يزوره المسلمون، ويقولون إن الدعاء فيه مستجاب. وقد شرط على أهل تلك الكنيسة ضيافة الزوار من المسلمين، فإذا قدم الزائر للمسجد أدخل الغراب رأسه إلى داخل الكنيسة، وصاح صيحات بعدد الزوار لا يخطىء أبدا، فيخرج أهل / الكنيسة بالضيافة إليهم على عددهم، لا يزيدون ولا ينقصون.
ومن عجائب الدنيا قنطرة على نهر سنجه (4)، وهو نهر بديار مضر، بين حصن منصور وكيسوم، وهي عقد واحد، من الشط إلى الشط، مقدار ماية خطوة مبني من حجر صلد منهدم، طول كل حجر عشرة أذرع. وهناك لوح عليه طلسم إذا انعاب من تلك القنطرة مكان أدلوا ذلك اللوح إلى ذلك العيب، فينعزل الماء عنه، ويصطلح ذلك الموضع بلا مشقة، ويرفع اللوح فيعود الماء كما كان إلى مكانه.
__________
(1) في الأصل: «فألقته» وفي (ب): «فتلقيه» وما هنا من (ج).
(2) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «زهرة».
(4) في الأصل و (ب): «سيحه» وفي (ج) وياقوت ولسترنج «سنجه»، وهو ما أثبتناه.(2/264)
وعلى نهر مكران (1) قنطرة عظيمة، وهي عقد واحد، من صعد عليها يتقيأ جميع ما في بطنه، ولو كانوا ألوفا، وإن جلسوا على القنطرة زمانا هلكوا من القيء.
وفي «الخريدة» أن بأرض الصين قنطرة من جبل إلى جبل آخر، وهو طريق (2) أخذ إلى بلاد تبت (3)، من جاز على تلك القنطرة، يلهث ويتلهب (4) قلبه ويثقل لسانه، ويموت في الغالب من المارين جماعة مستكثرة، وأهل تلك البلاد يسمونه جبل السم.
وذكر في «المسالك» أن بين السوس (5) وجندي سابور قنطرة بناها سابور، طولها أربعماية ذراع، وارتفاعها في الهواء ماية ذراع، وفيها نيف وعشرون طاقا، كل طاق عشرة أذرع، يخرج من تحت تلك القنطرة نيف وثلاثون نهرا عظيما تسقي رستاق السوس وجندي سابور، ولا ينقص [منها شيء] (6).
في الأرض آيات فلا تك منكرا ... فعجائب الأشياء من آياته
وفي «تحفة الغرائب» أن بأقصى بلاد الهند جبلا شاهقا في الهواء، عليه قبة عالية البناء مرفوعة على ثمانية أعمدة، وتحتها بركة من الماء، ليس لها مكان يدخل منه الماء، ولا مكان يخرج منه، وماؤها لا ينقص ولا يزيد لو أن أهل الأرض يملأون منها، وبين كل عمودين قنديل معلق لا يصل إليه أحد. وفي وسط القبة
__________
(1) يتبع هذا النهر إقليم مكران من بلاد السند.
أبو الفدا، تقويم: 349348لسترنج: 360وما بعدها.
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «طويل».
(3) وهي واقعة شمالي مملكة قنوج من بلاد الهند.
أبو الفدا، المصدر السابق 355.
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «ويلتهب».
(5) مدينة بخوزستان فيها قبر دانيال النبي. وهناك بلدان أخرى بهذا الاسم.
المصدر السابق: 315314.
(6) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).(2/265)
قنديل إذا كان يوم أول الشهر يرى في البركة سمكة واحدة، وفي القناديل زيت يسير، وثاني يوم يصير السمك اثنتين والزيت قدر ما كان مرتين، ولا يزال الزيادة في الزيت والسمك إلى نصف الشهر، فأول يوم من النصف الثاني ينقص الزيت، ويفقد من السمك واحدة، ولا يزال هكذا إلى آخر يوم من الشهر، فلا زيت ولا سمك. وليس للبركة مكان يدخل منه السمك، ولا مكان يذهب منه، والقناديل، حال غروب الشمس، تقد وليس لها من يقدها، ولا يصل إليها، وهكذا دائما، وليس يعلم أحد ما المراد بذلك، [فسبحان من هو على كل شيء قدير] (1). /
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).(2/266)
الفصل الثالث في ظرايف الهدايا ولطايف العطايا والتحف السنية والألطاف البهيّة
ذكر البيضاوي، في «نظام التواريخ»، أن ملك الهند أهدى للاسكندر قدحا كان يشرب منه جميع عسكره، ولا ينقص منه شيء، وكان ذلك قدح آدم، عليه السلام، محكما بالجواهر الحكميّة، معجونا مركبّا من الخواص الملكية، منقوشا بالخطوط القدسية والأشكال السماوية.
وفي «تحفة الغرائب» أن عامل السند أهدى لمعاوية قطعة من مرآة يقال إن الله تعالى أنزلها على آدم، عليه السلام، حين كثر ولده وانتشروا في الأرض، فكان ينظر فيها (1)، فيرى فيها من بعد منهم ومن قرب، على أي حالة كان (2)
عليها، فكان ذلك في ذخاير بني أمية إلى أن انفصل الملك عنهم إلى بني العباس، فصارت عندهم.
نقل المفسرون في وصف هدية بلقيس إلى سليمان (3)، عليه السلام، أقوالا، منها: إنها كانت خمسماية لبنة من ذهب وخمسماية لبنة من فضة، كل لبنة ماية رطل، وتاجا مكلّلا بالجواهر، ومسكا وعنبرا وحقة فيها درة يتيمة بلا ثقب، وجزعة معوجة الثقب، وخمسماية غلام وخمسماية جارية، وألبستهم لباسا واحدا. وقيل ألبست للجواري لباس الغلمان وللغلمان لباس الجواري، وعمدت
__________
(1) عبارة: «ينظر فيها» ساقطة من (ج).
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «كانوا».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «إلى النبي سليمان».(2/267)
إلى رجل من قومها يقال له المنذر بن عمرو، ذو لب ورأي، وكتبت معه كتابا وقالت فيه: «إن كنت نبيّا مرسلا ميّز لنا بين الجواري والغلمان، واخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة من غير علاج أنس ولا جن!». فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا نحو سليمان، فأخبره بالخبر، فأمر سليمان أن يضربوا لبنات من الذهب والفضة، وأن يبسطوها من موضعه الذي هو فيه إلى سبعة فراسخ، وقيل ثمانية أميال في مثلها ميدانا. ثم أمر الجن فجاءوا بأحسن دواب البحر والبر فجعلوها عن يمينه وشماله، وأمرهم على أن يتركوا على طريقهم موضعا خاليا على قدر اللبنات التي معهم. وجلس سليمان، عليه السلام، في صدر الميدان، وحوله الأنس والجن والشياطين والطير تظلهم. قال:
فلما رأى الرسول الموضع الخالي من لبنات الذهب والفضة، خافوا أن يتهموا، فبسطوا ما معهم من / اللبنات في المكان الخالي، فجعلوا يمرون على عجايب المخلوقات من الأنس والجن وساير الحيوانات حتى وصلوا إلى سليمان، عليه السلام، وأعطاه كتاب الملكة بلقيس، فنظر فيه، فقال: «أين الحقة؟». فجيء بها، فأخبره جبرئيل، عليه السلام، بما فيها، فأخبرهم قبل فتحها، فقال الرسول: «صدقت!». ففتحها سليمان، عليه السلام، وأمر الإرضة فأخذت شعرة في فيها، وثقبت الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر، وأمر دودة أخرى بيضاء، فأخذت خيطا بفيها، ودخلت في ثقب الجزعة المعوجة الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، ثم ميّز بين الجواري والغلمان، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها وتجعله في اليد الأخرى، ثم تضرب بها وجهها، والغلام كان يأخذ الماء بيديه، فيضرب به وجهه فميّز بين الجواري والغلمان. فلما تم ذلك ردّ الهدية ولم يقبلها، فرجع الرسول إلى بلقيس وأخبرها، فعلمت أنه نبي، ليس بملك، وما لها طاقة بمخالفته، فعزمت على القدوم عليه.
وأهدي إلى سليمان، عليه السلام، ثمانية أشياء متباينة في يوم واحد فيلة من ملك الهند، وجارية من ملك الترك بديعة الكمال، وفرس من ملك العرب
يضرب بحسنها المثل، وجوهرة من ملك الصين، واستبرق من ملك الروم، ودرة من ملك البحر، وجرادة من ملك النمل، وذرة من ملك البعوض.(2/268)
وأهدي إلى سليمان، عليه السلام، ثمانية أشياء متباينة في يوم واحد فيلة من ملك الهند، وجارية من ملك الترك بديعة الكمال، وفرس من ملك العرب
يضرب بحسنها المثل، وجوهرة من ملك الصين، واستبرق من ملك الروم، ودرة من ملك البحر، وجرادة من ملك النمل، وذرة من ملك البعوض.
وفي «مطالع البدور» أن كسرى أنو شروان، لما بنى السور بباب الأبواب، هابته الملوك وداهنته (1)، فأرسل كل منهم له هدية فمنهم ملك الصين كتب إليه [كتابا] (2): «من يعفور ملك الصين، صاحب قصر الدر والجوهر، الذي في قصره نهران يسقيان العود والكافور، والذي توجد رايحة قصره على فرسخين (3)، والذي تخدمه بنات ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل أبيض، إلى أخيه كسرى أنو شروان». وأهدى إليه فارسا من در منضد، عينا الفارس والفرس من ياقوت أحمر، وقوايم فرسه من الزمرد منضد بالجوهر، وثوبا حريرا صينيا، يتلوّن بأنواع الألوان، فيه صورة الملك بخدمه وحشمه، تحمله جارية تغيب في شعرها، يتلألأ جمالها، وغير ذلك مما يهديه الملوك إلى أمثالها.
وكتب إليه ملك الهند: / «من ملك الهند، وعظيم ملوك الشرق، وصاحب قصر الذهب وإيوان الياقوت والدر، إلى أخيه كسرى أنو شروان ملك فارس، صاحب التاج والراية». وأهدى إليه ألف منّ من عود يذوب في النار، ويختم عليه كما يختم على الشمع، وجاما من الياقوت الأحمر فتح شبر [في شبر سمك اصبعين] (4)، مملوءا درا، وأربعين درة يتيمة كل واحدة تزيد على عشرة مثاقيل، وعشرة أمنان كافور تجيء كل حبة كالفستق وأكبر من ذلك، وجارية حسناء مقرونة الحاجبين، مكحولة العينين لها ظفاير شعر تجرها، وفراشا ناعما من جلود الحيات ألين من الحرير، وأحسن من الوشي. وكان كتابه في لحاء الشجر المعروف بالكادي، مكتوب بالذهب الأحمر، له لون حسن وريح طيبة.
وكتب إليه ملك التبت: «من ملك التبت ومشارف الأرض المتاخمة للصين
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «وهادنته».
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «والذي توجد رايحته على فرسخين».
(4) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/269)
والهند، إلى أخيه كسرى أنو شروان»، وأهدى إليه أنواعا من الهدايا والتحف من عجائب تلك الأرض، وشيئا كثيرا من التروس المذهبة والجواشن وأنواع الأسلحة المثمنة، وأربعة آلاف منّ من المسك في نوافج غزلانه.
وأهدى يعقوب بن الليث الصفار، سلطان خراسان، إلى الخليفة المعتمد هدية، من جملتها مسجد فضة برواقين يصلي فيه خمسة عشر إنسانا، وماية منّ مسكا وماية منّ عودا.
وأهدت ملكة الفرنج إلى المكتفي بالله العباسي هدية، من جملتها ثوب من صوف معمول من وبر حيوان يخرج من البحر، يتلون بجميع الألوان، كل ساعة لونا، وثلاثة أطيار تكون في تلك البلاد، إذا نظرت إلى الطعام المسموم صاحت صياحا منكرا وصفقت بأجنحتها، فيعلم ذلك من حالها وأرسلت خرزا يجتذب (1)
النصول من غير ألم.
وفي «مباهج الفكر»، أن ملك الهند أهدى إلى هارون الرشيد هدية من جملتها قضيب زمرد أطول من ذراع، وعلى رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر، قوّم هذا الطائر على حدته بماية ألف دينار. وأهدي إلى السلطان محمود بن سبكتكين نصاب خنجر من الياقوت الأحمر، إذا قبض عليه يبين طرفيه من جانبي يده.
ومن ظرايف الهدايا ما أهدته شجر الدر، جارية المتوكل على الله العباسي، وكان يميل إليها ويفضلها / على ساير حظاياه، فلما كان يوم المهرجان أهدى إليه حظاياه هدايا نفيسة، فجاءت شجر الدر بعشرين غزالا تربية، عليها عشرون سرجا صينيا، على كل غزال خرج منسوج من الحرير فيه المسك والعنبر والغالية وأصناف الطيب، ومع كل غزال وصيفة بمنطقة ذهب، وفي يدها قضيب ذهب، وفي رأسه جوهرة تسوقه به. فأعجبت المتوكل، وسرّ بالهدية.
وأهدت قطر الندى، جارية المعتضد بالله العباسي، في يوم نيروز، هدية
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «تجذب».(2/270)
كان فيها عشرون صينية ذهب، فيها مشام عنبر وزنها أربعة وثلاثون رطلا، وعشرون صينية فضة، في عشرة منها مشام صندل، وعشرة منها أصناف الطيب، بلغت النفقة على ذلك كله ثلاثة عشر ألف دينار.
وذكر أن الخيزران، جارية المهدي، كانت أديبة شاعرة، فعزم المهدي على شرب دواء، فأنفذت إليه جام بلور فيه شراب، اختارته له مع وصيفة بكر بديعة الجمال، معتدلة القد والكمال، كأنها خشف غزال، وكتبت إليه تقول:
إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء
وأصلح حاله من بعد شرب ... بهذا الجام من هذا الطلاء
وفض الخاتم المهدى إليه ... فنعم الرأي ذاك بلا مراء
فسّر بذلك الخليفة، ووقعت الجارية منه أحسن موقع.
ومما يستظرف من الهدايا، ما أهدى إبراهيم الصابي إلى عضد الدولة أسطرلابا في يوم مهرجان، وكتب إليه يقول:
أهدى إليك بنو الأملاك واختلفوا ... في مهرجان جديد أنت تبليه
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... سمو قدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
وأهدى صاحب اصطخر، إلى السلطان ألب إرسلان السلجوقي، قدح فيروزج مملوا مسكا، مكتوب عليه جمشيد أحد ملوك الفرس الأول.
وأهدى ملك النوبة إلى المتوكل قردا خياطا وآخر صايغا.
وفي «كامل» (1) ابن عدي، عن أحمد بن طاهر بن حرملة، قال: «رأيت بالرملة قردا يصوغ، فإذا أراد أن ينفخ، أشار إلى رجل حتى ينفخ له».
ودرّب قرد يزيد على ركوب الحمار، وسابق به على الخيل فسبق، فقال يزيد فيه:
__________
(1) هو كتاب: الكامل في الضعفاء لابن عدي.(2/271)
من مبلغ القرد الذي سبقت به ... جواد أمير المؤمنين أتان
تلق أبا قيس بها إن ركبتها (1) ... فليس عليها إن هلكت ضمان
ومن التحف النفيسة الأثمان ما وجد في خزائن مروان، مائدة جزع أرضها بيضاء، فيها خطوط سود وحمر، سعتها ثلاثة أشبار وأرجلها ذهب، / يقال إنها صنعت على شكل المشتري، من أكل منها لا يشبع.
ذكر الأصمعي أن برمك جد يحيى بن خالد دخل على ملك الهند فأكرمه وحضر طعامه، قال: «فأكلت حتى انتهيت، فقال لي: كل! فقلت: لا والله أيها الملك، ما أقدر أن أزداد شيئا! فقال: يا غلام، هات القضيب! فلم يلبث أن جاء بقضيب، فأخذه الملك وأمرّه على صدري، فكأنني لم آكل شيئا، ثم أكلت أكلا ذريعا حتى انتهيت. فقال لي: كل! فقلت: لم أقدر. فأخذ القضيب ثانيا، وفعل مثل ما فعل أوّلا، فكأنّني لم آكل شيئا، ثم أكلت أكلا حتى انتهيت. فقال لي: كل! قلت: لم أقدر على الزيادة. فأراد أن يمرّ القضيب، فاستعفيته، فسألته عن القضيب، فقال: تحفة من تحف الملوك».
ذكر أيضا أنه كان جالسا مع ملك الهند في قصر مشرف على البحر، وفي يد الملك خاتم ياقوت أحمر يغلب نوره نور الشمس، قد أضاء المجلس منه، «فلم أزل أنظر إليه، فلما رآني أفعل ذلك، نزعه من إصبعه ورماه في البحر، فاستحيت منه، وظننت أني جنيت جناية. فلما رآني ضحك، ودعا بسفط فأخرج منه سمكة من فضة في رقبتها سلسلة طويلة، فألقاها في البحر، فغاصت ثم ظهرت بالخاتم في فيها، فجذبها وأخذ الخاتم ثم رده إلى إصبعه، فتحيّرت، ولم أعرف سببه. ثم خرجت وأتيت دمشق، ولقيت هشام بن عبد الملك، فأكرمني، وسألني عن خبري فأخبرته، فأمرني أن اتخذ له معجونا فتشاغلت بعمله. فأتاني (2) بعض الأيام في منزلي، [وأنا] (3) مشغولا بدق أجزاء
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «تلق بها قيسا إذا ما ركبتها».
(2) الأصل: «فأنا» والصيغة المثبتة من (ب) و (ج).
(3) ما بين الحاصرتين من (ب) و (ج).(2/272)
المعجون الذي أمرني به، وإذا بغلمانه هجموا عليّ، وقالوا: أمير المؤمنين يطلبك! فلما حضرت مجلسه، ودخلت من الباب، قال: اتركوه! اذهب لا تقربني، إن معك سما فأخرجوني، وعدت إلى منزلي، وأنا متحيّر فاغتسلت ولبست ثيابي، ورجعت إليه، وسألته عما كان، فقال لي: كان معك سمّ أو عبثت بشيء من السموم؟ فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، إلا أني كنت أدق الأفيون، وهو من جملة أجزاء المعجون، وهو سمّ. فقلت: كيف علم أمير المؤمنين ذلك؟ / فقال لي: في عضدي كبشان من الياقوت، إذا لقيني إنسان معه سم انتطحا. فلما وقعت عيني عليك انتطح الكبشان، فعلمت أن في يدك شيئا من السمّ».(2/273)
الفصل الرابع في ذكر البحار والأنهار والعيون والآبار [ما ذكر في البحار]
اختلف القدماء من الحكماء في ملوحة ماء البحر فمنهم من ذهب إلى أن الله تعالى، لما أمر الأرض ببلع الماء من الطوفان، فما أسرع إلى بلعه عندما أمرت. كان ماء تلك الأرض عذبا، وما تأخر عن البلع بسرعة أعقبها ماء مالح، فمن ذلك البحار، وهو بقية ماء غضب أهلك به أمم.
وزعم قوم أنه لما طال مكثه، وألحّت عليه الشمس بالإحتراق صار ملحا، واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه، فهو بقية ما صفته الأرض من الرطوبة، فغلظ لذلك. وذهب آخرون إلى أن في البحر عروقا تغيّر ماء البحر، ولذلك صار مرّا زعاقا.
والأصح أن الله تعالى خلقه ملحا أجاجا لا يذاق ولا يساغ لئلا ينتن من تقادم الدهور والأزمان، وعلى ممرّ الأحقاب والأحيان، ولو كان عذبا لهلك من نتنه العالم الأرضي، ألا ترى إلى العين التي ينظر بها الانسان، / وهي شحمة مغمورة في الدمع، وهو مالح، والشحم لا يصان إلا بالملح، فكان الدمع لذلك مالحا.
ذكر الإمام الغزالي في «كنز الأسرار» أن الكواكب التي ترى في السماء هي في البحر المسجور الذي دون السماء بقدر ثلاثة فراسخ، وهو بحر بموج مكفوف قايم في الهواء بإذن الله تعالى لا تقطر منه قطرة، والبحار كلها ساكنة، وذلك جار في سرعة السهم، ممتد كأنه جبل ممدود بين المشرق والمغرب، يجري الشمس والقمر فيه.(2/274)
وفي الحديث النبوي «لو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت ما على وجه الأرض، ولو بدا القمر منه لافتتن به أهل الأرض، حتى يعبدونه من دون الله تعالى» (1).
وذكر المسعودي في «مروج الذهب» أن عدد البحار المتصلة بالأرض خمسة أبحر، أعظمها البحر المحيط، لأن منه مادة جميع البحار المنفصلة والمتصلة. والبحار التي على وجه الأرض خلجان بالنسبة إليه، وهو بحر لا يعرف له ساحل ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى. وفي هذا البحر عرش إبليس، لعنه الله، وفيه مداين تطفو على وجه الماء ثم تغيب، وتظهر فيه الصور العجيبة والأشكال الغريبة ثم تغيب في الماء (2). وفيه الأصنام التي وضعها أبرهة ذو المنار الحميري قايمة على وجه البحر، وهي ثلاثة أصنام، أحدها أخضر والثاني أحمر والثالث أبيض، وكل منهم يومي بيده إلى البحر، من جاوز هذا المكان هلك. وفي هذا البحر ينبت شجر المرجان، وفيه من الجزاير المسكونة والخالية ما لا يعلمها إلا الله تعالى، وفيه أسماك طول الحوت منها أيام. وفيه صور عجيبة وأشكال غريبة مشوهات الخلقة، ثم تتشعب منه أبحر، ويسمى كل بحر باسم المكان المحاذي له.
وأما بحر الظلمة، فهو البحر المحيط الغربي، ويسمى المظلم لكثرة أهواله وصعوبة نتنه ولا يمكن أحد من خلق الله تعالى أن يسير فيه، لأن أمواجه كالجبال الرواسي، وظلامه كدر ودوابه متسلطة. وفي ساحل هذا البحر يوجد العنبر الأشهب الجيد، وفي هذا البحر من الجزاير العامرة والخراب ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
وأما بحر الصين، فهو متصل بالمحيط من الشرق، وهو كثير الموج، عظيم الاضطراب، بعيد القعر، فيه المد والجزر، ويستدل على هيجانه بأن
__________
(1) المقطع: «ذكر الامام الغزالي حتى يعبدونه من دون الله تعالى» ساقطة من (ب).
(2) «في الماء»: ساقطة من (ج).(2/275)
يطفو السمك على وجه الماء قبل هيجانه بيوم واحد، ويستدل على سكونه ببيض طاير معروف يبيض على وجه الماء.
وفي هذا البحر مغاص اللؤلؤ. قيل إن في هذا البحر اثني عشر ألف جزيرة وثلاثماية جزيرة، وفي بعض جزايرة ينبت الذهب.
ومن عجائب هذا البحر أنه إذا كثرت أمواجه ظهرت منه أشخاص سود طوال، كل واحد منهم طول أربعة أشبار، كأنهم أولاد الأحابيش، يصعدون إلى المراكب من غير ضرر ولا أذى، وظهورهم يدل على خروج ريح عظيمة.
حكي أنهم رأوا في هذا البحر طايرا يطير، وهو من نور لا يستطيع أحد النظر إليه، فإذا ارتفع على أعلى صاري المركب سكنت الريح، وهدأت الأمواج، وهو دليل السلامة، ويفقدونه فلا / يعلمون أين ذهب.
وفيها دابة المسك البحري، وهي دابة تخرج من البحر في كل سنة بكثرة، فتصاد وتذبح، ويؤخذ المسك من سرتها كالدم.
وفيها سلاحف كبار استدارة كل سلحفة أربعون ذراعا، ثم تبيض كل واحدة ألف بيضة، وظهرها الدبل الفاخر يتخذون منه قصعا كبارا.
وفيها سرطان عظيم يخرج من الماء بسرعة حركة، فإذا صار في البر انعقد حجرا في الحال.
وفيها حيات عظام تخرج من البحر تبلع الفيل، وتنطوي على شجرة عظيمة فتكسر عظام الفيل في بطنها، ويسمع قعقعة ذلك على بعد.
وفي هذا البحر الدردور الكبير، وهو إذا وقعت فيه سفينة فلا تنجو أبدا منه.
وأما بحر الهند ويسمى البحر الحبشي، فهو من أعظم البحار وأوسعها وأكثرها خيرا، وفيه جزاير كثيرة، قيل إنها تزيد على عشرين ألف جزيرة، وفيها من الأمم ما لا يعلمه إلا الله تعالى.(2/276)
ويتشعب من هذا البحر خليجان عظيمان، أحدهما بحر فارس، والثاني بحر القلزم ويسمى بحر فارس البحر الأخضر، وهو بحر مبارك كثير الخير، دائم السلامة قليل الهيجان بالنسبة إلى غيره، وفيه مغاص الدر الكبير، وربما وقعت الدرة اليتيمة التي لا نظير لها. وفي جزايره معادن أنواع اليواقيت والأحجار الملونة النفيسة، ومعادن الذهب والفضة وأنواع الطيب. وبحر عمان شعبة من بحر فارس، وهو بحر كثير العجائب.
وبحر القلزم يسمى باسم مدينة على ساحله، وهو البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه، وهو بحر مظلم لا خير فيه.
وفي هذا البحر جزاير كثيرة وغالبها غير مسكونة ولا مسلوكة. وفي جزيرة من جزايره الجساسة، وهي دابة تجس الأخبار، وتأتي بها إلى الدجال.
وأما بحر الزنج، فهو بحر الهند المذكور بعينه، وبلاد الزنج منه في جانب الجنوب تحت سهيل. وراكب هذا البحر يرى القطب الجنوبي، ولا يرى القطب الشمالي، ولا نبات تعش.
وهذا البحر متصل بالبحر المحيط، وموجه كالجبال الشواهق، وليس له زبد مثل ساير البحار. وفيه جزاير كثيرة ذات أشجار وغياض، لكنها ليست بذوات ثمار، مثل شجر الأبنوس والصندل والساج، وما أشبه ذلك.
وأما بحر الغرب، فهو بحر الشام وبحر قسطنطينية، مخرجه من البحر المحيط، وفيه مد وجزر، كل يوم وليلة أربع مرات، وذلك أن بحر الغرب عند طلوع الشمس / يعلو فيصب في مجمع البحرين إلى وقت الزوال، فإذا زالت الشمس يرجع إلى مكانه إلى مغيب الشمس، ويعود من نصف الليل إلى آخر الليل، ثم يرجع، وهكذا على الدوام.
وفي هذا البحر جزاير كثيرة. ومن عجايبه أنه يخرج منه حيوان كالإنسان، وله لحية بيضاء وبدن كبدن الضفدع وشعر كشعر البقر، وهو في قدر البغل، وخروجه نهار السبت، فلا يزال في البر حتى تغرب الشمس، فإذا غربت وثب
وثبة لا يلحقه أحد. وفيه حوت موسى، عليه السلام، وهو الحوت المشوي الذي صحبه موسى وفتاه يوشع [بن نون] (1)، حين سافر في طلب الخضر، وكانا قد أكلا نصفه والنصف الباقي ذهب إلى البحر، وهي سمكة طولها ذراع وعرضها شبر واحد، جانبها مأكول ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها، ويهدونها إلى الرؤساء سيما اليهود.(2/277)
وفي هذا البحر جزاير كثيرة. ومن عجايبه أنه يخرج منه حيوان كالإنسان، وله لحية بيضاء وبدن كبدن الضفدع وشعر كشعر البقر، وهو في قدر البغل، وخروجه نهار السبت، فلا يزال في البر حتى تغرب الشمس، فإذا غربت وثب
وثبة لا يلحقه أحد. وفيه حوت موسى، عليه السلام، وهو الحوت المشوي الذي صحبه موسى وفتاه يوشع [بن نون] (1)، حين سافر في طلب الخضر، وكانا قد أكلا نصفه والنصف الباقي ذهب إلى البحر، وهي سمكة طولها ذراع وعرضها شبر واحد، جانبها مأكول ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها، ويهدونها إلى الرؤساء سيما اليهود.
وأما بحر الخزر، فهو بحر باب الأبواب، وهو المعروف ببحر الترك وبحر الأعاجم، وهو بحر معمور بالناس من جهاته الأربع.
وهذا بحر واسع لا اتصال له بشيء من البحار، وهو صعب المسلك سريع الهلاك، وليس فيه شيء من اللآلىء. طوله ثمانماية ميل، وعرضه ستماية ميل، وهو مدور الشكل إلى الطول أميز.
فهذه جملة البحار، وعند أكثر الناس أنها أربعة في المعمور من الأرض، ومنهم من يعدها خمسة، ومنهم من يعدها ستة، ومنهم من يرى أنها سبعة، منفصلة غير متصلة.
وما ذكر في المشاهير من الأنهار
ما نقله بطليموس في كتابه أن عدد الأنهار ماية نهر عظيم، طول كل نهر من مبداه إلى منتهاه من خمسين فرسخا إلى ألف فرسخ، ومبدا الجميع من الجبال وتنصب في البحار بعد انتفاع العام بها، وتتشعب منها سواق وبحيرات، فإذا صب في البحر المالح وأشرقت الشمس على البحار، فيصعد منه إلى الجو بخار وينعقد غيوما. فلا يزال الأمر كذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، فسبحان المدبر لمملكته ببدايع حكمته.
وذكر صاحب المنطق أن الماء المالح أثقل من الماء العذب، والدليل
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/278)
على ذلك أن الماء المالح كدر غليظ، والماء العذب صاف رقيق، وكل ما يجري فهو نهر، وحيث ينبع فهو عين، وحيث يكون معظم الماء فهو بحر.
وأول ما نبدأ بذكره نهر أتل: وهو نهر عظيم في بلاد الخزر، ومبداه من أرض الروس وبلغار، ومصبه في بحر الخزر. وقد ذكر الحكماء أنه يتشعب من هذا النهر خمس وسبعون شعبة، كل شعبة منها نهر عظيم، وأصله لا ينقص ذرّة لغزارة مائة وقوة إمداده، / فإذا دخل في البحر يستمر مسافة يومين ظاهر لونه، ثم ينخلط ويجمد في الشتاء لعذوبته. وفي هذا النهر حيوانات عجيبة.
نهر أذربيجان: ذكر صاحب «المسالك والممالك» أن هذا النهر يجري ماؤه ويستحجر، فيصير صفايح صخر، فيستعملونه في البناء.
نهر جيحون: ذكر الاصطخري أن نهر جيحون من حدود بدخشان، ثم ينضم إليه أنهار كثيرة فيصير نهرا عظيما. وهذا النهر مع عظمه يجمد في الشتاء ويجري الماء من تحت الجمد، وإذا جمد عبرت (1) عليه القوافل، وهو نهر قتّال قلّ أن ينجو منه غريق، ويستمر جريانه إلى قرب مصيصة آذنة، ومنها ينصب في نهر الروم.
نهر حصن المهدي: ذكر في «تحفة الغرايب» أنه بين البصرة والأهواز، وهو نهر كبير، ويرتفع منه في بعض الأوقات شبه منارة يسمع منها أصوات كالطبل والبوق، ثم تغيب ولا يعرف أحد شأن ذلك.
نهر خزلج: وهو نهر بأرض الترك، وفيه حيّات عظيمة، إذا وقع عين بني آدم عليها يغشى عليه.
نهر سيحون: نهر بما وراء النهر قريب خجندة بعد سمرقند، ويجمد في الشتاء حتى تجوز على جمده القوافل، وهو في حدود بلاد الترك (2).
__________
(1) الأصل: «عبر».
(2) في الأصل: «نهر سيحون، نهر حلو، وهو من أنهار الجنة، يمر ببلاد الحبشة، يقال إنه يزيد منه نيل مصر»، وهو خطأ، ويؤكد ذلك ما ورد في كتب الجغرافية التاريخية وما هنا من (ج).(2/279)
نهر سيحان: وهو غربي مدينة آذنة، عليه جسر ممدود طوله خمسماية وست وسبعون ذراعا، بناه الرشيد ليجاز عليه إلى آذنة. ومبدا هذا النهر من ناحية ملطية من شقيف عليه كنيسة، فيها صورة الجنة مصورة، وهذا النهر يجري من تحتها.
نهر دجلة: وهو نهر بغداد، مخرجه من أصل جبل بقرب آمد عند حصن ذي القرنين، وماؤه أعذب المياه وأكثرها نفعا، لأن ماءه من مخرجه إلى مصبه جار في العمارات. وهو نهر مبارك، كثيرا ما ينجو غريقه. حكي أنهم وجدوا فيه غريقا فأخذوه فإذا فيه رمق، فلما رجعت روحه إليه سألوه عن مكانه الذي وقع منه، فأخبرهم، فكان من موضع وقوفه إلى موضع نجاته مسيرة خمسة أيام. وينصب هذا النهر في بحر فارس عند البصرة.
نهر الذهب: وهو بأرض حلب (1)، ومعنى قولهم نهر الذهب لأن جميعه (2)
يباع، أوله بالميزان وآخره بالكيل فإن أوله يزرع عليه الحبوبات والخضراوات، وآخره ينصب إلى بطيحة فرسخين في فرسخين، فينعقد ملحا.
نهر الرس: ببلاد أذربيجان، وهو شديد الجريان، وبأرضه (3) حجارة، بعضها ظاهر وبعضها مغطاة بالماء، وبهذا السبب لا تجري فيه السفن، وهو نهر مبارك، كثيرا ما ينجو غريقه.
نهر الزاب: وهو نهر بين الموصل وإربل ينصب في دجلة، يقال له الزاب المجنون لشدة جريانه.
نهر زمرود: وهو / بأصفهان موصوف (4) باللطافة والعذوبة، يغسل فيه الثوب الخشن، فيعود أحسن من الخزّ والحرير (5)، ثم يعظم بانضمام المياه إليه عند
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وهو بأرض الشام وبلاد حلب يزعم أهل حلب أنه وادي بطنان».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «لأن جميع مائه».
(3) كذا في (ج) وفي (ب): «جميعها».
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «مشهور».
(5) كذا في (ب) وفي (ج): «فيعود أنعم من الحرير والخز».(2/280)
أصفهان ويسقي بساتينها، ثم يغور ويظهر بكرمان، ويجري وينصب في بحر الهند.
نهر سنجه: وهو نهر بين حصن منصور وكيسوم (1)، من ديار مضر، لا يمكن خوضه لأن قراره رمل سيال، وعليه قنطرة عجيبة من احدى (2) عجايب الدنيا.
نهر سلق: وهو نهر صقلاب، وهو نهر كبير (3)، يجري فيه الماء بعد كل ستة أيام يوما واحدا، وهذا دأبه أبدا.
نهر بردا: وهو نهر دمشق، مخرجه من مكانين، أحدهما بأرض الزبداني بموضع يعرف بعيون التوت، والثاني من عين الفيجة، وهي عين تخرج من تحت جبل وتنصب إلى أسفل بصوت هائل ودوي عظيم، فإذا قرب إلى المدينة تفرّق إلى سبعة أنهار، وهي: بردا، وثورا، ويزيد، وقناة المزة، وبانياس، وقنوات (4)، وعقربا (5).
نهر العاصي: وهو نهر حماه، مخرجه من عين بقرب اللبوة، من أعمال بعلبك، ومصبه في البحر بأرض السويدية بقرب أنطاكية. وسمي بالعاصي لأن أكثر الأنهار تتوجه نحو الجنوب، وهذا يتوجه نحو الشمال، ويسمى النهر المقلوب لأجل ذلك.
نهر الفرات العظمى: وهو نهر عظيم عذب ذو هيبة، مخرجه من بلاد أرمينية، ثم يستمر إلى أن يصب بعضه في دجلة، وبعضه يصير إلى بحر فارس.
__________
(1) في الأصل و (ب): «ككسوم» وما هنا من (ب) ولسترنج. «وكيسوم» هي بلدة من الفرات الأعلى قريبة من قلعة بهسنا، ولها نهر باسمها، قال عنه ياقوت: إنه من روافد الفرات.
لسترنج: 156
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «أحد».
(3) كذا في (ب): «وهو نهر صقلاب كبير» وفي (ج): «وقيل هو نهر صقلاب كبير».
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «والقنوات».
(5) كذا في (ج) وفي (ب): «وعقيربا».(2/281)
وللفرات فضائل كثيرة، روي أن أربعة أنهار من أنهار الجنة: سيحون وجيحون والنيل والفرات.
عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، قال: «يا أهل الكوفة، إن نهركم هذا ينصب إليه ميزاب (1) من الجنة».
وعن جعفر الصادق، رضي الله عنه، أنه شرب من ماء الفرات ثم استزاد، رحمه الله تعالى، وقال: «ما أعظم بركته، لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا حافته القباب، ما انغمس فيه ذو عاهة إلا برىء».
حكى السندي، رحمه الله، أن الفرات مد في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فلقي فيه رمانة في غاية العظم فأخذت، فكان فيها حب كثير، قيل كانت مثل البعير البارك، قسمها بين المسلمين، فكانوا يرون أنها من الجنة.
نهر الكرو: وهو بين أرمينية وأران (2)، وهو نهر مبارك كثيرا ما ينجو غريقه.
ذكر بعض أناس من أهل نقجوان أنهم وجدوا غريقا فيه، فأخرجوه وفيه بعض رمق، فطلب / منهم طعاما، فذهبوا ليأتوه، فانقض عليه جدار فمات تحت الردم.
نهر اليمن: قال صاحب «تحفة الغرائب» إن بأرض اليمن نهرا من طلوع الشمس إلى الغروب يجري من المشرق إلى المغرب، ومن الغروب ينقلب راجعا إلى آخر الليل، هكذا على ممر الدهور والأحقاب.
نهر مهران: هو نهر السند، وهو نهر عظيم فيه تماسيح كنيل مصر، وهو يمتد على وجه الأرض ويزرع عليه كما يزرع على النيل، وينقص ويزيد كالنيل، ولا يوجد التمساح إلا بنهر مهران والنيل. قيل: إن مخرجه من عين مشهورة بأرض الفتوح من بلاد بوورّه، ويستمر حتى ينصب في بحر فارس.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «ميزابان».
(2) في الأصل و (ب): «أزال» وما أثبتناه من (ج) وياقوت ولسترنج و «أران»، ويقال أيضا «ران»، هو أقليم من بلاد الكيلان شمال نهر أرس.
لسترنج: 211.(2/282)
نهر العامود: وهو بالهند، عليه شجرة باسقة من حديد، وقيل من نحاس، وتحتها عامود من جنسها ارتفاعه عشرة أذرع. وفي رأس العامود ثلاث شعب غلاظ مستوية محدودة كالسيف (1)، وعنده رجل يرغب الناس، فيقول: «طوبى لمن صعد في هذه الشجرة، وألقى نفسه على هذا العامود!». فيصعد من حوله رجل أو رجال، فيلقون أنفسهم على ذلك العامود، فيتقطعون ويقعون في الماء، فيدعوا (2) لهم أهلهم بالمصير إلى الجنة، كما مرّ.
نهر النيل المبارك: ليس في الدنيا نهر أطول منه، لأن مسيره، من مخرجه إلى أن يأتي إلى بلاد مصر، عشرة أشهر، شهرين في بلاد الإسلام، وشهرين في بلاد الكفر، وشهرين في البرية، وأربعة أشهر في الخراب. ومخرجه من جبل القمر خلف خط الإستواء ويسمى جبل القمر، لأن القمر لا يطلع عليه أصلا لخروجه عن خط الاستواء.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن النيل يخرج من الجنة، ولو التمستم فيه حين يخرج لوجدتم فيه من ورقها».
وذكر في الخبر أن سيحون، وجيحون، والنيل، والفرات، كلها تخرج من قبة من زبرجدة خضرا من جبل عال هناك (3)، وليس في الدنيا نهر يزيد بترتيب، وينقص بترتيب، غير النيل.
حكي أن رجلا من ولد العيص يسمى خالد، جاهد وأراد أن يحيط علما بمخرج النيل، فسار ثلاثين سنة في العمران وثلاثين سنة في أراضي الخراب، وهو لا يفارق النيل حتى انتهى إلى بحر أخضر، فرأى النيل شق ذلك البحر، فركب دابة هناك من دواب البحر سخرها الله له، / فقطع البحر ووصل إلى أرض من حديد، جبالها وأشجارها من حديد، ثم وصل إلى أرض من نحاس، جبالها وأشجارها من نحاس، ثم وقع في أرض من ذهب، جبالها وأشجارها من ذهب،
__________
(1) كذا في (ب): «محددة كالسيوف» وفي (ج): «محدودة كالسيف».
(2) في الأصل و (ب): «فيدعون» وما هنا من (ج).
(3) المقطع: «قال النبي جبل عال هناك» ساقط من (ب).(2/283)
ثم وقع في أرض من فضة، جبالها وأشجارها من فضة، ثم انتهى إلى سور عظيم منيع من ذهب، وهناك قبة عالية من ذهب لها أربعة أبواب، والماء ينحدر من ذلك السور ويستقر في تلك القبة، ثم يخرج من الأبواب الأربعة ثلاثة ثغور في الأرض، والرابع يجري على وجه الأرض، وهو النيل، والثلاثة سيحون وجيحون والفرات. ثم أتاه آت وأخبره بأن هذه الجنة (1).
نهر الرمل: هو نهر عظيم في أقصى بلاد الغرب، جار كالنهر لا ينقطع جريانه، ومن نزل فيه هلك. ويقال إن ذا القرنين لما وصل إليه ورأى جريانه تحير، فانقطع جريانه يوما، فأمر بعض أناس من (2) أصحابه أن يدخلوا فيه ويخبروا الاسكندر بما وراءه. فدخلوا ولم يعودوا إليه فهلكوا، فنصب ذو القرنين هناك شخصا قايما كالمنارة من النحاس وأحكمه، وكتب عليه: «ليس ورائي شيء، فلا يتجاوزه أحد». /
وما ذكر في عجايب العيون
سوى ما ذكر آنفا ما نقله صاحب «تحفة الغرائب»:
عين آذربيجان: قيل يؤخذ قالب لبن فيوضع في الأرض، ويصب من ماء هذا العين، ويصبر عليه ساعة فيصير الماء لبنا من حجر صلد، ويبنون به ما شاءوا وما أرادوا.
عين بقرية من قرى قزوين، إذا شرب منها الإنسان أسهل إسهالا عجيبا شديدا، وإذا حمل منه إلى الخارج بطلت خاصيته.
عين باذخاني: ببلاد دامغان بقرية تسمى باذخاني، إذا أراد أهل هذه القرية هبوب الريح أخذوا خرقة حيض ووضعوها في العين، فيتحرك الريح، ومن شرب منها انتفخ بطنه كالطبل، ومن نقل من ذلك الماء إلى مكان آخر ينعقد ذلك حجرا.
__________
(1) المقطع: «حكي أن رجلا وأخبره بأن هذه الجنة» ساقط من (ب).
(2) «أناس من»: ساقطة من (ج).(2/284)
عين بأرض باسيان (1): ينبع منها ماء كثير بصوت عظيم، يشم منه رايحة الكبريت، من اغتسل من مائها أزال عنه الحكة والجرب والدمل، وإذا جعل من مائها في إناء وسدّ سدا محكما وترك صار كالطين، وإذا قرب من النار اشتعل والتهب.
عين بجرجان: بموضع يسمى سياه سنك، على تل يأخذ الناس منها الماء للشرب، وهو عذب طيب، وفي الطريق إلى العين دودة معروفة عند أهلها، فمن أخذ من ذلك الماء وأصابت رجله تلك الدودة، وهو ذاهب بالماء، صار الماء علقما فيريقه، ويمضي إلى الماء ثانيا.
عين الأوقات: وهي بالقرب من مدينة أفريقية لا تجري إلّا في أوقات الصلوات الخمس في أولها، ثم تنقطع، ولبثها بقدر ما يتوضأ الناس، فإذا حضرها جنب أو حائض لم يجد من الماء شيئا (2).
ذكر السمنطاوي أنه سمع عن العين التي تجري في أوقات الصلوات خاصة عن الذي عاينها أربعين سنة، قال: «فأتيتها لما سمعت بها وأنا يومئذ حدث لأقف عليها، فوجدتها كما ذكر، إذا كان وقت الصلاة فارت بماء معين، فإذا خرج الوقت لم يوجد فيها نقطة ماء بل تكون يابسة يجلس فيها الإنسان بثوبه. قال:
فعاينت ذلك ثلاثة أيام متوالية لم تتغير عما ذكرت البتة، وكان من أمرها معنا، أننا غفلنا ليلة عن أخذ الماء حتى خرج وقت الصلاة، فجئناها لأجل الماء فوجدناها جافة، فبتنا على ظمأ إلى وقت الصبح، وهذا أمر عجيب، والظاهر أنها أجريت لوليّ من أولياء الله تعالى، فبقيت بركته على ممر الدهور» (3).
عين شرم (4): وهي بين أصفهان وشيراز، وهي من عجايب الدنيا، وذلك
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «عين باسيان».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «لم يجد شيئا من الماء».
(3) رواية السمنطاري لم ترد في (ب).
(4) كذا في (ب): «شيرم» وفي (ج): «سميرم».(2/285)
أن الجراد إذا نزل بأرض يحمل إليها من تلك العين ماء (1) في وعاء، فيتبع ذلك الماء طيور سود تسمى السمرمر، ويقال لها السودانية بحيث أن حامل الماء لا يضعه على الأرض، ولا يلتفت وراءه، فتبقى تلك الطيور على رأس الحامل للماء كالسحابة السوداء إلى أن يصل إلى الأرض التي بها الجراد، ويقص الجراد بمنقاره قصا، ويلقيه ولا يأكله، ويصيح على الجراد فيموت من أصوات تلك الطيور.
عين شيركيزان: / وهي في قرية من قرى مراغة، فيها عينان تفوران ماء، احداهما بارد عذب، والأخرى حار مالح، وبينهما مقدار ذراع.
عين العقاب: ذكر صاحب «تحفة الغرائب» أن بأرض الهند عينا على رأس جبل، إذا هرم العقاب وضعف تأتي به أفراخه حملا إلى تلك العين وتغسله فيها، ثم تضعه في شعاع الشمس فيسقط ريشه، وينبت له ريش جديد، ويذهب هرمه وضعفه، وترجع إليه قوته وشبابه.
عين بقرب غزنة: إذا ألقي فيها شيء من القاذورات والنجاسات يتغير الهواء في الحال، ويظهر البرد والريح العاصف والمطر والثلج، وتبقى بتلك الحال حتى ترتفع وتزال عنها تلك القاذورات (2).
وما ذكر في عجايب الآبار
بئر أبي كور: وهي بقرب طرابلس، من شرب من مائها تحمق، وهو مثل بين الناس، يقال للأحمق، شرب من بئر أبي كور.
بئر بابل: قال الأعمش: «كان مجاهد يحب أن يسمع الأعاجيب ويقصدها، وكان لا يسمع بشيء من ذلك إلا توجه إليه وعاينه، فأتى بابل لينظر هاروت وماروت، فانطلق به رجل يهودي حتى أتى موضعا، فرفع صخرة فإذا هو
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «أن الجراد إذا انزل بأرض يحمل إليه من ماء تلك العين ماء».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «حتى ترتفع وتزول عنها القاذورات».(2/286)
شبه سرداب، فقال اليهودي: انزل معي، وانظر إليهما، ولا تذكر اسم الله تعالى عندهما».
قال مجاهد: فنزلت مع اليهودي، ولم نزل نمشي، حتى نظرت إليهما، وهما كالجبلين العظيمين منكوسين على رؤوسهما والحديد في أعناقهما إلى ركبتيهما. فلما رآهما مجاهد لم يملك نفسه أن ذكر الله تعالى. قال: فاضطربا اضطرابا شديدا حتى كادا يقطعان ما عليهما من الحديد، فهرب مجاهد واليهودي حتى خرجا، فعاتب اليهودي مجاهدا عتابا شديدا، وقال: والله، كدنا نهلك!».
وكل من رغب أن يتعلم السحر، فيقصد ذلك البئر فيدلونه إلى تنور، ويأمرونه أن يبول فيه.
بئر بدر: وهي بين مكة والمدينة، في الموضع الذي كانت فيه وقعة بدر، بين النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكفّار قريش، ورمى منهم جماعة في هذا البئر.
حكى بعض الصحابة أنه رأى في اجتيازه هناك شخصا مشوها خرج من البئر هاربا، وخرج في أثره رجل آخر ومعه سوط يلهب نارا، فصاح / به، فضربه ورده إلى البئر وأنا أنظر إليهما (1).
بئر برهوت: وهي بقرب حضرموت. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن فيها أرواح الكفار والمنافقين» (2). وهي بئر عارية في فلاة مقفرة وواد مظلم.
عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أنه قال: «أبغض البقاع إلى الله تعالى برهوت. وفيها بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليه أرواح الكفار».
حكى الأصمعي، عن رجل من أهل الخبر، أن رجلا من عظماء الكفار قد مات، قال: «فلما كانت تلك الليلة مررت بوادي برهوت، فشممت ريحا لا يوصف نتنه، على خلاف العادة، فعلمت أن روح ذلك الكافر قد نقلت إلى البئر» (3).
__________
(1) رواية الصحابي لم ترد في (ب).
(2) «قال رسول الله والمنافقين»: ساقط من (ب).
(3) المقطع: عن علي بن أبي طالب قد نقلت إلى البئر» ساقط من (ب).(2/287)
بئر بضاعة: وهي بالمدينة المشرفة. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى بئر بضاعة، فتوضأ من البئر ورد ما بقي إلى البئر وبصق فيها وشرب من مائها، وكان مالحا، فعاد عذبا طيبا. وكان إذا أصاب الإنسان مرض في أيامه، صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «غسلوه من ماء بئر بضاعة، فإذا اغتسل فكأنما نشط من عقال».
وقالت أسما بنت أبي بكر، رضي الله عنهما: «كنا نغسل المريض من بئر بضاعة ثلاثة أيام، فيعافى» (1).
بئر دروان: بالمدينة المنورة، روي أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مرض فبينما هو بين النائم واليقظان إذ نزل ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه: «ما وجعه؟». فقال الذي عند رجليه: «طبّ!». [قال: «ومن طبّه؟». قال لبيد بن الأعصم اليهودي] (2). قال: «فأين طبّه؟». قال: «في كربة تحت صخرة في بئر دروان!». فانتبه، صلّى الله عليه وسلّم، وقد حفظ كلامهما، فوجه عليا وعمارا مع جماعة من الصحابة فأتوا البئر (3)، فنزحوا ما بها من الماء (4)، وانتهوا إلى الصخرة فقلبوها، فوجدوا الكربة تحتها وبها وتر فيه إحدى عشرة عقدة فأخرجوها، وحلوا العقد فزال وجع النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى عليه المعوّذتين إحدى عشرة آية، فحل بقراءة المعوّذتين العقد المعقودة في الوتر (5).
بئر أريس (6): وهي بالمدينة المنورة. روي أن فيها عينان (7) من الجنة، وكان، صلّى الله عليه وسلّم، يستطيب ماءها ويبارك فيها، روي أنه بصق فيها.
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب) إيجاز لما ورد في النسختين الأخريين.
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) عبارة: «فأتوا البئر» لم ترد في (ج).
(4) كذا وفي (ج): «فنزحوا ماءها».
(5) المقطع: «روي أن النبي العقد المعقودة في الوتر» لم يرد في (ب).
(6) لم يرد ذكر هذه العين في (ب).
(7) كذا وفي (ج): «عينا».(2/288)
بئر زمزم المبارك (1): قال صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له!» (2). وكان ذرع زمزم من أعلاه إلى أسفله أربعين ذراعا، وفي قعرها عيون غير واحدة.
بئر المطرية: وهي بئر قرية من قرى مصر، وبها شجر البلسان. ذكر أن عيسى، عليه السلام، اغتسل بها (3)، ويحمل دهنه إلى السلطان.
بئر المعظمة: وتسمى بئر العظايم، وهي بالقاهرة، يقال إنها من آبار موسى، عليه السلام. حكي أن طاسة رجل وقعت في بئر زمزم، وعليها منقوش اسم الرجل (4)، فرجع الرجل مع الركب المصري إلى القاهرة، فجاء إلى هذه البئر ليتوضأ منها للتبرك، فطلعت الطاسة بعينها في الدلو، وشهد له جماعة من الحجاج أنهم شاهدوا وقوعها في بئر زمزم. /
__________
(1) لفظة «المبارك»: ساقطة من (ج).
(2) القول المنسوب إلى الرسول (صلّى الله عليه وسلّم): لم يرد في (ب).
(3) عبارة: «ذكر أن عيسى عليه السلام اغتسل بها» لم ترد في (ب).
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «حكي أن رجلا وقع منه طاسة في بير زمزم منقوش عليها اسم الرجل».(2/289)
الفصل الخامس في ذكر المدن والبلدان وما فيها من عجايب الآثار والسكان
ذكر أهل الأثر أن الناس محصورون في الربع المسكون من الأرض، وليس لأحد علم بالثلاثة أرباع الباقية، لمنعهم من سلوكها الجبال الشامخة والمسالك الوعرة، والبحار الزاخرة والأهوية المتغيرة المفرطة من الحر والبرد والظلمة، لأن ناحية الشمال تحت مدار الجدي، فهناك برد مفرط لكون الستة أشهر شتاء كله، فيظلم الجو وتجمد المياه، فيتلف النبات والحيوان (1).
في مقابلة هذا الموضع في ناحية الجنوب، تحت مدار سهيل، يكون نهارا ستة أشهر بلا ليل، فيجيء الهواء ويصير نارا مسموما، فيحرق النبات ويهلك الحيوان (2)، من شدة الحر، فلا يمكن السكنى هناك ولا السلوك.
وأما ناحية المغرب، فيمنع البحر المحيط السلوك فيه، لشدة تلاطم أمواجه وشدة ظلماته.
وأما ناحية الشرق، فيمنع السلوك هناك الجبال الشامخة.
فالربع المسكون أعدل الأرض، فأسكنه الله بني آدم، وهو مسيرة ماية سنة، فأسكن يأجوج ومأجوج في آخر بلاد الشمال في أرض متصل ببحر الظلمات، طولها ثمانون سنة وأربع عشرة سنة لأنواع السودان، وبلادهم المغرب
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «الحيوانات».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الحيوانات».(2/290)
الأعلى ممتدا على بحر الظلمات، وست سنين الباقية للحبشة والهند والصين، والفرس والترك والروم، والفرنج والعرب والعجم، وسائر قبائل الكفار.
ولما أشكل على المأمون ما ذكره المتقدمون في مقدار مساحة الأرض، فبعث جماعة من أهل الخبرة بالحساب والنجوم إلى برية سنجار، فأحاطوا علما بمساحة الأرض.
واختلف القدماء في مبلغ الأرض وكميتها، فروي عن مكحول أنه قال:
مسيرة ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسماية عام، مايتان من ذلك في البحر، ومايتان ليس يسكنها أحد، وثمانون فيها يأجوج ومأجوج، وعشرون فيها سائر الخلق.
قال مكحول وقتادة: إن الدنيا أربعة وعشرون ألف فرسخ فملك السودان منها اثني عشر ألف فرسخ، وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ، وملك العجم والترك ثلاثة آلاف / فرسخ، وملك العرب ألف فرسخ.
وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: ربع الدينا من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس.
وقد خرج بطليموس مقدار قطر الأرض واستدارتها بالتقريب، فقال:
استدارة الأرض ماية ألف وثمانون ألف ميل (1)، [وهي أربعة وعشرون ألف ميل] (2)، فيكون على هذا الحكم ثمانية آلاف فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف ذراع بالملكي، والذراع ثلاثة أشبار، وكل شبر اثنا عشر إصبعا، والإصبع الواحدة خمس شعيرات مضمومات بطونها بعضها إلى بعض، وعرض الشعيرة الواحدة ست شعرات من شعر بغل، [والإسطاربوس أربعماية ذراع] (3)، وغلظ الأرض، وهو قطرها، سبعة آلاف وستماية وثلاثون ميلا، فيكون
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «اسطاربوس».
(2) ما بين الحاصرتين من (ج).
(3) ما بين الحاصرتين من (ج).(2/291)
ألفين وخمسماية فرسخ وخمسة وأربعين فرسخا وثلثي فرسخ، فبسيط الأرض كلها ماية واثنان وثلاثون ألف ألف وستماية ألف ميل، فيكون مائتي ألف وثمانية وثمانين ألف فرسخ، فإن كان ذلك حقا فهو وحي من الله عز وجل (1) والهام، وإن كان قياسا واستدلالا، فقريب أيضا من الحق.
وأما قول قتادة ومكحول، فلا يوجب العلم اليقيني الذي يقطع على الغيب به.
واعلم بأن الأرض بجميع ما عليها من الجبال والبحار بالنسبة إلى الأفلاك ما هي إلا كالنقطة في الدائرة، وأن السماء على مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب.
وذكر علماء الهندسة أن الأرض أيضا على هيئة الأكرة (2)، كدور الفلك، كالمحة في جوف البيضة، وأن النسيم محيط كالأبيض حول المحة، وأن الفلك محيط بالنسيم كإحاطة القشرة بالبيضة، فإذا فكر الإنسان في هذه الأشياء العظيمة تبين له من حكم الصانع عبرة، يعلم أنه ما خلق هذا إلا لأمر عظيم.
وقد ورد في الحديث النبوي: «أن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمران في الخراب إلا كخردلة في كف أحدكم»، كذا في «المصابيح». وذكر أن المسلمين جزء من ألف جزء من الكفار، وقد ورد في الخبر أن لله تعالى خواص في الأمكنة والأزمنة والأشخاص. /
وذكر صاحب «مرآة الزمان»: أن لله تعالى مدينتين، إحداهما بالمشرق واسمها: «جابلقا»، والأخرى بالمغرب واسمها «جابرصا»، طول كل مدينة اثنا عشر ألف فرسخ، ولكل مدينة عشرة آلاف باب، بين كل بابين فرسخ، يحرس كل باب في كل ليلة عشرة آلاف رجل ثم يذهبون، فلا تأتيهم النوبة إلى يوم القيامة،
__________
(1) كذا وفي (ب) و (ج): «وحي من الله تعالى».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الكرة».(2/292)
وأنهم يعمرون سبعة آلاف سنة إلى ما دونها، ويأكلون ويشربون وينكحون، وفيهم حكم كثيرة وأن هاتين المدينتين خارجتان عن هذا العالم، لا يرون شمسا ولا قمرا ولا يعرفون آدم ولا إبليس، يعبدون الله عز وجل ويوحدونه، ولهم نور من نور العرش يهتدون به من غير شمس ولا قمر.
وذكر أيضا أن في البحر المحيط مدائن تطفوا على وجه الماء، وأهل هذه المدن غير الآدميين، كما مرّ، وأماكن لا تزال ترمي نارا على طول الزمان، ترتفع ماية ذراع، ويتصل بهذا البحر بحر يقال له البحر الأسود الزفتي، شديد النتن، فيه قلعة الفضة، قيل إنها مصنوعة، وقيل إنها خلقة.
وفي «البدور السافرة» أن ذا القرنين، لما أشرف على جبل قاف، قال له:
«أخبرني بشيء من عظمة الله!». قال قاف: «إن ورائي أرضا مسيرة خمسماية عام في خمسماية عام، بين جبال ثلج يحطم بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حر (1) نار جهنم».
ومن عجائب صنع الله تعالى، ما ذكره صاحب «الأوائل» أن لله تعالى دابة في مرج من مروجه في غامض علمه، رزقها في كل يوم رزق العالم بأسره.
وذكر الشيخ محيي الدين بن العربي، نوّر الله مضجعه، في «الفتوحات المكية» أن الله تبارك وتعالى طوق الأرض بجبل قاف، وهو محيط بها، وطوق به حية عظيمة اجتمع رأسها عند ذنبها. قال: «رأيت من صعد هذا الجبل وعاين هذه الحية وكلّمها، وكان من الأبدال من أصحاب الخطوة، يقال له موسى السوراني، سألته عن طول الجبل علوا، فقال: صليت الضحى في أسفله والعصر بأعلاه، وأنا بهذه المثابة، يعني اتساع الخطوة، وكانت الحية ترسل سلاما إلى أبي مدين وغيره / من أهل الطريقة».
وللمفسرين في هذا الجبل أقوال. قال ابن عباس، رضي الله عنه: «إنه
__________
(1) لفظة «حر»: لم ترد في (ج).(2/293)
جبل من زبرجدة خضراء، محيط بالأرض والبحار، وقيل إنه من زمردة خضراء وعليه كنفاء السماء كالخيمة المسبلة، وخضرة السماء منه (1).
اتفق المؤرخون في عدد البلدان على أنها أربعة آلاف وخمسماية وست وخمسون مدينة، والممالك المشهورة التي ضبطت عدتها في خلافة المأمون ثلاثماية وثلاثة وأربعون مملكة، أوسعها ثلاثة أشهر، وأضيقها ثلاثة أيام.
وذكر أهل الهيئة أن عند خط الإستواء ربيعين وصيفين وخريفين وشتاءين في سنة واحدة، ويكون بعض البلاد ستة أشهر ليلا بلا نهار، وستة أشهر نهارا بلا ليل، وبعضها بحر، وبعضها برّ، كما سيأتي.
__________
(1) المقطع: «لولا هي لاحترقت من حر نار جهنم وخضرة السماء منه» ساقط من (ب).(2/294)
ولنذكر بعض المدن والبلدان مرتبا على حروف المعجم إن شاء الله تعالى
حرف الألف
إرم ذات العماد:
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهََا فِي الْبِلََادِ} (1). اختلفوا في إرم، فقال سعيد بن المسيب: «إرم ذات العماد دمشق». وقال القرظي: «هي الاسكندرية»، وقال قتادة ومجاهد ومقاتل: «هي قبيلة من عاد».
وقيل: بناء شداد بن عاد كما مر، وهي باليمن بين صنعاء وحضرموت، طولها اثنا عشر فرسخا، وعرضها مثل ذلك، محتاط بها سور عظيم مغشى بصفائح الذهب، علوه خمسماية ذراع في عرض عشرين ذراعا. ثم بني داخل المدينة ثلاثماية ألف قصر وستين قصرا، كل قصر على أعمدة من أنواع اليواقيت. وجعل في المدينة أنهارا، كل نهر حافتاه من الذهب وحصباؤه اليواقيت والجواهر، وجعل على شط تلك الأنهار أنواع الأشجار، جذوعها من الذهب وأوراقها وثمرها (2) من أنواع اليواقيت والجوهر. فلما فرغوا من بنائها، أمر بأن يتخذوا بسطا وفرشا من حرير وستائر من الديباج لتلك القصور والغرف، وأنواع الأواني من الذهب والفضة، وأسكنها ألف ألف جارية حسناء وعليهن أنواع الحلي والحلل، فهلك قبل أن يدخلها، وأخفاها الله
__________
(1) سورة الفجر، الآيتان: 87.
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «وأثمارها».(2/295)
تعالى عن أعين الناس. وهي احدى الجنان، كما مر بيانه في قصة قوم عاد.
إرام:
مدينة بأرض الهند، فيها هيكل صنم مضطجع يسمع منه في بعض الأوقات صفير، فيرى قائما، فإذا فعل ذلك، كان دليلا على الرخص والخصب في تلك السنة، وإن لم يفعل / يدل على الجدب، فيعلمون الناس (1)، ويعتدّون له.
أبرقوه:
ثلاثة مواضع، الأول: بلدة مشهورة بأرض فارس وهم يسمونها وركوه (2)، معناه أعلى الجبل (3). ومن عجائبها أن المطر لا يقع في داخل السور إلا قليلا، وإنما يقع في حواليها دون السور، ويزعمون أن ذلك بدعاء إبراهيم الخليل، عليه السلام، ينسب إليها الوزير أبو القاسم أحمد بن علي الأبرقوهي.
والثاني: بليدة بنواحي أصفهان على عشرين فرسخا منها.
والثالث: قرية بين يزدجرد وخراسان ذات مياه جارية.
آبه:
ثلاثة مواضع، الأول: بليدة بقرب ساوه بين الري وهمدان، أهلها شيعة، وبينهم وبين أهل ساوه منافرة لأن أهل ساوه كلهم سنية، وأهل آبه كلهم شيعة. قال القاضي أبو نصر، رحمه الله:
وقائلة أتبغص أهل (4) آبه ... وهم أعلام نظم والكتابه
فقلت: إليك عني إنّ مثلي ... يعادي كلّ من عادى الصحابه
بينها وبين ساوه نهر عظيم الجريان سيما وقت الربيع، بنى عليه أتابك شيركوه قنطرة عجيبة، وهي سبعون طاقا ليس على وجه الأرض مثلها.
والثاني: قرية من قرى أصفهان.
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «فيعلمون ذلك».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «بركوه».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «فوق الجبل».
(4) كذا في (ج) وفي (ب): «آل».(2/296)
والثالث: قرية من قرى مصر من كورة البهنسا بالصعيد.
أرشت وتاشقين:
ضيعتان من أعمال قزوين على ثلاثة فراسخ منها. من عجائبها أن الحديد ينطبع بأرشت ولا ينطبع بتاشقين، ولو أوقدوا عليه مما (1) أوقدوا، وقدر الصباغ يستوي بتاشقين ولا يستوي بأرشت، ولو أوقدوا تحتها ما أوقدوا، فلا يكون بأرشت صباغ ولا بتاشقين حداد أصلا، وهذا شيء مشهور (2)، يعرفه أهل تلك البلاد.
آذربيجان:
ناحية واسعة ومملكة متسعة، بها مدن كثيرة وقرى وجبال وأنهار كثيرة، وبها نهر الرس، وهو نهر عظيم الجريان، وفي أرضه حجارة كثيرة لا تجري السفن فيه. وله أجواف هائلة، زعموا أن من عبر الرس ماشيا إذا مسح برجله ظهر امرأة عسرت ولادتها ووضعت في الحال، وقد جرب مرارا.
حكى الأمير إبراهيم، صاحب آذربيجان، قال: «كنت اجتاز على قنطرة الرس مع عسكري، فلما صرت في وسط القنطرة رأيت امرأة حاملة صبيّا في قماط، فزحمها بغل محمل فرماها وسقط الطفل من يدها في الماء، فوصل إلى الماء بعد زمان لعلو القنطرة، فغاص وطفا (3) بعد زمان يسير، وسلم من الحجارة التي في النهر. وكان للعقبان أوكار في أطراف النهر، فرآه عقاب فانقض عليه وشبك مخاليبه في قماطه، وخرج به إلى الصحراء، / فأمرت جماعة أن يركضوا نحو العقاب، فإذا العقاب اشتغل بخرق (4) القماط، فأدركه القوم وصاحوا به، فطار وترك الصبي، فلحقناه، فإذا هو سالم ولم يبك، فرددناه إلى أمه».
وبأذربيجان عين يخرج الماء منها وينعقد حجرا صلدا، والناس يملأون قالب
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «مهما».
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «معروف».
(3) في الأصل و (ب): «وطغى» وما أثبتناه من (ج).
(4) كذا في (ب) وفي (ج): «في خرق».(2/297)
اللبن من ذلك الماء، ثم يتركونه يسيرا، فيصير الماء لبنا حجرا، كما مر في العيون ذكره.
آمل:
موضعان، الأول: مدينة بطبرستان مشهورة، إذا دخلها شيء من الضأن، رأيتها بعد ستة أشهر عظاما مغشية بجلود، وبقيت إليتها كالأذناب. ينسب إليها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
والثاني: مدينة في غربي جيحون في سمت بخارى، بينها وبين نهر جيحون نحو ميل.
أبلّة:
مدينة صغيرة بالبصرة حسنة عامرة، يجري فيها نهر الأبلة، طيبة جدا نضرة الأشجار متدفقة الأنهار، قالوا: «جنان الدنيا أربعة: آبلة البصرة، وغوطة دمشق، وصفد سمرقند، وشعب بوان».
ذكر الخواجا إبراهيم، صاحب المدرسة الأشعرية، أن عجائب الدنيا أربعة كما ذكرنا، وأحسنها غوطة دمشق، وأحسن الغوطة الصالحية، وأحسن الصالحية الجسر الأبيض.
أبهر:
ثلاثة مواضع، الأول: مدينة بأرض الجبال كثيرة المياه والأشجار، بناها سابور ذو الأكتاف. تنسب إليها سكينة الأبهرية، رحمة الله عليها.
والثاني: جبل بالحجاز.
والثالث: بليدة من نواحي أصفهان.
أبيورد:
مدينة بخراسان بقرب سرخس، بناها باوردين، ينسب إليها أبو علي الفضيل بن عياض، رحمه الله.
إربل:
موضعان، الأول: مدينة مشهورة بقرب الموصل، لها قلعة حصينة، لم يظفر بها أحد، بها مسجد الكف، فيه حجر عليه أثر كف إنسان، وللناس فيه أقاويل كثيرة.
والثاني: اسم لمدينة صيدا بساحل بحر الشام.(2/298)
أردبيل:
مدينة بآذربيجان، حصينة طيبة الهواء والتربة، عذبة الماء لطيفة الهواء، بناها أردبيل بن ليطي بن بافث بن نوح، عليه السلام، وسميت باسمه، وقيل بناها فيروز الملك.
ومن عجائبها ما ذكره أبو حامد الأندلسي، قال: «رأيت خارج المدينة في ميدانها حجرا كبيرا أكبر من ماية رطل، إذا احتاج أهل المدينة إلى المطر، حملوا ذلك الحجر على العجلة، ونقلوه إلى داخل المدينة، فينزل المطر ما دام الحجر فيها، فإذا أخرج منها سكن المطر».
والفار بها كثير جدا بخلاف سائر البلاد، وللسنانير بها رغبة تامة، ولها سوق تباع فيها، ينادون عليها: سنورة صيادة مؤدبة، لا هرّابة ولا سراقة!. ولها تجار ودلالون، وأهل أردبيل مشهورون بالأكل.
أرمينية:
أربعة مواضع، الأول: بلدة حصينة بآذربيجان، كثيرة الثمرات واسعة الخيرات، وبقربها بحيرة، وهي كريهة الرائحة.
من عجائبها ما ذكره / صاحب «الغرائب» أن في تلك البحيرة سمكة يتخذ من دهنها شمعة وتشعل في طرف سفينة فارغة، فتمشي على وجه الماء، فإن السمك تأتي لنور ذلك الشمع، وترمي نفسها في السفينة حتى تمتلىء السفينة من السمك.
والثاني: تفليس.
والثالث: مدينة نقجوان.
والرابع: مدينة خرت برت وما يليها.
إسفرايين:
بلدة بأرض خراسان مشهورة، أهلها أهل الخير والصلاح.
أصفهان:
مدينة عظيمة من أعلام المدن ومشاهيرها، يقال إنها من بناء الاسكندر وهي مدينة ترابها كحل، وحشيشها زعفران وسم (1) ذبابها عسل. وهي
__________
(1) كذا في (ب) وفي (ج): «وونيم».(2/299)
موصوفة بصحة الهواء وعذوبة الماء وصحة الأبدان، وحسن صور أهلها، وحذقهم في العلوم والصناعات أجل من أن يوصف، وهم معروفون بالبخل.
حكي أن رجلا تصدق برغيف على ضرير بأصفهان، فقال الضرير: «أحسن الله غربتك!». فقال له الرجل: «كيف عرفت غربتي؟». قال: «لأني منذ ثلاثين سنة في هذ البلدة ما أعطاني أحد رغيفا صحيحا إلا أنت!».
أيرج (1):
موضعان، الأول: مدينة بين أصفهان وخوزستان كثيرة الزلازل، بها معادن كثيرة، ينسب إليها جماعة منهم أبو محمد يحيى بن أحمد بن حسن بن فورك الأيرجي (2).
والثاني: قرية من قرى سمرقند، ينسب إليها أبو الحسين محمد بن حسن الأيرجي (3).
أران:
ثلاثة مواضع، الأول: ناحية بين آذربيجان وأرمينية، بها مدن كثيرة وقرى وقصبات بقرب شروان.
والثاني: قلعة من نواحي قزوين.
والثالث: اسم لحران المدينة المشهورة.
أفلوغونيا:
مدينة كبيرة من نواحي أرمينية أهلها نصارى، من خواصها إسراع الحرام إلى أهلها، ولهم رهابين يلعبون بعقولهم. حكي أن فيهم من إذا تزوج ببكر، يريد أن يكون الرهبان يقترعها، لتكون مباركة على زوجها ببركة الرهبان.
آمد:
مدينة حصينة مبنية بالحجارة، ونهر دجلة محيط بها من جوانبها إلا من جهة واحدة، وفي وسطها عيون وآبار، وهي كثيرة الأشجار والبساتين والثمار والزروع.
__________
(1) كذا في (ب): «أيرج» وفي (ج): «أيدج»، وهناك من يعتبرها «أبرج».
راجع: لسترنج: 318، حاشية رقم 8.
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الأيذجي».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «الأيذجي».(2/300)
ومن عجائبها أن بأرض آمد جبلا في بعض شعابه صدع فيه سيف من أدخل يده في ذلك الصدع، وقبض على ذلك السيف اضطرب السيف في يده، وارتعد هو وإن كان من أشد الناس. وذكر أن هذا السيف يجذب الحديد أكثر من المغناطيس.
أورم:
أربعة مواضع كلها ببلاد حلب، الأول: بلدة من ضواحي حلب كأنها كانت في القديم معبدا يرى فيها بالليل نور ضوء ساطع، / فإذا جاءوها لم يروا شيئا.
والثاني: أورم الكبرى.
والثالث: أورم الصغرى.
والرابع: أورم البرامكة.
أرزنجان:
بلدة من بلاد أرمينية، طيبة كثيرة الخيرات، وأهلها مسلمون ونصارى، بها جبل فيه غار ينزل الماء من سقفه، ويصير ذلك الماء حجرا صلدا.
أرمية:
بلدة كبيرة من بلاد آذربيجان، كثيرة الغلات وافرة الخيرات، بقربها بحيرة أرمية، وأنها كريهة الرائحة، لا نبات عليها ولا سمك فيها.
أرزن:
ثلاثة مواضع، الأول: مدينة مشهورة من مدن أرمينية تعرف بأرزن الروم قديمة البناء، بها عين يفور الماء منها فورانا شديدا يسمع صوته من بعيد، فإذا دنا الحيوان منها يموت في الحال، وحولها من الحيوانات الموتى ما شاء الله، وقد وكلوا بها من يمنع الغريب من الدنو منها.
والثاني: بلدة بقرب خلاط من أرمينية أيضا.
والثالث: اسم غيضة بقرب شيراز، من أرض فارس.
الأنبار:
ثلاثة مواضع، الأول: مدينة على شاطىء الفرات، أقام بها السفاح أول خليفة من بني العباس حتى مات، وهي مدينة قديمة أول بلاد العراق.
والثاني: قرية من قرى بلخ ينسب إليها أبو الحسن علي بن محمد الأنباري.(2/301)
والثالث: سكة الأنبار بأعلى مر، وينسب إليها أبو بكر محمد بن الحسين بن عبدويه الأنباري.
أهواز:
ناحية بين البصرة وفارس، ويقال لها خوزستان، وهي شديدة الحر وكثيرة الهوام الطيارة والحشرات القتّالة، لا ينقطع حماها ولا وباؤها، وأهلها في عذاب أليم.
أفسوس:
مدينة مشهورة بأرض الروم، بنيت في سنة ثمان وعشرين من ملك داود، عليه السلام.
وهي مدينة دقيانوس الجبار الذي هرب منه أصحاب الكهف. وبين الكهف والمدينة مقدار فرسخين، وهو غار في جبل ينجلوس، واسم الكهف جيرم، وكانوا ستة أنفار من أشراف الروم، وكانوا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله تعالى.
فلما أراد دقيانوس أن يردّهم إلى عبادة الأصنام، هربوا منه ليلا فمروا براع معه كلب، فتبعهم الراعي على دينهم، فصاروا سبعة أنفار فطردوا الكلب مرارا فعاد، وقال لهم الكلب: «لم تطردونني، لا تخشوا منه؟ أنا أحب أحباء الله تعالى، فناموا حتى أحرسكم!».
فخرجوا من البلد إلى كهف قريب من المدينة، فكانوا يعبدون الله تعالى هناك، فشاع خبرهم، وعلم الملك مكانهم، فلما عرفوا ذلك تضرعوا وابتهلوا إلى الله، فتوفى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقََاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} (1)، لأنهم كانوا مفتحين الأعين، يتنفسون ولا يتكلمون.
قال ابن / عباس: كانوا يقلبون في السنة مرة واحدة، من جنب إلى جنب، لئلا تأكل الأرض لحومهم، وكان يوم عاشوراء يوم تقلّبهم، فأمر الملك أن يسد
__________
(1) سورة الكهف الآية 18.(2/302)
عليهم باب الكهف. قال: دعوهم يموتون جوعا وعطشا ويكن كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، فعمى الله عليهم آثارهم، وكهفهم بعد سدهم.
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (1)، لبثوا ثلاثماية سنة شمسية، والله تعالى ذكر ثلاثماية قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل ماية سنة ثلاث سنين، فيكون ثلاثماية وتسع سنين. فلذلك قال الله تعالى: {وَازْدَادُوا تِسْعاً}
هـ البغوي، في تفسيره، فألقى الله تعالى يقين رجل من أهل ذلك البلد بهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف، فيبني فيه حظيرة لغنمه، ففتح باب الكهف، وأذن الله للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف، فجلسوا فرحين مستبشرين مسفرة وجوههم، فسلم بعضهم على بعض، كأنما استيقظوا من ساعتهم. فأرسلوا أحدهم وهو يمليخا ليشتري لهم طعاما، فأخذ ورقا من نفقتهم التي كانت معهم من ضرب دقيانوس، فكانت كخفاف الربع. فلما دخل المدينة، رأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، وسمع ناسا يحلفون باسم عيسى بن مريم، فتعجّب من ذلك وتحير، فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم فقال: «بعني بهذا الورق طعاما!». فأخذها الرجل ونظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها، ثم أراها لرجل منهم آخر من أصحابه، (2) ثم جعلوا يتطارحونها بينهم، ويتعجبون منها، ويقولون: «إن هذا أصاب كنزا!». فاجتمع عليه أهل المدينة فحملوه إلى ملكهم، وهو يظن أنه دقيانوس، فامتلأ قلبه رعبا. فلما مثل بين يدي الملك وأخبره بخبره، سأله عن قصتهم، فانطلق الملك ومعه أهل المدينة (3)، لينظروا إليهم. ولما رأى الفتية أن يمليخا احتبس عنهم بطعامهم وأبطأ عليهم، ظنوا أنه قد أخذ.
__________
(1) سورة الكهف الآية 25.
(2) «من أصحابه»: ساقطة من (ج).
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «فانطلق أهل المدينة».(2/303)
فبينما هم كذلك، إذ سمعوا الأصوات وجلبة (1) الخيل مصعدة نحوهم، / فقاموا إلى الصلاة، وسلم بعضهم على بعض، إذ دخل عليهم يمليخا وهو يبكي. فلما رأوه بكوا معه، وسألوه عن شأنه فأخبرهم، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما، فدخل عليهم الملك ومعه أهل المدينة. فلما رأوه فرحوا به، وخروا سجدا على وجوههم، ودعوا للملك، ورجعوا إلى مضاجعهم، فناموا وتوفّى الله أنفسهم (2)، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم من رقدتهم.
الكلبي: «لأن أعينهم كانت مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم، وهم نيام، ولكثرة شعورهم، وطول أظفارهم» (3). وأمر الملك، فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه، وجعل لهم في كل سنة عيدا وأمر أن يؤتى إليه، وأسماؤهم: مكسلمينا، يمليخا، موطونس، بيونس، كنشيطونس، دوانونس، سارينونس، وكلبهم قطير. وفي كتابة أسمائهم منافع نظمها بعضهم، فقال:
لك الأمن من حرق وغرق وقبضة ... ونجح وحفظ المال منه يرام
ودفع صداع أو كلال لسائر ... ومن فرّ ينجو والصّبي ينام
منافع أهل الكهف نفع مجرب ... رواه إمام بعده وأمام
آذنة:
ثلاثة مواضع، الأول: مدينة مشهورة على حافة نهر سيحان، وكانت قديما بيد الأرمن بناها الرشيد حين غزاها، وبنى الجسر على نهر سيحان، وقيل أحدثها صالح بن علي عم الخليفة المنصور سنة احدى وخمسين وماية، وهي مدينة حسنة رخية إسلامية، بها بساتين حمض وغيره، وهي الآن بيد أولاد رمضان من قبل بني عثمان.
__________
(1) كذا في (ج) وفي (ب): «وجلجلة».
(2) كذا في (ج) وفي (ب): «نفوسهم».
(3) الكلام المنسوب للكلبي ساقط من (ب) و (ج).(2/304)
والثاني: في شرقي توز، من طريق مكة جبل يقال له آذنه.
والثالث: قرية بحوّراه وقف الخليل، عليه السلام.
آياس:
مدينة على ساحل بحر الشام، ولها ميناء حسنة، وبين آياس وبغراص مرحلتان، وأهلها نصارى.
أنطاكية:
مدينة عظيمة موصوفة بالنزاهة، بنتها أنطاكية بنت الروم بن عيص، ولها سور عظيم قد أحاط بسهلها وجبلها. وبها ثلاثماية وستون برجا وكل برج ثلاث طبقات، كانت مشحونات بالحرس، ويطوف على سورها أربعة آلاف حارس في كل / ليلة من عند صاحب القسطنطينية، ويستبدل غيرهم في السنة الثانية. وتسميها الروم مدينة الله تعظيما لها، ومدينة الملك وأم المدن، لأنها عندهم أول مدينة ظهر فيها دين النصرانية. وكانت إحدى كراسي الروم، وهي كرسي بطرس، وهو شمعون الصفا. وفيها مسجد حبيب النجار، وقبره يزار ويتبرك به.
أرمناز (1):
بلدة من نواحي حلب ذات سوق، وبها عيون حسنة، وهي نزهة جدا، وأهلها ينسبون إلى البخل.
أنطرطوس:
قلعة حمص، وبها مصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وهي من أصح بلدان الشام هواء، وأهلها في خصب وأرغد عيش. وفي نسائها جمال فايق. يقال: إنها مطلسمة لا تدخلها حية ولا عقرب، ومتى وصلت إلى باب المدينة هلكت، ويحمل من ترابها إلى سائر البلاد، فيوضع على لسعة العقرب فتبرأ لوقتها بإذن الله.
أركلي:
مدينة بالروم ذات مياه جارية وبساتين كثيرة، وكلها وقف على الفقراء المجاورين بمكة والمدينة.
آقسراي:
مدينة كبيرة ببلاد الروم ذات أشجار وفواكه كثيرة، وبها قلعة في وسط
__________
(1) في الأصل و (ب): «أريحا» والتصحيح من (ج) بعد مراجعة ياقوت 1: 158.(2/305)
المدينة، وتحمل فواكها إلى مدينة قونية على العجلة، وبينها وبين قونية ثلاث مراحل. فتحها السلطان السعيد إيلدرم بايزيد في [سنة 795] (1).
أماسية:
مدينة كبيرة بسور وقلعة شاهقة عاصية، وهي خرشنة المشهورة، لها بساتين ونهر كبير ونواعير تسقى بها، وهي من مدن الحكماء.
أنقرة:
موضعان، الأول: مدينة مشهورة بالروم يقال لها أنكورية، غزاها الرشيد وفتحها، وهي مدينة على تلّ عال وليس بها بساتين ولا ماء جار، وهي بين الجبال، وشرب أهلها من آبار، وهي محل نسج الصوف، ومنها يحمل إلى البلدان.
والثاني: موضع بنواحي الجيزة.
آيدين:
ناحية متسعة ببلاد الروم ذات مياه وبلدان وقرى، بها تين عجيب يجلب منه إلى الآفاق.
إسكي شهر:
بليدة في الروم بقربها عين حارة، مبني عليها قبة يدخلها الناس، وهي من عجائب الدنيا، وعندها سوق وخان للمسافرين، يسكنه أهلها بالنهار، وينتقلون بالليل إلى البلد المذكورة.
آقشهر:
مدينة بالروم، وهي من أنزه المدن ذات أشجار مثمرة وأنهار طيبة ينسب إليها ناصر الدين خواجه المشهور بحجه (2)، له قبر هناك يزار ويتبرك به.
إيلغين (3):
بليدة بقرب آقشهر بمرحلة ذات خيرات كثيرة، وبها تكية وخان / عظيم للمسافرين وجامع، بناها الوزير لالا مصطفى باشا.
أزنيق:
مدينة قديمة رومية، بينها وبين قسطنطينية أربع مراحل، ولها بحيرة كبيرة.
وفي هذه المدينة يعمل القاشاني الذي لا نظير له، يجلب لسائر البلدان.
فتحها السلطان أورخان في سنة احدى وثلاثين وسبعماية. وكانت من معظم
__________
(1) بياض في الأصل و (ب) وما بين الحاصرتين من (ج).
(2) كذا وفي (ب) و (ج): «بحجى».
(3) كذا في (ب) وفي (ج): «إيلغون».(2/306)
مداين الكفار ومجمع عظمايمهم، فغنم المسلمون منها غنيمة [عظيمة] (1)، لم يعهد بمثلها.
أدرنة:
مدينة عظيمة بينها وبين قسطنطينية ثماني مراحل، وهي ذات أسوار وبها قلعة حصينة. وهي من أعظم المدن، تجري من تحتها الأنهار الثلاثة: تونجه وأرطه ومريج، وهي من الإقليم الخامس، وهي ذات أشجار وخيرات كثيرة، وبها دار الملك كان يشتي بها السلاطين العثمانية. فتحها الملك المجاهد مرادخان بن أورخان الغازي في سنة احدى وستين وسبعماية، وبنى بها جامعا ومدرسة وتكية يطبخ بها الطعام للفقراء الغرباء وجعلها دار السلطنة.
أزنكميد:
مدينة على ساحل البحر بينها وبين قسطنطينية أربع مراحل، فتحها الملك المجاهد أورخان ابن السلطان عثمان، تغمده الله بالرحمة والرضوان.
آق حصار:
بلدة بولاية روم إيلي، فتحها الملك الغازي عثمان بن أرطغرل.
اسكوب:
مدينة كبيرة وراء القسطنطينية، ذات أنهار وأشجار وخيرات، فتحها الملك السعيد إيلدرم بايزيد في سنة احدى وتسعين وسبعماية، وهي من أجلّ البلاد الإسلامية.
أوستوني بلغراد:
مدينة وراء القسطنطينية، كانت معتقد الروم بحيث لا يصح عندهم لبس التاج إلا في المدينة المذكورة، لأنها مدفن سلاطينهم ومعتقد أساطينهم، محتاط بها سور عظيم من جانبيه ماء راكد.
الأنكلس:
مدينة حصينة بأقصى بلاد الإسلام، بينها وبين قسطنطينية خمسون مرحلة، وتسمى بيج، وهي الآن دار ملك كبير (2) النصارى قرال.
أولده:
مدينة بأرض الفرنج عظيمة مبنية بالحجارة لا يسكنها إلا الرهبان، ولا تدخلها امرأة لأنه أوصى بذلك بانيها، واسمه باج آلب. وبها كنيسة معتبرة
__________
(1) ما بين الحاصرتين من (ج).
(2) لفظة «كبير»: ساقطة من (ب) و (ج).(2/307)
عند النصارى، وبها صلبان الذهب والفضة والمجامر والكؤوس والأباريق والأواني من الذهب والفضة المكلّلة بالياقوت والزمرد.
است:
مدينة بأرض الفرنج، وبهذه المدينة عادة عجيبة، وهي أن أهلها إذا اشتروا متاعا كتبوا ثمنه عليه (1)، وتركوه في دكانهم، فمن وافقه بذلك الثمن أخذه وترك ثمنه مكانه. ولحوانيتهم حرّاس، فمن ضاع منه شيء غرموا الحارس قيمته. /
أنطرخت:
مدينة بأرض الفرنج عظيمة واسعة الرقعة، أرضها سبخة لا يصلح فيها شيء من الزرع والغراس، وليس ببلادهم حطب يوقدونه، وإنما عندهم طين يابس يقوم مقام الحطب.
إفرنجة:
أرض واسعة بها نحو ماية وخمسين مدينة، وأهلها إفرنج، أرضها ردية لا تصلح للزرع معدومة الشجر، ولهم صبر وشدة في الحرب يرون القتل عندهم أسهل من الفرار.
أفش:
مدينة في بلاد الفرنج مبنية بالصخور المهندمة، في طرف نهر يسمى بهراس. بها جمة غزيرة المياه جدا عليها بيت واسع الفضاء يستحم فيه أهله على بعد من الجمة خوفا من شدة سخونة الماء الذي يفور من الجمة.
أفريحة:
بلدة عظيمة ومملكة عريضة في بلاد النصارى، بردها شديد جدا وهواها غليظ لفرط البرد. وأنها كثيرة الخيرات، ذات أثمار وزروع ومواش وضروع، بها معادن الفضة وتضرب بها سيوف قطاعة جدا، ولهم ملك ذو بأس شديد وعدد كثير، وهم يحلقون لحاهم. سئل واحد منهم عن حلق اللحى، فقال:
«الشعر فضلة، أنتم تزيلونها عن سوءاتكم، فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟».
إفريقية:
مدينة كبيرة بالمغرب كثيرة الخيرات عظيمة البركة، بها معادن الفضة والذهب والحديد والنحاس والرصاص، وفيها عين تسمى عين الأوقات، كما
__________
(1) لفظة «عليه»: ساقطة من (ج).(2/308)
مر. وأيضا فيها عين تنبع بالمداد، فيكتب بها أهل تلك الناحية كلها.
ألشن:
مدينة بالأندلس، من خواصها أن النخل (1) لا ينتج إلا بها، وبها صناع البسط الفاخرة.
الأندلس:
جزيرة كبيرة بالمغرب فيها بلاد عامرة وغامرة، طولها شهر ودورها أكثر من ثلاثة أشهر، ليس فيها ما يتصل بالبر إلا مسيرة يومين، والحاجز بين بلاد افرنجة وبينها جبل واحد. وبها البحر الأسود الزفتي الذي يقال له بحر الظلمات، محيط بغربي الأندلس وشماليه. وفي آخر الأندلس مجمع البحرين الذي ذكره الله في القرآن.
البيرة:
موضعان، الأول: مدينة بالأندلس بقرب قرطبة (2)، من أحسن المدن وأطيبها، شديدة الشبه بغوطة دمشق في غزارة الأنهار وكثرة الثمار، وبها معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص / والصفر ومعدن التوتيا ومقطع الرخام.
والثاني: مدينة بقرب الرها.
أشبونة:
مدينة حسنة طيبة الهواء، بها أنواع الثمار، تضرب أمواج البحر حائط سورها. وبقرب هذه المدينة غار عظيم تدخل أمواج البحر فيه، وعلى فم هذا الغار جبل عال، فإذا ترادفت أمواج البحر في الغار ترى الجبل يتحرك بتحرك الموج، فمن نظر إليه رآه مرة يرتفع ومرة ينخفض، وفيه حجر يضيء بالليل كالمصباح.
إشبيلية:
مدينة عامرة بالأندلس، وهي طيبة الهواء بها من كل الثمرات، وبها زيتون أخضر يبقى مدة لم يتغير به حال ولا يعرفون له اختلالا، وبها عسل كثير جدا.
__________
(1) كذا وفي (ج): «البغل»، وهو خطأ
(2) كذا في (ب) وفي (ج): «الأول بالأندلس مدينة بقرب قرطبة».(2/309)
أيلة:
موضعان، الأول: مدينة على ساحل بحر القلزم، كانت مدينة جليلة في زمن داود، عليه السلام، والآن يجتمع بها حجيج الشام ومصر من جاء من البحر، وهي القرية التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وهي مدينة اليهود الذين اعتدوا في السبت، فجعل منهم القردة والخنازير. وهي على ساحل بحر القلزم، وكان بها أبراج فخربت.
والثاني: اسم جبل بين مكة والمدينة، ينبع منه ماء، وهو عين المدينة.
أنصنا:
مدينة قديمة على شرقي النيل بأرض مصر، قال ابن الفقيه: أهل هذه المدينة مسخوا حجرا. فيها رجال ونساء مسخوا أحجارا على صفة أعمالهم، فالرجل قائم مع زوجته والقصاب يقطع اللحم، والمرأة تخمر عجينها والصبي في المهد، والرغفان في التنور، كلها انقلبت حجرا صلدا.
الاسكندريّة:
ستة عشر موضعا، وجميعها منسوبة إلى الاسكندر، ثم أتت عليها الأيام فأحدثت لها أسماء مجددة لأمر وقع فمنها المدينة المشهورة بمصر على ساحل البحر، اختلف الناس في بانيها، والأصح أن بانيها الاسكندر بن فيلقوس اليوناني بناها في ثلاثماية سنة (1)، وكانت قديما مدينة من بناء شداد بن عاد، كان بها آثار العمارة، وفيها المنارة المشهورة. فتحها عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأرسل يخبر أمير المؤمنين: «إني فتحت مدينة لا أقدر أن أصفها، غير أني أصبت فيها ألف حمام وأربعين ألف يهودي يؤدون الجزية وأربعماية ملهى للملوك، واثني عشر ألف إنسان يبيعون البقل الأخضر».
ومنها الاسكندرية التي في باور نقوس.
ومنها الاسكندرية المدعوة بالمحصنة.
ومنها الاسكندرية التي في بلاد الهند.
__________
(1) «بناها في ثلثماية سنة»: ساقطة من (ب) و (ج).(2/310)