فهرس مجمل
الموضوع الصفحة
مقدمة بقلم الأستاذ الكبير على النجدى ناصف أستاذ اللغة العربية بكلية دار العلوم 1
تقديم الرسالة
الموضوع أهدافه منهج البحث فيه مصادره 5
مدخل البحث
1 - نشأة القراءات وتطورها وأثرها فى البحث النحوى 10
ب الفقه وعلم الكلام وأثر كل فى القراءات والنحو 19
الباب الأول: عصر أبى على وحياته وآثاره الفصل الأول الحال السياسية والعقلية والاقتصادية والخلقية فى عصر أبى على 28
الفصل الثانى أبو على فى عيشه ونفسه 44
الفصل الثالث إحصاء آثاره 147
الباب الثانى: أبو على والاحتجاج للقراءات الفصل الأول الاحتجاج للقراءات وتطوره حتى عصر أبى على الفارسى 153
اسيبويه إمام النحاة والاحتجاج للقراءات 161
ب الطبرى إمام المفسرين والاحتجاج للقراءات 166
ح ابن مجاهد إمام القراء والاحتجاج للقراءات 171
الفصل الثانى الحجة لأبى على الفارسى: عرض وتحليل 172
الباب الثالث: دراسات مقارنة 257
الفصل الأول بين الفراء والفارسى فى الاحتجاج 257
الفصل الثانى بين الزجاج وأبى على فى الاحتجاج 270
الفصل الثالث بين أبى بكر بن السراج وأبى على فى الاحتجاج 295
الفصل الرابع بين الفارسى وابن خالويه فى الاحتجاج 310
الباب الرابع: أثر أبى على فى الاحتجاج للقراءات 327
الفصل الأول تأثر ابن جنى فى المحتسب بأبى على 327
الفصل الثانى تأثر مكى بن أبى طالب حموش القيسى بأبى على 385
الفصل الثالث تأثر أبى عمرو الدانى بأبى على 392(1/2)
تعقيب: بتقسيم المحتجين للقراءات إلى مدرسة الأثر ومدرسة القياس 427
الباب الخامس: أبو على والنحو الفصل الأول انشأة البحث النحوى وتطوره 431
ب معالم النشاط النحوى منذ عهد أبى الأسود إلى أبى على 447
الفصل الثانى عرض كتب أبى على فى النحو 466
أولا: المسائل المشكلة والبغداديات 467
ثانيا: الاغفال 476
ثالثا: العسكريات 488
رابعا: البصريات 494
خامسا: الحلبيات 499
سادسا: الإيضاح والتكملة 514
سابعا: الشيرازيات 547
ثامنا: من كتاب الشعر 558
تاسعا: أقسام الأخبار 562
عاشرا: المسائل المنثورة 570
أبو على والتصريف 573
الباب السادس: دراسات مقارنة بين أبى على والأعلام النحاة من معاصريه 576
الفصل الأول أبو على والسيرافى 579
الفصل الثانى أبى على والرمانى 588
الفصل الثالث أبو على والزجاجى 613
الباب السابع: مدى تأثر الخالفين بنحو أبى على 637
الفصل الأول أثر أبى على فى أصول النحو (فى خصائص ابن جنى) 637
الفصل الثانى أثر أبى على فى الفروع (فى أمالى ابن الشجرى) 649
الفصل الثالث أبو أبى على فى الاحتجاج لمسائل الخلاف (فى الانصاف لأبى البركات الأنبارى) 659
الفصل الرابع أثر أبى على فى الإعراب (فى إعراب القرآن لأبى البقاء العكبرى) 668
الخاتمة: تلخيص البحث الجديد فيه مقترحات 675
مصادر الرسالة ومراجعها 693
فهرس الأعلام 720(1/3)
مقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم بقلم الأستاذ الكبير على النجدى ناصف أستاذ اللغة العربية بكلية دار العلوم هذا أبو على الفارسى كما وجده الصديق الكريم الدكتور عبد الفتاح شلبى بعد رحلة طويلة مضنية فى بطون الأسفار المطبوع والخطوط، وهذه آثاره فى القراءات والنحو كما تمثلت له، بعد ما أحصاها عدا، والتمسها فى مظانها بحثا، ثم عكف عليها فأشبعها دراسة ونقدا.
وإن بحثا موضوعه أبو على الفارسى وآثاره فى القراءات والنحو، وواضعه باحث جامعى أيّد، أوتى مثل ما أوتى الدكتور شلبى من كفاية ومواهب لحقيق أن يكون بحثا قيما جليلا له بين أنداده من البحوث منزلة كالتى كانت للشيخ أبى على بين أنداده من العلماء.
لقد كان الفارسى فى المائة الرابعة وبين علمائها كما كان سيبويه فى المائة الثانية وبين علمائها، مثلا عاليا للأستاذية العاملة المنتجة، والغزارة العلمية الدافقة، والقدرة الذهنية الفائقة على التبويب والتصنيف، وكان كلاهما كذلك حلقة وضاءة باهرة، فى سلسلة الثقافة العربية الخالدة، وصلت الخلف بالسلف، وحملت علم الأولين إلى الآخرين.
ظهر أبو على وقد ازدهرت النهضة، وآتت أكلها يانعا جنيا، وظهر سيبويه وما تزال النهضة نامية مطردة، تشتد فى طلب الغاية من النضج والاكتمال، فأقبل كلاهما على الأئمة من المعاصرين وغير المعاصرين، يأخذ منهم، ويستوعب كل ما عندهم
حتى إذا تضلع منه ريا وأدرك أربا، انصرف إليه يمحصه، ويقلب النظر فيه، وإنه خلال هذا وذاك ليضيف إليه ويستخلص منه ما شاء الله أن يضيف ويستخلص، ولما أن رضى عنه واطمأن إليه، خرج به على الناس علما منظما، وعملا مقدما، وأثرا جديدا أو أشبه بالجديد من كل مقتبس أو منقول. وقد أعجب الناس بحجة الفارسى وبراعته فى التأليف، كما أعجبوا من قبل بكتاب سيبويه وبراعته كذلك فى التأليف إذ رأوا الحجة فى بابها كالكتاب فى بابه: فالحجة تدعم القراءات وتحتج لها، وتنفى الشّبه عنها بما فيها من النصوص الشاهدة، والبحوث البارعة، والأدلة الناصعة. والكتاب يكفل للناس عصمة الألسنة أن تجرى بلحن أو تحريف فى تلاوة كلام الله بما يرفع للنحو من قواعد، ويؤصل من أصول ويفرع من فروع، ويقرر من مسائل.(1/4)
ظهر أبو على وقد ازدهرت النهضة، وآتت أكلها يانعا جنيا، وظهر سيبويه وما تزال النهضة نامية مطردة، تشتد فى طلب الغاية من النضج والاكتمال، فأقبل كلاهما على الأئمة من المعاصرين وغير المعاصرين، يأخذ منهم، ويستوعب كل ما عندهم
حتى إذا تضلع منه ريا وأدرك أربا، انصرف إليه يمحصه، ويقلب النظر فيه، وإنه خلال هذا وذاك ليضيف إليه ويستخلص منه ما شاء الله أن يضيف ويستخلص، ولما أن رضى عنه واطمأن إليه، خرج به على الناس علما منظما، وعملا مقدما، وأثرا جديدا أو أشبه بالجديد من كل مقتبس أو منقول. وقد أعجب الناس بحجة الفارسى وبراعته فى التأليف، كما أعجبوا من قبل بكتاب سيبويه وبراعته كذلك فى التأليف إذ رأوا الحجة فى بابها كالكتاب فى بابه: فالحجة تدعم القراءات وتحتج لها، وتنفى الشّبه عنها بما فيها من النصوص الشاهدة، والبحوث البارعة، والأدلة الناصعة. والكتاب يكفل للناس عصمة الألسنة أن تجرى بلحن أو تحريف فى تلاوة كلام الله بما يرفع للنحو من قواعد، ويؤصل من أصول ويفرع من فروع، ويقرر من مسائل.
وإذا لقد بذل كلاهما للدين من نفسه، وخدمه جاهدا بعلمه، وأدرك من دنياه الغاية التى كان يجمع عليها سلف هذه الأمة الكريمة فى علم ما يعلمون: أن يجعلوه قربى إلى الله، ووسيلة يخدمون بها دينه الحنيف فى ناحية من نواحيه.
ولم يكن الفارسى قبل اليوم معروفا على مقدار ما تستوجبه مكانته العالية وآثاره الباقية، وما يقتضيه البر به والإنصاف له وحسن الاعتراف بفضله، فما كان الرجل فيما أعلم إلا أشتاتا من الآراء المرددة، والأنباء المرسلة، والترجمات المقتضبة، وما كانت كتبه كذلك إلا مجرد أسماء نقرؤها فى كتب التراجم والفهارس، ثم لا نكاد نعرف منها أو نعرف عنها إلا اليسير.
وما كان منتظرا فى عهد الركود والجمود أن يكون حظ الفارسى خيرا من هذا الحظ، ولا أن يكون نصيبه من الدرس والبحث غير هذا النصيب من الإغفال والإهمال، فقد كان الرجل فى جلالة بحوثه، وعمق فلسفته أبعد منالا، وأعسر متناولا من أن يستشرفه أو يتطاول إليه باحث أو ناشر إلا فى عهد توثب ونهوض.
فلهذا نرى الدكتور عبد الفتاح شلبى دون غيره يختص به، وينبعث فى طلبه، وفى هذا العصر على التعيين، ولا أرى أن هذا وذاك لمجرد المصادفة والاتفاق، ولكنه فى الواقع للمناسبة المواتية بين الفارسى وصاحبه، ثم بين الفارسى والوقت الذى قدر له أن يبعث فيه: فالدكتور عبد الفتاح شلبى باحث جلد، متمكن فى دراسته جم النشاط، وافر الإخلاص. والعهد عهد القومية العربية فى تجمعها ونهوضها
واتجاهها إلى الغاية المشتركة فى الهدف البعيد، فمن دلائل التوفيق لها، وهى تجمع الكلمة، وتأخذ الأهبة أن تذكر أمسها فى يومها، وتأخذ من ماضيها لحاضرها، وأن تمضى فى هذه السبيل قدما إن شاء الله.(1/5)
فلهذا نرى الدكتور عبد الفتاح شلبى دون غيره يختص به، وينبعث فى طلبه، وفى هذا العصر على التعيين، ولا أرى أن هذا وذاك لمجرد المصادفة والاتفاق، ولكنه فى الواقع للمناسبة المواتية بين الفارسى وصاحبه، ثم بين الفارسى والوقت الذى قدر له أن يبعث فيه: فالدكتور عبد الفتاح شلبى باحث جلد، متمكن فى دراسته جم النشاط، وافر الإخلاص. والعهد عهد القومية العربية فى تجمعها ونهوضها
واتجاهها إلى الغاية المشتركة فى الهدف البعيد، فمن دلائل التوفيق لها، وهى تجمع الكلمة، وتأخذ الأهبة أن تذكر أمسها فى يومها، وتأخذ من ماضيها لحاضرها، وأن تمضى فى هذه السبيل قدما إن شاء الله.
لقد بعث الله الشيخ الفارسى فى هذا البحث العتيد، ورده علينا بعد ألف عام خلقا سويا، نراه فى شخصه ونفسه، وفى عواطفه وحسه، وفى هواه ورشده، وفى آرائه وعقيدته، وفى تفكيره وفلسفته، وفى بيئته وعصره، وفى الينابيع التى استقى منها، والإضافات التى أضافها، وفى مدى ما انتفع المخالفون به، وأفادوا منه.
وهذه آثاره فى القراءات والنحو قد أحصيت، وحقق عددها، وعينت أماكن وجودها، وأوتى كل منها حقه من الغرض، والدرس، والتحليل، والنقد فى أناة وحكمة وإنصاف.
وعجيب حقا أن يكون ذلك كله على رأس الألف الثانية لوفاته (رحمة الله عليه)، فهل ترى الأقدار كما قال الدكتور عبد الفتاح شلبى فى تلخيص الرسالة، قد تولت عنا تكريمه، فحددت لنا موعده، وندبت منا له، على نحو ما يفعل الناس فى إحياء ذكرى العظماء الخالدين؟
وظاهرة أخرى قد تكون من ظواهر تكريم الأقدار للفارسى، وتهيئة الأسباب المواتية لجعل بعثه كاملا: أنها جعلت ثقافته متصلة متشابكة، لا تخرج عن حيّز اللغة والنحو، ولا تبعد منهما شيئا ليدرسه الباحث جملة واحدة، وعلى منهج واحد، فيفيد من جانب لجانب، ويأخذ من هذا لذاك. فما أظن أن باحثا صبورا مقتدرا يتصدى لدراسة الفارسى فيأخذ أثره فى النحو أو القراءات، ويدع الآخر لباحث غيره لأنه فى أحد الأثرين لا بد ملم بالأثر الآخر وقائل فيه، وإلا كان درسه مشطورا أو مبتورا لأن الفارسى (رحمه الله) لم يعمل للقراءات من ناحية الرواية والسند، ولكن من ناحية الاستدلال والاحتجاج، وكان معوّله طبعا فى هذا وذاك على النحو وبحوثه، واللغة ونصوصها.
وبعد، فإن لى فى هذا المقام أمنيتين: عامة، وخاصة، فأما العامة: فأن تتوالى أمثال هذه البحوث القيمة، نحيى بها مجد سلفنا العظيم، ففي ذلك مدد متصل النهضة، وإضافة ثمينة إلى الثقافة، وفخر صادق لنا واعتزاز. ولا بأس أن تدور كلها أو معظمها أول الأمر على أعلام الدولة فى البلاد الشرقية، ثم تدور بعد ذلك
على الأعلام فى سائر الأقطار، ولا سيما مصر، فلا شرق بين العرب اليوم ولا غرب ولكنهم أمة واحدة فى أقطار متعددة. رفعت من بينها الحواجز، وزالت الحدود.(1/6)
وبعد، فإن لى فى هذا المقام أمنيتين: عامة، وخاصة، فأما العامة: فأن تتوالى أمثال هذه البحوث القيمة، نحيى بها مجد سلفنا العظيم، ففي ذلك مدد متصل النهضة، وإضافة ثمينة إلى الثقافة، وفخر صادق لنا واعتزاز. ولا بأس أن تدور كلها أو معظمها أول الأمر على أعلام الدولة فى البلاد الشرقية، ثم تدور بعد ذلك
على الأعلام فى سائر الأقطار، ولا سيما مصر، فلا شرق بين العرب اليوم ولا غرب ولكنهم أمة واحدة فى أقطار متعددة. رفعت من بينها الحواجز، وزالت الحدود.
ثم إن النهضة إنما نشأت وازدهرت فى الشرق حيث حاضرة الخلافة ومستقر السلطان. فنحن إذ نبدأ بدراسة أعلام الشرق ونثنى بدراسة الأقطار الأخرى إنما نبدأ الدرس من أوله، ونتناوله من أصله، ثم نجرى فى تتبعه على سنن من المنطق واطّراد النهج.
وأما الخاصة فإلى السيد الدكتور عبد الفتاح أن يعكف على آثار الفارسى، فيعيد قراءتها، ويحقق نصوصها، ثم يخرجها للناس إخراجا عصريا ليفيد منها علماء اليوم والغد كما أفاد منها علماء الأمس. وبذلك يكون قد أوفى كل حق الفارسى عليه.
والرغبة إلى الله تعالى أن يوفقه فى الإخراج كما وفقه فى التأليف، وأن يمده دائما بعون منه وتأييد.؟
على النجدى ناصف
يوم الجمعة 13من شعبان سنة 1376
15 - من مارس سنة 1957(1/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الموضوع أهدافه منهج البحث فيه مصادره أحمدك اللهم على توفيقك حمد الشاكرين، وأصلى وأسلم على خاتم رسلك وصحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فموضوع هذا البحث «أبو على الفارس وأثره فى القراءات والنحو» وأول صلتى بأبى على كانت فى هذه الآراء التى يذكرها له النحاة فى مختلف المسائل النحوية مبثوثة فى كتبهم هنا وهناك، ولم تكن هذه الآراء حين ذاك تثير منى الاهتمام وإن كانت تومئ إلى تفرد أبى على بالرأى فى هذه المسائل فى كثرة ظاهرة.
ثم كان إعدادى لبحث الماجستير، فتوثقت الصلة بينى وبين الرجل إذ كنت مستعينا بكتابه الحجة على تحقيق الموضوع الذى أكتب فيه، وسارت الأيام خفافا أو ثقالا وشخصية الرجل ماثلة أمام ناظرى وفى خاطرى، والزمن يزيدها عندى إجلالا وتوقيرا وقدرا، وأحسست أن دينا فى عنقى يزداد ثقله كلما تأكدت الصلة بينى وبين أبى على، ولم يكن لهذا الدين من وفاء إلا أن أجعل الشيخ موضع الدرس فى هذه المرحلة من مراحل دراستى العالية.
ودفعنى إلى ذلك أيضا أنى رأيت جمهرة الباحثين من حولى يترجمون للشعراء والأدباء، ويؤلفون الكتب فى الأعلام من رجال التاريخ، ويقدمون الرسائل العلمية فى هؤلاء وهؤلاء، وقد صرفوا جهودهم إليهم مشكورين على كل حال غير محتفلين بأمثال أبى على من العلماء الذين كان لهم فى الثقافة الإسلامية والدراسات العربية أثر مذكور، وفضل غير منكور.
ثم رأيت أن المكتبة العربية لم تحظ عن أبى على وترجمته وآثاره بشيء ذى خطر
ففي عظم هذه الآثار المطبوعة تراجم قصيرة مأخوذ بعضها من بعض، يعتمد فيها المؤلفون اللاحقون على ما قال السابقون. بل إنك لتجد أمرا عجبا: دائرة المعارف الإسلامية تغفل ترجمة الرجل، وكل من وجدى والبستانى يذكر ترجمة قصيرة لا تنفع غلة، ولا تشير إلى الفراهة العقلية لأبى على، وجورجى زيدان يشير إليه عابرا فيجعله من مشهورى النحاة الذين لم تصله من مؤلفاتهم ما يستحق الذكر!! (1)
على حين يعطى تلميذه ابن جنى فضل اهتمام وصدارة وتنويه.(1/8)
ثم رأيت أن المكتبة العربية لم تحظ عن أبى على وترجمته وآثاره بشيء ذى خطر
ففي عظم هذه الآثار المطبوعة تراجم قصيرة مأخوذ بعضها من بعض، يعتمد فيها المؤلفون اللاحقون على ما قال السابقون. بل إنك لتجد أمرا عجبا: دائرة المعارف الإسلامية تغفل ترجمة الرجل، وكل من وجدى والبستانى يذكر ترجمة قصيرة لا تنفع غلة، ولا تشير إلى الفراهة العقلية لأبى على، وجورجى زيدان يشير إليه عابرا فيجعله من مشهورى النحاة الذين لم تصله من مؤلفاتهم ما يستحق الذكر!! (1)
على حين يعطى تلميذه ابن جنى فضل اهتمام وصدارة وتنويه.
وتحتفل مجلة «المقتطف» فتوسع صدرها لصاحبى فيترجم له أحد كتابها (2)
ترجمة تدل على معرفة لقدره، وإن كانت تأخذ الطابع العام للتراجم التقليدية التى جرى عليها الأقدمون فيما يكتبون.
وتحقق كتب ابن جنى تلميذ أبى على، ولا تتوجه الجهود إلى الشيخ مع أنه هو الذى صنع تلميذه على عينه. وسقاه من فيضه، ونشأه واصطفاه.
ويبرز أبو على فى الدراسات الحديثة فينوه به فى الكتب المحدثة، والمجلات الأدبية، ومجمع اللغة العربية، فلا يخلو ذلك التنويه من قصور فى فهم آراء الشيخ مبعثه أن أحدا من هؤلاء المحدثين لم ينقطع له، ولم يتخصص فى دراسته.
ثم كانت التفاتة مباركة من صفوة علمائنا ومن طلاب الدراسات العالية إلى تراثنا النحوى القديم والذين صنعوه، فترجم أستاذنا لسيبويه، وقدمت رسائل فى الخليل والفراء والزمخشرى وغيرهم من النحاة وعلى الرغم من هذه الجهود فالميدان لا يزال فسيحا للجهاد والصيال.
* * * ورأيت فى موضوعى اتصالا بالدراسات القرآنية، وهى أنفع للناس، وأخلد على الزمن، وأحق ما تبذل فيه الجهود، وأكرم ما يتوفر عليه الباحثون.
* * * وأمر آخر توفى أبو على سنة 377هـ، وإذن فنحن الآن على أبواب الذكرى الألفية لذلك الرجل، فهل أنصفته الأقدار بأن جعلته موضوع دراسة جامعية عالية
__________
(1) انظر تاريخ آداب اللغة العربية الجزء الثاني: / 303و 304.
(2) هو الأستاذ عبد الله أمين أحد نظار المعلمين السابقين. والترجمة فى عدد مايو 1951.(1/9)
توضع موضع البحث والمناقشة على ملأ من الناس، وبذلك يكرم الرجل أجل التكريم فى ذكراه كفاء ما قدم من آثار ولقاء ما مت به إلى كتاب الله من صلة أى صلة؟
* * * من أجل ذلكم، ومن أجل التمرس الخالص بالبحث العلمى، وهو فى ذاته هدف كريم أحببت أن ألقى بدلوى فى الدلاء، وأن أؤدى بعض الحق نحو رجل من رجالات العلم، فأجلى شخصيته، وأ تعرف مكانته بين السالفين والخالفين والعلماء من طبقته المعاصرين فى القراءات والنحو جميعا. ولم يكن من الميسور لو قصرت.
الموضوع على جانب واحد أن أستقل ببحثه دون التعرض إلى الجانب الآخر بالدرس فالفنان يلتقيان عند أبى على متلازمين كالخدنين، وعلى أية حال لم تتأثر كيفية البحث بتعدد جوانب الموضوع
* * * وقد انتهجت المنهج التاريخى فى هذا البحث. جمعت المصادر المتصلة به، ثم نظرتها وحققت الآراء الواردة فيها، والظواهر الخاصة بأبى على منها، ومدى تأثره بالسابقين ومكانته بين المعاصرين، وأثره فى الخالفين، وانتهى ذلك كله بالبحث إلى أن يصير فى سبعة أبواب يسبقها تمهيد، وتتلوها خاتمة.
ففي التمهيد تحدثت عن نشأة القراءات وتطورها والفقه وعلم الكلام وصلة ذلك كله بالبحث النحوى.
وفى الباب الأول تحدثت فى فصول ثلاثة عن عصر أبى على، وحياته، وأحصيت آثاره.
وفى الباب الثانى تحدثت عن الاحتجاج للقراءات وتطوره حتى عصر أبى على، ومنحت فضل اهتمام للاحتجاج عند إمام النحاة سيبويه، وإمام المفسرين. الطبرى وإمام القراء. ابن مجاهد ثم تناولت كتاب الحجة وعرفت به.
وعقدت فى الباب الثالث دراسات مقارنة بين أبى على والمحتجين للقراءات:
الفراء، والزجاج، وابن السراج، وابن خالويه.
ثم بينت فى الباب الرابع أثر أبى على فى الاحتجاج للقراءات ضاربا المثل بابن جنى فى المحتسب، ومكى بن أبى طالب فى الكشف، والدانى فى الموضح.(1/10)
وقسمت المحتجين للقراءات إلى مدرستين: إحداها تمثل الأثر، والأخرى تمثل القياس.
* * * وفى الباب الخامس تحدثت عن أبى على النحوى، فألممت إلمامة يقتضيها المقام بنشأة النحو، وتطوره، ونشاط النحويين منذ أبى الأسود حتى عصر أبى على، ثم تناولت ما عثرت عليه من كتب أبى على النحوية، وبينت خصائصها كما تمثلت لى كتابا كتابا.
ثم عقدت فى الباب السادس دراسات مقارنة بين أبى على والنحاة من طبقته:
السيرافى، والرمانى، والزجاجى.
وبينت فى الباب السابع مدى تأثر الخالفين بنحو أبى على فى الأصول، والفروع، ومسائل الخلاف، والإعراب، ممثلا على الترتيب بابن جنى فى خصائصه، وابن الشجرى فى أماليه، وابن الانبارى فى مسائل الخلاف، والعكبرى أبى البقاء فى إعراب القرآن.
وفى الخاتمة لخصت النتائج الكبرى التى وصلت إليها، وما حققت من مسائل فى غضون الأبواب المختلفة للبحث، وذكرت ما بدا لى من مقترحات.
* * * أما مصادر البحث فقد كانت عزيزة نادرة، والصفة الغالبة عليها أنها مخطوطة ومنثورة فى مكتبات العالم، فسعيت إليها فى دور الكتب المختلفة، وفى معهد إحياء المخطوطات بالأمانة العامة للجامعة العربية، وأعاننى قوم من المشرفين على هذه الدور، لهم عند الله الجزاء الموفور، يسروا ما قدروا، وأعلنوا وما ستروا، ومكنوا كراما غير باخلين (1)، فاستطعت الحصول على ما يلزم البحث من مخطوطات لآثار أبى على، والزجاج، والزجاجى، والرمانى، وابن جنى، والربعى، والدانى، وابن خالويه
وملكت نسخا مصورة من الحجة، والمسائل المختلفة لأبى على، فاتصلت اتصالا
__________
(1) أخص بالشكر الأستاذ محمد رشاد عبد المطلب بمعهد إحياء المخطوطات بالأمانة العامة للجامعة العربية والأستاذ فؤاد سيد أمين المخطوطات بدار الكتب المصرية.(1/11)
مباشرا بعقلية الرجل، وصحبته ليالى وأياما طوالا سبرت فيها غوره، وجليت قدره وتعرفت أثره، واستعذبت فى سبيل ذلك العناء، وما أنفقت من وقت ومال إذ كنت طالب حقيقة، ومنقبا عن مجهول، وكاشفا عن غامض، وراجيا أن أضيف إلى العلم، شاكرا لله أن تهيأ لى من وسائل البحث ما لم يتهيأ للسابقين من الأولين:
فهذا ابن غليون يكتب الحجة كلها على ضخامتها بخطه، ويعكف أحمد بن تميم اللبلى وغيره على كتابة مسائل أبى على المختلفة، فلاقوا فى ذلك من العناء دونه ما كنت ألقاه، وكان ذلك باعثا لى على أن أمضى فى الطريق قادرا نعمة الله.
وبجانب هذه المصادر مراجع عامة متصلة بالموضوع من قريب أو بعيد من كتب القراءات والنحو أصوله وفروعه، وكتب التاريخ، والتراجم، والبحوث الحديثة، وما ألف المستشرقون.
* * * وبعد: فمن الشكر الواجب أن أسجل اعترافى بالجهد الصادق المخلص الكريم الذى بذله أستاذى المفضال على النجدى ناصف أستاذ اللغة العربية بكلية دار العلوم فى الإشراف على هذه الرسالة، والتوجيه الدقيق المفيد فى فصولها، وما عدل من ميلها، حتى استوت على سوقها، ولن أستطيع بكلمات أن أقدر تفضله الذى أجزل، وأداءه الذى وفى، فأبتهل إلى الله مخلصا أن يجزيه أكرم الجزاء.
وشكرى العام لكل من شجع أو أعان.
والله المسئول أن يكتب لى النجح بقدر ما بذلت من سعى، وما أخلصت من نية.
وحرر بحدائق القبة شعبان 1373
إبريل 1956
عبد الفتاح شلبى(1/12)
مدخل البحث
«وفيه ألم إلمامة يقتضيها المقام بنشأة القراءات وتطورها والفقه وعلم الكلام وأثر ذلك كله فى القراءات والبحث النحوى، وبذلك تتم حلقات السلسلة منذ أن نشأت هذه العلوم إلى عصر أبى على الفارسى».
أولا نشأة القراءات وتطورها وأثرها فى البحث النحوى:
عنى المسلمون عناية منقطعة النظير بكتاب الله الكريم، فتركزت دراساتهم فيه، أو دارت حوله، وعكفوا عليه مفسرين، وتفهموا أحكامه متفقهين، وتلوه حق تلاوته متعبدين، تحقيقا لمضمون قوله تعالى وهو أصدق القائلين: {«إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (1)»
دعا الرسول (صلوات الله عليه وسلامه) إلى تعلمه وتعليمه، وقراءته وإقرائه وجعل قراءته أفضل العبادة، وارتفع بمكان أهله فجعلهم أهل الله وخاصته (2)، ووجه أنظارهم إلى مكانته وهدايته قبيل أن تحين منيته: إذ يقول: «إنى تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتى (3)»
وكانت المحاولة الأولى لتوثيق نصه فى أمر الرسول أصحابه ألا يكتبوا شيئا عنه سوى القرآن: حدث الحافظ أبو بكر عبد الله بن أبى داود السجستانى بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «لا تكتبوا عنى شيئا سوى القرآن، فمن كتب عنى شيئا سوى القرآن فليمحه (4). وقد استأذن أبو سعيد الخدرى النبى (صلى الله عليه وسلم) فى كتب الحديث فأبى أن يأذن له (5). وهذا عمر يترك كتب السنن لئلا يترك كتاب الله ويلبس بشيء (6). ولهذا رويت الأحاديث بالمعنى ولم تنقل كما سمعت من النبى، ومن هنا منع الاستشهاد بها على اللغة والنحو، من منع من أمثال ابن الضائع، وأبى حيان (7).
__________
(1) سورة الحجر آية 8.
(2) النشر لابن الجزرى 1/ 3.
(3) خطبته (صلى الله عليه وسلم) فى حجة الوداع.
(4) المصاحف للسجستاني ص 4.
(5) تقييد العلم للخطيب البغدادى، 32تحقيق يوسف العش طبعة دمشق 1949.
(6) انظر القسم الثاني الفصل الأول من المصدر السابق 5849.
(7) خزانة الأدب للبغدادى 1/ 5مطبعة دار العصور.(1/13)
وكان عرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما نزل من كتاب الله على جبريل مرة فى كل سنة، وعرضه عليه مرتين (1) سنة وفاته المحاولة التالية لتحديد نص القرآن الكريم (2)، وترتيبه فى سوره وآياته (3)، وتلقاه الصحابة (رضوان الله عليهم) من النبى (صلوات الله عليه وسلامه) حرفا حرفا، لم يهملوا منه حركة ولا سكونا ولا إثباتا ولا حذفا (4)، واستمع الرسول (عليه الصلاة والسلام) إليهم وهم يقرءون، ذكر الحافظ الذهبى فى تذكرة الحفاظ: روى خارجة بن زيد عن أبيه قال: «أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) المدينة، وقد قرأت سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأعجبه ذلك، وعن ابن مسعود قال: قال لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم): اقرأ علىّ: ففتحت سورة النساء، فلما بلغت: {«فَكَيْفَ إِذََا جِئْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنََا بِكَ عَلى ََ هََؤُلََاءِ شَهِيداً»} (5)» رأيت عينيه تذرفان من الدمع، فقال: «حسبك الآن»!
وكان من الصحابة من حفظ القرآن كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم حفظ بعضه كل ذلك فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم (6))
وقد نقل السيوطى فى الإتقان عن ابن حجر أن أبا بكر كان يحفظ القرآن (7)، وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام (223) هـ فى كتاب القراءات القراء من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) مهاجرين وأنصارا (8).
وهكذا انتقل الرسول (عليه الصلاة والسلام) إلى الرفيق الأعلى، والقرآن فى صدور الرجال، وفى الصحف والعسب واللخاف (9) والأكتاف والأقتاب (10)
والرقاع (11).
ثم يجيء عهد الخليفة الأول أبى بكر الصديق (رضى الله عنه)، ويحارب المرتدة وعلى رأسهم «مسيلمة الكذاب» وأصحابه.
ويصدق القراء من كبار الصحابة الحملة تحت إمرة قائدهم خالد بن الوليد،
__________
(1) ابراز المعاني لأبي شامه ص 4.
(2) انظر فضائل القرآن لابن كثير ص 91.
(3) المصاحف للسجستاني / 5 (المقدمة).
(4) النشر لابن الجزرى 1/ 6.
(5) سورة النساء آية 41وتاريخ القرآن للزنجاني / 17.
(6) ينظر النشر لابن الجزرى 1/ 6.
(7) الاتقان 1/ 90، 72.
(8) المرجع السابق.
(9) المصاحف للسجستاني / 7، فضائل القرآن / 22 واللخاف: حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة بوزن صفحة.
(10) المرجع السابق / 9.
(11) الاتقان فى علوم القرآن 1/ 72وما بعدها.(1/14)
وجعلوا يتنادون بشعارهم الحبيب إلى قلوبهم: «يأهل سورة البقرة!» ولم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله عليهم، وقتل الله مسيلمة، وأتبعت أقفية أصحابه بالسيوف المسلمة (1).
وتنجلى المعركة عن قتل سبعين من القراء فيما ينقله السيوطى عن القرطبى (2).
ونحو خمسمائة فيما يقول ابن كثير (3)، وفيما ينقله ابن الجزرى (4)، وكان قد قتل منهم على عهد الرسول فى غزوة بئر معونة سبعون (5)، ويتنبه المسلمون إلى تراثهم الأمجد، ويخشون أن يذهب القرآن بذهاب القراء، ويشرح الله صدر أبى بكر الصديق (رضوان الله عليه) بعد أن يتردد (6)، فيرى رأى الصحابة فى جمع القرآن، ويمضى زيد بن ثابت يتتبع القرآن بنسخه من الصحف، والعسب، واللخاف، وصدور الرجال، وبذلك تتم مرحلة أخرى من مراحل حفظ الكتاب الكريم فيجمع بين لوحين، وحفظ عند أبى بكر حتى توفى، ثم عند عمر حتى توفى، ثم كان عند حفصة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم (7)).
ويشتهر بإقراء القرآن من الصحابة سبعة: عثمان، وعلى، وأبى بن كعب، وزيد ابن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعرى (8)، ويتفرق الصحابة فى الأمصار فاتحين، ويقرءون الناس بقراءاتهم، فكان أهل الشام يقرءون بقراءة أبى بن كعب (9)، وأهل البصرة فيما نقله أبو داود السجستانى (10) يقرءون بقراءة عبدان بن قيس (11)، وأهل الكوفة يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود (12)، وكانوا يقولون قراءة عبد الله، وأهل البصرة يقولون قراءة أبى موسى (13)، وكل قراءة متصلة السند بالرسول على ما بينها وبين الأخرى من تخالف (14). ولم يكن المسلمون فى أول عهدهم ينكرون هذه الفروق بين القراءات بعد ما سمعوا تيسير الرسول
__________
(1) فضائل القرآن / 25.
(2) الاتقان 1/ 89.
(3) فضائل القرآن / 25.
(4) النشر 1/ 7.
(5) الاتقان 1/ 88.
(6) المصاحف / 7.
(7) المصاحف / 9.
(8) الفهرست لابن النديم / 40.
(9) الاتقان / 91.
(10) المصاحف / 14.
(11) هو أبو موسى الأشعرى انظر 1/ 442طبقات القراء.
(12) المصاحف / 14.
(13) انظر / 13من المصدر السابق.
(14) أورد أبو داود السجستاني أمثلة لهذا التخالف انظر مثلا / 54وما بعدها.(1/15)
عليهم بقوله (عليه الصلاة والسلام) «أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه (1)».
حتى إذا كانت خلافة عثمان (رضى الله عنه) اشتد الخلاف بين الناس حتى اقتتل الغلمان والمعلمون جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، وحتى كفر بعضهم بقراءة بعض (2)، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال: أنتم عندى تختلفون فتلحنون، فمن نأى عنى من الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إماما. وهكذا تمت خطوة خطيرة فى الحفاظ على كتاب الله بتوحيد نصه فى مختلف أمصار العالم الإسلامى.
ويقال ان الذى دعا عثمان إلى اتخاذ هذه الخطوة أن حذيفة بن اليمان قدم عليه وكان يغازى أهل الشام فى ثغر أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق. فرأى حذيفة اختلافهم الشاميين والعراقيين فى القرآن حتى كادت تكون بينهم فتنة، فركب حذيفة إلى عثمان، فقال يا أمير المؤمنين: «أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى القرآن اختلاف اليهود والنصارى، ففزع لذلك عثمان، وأرسل إلى حفصة بنت عمر أن أرسلى إلىّ بالصحف التى جمع فيها القرآن، فأرسلت بها إليه حفصة (3)، وكتبت المصاحف باتفاق من الصحابة (رضى الله عنهم)، بالمدينة، ونفذت إلى الأمصار البصرة، والكوفة، والشام، ومكة، واليمن، وأمسك عثمان لنفسه مصحفا وهو الذى يقال له الإمام (4)، وأمر باتباعها وترك ما عداها، فأخذ الناس بها، وتركوا من تلك القراءات كل ما خالفها، وبقوا ما يوافقها (5)، وجردت هذه المصاحف جميعها من النقط والشكل، فاحتملت ما صح نقله، وثبتت تلاوته عن النبى (صلى الله عليه وسلم (6)).
ثم تجرد قوم للقراءة، واشتدت بها عنايتهم، وكثر لها طلبهم، حتى صاروا بذلك أئمة تشد الرحال إليهم، ويأخذها الناس عنهم، واشتهر من الصحابة عثمان، وعلى، وأبى، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعرى (7)، واشتغل الناس بالإقراء فى مختلف الأمصار فكان:
__________
(1) فضائل القرآن وابراز المعاني / 4.
(2) المصاحف / 21.
(3) المصاحف للسجستاني من ص 2218بروايات مختلفة.
(4) النشر 1/ 7.
(5) إبراز المعانى / 4.
(6) النشر لابن الجزرى 1/ 8.
(7) إبراز المعاني لأبي شامة / 4.(1/16)
(بالمدينة) ابن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان، وعطاء ابنا يسار، ومعاذ بن الحرث الذى يعرف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وابن شهاب، ومسلم بن جندب، وزيد بن أسلم.
و (بمكة) عبيد بن عميرة، وعطاء بن أبى رباح، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة و (بالكوفة) علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، وعمرو بن شرحبيل، والحرث بن قيس، والربيع بن خيثم، وعمرو بن ميمون، وأبو عبد الرحمن السلمى، وزر بن حبيش، وعبيد بن نضله، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير، وسعيد بن جبير والنخعى، والشعبى.
و (بالبصرة) عامر بن عبد القيس، وأبو العالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر، وجابر بن زيد، والحسن، وابن سيرين، وقتادة.
و (بالشام) المغيرة بن أبى شهاب المخزومى صاحب عثمان بن عفان (رضى الله عنه) فى القراءة (1) وزاد السيوطى نقلا عن الذهبى خليفة بن سعد صاحب أبى الدرداء (2).
ثم تلت هؤلاء طبقة أخرى، فاشتهر من هذه الأمصار الخمسة خمسة عشر رجلا فى كل مصر ثلاثة:
افكان بالمدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع بن أبى نعيم وإليه صارت قراءة أهل المدينة
ب وكان بمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن محيصن وأقدمهم ابن كثير، وإليه صارت قراءة أهل مكة.
ح وكان بالكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصم بن بهدلة، وسليمان الأعمش، ثم تلاهم حمزة رابعا، ثم الكسائى.
ء وكان بالبصرة: عبد الله بن أبى إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبو عمرو ابن العلاء وإليه صارت قراءة أهل البصرة، واتخذوه إماما، وكان لهم رابع هو عاصم الجحدرى.
هـ وكان بالشام: عبد الله بن عامر، ويحيى بن الحارث الذمارى، وثالث هو خليد بن سعد أو عطية بن قيس الكلابى، أو اسماعيل بن عبد الله بن أبى المهاجر على خلاف فى ذلك
__________
(1) المرجع السابق ص 4.
(2) الاتقان 1/ 91.(1/17)
واشتهر بالآفاق (1) الأئمة السبعة (2) الذين صارت إليهم القراءة فى هذه الأمصار نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائى. وهؤلاء هم القراء السبعة الذين اختار قراءتهم ابن مجاهد (324هـ) (3) آخر من انتهت إليه الرئاسة بمدينة السلام (4)، وتولى شرح كتاب ابن مجاهد فى السبعة أبو على الفارسى (377هـ) فى كتاب الحجة، وكان قد شرع فيه قبله شيخه أبو بكر بن السراج (316هـ) (5) على ما سأتناوله بالتفصيل إن شاء الله.
كانت جهود المسلمين فى سبيل الحفاظ على القرآن الكريم منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى عهد عثمان بن عفان (رضى الله عنه) تشمل المراحل الآتية:
أولا مرحلة (توثيق النص القرآنى) وهذه ذات مظهرين:
االمظهر الأول يتجلى فى أمر الرسول بكتابة القرآن دون سواه.
ب المظهر الآخر يتجلى فى عرض الرسول القرآن الكريم على جبريل.
ثانيا ثم كانت مرحلة (جمع النص القرآنى) بين لوحين فى عهد أبى بكر
ثالثا ثم تلتها مرحلة (توحيد النص القرآنى) فى عهد عثمان، وكانت هذه المراحل كافية فى صون الكتاب عن التحريف أو التبديل والتصحيف لو أن العرب لم يتفش اللحن ألسنتهم باختلاطهم بغيرهم من الأمم الأعجمية الأخرى، ولكن الأمر قدر على غير ذلك، فقد كثرت هذه الحمراء، وأفسدت من ألسن العرب كما قال زياد ابن أبيه لأبى الأسود الدؤلى (6)، ويرغب أبو الأسود، أو يرغب زياد إليه أن يضع لهم شيئا يقيمون كلامهم به، وينشط أبو الأسود إلى هذا العمل بعد أن يسمع رجلا يقرأ قوله تعالى: {«أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»} يقرؤها بجر اللام ويرى أن يبدأ بإعراب القرآن (7).
ويذكر أبو حيان فى البصائر والذخائر أن على بن أبى طالب هو الذى أمر
__________
(1) الاتقان 1/ 92.
(2) انظر ترجمة هؤلاء الأئمة السبعة فى كتاب غاية النهاية لابن الجزرى على الترتيب.
(3) إبراز المعانى لأبى شامة / 5.
(4) الفهرست لابن النديم / 47.
(5) الحجة لأبي على الفارسى / 1.
(6) نزهة الألباء ط جمعية إحياء مآثر علماء العرب ص 6.
(7) المصدر السابق.(1/18)
أبا الأسود (1)، ويذكر القرطبى فى تفسيره (2) والزمخشرى فى كشافه (3) وأبو حيان فى بحره (4) أن عمر بن الخطاب هو الآمر، ولا يحدد أبو عمرو الدانى فى كتابه: النقط أيهما الآمر، حيث يقول: روينا أن المبتدئ بذلك كان أبا الأسود الدؤلى (5).
وهكذا تتظاهر الروايات على أن التكليف كان لذلك الرجل، وأيا ما كان الأمر فإن هذه الروايات لها دلالتها على أن المسلمين هبوا يريدون أن يقوموا بعمل لصيانة كتاب الله فكانت المرحلة الرابعة. وهى مرحلة إعراب النص القرآنى كما جاء فى كلام أبى الأسود الدؤلى من قبل.
وفى هذه المرحلة وضع بصبغ يخالف لون المداد. نقطة فوق الحرف للفتحة، وجانبه للضمة، وأسفله للكسرة، وللغنة نقطتان (6) ثم كانت الخطوة الأخيرة وهى إعجام النص القرآنى، لتمييز الحروف المتشابهة بعضها من بعض، وكان ذلك فى عهد الحجاج بن يوسف الثقفى، واستعان على ذلك برجلين هما: نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر على قول (7)، أو الحسن البصرى، ويحيى بن يعمر على قول آخر (8).
ثم استبدل بالنقط فى عمل أبى الأسود حروف اللين. ألف صغيرة علامة للفتحة والواو للضمة، والياء للكسرة، وكان ذلك عمل الخليل بن أحمد (170هـ)، لأنه كان يرى «أن الفتحة من الألف والكسرة من الياء والضمة من الواو (9)» والخليل هو الذى جعل فيما يقول الدانى الهمزة والتشديد والروم والاشمام (10).
وهنا تكون المرحلة الخامسة التى سلكها المسلمون رعاية للنص القرآنى، تلك اعجامه.
والذى يهم الباحث متصلا بموضوع هذا البحث. المرحلة الرابعة من المراحل السابقة إذ هى تتصل اتصالا وثيقا بالحديث عن نشأة النحو والإعراب. ثم هى
__________
(1) 1/ 183.
(2) 1/ 24وانظر كتابه التذكار / 99.
(3) 2/ 139.
(4) 5/ 6.
(5) كتاب النقط ص 132وما بعدها.
(6) انظر نزهة الألباء 6/ وانظر فضائل القرآن لابن كثير ص 89.
(7) كتاب التصحيف والتحريف لأبي أحمد الحسن العسكرى ص 10، ووفيات الأعيان 1/ 344.
(8) فضائل القرآن لابن كثير ص 89.
(9) الكتاب لسيبويه 2/ 315.
(10) المقنع لأبي عمرو الداني 125.(1/19)
ذات دلالة أخرى إذ تشير إلى قيام مدرسة بجانب مدرسة القراءات هى مدرسة النحو والنحاة، وقد عملت هاتان الطائفتان جنبا إلى جنب، بل كان رجال هذه منذ النشأة الأولى وفيما يشتهرون به هم رجال تلك، ولأن مرحلة التخصص العلمى لم تكن بعد، فسعت هذه إلى أداء القرآن، وتجويد متنه، وأدائه، وإقرائه، وضبط تلقيه، وتلقينه، وترتيله ترتيلا، وسعت الأخرى إلى إعرابه، وضبطه، وتفسير معجمه مستعينة بحفظ اللغة والرواية عن الإعراب، وكلتا الطائفتين تجتمع على الخير من خدمة كتاب الله وفقهه تقربا إليه وزلفى ومن هنا كان اللحن بشعا، وأشد ما يستبشع فى كتاب الله. يروى أن الحجاج بن يوسف قال ليحيى بن يعمر: أتجدنى ألحن؟ فقال:
الأمير أفصح من ذلك، فقال: عزمت عليك. أتجدنى ألحن؟ فقال يحيى: نعم! فقال له: فى أى شىء؟ فقال: «فى كتاب الله تعالى». فقال: ذلك أشنع ففي أى شىء من كتاب الله تعالى؟ قال: قرأت {«قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا وَتِجََارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسََادَهََا وَمَسََاكِنُ تَرْضَوْنَهََا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ،} فرفعت أحب وهو منصوب، فقال الحجاج «لا تساكنى ببلد أنا فيه ونفاه إلى خراسان (1)
وحسبك أن تعلم فى الصلة بين النحاة والقراء أن عليا أستاذ أبى الأسود فى القراءات والنحو (2) وكان عبد الرحمن بن هرمز أحد القراء (3)، ويحيى بن يعمر كذلك (4)، وأن أبا عمرو وعبد الله بن أبى إسحاق الحضرمى رويا القراءة عن نصر ابن عاصم (5)، وأن يونس بن حبيب يروى القراءة عرضا عن أبى عمرو بن العلاء ويأخذ العربية عنه (6)، وكذلك كان سيبويه (7)، وسيبويه قارئ يتعرض للقراءات (8)
وكان ابن كثير المكى (120هـ) (9) أحد القراء السبعة المشهورين يقرأ عليه عيسى ابن عمر (149هـ) (10) والخليل بن أحمد (170هـ) (11)، وكل واحد من هذين إمام راسخ وحجة ثبت فى اللغة والنحو، وأبو جعفر الرواسى (12)، وعلى بن حمزة الكسائى (13) (189هـ) كل له قدم راسخة فى العربية والقراءات، وكان الكسائى
__________
(1) نزهة الألباء / 10.
(2) المصدر السابق / 9.
(3) الفهرست 59.
(4) طبقات الزبيدى / 23.
(5) طبقات القراء 2/ 336ونزهة الألباء / 103.
(6) طبقات القراء 2/ 406.
(7) طبقات القراء 1/ 289.
(8) الحجة نسخة البلدية 1/ 44.
(9) طبقات القراء 1/ 443.
(10) نزهة الألباء / 13.
(11) المصدر السابق / 29.
(12) بغية الوعاة / 33.
(13) طبقات القراء 1/ 535.(1/20)
كما يقول ابن الأنبارى أعظم الناس بالنحو وأوحدهم فى الغريب، وكان أوحد الناس فى القرآن، كذلك كان يحيى بن زياد الفراء (207هـ) (1) وثعلب (291هـ) (2) والأخفش الكبير (292هـ) (3) الذى كان شيخ الإقراء بدمشق ضابطا ثقة نحويا مقرئا. قال أبو على الأصفهانى عنه: «صنف كتبا كثيرة فى القراءات والعربية. حتى عد ابن الجزرى (883هـ) فيما يلزم المقرئ، «أن يحصل جانبا من النحو والصرف بحيث أنه يوجه ما يقع له من القراءات، وهذا من أهم ما يحتاج إليه (4)»
والنحاة عند القراء أكثر ضبطا للقراءة، وأصح نقلا من اللغويين قال أبو بكر ابن السراج بعد أن أورد رواية الأصمعى عن أبى عمرو وقراءته الصراط بالزاى «وأما الزاى فأحسب الأصمعى لم يضبط عن أبى عمرو لأن الأصمعى كان غير نحوى، ولست أحب أن تحمل القراءة على هذه اللغة، وأحسب أنه سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة للزأى فتوهمها زاء (5).
وهذا السيوطى (911هـ) يذكر فى مقدمة كتابه «بغية الوعاة فى طبقات اللغويين والنحاة» أنه اعتمد على طبقات القراء لأبى عمرو الدانى (444هـ)، وطبقات القراء للحافظ أبى عبد الله الذهبى (748هـ)، وذيل طبقات القراء للعفيف المطرى، فجمع كل ما تضمنته هذه الكتب من ترجمته نحوى (6).
والمطلع على تآليف القراء أو النحاة يجد مظاهر الثقافة القرآنية والنحوية عند هؤلاء وهؤلاء: فيونس بن حبيب (182هـ) يؤلف معانى القرآن (7)، وقطرب (206هـ) يؤلف فى الرد على الملحدين فى متشابه القرآن (8)، وأبو حاتم السجستانى يؤلف فى اختلاف المصاحف (9) والسجستانى يقرأ كتاب سيبويه على الأخفش مرتين، وابن درستويه النحوى يؤلف المعانى فى القراءات، والرد على ابن مقسم فى اختياره (10).
__________
(1) نزهة الألباء / 66.
(2) المصدر السابق 157.
(3) طبقات القراء 2/ 347.
(4) منجد المقرئين / 4.
(5) الحجة لأبي على الفارسى 1/ 139نسخه بلدية الإسكندرية.
(6) بغية الوعاة / 3.
(7) الفهرست / 63.
(8) المصدر السابق / 79، 57.
(9) الفهرست / 87.
(10) الفهرست / 94وذكر الاسم خطأ: أبي مقسم.(1/21)
والنفاد من القراء يؤلف أصول النحو (1)، وأبو محمد اليزيدى كان مؤلف النقط والشكل والمصادر فى القرآن، كما يؤلف فى المقصور والممدود، وعبد الله ابن أبى محمد اليزيدى يؤلف فى غريب القرآن كما يؤلف مختصر نحو (2).
والأخفش المجاشعى يؤلف الأوسط فى النحو والمقاييس، كما يؤلف فى معانى القرآن (3). وأبو زيد الأنصارى (سعيد بن أوس) يؤلف فى قراءة أبى عمرو، والمبرد يؤلف احتجاج القراءة ومعانى القرآن كما يؤلف المقتضب والمدخل فى النحو (4) حتى إذا ما انتهينا إلى أبى على الفارسى وجدناه يشير إلى الصلة بين النحاة والقراء فى قوله: وسألت بعض من ينظر فى العربية من القراء عن معيشة ووزنه وجمعه (5). ثم يؤلف الحجة فى التعليل لقراءات الأئمة السبعة، والإغفال فيما أغفله الزجاج من معانى القرآن (6)، والتتبع لأبى على الجبائى فى التفسير، كما يؤلف فى النحو: الإيضاح والتكملة (7)
وقد نشأت هاتان المدرستان متصلتين كما بينت ثم أخذتا فى الانفصال متميزتين حتى أورد السيوطى: «لم يكن ثابت بن حيان (ت. «608هـ» من الأئمة النحويين، وإنما كان من الأئمة المقرئين (8)،. وحتى بلغ من انفراج الشقة بينهما أن عرض النحاة المتأخرون بمشايخ القراء وضعفهم فى العربية (9).
وأبين بعد ذلك:
* * *ثانيا الفقه وعلم الكلام وأثر كل فى القراءات والنحو:
ومما يتصل بموضوع هذا البحث الحديث عن الفقه وتطوره، والفقهاء ومذاهبهم والمتكلمين وطرقهم فى تناول الدراسات المتصلة بالعقائد، وأثر ذلك كله فى القراءات ومباحثها، والنحو ومسائله، حتى نتعرف على الصورة التى انتهى إليها البحث القرآنى والنحوى، وكيف وصلت إلى أبى على الفارسى.
__________
(1) الفهرست / 49.
(2) الفهرست / 75.
(3) الفهرست / 78.
(4) الفهرست / 88.
(5) المسائل المشكلة لوحه 19.
(6) الفهرست / 95.
(7) معجم الأدباء 7/ 241.
(8) بغية الوعاة / 55، 210.
(9) انظر المغنى لابن هشام 2/ 115.(1/22)
وكل من الفقه وعلم الكلام وثيق الصلة بالآخر، فقد كان النظر فى الدين بأحكامه وعقائده يسمى فقها، ثم خصت الاعتقادات باسم «الفقه الأكبر» وخصت العمليات باسم الفقه، وسميت مباحث الاعتقاديات «علم الكلام» (1).
وأسارع فأذكر أن الذين أفتوا فى عهد الرسول (صلوات الله عليه وسلامه) كانوا ممن تعلموا الكتابة، واشتغلوا بالقراءة والإقراء، بل أطلق لفظ القراء على أهل الفتوى، ومن يؤخذ عنهم الدين جاء فى مقدمة ابن خلدون: «أن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصا.
بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالاته بما تلقوه من النبى (صلى الله عليه وسلم) أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم، وكانوا يسمون لذلك القراء، أى الذين يقرءون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم (2).
وفى هذا النص تعليل لاشتغال هؤلاء القراء بالإفتاء، ولم كان الدين مأخوذا عنهم، ومختصا بهم دون غيرهم.
وممن ذكروا بالإفتاء من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعرى، وسلمان الفارسى (رضى الله عنهم أجمعين (3))
وقد حفظ التاريخ لمعظم هؤلاء المفتين عملا جليلا فى سبيل القرآن. فى جمعه، أو توحيد نصه، أو كتابته، أو إقرائه على النحو الذى بينت من قبل (4). وأزيد هنا أن ابن مسعود إلى جانب تجويده القرآن وتحقيقه وترتيله كان يتعلم من رسول الله فيما يتعلم الأعمال التى تشتمل عليها آيات القرآن، قال: «كنا نتعلم من النبى (صلى الله عليه وسلم) عشر آيات فما نتعلم العشر التى بعدهن حتى نتعلم ما أنزل الله فى هذه العشر من العمل (5) «وهو مع ذلك الإمام فى تجويد القرآن، وتحقيقه، وترتيله مع حسن الصوت (6). وحذيفة بن اليمان وردت الرواية عنه فى حروف القرآن (7)
__________
(1) تاريخ الفلسفة الإسلامية / 50.
(2) مقدمة ابن خلدون / 446ط مصطفى محمد.
(3) الخطط المقريزية 4/ 142ط المليحى.
(4) انظر صفحات 3وما بعدها من هذا البحث.
(5) طبقات القراء 1/ 459.
(6) نفس المصدر.
(7) طبقات القراء 1/ 203.(1/23)
وزيد بن ثابت موسوم فى كتب الطبقات بأنه المقرئ الفرضى (1)، وأبى بن كعب من القراء الذين قرءوا على النبى القرآن العظيم، وقرأ عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) بعض القرآن للإرشاد والتعليم (2). ومعاذ بن جبل عالم بالحلال والحرام، وممن أشار إليه النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: «خذوا القرآن من أربعة (3)» وأبو الدرداء قاضى دمشق، وحكيم هذه الأمة، وأحد الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم (4)). وأبو موسى الأشعرى حفظ القرآن وعرضه على النبى (صلى الله عليه وسلم (5))، وقد أرسل إليه عمر بن الخطاب رسالته المشهورة التى تعد دستور القضاء (6)، وهكذا كان كل واحد من هؤلاء الأعلام ذا قدم راسخة فى القراءة والإقراء والإفتاء، وبقى اسم القراء يطلق صدر الملة على أهل الفتوى، ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب (7)، ولم تعد القراءة مقصورة على أولئك الذين يقرءون الكتاب، هنالك ومنذ عصر بنى أمية استعمل لفظ العلم للدلالة على حفظ القرآن، ورواية السنن والآثار، وسمى أهل هذا الشأن «العلماء» واستعمل لفظ الفقه للدلالة على استنباط الأحكام الشرعية بالنظر العقلى، فيما لم يرد فيه نص كتاب ولا سنة، وسمى أهل هذا الشأن الفقهاء (8).
وكانت الأمة العربية فى الصدر الأول لا تزال قريبة العهد بالبداوة، تعيش على الفطرة فى غير تعقيد، قليلة الأحداث التى تعرض لها من ناحية العقيدة، وكان التشريع كافيا فى إقامة دين هذه الأمة وسياستها سياسة رشيدة دون حاجة إلى إعمال الفكر فى رأى أو اتجاه إلى قياس اللهم إلا فى النادر القليل (9).
ومنذ عهد بنى أمية اتسعت المملكة الإسلامية، ودخل فيها كثير من أمم الأرض، وانتقل العرب إلى هذه الأقطار المفتوحة، وتفرق القراء وعلماء الصحابة فى البلاد، وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحى، وكثرت الوقائع واستفتوا
__________
(1) نفس المصدر 296.
(2) المصدر السابق 31.
(3) طبقات القراء 2/ 301.
(4) نفس المصدر 3/ 606.
(5) المصدر السابق 2/ 422.
(6) الكامل للمبرد 1/ 9.
(7) مقدمة ابن خلدون 446.
(8) تمهيد التاريخ، الفلسفة الإسلامية 193 وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر مصر ادارة الطباعة المنيرية 2/ 3323.
(9) انظر تاريخ التشريع الإسلامى 126.(1/24)
فيها فأجاب كل واحد على حسب حفظه أو استنباطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب اجتهد برأيه (1).
وينقسم الفقه إلى طريقتين طريقة أهل الرأى والقياس، وهم أهل العراق أتباع أبى حنيفة، وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز (2) أتباع مالك.
وتوسط بين أهل الحديث وأهل الرأى محمد بن ادريس الشافعى (204هـ) وهو الذى وضع نظام الاستنباط الشرعى من أصول الفقه، ولقد انتهى علم أصول الفقه بأن جمع بين مسائل المنطق وأبحاث الفلسفة والكلام شيئا غير قليل (3)، ذلك أنه فى نهاية القرن الأول الهجرى وعلى يد المعتزلة ظهر علم الكلام وشاع، وكان هؤلاء يعتمدون على الجدل والمنطق فى كلامهم (4).
وبجانب المعتزلة فرق الخوارج (5)، والروافض (6)، والكرامية (7)، والجبرية (8)، والمرجئة (9)، والصوفية (10)، وغير هؤلاء يتظاهرون بالإسلام (11)
وغيرهم خارجون عليه، من يهود سامرية، ومعادية، وعيسوية (12). ونصارى ملكانية ونسطورية ويعقوبية (13). ومجوس: زرادشتية، وثنوية: مانوية ومزدكية وصائبة (14)، وكل هؤلاء وهؤلاء لهم آراء فى أصول الدين والعقيدة ينافح عنها بالحجة، ويدعو إليها بالدليل، ويقارع غيره بالقياس والتعليل، وما كان منهم إلا من نظر فى الفلسفة، وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره فلم يبق مصر من الأمصار، ولا قطر من الأقطار إلا وفيه طوائف كثيرة من هذه الفرق، حتى إذا كانت نهاية القرن الثالث الهجرى ظهر السنى «أبو الحسن الأشعرى» يرد على المعتزلة، وينصر عقائد أهل السنة بالأدلة العقلية، وساعده على ذلك أنه كان
__________
(1) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية / 188.
(2) انظر فى تفصيل ذلك ضحا الاسلام 3/ 160.
(3) تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية / 134.
(4) المصدر السابق / 288.
(5) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للإمام الرازى 5146.
(6) المصدر السابق / 52.
(7) المصدر السابق / 67.
(8) ص 68.
(9) ص 70.
(10) ص 72.
(11) ص 76.
(12) ص 83.
(13) ص 84.
(14) ص 86.(1/25)
تلميذا لأبى على الجبائى المعتزلى ثم بدا له فتحول عن الاعتزال (1) ويمس أبا على الفارسى طائف من هذا الاتجاه، فيتهم بالاعتزال (2) ويؤلف كتاب التتبع لأبى على الجبائى (3).
وهكذا تحول العالم الإسلامى فى العصر العباسى الأول وما قبله بقليل إلى صراع فتى فى العقائد، وجدل قوى فى الفقه والفرائض، وذاع ذلك فى مجالس الخلفاء (4)
وفى الطرقات (5) وخلقات المساجد (6)، وامتزجت أبحاث الفقهاء والمتكلمين بأبحاث النحو والنحويين، وأعان على ذلك عدم التخصص فى الدراسة، وأخذ كل فريق بسبب من ثقافة الآخر إلى أن الأئمة من هؤلاء وهؤلاء كانوا متعاصرين، فالحسن البصرى (110) (7) يعاصره عبد الله بن أبى إسحاق (سنة 117هـ) (8)، ويحيى بن يعمر (128هـ) (9). وكل من هؤلاء معاصر لواصل بن عطاء المعتزلى (131هـ) (10).
وعمرو بن عبيد المعتزلى (142هـ) (11) يعاصره عيسى بن عمر النحوى (149هـ) (12) وأبو عمرو بن العلاء (154هـ) (13)، وهؤلاء جميعا يعاصرون أبا حنيفة النعمان (150هـ) (14)، وقد توفى كل من أبى يوسف صاحب أبى حنيفة ويونس بن حبيب المصرى سنة 182هـ على ما يذكر ابن العماد الحنبلى فى الشذرات ومحمد بن الحسن (189هـ) كان معاصرا لسيبويه (180هـ)، وحسبك هؤلاء الأئمة إمعانا فى الجدل، وتثبتا بالقياس، وتعمقا فى المباحث المنطقية. وكثيرا ما كانت تنعقد صلات الصداقة بين هؤلاء وهؤلاء، أو ينفرط عقد المودة بينهم، ومهما يكن من أمر فإن فى هذه وتلك لقاحا للعقول، أو دافعا إلى التسلح بما يتسلح به الخصوم، فقد قالوا: «إن ابن المقفع كان صديقا للخليل بن أحمد (15)»،
__________
(1) الخطط المقريزية 4/ 184.
(2) معجم الأدباء 7/ 234.
(3) معجم الأدباء 7/ 241.
(4) نقل السيوطى فى الأشياء والنظائر كثيرا من هذه المجادلات.
(5) ضحى الاسلام 3/ 101.
(6) وفيات الاعيان 6/ 426.
(7) شذرات الذهب 1/ 175.
(8) المصدر السابق / 136.
(9) شذرات الذهب 1/ 174.
(10) المصدر السابق / 179.
(11) شذرات الذهب سنة 142هـ.
(12) شذرات الذهب وفيات سنة 150هـ.
(13) المصدر السابق سنة 150هـ.
(14) المصدر السابق وفيات سنة 82هـ.
(15) تاريخ الفلسفة الإسلامية / 39.(1/26)
«وثمامة بن أشرس كان كذلك لأبى زكريا يحيى الفراء (1)»، وقالوا: «إن أبا يوسف صاحب أبى حنيفة كان يقع فى أبى الحسن على بن حمزة الكسائى (2)».
ويذكر السيوطى فى آخر بغية الوعاة بابا فى المنتقى فى أحاديث النحاة (3)
لم يذكر فى اسنادها من اشتهر بفن غير النحو (4)، ولم يدع فيها أحدا ممن تحقق أنه نحوى إلا ذكره.
ويكون هناك تفاعل بين النحويين والفقهاء، وتختلط أبحاث هؤلاء بأبحاث هؤلاء:
قال أبو بكر بن شقير: حدثنى أبو جعفر الطبرى قال: سمعت الجرمى يقول: أنا منذ ثلاثون أفتى الناس فى الفقه من كتاب سيبويه قال: فحدثت به محمد بن يزيد على وجه التعجب والإنكار فقال: أنا سمعت الجرمى يقول هذا وأومأ بيده إلى أذنيه. (5)
وحكى الدورى قال: كان أبو يوسف يقول: أى شىء يحسن الكسائى؟ إنما يحسن شيئا من كلام العرب، فبلغ ذلك الكسائى فالتقيا عند الرشيد، وكان الرشيد يعظم الكسائى لتأديبه إياه، فقال لأبى يوسف: «يا يعقوب! إيش تقول فى رجل قال لامرأته:
«أنت طالق طالق طالق»؟ قال: «واحدة!» قال: «فإن قال لها: «أنت طالق أو طالق أو طالق؟» قال: «واحدة!» قال: فإن قال لها: «أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟» قال: «واحدة!» قال: فإن قال لها: «أنت طالق وطالق وطالق» قال: «واحدة!» قال الكسائى: «يا أمير المؤمنين! أخطأ يعقوب فى اثنتين، وأصاب فى اثنتين، أما قوله: أنت طالق طالق طالق فواحدة لأن الثنتين الباقيتين تأكيد كما تقول: «أنت قائم قائم قائم، وأنت كريم كريم كريم»، وأما قوله:
«أنت طالق أو طالق أو طالق، فهذا شك فوقعت الأولى التى تتيقن، وأما قوله:
«أنت طالق ثم طالق ثم طالق، فثلاث لأنه نسق، وكذلك قوله: «أنت طالق وطالق وطالق (6)». وضرب أبو على الفارسى مثلا للاتساع والحذف قولهم فى صريح الطلاق: «أنت واحدة تقديره أنت ذات تطليقة واحدة، فحذف المضاف والمضاف إليه، وأقيم صفة المضاف إليه مقام الاسم الموصوف (7).
__________
(1) نزهة الألباء / 68.
(2) المصدر السابق / 46.
(3) ص 440.
(4) ص 441.
(5) طبقات الزبيدى / 77.
(6) نزهة الألباء / 47.
(7) الإيضاح: 52.(1/27)
وكتب الرشيد ليلة إلى القاضى أبى يوسف يسأله عن قول القائل:
فإن ترفقى يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقى يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق، والطلاق عزيمة ... ثلاث، ومن يخرق أعق وأظلم
فقال: «ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث واذا نصبها؟» قال أبو يوسف: فقلت:
«هذه مسألة نحوية فقهية، ولا آمن الخطأ إن قلت فيها برأيى» فأتيت الكسائى وهو فى فرشه فسألته فقال: «إن رفع ثلاثا طلقت واحدة لأنه قال: أنت طلاق ثم أخبر أن الطلاق التام ثلاث. وإن نصبها طلقت ثلاثا لأن معناه أنت طالق ثلاثا وما بينهما جملة معترضة (1)».
ويروى عن بشر المريسى من أئمة المعتزلة (2)، أنه قال للفراء: «يا أبا زكرياء! أريد أن أسألك مسألة فى الفقه» فقال: سل! فقال: «ما تقول فى رجل سها فى سجدتى السهو؟» قال: «لا شىء عليه» قال: «من أين لك ذلك؟ «قال: «قسته على مذاهبنا فى العربية، وذلك أن المصغر لا يصغر، وكذلك لا يلتفت إلى السهو فى السهو (3)، ويوزع نجم الدين الطوفى (ت 716هـ) فى كتابه «الصعقة الغضبية» الأبحاث المتعلقة بالعربية على المسائل الفقهية (4).
وعقد الشبه بين النحويين والفقهاء: فعن بكار بن قيس أنه قال: «ما رأيت نحويا قط يشبه الفقهاء إلا حيان بن هلال والمازنى (5)».
ويؤلف النحاة كتبا فى أصول النحو، كما يؤلف الفقهاء فى أصول الفقه كما فعل ابن السراج (6). وتأخذ كتب النحاة أسماء كتب الفقهاء (7). ويقال إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازى أخذ من ابن جنى أسماء كتبه فإن له المهذب والتنبيه، واللمع والتبصرة فى أصول الفقه (8).
__________
(1) المغنى لابن هشام 1/ 50ط المطبعة الأزهرية سنة 1928.
(2) ترجمته فى لسان الميزان للحافظ ابن حجر 2/ 3029وتاريخ بغداد: وقد رد آراءه الدارمى من أهل السنة أنظر رد الامام الدارمى عثمان بن سعيد على بشر المريسى تحقيق محمد حامد النقى مطبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1358هـ.
(3) نزهة الألباء: 69.
(4) انظر ورقة 63وما بعدها والكتاب مخطوط بدار الكتب رقم 228مجاميع.
(5) نزهة الألباء / 126.
(6) انظر ص 49من الاقتراح وص 169من نزهة الألباء.
(7) انظر فهرس دار الكتب فى كل من النحو والفقه.
(8) وفيات الأعيان 2/ 412.(1/28)
وتسربت اصطلاحات الفقهاء والمتكلمين وطرائقهم إلى كتب النحاة، ويقول ابن جنى: «إن أصحابنا انتزعوا العلل من كتب محمد بن الحسن، وجمعوها منها بالملاطفة والرفق (1)».
وعقد بابا فى كتابه الخصائص عن علل العربية: أكلامية هى أم فقهية (2)؟
كما عقد بابا فى الخصائص أيضا مما يشبه تداخل اللغات تركيب المذاهب، ويشبهه فى أصول الفقه إحداث قول ثالث، والتلفيق بين المذهبين (3).
ونقل السيوطى فى الاقتراح قول ابن جنى: «إذا أداك القياس إلى شىء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه» ثم علق عليه بقوله: «وهذا يشبهه فى أصول الفقه نقض الاجتهاد إذا بان النص بخلافه (4)».
وابن الأنبارى يؤلف فى علم الجدل فى النحو، وعلم أصول النحو، فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه من قياس العلة، وقياس الشبه، وقياس الطرد إلى غير ذلك على حد أصول الفقه، فإن بينهما من المناسبة ما لا خفاء به لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول (5).
وفى التنظير بين عجز الفقيه عن التعليل وعجز النحوى عنه قالوا: «إذا عجز الفقيه عن تعليل الحكم قال: «هذا تعبدى» وإذا عجز النحوى عنه قال: هذا مسموع (6)»
ويقول ابن جنى فى مسألة أوردها محمد بن الحسن فى كتاب الايمان: «أن هذه المسألة فتوى الفقيه فيها مسوق على كلام النحوى عليها، وكذلك معظم مسائل الإيمان (7).
وكان هناك تناظر بين ما يمدح به المتكلمون وما يمدح به النحويون فالنظام قياس (8)، كذلك كان عبد الله بن أبى إسحاق (9)، وعيسى بن عمر (10)، والخليل ابن أحمد (11)
و__________
(1) الاقتراح / 51.
(2) الخصائص / 46.
(3) الاقتراح للسيوطى / 36.
(4) الاقتراح / 86.
(5) نزهة الألباء / 61والاقتراح / 3.
(6) الاقتراح ص 47.
(7) انظر مسألة فى الأخبار والمعاني مخطوط مصور بدار الأمانة العامة للجامعة العربية.
(8) تاريخ الفلسفة فى الاسلام / 60.
(9) الفهرست لابن النديم / 64وانظر ص 12من نزهة الألباء، وص 11من طبقات الشعراء لابن سلام.
(10) الكتاب لسيبويه 1/ 313.
(11) نزهة الألباء / 29.(1/29)
ويؤلف النحاة كتبا تأخذ اسم العلل أو القياس، أو الاحتجاج: فابن مروان الكوفى له كتاب القياس على أصول النحو (1)، وهشام الضرير له: كتاب القياس (2)، وأبو على الحسن بن عبد الله الأصفهانى له: كتاب علل النحو (3)، وكتاب نقض علل النحو (4)، والمهلبى أبو العباس أحمد بن محمد يؤلف شرح علل النحو (5). ولإسماعيل بن محمد القمى كتاب العلل (6) وكذلك لأبى محمد بن الحسين (7)
وألف على بن محمد بن عبدوس كتاب البرهان فى علل النحو (8)، وكذلك ألف قطرب أبو على محمد بن المستنير كتاب العلل فى النحو (9)، وكذلك كان للأخفش المجاشعى كتاب المقاييس فى النحو (10) ولأبى الخير الحسن بن سوار البغدادى مقال فى أن دليل يحيى النحوى على حدوث العالم أولى بالقبول من دليل المتكلمين (11).
ويطرد التقارض بين النحاة والمتكلمين حتى يجيء أبو على الفارسي فيؤثر عنه أنه قال: «أخطئ فى خمسين مسألة فى اللغة، ولا أخطئ فى واحدة من القياس (12)».
وهكذا يتسلم أبو على الفارسى هذا التراث العقلى من القراء، والفقهاء، والمتكلمين، والنحاة، ويكون لكل من هؤلاء أثره فى تآليف الفارسى واتجاهاته على النحو الذى أبينه فيما بعد إن شاء الله.
__________
(1) الفهرست / 105.
(2) المصدر السابق / 104.
(3) الفهرست / 120.
(4) المصدر السابق / 121.
(5) المصدر السابق / 125.
(6) نفس المصدر والصفحة.
(7) الفهرست / 128.
(8) الفهرست لابن النديم / 127.
(9) المصدر السابق.
(10) الفهرست / 78.
(11) انظر فهرس المخطوطات: 139والمقال مخطوط محفوظ براغب باشا 1463/ 3.
(12) نزهة الألباء / 210.(1/30)
الباب الأول
عصر أبى على وحياته وآثاره
الفصل الأول الحال السياسية والعقلية والاقتصادية والخلقية فى عصر أبى على
قامت الدولة العباسية على أكتاف الفرس ودعوتهم، وحفظ العباسيون لهم هذه العارفة، فاتخذوا منهم القادة، والقضاة، والولاة، والوزراء، والكتاب، والحجاب، ورؤساء الشرطة إلا أن الفرس كانوا يأملون أكثر مما نالوا فى ظل بنى العباس من مكانة ونفوذ، فحاكوا الدسائس، وأحكموا المؤامرات والمكايد، وفطن الخلفاء العباسيون فى صدر دولتهم، إلى ما يحيك الكائدون والمتنمرون فبطشوا بهم جبارين فكان قتل أبى مسلم الخراسانى، وأبى سلمة الخلال، وكانت نكبة البرامكة على ما هو متعالم معروف.
ثم دب دبيب النزاع بين العرب والفرس مرة أخرى، فى تلك الفتنة التى كانت بين الأمين ومن ورائه العرب والمأمون ومن ورائه الفرس، وانتهت بانتصار هؤلاء يمثلهم المأمون على خصومهم ممثلين فى قتل الأمين
ولكن الفرس لم يقنعوا فكانت ثورة «بابك الخرّمى (1)»، وكانت مناهضته للمأمون، ثم كانت انتصاراته الباهرة حتى إذا شعر المأمون بدنو أجله استدعى أخاه المعتصم، وألح عليه أن يداوم على حرب البابكية بصرامة وحزم.
ولكن المعتصم (297218هـ) وقد رأى مناهضة الفرس، ومعارضة العرب ولى وجهه نحو عنصر آخر هو «الأتراك» فاتجه إلى بلاد الترك يستكثر غلمانها، ويؤلف منهم جيشا قويا، وأسكنهم بغداد حتى ضاقت بهم، وزاحموا الناس فى دورهم، وتعرضوا للنساء، فكان فى كل يوم ربما قتل منهم جماعة، حدث المؤرخون قالوا: «ركب المعتصم يوما فلقيه رجل شيخ، فقال للمعتصم: «يا أبا إسحق!» فأراد الجند ضربه فمنعهم المعتصم وقال له: «ما لك يا شيخ!» فقال: («لا جزاك الله خيرا عن الجوار!) جاورتنا مدة فرأيناك شر جار، جئتنا بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا، والله لنقاتلك بسهام
__________
(1) تاريخ الأمم الاسلامية للأستاذ الخضرى ص 196.(1/31)
السحر (يعنى الدعاء)، والمعتصم يسمع ذلك، فدخل منزله، ولم ير راكبا إلا فى يوم مثل ذلك اليوم، فركب وصلى بالناس العيد وسار إلى موضع سامرا فبناها (221هـ) (1). وربما كانت هذه القصة ملفقة، لكنها على كل حال لها دلالتها من توغل هؤلاء العلوج الأتراك فى السلطان، حتى أزالوا بعد هيبة الخلفاء.
وكان المتوكل (247233هـ) شديد الانحراف عن آل على (كرم الله وجهه)، وفعل من حرث قبر الحسين (عليه السلام) ما فعل، وكانت بينه وبين المنتصر ابنه مباينة، فاتفق المنتصر مع جماعة من الأتراك على قتله، وقتل وزيره الفتح بن خاقان، فهجموا عليه وهو يشرب فخبطوه بالسيوف فقتلوه، وقتلوا الفتح معه (2)، وكان ذلك أول اجترائهم (3) فأصبح الخلفاء ألعوبة فى أيديهم ذاك لأنه عند موت المنتصر اجتمع أكابر المماليك وقالوا: «متى ولينا أحدا من ولد المتوكل طلبنا وأهلكنا، فأجمعوا على مبايعة المستعين، وقالوا: «هو ابن ابن مولانا المعتصم فإذا ما بايعناه لم تخرج الخلافة من ولد المعتصم، وبايعوا المستعين (252248) (4)
وهكذا استولى الأتراك على المملكة، وأصبح الخليفة فى يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه حكى الفخرى قال: «لما جلس المعتز (255252هـ) على سرير الخلافة قعد خواصه، وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: «انظروا كم يعيش؟ وكم يبقى فى الخلافة؟»، وكان بالمجلس بعض الظرفاء فقال: «أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته» فقالوا له: «فكم تقول إنه يعيش؟ وكم يملك؟» قال: «مهما أراد الأتراك!»
وثار الأتراك بالمعتز وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه فى الشمس فكان يرفع رجلاه، ويضع أخرى لشدة الحر، وكان بعضهم يلطمه، وهو يتقى بيده، ثم جعلوه فى بيت، وسدوا بابه، حتى مات بعد أن أشهدوا عليه أنه خلع نفسه!! (5).
__________
(1) الفخرى 206205.
(2) المصدر السابق 210.
(3) تاريخ آداب العرب لجورجى زيدان ج 2/ 153.
(4) الفخرى 212.
(5) الكامل لابن الأثير ج 7/ 77والفخرى 215.(1/32)
ثم زاد الطين بلة:
اظهور القرامطة فى عهد المكتفى بالله (295289هـ) حتى قطعوا الدروب على الحاج (1)، واقتلعوا الحجر الأسود (2)، ومكث فى أيديهم عشرين سنة.
ب استكثار المقتدر وكان صغير السن من الخدم الروم والسودان حتى كان فى داره أحد عشر ألف خادم!، وكأنه لم يكتف بما حل بالدولة من الأتراك، فاستولى هؤلاء وهؤلاء على الخلافة، وانغمس الخلفاء فى الملذات، وشغلوا بها عن تدبير الملك، ودبت بينهم المنازعات فأسقط كل ذلك من هيبتهم يقتل المقتدر، وتقطع رأسه، وتمكث جثته مرمية على قارعة الطريق (3) مكشوف العورة حتى مر رجل من الأكرة فستر عورته بحشيش ثم حفر له فى الموضع ودفن حتى عفا أثره (4).
وصادر القاهر (322320هـ) أم المقتدر فعلقها برجل واحدة منكسة الرأس، وأفسد الوزير ابن مقلة قلوب الجند على القاهر، وزين لهم حتى هجموا عليه وخلعوه وسملوه حتى سالت عيناه إلى خديه، ثم حبس وأفرج عنه حتى بلغ به الحال أن وقف بجامع المنصور يطلب الصدقة من الناس!! وفى أيام القاهر نبعت الدولة البويهية (5) التى عاش فى ظلها أبو على الفارسى.
وملك بعد القاهر ابن أخيه الراضى بالله (329322هـ) وقد استوزر الراضى أبا جعفر الكرخى، وكان هذا قصيرا جدا فى غاية القصر فاحتاجوا حتى يتمكن الوزير من مسارّة الخليفة أن يقطعوا من قوائم سرير الخليفة أربع أصابع، وتطيّر الناس من ذلك، وقالوا هذا مؤذن بنقص الدولة وكذلك كان؟
وقد أسلم الراضى قياده إلى ابن رائق، وسماه «أمير الأمراء»، وكلفه تدبير المملكة فانضم إليه أمراء العسكر، وصاروا حزبا واحدا، واستبد ابن رائق أمير الأمراء بالأمور: ولى النظار والعمال، ورفعت إليه المطالعات، ورد الحكم فى جميع الأمور إلى نظره، ومن تلك الأيام خرجت الأمور من الخلافة العباسية، واستولى الأعاجم وأرباب السيوف على الدولة، وجبوا الأموال، وكفوا يد الخليفة.
__________
(1) الفخرى 227.
(2) وفيات الأعيان 1/ 410.
(3) الفخرى 233.
(4) تجارب الأمم 5/ 237.
(5) الفخرى 230.(1/33)
وقد نافس ابن رائق على إمرة الأمراء كثير من القواد، فكان من نتائج هذا التنافس، وبال وحروب، وأهوال وخطوب، ولم تنته هذه الفترة الصاخبة التى أطلق عليها المؤرخون فترة «أمير الأمراء» إلا باستيلاء البويهيين على بغداد، فضاعت البقية الباقية من سلطة الخلفاء (1).
وقد قبض (توزون) من أمراء الديلم على المتقى لله (333329هـ)، وسمل عينيه، وخلعه، وبويع المستكفى (334333هـ) الذى خلع من الخلافة ونهبت داره، وسملت عيناه أيضا (2)، ثم كانت الخلافة للمطيع لله (363335هـ) الذى خلع نفسه، وترك الخلافة لولده الطائع (381363هـ) ثم تتابع الخلفاء على نحو من هذا الضعف القادر (422381هـ)، فابنه القائم بأمر الله (422هـ) وفى عهده انقرضت دولة بنى بويه، وظهرت دولة بنى سلجوق (3).
وهكذا لاقى الخلفاء العنت من خدمتهم الأتراك والروم والسودان حبسوا، وسملت عيونهم، ونهبت دورهم، وصودروا وقتلوا تقتيلا، وطرحت جثثهم على قارعات الطرقات، وضربت عليهم الذلة حتى سألوا الناس الصدقات!!.
ومنذ أوائل القرن الرابع الهجرى تساقطت الدولة العباسية كسفا هنا وهناك ففي أيام الراضى بالله (329322هـ) كانت فارس فى يد على بن بويه، والرى وأصفهان والجبل فى يد أخيه الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر فى أيدى بنى حمدان (394317هـ)، ومصر والشام فى يد ابن طغج (4)
والمغرب، وإفريقية فى يد أبى القاسم القائم بأمر الله بن المهدى العلوى (5)، والأندلس فى يد عبد الرحمن بن محمد الأموى، وخراسان والبلاد الشرقية فى يد نصر بن أحمد السامانى (6)، وطبرستان وجرجان فى يد الديلم، والبحرين واليمامة فى يد أبى طاهر القرمطى (7).
ولم يبق للخليفة العباسى إلا بغداد، حتى جاء عضد الدولة من البويهيين فضم العراق إلى ملكه، كما ضم إليه ملك البويهيين جميعها، وضم إليه الموصل وبلاد
__________
(1) تجارب الأمم 5/ 353.
(2) الفخرى 253.
(3) الفخرى 254.
(4) الفخرى 247.
(5) الكامل لابن الأثير حوادث سنة 324هـ.
(6) الفخرى 247.
(7) الكامل حوادث 324هـ.(1/34)
الجزيرة وسمى الملك. وهو أول من سمى بذلك فى الإسلام، وكان يقيم أحيانا فى الرى، وأحيانا فى شيراز. فلما فتح العراق جعل عاصمة ملكه بغداد (1).
وفيما يلى رجال الأسرة البويهية الذين عاصرهم أبو على (2):
وظل السامانيون يسيطرون على خراسان، وما وراء النهر حتى جاء آل سبكتكين وأنزلوا السامانيين عن مكانتهم، وجلسوا محلهم فى السيادة، فكانت الدولة الغزنوية وتسمى أيضا دولة بنى سبكتكين (582351هـ)، ومن أهم بلاد هذه الدولة ولاية سجستان. وقد نسب إليها كثير (3).
* * * ومهما يكن من خلاف فى السنة التى ولد فيها أبو على الفارسى، ومهما يكن من خلاف كذلك فى السنة التى انتقل فيها إلى جوار ربه، فإن الذى لا شك فيه أنه عاصر الدولة العباسية وهى تجود بأنفاس قوتها الأخيرة، وقد أخذت الخلافة
__________
(1) انظر تاريخ الشعوب الإسلامية تأليف كارل بروكلمان ج 2/ 9593.
(2) عن مادة بويه دائرة المعارف الاسلامية ص 256.
(3) انظر وفيات الأعيان 2/ 140، 152، 393.(1/35)
فى الانحلال والضعف، فقد ولد فى أخريات القرن الثالث الهجرى فى أوائل خلافة المعتمد على الله، ثم نسأ الله فى أجلة فعاش حتى أوائل الربع الأخير من القرن الرابع الهجرى، وإذن فقد رأى الدولة العباسية، وقد تناثرت فى هذه الدويلات التى استقل بها الأمراء فى مشارق العالم الإسلامى ومغاربه. وكانت هذه الدولة تتنازع مجد العلم والأدب كما نتنازع السلطان، وآتت عناية الخلفاء فى العصر العباسى الأول بالحركة الفكرية أكلها فى ذلك الحين، وكانت عجلة التقدم العلمى لا تزال دائرة فى عصر الدويلات فكانت عهودها خيرا وبركة على العلم والعلماء، والأدب والأدباء بما رأى القائمون على أمر هذه الدولة من ملوك ووزراء أن التفاف الشعراء والكتاب والعلماء حولهم مظهر من مظاهر السلطان، وحلية من حلى الزمان، وسبيل إلى اكتمال أبهتهم، وذيوع شهرتهم. حتى رأينا من لا يحسن العربية يزين ملكه بهؤلاء من رءوس العلم والأدب فى زمنه.
استدعى بحكم التركى حاكم واسط (1)، وأمير بغداد والعراق أبا بكر محمد ابن يحيى (2) الصولى، وكان مقربا إليه، وقال له: «إن أصحاب الأخبار رفعوا إلىّ أنى لما طلبتك من المسجد (وكان الصولى يقرأ درسا فيه) قال الناس: «أعجله الأمير ولم يتم مجلسنا، أفتراه يقرأ عليه شعرا أو نحوا أو يسمع من الحديث؟» (يقولون ذلك تهكما ببجكم لأنه لا يحسن العربية)، ثم قال بجكم ردا على هذا:
«أنا إنسان، وإن كنت لا أحسن العلوم والآداب أحب ألا يكون فى الأرض أديب، ولا عالم، ولا رأس فى صناعة إلا كان فى جنبتى وتحت اصطناعى، وبين يدى لا يفارقنى» (3).
فانظر كيف بلغت به رغبته فى اجتذاب العلماء مع ما فيه من عجمة لا تبين، ولا يرجى معها فهم شعر أو نحو أو استماع إلى المحدثين؟
على أن منهم إلى جانب ذلك من كان عالما محبا للعلماء راغبا فى الاستفادة من علمهم، وهذا عضد الدولة يناقش أبا على الفارسى مناقشة العالم ويستقل كتاب الإيضاح منه (4)، وقد حكم الأستاذ براون فى كتابه التاريخ الأدبى للفرس أن السلطان محمود بن سبكتكين علم أن فى مجلس مأمون بن مأمون جماعة من رجال
__________
(1) الأوراق ص 195.
(2) وفيات الأعيان 1/ 411.
(3) الأوراق ص 195وظهر الاسلام ج 1ص 95.
(4) شذرات الذهب ج 3/ 88.(1/36)
العلم والفلسفة منهم ابن سينا والبيرونى، وأبو سهل المسيحى، وابن الحمار، وأبو نصر العراق، فكتب إليه أن أرسلهم ليشرفوا بمجلسى، ونستفيد بعلمهم، فجمعهم مأمون ابن مأمون، وقرأ عليهم كتاب السلطان فأبى ابن سينا وفر، وقبل البيرونى وابن الخمار والعراق (1).
وشىء آخر دعا إلى اجتذاب هؤلاء العلماء والأدباء، ذلك حاجة هؤلاء الملوك إلى أساطين البيان، ورؤساء صناعة الكتابة إذ وجدوا فيهم سبيلا إلى إبلاغ الرغائب، وإطفاء الفتن، وتأديب العصاة المارقين، ولسانا به يتحدثون ويوعدون ويبرقون ويرعدون (2)، وقد ظهر الكفاة فى ذلك العصر أولئك الذين يجمعون بين البلاغة والسياسة فيحكمون بعدل، وينطقون بفصل، ويحملون الدولة، ويديرون المملكة، ويسوسون الرعية، «فإن انضاف إلى ذلك أن يكون الواحد منهم أى الكافى فى بلاغته صاحب حظ، وفصاحة لفظ، وجمال منظر، وفى سياسته ذا تحيل، وصحة فكر، وثبات عزيمة، فقد لبس كما يقول الثعالبى ثوب الفضل بعلمه، وأخذ الحبل بطرفيه، وصلح لتدبير الدولة والممالك» (3).
ومن هنا قال أبو إسحاق الصابى مفتخرا:
وقد علم السلطان أنى لسانه ... وكاتبه الكافى السديد الموفق
أوازره فيما عرا، وأمده ... برأى يريه الشمس والليل أغسق
يجدد بى نهج الهدى وهو دارس ... ويفتح لى باب النهى وهو مغلق
ولى فقر تضحى الملوك فقيرة ... إليها لدى أحداثها حين تطرق
أرد بها رأس الجموح فينثنى ... وأجعلها صوت الحرون فيعتق (4)
لذلك أغدق الملوك والوزراء على هؤلاء وهؤلاء الهدايا والعطاء
وتعددت العواصم الثقافية والعلمية فبعد أن كانت البصرة، والكوفة، وبغداد أصبحت بجانب ذلك شيراز، والرى، وأصبهان، ودينور، وهمذان، وبخارى، ونيسابور، وسمرقند، وجرجان، وجلب، والقاهرة، ووجدنا من العلماء من ينسب
__________
(1) ج 2/ 96وانظر ظهر الإسلام 1/ 286.
(2) انظر نثر النظم وحل العقد / 2.
(3) ظهر ورقة 14تحفة الوزراء للشيخ أبي منصور الثعالبى مخطوطه 5نحوش.
(4) اليتيمة ج 2/ 50.(1/37)
إلى هذه البلاد أو غيرها، ففيهم الآمدى (1)، والأبيوردى (2)، والأسترآباذي (3)
والأنطاكى (4)، والبساسيرى (5)، والبستى (6)، والبسطامى (7)، والسجزى (8)، والشهرستانى (9)، والطالقانى (10)، والعسكرى (11)، والفارابى، والكرمانى (12)، والهروى (13)، وأخيرا الفسوى، وهو اللقب الذى يلقب به أبو على الفارسى أحيانا.
وقد كثر ارتحال العلماء والأدباء وتنقلاتهم فى هذه الممالك، وكان السفر فى طلب العلم مفخرة، والقعود عنه معرة، وهذا ابن شنبوذ (ت 328هـ) المقرئ البغدادى ينسب إلى الوزير بن مقلة الكاتب المشهور قلة المعرفة، وعيره جلساؤه بأنهم ما سافروا فى طلب العلم كما سافر (14)، ومن هنا كان القاضى الجرجانى كما يقول الثعالبى خلف الخضر فى قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها. ثم عرج على حضرة الصاحب، وألقى بها عصا المسافر (15).
وهذا الحافظ الكبير أبو بكر غندر محمد بن جعفر البغدادى كان رحالا جوالا توفى بأطراف خراسان غريبا، سمع بالشام، والعراق، ومصر، والجزيرة، ودخل إلى أرض الترك (16) وأبو الحسن السلامى هجر بغداد إلى الموصل، ثم ورد أصبهان ثم قصد عضد الدولة بشيراز (17)، وأبو حاتم محمد بن حيان التميمى البستى يرحل إلى الآفاق، ويتنقل بخراسان والشام ومصر والعراق والجزيرة ثم عاد إلى نيسابور وتوفى سنة (354هـ). وارتحال المتنبى أشهر من أن ينبه إليه، وهذا أبو على الفارسى (377هـ) يرحل إلى بلاد كثيرة. شيراز، والبصرة، وبغداد، وحلب، وعسكر مكرم، وهيث، فكان من أثر ذلك مسائله: الشيرازيات، والبصريات، والبغداديات، والحلبيات، والعسكريات والهيثيات (18).
__________
(1) وفيات الأعيان 2/ 456.
(2) المصدر السابق 4/ 74.
(3) وفيات الأعيان 3/ 24.
(4) نفس المصدر 1/ 114.
(5) الوفيات 1/ 172.
(6) الوفيات 1/ 454.
(7) الوفيات 3/ 213.
(8) الوفيات 2/ 393.
(9) 3/ 403.
(10) 1/ 210.
(11) 1/ 365.
(12) 4/ 81.
(13) الوفيات 1/ 80وشذرات الذهب 3/ 73.
(14) وفيات الأعيان ج 3ص 326.
(15) يتيمة الدهر ج 3: 238.
(16) شذرات الذهب ج 3/ 73.
(17) يتيمة الدهر ج 3/ 163.
(18) المغنى 2/ 10.(1/38)
وإذا اتخذنا الثعالبى، والبيرونى مثلا لأدباء هذا العصر وعلمائه عرفنا تولية الأدباء وجوههم شطر هذه الدول:
فالثعالبى: أهدى كتابه لطائف المعارف إلى الصاحب بن عباد، والمبهج، والتمثيل، والمحاضرة إلى شمس المعالى قابوس، وسحر البلاغة وفقه اللغة إلى الأمير أبى الفضل الميكالى، والنهاية فى الكتابة، ونثر النظم، واللطائف والظرائف إلى مأمون ابن مأمون أمير خوارزم. وقدم أخبار ملوك الفرس وسيرهم إلى نصر أخى السلطان محمود.
والبيرونى: أقام فى خوارزم عند المأمونية، ثم سار إلى شمس المعالى، وقدم إليه كتاب الآثار الباقية، ثم قصد السلطان محمود فلزمه وقدم إليه كتابه عن الهند، وقدم كتاب التفهيم فى علم التنجيم الذى ألفه بالعربية والفارسية إلى سيدة من خوارزم اسمها ريحانة، ثم قدم القانون المسعودى فى النجوم إلى مسعود بن محمود، وكتابه فى المعارف إلى السلطان مودود بن مسعود (1).
وكانت هناك ارتحالات لطلب العلم كما كانت الارتحالات لطلب المال: حكى ابن خلكان قال: قال أبو على محمد بن وشاح بن عبد الله: سمعت أبا نصر بن نباته يقول: كنت يوما قائلا فى دهليزى، فدق على الباب، فقلت: «من؟» فقال:
«رجل من أهل المشرق»، فقلت: «ما حاجتك؟» فقال: «أنت القائل:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب، والداء واحد؟
فقلت: «نعم!» فقال: «أرويه عنك؟» فقلت: «نعم!» فمضى، فلما كان آخر النهار دق على الباب. فقلت: «من» فقال: «رجل من أهل تاهرت من الغرب» فقلت: «ما حاجتك؟» فقال: «أنت القائل»:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب، والداء واحد؟
فقلت:: «نعم!» فقال: «أرويه عنك؟» فقلت: «نعم!» (2).
وقد يكون ما يحكيه أبو نصر بن نباته (ت 495هـ) من قبل الدعاية إلى شعره وأنه يسير فى الآفاق، ويصل إلى المشرق والمغرب، ولكنه يدل على الارتحال الذى شغف به أهل هذا العصر على كل حال.
__________
(1) الرسالة مجلد 2عدد 38ص 549وما بعدها.
(2) وفيات الأعيان ج 2/ 365.(1/39)
وكانت مجالس الملوك والوزراء جامعة للعلماء والأدباء والفلاسفة والأطباء، مثلا ورد على بلاط سيف الدولة من اللغويين والنحاة: ابن خالويه، وأبو على الفارسى، وابن جنى، وأبو الطيب اللغوى (1)، وأبو الطيب المتنبى، ومن الفلاسفة الأطباء الفارابى (2). ومن الكتاب أبو على الحاتمى (3)، وأبو الفرج الببغاء (4)، وأبو الفرج الأصفهانى (5)، أما الشعراء فما اكثرهم! وفد عليه: الصنوبرى (ت 334هـ) والناشئ، والنامى، والخليع، الشامى، والوأواء، الدمشقى وكشاجم، وأبو فراس الحمدانى، والسرى الرفاء، والخالديان: أبو بكر محمد بن هاشم، وأبو عثمان سعيد بن هاشم، وابن نباته السعدى، وأبو الفرج الببغاء، والزاهى.
وكذلك كان الصاحب بن عباد: احتف به كما يقول الثعالبى من نجوم الأرض وأفراد العصر، وأبناء الفضل، وفرسان الشعر من يربى عددهم على شعراء الرشيد
مثل أبى الحسين السلامى، وأبى بكر الخوارزمى، وأبى طالب المأمونى، وأبى الحسن البديهى، وأبى سعد الرستمى، وأبى القاسم الزعفرانى، وأبى العباس الضبى، وأبى الحسن بن عبد العزيز الجرجانى، وأبى القاسم بن أبى العلا، وأبى محمد الخازن، وأبى هاشم العلوى، وأبى الحسن الجوهرى، وبنى المنجم وابن بابك، وابن القاشانى وأبى الفضل الهمدانى، واسماعيل الشاشى، وأبى العلاء الأسدي، وأبى الحسن النويرى، وأبى دلف الخزرجى، وأبى الفياض الطبرى وغيرهم (6).
وحلى هؤلاء وهؤلاء قصورهم بالمكتبات التى جمعت أعدادا ضخمة من الكتب فعضد الدولة صاحب أبى على له خزانة كتب عليها وكيل وخازن ومشرف من عدول البلد (7). والصاحب بن عياد يجمع من الكتب ما يحتاج فى نقله إلى أربعمائة جمل (8)، وكان يعنى بطلب النسخ الصحيحة إلى خزانة كتبه عناية عظيمة حتى أنه أوفد إلى مدينة السلام أبا العلاء الحسين بن محمد ليصحح كتاب التذكرة على أبى على الفارسى نفسه (9). ويقول الصاحب فى كتاب إلى أبى على الفارسى:
__________
(1) / 317.
(2) كان الطب من فروع الفلسفة: جاء فى ابن النديم: أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا انظر الفهرست ص 289وما بعدها وفيات الأعيان 4/ 239.
(3) معجم الادباء 18/ 154.
(4) وفيات الأعيان 2/ 373.
(5) نفس المصدر 2/ 468.
(6) يتيمة الدهر 3/ 32.
(7) أحسن التقاسم المقدسى 449.
(8) الكامل / ابن الاثير 1/ 77.
(9) معجم الادباء 7/ 242.(1/40)
«لقد اعتمدت على صاحبى أبى العلاء أيده الله لاستنساخ التذكرة، وللشيخ أدام الله عزه رأيه الموفق فى التمكين، من الأصل والإذن بعد النسخ فى العرض بإذن الله تعالى (1). وقالوا: «إن فهرست كتب خزانة الصاحب يقع فى عشر مجلدات على ما يروى أبو الحسن البيهقى (2).
وقد استحث هؤلاء الملوك العلماء على تأليف الكتب فألف أبو إسحاق الصابى لعضد الدولة كتابا فى تاريخ آل بويه سماه الناجى (3)، وألف له على بن العباس المجوسى الكناش العضدى فى الطب (4)، وسمى أبو النصر محمد بن عبد الجبار العقبى كتابه اليمينى نسبة إلى لقب محمود سبكتكين، فقد لقبه الخليفة القادر بالله «يمين الدولة وأمين الدولة» (5)، وابن فارس يؤلف كتابه «الصاحبى» نسبة إلى الصاحب ابن عباد (6)، وأبو على الفارسى يؤلف العضدى (7) نسبة إلى عضد الدولة وهكذا وهكذا.
واستبحرت العلوم الموضوعة والمترجمة فى ذلك العصر، وليس المقام هنا مقام التعداد أو التفصيل، ويكفى للتدليل على ذلك الاطلاع على كتاب الفهرست لابن النديم، فهو وثيقة تبين ما وصل إليه المسلمون فى حياتهم العقلية حتى موت أبى على الفارسى (8): فى الكلام والمتكلمين، والفقه والفقهاء والمحدثين، والفلسفة والمتفلسفين طبيعيين ومنطقيين الخ. ومثل الفهرست لابن النديم فى إلقائه ضوءا على الحياة العقلية فى القرن الرابع الهجرى كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمى (ت 387هـ). وقد جعله فى مقالتين: إحداهما لعلوم الشريعة والعربية وهى فى ستة أبواب وفيها اثنان وخمسون فصلا: فى الفقه والكلام والنحو والكتاب والشعر والعروض والأخبار. والأخرى فى علوم العجم من اليونانيين وغيرهم من الأمم فى تسعة أبواب، وفيها واحد وأربعون فصلا: فى الفلسفة، والمنطق والطب، وعلم العدد، والهندسة، والنجوم، والموسيقى، والحيل، والكيمياء (9).
__________
(1) معجم الادباء 7/ 350.
(2) معجم الادباء 6/ 259.
(3) الوفيات ح 3/ 218.
(4) 2/ 68ذيل تجارب الامم تاريخ الحكماء.
(5) ظهر الاسلام 1/ 286.
(6) أنظر الصاحبى: 2ط المؤيد 1910م.
(7) إنباء الرواة 2/ 387.
(8) صنف ابن النديم كتابه الفهرست سنة 77هـ وهى السنة التى توفى فيها أبو على الفارسى انظر ص ب من الفهرست.
(9) مفاتيح العلوم ص 4وانظر ظهر الاسلام 1/ 332229.(1/41)
ومما تمتاز به الحركة العقلية فى القرن الرابع الهجرى ظهور مذهب الشيعة فالفاطميون يتشيعون، والحمدانيون كذلك، وينو بويه لا يقلون عن هؤلاء وهؤلاء ويروى المؤرخون أنهم أخذوا أصول التشيع عن «الحسن بن على الأطروش» الذى لبث فيهم ثلاث عشرة سنة ينشر بينهم التشيع، فأسلم منهم خلق كثير، والتفوا حوله، كان ذلك أول القرن الرابع الهجرى (1). وكانت الكوفة أكبر مراكز التشيع، فهى علوية من قديم، وفيها مشهد على (كرم الله وجهه) حتى قال بعضهم: «من أراد الشهادة فليدخل دار البطيخ (2) بالكوفة وليقل (رحم الله عثمان بن عفان!) وكانت البصرة قبل القرن الرابع عثمانية حتى قالوا: (من نزل البصرة فلم يقر لهم بثلاث فليست له بدار: بفضل عثمان، وفضل الحسن البصرى، ورطب الأزاذ (3)) ولكنها فى غضون القرن الرابع امتد إليها مذهب التشيع حتى اضطر أبو بكر الصولى ت (330هـ) أن يستتر حتى مات لأنه روى خبرا فى على (كرم الله وجهه) فطلبته الخاصة والعامة لتقتله.
ولقد هم البويهيون أن يجعلوا الخلافة علوية شيعية بعد أن كانت عباسية سنية فقد أراد معز الدولة أن يبايع محمد بن يحيى الزيدى العلوى فلواه الصيمرى عن ذلك بقوله: «إذا بايعته استنفر عليك أهل خراسان وعوام البلدان، وأطاعه الديلم ورفضوك، وقبلوا أمره فيك، وبنوا العباس قوم منصورون تعتل دولتهم مرة، وتصح مرارا، وتمرض تارة، وتستثقل أطوارا لأن أصلها ثابت، وبنيانها راسخ» فعدل معز الدولة عن تعويله (4).
وكان أهل بغداد سنيين يحترمون الشيخين، فلما جاء البويهيون شجعوا التشيع ورسموا للناس طقوسا، ينوحون ويلطمون وجوههم يوم عاشوراء (5) ويبتهجون بإظهار الزينة وإشعال النيران بعيد الغدير غدير «خم» (6).
ومهما يكن من أمر فإن التشيع وثيق الصلة بالاعتزال: فالمعتصم كأخيه المأمون معتزلى يكرم الشيعة، وجعفر المتوكل شديد الانحراف عن الشيعة والمعتزلة، حتى أمر
__________
(1) النجوم الزاهرة 4/ 185.
(2) سوق الفاكهة.
(3) ابن الفقيه ص 266ط: ليون.
(4) حاشية ابن الأثير 6/ 315.
(5) المنتظم 7/ 15.
(6) الكامل لابن الأثير 7/ 17البداية والنهاية لابن كثير 346.(1/42)
بهدم قبر الحسين (1) وعضد الدولة وهو من الأمراء المتشيعين يعمل على مذهب المعتزلة (2) ولا بد أن تكون قلة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة مما لاءم أغراض الشيعة (3)، والطريقة التى سار عليها ابن بابويه القمى أكبر علماء الشيعة فى القرن الرابع الهجرى فى كتابه المسمى كتاب العلل تذكرنا بطريقة علماء المعتزلة الذين كانوا يبحثون عن علل كل شىء (4)، وكان فى مذهب الشيعة كما كان فى مذهب المعتزلة مكان لكل ألوان الزندقة: يحكى أن الوزير المهلبى ظفر بقوم يزعمون أن روح على بن أبى طالب وروح فاطمة قد انتقلت إليهم فحبسهم، ولكنهم التجئوا إلى أهل البيت: فأمر معز الدولة بإطلاقهم. فلم يكن من الوزير إلا أن يذعن لمشيئته خوفا من أن يتهم بالميل عن التشيع (5). وظهر التشيع فى شعر ابن عباد (6)، كما ظهر الاعتزال فى رسائله (7). وكان عباد أبو الصاحب يدين بالاعتزال فقد ألف كتابا فى أحكام القرآن نصر فيه الاعتزال وجود فيه (8)، ومن هنا كان أبو على الفارسى يتشيع، وكان يتهم بالاعتزال على ما سأعرض له فى مكانه بالتفصيل.
ولم يكن هناك توازن فى الحال الاقتصادية: أموال تتدفق على خزائن الملوك والوزراء والرؤساء، وفقر مدقع يعانيه الشعب، وشاع بين الناس مصادرتهم، لذلك أخفى الأغنياء أموالهم فى غير نطاقها، كالدفن فى الأرض، والإخفاء فى الشقوق، حتى حكوا أنه من حسن حظ أمير من آل بويه أن احتاج إلى مال كثير يصرفه على الجند، وإلا شغبوا، فصادف أن رأى ثعبانا يختبىء فى السقف، فأمر بالبحث عنه، فوجدت غرفة فوق السقف، وفوقها دور آخر علوى، ووجدت هذه الغرفة مملوءة بالذهب المخزون فى الخفاء ففرج ذلك كربه، وأزال شدته.
وعين أبو حسين الرقى قاضيا على حلب فكان يصادر التركات ويقول: «التركة لسيف الدولة، وليس لأبى الحسين إلا أخذ الجعالة وشاع بين الناس: «من هلك فلسيف الدولة مالك (9).
* * * __________
(1) الفخرى 709.
(2) أحسن التقاسيم 238.
(3) الحضارة الإسلامية 1/ 102.
(4) الحضارة الإسلامية 10/ 101.
(5) ابن الأثير 6/ 339.
(6) يتيمة الدهر ج 3/ 101.
(7) رسائل الصاحب 137، 139، 143مثلا.
(8) معجم الأدباء 6/ 127.
(9) ظهر الإسلام ج 2/ 7وما بعدها.(1/43)
فإذا انتقلت إلى الحديث عن الحياة الخلقية، وجدنا من النصوص ما يكشف لنا عن صورتها فى ذلك العصر. فيتحدث المؤرخون عن إهمال عضد الدولة (ت 372هـ) للشريعة، ويستشهدون على ذلك بأنه فرض على الراقصات والقحاب بفارس ضريبة، وكان يضمن هذه الضريبة (1) كما نجد تعشق الذكران شائعا فى ذلك العصر: فيحكى أن سيف الدولة كان له غلام يسمى باسم مؤنث وهو «ثمل»، وكان عزيزا عليه (2)
وكان الصاحب بن عباد يتعشق غلاما ألثغ السين
وهذا «معز الدولة» يهيم حبا بمملوك تركى فى غاية الجمال، فيجعله مقدم الجيش لمحاربة بنى حمدان، وكان الوزير المهلبى يستحسنه ويرى «أنه من أهل الهوى لا مدد الوغى» فقال فيه:
طفل يرق الماء فى ... وجناته، ويرف عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفا، ومنطقة تئوده (3)
وهكذا يخلط معز الدولة الجهاد بالمجون، والجد بالاستهتار والفتون، فلا يتحرج أن يجعل مقدم الجيش غلاما أشبه بالعذارى، قد تحير فى أديم خديه ماء الهوى، ورف عوده وكادت تبدو نهوده!!
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده
وقد كان للشيخ أبى على الفارسى مثل ذلك، محمد بن طويس القصرى أحد تلاميذه وكان حدثا، وكان الشيخ يتعشقه، ويخصه بالطرف، ويحرص على الإملاء عليه والالتفات إليه، وبه سمى مسائله على رأى القصريات!! (4).
ولم ينج من الانغماس فى هذه الحمأة أهل التوقر والتحرج فجرف التيار المتصوفة من أمثال ابن فهم الصوفى (5)، وأبى الوزير (6)، والقضاة كالجراحى أبى الحسن الذى يغمز بالحاجب إذا رأى مرطا، وأمل أن يقبل خدا وقرطا (7).
والمتطببين والفلاسفة: كابن غسان البصرى الذى أحرق العشق كبده على غلام بباب الطاق (8)، والمنطقى أبى سليمان المفتون بصبى موصلى ملأ الدنيا عيارة وخسارة (9)
__________
(1) الحضارة الاسلامية 2/ 141.
(2) تاريخ تجارب الأمم لابن مسكويه 6/ 831.
(3) وفيات الأعيان ج 1/ 394.
(4) معجم الأدباء 18/ 206.
(5) الإمتاع 2/ 166.
(6) نفس المرجع 2/ 167.
(7) الإمتاع 2/ 168.
(8) الإمتاع 2/ 166.
(9) الإمتاع 2/ 174.(1/44)
حتى القراء كالكنانى المتيم بصبابة المغنية (1) ولعل ظهور هذا الانحراف عند هؤلاء وهؤلاء كان من قبيل المجاراة ولم يكن عن رغبة نابعة فى نفوسهم إلى الشهوة.
وفى بغداد فى القرن الرابع الهجرى كان درب السلق (2) ودار القطن (3)
وباب الطاق (4)، وبين السورين، ودرب الزعفرانى (5) محلات للغناء والخلاعة والرقص. وهذا أبو حيان يلقى ضوءا على هذه الحياة فيقول: بعد أن عدّد كثيرا من الاطراب والأغانى: «ولو ذكرت هذه الاطراب من المستمعين، والأغانى من الرجال والصبيان والجوارى والحرائر لطال وأمل، وزاحمت كل من صنف كتابا فى الأغانى والألحان، وعهدى بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة. وقد أحصينا ونحن جماعة فى الكرخ أربعمائة وستين جارية، ومائة وعشرين حرة، وخمسة وتسعين من الصبيان البدور، يجمعون بين الحذق والحسن والظرف والعشرة، هذا سوى من كنا لا نظفر به، ولا نصل إليه لعزته وحرصه ورقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء، وبالضرب إلا إذا نشط فى وقت، أو ثمل فى حال، وخلع العذار فى هوى قد حالفه وأضناه، وترنم وأوقع، وهز رأسه، وصعد أنفاسه، وأطرب جلاسه، واستكتمهم حاله، وكشف عندهم حجابه (6)
وهذا المقدسى وقد زار العراق وجنوب فارس فى العهد البويهى يحدثنا عن الفساد الشائع فى أهل شيراز القريبة من مولد أبى على (7) وللصاحب بن عباد على جلال قدره شعر فى الذكران (8) مما يدل على شيوع هذه الغلاميات فى غير تحرز أو حياء عند ذوى المكانة من الأمراء والوزراء فكيف بالسوقة وطغام الناس والسفهاء؟!
على أن لكل موجة من الهوى والمجون فى كل عصر ما يقابلها من الهدى والصلاح، وقد ظهر فى ذلك العصر زهاد ونساك وصوفية ووعاظ ومتعبدة، بل حنابلة متشددة، يحدثنا أبو الفداء فى تاريخه عن حوادث سنة 323هـ أن قد عظم أمر الحنابلة على الناس، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة، فإن وجدوا نبيذا
__________
(1) الإمتاع 2/ 182.
(2) الإمتاع 2/ 165.
(3) الإمتاع 2/ 167.
(4) الإمتاع 2/ 169.
(5) 2/ 171.
(6) الإمتاع 2/ 138.
(7) انظر أحسن التقاسيم 429.
(8) انظر يتيمة الدهر 3/ 12وما بعدها.(1/45)
أراقوه «وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا فى البيع والشراء، وفى مشى الرجال مع الصبيان (1).
وممن اشتهروا بالخير والتقوى أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج الزاهد المشهور (2)، وأبو الحسن النساج الصوفى (ت 322هـ) (3)، وأبو بكر دلف ابن جحدر وقيل جعفر بن يونس المعروف بالشبلى الصالح المشهور (ت 334) (4)
وأبو طالب محمد بن على الحارثى المكى صاحب كتاب قوت القلوب (ت 286هـ) (5)
وأبو الحسين محمد بن أحمد الواعظ المعروف بابن سمحون (ت 387هـ) (6)
وقد ذكره الحريرى فى المقامة الرازية (7).
وإلى جانب هؤلاء ما كان عند عامة الناس من تشدد فى الدين وتعصب له على الخارجين وهذا ابن شنبوذ المقرئ يحضره ابن مقلة الكاتب المشهور ويحاسبه على قراءات شاذة اشتهرت عنه، ويحبسه فيكلم أبو أيوب السلطان الوزير فى أمره ويسأله فى إطلاقه، وعرفه أن صار إلى منزله قتلته العامة، وسأله أن ينفذه فى الليل سرا إلى المدائن ليقيم بها أياما ثم يدخل إلى منزله ببغداد مستخفيا، ولا يظهر بها أياما
وفى ذلك ما يدل على النزعات الدينية فى نفوس العامة من أهل هذا الزمان (8)، والتمسك الشديد بما للإسلام من تعاليم. إلى أن عضد الدولة صاحب أبى على الذى حكيت شيئا عنه فى إهماله الشريعة «شوهد فى كثير من تذاكيره وما كان يوقعه فى تقاويمه: نذرنا للأمر الفلانى كيت وكيت، وكذا وكذا ألف درهم للصدقة (9)
فى هذا الجو السياسى المليء بالمكايد والتنافس، وفى هذه البيئة العلمية الناضجة بالتأليف والتشجيع، وفى هذه الحياة الاجتماعية التى اختلطت فيها الأوزار والأقذار والمفاسد والمقابح بالهدى والزهد والتقى والصلاح عاش أبو على وسنرى فى الفصل الثانى مقدار ما تفاعل الشيخ هو والبيئة التى عاش فيها مؤثرا ومتأثرا.
__________
(1) تاريخ أبى الفداء 1/ 87.
(2) وفيات الأعيان 1/ 405.
(3) وفيات الأعيان 2/ 23.
(4) المصدر السابق 2/ 39.
(5) وفيات الأعيان 3/ 340.
(6) وفيات الأعيان 3/ 341.
(7) انظر مقامات الحريرى المقامة الحادية والعشرون.
(8) وفيات الأعيان 3/ 428.
(9) ذيل تجارب الامم 3/ 66.(1/46)
الفصل الثانى أبو على فى عيشه ونفسه
هذا بحث عسير، والسبيل إليه أشد مشقة وعسرا: إذ كيف يجلى الباحث شخصية مثل شخصية أبى على الفارسى العالم اللغوى النحوى؟ لو كان أبو على أديبا كاتبا أو شاعرا لاستطعت التعرف عليه من خطرات نفسه، وهواجس حسه، فإن آثار الأديب صورة لما اعتمل فى نفسه من خواطر وأحاسيس، وأمر آخر يجعل هذه الدراسة شاقة عسيره: ذلك أن أبا على لم يحظ من المترجمين الأولين كابن النديم فى الفهرست، والزبيدى فى الطبقات إلا بأسطر لا تنقع غلة الباحث، ولا تروى منه ظمأ، فلم يزد الزبيدى على ذكر طرف من اتصالاته ببعض أمراء الدويلات فى عصره فى سطر ونصف (1)، وأورد ابن النديم ترجمة فى نحو ثلاثة أسطر ذكر فيها بعض تآليفه ثم أخطأ فى تاريخ وفاته (2)، هذا غاية ما كتبه المعاصرون لأبى على عنه، وهو من القلة والتشويه كما ترون. أما ما كتبه المتأخرون فهو أشتات من أنباء مقتضبة، ثم هى مطلقة مرسلة يعوزها التحقيق وتحتاج إلى دليل فما عساى بعد هذا أن أصنع فى تجلية عيش أبى على ونفسه؟ وكيف يستقيم لى أن أتحدث عن بيئة أبى على المكانية وصفاته العقلية والخلقية الخ والدراسة الحديثة تحتم على التحليل الدقيق حتى لو استطعت إحصاء أنفاسه فعلت؟ ومن هنا جاءت المشقة والعسرة، وهما أمر طبعى، فطريق الباحثين لم تفرش بالورود، هى وعرة وشائكة، وإذن لا بد من المطاولة والمصابرة والمعاناة فى استفتاء النصوص، واستكناه الأحداث، واستشفاف ما توحى به الآثار، والمقابلة بين مختلف الأخبار حتى أمثل أبا على بشرا سويا، وأطوع ما كان منه عصيا، وذلك ما أنا فى سبيلى إليه
__________
(1) انظر طبقات الزبيدى 130.
(2) انظر الفهرست 95.(1/47)
نسب أبى على وأسرته
لعل أول من أذاع نسب أبى على الفارسى تلميذه أبو الحسن على بن عيسى الربعى فقد قال فى صدر شرحه الإيضاح أنه أبو على الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد ابن سليمان بن أبان الفارسى (1)، وتعتمد كتب التراجم على الربعى فى ذلك على اختلاف يسير بينها زيادة ونقصا فى سلسلة هذه النسبة.
فالخطيب فى تاريخ بغداد لا يذكر أبا (2)، وتابعه فى ذلك القفطى فى أنباء الرواة (3)، والسيوطى فى بغية الوعاة (4)، وابن النديم فى الفهرست (5) لا يذكر اسمه، ويقتصر على لقبه وكنيته وأبيه وجده عبد الغفار، وابن تعرى بردى يقف عند جده الأول: عبد الغفار ولا يزيد شيئا (6) وكذلك فعل الأنبارى (7) وكذلك يفعل ابن الأثير فى الكامل (8) ويتابعه أبو الفداء فى تاريخه (9).
ويذكر اليمنى فى إشارة التعيين «عبد الغفار بن سليم بن أبان (10)» وتضطرب هذه السلسلة فى عقد الجمان (11)، كما تضطرب فى الشذرات (12)، إذ يقول صاحب العقد: هو الحسن بن على أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفارسى.
فقد جعل أباه على أحمد بن عبد الغفار، وأظن أن عليا مقحم من النساخ.
ويقول ابن العماد فى الشذرات: الحسن بن محمد بن عبد الغفار النحوى، وابن الحاج خليفة فى كشف الظنون تقف عند أبيه ولا يزيد، فهو «أبو على» «حسن» بدون ال ابن أحمد الفارسى النحوى (13)، والحسن «بال» بن أحمد الفارسى النحوى (14)، وكذلك فعل ابن حجر فى لسان الميزان (15)، والعمرى فى مسالك الأبصار (16) يقف كل منهما عند كنيته ولقبه إذ يقول: «هو أبو على الفارسى الفسوي النحوى». ويأتى صاحب روضات الجنات بالسلسلة كاملة كما أوردها الربعى فى الإيضاح، ولكنه يعرى «الحسن» من ال (17). وفى تقديم
__________
(1) وفيات 1/ 361، معجم الادباء 7/ 232.
(2) 7/ 275.
(3) 1/ 273.
(4) 216.
(5) 15.
(6) 4/ 151.
(7) 209.
(8) 9/ 19.
(9) 9/ 31.
(10) ورقة 13.
(11) القسم الثالث / 400.
(12) 3/ 88.
(13) كشف الظنون 1/ 131.
(14) 1/ 384.
(15) 2/ 195.
(16) المجلد الثاني 4/ 268.
(17) 219قال ثعلب كل ما كان مثل العباس وعباس، وحسن والحسن، فإدخال الألف واللام وإخراجهما عند الكسائي والعراء إذا سميا واحد، وقال الخليل: إذا أسقطهما فلا يكون الاسم الاول فلا يسقطهما إلا وقد حول المعنى أنظر البصريات 63.(1/48)
الإغفال ورد مرة: قال أبو على الحسن بن عبد الغفار الفارسى، وأخرى: قال أبو على أحمد بن عبد الغفار الفسوى النحوى (1).
ولعل من اختصر فى هذه النسبة قصد إلى الاقتصار العجزى «الذى يعرف من غير إخلال» ومن أطال قصد إلى الجمع الكاشف فى إيماء واستيعاب.
أما أولئك الذين اضطربوا فى هذه النسبة، فلا اعتذار لهم من اضطرابهم إلا أن يكون ذلك أو بعض منه من عمل الناسخين (2).
ولم يحتفظ الفرس بأنسابهم كما احتفظ العرب بها، ومن هنا كانت آخر حلقة من حلقات هذه السلسلة عند من أطال أبان، وأبان كما أعلم، عربى مصروف على الصحيح (3)، حتى كان من أمثالهم المأثورة: «من لم يصرف أبانا فهو أنان» وإذا اعتبرت أن أبانا أول من أسلم من أجداد أبى على، فإنى أقدر أنهم دخلوا فى الإسلام، وتسموا بأسماء المسلمين حوالى منتصف القرن الثانى الهجرى، باعتبار أن كل جيل يمثل من الأعوام أربعين (4).
وأبو على فارسى الأب، ولا أعتمد فى ذلك على ما يلقب به من أنه فسوى، فارسى، نعم! قد تكون هذه النسبة دالة على فارسيته، ولكنها لا تدل فى كل الحالات.
فأبو إسحاق الشيرازى، والقيروزآبادي من أبناء أبى بكر الصديق (رضى الله عنه)، والترمذى صاحب الشمائل (5)، والترمذى صاحب السنن (6) كل هؤلاء من العرب، والحاكم أبو عبيد الله النيسابورى من بنى ضبة (7)، والأصبهانى أبو الفرج صاحب الأغانى أموى، وهذا الحسن بن الخطير بن أبى الحسن النعمانى يلقب بالفارسى مع أنه عربى من نسل النعمان بن المنذر، وإنما قيل له الفارسى لأنه تفقه بشيراز على مذاهب أبى حنيفة (8) وقد أخطأ مفهرسو المزهر فأطلقوا اسم هذا الفارسى النعمانى على أبى على الفارسى (9).
إنما اعتمدت فى تقرير فارسية أبى على على ما تواترت به الأخبار، وما يذكره المؤرخون، وما يمكن أن يدل عليه علمه بالفارسية، وتحدثه بها، وربطه بينها وبين العربية كما سأعرض له فيما بعد إن شاء الله.
__________
(1) الاغفال ص 2.
(2) الاغفال ص 1.
(3) القاموس مادة ابن.
(4) انظر الاسس المبتكرة 67.
(5) وفيات الاعيان الترجمة رقم 544.
(6) وفيات الاعيان الترجمة رقم 585.
(7) مجلة الرسالة، المجلد الثاني 213.
(8) طبقات المفسرين ورقة 57مخطوطه بدار الكتب تاريخ رقم 168وانظر بغية الوعاة 219.
(9) انظر المزهر 2/ 487، 606تحقيق المرحوم جاد المولى وزميليه.(1/49)
أما أمه فهى سدوسية من سدوس (بفتح السين) شيبان (1) وشيبان من بكر، وبكر من بنى وائل، ووائل من جديله، وهذه من أسد، وأسد من ربيعة ربيعة الفرس، وربيعة الفرس من نزار بن معد بن عدنان (2)
ويمكن وضع سلسلة النسب كالآتى (3):
__________
(1) معجم الأدباء 7/ 233.
(2) انظر نسب عدنان وقحطان للمبرد 19 وما حواليها، وجمهرة أنساب العرب 308275، والأنباه على قبائل الرواة 96.
(3) باقتباس من صبح الأعشى 1/ 337وما بعدها.(1/50)
وينص النسابون على سدوس شيبان احترازا من سدوس (بضم السين هنا) ابن أسمع من بنى سعد بن نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيئ (1).
قالوا: «وسمى ربيعة الفرس، لأنه أعطى الخيل من ميراث أبيه (2) أو لأن أباه نزارا أوصى له من ماله بالخيل (3)، وقال ابن عبد البر القرطبى النمرى (ت 463هـ) فى الأنباه على قبائل الرواة: ويقال لربيعة ربيعة الفرس وذلك فيما زعموه أنه لما مات نزار معد بن عدنان تقسم بنوه ميراثه واستهموا عليه، وكان لنزار فرس مشهور فضله فى العرب، فأصاب الفرس ربيعة فلذلك سميت ربيعة الفرس، وكان لنزار ناقة حمراء مشهورة الفضل فى العرب، فأصاب الناقة مضر، فلذلك سميت مضر الحمراء (4).
وقد ذكر الأستاذ المرحوم أحمد أمين أن أم أبى على فارسية (5) ويبدو أن الأمر قد التبس عليه، فقرئت الفرس بفتح الفاء والراء، الفرس بضم الفاء وسكون الراء (6).
ويظهر من نسبة أبى على الفارسى هذه المصاهرة التى كانت بين الفرس والعرب والتى شاعت فى العصر العباسى من الخلفاء إلى عامة الشعب، ولم يعد العرب يتحرجون منها مزوجين أو متزوجين (7)، كما كانوا كذلك فى العصر الجاهلى حيث كانت الدولة عربية خالصة.
وقد انتقلت ربيعة الفرس إلى الرحبة كما جاء فى مسالك الأبصار ونقله القلقشندى فى صبح الأعشى (8)، والرحبة مدينة على الفرات بين الرقة وغانة (9)، فيظهران انتقال الربعيين إلى الجزيرة الفراتية يسر اتصال الفرس بهم بحكم المجاورة التى أدت إلى الامتزاج والمصاهرة.
__________
(1) صبح الأعشى 1/ 32.
(2) قاموس مادة حمر.
(3) صبح الأعشى 1/ 337.
(4) الأنباء على قبائل الرواة 96.
(5) ظهر الإسلام 2/ 91.
(6) وكسان الحريرى صاحب المقامات يزعم أنه من ربيعة الفرس انظر (وفيات الأعيان 3/ 29).
(7) رفض النعمان أن يزوج كسرى ابنته حرقة (الطبرى 2/ 150).
(8) 1/ 337.
(9) تقويم البلدان / 281.(1/51)
كنيته
وهى أبو على، وتلك الكنية غالبة فيمن اسمه «الحسن» (1) أو الحسين (2):
ومن غير الغالب تكنية من اسمه الحسن أو الحسين بغير أبى على، فأبو سعيد (3)، وأبو أحمد (4)، وأبو محمد (5)، وأبو بكر (6)، وأبو عبد الله (7). كل هذه كنى للحسن أو الحسين.
ومن النادر الكنية بأبى على فى غير الحسن والحسين، كاسماعيل بن القاسم البغدادى (8)، وقطرب (9)، ومعاذ الهراء (10)، واحمد بن محمد القاسم (11)، وأحمد بن إبراهيم بن أيوب (12)، ومعقل بن يسار، والسائب بن يزيد (13)، وشيوع أبى الحسن كنية لمن اسمه على تكاد تطرد وتستمر.
ويبدو لى أن الكنية بأبى على شاعت عند ما استعلن أمر الشيعة، وكان لدعوتهم ذيوع، ولمذهبهم أنصار، كما شاعت التسمية، بالحسن والحسين من أجل ذلك، وقد بينت من قبل مقدار ذيوع التشيع فى ذلك العصر الذى عاش فيه أبو على الحسن. ويلقى ضوءا على ذلك ويؤيده ما جاء فى الهوامل والشوامل لأبى حيان وابن مسكويه. وكلاهما معاصر للفارسى من أن رجلا كان يكنى أبا حفص فاكتنى أبا جعفر، وكان سببه فى ذلك أنه قصد رجلا يتشيع فكره أن يعرفه بأبى حفص (14).
وقد بين أبو على الفارسى اشتقاق التسمية، بعلى، وذلك إذ يقول: فأما تسميتهم
__________
(1) انظر وفيات الأعيان من 1/ 1356/ 395.
(2) انظر وفيات الأعيان 1/ 1400/ 434.
(3) وفيات 1/ 361359.
(4) 1/ 364.
(5) 1/ 390370.
(6) 1/ 380.
(7) 1/ 436403.
(8) الزهر 2/ 430.
(9) نزهة الألباء / 62.
(10) نزهة الألباء / 34.
(11) صفوة الصفوة 2/ 256.
(12) صفوة الصفوة 2/ 41.
(13) انظر الكنى والأسماء للدولابي 1/ 84.
(14) الشوامل 273.(1/52)
بعلى فيجوز أن يكون فعيلا من علا على الأمر إذا غلبه واضطلع عليه، ويجوز أن يكون فعيلا من قوله:
«وكانا امرأين كل شأنهما يعلو»
ويجوز أن يكون فعيلا من على فى المكارم يعلى فهو علىّ مثل علم يعلم فهو عليم (1).
وأبو على ينسب إلى فسا، وهى المدينة التى ولد بها فيقال الفسوى (2)، وقد ذكر البستانى خطأ أنه ولد بمدينة نسا بالنون (3)، كما وردت هذه النسبة فى إشارة التعيين لأبى المحاسن الميمنى (4)، وذلك إذ يقول «الفارس النسوى».
صحيح أن هناك مدينة تسمى نسا بخراسان، وإليها ينسب الإمام أحمد النسائى صاحب كتاب السنن، ونسا أيضا مدينة بفاس (5)، ومدينة بكرمان (6)، ولم ينسب أحد من مؤلفى الأنساب أبا على إلى نسا، وقد ذكر السمعانى صاحب كتاب الأنساب فى باب النون والسين المهملة، وابن الأثير فى اللباب (7) من نسب إلى نسا، ولم يكن أبو على الفارسى بينهم.
وربما التبس على الميمنى وتابعه البستانى فى ذلك، وقد يكون هذا عند الميمنى من خلط النساخ يقرب صورة الفاء فى نسا من النون فى نسا، ويعيّن الفاء أن العرب ينسبون إلى نسا فيقولون نسوى ولم يقولوا نسائى، وجاء فى معجم البلدان، نسا كلمة عجمية، وعندهم بسا، وكذا يتلفظون بها ولم يقولوا فى النسبة إلى فسا:
فسائى وإليها ينسب أبو على الفارسى الفسوى (8)، والفسوى نسبة إلى فسا (9)، ونقل ذلك صاحب صاحب تقويم البلدان (10)، وجاء فى وفيات الأعيان وبسا بالفارسية، وتسمى فسا (11)، وقد أوردها بالباء ابن شهبة الأسدي فقال: ولد ببسا (12) والنسبة إلى بسا عند أهل فارس بساسيرى، وبالعربى فسوى، ومنها الشيخ أبو على الفارسى (13) النحوى.
__________
(1) المسائل الشيرازيات ورقة 33.
(2) طبقات الزبيدى 130.
(3) انظر دائرة المعارف للبستاني.
(4) ورقة 12.
(5) أحسن التقاسيم ص / 432.
(6) تقويم البلدان 450، 451.
(7) 3/ 233وما بعدها.
(8) معجم البلدان 6/ 376.
(9) الانساب للسمعاني مادة فسا واللباب 2/ 215.
(10) 331.
(11) وفيات الأعيان 1/ 172.
(12) طبقات ابن شهبة / 295.
(13) وفيات الأعيان 1/ 172.(1/53)
وقد بارك الله فى هذه المدينة، فأخرج منها جماعة من أعيان العلماء، فإلى جانب أبى على أبو يوسف يعقوب بن سفيان بن حوان الفسوى الفارسى الكبير الإمام المشهور، رحل من الشرق إلى الغرب، وسمع وأبصر وصنف مع الورع والنسك، وأبو يوسف يعقوب بن سفيان بن زياد الفسوى الصغير (1)، وأبو محمد عبد الله ابن جعفر بن درستويه، بن المرزبان الفارسى الفسوى النحوى ومحمد بن أحمد ابن يونس الفسوى أبو عبد الله (2).
هذا ومن تمام الحديث فى لقب أبى على أن أذكر أن تلقيبه بالفسوى كان يكثر عند القدامى والمعاصرين، فقد ذكره أبو حيان فى كتابه الإمتاع بأبى على الفسوى (3)، وذكره الزبيدى بالطبقات (4) بذلك أيضا، كما ذكره معاصره محمد بن أبى الفوارس (5).
أما المتأخرون من اللغويين، والنحاة، والفقهاء، والمفسرين فإما أن يدلوا عليه بأبى على، أو بالفارسى (6)، أو بهما معا (7)، ولا يكادون يلوون ألسنتهم بالفسوى (8). وهذا ابن سيده فى كتابه المخصص يقول: قال أبو على الفارسى وإذا ذكرت أبا على فإياه نعنى (9).
وكان ابن جنى يذكره كثيرا فى الخصائص بقوله: «قال شيخنا أبو على»
أو بكنيته مجردة، ولا يستطيع الباحث أن يضبط ما أثر عن عضد الدولة فيما جرى على لسانه من نسبة لأبى على فى قوله: «أنا غلام أبى على»، فالنصوص متضاربة: فمنها ما فيه الفارسى فقط (10)، ومنها ما فيه الفسوى (11)، ومنها الغفل من قيد النسبة إلى هذه أو تلك (12). وأميل إلى صيغة «أنا غلام أبى على النحوى فى النحو» من بين هذه التفسيرات كما رواها ياقوت (13) لأنه بهذا القيد: النحوى، يتميز أبو على دون سواه، ثم هو تعيين لأبى على، بما هو مذكور به ومشهور عنه: النحو.
__________
(1) اللباب 216215.
(2) بغية الوعاة 20.
(3) 1/ 129.
(4) 130.
(5) تاريخ بغداد 7/ 267.
(6) رسالة الغفران 152والمخصص 1/ 96.
(7) الدر على هامش البحر المحيط 7/ 40.
(8) انظر النيسابورى على هامش الطبرى 4/ 176، 12/ 52وفوائد العز بن عبد السلام عند تفسير محيط من قوله تعالى: {وَاللََّهُ مِنْ وَرََائِهِمْ مُحِيطٌ}.
(9) المخصص 1/ 17.
(10) نزهة الألباء 209.
(11) عقد الجمان القسم الثالث 400.
(12) النجوم الزاهرة 4/ 151.
(13) انظر معجم الأدباء 2/ 234.(1/54)
ويؤيد ذلك ما كتبه أحمد بن سابور فى المسائل الشيرازيات إذ قال: «الجزء الأول من المسائل الشيرازيات، تأليف الشيخ أبى على الحسن بن احمد بن عبد الغفار النحوى (أدام الله عزه)، نقلتها من أصله بخطه، وقرأتها عليه» (1).
وكان أبو على لا ينسب نفسه إلى فسا، ولكنه ينسبها إلى فارس، فقد كتب فى توثيق الشيرازيات لأحمد بن سابور المذكور فى ظهر كل جزء من أجزائها ما نصه:
قرأ على أبو غالب أحمد بن سابور هذا الكتاب، وكتب الحسن بن أحمد الفارسى بخطه»، وقد تكرر نص هذا التوثيق ثلاث عشرة مرة، فى أول كل جزء من أجزاء الشيرازيات، كذلك نسب أبو على نفسه إلى فارس، فى مكاتبة بينه وبين الصاحب (2)، ويظهران ما فى لفظ الفسوى من إيحاء منفر، لا تقبل النفس عليه، جعل أبا على وتلاميذه لا يستريحون إليه:
هذا وقد يطلق الفارسى أيضا على أبى الخصيب الفارسى النحوى (3)، وعلى الشيخ أبى إسحاق إبراهيم بن على الفارسى اللغوى النحوى، الذى هو من تلامذة أبى على، وله شرح كتاب الجرمى، ونقض ديوان المتنبى وغير ذلك (4)، كما يطلق الفسوى على أبى يزيد، وثيمة بن موسى بن الفرات الوشاء (5) (ت 289هـ).
كما أن هناك من يشترك فى الكنية والاسم واللقب مع أبى على، وذلك أبو على الحسن بن محمد بن عثمان الفارسى (6).
ولكن المعروف عند المتأخرين من النحاة والفقهاء (7)، أنهم إذا قالوا:
«الفارسى» أو أبو على»، فإنهم يعنون الشيخ أبا على الفارسى، الذى أتحدث عنه لشهرته عمن سواه، وإن أرادوا غيره كان لا بد من القرينة المميزة، والاشارة الدالة كأن يقولوا مثلا: «أخذ محمد بن أبان القرطبى، عن أبى على البغدادى وغيره» (8).
__________
(1) انظر صدر المسائل الشيرازيات.
(2) انظر معجم الأدباء 2/ 240.
(3) بغية الوعاة 209.
(4) روضات الجنات 330وبغية الوعاة 481.
(5) انظر وفيات الأعيان 5/ 64.
(6) انظر المحتسب لابن جنى 10.
(7) انظر فوائد العز بن عبد السلام مخطوطه بدار الكتب: 77م تفسير عند حديثه على إعراب غير المغضوب عليهم وقارنه بما أورد أبو على فى الحجة 1/ 96من مراد ملا وانظر كذلك هذه الفوائد عند الحديث عن اللغات فى سواء وقارنه بما ورد فى الحجة متعلقا بهذه الكلمة 1/ 170.
(8) معجم الأدباء 17/ 117.(1/55)
مولد أبى على
يضرب كثير من المؤرخين صفحا عن السنة التى ولد فيها أبو على، ويختلفون اختلافا يسيرا فى وفاته، ويذكرون أنه مات وقد جاوز تسعين سنة (1).
فلو فرضت أنه مات وسنه إحدى وتسعون سنة. وهو أقل ما تحقق به مجاوزة التسعين من السنين (وقد وثقت فيما بعد سنة 377هـ تاريخا للوفاة)، فمعنى هذا أن أبا على ولد سنة 286هـ، وهذا التاريخ لا يتفق مع ما يذكره ابن خلكان من أنه ولد سنة 288هـ (2)، والعينى فى عقد الجمان (3)، والكتبى فى عيون التواريخ (4).
ولقد جاء فى شذرات الذهب أن أبا على توفى عن تسع وثمانين سنة (5)، ومعنى ذلك أن صاحب الشذرات متفق مع ابن خلكان فى أن ميلاد أبى على كان سنة 288هـ، كما يتفق أيضا مع ابن قاضى شهبه الأسدي حيث يقول: «إن أبا على مات سنة 377هـ عن تسع وثمانين سنة» (6).
وعلى كل فالأمر يسير، فإلقاء سنتين أو إضافتهما إلى تاريخ الميلاد لا يترتب عليه أمر ذو بال، وحسبى من أبى على وحسبه أن الله نسأ له فى أجله، وبارك له فى عمره حتى عاش نحوا من تسعين.
__________
(1) انظر معجم الأدباء 7/ 233ولسان الميزان 2/ 195والنجوم الزاهرة 4/ 151 وتاريخ ابن الأثير 9/ 19وتاريخ أبي الفداء 2/ 31.
(2) انظر وفيات الأعيان 1/ 363.
(3) القسم الثالث 400.
(4) انظر ص 20.
(5) شذرات الذهب 3/ 88.
(6) طبقات ابن شهية 215.(1/56)
البيئة المكانية لأبى على
تنقلاته: ولد أبو على فى فسا (288هـ) (1)، وإليها نسب (2). وقد نقل المؤيد عماد الدين اسماعيل فى كتابه تقويم البلدان عن ابن حوقل، أن فسا أكبر مدينة فى كورة دارابجرد، وتقارب فى الكبر شيراز، وأكثر خشب أبنيتها السرو (3)، وقال الاصطخرى: «فسا مدينة مفترشة البناء، واسعة الشوارع، تقارب فى الكبر شيراز، وهى أصح هواء وأوسع أبنية، وبناؤهم من طين» (4)، ولم يتعرض أحد من المؤرخين فيما أعلم إلى النشأة الأولى التى نشأ عليها أبو على الفارسى، فحياته من مولده إلى أن انتقل إلى بغداد سنة (307هـ) (5) مجهولة لا نعرف عنها شيئا، اللهم إلا ما يحدثنا به التاريخ عن أحوال فارس السياسية وهو أمر عام لا يتصل بالفارسى بخاصة، ولكنه على كل حال يلقى ضوءا على المؤثرات الأولى فى حياة الشيخ أبى على. ففي السنة التى انتهى فيها حكم المعتمد على الله أبى العباس أحمد بن المتوكل (288256هـ) (6) ولد الفارسى، وإلى أن انتقل أبو على إلى بغداد (307هـ) وفارس لا تستقر على حال من القلق، ففي سنة 288هـ دخل طاهر بن عمرو بن الليث بلاد فارس فى عسكره، وأخرجوا عنها عامل الخليفة، وفيها ولى المعتضد مولاه بدرا فارس، وأمره بالشخوص إليها لما بلغه أن طاهرا تغلب عليها فسار إليها فى جيش عظيم فلما قرب من فارس تنحى عنها من كان بها من أصحاب طاهر فدخلها بدر وجنى خراجها (7).
وفى سنة 290هـ يولّى طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث على فارس (8)، ويتشاغل بالصيد واللهو، ويمضى إلى سجستان للتنزه، فيخرج عليه قائد من أصحابه يعرف بأبى قابوس، ويوليه المكتفى فارس (293هـ) (9)، وتمر فترة قلقة يولى فيها الولاة على فارس، وسرعان ما يعزلون، وتكون وقعة بين طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث
__________
(1) معجم الأدباء لياقوت: 2/ 234.
(2) معجم البلدان (فسا).
(3) تقويم البلدان: 331.
(4) معجم البلدان: 6/ 376.
(5) وفيات الأعيان: 1/ 36.
(6) الفخرى: 2220.
(7) الكامل: 7/ 81.
(8) الكامل لابن الأثير: 7/ 188.
(9) الكامل: 7/ 194.(1/57)
وبين «سبكرى» غلام عمرو بن الليث، فيؤسر طاهر، ويوجه هو وأخوه يعقوب إلى الخليفة المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازى إلى بغداد أسيرين ويحبسان ويولى سبكرى على فارس (297هـ) ويقرر الخليفة أمره على مال يحمله (1).
ولا يستقر الأمر لسبكرى، ففي نفس العام الذى ولى فيه يتقدم الليث بن على ابن الليث من سجستان إلى فارس، ويستولى عليها، ويهرب سبكرى إلى أرجان، ويسيّرا الخليفة مؤنسا الخادم إلى فارس معونة لسبكرى، وبعد حرب يخفق فيها مؤنس يعول ابن الفرات وزير الخليفة على محمد بن جعفر فى فتح فارس، ويستولى عليها ابن جعفر، ثم لا يلبث حتى يموت (298هـ)، ويستعمل عبد الله بن إبراهيم المسمعى (2)، ولا يستقر به الحال حتى يعزل (300هـ) (3)، ويستعمل على فارس بدر الحمامى وفى سنة 304هـ يخالف أبو زيد خالد بن محمد على المقتدر بالله بكرمان وكان يتولى الخراج ويسير منها إلى شيراز يريد التغلب عليها، فيخرج إليه بدر الحمامى ويحاربه ويقتله، وتحمل رأسه إلى بغداد، ويطاف به (4).
وقد قصدت قصدا إلى اقتباس هذه الناحية التاريخية، وابتدأتها من ميلاد أبى على الفارسى (288هـ) إلى أن انتقل إلى بغداد (308هـ)، وكانت الحال من قبل هذه السنين لا تقل اضطرابا وقلقا ونزاعا بين القواد على ملك فارس (5)، ولا شك أن أبا على الفارسى سئم هذه الحال القلقة فى بلاده (4)، وتطلع كأمثاله إلى بغداد عاصمة الخلافة (5)، والتى يرد منها الولاة الذين يحكمون، والتى فيها الخلفاء والوزراء الذين يولون ويعزلون، وفى بغداد أيضا، العلماء والمتعلمون، والفقهاء والمتفقهون، ورؤساء المتكلمين (6)، والأطباء (7)، وسادة الحساب والنحوية، ومجيدو الشعراء، ورواة الأخبار والأنساب، وفنون الآداب، وحضور كل طرفة (8). ومن هنا كان علماؤها متجه المستفسرين من مختلف العواصم الإسلامية إلى ذلك الحين (9)، ولئن ضعفت الخلافة فى بغداد إنها لم تزل مع ذلك محتفظة بكيانها الثقافى، وصدارتها فى ميدان البحث العلمى فى ذلك العهد، الذى وفد
__________
(1) الكامل 8/ 20.
(2) الكامل 8/ 21.
(3) المصدر السابق 8/ 26.
(4) المصدر السابق 8/ 36.
(5) راجع الكامل لابن الأثير فيما قبل / 288هـ.
(6) تاريخ بغداد / 51.
(7) الكامل لابن الأثير 8/ 55.
(8) تاريخ بغداد 1/ 51.
(9) انظر الإمتاع 1/ 130.(1/58)
فيه أبو على، وقد كان وزراء الخلفاء يعقدون مجالس للبحث والمناظرات، كالذى كان فى مجلس الوزير ابن الفرات، وقد ذكر أبو حيان التوحيدى أنه كان فى مجلس ذلك الوزير، الخالدى، وابن الأخشاد، والكتبى، وابن أبى بشر، وابن رباح، وابن كعب، وأبو عمرو قدامة بن جعفر، والزهوى، وعلى بن عيسى الجراح، وابن فراس، وابن رشيد، وابن عبد العزيز الهاشمى، وابن يحيى العلوى، و،
«وكان ابن الفرات يعدّهم فى العلم بحارا، وللدين وأهله أنصارا، وللحق وطلابه منارا» (1).
وحتى العهد الذى انقسمت فيه المملكة الإسلامية إلى دويلات لم تكن المنافسة بين العواصم للقضاء على بغداد بل لتكون كل منها بغداد أخرى فى العلم والثقافة.
ويظهر أن الحال السياسية لفارس ما كانت تغرى العلماء بالاستقرار فيها، والإقامة بها، وهذا أبو بكر بن دريد أستاذ أبى على يهجر فارس إلى بغداد ويدخلها سنة 308 (2) فى وقت قريب من انتقال أبى على من بلاده إلى عاصمة الخلافة.
وشىء آخر أظنه دفع أبا على إلى الوفود على عاصمة العراق، ذلك هو العبقرية الدفينة فى شيراز على بعد أربع مراحل من نسا (3) ذلك سيبويه إمام النحاة، وناهيك به مثالا يقتدى، وسيرة تحتذى.
ثم كان بعد سيبويه ابن درستويه (347258هـ) وابن درستويه من بعد المعاصر القريب لأبي على، وقد علا شأن ابن درستويه فى بغداد، واشتهر علمه، وصار له تلاميذ منهم أبو طاهر، والكرمانى، وأبو على القالى ثم البغدادى (4) وابن درستويه إلى جانب ذلك من فارس، بل هو من فسا (5)
فهو فارسى فسوى مثل أبى على، والناس يحتذون النابغين من أبناء جلدتهم فليس ببعيد أن يحذو أبو على حذوه، ويقفو قفوه.
وإذ كان أبو على البغدادى ينتسب إلى قالى قلا رجاء أن ينتفع بذلك
__________
(1) الإمتاع 1/ 108.
(2) وفيات الأعيان ج 3/ 450.
(3) معجم البلدان 6/ 376.
(4) طبقات الزبيدى 131، 132، 205أيضا.
(5) معجم البلدان مادة فسا.(1/59)
عند العلماء فى بغداد (1)، ويمضى عليه من ذلك الحين القالى، فأحر بأبى على الفارسى أن يندفع إلى بغداد متطلعا إلى ابن درستويه، منتفعا بفارسيته وفسويته جميعا. ومن هنا ينزل أبو على فى صف شونيز ببغداد، وفى الجانب الغربى منها (2) حيث ينزل عبد الله بن جعفر بن درستويه، بل يكون جارا لابن درستويه بيت بيت (3)!!
انتقل الشاب أبو على إلى بغداد (307هـ) مدفوعا بهذه العوامل العامة والخاصة، ويبغى الشأو البعيد باتخاذ الوسائل إليه (4).
ومهما يكن من أمر فإن أبا على لقى ببغداد فى تلك السن المتهيئة لتلقى العلوم فى ضبط، ووعى، وإقبال، ورغبة. لقى شيوخ القراءة، والحديث، واللغة، والنحو، على التفصيل الذى سأورده بعد حين.
ومنذ ورود أبى على بغداد تتضح حياته، بانتقاله إلى عاصمة الخلافة التى تتوجه إليها الأبصار فى سائر الأمصار، وينصت لها التاريخ، وبارتباط حياته بهؤلاء الشيوخ الذين كانت لهم شهرة ذائعة فيما يدرسون من علوم.
وقد مكث فى العراق من 341307هـ، ويظهر أنه تصدر للإقراء والتدريس فى حياة أساتذته، فقد أخبر ابن جنى أن على بن عيسى الرومانى قرأ عليه كتاب الجمل وكتاب الموجز لابن السراج فى حياة ابن السراج (5).
ومن مسائله التى خلفها، استدل على أنه كان ينتقل فى مدن العراق ويحاضر طلابه، فله إلى جانب البغداديات (6)، البصريات، والهيثيات (7) والقصريات (8)
نسبه إلى قصر بن هبيرة بنواحى الكوفة (9)، ولا ننسى أنه مر بتلميذه ابن جنى وهو يقرئ النحو بجامع الموصل (10)، ويظهر أنه كان يزور فارس، ويعود إلى بغداد مراوحا فى ذلك بين الحين والحين. فقد زار فارس قبيل وفاة أبى بكر بن الخياط (320هـ) ثم رجع إلى بغداد بعد وفاة أبى بكر (11).
__________
(1) طبقات الزبيدى 205سأل الزبيدى أبا على: لم قيل له القالى؟ فقال: «لما انحدرنا إلى بغداد كنا فى رفقة فيها أهل قالى قلا فكانوا يحافظون لمكانهم من الثغر، فلما دخلت بغداد انتسبت إلى قالى قلا وهى قرية من منازجرد رجوت أن انتفع بذلك عند العلماء، فمضى علىّ القالى».
(2) وفيات الأعيان 1/ 325.
(3) الحلبيات ظهر ورقة 33/ 5نحوش.
(4) طبقات الزبيدى 131.
(5) 7/ 239معجم الأدباء 7/ 239.
(6) كشف الظنون 1/ 1667.
(7) المغنى 2/ 10.
(8) كشف الظنون 1/ 2670.
(9) روضات الجنات 220.
(10) نزهة الألباء 221.
(11) انظر معجم الأدباء 7/ 142.(1/60)
ثم أمضى فى تحديد بيئته المكانية بأزمانها فأقول:
هذه البيئة يطويها معاصره الزبيدى فى طبقاته طيا، وذلك إذ ينص على أن الفسوى: «كان عند ابن حمدان، فاستجلبه الديلمى لبنى أخيه خسره يؤدبهم، فأقام ببغداد، ثم توجه إلى شيراز (1). ويذكر ابن الجزرى أن أبا على صحب عضد الدولة، ثم لحق بسيف الدولة (2)، ومعنى ذلك أنه اتصل بعضد الدولة أولا، ولكن ترتيب ابن الجزرى تنفيه حقيقة التاريخ أولا، ونصوص ابن جنى ثانيا (3).
وتتردد الأسئلة الآتية أمام الباحث:
فى أية سنة فارق أبو على بغداد إلى سيف الدولة بن حمدان؟ وما نشاطه العلمى فى هذه المدة التى مكثها بالشام؟ ومتى فارق حلب؟ ولم فارقها؟ ألأن الديلمى استجلبه لبنى أخيه خسرو يؤدبهم كما يقول الزبيدى؟ أم لأنه مع ذلك لم يطب له المقام؟.
وكم سنة أقام ببغداد بعد رجوعه من حلب؟ ومتى توجه إلى شيراز؟ وماذا كان من أثره فيها؟ وكم سنة أقام بها؟ وماذا قدر لأمره بعد ذلك؟
هذه أسئلة ترددت فى نفسى استكمالا للصورة التى وددت رسمها لتنقلات أبى على، وظلت الإجابة عنها تخايلنى أمدا طويلا، وأخذت أبحث عنها فى مظانها ملتمسا قبسا من هنا، وقبسا من هناك، حتى استطعت رسم هذه الصورة على النحو الآتى:
كان قدوم الفارسى على حلب سنة 341هـ على ما يذكر ابن خلكان فى الوفيات (4)، وابن العماد فى الشذرات (5)، وقد اعتبرت هذا التاريخ بما ذكر ابن جنى فى كتابه الخصائص إذ يقول: أنشدنا أبو على (رحمه الله) لجرير:
سيروا بنى العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فما تعرفكم العرب
بسكون فاء تعرفكم.
أنشدنا هذا بالموصل سنة إحدى وأربعين (6)، وبما ذكره فى كتاب المحتسب:
فأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
__________
(1) طبقات الزبيدى 130.
(2) طبقات القراء 1/ 207.
(3) انظر الخصائص 1/ 76، والمحتسب 1/ 324.
(4) 361.
(5) الخصائص 1/ 76.
(6) المحتسب 1/ 423.(1/61)
يريد بمنتزح، وعليه قول عنترة أنشدناه أيضا سنة إحدى وأربعين بالموصل:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة (1)
اعتبرت ما يقوله ابن خلكان بما يقوله ابن جنى فى الخصائص، والمحتسب، فوقر فى نفسى أول الأمر أن أبا على لم يفد على حلب فى سنة إحدى وأربعين، ثم صدقت كلا من ابن جنى، وما ذكره ابن خلكان، عند ما نظرت فى المصور الجغرافى موضع الموصل وحلب، فوجدت أن أقرب طريق للذاهب من الموصل إلى حلب هو الذى بينها وبين الموصل. وأن المسافة بينهما تنفرج جنوبى الموصل وشمالها فلعل أبا على وابن جنى سلك أقرب طريق من الموصل إلى ابن حمدان فى عاصمة إمارته.
وغير خافية هذه الأسباب التى دعت أبا على الفارسى، وتلميذه ابن جنى إلى الذهاب لسيف الدولة، غير أنى أشير إليها فى كلمة سريعة موجزة:
(فأولا) قد بلغ الأمير سيف الدولة حينئذ الأوج فى عظمته، وإذا استشهدت بالتاريخ على ذلك وجدت أن المتنبى فيما يقول العكبرى قال قصيدته التى أولها:
ذى المعالى فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا، وإلا فلا لا
يذكر نهوض سيف الدولة إلى الثغر، وذلك فى جمادى الأولى سنة 346، وفى سنة 241بنى سيف الدولة مرعشا، وامتدحه عند ذلك أبو الطيب بقصيدة قال فى مطلعها:
فديناك من ربع، وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا (2)
(وثانيا) قد تحدثت الركبان، ونطق الزمان بما كان من إغداق سيف الدولة على قاصديه (3). وقد كان سيف الدولة لا ينتقر فى العطاء،
__________
(1) الخصائص 1/ 76والتكملة: زيّافة مثل الفنيق المكدم أراد ينبع والذفرى ما خلف الإذن، والجسرة الناقة الموثقة الخلق، والزيف المتبختر، والفعل زاف يزيف. والفنيق الفحل من الإبل يقول: ينبع هذا العرق من خلف اذن ناقة غضوب موثقة الخلق شديدة التبختر من سيرها مثل فحل من الإبل قد كدمته الفحول، شبهها بالفحل فى تبخترها ووثاقة خلقها وضخامتها. شرح المعلقات السبع للزوزني 146، 147.
(2) اعلام النبلاء للطباع الحلبى 1/ 258.
(3) أعلام النبلاء 1/ 277وما بعدها.(1/62)
فكان يجود حتى على أولئك الذين لا يجدون من القول ما يحسنون (1).
(وثالثا) كان سيف الدولة شيعيا (2)، وكان فى أبى على شيعيّة رأينا بواعثها من قبل، وسأتحدث عنها فى القريب إن شاء الله.
من أجل هذا تهيأت الظروف لأبى على أن يرحل إلى جوار الحمدانى، وبقى إلى جواره فترة كانت محفوفة بالدسائس والمكايد، فقد التقيا فيها بخصم عنيد، حبيب إلى قلب سيف الدولة، وذلك أبو عبد الله بن خالويه، وربما خشى ابن خالويه أن تضيع مكانته عند مولاه، وكان سيف الدولة مشغوفا بالمسائل اللغوية، يعرضها مستفسرا أو مختبرا. سأل سيف الدولة عن اسم ممدود جمع مقصورا، وكان بين الحاضرين أبو على، وأحمد بن نصر، وابن خالويه. فقال أحمد بن نصر: «أنا أعرف حرف حلفاء وحلافى فقلنا: «حلفاء جمع حلفة، وإنما سألت عن واحد»، فقال الفارسى: «أنا أعرف حرفا، أشياء وأشاوى» فقلنا: أشياء جمع. قال ابن خالويه:
«أنا أعرف أسماء ممدودة تجمع بالقصر»، قال: ما هى: قلت: «لا أقولها إلا بألف دينار» ثم ذكرت ذلك (3).
وقد ظهرت هذه المحاورات أيضا فيما حكاه الرواة من أن ابن خالويه اجتمع هو وأبو على الفارسى، فقال ابن خالويه لأبى على: نتكلم فى كتاب سيبويه، فقال له أبو على: بل نتكلم فى الفصيح!. ويحكى أنه قال لأبى على: كم للسيف اسما؟ قال:
اسم واحد! فقال له ابن خالويه: بل له أسماء كثيرة، وأخذ يعددها نحو الحسام، والمخذم. والقضيب، والمقضب. فقال له أبو على: «هذه كلها صفات» (4).
وتنعقد الصلة قوية بين المتنبى وابن جنى، وكلاهما منافس قوى لابن خالويه، ثم يكون ما يكون من انتصار سيف الدولة لابن خالويه، ومفارقته مغاضبا
وكان من الطبيعى ألّا يطيب المقام لأبى على الفارسى فى هذا الجو الخانق، وإذ كان سيف الدولة أعرض عن المتنبى وانتصر لابن خالويه، والمتنبى هو من
__________
(1) انظر اعلام النبلاء 1/ 285.
(2) أعلام النبلاء 1/ 279.
(3) المزهر بتصرف 2/ 226، 227.
(4) نزهة الألباء 208ويعرض ابن مسكويه فى كتاب الشوامل والهوامل لهذه المسألة موفقا بين الرأيين انظر ص 5.(1/63)
سيف الدولة، صداقة، وإذاعة شهرة، وطول عشرة أفلا يعرض عن الفارسى الوافد الطارئ، وليس فى حاجة ماسة إليه، ولديه ما يجزئ عنه: ابن خالويه؟.
فارق أبو على بلاط سيف الدولة، ولم يكن فى ذلك قاليا أو مغاضبا للأمير، ولكنه كان مرغما من تحامل ابن خالويه، وافترائه عليه، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقلة تحفظه فيما يرمى به أبا على، وذلك ما تحدثنا به المسائل الحلبيات (1).
ويبدو أن الصلة أصبحت قاصرة على المكاتبة ولا غير.
ويطوف أبو على فى بلاد الشام، ويمضى إلى طرابلس، ويقيم بحلب (2)، ويزور المعرّة، ويتصل برجالها وأهل العلم فيها اتصالا تلتمس فيه المبرة (3)، وتظفر منه الدراسة النحوية بالمسائل الحلبية (4).
ويفارق المتنبى صديق ابن جنى سيف الدولة، فلم يجد بلدا أقرب إليه من دمشق لأن حمص كانت من بلاد سيف الدولة، وكان ذلك سنة 346، فيما يقول البديعى فى الصبح المنبئ، ويبدوان أبا على وابن جنى نبت بهما حلب كذلك، فينزل أبو على بدمشق، ويظهر أنه أقام بها اقامة مكنته من أن يملى المسائل الدمشقية (5)، ويشير ابن جنى إلى أن أبا على كان بحلب كذلك سنة 346، ذكر ذلك فى الخصائص (6).
وهنا أعود مرة أخرى إلى عبارة الزبيدى حيث يقول: كان أبو على عند بنى حمدان فاستجلبه الديلمى لبنى أخيه خسره يؤدبهم فأقام ببغداد ثم توجه إلى شيراز فمتى كان استجلاب الديلمى أبا على؟ للإجابة عن هذا السؤال استمر متتبعا سيرة المتنبى، ومقايسا إياها بما يذكره التاريخ عن أبى على:
يخرج المتنبى من مصر حانقا على كافور 350هـ (7)، ثم ينتقل إلى العراق وفارس، ثم يكون فى شيراز عند عضد الدولة 354هـ (8).
__________
(1) انظر الكلام عن هذه المسائل فى هذا البحث.
(2) معجم الأدباء 7/ 233.
(3) المصدر السابق 7/ 255.
(4) كشف الظنون 1/ 1667.
(5) معجم الأدباء 7/ 741.
(6) انظر ص 284والمحتسب (انظر 1/ 75).
(7) الروائع 11.
(8) هامش العكبرى الصبح المتنبى 229والروائع العدد الخاص بالمتنبى 13.(1/64)
وفى تلك السنة كان أبو على الفارسى أيضا فى شيراز (1)، وكان إلى هذا الوقت لم تنعقد الصلة بينه وبين المتنبى، فقد كان كما يقول الرواة، يستثقل المتنبى على قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء (2)، فالقول بأن المتنبى جرت بينه وبين أبى على مجالس فى حلب لا دليل عندى عليه، ولكن ابن جنى كان ذا هوى لأبى الطيب، وقد أخذ يحتال على ابى على فى شيراز لا فى حلب حتى ربط بين الرجلين (3)، ولكن متى رجل أبو على إلى شيراز؟؟ وحتى متى ظل أبو على فيها؟
يبدو بصيص من النور يهدى إلى الإجابة عن هذا السؤال الأخير، فيما يرويه على بن عيسى الربعى إذ يقول: «كنت يوما عند المتنبى بشيراز (4)، فقيل له أبو على الفارسى بالباب، وكانت تأكدت بينهما المودة، قال: «بادروا إليه، فأنزلوه» فدخل أبو على وأنا جالس عنده فقال: «يا أبا الحسن: خذ هذا الجزء، وأعطانى جزءا من كتاب التذكرة، وقال: أكتب عن الشيخ البيتين اللذين ذكرتك بهما وهما:
سأطلب حقى بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التأموا مرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدوا، قليل إذا عدوا
وللربعى هنا أهمية عظيمة فى الاهتداء إلى المدة التى مكثها أبو على بشيراز ذلك لأن الربعى الشيرازى الأصل بدأ بقراءة مختصر الجرمى على السيرافى فى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة (5)، ثم انتقل من بغداد إلى شيراز فقرأ على أبى على الفارسى عشرين سنة، ثم رجع إلى بغداد، وقد ولد الربعىّ سنة 328وتوفى سنة (420) ببغداد (6).
وأول شىء نستنتجه من ذلك: أن أبا على أقام بشيراز السنين العشرين، توطدت فيها علاقته بعضد الدولة، ويؤلف له الإيضاح ثم التكملة، ويسايره فى ميدان شيراز، ويباحثه فى النحو وعلله، حتى صار غلامه فيه، وكان فيما يقول
__________
(1) انظر التدليل الآتي على هذه القضية.
(2) الصبح المنبئ 209.
(3) (انظر الصبح المنبئ على هامش العكبرى 1/ 210)
(4) الصبح المنبئ 1/ 212.
(5) حقائق التأويل 8887.
(6) حاشية الشيخ الأمير على المغنى 1/ 98.(1/65)
المؤرخون: يكرم العلماء ويدنيهم من حضرته ويعارضهم فى أجناس المسائل، ويفاوضهم فى أنواع الفضائل (1)، ويقرأ كل يوم جزءا من كتاب الايضاح للفارسى، وجزءا من كتاب أبى الحسين الرازى الصوفى فى النجوم (2)، على أن عبارة الربعى بعد ذلك تهدى إلى الإجابة عن السؤال الأول، وتعيّن السنة التى نزل فيها أبو على شيراز إذا ضمت إلى:
اما ورد فى كتب التراجم. ب وما حدث به التاريخ العام فماذا جاء فى كتب التراجم؟
قال ياقوت: لما خرج عضد الدولة لقتال ابن عمه عز الدين بختيار بن معز الدولة دخل عليه أبو على الفارسى فقال له: ما رأيك فى صحبتنا؟ فقال له: «أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء (3)» فمتى خرج عضد الدولة من فارس لقتال ابن عمه بختيار؟ ذلك ما تجيب عنه كتب التاريخ العام إذ يقول ابن مسكويه:
ودخلت سنة 366، وفى هذه السنة تحرك عضد الدولة نحو العراق، ورحل من فارس وكان ذلك لمحاربة بختيار (4).
ويعتذر أبو على من تخلفه بشيراز، ويمضى عضد الدولة من نصر إلى نصر، حتى يستولى على بغداد سنة 367هـ، ويخلع الطائع على عضد الدولة خلع السلطنة، ويتوجه بتاج من الجوهرة، ويطوقه، ويسوره، ويقلده سيفا، ويعقد له لواءين بيده: أحدهما مفضض على رسم الأمراء، والآخر مذهب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثانى لغيره من قبل، ولقب تاج الملة (5).
وتستقر الأمور لعضد الدولة فى بغداد، ويجد أبو على الفرصة سانحة للرجوع إلى عاصمة الملك، فيفارق شيراز كما يقول أبو حيان، ويلحق بالخدمة الموسومة به سنة 368هـ (6).
وإذن لو رجعنا إلى عشرين عاما وهى المدة التى قضاها أبو على فى شيراز قبل سنة 368هـ لرأينا أن أبا على ورد إلى شيراز سنة 348، وهو تاريخ يتفق هو ومفارقة سيف الدولة سنة 346، ولعله أقام ببغداد كما يقول الزبيدى فيما بين 346، 348.
__________
(1) ذيل تجارب الأمم ج 685.
(2) المنتظم لابن الجوزى 5.
(3) معجم الأدباء 7/ 236.
(4) تجارب الأمم لابن مسكويه 2/ 365وما حواليها.
(5) تاريخ الإسلام الذهبى حوادث سنة 367.
(6) الإمتاع 1/ 131.(1/66)
يمضى أبو على إلى العراق، ويعلو شأنه، ويكون هو واسطة العقد من أهل العلم، وإذ قد أجرى عضد الدولة سنة 366هـ الجرايات على القضاة، والمحدثين، والمتكلمين والمفسرين، والنحاة، والشعراء، والنسابين، والأطباء، والحساب، والمهندسين، وأدرّ الأموال على الأئمة، والمؤذنين، والعلماء، والقراء (1) فماذا يكون لأبى على من ذلك كله؟ يستشفع به القوم من الأقطار، ويبتغونه وسيلة إلى عضد الدولة (2)، ثم كان الوكيل عن الملك عضد الدولة فى عقد قران ابنته للطائع لله العباسى سنة 369هـ (3)، وهكذا يبلغ أبو على الشأو البعيد، ويشتهر ذكره فى الأقطار، وتقصده الوفود، وتتزاحم لديه على الورود (4).
وبعد فيجمل بى تلخيص بيئة أبى على المكانية بأزمانها على النحو الآتى:
فارس العراق حلب ودمشق
346341341307307288 - العراق فارس بغداد
377368368348348346 - ويتحدث ابن شاكر الكتبى عن اشتداد الغلاء فى هذه السنة (377هـ)، وما لحقه من فناء كثير (5)، ولست أميل إلى ربط شىء من ذلك بوفاة أبى على، فقد كان الرجل ميسور الحال، لا يؤثر فيه اشتداد الغلاء، ولكنه كر الغداة، ومر العشى، وكبر السن، ومجاوزته التسعين، وتكون خاتمة المطاف القدر المحتوم على كل حى، فينتقل أبو على إلى جوار ربه فى ربيع الأول سنة 377هـ
ويدفن عند قبر أبى بكر الرازى الفقيه (6) بمقابر الشونيزى، بالجانب الغربى من بغداد (7)، وفيها الواعظ الناسك سرى السقطى (8)، وابن أخته أبو القاسم الجنيد الخزاز القواريرى الزاهد المشهور (9) (على الجميع رحمة الله).
__________
(1) الكامل لابن الأثير 3/ 255.
(2) معجم الأدباء 7/ 255.
(3) انظر تجارب الأمم / 414نقلا عن تاريخ الإسلام للذهبى.
(4) مسالك الأبصار: ج 4مجلد 2/ 301.
(5) عيون التواريخ لابن شاكر الكتبى 20.
(6) أعيان الشيعة 21/ 11.
(7) وفيات الأعيان 1/ 325.
(8) تاريخ بغداد 1/ 122.
(9) وفيات الأعيان 1/ 325.(1/67)
هل تزوج أبو على؟
أسرته: لا أعرف لأبى على ولدا، فهل تزوج، أو أعرض عن الزواج البتة؟ لا أملك من النصوص ما يؤيد شيئا من ذلك أو ينفيه. أما الأمر الذى لا شك فيه فهو أنه لم يعقب، وذلك ما يدل عليه قول ابن جنى فى الخصائص، أقام على هذه الطريقة يشير إلى قوة قياسه وأنسه بها سبعين سنة، زائحة علله، ساقطة عنه كلفه،
«لا يعتاقه عنه ولد». (1)، وأرجح أنه لم يتزوج، فقد وصف ابن جنى أبا على بخلو سربه، وسروح فكره، وفروده بنفسه (2)، وهو وصف يكون للعزب الذى لم يتزوج، لا سيما إذا كان فى يسر حال، وسعة المال.
وإن كان أبو على لم ينجب، فإن الله عوضه عن ذلك بابنى أختين أخذا النحو عنه، ونشرا كتابه الإيضاح فى الآفاق.
أما أحدهما: فأبو الحسين محمد بن الحسين بن عبد الوارث النحوى (ت 421هـ)، عرف بالفضل (3)، ورث علم خاله وعليه درس حتى استغرق علمه، واستحق مكانه (4)، وأخذ عنه الإمام أبو بكر عبد القاهر الجرجانى، وليس للإمام الجرجانى أستاذ سوى أبى الحسين هذا (5). أوفده خاله أبو على إلى الصاحب بن عباد فارتضاه وأكرم مثواه، وقرب مجلسه (6)، ولما استأذنه للسفر أصحبه كتابا إلى خاله أبى على (7)، وقد كان لأبى الحسين قدم فى الشعر، وذلك شىء لم يدركه خاله، ومن أشعاره التى ذكرها الثعالبى فى اليتيمة يتضح أنه كان مغرما بالمحسنات البديعية، وإدخال المصطلحات النحوية (8)، فمن شعره:
وتربية المعروف شرط تمامه ... وهل تم شرط دون ذكر جزائه؟
وله تصانيف منها: كتاب الهجاء، وكتاب الشعر (9).
__________
(1) الخصائص: 1/ 285284.
(2) مقدمة المحتسب: 7.
(3) انظر نزهة الألباء: 226.
(4) يتيمة الدهر: 4/ 270.
(5) معجم الادباء: 18/ 187.
(6) يتيمة: الدهر 4/ 276.
(7) انظر معجم الادباء: 7/ 249وما بعدها.
(8) يتيمة الدهر: 40/ 372.
(9) انظر «ا» يتيمة الدهر للثعالبى: 4/ 274270 «ب» نزهة الألباء: 226 «ح» معجم الادباء: 7/ 251249، 18/ 187186 «ء» بغية الوعاة: 38.(1/68)
وأما الآخر فزيد بن على الفارسى النحوى، ولم ينص ياقوت على أنه ابن أخت أبى على (1)، وتبعه فى ذلك السيوطى فى البغية (2)، وعبارتهما: «اخذ أى زيد النحو عن أبى الحسين ابن أخت أبى على الفارسى» ولكن القفطى فى إنباه الرواة ينص على أنه ابن أخت أبى على (3)، وكذلك نقل ابن مكتوم بتلخيص أخبار النحويين اللغويين (4)، وبين عبارة ياقوت، ويتابعه السيوطى والقفطى تخالف:
ياقوت يقرئ زيد بن على على الشريف أبى البركات عمر بن إبراهيم الكوفى (5)، والقفطى ينص على أن أبا البركات الكوفى أخذ عن زيد بن على، ويبدو أن القفطى مصيب بآية قوله: «وعمّر أى زيد بن على إلى أن قرأ عليه الشريف أبو البركات الكوفى النحوى كتاب الإيضاح بحلب عند رحلته إليها من الكوفة فى شهر رجب سنة 455هـ، فإذا كان تعمير أبى زيد يمكن أبا البركات من القراءة عليه، فكيف يعكس الوضع فيكون أبو البركات شيخا، وزيد تلميذا؟ ويؤكد ما ذهب إليه القفطى أن أبا البركات ولد سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة (6)، ومعنى ذلك أن سنه كانت عند رحلته إلى الكوفة ثلاث عشرة سنة، وهى سن التلقى لا سن الإلقاء، وقد رد القفطى ما قال أبو القاسم الدمشقى فى كتابه مختصر ابن عساكر، حيث جعل وفاة زيد بن على سنة سبع وتسعين وأربعمائة (7)، وذلك قول القفطى:
«قلت فى هذا القول نظر فانه يكون قد مات قبل ذلك»، ويتفق القفطى فى ذلك مع ياقوت حيث ذكر فى المعجم أن وفاة زيد سنة سبع وستين وأربعمائة (8)، ووصف القفطى لزيد أنه كان معمرا سنة 455 (9)، يرجح تاريخ وفاته كما ذكر ياقوت، ويرجح قول القفطى أنه أخذ النصوص عن أبى على خاله.
وقد كانت لزيد بن على مشاركة حسنة فى النحو والأدب، شرح الإيضاح، كما شرح الحماسة (حماسة أبى تمام) (10)، وهكذا كان لكل من أبى الحسين وابن القاسم فضل إذاعة كتاب الإيضاح لخالهما على النحو الذى بينته من قبل فى إيجاز، وسأتحدث عنه بعد فى تفصيل.
__________
(1) معجم الأدباء: 11/ 177.
(2) 251250.
(3) 2/ 17.
(4) انظر ص 33.
(5) معجم الأدباء: 11/ 177.
(6) إنباه الرواة 2/ 326.
(7) انظر مختصر ابن عساكر: 6/ 25.
(8) 11/ 177.
(9) انظر إنباه الرواة 2/ 17.
(10) بغية الوعاة: 250وما بعدها.(1/69)
ويبدو أن شهرة أبى الحسين، فاقت شهرة أبى القاسم فقد عرف أبو الحسين «بابن الأخت (1)»، وهو دليل على شهرة أبى على أولا كما أنه دليل على شهرة أبى القاسم، ثانيا لانفراده بهذا التعريف الذى يغنى عن التسمية دون أبى القاسم.
هذا مبلغ العلم بأسرة أبى على: أبيه، وأمه، وهذين العالمين الجليلين، أبى الحسين وأبى القاسم. أملى خالهما ذكرهما على التاريخ، وروى أخبارهما الزمان، وكان لأبى الحسين بخاصة الفضل على عالم جرجان، وفارس المعانى والبيان الإمام عبد القاهر الجرجانى.
يسره
هناك من الدلائل ما يثبت أن أبا على كان غنيا: فهو أولا قرأ على مبرمان كتاب سيبويه، وكان مبرمان لا يقرئ أحدا الكتاب إلا بمائة دينار (2). ثم هو ثانيا كان يصطنع فى حياته ما يصنعه الأغنياء المترفون: ايتخذ الغلمان (3).
ب ويملك الدواب (4)، ح وينزل إلى السميريات حين يتنقل ببلاد العراق (5). ثم هو ثالثا: قد عاش ما عاش خالى السرب، وقد انبتت علائق الهموم عن قلبه (6) وحط من أثقاله (7)، وهو أخيرا اتصل بالملوك (8)، ونفق عندهم (9)، فاجتمع له من الأموال حتى قالوا انه أوصى بثلث ماله لنحاة بغداد، فكان ثلاثين ألف دينار (10).
هذه الدلائل تشير إلى يسر أبى على، وانتقل بعد ذلك إلى أثر من آثار غناه، ذلك زيه ونظافته.
__________
(1) كشف الظنون: 1/ 139.
(2) بغية الوعاة: 34.
(3) انظر معجم الأدباء: 18/ 207.
(4) انظر انباه الرواة 2/ 119.
(5) نزهة الالباء: 221.
(6) المحتسب لابن جنى: 1/ 7.
(7) الخصائص لابن جنى: 1/ 285.
(8) نفس المصدر: 1/ 285.
(9) معجم الأدباء: 7/ 234.
(10) طبقات القراء: 1/ 207والمقام يقتضى صحة ما ذكره ابن الجزرى فى الطبقات لا ما ذكره أبو المحاسن الميمنى فى إشارة التعيين حيث قال إن الوصية كانت بثلاثين ألف درهم.
انظر إشارة التعيين فى ترجمة ابي على مخطوط تاريخ رقم 1612دار الكتب المصرية.(1/70)
زى أبى على ونظافته
كانت الطيالسة ملابس عامة الناس ذكر ذلك المقدسى فقال: «يلبس العوام ثياب السود،» ويكثرون التطلس، ويسطلون العمائم، وليس لأهل الطيالسة بشيراز مقدار إنما هو لأصحاب الدراريع (1)، وقال فى موضع آخر: لا ترى على مجوسى غيارا، ولا لصاحب طيلسان مقدارا، ولقد رأيت أهل الطبالس سكارى (2).
ويبدو كذلك أن التطلس يكون شتاء، ذلكم ما يشير إليه مثال أبى على فى الإيضاح:
«جاء البرد والطيالسة (3)»، وبعيد أن يتزيا أبو على بالعمائم الشهجانية الواردة من مرو شهجان، فقد كانت هذه للفقراء من عامة الناس كما يؤخذ من قول أبى شجاع (4).
ولا شك فى أن أبا على كان يتزيا بزى الشيوخ والوجهاء فى عصره، من لبس العمامة والدراريع (5)، وكان هناك نوع من الفرجيات مبطنة بالوبر يجلب إلى عضد الدولة من البلاد البعيدة (6)، فلعل مثل هذه الفرجيات قد وصل شىء منها إلى أبى على، يجلبها شاريا إذ كان ذا مال، أو ينالها هبة لأنه كان أثيرا عند عضد الدولة، وقد استهدى تلميذه أبو إسحاق الفارسى جبة خز بيضاء، مما يدل على تفضيل ذلك اللون من الثياب (7).
هذا وفى ثلاثة الأبيات التى رويت عن أبى على ما يدل على أنه كان يخضب شيبه، الذى بدا فى رأى العين ذميما (8).
وهناك من النصوص ما يستنتج منها ما كان عليه أبو على من النظافة، وحسن السمت:
(ا) فهو فارسى والفرس أهل النظافة، وتأليف الطعام، والطيب، واللباس (9).
(ب) وفسا مولد أبى على ليس فى إقليم فارس أنزه، ولا أطيب،
__________
(1) أحسن التقاسيم: 440.
(2) المصدر السابق: 421.
(3) الايضاح: 61.
(4) انظر ذيل تجارب الأمم لأبي شجاع: 43.
(5) انظر أحسن التقاسيم: 440. والدراريع أثواب لا تكون إلا من صوف.
(6) ذيل تجارب الأمم: / 74.
(7) معجم الأدباء: 1/ 204.
(8) انظر مثلا معجم الأدباء: 7/ 252.
(9) القصد والأمم: 21.(1/71)
ولا أجود أهلا، وأحسن فواكه منها وقل فى طيبها وخيراتها ما شئت (1).
ويقول عنها ياقوت: «إنها أنزه مدينة بفارس فيما قيل» (2).
(ج) وأبو على يحتذى حذو سيبويه، ويقفو قفوه، ويقدره حق قدره، ومن المرجح أن يكون قد تأثر بسيبويه فى العناية بزيه، وهيئته، إلى جانب ما هو عليه من طبيعته.
(د) وقد وجد فى تذاكير عضد الدولة ما يدل على حسن سياسته فى تربية أولاده، وتهذيب من يلوذ بهم، ويكون فى جملتهم (3)، وقد استجلب عضد الدولة أبا على لبنى أخيه خسرو يؤدبهم (4)، ثم كان أبو على وثيق الصلة بعضد الدولة يجالسه، ويسايره فى ميدان شيراز، ولا يكون كذلك إلا إذا كان حسن السمت، يأخذ نفسه بما يجب على مصاحب الملوك، من آداب.
(هـ) وقد كان أبو على يستثقل المتنبى، ويزرى عليه قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبر (5)، ورجل ينظر إلى قبح الزى هذه النظرة. لا بد أن يكون جميل المظهر، نظيف الثياب.
هذا وقد كان لامتزاج الفارسية بالعربية فى دمه، أثر فى قوة بنيته، وإلى تلك يشير قول الشريف الرضى فى رثائه:
«قرم يهد الأرض إن تخمطا» (6)
كما يستنتج من قول ابن جنى: «ومغداه، ومراحه مقصوران على حفظ بنيته (7) يستنتج أنه كان معنيا بصحته، إلى أن طول عمره حتى تخطى التسعين، يؤيد هذا الذى ذهبت إليه».
__________
(1) أحسن التقاسيم: 431/ 432.
(2) معجم البلدان: 6/ 376.
(3) ذيل تجارب الأمم: 3/ 70.
(4) طبقات الزبيدى: 130.
(5) الصبح المبنى على هامش شرح العكبرى: 210.
(6) أعيان الشيعة: 21/ 35.
(7) المحتسب: 71.(1/72)
أخلاقه
وقد تجمع لدى من النصوص ما هديت به إلى التعرف على أخلاق أبى على، وبمناقشة هذه النصوص واعتبارها بما كان يضطرب فيه أبو على من البيئة العامة والخاصة، أستطيع أن أرسم صورة واضحة المعالم لما كان عليه الرجل من أخلاق:
(ا) فالنصوص تتحدث عن صدق أبى على (1) فى نفسه (2).
(ب) وترفعه عن الكذب (3).
(ج) وأنه كان يتجمل بما يتجمل به أهل البرّ بذوي القربى، من سعى فى الخير لذوى رحمه، فهذا ابن أخته أبو الحسين يوفده إلى الصاحب بن عباد، ويوصى به خيرا، فيكرم ابن عباد وفادته، ويقرب مجلسه، ويفيد أبو الحسين من هذه الرحلة، ويعلو مكانه حتى يصل إلى مرتبة الوزارة، فيزر للأمير إسماعيل بن سبكتكين (4).
وقد استشهدت على أمانة أبى على العلمية، وأفردت لها مكانا خاصا من البحث.
(د) والفارسى أبو على من غير شك، يندفع بفارسيته إلى النزوع نحو المجد، والتطلع إلى إحياء مجد الفرس القديم، والشعور العنيف باسترجاع هذه العزة الغابرة ولعله فى ذلك كما قال مهيار:
«أعجبت بى بين نادى قومها» أربعة الأبيات (5).
(هـ) وفى النصوص ما يدل على عدم وفائه، حدث الشيخ أبو العلاء قال:
«أن أبا على مضى إلى العراق، وصار له جاه عظيم عند الملك فناخسرو، فوقعت لبعض أهل المعرة حاجة فى العراق، احتاج فيها إلى كتاب من القاضى أبى الحسن سليمان إلى أبى على فلما وقف على الكتاب قال: «إنى قد أنسيت الشام وأهله، ولم يعره طرفه» (6) ولكن: ألا يمكن التماس العذر لأبى على من موقفه هذا الذى وقفه بالنسبة لأهل المعرة؟ فقد كان أبو على فى رحلته إلى الشام منغص العيش بمنافسة ابن خالويه، وقد رأينا كيف كان ابن خالويه يدس له، ويوقع به، ويفترى عليه، وكيف بلغت بينهما الخصومة إلى الحد الذى رمى به كل منهما الآخر بأنه
__________
(1) معجم الأدباء: 7/ 253.
(2) لسان الميزان لابن حجر: 2/ 195.
(3) يتيمة الدهر: 4/ 270.
(4) المصدر السابق: 271.
(5) ديوان مهيار ط دار الكتب: 1/ 64.
(6) معجم الادباء: 7/ 355، 256.(1/73)
لا يفهم (1)، والأمير سيف الدولة ضالع مع ابن خالويه ينصره على منافسيه (2)، ويستدعى عضد الدولة أبا على (3)، ويفارق الشيخ الشام، وفى ذهنه هذه الصورة التى تمثل هذه الحقبة القلقة التى تبغضه فى الشام، وأهل الشام فإن جاءته رقعة يلتمس فيها بعض أهله بذل العون، فلا شك أن ذلك يعيد إلى ذهنه هذه الحقبة بما فيها من مكايد وآلام، فتتراءى أمام عينيه قلقا، وحسدا، وسدما، ويحاول أن ينسى، وينطق بأنه نسى الشام، ومن يسكن الشام.
(و) ونصّ يدل على أن أبا على كان يكره الحروب، ولم يتمرس بالقتال، ذلك ما حدث به التاريخ: أنه لما خرج عضد الدولة لقتال ابن عمه عز الدولة، بختيار بن معز الدولة، دخل عليه أبو على، وقال له: «ما رأيك فى صحبتنا؟»، فقال له: «أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء فخار الله للملك فى عزيمته، وأنجح قصده فى نهضته (4).
ويجب أن ندخل فى حسابنا عند النظر فى هذا النص، ومناقشته سن أبى على حينئذ، فمتى خرج عضد الدولة لقتال ابن عمه؟ وكم سن أبى على إذ ذاك؟ التاريخ يحدثنا أن خروج عضد الدولة لقتال ابن عمه كان سنة 366هـ (5)، ومعنى هذا أن أبا على كانت سنه فى هذا العام ثمانية وسبعين عاما، فماذا يصنع هذا الشيخ الفانى فى ميدان يجول فيه الموت، وتصافع المنايا فيه النفوس، ومن هنا يفهم جواب أبى على بأنه من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء (6).
وقد رويت أخبار لأبى على تدل على أنه كان رعديدا فقد غلس أبو على يوما إلى الصلاة فى المسجد، فقام إليه عبد الله بن حمود الأندلسى من مذود كان لدابة أبى على خارج داره، وكان عبد الله قد بات فيه ليدلج إليه قبل الطلبة طلبا للسبق، والأخذ من علمه فارتاع منه أبو على، وقال له: ويحك من تكون؟ قال:
إنى عبد الله الأندلسى، فقال: إلى كم تتبعنى! والله إن على وجه الأرض أنحى منك! (7) حقيقة أن الخوف فى هذه الحال من الأمور المتوقعة من كل من كان
__________
(1) الحلبيات: 38.
(2) انباه الرواة: 1/ 327.
(3) طبقات النحويين: 130.
(4) معجم الادباء 7/ 237236.
(5) تاريخ المسلمين للشيخ جرجس بن العميد: 232.
(6) معجم الأدباء: 7/ 236.
(7) انباه الرواة: 9/ 119.(1/74)
فى مثل أبى على من المفاجأة، ولكن ارتياعه على هذه الصورة، ثم صرفه الأندلسى بما قال دليل عندى على طبيعة الجبن المتأصلة فى نفس أبى على.
وبعد: فهل يتفق هذا مع ما أورده الزبيدى عن أبى عبيدة فى طبقاته: لا يكون نحوى شجاعا؟! وقد عللوا ذلك بأن النحوى يفرق بين الساكن والمتحرك، ولا يفرق بين الموت والحياة (1)، وأرى أبا عبيدة مخطئا فالشجاعة أمر يتعلق بالطبيعة الموهوبة، ولا صلة لها بالصفة المكتسبة.
ومن طبيعة الجبان الرعديد أن الظفر يستخفه، فتراه يرقص، أو يصفق معلنا انتصاره وفلجه، شىء يختلف فيه عن الشجاع الصنديد الذى يتلقى النصر فى ثبات واطمئنان، وأذكر هنا خفة أبى على عند ما انتصر على أكبر تلاميذ ابن الخياط، فأخذ يصفق قائما فى المسجد (2).
(ك) هذا وقد روى عن أبى على من الأخبار ما يجعله من أهل المجانة فقد كان يتعشق محمد بن طويس القصرى، ويخصه بالطرف، ويحرص على الإملاء عليه، والالتفات إليه، وبه سميت المسائل القصريات (3).
ويبدو أن شيئا من ذلك كان شائعا فى الدولة الإسلامية حينئذ بدليل أن الحنابلة سنة 121قاموا ينصرون حدود الله، ويمنعون الناس الرذيلة، واعترضوا فيما يقول أبو الفداء فى البيع والشراء، وفى مشى الرجال مع الصبيان (4).
وقد اتهم أبو حيان أبا على بأنه كان يشرب، ويتخالع، ويفارق هدى أهل العلم، وطريقة الربانيين، وعادة المتنسكين (5)، ولا يبعد أن تكون هذه التهمة صحيحة فقد عاش أبو على ردحا من الزمن فى شيراز التى اشتهرت بنبيذها وصار يصدر إلى البلاد البعيدة (6) والتى يقول فيها المقدسى: رسوم شيراز على الإسلام عار، (7) ثم هو تلميذ على ابن دريد، الذى يقول عنه تلاميذه: كنا ندخل على ابن دريد، ونستحى منه لما نرى من العيدان المعلقة، والشراب المصفى موضوع وقد جاوز التسعين (8).
وكان ابن دريد كذلك يتعلق «بالوضىء» من الغلمان (9)، وربما كان لصحبة
__________
(1) طبقات الزبيدى: 119.
(2) معجم الأدباء: 7/ 235.
(3) معجم الأدباء: 18/ 207.
(4) تاريخ أبي الفداء: 1/ 87.
(5) الامتاع والمؤانسة: 1/ 132.
(6) حضارة العرب تأليف غستاف لوبون: 217.
(7) أحسن التقاسيم: 34.
(8) معجم الأدباء: 18/ 130.
(9) معجم الأدباء: 18/ 139.(1/75)
أبى على الطويلة لعضد الدولة أثر فى ذلك، فقد كانت حياة ذلك الشاب خليطا من الهدى، والمجون، قالوا: كان إذا تنبه جدد الوضوء، وخرج إلى مجلس الشرب فجلس، وحضر الندماء والملهون (1).
هذا ولا أرى فى حديث أبى على عن الخمر فى كتابه الحجة ما يدل على معاقرتها.
فقد قال فى تفسير قوله تعالى: {«كََانَ مِزََاجُهََا كََافُوراً»} (2). المعنى أنها فى طيب الرائحة، وسطوعها، وأرجها كأرج المسك والكافور. فأما قوله تعالى: {«كََانَ مِزََاجُهََا زَنْجَبِيلًا»} (3)، فإنه يدل على لذاذة المقطع لأن الزنجبيل يحذى اللسان، وزعموا أن ذلك من أجود الأصناف للخمر عند العرب (4)
فوصفه لذاذتها من مزج الزنجبيل الذى يحذى اللسان، ليس معناه أنه جرب وتلذذ بما يلذذ الشاربين، فقد احتاط الرجل بقوله وزعموا الخ، والله أعلم بعد ذلك بحقيقة ما كان.
(ى) وبعد: ففي وصاته بثلث ماله لنحاة بغداد (5) ما يدل على حبه لهذه الطائفة وحدبه عليها، وبره بها مشاركة منه لأهل الصنعة، ورغبة منه فى تخفيف ما يجدون.
أمانة أبى على العلمية
ومما يتصل بالحديث عن أخلاق أبى على تلك السمة التى تطالعك فى كتبه واضحة لا تحتاج فى إدراكها إلى كبير عناء، تراها فى الحجة، والإيضاح، كما تبدو فى مسائله المختلفة، تلك أمانته العلمية، التى تتجلّى فى توقفه فيما يرويه، وتحرجه وتأدبه وتحريه، ينسب المنقول شواهد، وأقوالا، وخطا، ويعين المكان والكتاب، ويذكر الحسبان والظن، ويلقى العهدة على من روى، ويتحامى الادعاء فى إثبات ما علم، ونفى ما لم يعلم، فيقرر أنه لم يعلم كذا، أو لم يسمع، أو لم يحفظ، ويستثبت شيوخة ليتيقن، ويشير إلى الرأى فى غير إصرار، ويعلن أنه لا يدرى.
1 - يعزو الشعر إلى قائله أو منشده (6).
__________
(1) ذيل تجارب الأمم: 41.
(2) سورة الدهر: آية (5).
(3) سورة الدهر: آية (17).
(4) الحجة: 1/ 204مراد ملا.
(5) طبقات القراء: 1/ 207.
(6) انظر مثلا لوحة 35من البغداديات، وقد فتحت الكتاب على سبيل الاتفاق فرأيته فى هذه اللوحة ينسب إلى الفرزدق وجرير وذى الرمة وأبي زيد.(1/76)
2 - ويقول حدثنا فلان وفلان من شيوخه (1).
3 - ويقرر مثلا أنه وجد المنقول بخط السكرى (2).
4 - ويقول: قال الجرمى فيما قرئ علينا بالبصرة فى الفرخ (3).
أو يقول: وقد كان أبو بكر ذكر لنا فى كتابه ديوان النابغة، من رواية الأصمعى، وفيما قرأنا عليه كذا وكذا (4).
5 - وتارة يقول: وأنشد أبو بكر من الأصمعى أحسب (5). أو أظنه الأعرابى، أو أكثر ظنى أن الأصمعى قد ذكر فى كتابه المترجم بالألفاظ (6) وأنشد.
أبو مالك فيما يغلب على ظنى (7). أو كذلك أظنه قال (8). أو أرى أنه حكى لى كذا (9)
6 - أو يقول: هذا أول القصيدة وابتداؤها على ما حكى لى (10)، ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو (11)، ولم أحفظ من ينباع فعل يفعل (12)، أو لم أعلم تخذت تعدى إلا إلى مفعول واحد (13)، ولست أعرف الكناية عن معنى الجملة لأحد من أصحابنا إلا شيئا أجازه أبو عثمان فى كتابه الأخبار على تمريض (14).
7 - أو يقول: هذا لفظ أحمد بن يحيى، واستثبت أبا الحسن فى ذلك فأثبته وصححه، ولم أعلم لأصحابنا فى هذه المسألة نصا (15).
أو يقول: حكى لى أحلت عينه، ولست منها على ثقة (16).
8 - أو يقول فى بيت عنترة:
هل تبلغنى دارها شدنية ... لعنت بمحروم الشراب مصرّم (17)
لعنت عليها، فيكون الجار على هذا متصلا على ما رآه الساعة بتبلغنى (18).
__________
(1) انظر مثلا الحجة: 1/ 162، 164، 236مراد ملا.
(2) الحجة: 1/ 242بلدية.
(3) البصريات: 83وانظر 64أيضا.
(4) البغداديات: 26.
(5) البصريات: لوحة 57.
(6) البغداديات: 35.
(7) الشيرازات: 39.
(8) الشيرازات: 41.
(9) المخصص: 8/ 23.
(10) البصريات 85.
(11) الحجة 1/ 279البلدية، 208مراد ملا.
(12) البصريات: لوحة 55.
(13) الحجة 2/ 67البلدية.
(14) البصريات 65.
(15) الحجة 1/ 226البلدية.
(16) المخصص: 1/ 101.
(17) شرح المعلقات السبع للزوزني 143.
(18) البصريات: 55.(1/77)
9 - ثم لا يستحى أن يقول لا أدرى. قال فى زلجى: لا أدرى أفعل هى أم اسم.
هذه نزعة أبى على وفاء بحق الأمانة العلمية فى مظاهرها المختلفة، حتى تستطيع فى يسر أن تميز أقواله من أقوال غيره، على يقين فى هذا التمييز وبصيرة، وقد نص هو على ذلك فى كتابه إلى الصاحب بن عباد، وقد أهدى إليه كتاب الحجة إذ يقول: «فما تضمن من أثر، وقراءة، ولغة، فهو من المشايخ الذين أخذت عنهم، وأسندت إليهم» (1).
وكذلك كان شأنه فى كتبه التى اطلعت عليها.
فإذا ذهبت ألتمس تعليلا لهذه النزعة وجدت من أسبابها:
(أولا) أنه محدّث (2)، والمحدثون يلتزمون الصدق، والأمانة، والتحرى فى الرواية، والإسناد فيما يحدثون، وقد وصفه ابن حجر بأنه صدوق فى نفسه (3).
(ثانيا) أن العلماء قد توارثوا هذه النزعة، ورويت عنهم أقوال مأثورة فى الاعتراف بفضل القدامى، فهذا أبو عمرو بن العلاء يقول: «إنما نحن بالإضافة إلى من كان قبلنا كبقل فى أصول رقل» (4).
وقال يونس لأبى زيد: يا أبا زيد! كم من علم استفدناه فكنت أنت سببه (5)، واستحسن إبراهيم بن المهدى كتاب إسحاق بن إبراهيم فى النغم واللحون قائلا: أحسنت يا أبا محمد، وكثيرا ما تحسن. فقال إسحاق: بل أحسن الخليل لأنه جعل السبيل إلى الإحسان (6)، وشىء مثل ذلك يروى عن السيرافى (7). وقد ظهرت هذه النزعة عند شيوخه الذين أخذ عنهم كابن السراج (8)، أو تأثر بهم كسيبويه (9)، وأبى حاتم (10)، وأبى الحسن (11).
__________
(1) معجم الأدباء: 7/ 240239.
(2) تاريخ بغداد: 7/ 275.
(3) انظر لسان الميزان: 2/ 195.
(4) نزهة الألباء: 18.
(5) المغنى: 2/ 112.
(6) طبقات النحوين واللغويين: 46.
(7) انظر معجم الأدباء: 8/ 154.
(8) انظر الحجة: 1/ 39بلدية.
(9) انظر الكتاب: 1/ 318، 2/ 315وسيبويه امام النحاة 181.
(10) انظر نوادر أبي زيد: 16.
(11) انظر كتاب مسائيه: 235.(1/78)
وما كان لأبى على وهذا مسلك أساتذته، أن يتخلى عن هذه الفضيلة فيما يحكيه ولا يزال الناس بعد أبى على يتواصون بهذه الأمانة العلمية حتى قالوا:
«من بركة العلم وشكره عزوه إلى أهله» (1).
وقد عرف ابن جنى هذه النزعة فى أستاذه، وقد نقل ذلك السيوطى (2) عن الخصائص (3).
(ثالثا) أن أبا على حين أورد أقوال القدامى فى أمانة لم يقف أمامها مختفية شخصيته بل ناقش، واعترض، ورد، وأورد الدليل، وصحح، ورأى، ونظر، وأكد، ورجح، واستشهد، ولا يتأتّى شىء من ذلك فى قوة إلا إذا كان مصحوبا بذكر آراء غيره منسوبا إليه على قدر علمه به فى شك أو يقين.
عقيدة أبى على
(ا) اعتزاله:
أول المصادر التى تحدثت عن اعتزال أبى على فيما أعلم الخطيب البغدادى (ت 462هـ) فى تاريخ بغداد، وقفى قفوه المؤرخون من بعده كابن الانبارى (577هـ) فى نزهة الألباء، وياقوت (626هـ) فى معجم الأدباء، والقفطى (646هـ) فى إنباه الرواة، وابن خلكان (681هـ) فى وفيات الأعيان
والعبارة التى تجرى فى كتب هؤلاء المؤرخين: «إن أبا على كان متهما بالاعتزال» وقال ابن الأثير فى الكامل وقيل كان معتزليا (4)، وتبعه أبو الفداء فى تاريخه (5)، ويثير التساؤل قول هؤلاء المؤرخين: «إن الاعتزال تهمة» فهل لذلك من تفسير؟ التاريخ يحدثنا عن المعتزلة وسلطانهم عصر المأمون الذى قال بخلق القرآن كما قال المعتزلون، وكذلك بقى سلطانهم فى عصر المعتصم (6)، وقد نهج الواثق (732هـ) نهج عمه المأمون فى حبه للنظر، وبغضه التقليد، وكان يعقد مجالس المناظرة بين الفقهاء والمتكلمين، ومن أجل ذلك أخذت مسألة خلق القرآن فى عهده شكلا حادا (7)، وكان يتشبه بالمأمون فى حركاته وسكناته (8).
__________
(1) انظر المزهر: 2/ 319.
(2) انظر المزهر: 2/ 417.
(3) انظر 2/ 608وما بعدها.
(4) 9/ 19.
(5) 2/ 131.
(6) ضحا الإسلام: 3/ 13.
(7) تاريخ الأمم الإسلامية: (الدولة العباسية 253).
(8) الفخرى: 209.(1/79)
وجاء المتوكل (ت 247) ولم يكن محبا للجدل أو النظر، فأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث، وإظهار السنة والجماعة (1)، ومن هنا ضعف شأن المعتزلة، وأخذ سلطانهم يضمحل.
وقدر لمذهب أهل السنة أن يظهر بجهود أبى الحسن الأشعرى (2)، فى حدود الثلاثمائة، وكان أول أمره معتزليا ثم خرج على المعتزلة (3)، بعد أن تسلح بالأسلحة المنطقية التى أمدوه بها، وحاربهم بها بقية حياته (4)، ودفع الكتب التى ألفها على مذاهب أهل السنة، وكان المعتزلة قبل ذلك قد رفعوا رءوسهم فحجرهم الأشعرى حتى دخلوا فى أقماع السماسم (5).
وإذا كان الأشعرى معاصرا لأبى على الفارسى (توفى الأشعرى 324هـ)، وإذ بلغ ذيوع مذهب أهل السنة، واندحار المعتزلة هذا المبلغ الذى ذكره ابن خلكان، فلا غرو أن يستر المعتزلون اعتزالهم، ولا يظهره إلا ذو وسوسة أو جنون، كالذى كان من سيبويه المصرى الموسوس (ت 358هـ) فيما يروى ابن زولاق فى أخباره من أنه كان يظهر الكلام فى الاعتزال فى الطرق والأسواق فيحتمل، لما هو عليه، حدثنى من حضره يوم الجمعة فى سوق الوراقين فى جمع كبير، وفى الحاضرين موسى بن رباح الفارسى المتكلم أحد شيوخ المعتزلة المشهورين، فكان سيبويه يصيح ويقول الدار دار كفر!، حسبكم أنه لم يبق فى هذه البلدة العظيمة أحد يقول القرآن مخلوق إلا أنا!، وهذا الشيخ أبو عمران (أبقاه الله)، فقام أبو عمران يعدو حافيا خوفا على نفسه حتى لحقه رجل بنعله!! (6)
ومن هنا كان الاعتزال تهمة، وذلك تأويل ما نص عليه المؤرخون إذا ما ذكروا عقيدة الفارسى من أنه: «كان متهما بالاعتزال».
بعد أن بينت السر فى توارث المؤرخين بأن أبا على كان متهما بالاعتزال، بقى أن أحقق اعتزاله، هل كان معتزلا حقا؟ ذلك لأن عبارة المؤرخين لا تنص صراحة على أنه كان معتزليا، اللهم إلا ما ذكره أبو الفتح منصور بن المعذر
__________
(1) المسعودى: 2/ 288.
(2) مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبرى زادة: 2/ 37.
(3) تاريخ الفلسفة دى بور ترجمة أبي ريدة: 65.
(4) وانظر تاريخ الإسلام السياسى: 3/ 229.
(5) وفيات الأعيان: 2/ 447.
(6) كتاب أخبار سيبويه المصرى: 18.(1/80)
الأصفهانى المتكلم، فقد عدّ أبا على الفارسى من المعتزلة النحويين (1)، ولست هنا فى معرض تاريخ الاعتزال، ونشأته، وعقائد المعتزلين، وإنما المهم عندى أن أبين فى إيجاز الخطوط الرئيسية الكبرى لتعاليم المعتزلة ومذاهبهم، وأن أعرض بعض ما هديت إليه من كلام أبى على متصلا بعقيدته، وأبين مدى ارتباطه بآراء المعتزلة، فيستبين لى بعد ذلك ما اتهم به، أو أنفى عنه ما نسب إليه.
وقد بين الشهرستانى (ت 548هـ) ما يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد (2)، وسأورد ما يقولون به، وأقابله بما قال أبو على.
فهم يقولون بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف ذاته (3).
ويقول أبو على: «وأما قولنا فى صفة القديم (سبحانه) المؤمن المهيمن، فإنه يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون من أمن المتعدى إلى مفعول، فنقل بالهمزة، فتعدى إلى مفعولين، فصار من أمن زيد العذاب، وأمنته العذاب، فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه، وفى هذه الصفة، وصف القديم (عز وجل) كما قال بالقسط.
والآخر: أن يكون معناه المصدق، أى المصدق الموحدين له على توحيدهم إياه (4)
وفى كلام أبى على إشارة كذلك إلى العدل الذى وصفوا أنفسهم بأنهم أهله، وأبو على حريص على التعبير عن الله (عز وجل) بالقديم، ويتكرر ذلك فى كتبه تكررا واضحا (5).
وكان المعتزلة يقولون: «إن الاعتقاد بقدم القرآن إلى جانب قدم الله شرك (6).
__________
(1) معجم الأدباء: 3/ 244.
(2) تحدث عن ذلك بوضوح أبو الحسن الأشعرى (ت 324هـ) المعاصر لأبي على فى كتابة مقالات الاسلاميين واختلاف المضلين (ص 156155) ولكنى آثرت الاعتماد على الشهرستانى لاختصاره. وانظر (مروج الذهب للمسعودى: 2/ 191190) والقسم الأول من كتاب الملل والنحل تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستانى تحقيق محمد بن فتح الله بدران ط الأولى مطبعة الأزهر.
(3) الملل والنحل للشهرستاني: 62القسم الأول من كتاب الملل والنحل تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني تحقيق محمد بن فتح الله بدران ط الأولى مطبعة الأزهر.
(4) الحجة: 1/ 155مراد ملا وما بعدها.
(5) انظر مثلا الحجة: 1/ 235، 239، 243، 244نسخة البلدية، والشيرازيات: 32 وما بعدها وقد تكررت.
(6) تاريخ الفلسفة: ترجمة أبي ريدة / 56.(1/81)
ويقول الشهرستانى: «ونفوا الصفات القديمة أصلا، فقالوا: «هو عالم بذاته، قادر بذاته، حى بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة، هى صفات قديمة، ومعان قائمة به، لو شاركته الصفات فى القدم الذى هو أخص الوصف لشاركته فى الإلهية (1)».
ونجد صدى ذلك فى كلام أبى على إذ يقول: الدراية: ضرب من العلم مخصوص، وكأنه من التلطف، والاحتيال فى تفهم الشيء فإذا قال دريت الشيء، فكأن المعنى على ما عليه هذا الباب تأتيت لفهمه وتلطفت، وهذا المعنى لا يجوز على العالم بنفسه (2).
ويقول الشهرستانى: «واتفقوا على نفى رؤية الله تعالى بالأبصار فى دار القرار، ونفى التشبيه عنه من كل وجه: جهة، ومكانا، وصورة، وجسما، وتحيزا، وانتقالا، وزوالا، وتغيرا، وتأثرا. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها (3)
ويقول أبو على: «فأما قوله: ثم اتخذوا العجل، وقوله باتخاذكم العجل اتخذوه وكانوا ظالمين، واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا، فالتقدير فى ذلك كله اتخذوه إلها فحذف المفعول الثانى. الدليل على ذلك أن الكلام لا يخلو من أن يكون على ظاهره كقوله كمثل العنكبوت اتخذت أو يكون على إرادة المفعول. فلا يجوز أن يكون على ظاهره دون إرادة المفعول الثانى لقوله عز وجل:
«إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة فى الحياة الدنيا، ومن صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال لم يستحق الغضب من الله (عز وجل)، والوعيد عند المسلمين، فإذا كان كذلك علم أنه على ما وصفنا من إرادة المفعول الثانى المحذوف فى هذه الآى. فإن قال قائل: «فقد جاء الحديث: يعذب المصورون يوم القيامة، وفى بعض الحديث: ويقال لهم أحيوا ما خلقتم» قيل يعذب المصورون يكون على من صور الله تصوير الأجسام، وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التى لا توجب العلم فلا يقدح بذلك فى الاجماع على ما ذكرناه (4).
ويقول الشهرستانى: «واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، ومستحق على ما يفعله ثوابا وعقابا فى الدار الآخرة، والرب تعالى منزه
__________
(1) الفصل والملل للشهرستانى: 62.
(2) الحجة: 1/ 178مراد ملا.
(3) الفصل والملل: 62.
(4) الحجة: 1/ 356مراد ملا.(1/82)
أن يضاف إليه شر وظلم، وفعل هو كفر، ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالما، كما خلق العدل كان عادلا (1). وقد جاء فى الشيرازيات ما نصه: ألا ترى أن مريدا لو أراد رفعة فى علم أو دين لم تكن إرادته هذه مذمومة، ولا كان مذموما لهذه الإرادة (2).
ويقول أبو على فى قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمََا يَصَّعَّدُ فِي السَّمََاءِ}. هذا الكلام كالمثل: أى من يستحق الإضلال عن الثواب يجعل صدره ضيقا فى نهاية الضيق لما كان القلب محلا للعلوم، والاعتقادات بدليل قوله تعالى: {«لَهُمْ قُلُوبٌ لََا يَفْقَهُونَ بِهََا»} فوصفه بالضيق، وأنه على خلاف الشرح والانفساح دل على أنه لا يعى علما، ولا يستدل على ما أريد له، ودعى إليه (3).
وقال أبو على فى قوله تعالى: {«وَرَهْبََانِيَّةً ابْتَدَعُوهََا»} إنه من باب زيدا ضربته
قال ابن هشام ولم يحمل أبو على الآية على ذلك على أن رهبانية عطف على ما قبله، وابتدعوها صفة، ولا بد من تقدير مضاف، أى وحب رهبانية لاعتزاله، فقال لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله (عز وجل)، وقد تبعه الزمخشرى وهو معتزلى أيضا فى ذلك الاعراب (4).
وإذ كان المعتزلة يقررون حرية الإرادة، وقدرة الإنسان، فقد تأولوا الآيات الواردة (5) على خلاف ذلك «انظر تأويل الفارسى لختم وطبع فى قوله» ختم الله على قلوبهم بل طبع الله عليها بكفرهم (6)، وإذ كان المعتزلة يقولون بابطال شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم (7))، فإن أبا على يقرر ذلك فى قوله: «ليس معنى «لا تقبل منها شفاعة» أن هناك شفاعة لا تقبل. ألا ترى أن فى قوله:
لا يشفعون إلا لمن ارتضى انتفاء للشفاعة عمن سوى المرتضين، فإذا كان كذلك كان المعنى لا تكون شفاعة فيكون لها قبول، كما أن قوله {«لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً»}
معناه لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف.
فأما قوله: {«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمََاوََاتِ لََا تُغْنِي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلََّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ»}
__________
(1) الفصل والملل: 62.
(2) الشيرازات: 32.
(3) الحجة: 1/ 212مراد ملا.
(4) انظر الكشاف 4/ 61.
(5) وانظر شرح ذلك فى ايضاح المغنى 2/ 137الجزء الثامن من البحر المحيط ص 228.
(6) الحجة 1/ 21مراد ملا.
(7) معجم الأدباء: 18/ 82.(1/83)
{«اللََّهُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَرْضى ََ»}، فالمعنى لا تغنى شفاعتهم أن لو تشفعوا ليس أن هناك شفاعة مثبتة، ومثله: {«وَلََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ عِنْدَهُ إِلََّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ»} ومثله {«يَوْمَئِذٍ لََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا»} فأطلق على المعنى الاسم وإن لم يحدث كما قال:
لما تذكرت بالديرين أرّقنى ... صوت الدجاج، وقرع بالنواقيس
والمعنى انتظار أصواتها، فأوقع عليه الاسم ولمّا يكن، فاضافة الشفاعة اليهم كإضافة الصوت إليها (1).
والمعتزلة يقولون كما أورد الشهرستانى بأن الحسن والقبح تجيب معرفتهما بالعقل (2). وهم بذلك يدعون إلى النظر والتفكير، والاستدلال على الحسن والقبح بأعمال العقل، وهذا نفسه ما يقرره أبو على، ويشير إليه فى قوله:
يجوز أن يكون قوله: {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ»}
وصفا للذى ذم بهذا الكلام، بأن قلبه ضاق عن قبول الحكمة، والإسلام، والنظر، والاستدلال على توحيد الله وقبول شرائع أنبيائه فلم ينشرح له، ولم يتسع بقبوله (3)، وهو يشير إلى مذهب المعتزلة، وما اشتهروا به من أنهم أهل العدل: فى المثال الذى عرضه لبيان معنى القول: إذ يقول:
وقد أجرى القول أيضا مجرى الاعتقاد والمذهب فى نحو هذا «قول أهل العدل (4)».
وهذا قول أبى حنيفة «يعنون بذلك رأيهم، واعتقاداتهم، ليس اللفظ، ويشير إلى تأويلاتهم عند تعرضه للآية {«وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ»} قال والمعتزلة يقولون «ورب التين والزيتون (5)».
هذه أمثلة، وشواهد تشير إلى ما كان عليه أبو على من الاعتزال، وقد تجاوزت الحصر، والاستقصاء، إلى التمثيل والإشارة. ثم انتقل بعد ذلك إلى تحقيق أمر آخر يرتبط بمذهب أبى على ذلك تحقيق شيعيته، فهل كان أبو على شيعيا؟!
__________
(1) الحجة: 1/ 335وما بعدها مراد ملا.
(2) الملل والنحل: 63.
(3) الحجة: 1/ 210.
(4) 1/ 236مراد ملا.
(5) البصريات: رقم 63.(1/84)
(ب) تشيعه:
برهنت فى كلام سابق على اعتزال أبى على لأوطئ الحديث عن تشيعه، ذلك لأن للشيعة علاقة بالمعتزلة بوجه عام (1). وطوائف الشيعة على الرغم من تشيعها قد سادت فيها مبادئ المعتزلة، فقد استطاع فقهاء الشيعة، وعلماء التوحيد منهم أن يستفيدوا من آثار المعتزلة، ويستخدموها لفهم عقائدهم، ومذاهبهم الخاصة فالشيعة يسمون أنفسهم أهل العدل، وهذا كما رأينا هو نفس التسمية التى تسمى بها المعتزلة والشيعة يقولون: «إن الإمام المنتظر سوف يظهر لنشر العدل والتوحيد، وهذا هو بعينه عقيدة المعتزلة وقد بلغ من شدة التشابه بين المعتزلة والشيعة أن اختلط الأمر على المؤرخين، فلم يميزوا بين كتب الشيعة، وكتب المعتزلة فى التوحيد، والعلامة الوحيدة التى كان يميز بها المؤرخون تلك الكتب: نظرية الإمام وعصمته التى لم تخل منها كتب الشيعة، وقد كان النظام وهو من كبار أئمة المعتزلة يوافق الشيعة فيما يتعلق بتلك النظرية وقد أقامت الشيعة قواعدها الرئيسية على نظريات وعقائد المعتزلة (2).
وحديثى عن هذه العلاقة ليس معناه أن كل معتزلى شيعى، ولكنه يقربنا تقريبا ما إلى إثبات شيعية أبى على، بعد أن ثبت لدينا اعتزاله، ويؤكد ذلك أن الصاحب بن عباد يظهر الاعتزال فى رسائله من القول والتوحيد (3).
قول الخوارزمى فيه:
ومن نصر التوحيد، والعدل فعله ... وأيقظ نوّام المعالى شمائله
والصاحب من غلاة الشيعة إلى جانب ذلك الاعتزال.
__________
(1) انظر شرح ابن أبي الحديد 4/ 151، وتقديم العثمانية تحقيق الأستاذ عبد السلام.
هارون: ص 1311ط 1374هـ 1955الناشر الخانجى بمصر والمثنى ببغداد.
(2) هذه المقالة ملخصة من كتاب تاريخ الإسلام السياسى للدكتور حسن إبراهيم حسن الجزء الأول من (ص 518514) بترجمة من مقالة للمستشرق:
،. .،. 981881.
وانظر علاقة الشيعة بالمعتزلة: الحضارة الإسلامية لمتز 1/ 122. وروضات الجنات 16.
(3) انظر مثلا رسائل الصاحب: ص 133، 134، 140، 142، 143، 144 وانظر يتيمة الدهر: 4/ 131.(1/85)
انظر مثلا قوله:
حب على بن أبى طالب ... هو الذى يهدى إلى الجنة
إن كان تفضيلى له بدعة ... فلعنة الله على السنة (1)
وكذلك كان الرمانى على بن عيسى (2).
هذه أدلة عامة، فإذا تلمسنا أدلة خاصة على تشيع أبى على رأينا ذلك:
(أولا) فى شيوع التشيع ب (فسا) مولد أبى على، وفى ذلك الوقت المبكر من حياته: «(ولد أبو على سنة 288هـ) قالوا: لما قدم يعقوب بن الليث صاحب خراسان إلى فارس (قدمها قبل سنة 267هـ) (3) أخبر أنه هناك رجل يتكلم فى عثمان ابن عفان، وأراد بالرجل يعقوب بن سفيان الفسوى، فإنه كان يتشيع، فأمر بإشخاصه من فسا إلى شيراز، فلما قدم علم الوزير ما وقع فى نفس يعقوب بن الليث، فقال: «أيها الأمير! إن هذا الرجل قدم، ولا يتكلم فى أبى محمد عثمان بن عفان شيخنا، وإنما يتكلم فى عثمان بن عفان صاحب النبى (صلى الله عليه وسلم)، فلما سمع قال: «ما لى ولأصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم)! وإنما توهمت أنه تكلم فى عثمان ابن عفان السجزى!!» ولم يتعرض له (4).
(وثانيا) فى انعقاد الصلات بين أبى على وتلاميذه من بعده وشيعين، وهذه الصلات فيما أرى، دليل على ما كان عند أبى من التشيع، ومن هذه الصلات:
(ا) ما كان بينه وبين الصاحب بن عباد من مواصلة ومراسلة (5).
(ب) وجود نسخة من الشيرازيات عتيقة عادية عليها خط أبى على فى خزانة كتب الأمير على (رضى الله عنه) بنجف (6)، فالحرص على هذه النسخة التى عليها خط أبى على فى خزانة من خزائن الشيعة، دليل على هذه الصلة بين أبى على والشيعيين.
(ج) وابن جنى تلميذ أبى على الملازم له ينزل فى دار الشريف أبى على الجوانى نقيب العلويين، وكان الناس يترددون عليه ويسائلونه (7).
(د) ويصاحب ابن جنى الرضى والمرتضى العلويين.
ويهتم ابن جنى بقصائد الشريف الرضى، فيؤلف كتابا خاصا بها سماه: تفسير العلويات (8).
__________
(1) يتيمة الدهر: 3/ 6.
(2) معجم الأدباء: 14/ 74.
(3) انظر الكامل لابن الأثير: 8/ 20.
(4) معجم البلدان: 6/ 376.
(5) انظر معجم الأدباء: 7/ 242، 249.
(6) انظر هامش إقليد الخزانة: 101.
(7) انباه الرواة: 2/ 340.
(8) معجم الأدباء: 12/ 112111.(1/86)
وعلى بن عيسى الربعى (تلميذ أبى على) يأخذ عنه يحيى بن طباطبا العلوى (1).
(هـ) ويرى أحد تلاميذ ابن جنى (على بن أبى طالب) فى المنام، يأمر ابن جنى بإتمام كتاب المحتسب، ويثبت هذه الرؤيا ابن جنى بخطه على ظهر نسخة كتاب المحتسب (2).
(و) وهذا الشريف عمر بن إبراهيم بن محمد العلوى الزيدى أبو البركات ينتهى نسبه إلى يحيى بن الحسين ذى الدمعة بن زيد الإمام الشهير ابن على زين العابدين ابن السبط أبى عبد الله الحسين بن أبى طالب. يسافر إلى الشام، ويقيم بدمشق مدة، ثم بحلب كذلك، ويقرأ بها كتاب الإيضاح لأبى على الفارسى فى سنة 445هـ. وكان هذا الشريف سببا فى ذيوع كتاب الإيضاح المدة الطويلة بالكوفة، وأخذه عنه الجم الغفير من علماء الرواة والنحاة (3).
(ثالثا) نصوص من كتب أبى على:
(ا) وما جاء بكتاب الإيضاح دليل على تشيع أبى على، ولعله كذلك كان من أسباب حرص ذلك الشريف العلوى على الإيضاح بخاصة، وحرص العلويين بعامة. قال أبو على فى الإيضاح:
«وتقول الحسن والحسين أفضل أو ابن الحنفية» فيكون الجواب.
أحدهما بهذا اللفظ، ولا يجوز أن تقول: الحسن ولا الحسين، ولأن المعنى أحدهما أفضل أم ابن الحنفية، فالجواب يكون على ما تضمنه السؤال (4).
وقد قال الإمام عبد القاهر الجرجانى تعليقا وشرحا لذلك فى كتابه «المقتصد فى شرح الإيضاح» ما نصه: «فإذا قال ذلك: أى قال فى الجواب «أحدهما» كان قد فضل كل واحد منهما على ابن الحنفية، ومن أراد تفضيل ابن الحنفية كما تزعم الكيسانية، قال فى قولك: الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية ابن الحنفية».
ومضى الجرجانى فى تقرير شيعية أبى على فقال:
«وقال الشيخ أبو على: نقول أحدهما بهذا اللفظ على موجب المذهب لا أن حكم الإعراب يقتضى أن يقال أحدهما، وأنه لا يجوز أن يقال ابن الحنفية إذا أريد تفضيله عليها، ولو قلت الحسن أم الحسين أفضل أم ابن الحنفية، كنت قد سويت
__________
(1) انظر نزهة الالباء: 241.
(2) معجم الأدباء: 12/ 114.
(3) إنباه الرواة: 2/ 324.
(4) الايضاح: 13رقم 1120نحو مخطوطة دار الكتب.(1/87)
بين الثلاثة، وصرت تسأل عن الأفضل من جميعهم حتى كأنك قلت: أيهم أفضل؟
فيكون الجواب أن يقال: الحسن، أو يقال: ابن الحنفية. كل يقول على مقتضى مذهبه، ونحن فى حكم الأعراب لا فى حديث الفصل بين السديد والفاسد من المذاهب فى ذلك (1).
وكلام الإمام عبد القاهر الجرجانى واضح فى تشيع أبى على، وغنى عن التعليق، بما فيه من دلالة صريحة على مذهب أبى على، وتفضيله الحسن والحسين.
(ب) وقد رأيت أبا على يذكر أخبارا من أخبار سيدنا على كما قال:
«ويروى أن عليا (عليه السلام) لما قال له عدى بن حاتم ما الذى لا ينسى قال: المرأة لا تنسى أبا عذرها ولا قاتل وحدها» (2).
وألق بالك إلى دعائه لعلى بقوله (عليه السلام)، وهو دعاء لا يكون إلا للأنبياء؟
والدعاء بالسلام لسيدنا على من شأن الشيعة توقيرا منهم لشخصه، وارتفاعا به إلى درجة الأنبياء والمرسلين (3).
(ج) وقد جاء فى المسائل البصرية خبر يدل على تشيع أبى على، إذ أورده بمثابة الدفاع عن على، وانصافه من بنى أمية، ودعا له كذلك بما يدعى للأنبياء، قال:
وروى عن عمر بن شبه قال: كانت سنة بنى أمية شتم على (عليه السلام) على منابرهم، فلما أتى خلفه عمر بن عبد العزيز لم يفعل، فقيل له فى ذلك فقال: سبحان الله! إن الرجل لا يزال عند الله صدوقا حتى يكذب، فإذا كذب فجر، فما أقبح الفجور بمن خوله ما خولنى! أنا لا نغر عباد الله من ربهم، ولا نقوى الملك بالإفك والظلم، وأنه لا يفل مع الحق، ويقوى مع الباطل عديد، ففي ذلك يقول كثير:
وليت، فلم تشتم عليا، ولم تخف ... بريّا، ولم تتبع سجيّة مجرم
وقلت، فصدّقت الذى قلت بالّذى ... فعلت، فأضحى راضيا كلّ مسلم
تكلمت بالحق المبين، وإنما ... تبيّن آيات الهدى بالتكلم (4)
__________
(1) المقتصد: 1/ 186.
(2) الحجة 1/ 178مراد ملا:.
(3) رأيت ذلك فى أخبار الزجاجى، وقد ثبت لدى تشيعه انظر الدليل على ذلك بالأوراق 42، 46، 68، 72، 77من المخطوطة رقم 22967بجامعة القاهرة ضمن مجموعة من 14/ 91. وانظر معجم الأدباء: 20فهرس الأعلام 41فقد ورد (عليه السلام) مع من اشتهر بالتشيع.
(4) البصريات: لوحة رقم 66.(1/88)
فانظر كيف كان شتم على كذبا وفجورا، والهجوم عليه إفكا وزورا؟ وكيف أورد أبيات كثير، وفيها يصف بنى أمية بالإجرام، وأن خطة عمر أرضت المسلمين باتباعه الحقّ المبين؟
(د) ويروى البيت الآتى فى الشيرازيات، وفيه ثناء على الهاشميين:
وإن الألى بالطف من آل هاشم ... تأسوا، فسنوا للكرام التأسّيا (1)
(هـ) هذا وقد وردت كتب أبى على فى الذريعة إلى تصانيف الشيعة (2)، كما تحدث عنه عينا من أعيان الشيعة العاملى محسن الأمين، فى الكتاب المترجم بأعيان الشيعة (3)، وقد جعله العاملى من الإمامية، وذلك إذ يقول: وقد اشتهر كون أبى على من الإمامية والإمامية هم القائلون بإمامة على (رضى الله عنه) بعد النبى نصا ظاهرا، وتعيينا صادقا، من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين (4).
(و) وأخيرا يرثى الشريف الرضى أبا على (5)، كما يرثى الصاحب بن عباد (6)
الشيعى المعتزلى.
* * * هذه الأدلة متظاهرة على أن أبا على كان شيعيا، وفيها أكثر من دليل يثبت تشيعه من غير شك أو مراء. ولست أرى بعد ذلك علام اعتمد محققو كتاب سر صناعة الإعراب، إذ يقولون: «ولم يكونا أبو على وابن جنى شيعيين، مع ما كانا فيه من نعم البويهيين، وهم شيعيون وإنما صانعاهم (7)!!
وهو كلام ينبغى ألا يترك من غير مناقشة، فإذا كان البويهيون شيعيين، وقد
__________
(1) الشيرازيات لوحة 15.
(2) تأليف آقابزرگ الطهراني انظر مثلا 6/ 256.
(3) انظر أعيان الشيعة 21/ 16وما بعدها صحيح لم يرد اسم أبي على فى كتاب معالم العلماء، وهر فهرست لكتب الشيعة وأسماء المصنفين منهم قديما وحديثا تأليف رشيد الدين أبي جعفر محمد السروى المتوفى سنة 588هـ وقد عنى بنشره عباس اقبال. طهران 1352هـ (انظر صفحة 3228) فى ترجمة من اسمه الحسن، وكتاب معالم العلماء تتمه لفهرست الطوسى وقد دعانى هذا إلى البحث فى فهرست الطوسى فلم أجد لأبي على ترجمة فيه (انظر صفحة 87) من الفهرست المذكور تأليف الشيخ ابي جعفر الطوسى. ولئن كان الطوسى لم يذكر ترجمة أبي على فى فهرسته انه ينقل عنه فى تفسيره: مجمع البيان (انظر أعيان الشيعة 215/ 31).
(4) الملل والنحل للشهرستاني: 1/ 224.
(5) انظر اعيان الشيعة: 21/ 35وديوان الشريف الرضى: 1/ 241.
(6) انظر معجم الأدباء: 12/ 112.
(7) مقدمة سر صناعة الاعراب 34.(1/89)
غرق أبو على فى نعمهم، فلماذا لا يكون تشيعه حقيقة كما انتهيت إليه لا مصانعة؟
وهل يخفى على البويهيين تصنعه، والتصنع ثوب يشف عما تحته؟! ثم ما الذى يدعوه أن يصانع؟ وماذا تكون العاقبة لو أن البويهيين وهم غلاة فى التشيع كشفوا ما وراء هذا التصنع؟
لقد كان عضد الدولة شيعيا من قوم شيعيين (1). حتى أنه اتخذ كاتبا من قم المشهورة بالتشيع هو: «أبو الحسن القمى (2)». وهكذا كان يصطفى عضد الدولة المتشيعين، وكان أبو على مصطفى من المصطفين، فهو شيعى حقا فى غير مواربة أو مصانعة، إلى أن عضد الدولة كان متيقنا صفاء الطوية من أبى على (3). وهكذا كانت القضية التى ساقها الأساتذة المحققون تحمل فى طياتها دليل نقضها وبطلانها.
ولم يتبع السادة الأساتذة القضية بالدليل، ولكنى وجدتهم بعد صفحات ثمان يذكرون القصة الآتية دليلا على أن ابن جنى كان لا يسلم من حسد معاصريه: ذلك أن ابن جنى كان يوما فى «زبزب» مع الرضى والمرتضى العلويين، وكان على ابن عيسى الربعى يمشى حينئذ على شاطئ النهر، فلما رآهم قال للعلويين: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان (ابن جنى) جالسا معهما فى الزبزب، وعلى يمشى على الشط بعيدا منهما (4)، وفى رواية أن المرتضى قال للملاح حين سمع ذلك منه:
«جد وأسرع قبل أن يسبنا». ثم علقوا على هذه القصة بما فهموه منها: حيث قالوا: «ويفهم من هذا ما هو مذكور عن الربعى هذا من أن به لوثة، وجسارة، وبدوات لا تؤمن، وأنه كان شيعيا، وأن ابن جنى لم يكن شيعيا (5). وأنت ترى أن القصة لا تنتهى بنا إلى هذه النتيجة التى انتهى السادة الأساتذة اليها بل هى دليل على ثبوت التشيع عند ابن جنى، ولا تنفيه عنه، فهو مع شريفين شيعيين، ولا يؤول كلام الربعى بأنه شيعى، وابن جنى غير ذلك فالرواية التى اعتمدوا عليها لا تؤيد شيئا مما فهموه، ورواية ابن الانبارى فى نزهة الألباء (6) تثبت تشيع الربعى، ولا تنفى تشيع ابن جنى، فكلام الربعى أشبه بالعتب على المرتضى، ونص فى الحسد لابن جنى دون التعرض لشيعيته. والله أعلم.
__________
(1) انظر ابن الاثير 6/ 146.
(2) معجم الأدباء 12/ 83.
(3) انظر معجم الأدباء 7/ 237.
(4) أقول يفهم من نص الانبارى فى نزهة الالباء ص 226235أن اليوم كان شديد الحر وأن الربعى قال: يا مرتضى ما أحسن هذا التشيع! على تتقلى كبده فى الشمس من شدة الحر الخ.
(5) مقدمة سر صناعة الاعراب 4241.
(6) انظر نزهة الالباء: 225، 226.(1/90)
صفات أبى على العقلية
من الآثار الأدبية التى تفصل صفات أبى على العقلية أرجوزة الشريف الرضى التى رثى بها أبا على، قال:
أبا على للألدّ إن سطا ... وللخصوم إن أطالوا اللّغطا
تصيب عمدا إن أصابوا غلطا ... ولمع تكشف عنهن الغطا
كشفك عن بيض العذارى الغطا ... ومصعب للقول، صعب الممتطى
عسفته، حتى عاد مجزول المطا ... وسائرات بالخطا، لا بالخطا
شوارد عنك قطعن الريطا ... كما رأيت الخيل تعدو المرطى
ألبست فيها كلّ أذن قرطا ... قد وردت أفهامنا ورد القطا
ومشكلات ما نشطن منشطا ... ميّز من ديجورها ما اختلطا
ضل المجارون، وما تورطا ... ملّوا مجاراة فنيق قد مطا
قرم يهدّ الأرض أن تخمطا (1) ... تطرفوا الفج الذى توسّطا
لا جذعا أودى ولا معتبطا ... كانوا العقابيل، وكنت الفرطا
عند السراع يعرف القوم البطا ... أرضى زمان بك، ثم أسخطا
ما أطلب الأيام منا شططا (2)
وهذه الأرجوزة تكشف عن غير خصيصة من خصائص أبى على: فهو جدل ذو لدد، يفحم الخصوم ويظهر أن ذلك انحدر إليه من دم أمه العربى ففي العرب كما يقول الحافظ اللدد عند الخصومة (3)، ثم هو يصيب عمدا إن أصابوا مخطئين، يكشف عن لمع الأفكار، حتى تبدو واضحة غراء، ويذلل صعاب القول، حتى يردها حزلة الامتطاء، ويعالج شوارد الأفكار، بما يقربها إلى الأفهام،
__________
(1) جاء فى القاموس والمتخمّط القهار والشديد الغضب له جلبة من شدة غضبه.
(2) ديوان الشريف الرضى 1/ 445وما بعدها أعيان الشيعة 21/ 35.
(3) البيان والتبيين: 1/ 22.(1/91)
ويزيل ما اختلط بها من غموض وابهام. قد ضل منافسوه حتى ملوا مجاراته، وهو هو لم يتورط، أو يدركه الضلال، غلاب شديد الغضب، فى جلبة تهد الأرض، فلا يجرؤ أحد أن يقف أمامه خشية ورعبا. فيه فحولة، أسعد الزمان بحياته، ثم أسخط بموته، وما أكثر ما تبعد بنا الأيام!
ومن الدلائل الخاصة على ذكاء أبى على نصحه لأبى القاسم عبد الله بن محمد بن جرو الأسدي، وكان يلثغ بالراء غينا فقال له الفارسى: «ضع ذبابة القلم تحت لسانك لتدفعه بها، وأكثر مع ذلك ترديد اللفظ بالراء».
ويفعل ابن جرو الأسدي ما نصح به أبو على فيستقيم له إخراج الراء (1).
قال ياقوت: ما أحسن ما تلطف أبو على فى طبه هذا! فما الذى دله على هذه المعالجة؟ ومن أين استنبط هذه المداواة، وكيف احتال لهذا البرء؟ ثم علل لذلك تعليلا يتفق مع طبيعة الراء فى النطق، وعادة الألثغ، وأثر رفع اللسان بالقلم أو نحوه فى ذلك. ثم قال: فلو كان واصل بن عطاء الغزالى حاذقا حذق أبى على (رحمه الله) فداوى رأرأته ولثغته بهذا الدواء لأراحه من تكلفه إخراج الراء من كلامه، حتى شاع عنه من ابدال بعض الكلم ما شاع (2).
وبراعة أبى على فى النكتة، وسرعة استحضارها دليل كذلك على الذكاء: نقل صاحب أعيان الشيعة عن رياض العلماء أن جماعة وقفوا على باب أبى على فلم يفتح لهم فقال أحدهم: «أيها الشيخ! اسمى عثمان، وأنت تعلم أنه لا ينصرف، فبرز غلامه وقال: إن الشيخ يقول: «إن كان نكرة فلينصرف (3)!!.
ومما يشهد لأبى على بصفاء ذهنه، وخلو فكره أنه سئل قبل أن ينظر فى العروض عن خرم متفاعلن، فتفكر وانتزع الجواب فيه من النحو (4).
وقد يكون فى هذه القصة شىء من المبالغة أشبه بذلك الذى يحكى عن الخليل من أن ملك اليونان كتب إليه كتابا باليونانية فخلا بالكتاب شهرا حتى فهمه، (5)
ولكن القصة على كل حال صدى لما كان يشتهر به أبو على من الذكاء.
على أن آثار العالم تدل على عقليته، وهذه كتب أبى على تنطق بما كان عليه من دقة فى الاستخراج، وبراعة فى الاحتجاج، ولطف فى القياس والاستدلال،
__________
(1) بغية الوعاة: 320.
(2) معجم الأدباء: 12/ 67.
(3) اعيان الشيعة: 21/ 21حاشية نكتة الشيخ! تحوية
(4) انظر بقية الخبر فى معجم الأدباء: 7/ 235/ 226.
(5) انظر الخبر بتمامه فى طبقات الزبيدى: 47.(1/92)
مما يؤكد قوله: «أخطئ فى خمسين مسألة مما به الرواية، ولا أخطئ فى واحدة مما به القياس (1)». وفى ذلك دليل أى دليل على أنه يعمل عقله وتفكيره فى اعتبار الأشياء فيصيب، ولا يخطئه السداد والتوفيق.
وتعليل ذكاء أبى على أمر ميسور، فهو:
أولا فارسى، «والفرس كما يقول أبو عمر النمرى القرطبى (463هـ) أهل رئاسة وسياسة، وحسن مملكة، ووضع الأشياء فى مواضعها (2)، وهى صفات تتصل بنضج العقل، وخلوص التفكير.
ثانيا ثم هو فسوى، وقد قرر المقدسى الذى طوف بالبلاد الإسلامية فى عصر الفارسى أنه لم يجد «ألبق من أهل فسا (3)».
ثالثا ثم هو عاش مدة طويلة بشيراز، وفى أهلها كما يقول المقدسى أيضا:
«عقل ودها (4)».
هذه الدلائل العامة تصاحبها أخرى خاصة، فأبو على يمتزج فى نسبه الدم العربى بالدم الفارسى، ومن المقرر أن الاغتراب فى المصاهرة مؤد إلى فراهة الأجسام، وسلامة العقول حتى أثر «اغتربوا لا تضووا (5)» فكيف يكون الحال بالامتزاج والتصاهر بين فارس وعربية؟!
__________
(1) انظر نزهة الأدباء: 210، وبجعلها صاحب اعيان الشيعة مائة والاتفاق على الأول.
(2) القصد والأمم: 31.
(3) أحسن التقاسيم: 34.
(4) نفس المصدر: 430.
(5) لسان العرب: 19/ 225.(1/93)
ثقافة أبى على دراسته ومراجعه
يحدثنا المؤرخون أن أبا على انتقل من فارس إلى العراق فى السنة السابعة بعد الثلاثمائة من الهجرة، ومعنى ذلك أنه انتقل إلى العراق، وقد نضج واكتمل إذ كان يدرج نحو العشرين (1). ولست أعرف على التحديد منهج الدراسة الذى اتصل به أبو على قبل انتقاله إلى عاصمة العراق، وإن بدأ أنه شدا أطرافا من ألوان الثقافة العربية مما يبدأ به الدارسون عادة من حفظ القرآن الكريم وسماع الحديث الشريف، والتفقه فى الدين الحنيف، وحفظ أشعار العرب، إلى جانب ما توحى به عبارته، وقد جرى ذكر الشعر بحضرته: «إنى لأغبطكم على قول الشعر، فإن خاطرى لا يوافقنى على قوله مع تحقيقى العلوم التى هى مواده (2)، وما مواد الشعر إلا علم العربية والشريعة والعروض والقوافى. (3) كما يبدو أنه نظر فى النحو قبل أن ينظر فى العروض (4). وانتقال أبى على إلى العراق مكنه من الاتصال بالأعلام من شيوخ العربية، وبذلك عرفنا على التحديد منهج الدراسة الذى تلقاه منذ ذلك الحين: ففي العراق يلتقى بأبى بكر بن مجاهد المقرئ، وأبى إسحاق الزجاج النحوى، اللغوى وصاحب الاختيار فى النحو والعروض (5). وأبى بكر ابن الخياط الذى كان يخلط بين مذهبى البصرة والكوفة (6)، وأبى بكر بن دريد اللغوى صاحب الجمهرة، وأبى بكر مبرمان النحوى، وأبى بكر بن السراج صاحب الأصول فى النحو (7)، ولا شك أنه باتصاله بهؤلاء الشيوخ أرضى نهمه العلمى، واستكمل ما لم يكن أدركه فى فسا وشيراز، وتبحر فى اللغة والنحو وعلوم العربية ما شاء أن يتبحر، وتحدثنا المصادر أنه قرأ كتاب سيبويه على مبرمان (8) وأبى بكر ابن السراج (9)، كما سمع من الزجاج كتابه فى معانى القرآن (10). كما سمع معانى القرآن للقراء من أبى بكر بن مجاهد (11).
__________
(1) يذكر الدكتور بشر فارس أن أبا على انتقل إلى بغداد وهو ابن تسع ولعل عشرة ساقطة.
انظر سر الزخرفة الإسلامية: 31/ 34.
(2) وفيات الأعيان 1/ 362ومعجم الأدباء: 2/ 251.
(3) انظر المثل السائر: 4.
(4) انظر معجم الأدباء: 7/ 236235.
(5) نزهة الالباء: 166.
(6) نزهة الألباء: 168.
(7) نزهة الالباء: 169.
(8) بغية الوعاة: 74.
(9) معجم الأدباء: 7/ 253252.
(10) انظر مقدمة كتاب المحتسب: 10.
(11) انظر المصدر السابق(1/94)
وتعد عبارة أبى حيان التوحيدى فى كتابه الإمتاع (1)، مفتاحا للحديث عن دراسة أبى على ومراجعه فهو يقول: «وأما أبو على فأشد تفردا بالكتاب وأشد إكبابا عليه وما تجاوز فى اللغة كتب أبى زيد، وأطرافا مما لغيره، وتفتيش كتب أبى على نفسها يجعلنا نتحقق من قولة أبى حيان، وبخاصة كتابه الحجة الذى قال فى إهدائه للصاحب بن عباد: «فما تضمن من أثر، وقراءة، أو لغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم (2).
كتب أبى على تدل على أنه حفظ القرآن الكريم، وانتفع به، ونظر فيه نظرة.
الفاحص المستشهد على آرائه النحوية. اسمع إليه يقول: «مما أصبت مما أعمل فيه الثانى قوله (تعالى): {«قََالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً»} (3). تر كيف يقف أبو على أمام آى القرآن الكريم يتفحصها، ويستخرج منها ما تدل عليه مما يذهب إليه، ثم تراه قوى الاستحضار، لآى القرآن يفسر بعضها ببعض، ويشرح لفظا هنا بلفظ هناك (4)، وهو عالم بالتفسير (5). وقد اطلع على تفسير ابن عباس (6) ويحكى عن أبى عمر فى تفسيره (7).
ويورد تفسير السدى للقليل فى قوله تعالى: {«وَلََكِنْ لَعَنَهُمُ اللََّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلََا يُؤْمِنُونَ إِلََّا قَلِيلًا} (8). ويتصل بأبى عبيدة فى مجازه، ويستعين به (9). ويروى عن الزجاج كتاب الإبانة والتفهيم عن معنى بسم الله الرحمن الرحيم (10)، كذلك كان من ثقافة أبى على الحديث، يسمعه ويرويه، وله تلاميذ يسمعون منه، وقد قال عن نفسه: قد سمعت الكثير فى أول الأمر، وكنت أستحيى أن أقول: أثبتوا اسمى (11) كما استظهرت فى مكان آخر على روايته للحديث، وعلى تفقهه فى الدين، ومشاركته فى هذا اللون من الثقافة الدينية. وما من شك كذلك أنه بجانب هذه الدراسات الدينية واللغوية والنحوية كانت له مشاركة فى رواية الشعر (12) وكان يقايس بين المسائل النحوية
__________
(1) الجزء الأول 131.
(2) معجم الأدباء 7/ 240239.
(3) يرى أبو على ما لا يراه البصريون.
(4) سأعطى ذلك فضل بيان فيما بعد.
(5) انظر الشيرازات 81.
(6) الحجة 1/ 23مراد ملا والاغفال 5.
(7) الحجة 1/ 228مراد ملا.
(8) الحجة 1/ 154مراد ملا.
(9) انظر مثلا الحجة 1/ 159، 169، 171، 206، 231، 273من البلدية.
(10) انظر المخطوطة رقم 67نحو الصفحة الأخيرة من هذه المجموعة.
(11) معجم الأدباء 7/ 255.
(12) انظر البصريات لوحة 57.(1/95)
والمعانى الشعرية (1)، كما كان له علم بالأخبار الأدبية (2)، وقد قرأ على أبى بكر ابن السراج ديوان النابغة من رواية الأصمعى (3).
وقد أجاز ابن جنى رواية أبيات المعانى (4) للأشناندانى الراوية البصرى (5)، وكتابه المعانى يتضمن الكلام على المذاهب الشعرية ونقدها، وضروبها، وأساليبها وأطوارها فى عصورها المختلفة، وتفسير غريبها (6). كذلك رأيت أبا على يعتمد على ما قال أبو مالك عمر بن كركرة الأعرابى (7)، وأبو مالك هذا أحد فصحاء العرب المشهورين الذين سمع منهم العلماء (8). كذلك اتصل أبو على بمعانى الشعر لأستاذه أبى بكر بن الخياط (9).
وشواهد أبى على دالة على ماله من وفرة المحفوظ (10)، والضلاعة فى الاستشهاد، واليقظة فى الاستنتاج (11). يذكر الأمثال (12)، ويستشهد بأقوال الكهان (13)
ودعاء الأعراب (14) وأقوالهم (15)، وآثار الأحبار (16)، ويروى الأخبار (17)، ويعرف ما يذكره حذاق الفلاسفة (18)، وهو عالم بعادات العرب (19)، وعادات الفرس (20).
ومن المراجع اللغوية والنحوية والصرفية التى اعتمد عليها أبو على واتصل بها:
نوادر الأصمعى (21)، وكتاب الخيل للأصمعى أيضا (22)، والألفاظ له كذلك (23)،
__________
(1) انظر الخصائص: 1/ 568.
(2) انظر الشيرازيات: 18، 120.
(3) انظر البغداديات: 29.
(4) انظر خزانة الأدب: 1/ 12.
(5) بغية الوعاة 324.
(6) الكتاب مطبوع بدمشق 1922م، 1340هـ.
(7) الشيرازيات: 39.
(8) انظر الفهرست: 66فى ترجمة ويلتقم المحار الممتنع وصحتها الحار الممتنع وانظر الرواة 3/ 360.
(9) معجم الأدباء: 7/ 261.
(10) انظر مثلا المخصص لابن سيده: 5/ 98، 107، 109، 119، 120، 7/ 4، 23، 24، 61، 63، 113.
(11) اقرأ مثلا المخصص: 7/ 188187.
(12) المخصص: 4/ 121، 9/ 155.
(13) المخصص: 4/ 64.
(14) نفس المصدر: 16/ 143.
(15) المخصص: 12/ 3.
(16) 9/ 7.
(17) المخصص: 16/ 43.
(18) المخصص: 11/ 319.
(19) انظر المخصص مثلا: 8/ 49.
(20) انظر المخصص: 7/ 159فى شرح البحار.
(21) انظر انباء الرواة: 2/ 119.
(22) انظر القلم رقم 786المحفوظ بمعهد احياء المخطوطات العربية.
(23) انظر البغداديات: 49، 35فى كلمة تئفة وانظر سيبويه 2/ 230.(1/96)
ويتصل بنوادر ابن الأعرابى (1)، والأصول لأبى بكر بن السراج (2)، والجمل (3)، وكتاب الأخبار لأبى عثمان (4). ويروى كتاب التصريف عن ابن السراج عن المبرد (5).
ويستعين بما قال الجرمى فى اللغة (6)، ويقرأ كتابه الفرخ (7). وهو القائل:
«قل من اشتغل بمختصر الجرمى إلا صارت له بالنحو صناعة (8)». ويكتب الاشتقاق لابن دريد إملاء عنه (9). ويتصل بكتب يعقوب بن السكيت (10)، وينص على أنه قرأ إصلاح المنطق على أبى إسحاق (11)، كما يقرأ التصريف للفراء (12)، ويطلع الفارسى على كتب أبى الحسن بعامة (13) ويشير قوله: أنشده: (يريد فلو كان البكاء يرد شيئا) أبو الحسن فى المعانى إلى اطلاعه على ذلك الكتاب (14). وكذلك قوله قال أبو الحسن فى كتابه فى القرآن (15)، كما يتصل بكتاب الغلط للمبرد (16). وينظر فى المقتضب فما ينتفع منه بشيء إلا بمسألة واحدة (17)، ويطلع على المسائل المشروحة من كتاب سيبويه للمبرد، ويقرؤه على ابن السراج (18). ويتصل بأحمد بن يحيى ثعلب عن طريق أبى بكر بن مجاهد الذى حدث عنه، وكان على علم بمذهب الكسائى والفراء (19) وآراء الكوفيين على العموم (20)، ثم هو يطلع على كتاب العروض لأحمد بن محمد العروضى حتى قال أبو على. وقد احتاج إلى الاستشهاد ببيت قد تكلم عليه فى التقطيع: «وقد كفانا أبو الحسن العروضى الكلام فى هذا الباب (21)».
هذه أمثلة من مصادره تجمل لنا سعة اطلاعه، وحرصه على آثار من سبقوه، كما كان حريصا على نقل الفوائد (22). كذلك تدل بعض أنبائه أنه كان يعقد سمعه
__________
(1) البصريات: 61.
(2) البغداديات: 39والبصريات: 64.
(3) معجم الأدباء: 7/ 239.
(4) البصريات: 66.
(5) انظر المنصف لابن جنى 6تحقيق الأستاذين إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين.
(6) الشيرازيات: 36.
(7) البصريات: 64، 83.
(8) نزهة الألباء: 101.
(9) البصريات: 57.
(10) البصريات: 73.
(11) المخصص: 5/ 74.
(12) انظر خزانة الأدب: 2/ 259.
(13) انظر الحجة: 1/ 36من البلدية.
(14) انظر المسائل المنثورة لوحة 156.
(15) الحجة: 1/ 248من مراد الملا.
(16) الاغفال: 15.
(17) انظر معجم الأدباء: 19/ 121.
(18) الاغفال 197.
(19) الحجة: 1/ 289من البلدية.
(20) انظر البصريات: 64.
(21) معجم الأدباء: 4/ 233.
(22) انظر معجم الأدباء: 7/ 237.(1/97)
على لهجات الناس، وما يلوون به ألسنتهم، فتنبهه هذه الظواهر إلى لحظها، وتسجيلها، والإفادة منها فى تلاقح اللهجات، وسريانها على ألسن المتكلمين (1).
ومما يدل على حبه للعلم موقفه من كتبه التى احترقت، وما ناله من الهم والحزن والتحير والذهول، وبقاؤه على ذلك شهرين لا يكلم أحدا لغلبة الفكر عليه (2).
ومما مكن له فى العلم أنه أقام على أنسه به لا يشغله عنه شىء كما يقول تلميذه ابن جنى سبعين سنة زائحة علله، ساقطة عنه كلفه، وجعله همه وسدمه، لا يعتاقه عنه ولد، ولا يعارضه فيه متجر، ولا يسوم به مطلبا، ولا يخدم به رئيسا إلا بأخرة وقد حط من أثقاله، وألقى عصا ترحاله (3)
ثم هو بنظره فى العربية، والخوض فيها، يستجيب لداع دينى يفسره شرحه للحديث الشريف: «إن الله ينهاكم عن قيل وقال» حيث قال: معنى النهى فى هذا الحديث المجادلة بالباطل ليدحض به الحق، وليس على النهى عن الخوض فى العربية وتعلمها لأن الحض على النظر فيها قد كثرت الرواية به عن السلف (رحمهم الله)، ثم قال: حدثنا اسماعيل بن محمد قال: «حدثنا محمد بن عيسى العطار قال: حدثنا كثير بن هشام قال: «حدثنا عيسى بن إبراهيم عن الحكم بن عبد الله الزهرى، عن سالم عن أبيه قال (4): «مر عمر بن الخطاب على قوم يرمون رشقا فقال: بئس ما رميتم» فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا قوم متعلمين. فقال: والله لذنبكم فى لحنكم أشد على من ذنبكم فى رميكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رحم الله رجلا أصلح من لسانه (5).
بهذه النزعة الدينية يخوض أبو على فى العربية، وناهيك بها نزعة دافعة إلى بلوغ أقصى الغايات استجابة لداع من دواعى العقيدة، ورغبة فى مذخور الثواب بتقديم القربات.
أما دور العلم والأماكن التى درس فيها أبو على، وثقف، وتثقف فقد كانت:
(ا) المساجد: ويقول المقدسى: «ومن رسوم أهل فارس إذا صليت العصر كل يوم جلس العلماء للعوام إلى المغرب، وكذلك بعد الغداة إلى ضحى، وأيام الجمع
__________
(1) انظر الخصائص: 1/ 95.
(2) انظر معجم الأدباء: 7/ 257256.
(3) الخصائص: 1/ 285.
(4) حرصت على نقل الاسناد فى هذا الحديث لأن توثيقه على هذه الصورة من تمام البرهان على ما أنا فيه.
(5) الحجة: 1/ 231مراد ملا.(1/98)
يجتمعون فى غير موضع، وطابت شيراز بجامعها، والصوفية به كثير (1). ونجد فى نهاية المسألة الأولى من الشيرازيات لأبى على ما نصه: «هذه مسألة أملاها أى أبو على بشيراز فى المسجد الكبير بالربض (2)».
(ب) والدور: قال ابن جرير الطبرى: حضرت باب دار أبى كريب الهمذانى مع أصحاب الحديث فاطلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدخول ويضجون، فقال: أيكم يحفظ ما كتب عنى؟ فالتفت بعضهم إلى بعض، ثم نظروا إلى وقالوا: «أنت تحفظ ما كتبت عنه؟» قال: قلت نعم! فقالوا: هذا فسله، فقلت: «حدثتنا فى كذا بكذا، وفى يوم كذا بكذا». قال: «وأخذ أبو كريب فى مساءلته إلى أن أعظم فى نفسه، فقال له: ادخل إلى فدخل إليه، وعرف قدره على حداثته، ومكنه من حديثه (3).
ونجد فى صدر رسالة من الشيرازيات ما نصه: «قرأتها على الشيخ (أيده الله) فى جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلاثمائة فى منزله (4)».
(ج) وخزائن الكتب: وتلقى العلم عنها يتضح بما يذكره ياقوت عن جعفر ابن محمد الموصلى (ت 323هـ) من أنه كان له ببلدة دار علم جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، وقفا على كل طالب للعلم، لا يمنع أحدا من دخولها، إذا جاء غريب يطلب الأدب، وإن كان معسرا أعطاه ورقا وورقا، تفتح كل يوم، ويجلس فيها إذا عاد من ركوبه، ويجتمع إليه الناس، فيملى عليهم من شعره، وشعر غيره ومصنفاته يملى من حفظه من الحكايات المستطابة، وشيئا من النوادر المؤلفة، وطرفا من الفقه، وما يتعلق به (5). ولعل أبا على ورد هذا المنهل فى بعض رحلاته إلى الموصل. هذا وكانت خزانة عضد الدولة مفتوحة للعلماء كما نفهم من المقدسى (6).
__________
(1) أحسن التقاسيم: 439.
(2) المسائل الشيرازيات: لوحة رقم 10.
(3) معجم الأدباء: 18/ 51.
(4) الشيرازيات: لوحة رقم 11.
(5) معجم الأدباء: 7/ 193.
(6) انظر أحسن التقاسيم: 394، 448.(1/99)
هل كان أبو على يعرف الفارسية؟
أبو على يلقب الفسوى حينا، والفارسى أحيانا (1)، وهو لقب يوحى بأنه على صلة بالفرس، فاللقب الأول دال على مولده، والآخر يشير إلى جنسيته، ثم هو قد انتقل من بلاد فارس إلى بغداد فى نحو العشرين من عمره، وإذن فقد أمضى مدة طويلة فى فارس: فسا مولده. وشيراز التى عاش فيها قبل أن يرحل إلى بغداد عاصمة الخلافة فهل كان بعد ذلك كله يعرف الفارسية؟
يشير ابن جنى فى كتابه الخصائص إلى أن أبا على قد تدرب بالفارسية قبل استعرابه (2)، ولكن تدربه بالفارسية لم يكن يبلغ به إلى أن يكون عالما باللغة العجمية علمه باللغة العربية (3).
وفى مكان آخر من الخصائص يقول ابن جنى: «ورأيت أبا على (رحمه الله) كغير المستوحش من الابتداء بالساكن فى كلام العجم قال: «وإنما خفى حال هذا فى اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة» يريد أنها لما كثر ذلك فيها ضعفت حركاتها، وخفيت (4).
وملحظ أبى على فى النص الأخير، وعدم استيحاشه من ابتداء العجم بالساكن، وتعليله ذلك بما علل. كل ذلك لا ينهض دليلا قويا على علمه بالفارسية لأن هذا الملحظ يتأتى للعربى خالص العروبة، كما يتأتى لمن هو غير أعجمى على وجه العموم.
ومثل ذلك يوجه إلى قوله فى البغداديات: «وإنما تكون الدربة بحسب كثرة العادة، وهذا موجود فى العادات، وبيّن عند أهل اللغة. ألا ترى أن المتكلم باللغة العربية لا يسهل عليه النطق باللغة الفارسية، ولقلة اعتياده لذلك، وكذلك المتكلم باللغة الفارسية، وكثيرا لا يسهل عليه النطق باللغة العربية سهولة الفارسية، وليس ذلك لشىء أكثر من أن كل واحد من أهل اللغتين لما لم يكثر ذلك فى عادته فلم يرتض به لم يخفّ عليه (5)».
وإذا كان ابن جنى الرومى يعرف الكلمات الفارسية (6)، فأحر بشيخه الفارسى أبى على أن يعرفها.
على أنى بعد ذلك وجدت ما يدل على علم أبى على بترجمة بعض كلمات فارسية
__________
(1) انظر تحقيق ذلك فى ص 41وما بعدها من هذا البحث.
(2) الخصائص: 1/ 352.
(3) نفس المصدر: 1/ 253252.
(4) الخصائص: 1/ 94.
(5) البغداديات: لوحة 47.
(6) الخصائص: 1/ 93وما بعدها.(1/100)
ذلك قوله فى معرض الحديث عن الخبر فى قولهم «هو حلو حامض» ألا ترى أن أبا عمرو قال فى تفسير ذلك: «ترش شيرين (1)»، وترش شيرين كلمة فارسية معناها حلو حامض (2).
وفسر الزجاج الأسوار من أساورة الفرس بأنه الجيد الرمى بالسهام، وتعقبه الفارسى بقوله: «وما ذكره فى الأسوار أنه الجيد الرمى بالسهام فهذا لعمرى صفة من أوصافهم، وليس بترجمة اللفظ على حقيقته، والترجمة ذو الفرس (3).
وقال أبو على فى الحلبيات: «والإبريق» ترجمته بالفارسية أحد شيئين:
(ا) أما أن يكون طريق الماء. (ب) أو صاب الماء على هيئة (4)، وانظر كلامه فى الأسكرجة (5).
وأورد أبو منصور الجواليقى فى كتابه المعرب من كلام الأعجمى على حروف المعجم ما نصه: «حكى عن أبى على قال: «رأيت أبا بكر يدير هذه اللفظة:
(بوصى)، ليشتقها فقلت: «أين تذهب؟ أنها فارسية: انما هو بو زيد وهو اسم جدنا، قال ومعناه السالم فقال أبو بكر: «فرجت عنى».
فذلك النص يدل على معرفة أبى على للفارسية (6)، وثقة أبى بكر به فيها، وما يحدث عنها
وبعد: فإن فارسية أبى على، وإقامته قرابة أربعين عاما ببلاد فارس قبل أن يرحل إلى بغداد، وبعد أن لحق بخدمة الدولة الديلمى، ثم صداقته لعضد الدولة الذى يرتفع فى نسبه من بوبه إلى واحد من ملوك الفرس (7) ومعرفة عضد الدولة للفارسية (8)، وحكمة بلاد فارس فى وقت ضعفت فيه الخلافة العباسية كل ذلك بعض الدلائل على صلة أبى على بالفارسية وعلمه بها.
على أننى بعد أعود إلى قولة ابن جنى عنه وقوله الفصل فى ذلك: إنه تدرب بالفارسية قبل استعرابه «ويبدو أنه لما استعرب تغلبت العربية، ولحقت الفارسية الحيف من العربية كما يقرر الجاحظ فى بعض ما قال (9).
__________
(1) الحجة: 1/ 136.
(2) انظر القاموس الفارسى العربي فى هاتين الكلمتين.
(3) الاغفال رقم 699تفسير: 528.
(4) الحلبيات ظهر ورقة 87.
(5) الحلبيات: 84.
(6) المعرب: 4.
(7) الفخرى: 244.
(8) انظر أحسن التقاسيم: 432فى كلامه على جور.
(9) انظر البيان والتبيين:.(1/101)
مذهب أبى على فى القراءات
يجدر بى وموضوع البحث «أبو على وأثره فى القراءات والنحو» أن أتبين مذهب أبى على فى القراءة كما أتبين مذهبه فى النحو، وأن أتعرف القراءة التى كان يقرأ بها القرآن الكريم، والإمام الذى كان يتأثره فى قراءته، والأسباب التى دفعته إلى تأثر ذلك الإمام دون سواه؟ ثم دلائل هذا التأثر فيما ترك لنا أبو على من شواهد ونصوص، ويعيننى المقدسى فى أحسن التقاسيم إعانة خاصة. حيث يبين أصحاب القراءات المستعملة فى عهده وهو معاصر لأبى على كما يذكر أماكنها فى العالم الإسلامى، وذلك قوله: «وأما أصحاب القراءات المستعملة اليوم فعلى أربعة أقسام:
(ا) حروف أهل الحجاز وهن أربع: قراءة نافع، وابن كثير، وشيبة، وابن جعفر.
(ب) وحروف أهل العراق وهن أربع: حرف عاصم، وحمزة، والكسائى، وأبى عمرو.
(ج) وقراءة أهل الشام وهى لعبد الله بن عامر.
(د) وحروف الخاص وهن أربع: قراءة يعقوب الحضرمى، واختيار أبى عبيدة، واختيار أبى حاتم، وقراءة الأعمش. وأكثر الأئمة على أن الجميع صواب (1)
وشيوع قراءات هؤلاء الأئمة فى تلك البيئات أثر من آثار استيطانهم لها، وأخذ أهلها القراءات عنهم، وتلاوة القرآن بحروفهم:
1 - فابن عامر أحد العرفاء الذين أقامهم أبو الدرداء الأنصارى فى جامع دمشق، ولما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر (2).
__________
(1) أحسن التقاسيم: 39ط ليدن الطبعة الثانية سنة 1909.
(2) طبقات القراء: 1/ 606.(1/102)
2 - وابن كثير مكى، ولد بمكة، وظل ثلاثة أرباع قرن بها مقيما فيها (1).
ولم يزل هو الإمام المجتمع عليه فى القراءة بمكة حتى مات بها (2).
3 - ونافع مدنى عاش بالمدينة يقرئ فيها الناس دهرا طويلا نيفا وسبعين سنة (3).
4 - بقى بعد ذلك العراقيون: أبو عمرو البصرى (4)، وعاصم، وحمزة، والكسائى الكوفيون (5)، فمن الطبيعى إذن وهذه بيئات القراء السبعة أن تذيع قراءاتهم فيها إذ كان الناس يتلقون عنهم، ويقرءون سماعا أو عرضا عليهم.
وأستطيع أن أستبعد كلا من ابن عامر الشامى، ونافع، وابن كثير الحجازيين لأن أبا على لم يعش فى بيئة الشام إلا قليلا، بل كما أعلم لم يعش فى الحجاز أصلا فليست له وسيلة إلى قراءة إمام من هؤلاء الأئمة الثلاثة.
وبقى بعد ذلك شيوخ البيئة العراقية التى عاش فيها أبو بكر بن مجاهد الذى روى أبو على القراءة عرضا عليه (6).
وأثر هؤلاء الأئمة العراقيين، ودلائل تأثر المقرئين بقراءتهم واضحة فيما يرويه المؤرخون من أن أبا جعفر الطبرى (ت 310هـ) كان يقرأ قديما لحمزة قبل أن يختار قراءته (7)، وأن نفطويه (ت 323هـ) كان يقرئ القرآن على قراءة عاصم بمسجد الانباريين (8).
ويمكننى بعد ذلك استبعاد الأئمة الكوفيين: عاصم، وحمزة، والكسائى، لكوفيتهم، ونزعة أبى على التى تقذف به إلى جانب البصريين. ولم يبق بعد هذه التصفية إلا أبو عمرو البصرى، وهو ما أرجح أن يكون أبو على يقرأ القرآن على حرفه، أو يكون له اختيار يميل به إلى مذهب أبى عمرو.
فلأبى على صلات بأبى عمرو البصرى ترجع إلى أساتذته من الشيوخ الذين يعتمد عليهم ويوثقهم، وأخص هؤلاء أبو زيد الأنصاريّ، وسيبويه، فأبو زيد يؤلف فى قراءة أبى عمرو (9)، وسيبويه يقرأ على أبى عمرو (10). ويأخذ الحروف عنه (11).
__________
(1) إبراز المعاني: 21.
(2) طبقات القراء: 1/ 445.
(3) انظر طبقات القراء 2/ 331.
(4) سراج القارئ لابن القاصح: 11.
(5) انظر المصدر السابق: 12.
(6) طبقات القراء: 1/ 207.
(7) معجم الأدباء: 18/ 66.
(8) انباه الرواة: 1/ 181.
(9) الفهرست: 81.
(10) طبقات القراء 1/ 290.
(11) انظر دليل ذلك فى الكتاب: 2/ 167.(1/103)
وترى أبا على فى كتاب الأغفال يحتج لقراءة أبى عمرو: يومنون بالتخفيف ويختار ذلك على التحقيق (1). ويظهر ارتياحه لقراءة أبى عمرو، وأقرأ معى ذلك النص من كتابه الحجة تر إقباله على قراءة أبى عمرو، واحتفاله بالاحتجاج لها، والتدليل عليها، ومهاجمة قراءة الكوفيين بعد أن يحتج لها فى فتور: (ولا بد أن أن يحتج لها لأن هذا مهمّة فى كتاب الحجة).
قال ابن مجاهد ما ملخصه: «اختلفوا فى قوله عز وجل: أأنذرتهم، وما كان مثله فى كل القرآن من الهمزتين فى الكلمة الواحدة: فهو بتحقيق الهمزتين عند عاصم وحمزة، والكسائى، فى أحد قوليه، وابن عامر». وهو بتخفيف الثانية وإدخال الألف بينهما عند ابن كثير وأبى عمرو، غير أن مد أبى عمرو فى أأنذرتهم أطول من ابن كثير (2).
وقال أبو على فى الاحتجاج لالتقاء الهمزتين فى أأنذرتهم وتحقيقهما: من حجة من حققهما أن يقول: إن الهمزة حرف من حروف الحلق، فكما اجتمع مثله فى سائر حروف الحلق نحو فهّ وفههت وكعّ وكععت كذلك حكم الهمزة. وكما يجوز ذلك ويسوغه أن سيبويه زعم أن ابن إسحاق كان يحقق الهمزة، وأناس معه. قال سيبويه، وقد تكلم ببعضه العرب وهو رديء (3)». فانظر إلى ذلك الحكم الذى نقله عن سيبويه، وبه يقرر رداءة تحقيق الهمزتين، وبالتالى يكون حكم القراءة بالتحقيق.
ثم قال: والحجة لقول من قال أأنذرتهم فلم يجمع بين الهمزتين، وخفف الثانية أن يقول: إن العرب قد رفضت جمعها فى مواضع من كلامهم. وبعد أن ضرب الأمثلة لذلك قال: ففي هذا دلالة بينة على رفضهم اجتماعهما ثم عاد وكرر هذه العبارة، ثم وازن بين الهمزة وأخواتها الحلقية، ثم دفع اعتراضا قد يرد. وذكر أن العرب الزموا باب رزيئة وخطيئة القلب عما يؤدى إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا خطايا ورزايا فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل كما أنه كان (كذا) وأظن (لو كان) هنا ساقطة لتحرك العينات فى نحو قال وباع مجاز ما الزموهما القلب. فإن قلت: «قد حكى عن بعضهم خطاءىء (كذا) بتحقيق الهمزتين
__________
(1) الاغفال: 60تفسير رقم 875.
(2) ملخص من سبعة ابن مجاهد: الحجة 1/ 166مراد ملا وانظر النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى: 1/ 363.
(3) الحجة: 1/ 188.(1/104)
فذلك يجرى مجرى الأصول المرفوضة نحو ضننوا والأظلل كذا، ولو جاز الاعتداد بذلك وما أشبهه لجاز أن يقال فى تكسير مطية مطايئ (كذا) كقول بعضهم سماء، فإذا كانوا قد رفضوا ذلك فى حال السعة والاختيار مع أنه أسهل من اجتماع الهمزتين فأن يرفضوا اجتماع الهمزتين أجدر (1).
وأنت ترى فى تضاعيف هذا الاحتجاج تحمس أبى على، وميله إلى القول برأى أبى عمرو وألفاظه الدالة على ذلك. الدلالة البينة على رفض العرب اجتماع الهمزتين، وتكريره هذه العبارة، ودفعه الاعتراضات التى قد ترد. وأن العرب قد الزموا باب رزيئة وخطيئة القلب عما يؤدى إلى اجتماع همزتين فيه، وأن تحقيق الهمزتين فى خطائئ يجرى مجرى الأصول المرفوضة، وأنهم رفضوا ما هو أسهل من اجتماع الهمزتين فرفض اجتماعهما أجدر. ثم انظر قوله فى مكان آخر: وقول أبى عمرو أرجح عندنا (2)، وهذ كله ينتهى بنا إلى النتيجة التى رجحتها من قبل وهو أن أبا على كان يقرأ بحرف أبى عمرو، أو على الأقل يكون له اختيار يميل به إلى ما ذهب إليه ذلك الإمام.
الفقه ومذهبه فيه
وأبو على يلم فى كتبه بمسائل من الفقه تدل على اتصاله به، ووعيه له، فهو بتحدث عن الربا وأنواعه (3). وعن الصدقة وإخفائها (4). وعن ذى الأمانة من المودع والمعير والموكل والشريك، ومن يك فى ماله يد أمانة لا ضمان كما يتحدث عن الكافر الموادع (5)، ومن صار ذا أمن فى ماله ونفسه بإظهار الشهادتين، وخرج عن أن يكون حربا مستحل المال النفس (6)، ويذكر اختلاف الفقهاء فى «اشهد بالله. وهل يكون يمينا إذا لم يوصل بالله (7)، وأن أبا حنيفة لم يوجب الكفارة على من حلف: يعلم الله ثم حنث (8)، ويذكر قول الفقهاء: «إن المولى
__________
(1) الحجة: 1/ 190مراد ملا.
(2) الحجة: 1/ 294مراد ملا.
(3) الحجة: 3/ 28البلدية.
(4) 3/ 40.
(5) 1/ 205.
(6) 1/ 207.
(7) الشيرازيات: 26.
(8) الحجة: 10/ 406مراد الملا.(1/105)
إذا قال لعبده: يا بنى لم يعتق عليه كما يعتق إذا أقر بنسب ذى رحم محرم منه (1)، ويشرح لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد فى عهده بكافر (2)، ويتحدث عن الإقالة فى البيع (3)، كما يتحدث عن بعض صور الطلاق شارحا لها، ومخرّجا أحكامها (4).
ويبدو أنه درس من المذاهب الفقهية مذهب أبى حنيفة، وقد جمعت للتدليل على ذلك أدلة منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص:
فمن الأدلّة العامة (ا) ما ذكره المقدسى فى أحسن التقاسيم عن قوله: «وأصحاب أبى حنيفة فى بلاد فارس كثير (5)».
(ب) وما ذكره الصفدى فى الغيث المنسجم من أن الغالب فى الحنفية معتزلة (6).
ومعروف عن أبى على أنه كان معتزليا، وقد برهنت فى مكان آخر على ذلك.
ومن الأدلة الخاصة (ا) أن أبا على قياس، وعبارته فى ذلك مشهورة (7).
وأبو حنيفة وأصحابه يمثلون مدرسة القياس (8). ومن هنا كان أثر أبى حنيفة دون غيره من الأئمة شديد الوضوح فى أبى على.
(ب) ما ذكره ابن جنى (تلميذ أبى على) قائلا: «اعلم أن أصحابنا انتزعوا العلل من كتب محمد بن الحسن، وجمعوها منها بالملاطفة والمرفق (9).
(ج) ثناء أبى على على أبى حنيفة فى أمثلة وردت بكتبه.
فمن ذلك ما قال: «كما يجوز تشبيه المعنى بالعين للمبالغة فى أمره، والرفع منه جاز أيضا تشبيه العين بالمعنى إذا أكثر من محاولة ذلك المعنى، وكثر أخذه فيه، واكثاره منه فتقول على ذلك أبو حنيفة الفقه، وأصبح ماؤكم غورا.
وكذلك ثناؤه على أبى يوسف فى قوله: أبو يوسف أبو حنيفة (10).
(د) استشهاده بأقوال أبى يوسف (11)، وقد ورد ذلك الاستشهاد أيضا فى الشيرازيات (12) والخصائص (13)، كما استشهد بمحمد فى الشيرازيات (14).
__________
(1) الشيرازيات: 44.
(2) الشيرازيات لوحة 152.
(3) الحجة 1/ 238مراد الملا.
(4) الحجة 1/ 35، 52.
(5) أحسن التقاسيم: 439.
(6) الغيث المنسجم: 3/ 47.
(7) انظر نزهة الألباء: 210.
(8) وتاريخ بغداد: 13/ 332، 350.
(9) الاقتراح: 51وانظر الخصائص: 168.
(10) الايضاح: 19رقم 1120نحو مخطوط بدار الكتب.
(11) الحجة: 1/ 20مراد ملا.
(12) 156.
(13) انظر 1/ 213.
(14) انظر ص 26.(1/106)
(هـ) وقد عقد ابن جنى مسألة من كلام محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة فى كتاب الإيمان وهى: قال محمد بن الحسن، ان قال أى عبيدى ضربك فهو حر، فضربه جميعهم عتقوا كلهم، ولو قال أى عبيدى ضربته فهو حر فضرب واحدا من عبيده عتق ذلك العبد، فإن ضرب غيره من بعده منهم لم يعتق غير الأول وحده وعلق أبو على على هذه المسألة (1).
(و) ولما احترقت كتب أبى على لم يبق منها إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن (2).
(ز) ما ذكروه من أن الحسن بن أبى الحسين النعمانى الفارسى لقب بالفارسى لأنه تفقه بشيراز على مذهب أبى حنيفة (3)،
(ح) وقد ذكر استدلال أبى يوسف بقوله تعالى: {«إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ»} على جواز الاجتهاد من النبى صلّى الله عليه وسلم،
هذه هى الأدلة العامة والخاصة التى استندت إليها فى تقرير مذهب أبى على الفقهى، وكانت دراسته لمذهب أبى حنيفة من العوامل التى جعلته بارعا فى القياس على النحو الذى سأتناوله بالبيان.
__________
(1) انظر فهرس المخطوطات المصورة: 379رقم 16.
(2) معجم الأدباء: 7/ 257.
(3) ورقة 57طبقات المفسرين تأليف محمد بن على أحمد الداودى المالكى مخطوط بدار الكتب 168تاريخ.(1/107)
مذهب أبى على النحوى
أبو على عند أبى بكر الزبيدى فى الطبقة العاشرة من النحويين البصريين، ومن أصحاب ابن السراج (1). وابن النديم يجعل أبا على كذلك من النحويين البصريين (2)
وهو كذلك عند المتأخرين، وذلك قول (السيوطى 911هـ) فى الهمع: «واختلف البصريون فى كيفية وضعها وضع همزة الوصل فقال الفارسى وغيره، «اجتلبت ساكنة، وكسرت لالتقاء الساكنين (3)»
وينظر المحدثون إلى مذهب أبى على فى النحو نظرات متخالفات: فالأستاذ عبد الحميد حسن يتحدث عنه بين نحاة بغداد (4). ويرى صاحب نشأة النحو أن أبا على ممن ترسموا خطا المذهب البغدادى (5). والأستاذ الشيخ محمد النجار يرى فى تقديمه كتاب الخصائص أن أبا على يميل فى نزعته النحوية إلى البصرية (6).
والباحث إزاء هذا التخالف لا بد أن يقيم الدليل على الرأى الذى يراه فى تحقيق مذهب أبى على النحوى:
فأولا: ماذا تشير اليه النصوص؟
وثانيا: وماذا تدل عليه المقابلة بين السمات العامة للمذهب البصرى أو الكوفى، وما ورد من هذه السمات فى كتب أبى على؟
وثالثا: ثم ماذا تنتهى اليه الموازنة بين رأى كل من الفريقين فى المسائل النحوية المختلفة ورأى أبى على فى هذه المسائل.؟
ولا أريد هنا الاستقصاء أو الاستيعاب، وإنما اكتفى بذكر أمثلة فى هذه النواحى الثلاث، يستدل بها، ويقاس عليها، وتختصر الدلالة على مذهب أبى على النحوى فى إجمال.
أولا: أما النصوص فيكفى أن أعرض منها ما يأتى:
(1) يقول أبو حيان: «أبو على أشد تفردا بالكتاب، وأشد اكبابا عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين (7).
(2) وحدث أبو على ابن جنى انه وقع حريق بمدينة السلام فذهب به جميع علم
__________
(1) انظر طبقات الزبيدى: / 130126.
(2) انظر الفهرست: 9559.
(3) الهمع: 2/ 211.
(4) انظر القواعد النحوية: 101.
(5) انظر نشأة النحو: محمد طنطاوي: 97، 98ط سنة 1357، 1938م.
(6) انظر تقديم الخصائص ط ص 44ط دار الكتب.
(7) الإمتاع: 1/ 131.(1/108)
البصريين، قال: «وكنت قد كتبت ذلك كله بخطى، وقرأته على أصحابنا (1).
(3) وترى أبا على يقول مثلا قياس أصحابنا كذا، وقياس البغداديين كذا (2).
(4) وعقد ابن جنى تلميذ أبى على بابا فى أن لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر (3). وغرضه من ذلك القدح فى الكوفيين (4).
ثانيا: وأما السمات العامة للمذهب البصرى وصداها فى كتب أبى على فمنها:
(1) انه يعتد بالكثرة ويعدها من أسباب قوة القراءة (5).
(2) ثم هو لا يقيس على الشاذ (6). ولا يعتد بالقليل (7). قال: ترك القياس على القليل أولى من القياس عليه لقلة ذلك، وخروجه مع قلته على القياس، وإذا جاء الشيء خارجا عن قياس الجمهور والكثرة فى جنس لم يبلغ أن يتجاوز به ذلك الجنس (8).، ومن هذا يرتضى أبو على ما كان أقوى فى القياس، وأشيع فى الاستعمال (9). ويرفض ما ليس بالمتسع فى الاستعمال ولا المتجه فى القياس (10).
(3) يضاف إلى ذلك موقفه الذى شذذ فيه بعض القراءات العربية عن ابن عامر أو حمزة مثلا. وذلك ما يتفق فيه مع نزعة البصريين على وجه العموم.
ثالثا: وأما المقارنة بين رأى أبى على ورأى البصريين والكوفيين فهى كذلك تهدى إلى نزعة أبى على البصرية، فمن المسائل التى رأى فيها أبو على رأى البصريين، واحتج لهم ما يأتى:
(1) الشيطان فيعال من شطن مثل البيطار (11).
(2) تصويب إيه بالكسر من غير تنوين فى قول ذى الرمة:
وقفنا، فقلنا إيه عن أم مالك (12) ... وما بال تكليم الديار البلاقع (13)
(3) الحال لا تتقدم على العامل إذا كان معنى (14)، والكوفيون لا يجيزون تقديم
__________
(1) معجم الأدباء: 7/ 256.
(2) الشيرازيات: 141.
(3) انظر الخصائص: 1/ 405.
(4) الاقتراح: 32.
(5) الحجة: 2/ 38من البلدية.
(6) انظر البغداديات لوحة 25.
(7) انظر الحجة: 1/ 111.
(8) انظر الحجة: 3/ 2015من البلدية.
(9) انظر الحجة: 1/ 68من مراد ملا.
(10) الحجة: 1/ 128.
(11) الحجة: 1/ 314من مراد ملا.
(12) معجم الأدباء: 8/ 234وانظر شرح السيرافى للكتاب: 1/ 108.
(13) شرح السيرافى للكتاب 1/ 108.
(14) الحجة 1/ 160والانصاف: 1/ 158.(1/109)
الحال على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر نحو راكبا جاء زيد، ويجيزونه مع المضمر راكبا جئت. وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها مع الاسم الظاهر والمضمر.
وقد بينت فى حديثى عن كتاب الإيضاح مذهب أبى على البصرى وظهوره فى ذلك الكتاب (1) ومن هنا كان أبو على بصريا ما فى ذلك شك، وقد ارتفع أبو على عن طبقته المعاصرة إلى طبقة القدامى من النحويين الأولين، فهو لا يضع نفسه فى الطبقة التى وضعه فيها الزبيدى، حقيقة هو من أصحاب ابن السراج من حيث الزمن والتلقى، ولكنه ينزع إلى تقدير الخليل وسيبويه والأخفش، فتراه فى الأعم الأغلب يدور فى فلك هؤلاء النحاة، ويقول بآرائهم. وربما خالفهم فى الأقل الأندر (2). ثم يرمى باعتراضاته من جاء بعدهم من النحاة بصريين كانوا أو كوفيين.
ويعد كتابه الاغفال مخالفة صريحة لآراء الزجاج فى مسائل نحوية تتصل بكتاب سيبويه، وفهمهما الزجاج على وجه، وفهمهما أبو على وجه آخر، وانتصر فيها لسيبويه فى الأغلب الأعم. كذلك نراه يستدرك على أبى بكر بن السراج فى الاحتجاج.
وقد بينت فى مواضع مختلفات من هذا البحث موقف أبى على من المبرد، وعللت لذلك، هذا ومسائله المختلفة ولا سيما البصريات تلقى ضوءا عن موقفه من الكسائى، والفراء، وأحمد بن يحيى، كما تدل على علمه بآرائهم وتقويمها.
والطابع العام فى موقفه مع المبرد التخالف، وقد يتفق معه القليل (3).، واتفق فى بعض ما ذهب إليه مع الكوفيين (4). وهو فى توافقه وتخالفه يصدر عن اقتناع مؤيد بالحجة، ويقين مدعوم بالبراهين، وذلك كله ينتهى بى إلى القول بأن أبا على فى زمنه كان إماما بصريا مستقلا بآرائه فى النحو، وشيخا لمدرسة قائمة بذاتها تلاميذها
__________
(1) يراجع الايضاح فى الصفحات الآتية 12، 32، 33، 34، 44، 50، 51، 63، 71.
(2) انظر مثلا الهمع: 1/ 7.
(3) انظر أمثلة لذلك فى المغنى 2/ 21والهمع 1/ 75، 77، 2/ 195.
(4) انظر مثلا الشيرازيات: 41والمغنى 1/ 61، 62، 105والهمع 2/ 21وشرح الأشموني: 2/ 187.(1/110)
أنصاره يقولون بقوله، ويستعينون بكلامه، ومن هنا يؤلف ابن جنى اللمع يجمعه من كلام شيخه أبى على، ويشرح أبو طالب العبدى الإيضاح فقالوا، إنه شرح كلام أبى على بكلام أبى على (1)، ويتفق مع أبى على كثير من تلاميذه فى كثير من المسائل النحوية (2)
وهذا كله يفسر لنا قول صاحب البدائع: «لا يجوز اضمار حرف العطف خلافا للفارسى ومن تبعه (3)». أو قول ابن هشام: «حيث تقع مفعولا به وفاقا للفارسى (4)، ما ورد فى معجم الأدباء: من أن فلانا النحوى لقى ببغداد أصحاب أبى على (5). إلى غير ذلك من الأقوال التى تشير إلى تفرد صاحبى بالرأى، واماميته فيه.
أبو على والشعر
حدث علم الدين أبو على محمد القاسم بن أحمد الأندلسى قال: «وجدت فى مسائل نحوية تنسب إلى ابن جنى قال: «لم أسمع لأبى على شعرا قط، إلى أن دخل إليه فى بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، فقال أبو على أنى لأغبطكم على قول هذا الشعر، فان خاطرى لا يواتينى على قوله، مع تحقيقى للعلوم التى هى من مواده فقال له ذلك الرجل: فما قلت قط شيئا منه البتة؟ فقال ما أعهد لى شعرا إلا ثلاثة أبيات قلتها فى الشيب وهى قوله:
خضبت الشبب لما كان عيبا ... وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خلّ ... ولا عيبا خشيت، ولا عتابا
ولكن المشيب بدا ذميما ... فصيرت الخضاب له عقابا (6)
ويستنبط من هذا النص ما يأتى:
__________
(1) انباه الرواة: 2/ 387.
(2) انظر مثلا الهمع 1/ 37، 38، 123، 207، 211، 2/ 85والمغنى: 1/ 37فى اتفاق ابن جنى معه وانظر 2/ 89فى اتفاق الريعي مثلا.
(3) بدائع الفوائد 209.
(4) مغنى 1/ 1114.
(5) معجم الأدباء 17/ 5، 20.
(6) معجم الأدباء: 7/ 251، 252.(1/111)
أولا: أن أبا على لم يرزق حظا من الطبع الذى هو ملاك قول الشعر، والذى بدونه لا تغنى مواده شيئا.
ثانيا: انه لم يقل هذه الأبيات الثلاثة إلا بأخرة من زمنه، بدليل أنه قالها فى المشيب ما لم يكن قالها تفصحا ومحاكاة لغيره فى الموضوع.
ثالثا: أنه فى هذه الأبيات ينزع ذلك النزوع العقلى الذى عرف عنه، واشتهر به، فالتعليل يبدو واضحا فى كل بيت من الأبيات الثلاثة:
(ا) ففي الأول منها القول بالأولى والأجدر.
(ب) وفى البيتين الآخرين تقليب الأمر على وجوهه، ثم ترجيح وجه منها.
فكأنه فى هذه الأبيات الثلاثة أمام مسألة نحوية يدلل على رأيه فيها مستعينا بمناهج البحث المنطقى.
ويبدو أن أبا على بالرغم من كثرة حفظه للاشعار كان لا ينظر إلى الشعر على أنه وسيلة من وسائل التذوق الأدبى والاستمتاع الفنى، فهو إن نظهر فى بيت نظر إليه من حيث الافادة اللغوية، أو الصناعة النحوية، يفتش فيه عن لفظ أو يبحث فيه عن شاهد من شواهد النحو يضيفه إلى هذه الشواهد التى رواها الأئمة السابقون، أو يستنتج منه دليلا على رأى يراه، ومن الدلائل عندى على أنه كان ينظر إلى الشعر هذه النظرة: نظرة النحوى المستشهد، لا نظرة الأديب المستمتع ما جاء فى البصريات من قوله: مما أصبت مما أعمل فيه الثانى قول كثير:
قضى كل ذى دين فوفىّ غريمه ... وعزة ممطول معنّى غريمها
أعمل الثانى وهو: فوفى (1).
وما رواه ابن جنى فى مشابهة معانى الإعراب معانى الشعر، وأن الذى نبه إليه أبو على وضرب لذلك أمثلة منها: قولهم فى (لا) النافية للنكرة أنها تبنى معها فتصير كجزء واحد من الاسم نحو: لا رجل فى الدار، ولا بأس عليك، وأنشد أبو على فى هذا المعنى
خيط على زفرة، فتم ولم ... يرجع إلى دقة، ولا هضم (2)
__________
(1) البصريات 68.
(2) الخصائص: 1/ 560وانظر هناك شرح البيت.
والزفرة: وسط الفرس بقال: إنه لعظيم الزفرة، وبعير مزفور شديد تلاحم المفاصل،.(1/112)
وكان إذا أوجبت القسمة عنده أمرين كل واحد منهما غير جائز (1). (كقولهم أنهم لا يبنون من ضرب وعلم وما كانت عينه لاما أو راء مثل عنسل، قالوا:
«لانا نصير به إلى ضرب وعنلم، فان أدغمنا ألبس بفعّل، وان أظهرنا النون قبل الراء واللام ثقلت، فتركنا بناءه أصلا (2).) يقول فيه قسمة الأعشى:
«فاختر وما فيهما ... حظ لمختار».
وقد عرف ابن جنى وهو التلميذ الأول هذه النزعة عند أبى على، قالوا:
كان أبو على الفارسى بشيراز، وكان ممر المتنبى إلى دار عضد الدولة على دار أبى على الفارسى، فكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء.
وكان لابن جنى هوى فى أبى الطيب، كثير الاعجاب بشعره، لا يبالى بأحد يذمه، أو يحط منه، وكان يسوؤه أطناب أبى على فى ذمه، واتفق أن قال أبو على يوما: اذكروا لنا بيتا من الشعر نبحث فيه، فبدأ ابن جنى وأنشد:
حلت دون المزار فاليوم لو زر ... ت لحال النحول دون العناق
فاستحسنه أبو على واستعاده وقال: «لمن هذا البيت فانه غريب المعنى» فقال ابن جنى: «للذى يقول»:
أزورهم، وسواد الليل يشفع لى ... وأنثنى، وبياض الصبح يغرى بى
فقال وإن هذا حسن بديع جدا فلمن هذا؟! قال: للذى يقول:
أمضى إرادته فسوف له قد ... واستقرب الأقصى، فثم له هنا
فكثر إعجاب أبى على، واستغرب معناه، وقال لمن هذا؟! فقال ابن جنى للذى يقول:
ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا ... مضر، كوضع السيف فى موضع الندى
__________
ويقال للفرس إنه لعظيم الزفرة أى عظيم الجوف، وقال الجعدى: خبط على زفرة يقول:
كأنه زافر أبدا من عظم جوفه، فكأنه زفر فخيط على ذلك. انظر لسان العرب. مادة زفر.
(1) الخصائص: 1/ 561.
(2) الخصائص: 1/ 568.(1/113)
فقال: «وهذا أحسن والله! لقد أطلت يا أبا الفتح، فاخبرنا من القائل؟؟
قال: «هو الذى لا يزال الشيخ يستثقله، ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللب!» قال أبو على: «أظنك تعنى المتنبى!» قلت نعم! قال:
والله لقد حبّبته إلى، ونهض ودخل إلى عضد الدولة، فأطال فى الثناء على أبى الطيب ولما اجتاز به استنزله واستنشده، وكتب عنه أبياتا (1).
ومن المهم هنا أن أشير إلى ما سلكه ابن جنى من لطف المدخل، وحسن التأتي! فقد عرض أبياتا على الشيخ أبى على قصد إليها عامدا لأنها من ذلك النوع الذى يتأثر به الفارسى، وينتزع منه إعجابه.
فالأبيات فى مجموعها تحتوى على مقابلات أحوال بأحوال فى صورة منطقية عامة: فهى حالت دون المزار فشفه الوجد حتى حال تخوله دون العناق! وسواد الليل يشفع زائرا، وبياض الصبح يغرى به منثنيا، ثم هذا البيت المملوء كلمات نحوية:
سوف قد ثم هنا، والإشارة الدالة على معانيها، واستغلال هذه المعانى، فى تصوير ما أراد الشاعر من المدح بمضاء الإرادة، وبعد الهمة! ذلك منهج تفكير أبى على النحوى المنطقى، وقد كان ابن جنى ماهرا حين عرض هذه الأبيات لاسترضاء الشيخ دون سواها، وقد مكنته هذه الصحبة الطويلة، لأبى على فى الحل والارتحال إلى ذكائه من تفهم نفسية أبى على والغوص فى أعماقها، والتعرف على خطواتها، فقدم إليه المتنبى وأنزله من نفسه بأبيات مليئة بالأدوات النحوية، قريبة من صنعة النحاة، وصنعة أبى على بوجه خاص. وكان لابن جنى مندوحة عن هذا الشعر المصنوع بشعر المتنبى المطبوع، ولكنها نزعة أبى على عرفها ابن جنى، ودلف إلى شيحة منها، فكان أثرها فى إقبال الشيخ على المتنبى ذلك الإقبال الذى يرويه المؤرخون.
ومن هنا أرى فى هذه النزعة غير ما رأى الدكتور إبراهيم سلامة، فى قوله على التعميم: «بل كانوا أى النحاة أدباء ومشتغلين بالأدب فى الأقل، لأن الأدب مادة عملهم، والمقياس الذى يرجعون إليه إذا اختلط عليهم الأمر (2)».
فلم يكن نظر الكثير منهم فى الأدب اشتغالا به بل كانوا أو على الأقل أبو على
__________
(1) الصبح المنبئ على هامش العكبرى: 1/ 710.
(2) محاضرات فى البلاغة والنقد: 20.(1/114)
خاصة نحاة اشتغلوا بالنحو ومسائله وتعليلاته إذا ما نظروا إلى الأدب، أو اتصلوا به على الوجه الذى سبق به البيان.
ومهما يكن من أمر فإن لأبى على نظراء من النحاة تخلفوا فى قول الشعر، فلم يؤثر مثلا عن شيخه الأول سيبويه قرض الشعر، كذلك لم يؤثر شىء من ذلك عن الكسائى والفراء (1). كذلك كان المبرد متخلفا فى قول الشعر، وكان لا ينتحل ذلك، ولا يعتزى إليه، ولا يرسم نفسه به وإن رويت له الأشعار (2)، وكان له تذوق فنى، وكان للجوهرى شعر العلماء لا شعر مفلقى الشعراء (3)، وقد شاع بين الناس تأخر النحاة فى الشعر، وبرودته منهم، قالوا: «وللحسن بن بندار أبى محمد التفليسى شعر عليه تكلف وبرد كشعر النحاة (4)».
نثر أبى على
وأنتقل بعد ذلك إلى التحدث عن نثر أبى على، ولا أريد هنا أن أتحدث عن نثره العلمى فلذلك مكانه المقسوم من هذا البحث عند الحديث عن أسلوبه فى كتبه المختلفة، ولكن أريد التحدث عن نثره الفنى، وبيان ما يمكن أن يكون له من خصائص فيما ترك لنا من هذا القبيل، ونجد لأبى على من ذلك:
(ا) مقدمات كتبه: الإيضاح، والتكملة، والحجة.
(ب) ثم كتابه إلى سيف الدولة، وقد ورد فى الحلبيات من مسائله.
(ج) ثم شرحه للأبيات التى تعرض لشرحها.
(د) وأخيرا مكاتباته إلى الصاحب بن عباد.
(ا) ومقدمات كتب أبى على قصيرة، بل إن بعضها خلا من المقدمات كالمسائل على وجه العموم، وأرى أن السبب فى ذلك قصر باع الرجل فى النثر الفنى، فهو لا يود أن يطيل لأنه لا طاقة له بالفن، ولا قدرة عنده عليه. ولو رجعت إلى مقدمة الإيضاح ثم إلى مقدمة التكملة لوجدته يقول فى الإيضاح:
__________
(1) طبقات النحويين للزبيدى: 122.
(2) انظر طبقات النحويين: 112.
(3) يتيمة الدهر: 4/ 281.
(4) انباه الرواة: 1/ 290.(1/115)
بسم الله الرحمن الرحيم أمّا على أثر ذلك (أطال الله بقاء الملك الجليل عضد الدولة، وأدام عزه، وتمكينه، وأسبغ عليه طوله وفضله)، فإنى جمعت فى هذا الكتاب أبوابا من العربية متحريا فى جمعها على ما ورد به أمره (أعلاه الله) فإن وافق اجتهادى ما رسم فذاك بيمن نقبيته، وحسن تنبيهه وهدايته، وإن قصر إدراك عبده عما وجده مولانا (أدام الله إرشاده ورشده) رجوت أن يسعنى صفحه، لعلمه بأن الخطأ بعد التحرى موضوع عن المخطئ (1).
ويقول فى تقديم التكملة: «الحمد لله رب العالمين الذى جعل حمده فاتحة كتابه وخاتمة دعوى أوليائه فى جنته فقال تعالى: {«وَآخِرُ دَعْوََاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ»}
وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى أنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وإياه نسأل وإليه نرقب فى إيزاع الشكر، والهام الحمد على ما منح الانام، وشمل الخاص والعام من النعمة بالملك العادل عضد الدولة (أطال الله بقاءه، واسبغ عليه نعماءه) كما أفاض فى البلاد عدله، وأوسع العباد فضله، وبث فيهم عرفه وطوله، وقبض عنهم الآراء الجائرة، وكف عنهم الأيدى الغاشمة، حتى ما تجد إلا فقيرا مجبورا، وغنيا موفورا، فإلى الله عز وجل نبتهل فى امتاعه بما خوله، وخول به من هذه النعم، وإبقائه عمادا للدين، وجمالا للدنيا، انه سميع الدعاء، فعال لما يشاء (2).
وليس فى مقدمة الحجة شىء يستحق التعليق لأنها لا تتجاوز حمد الله والصلاة على خاتم أنبيائه، والدعاء لعضد الدولة، وبيان الداعى لتأليف الكتاب فى أسطر لا تزيد عن خمسة عشر سطرا، وهى بعد جارية على نمط مقدمتى الايضاح والتكملة وواضح من هذه المقدمات:
1 - التذلل والخضوع، ولم يكن أبو على فى ذلك وحيدا فقد كانت هذه سمة الكتاب فى هذا العصر.
2 - كثرة الاعتراضات بالجمل الدعائية.
3 - الصناعة النحوية البادية فى أسلوبه كقوله: أما على أثر ذلك، وهو تحليل لقول غيره «أما بعد».
4 - الصناعة الصرفية البادية فى قوله: إيزاع الشكر، وإلهام الحمد.
__________
(1) الايضاح: نحو 1120.
(2) التكملة ص 64من الايضاح نحو 1006.(1/116)
5 - التقديم الذى يشعر بالاختصاص: إياه نسأل إليه نرغب، إلى الله عز وجل نبتهل.
6 - النزعة المنطقية: كالقياس فى قوله: (أطال الله بقاءه كما أفاض فى البلاد عدله).
7 - الهروب من بذل الجهد الفنى بالالتجاء إلى الاقتباس من القرآن الكريم (جعل حمده فاتحة كتابه، وخاتمة دعوى أوليائه فى جنته فقال تعالى:
{وَآخِرُ دَعْوََاهُمْ}
8 - وقوله: «حتى ما تجد إلا فقيرا مجبورا، وغنيا موفورا» مأثور عن بعض السابقين وقد سأله خليفة: كيف وجدت الرعية؟.
9 - المزاوجة حينا، والسجع غير الملتزم حينا.
10 - ظهور ثقافته الشرعية فى نحو قوله: «الخطأ بعد التحرى موضوع عن المخطئ وهو أصل تعبدى فقهى.
(ب) أما كتابه إلى سيف الدولة الوارد بالحلبيات (1). فيبدو فيه كذلك الخضوع والتزلف، كما يبدو فيه الضعف والتكلف، إلى ما فيه من الغموض والابهام، وأنه لا يستطيع أن يقيم سطرا دون أن يتعثر أو يصيبه البهر، فلا يستطيع البيان، والكتاب رد على ابن خالويه فى مسائل نحوية، ومن هنا لا يهمنا منه إلا مقدمته وخاتمته لأنه فى هاتين لا يتحدث فى هذه المسائل، وإنما يقدم ما نحن بسبيله، وما يمكن أن يكون مادة للحكم على نثره: قال فى صدر الكتاب:
«قرأ (أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة) عبد سيدنا الرقعة النافذة من حضرة سيدنا، فوجد كثيرا منها شيئا لم تجر عادة عبده به، لا سيما مع مثل صاحب الرقعة
فانظر كم تكررت كلمة سيدنا فى هذين السطرين؟
ثم كم تكررت كلمة العبد؟
وكيف دل التكرار على ضعف الأسلوب والخنوع حيث جاء مهلهلا لا يبدو فيه التماسك؟
__________
(1) انظر ورقة 33ظهر 5نحوش.(1/117)
ثم اقرأ قوله فى آخر هذا الكتاب يرد على ابن خالويه وقد هاجمه بأن أحدا لا يعرف ما يقول: وليس فى الرقعة التى وصلت إلى عبد سيدنا شىء حكمه أن يتكلم عليه، وآخرها حرف لم يبعد فيه وهو قوله: وليس يعرف أحد ما يقول فكيف ينقضه؟
ومما يصدق هذا أن رقعة من ثلاث رقاع وردت حضرة سيدنا الأمير سيف الدولة (أطال الله بقاءه) فمما ذكره فيها قول الشاعر:
«قالت الا ليت ما (كذا) هذا الحمام لنا»
وتعاطى تفسير الرفع والنصب فى الحمام فقال: «ومن رفع الحمام جعله خبر ليت» وهذا (أطال الله بقاء سيدنا) من العويص الذى يفهمه أحد، ولا يعرفه ولا ينقضه ولا يبرمه، وقد نفذ جواب عبد سيدنا فى ذلك على الوجه الذى يعرف (1).
وهو هنا يضعف ويذل لسيف الدولة بمقدار ما يهجم ويعنف مع ابن خالويه إلى جانب هذه السمات التى لا تختلف عما سبق به البيان.
(ح) أما شرحه لبعض الأبيات التى استشهد بها، فهو شرح قائم على الصنعة الإعرابية (2). وقد أدى ذلك إلى إخلاله بالأداء الفنى فى التعبير، فالتطبيق النحوى عنده فى المحل الأول، ولا شىء يهمه بعد ذلك: اقرأ مثلا شرحه للبيت:
(فملك بالليط الذى تحت قشرها ... كغرقيء بيض كنه القيض من عل)
قال أبو على: ينبغى أن يكون موضع الذى نصبا بأنه مفعول به لملك، ولا يكون جرا على أنه وصف لليط لأن الليط فوق القلب ليس تحته، والمعنى:
ملك بالقشر الذى فوق القلب الذى تحت القشر ليصون القشر القلب فلا ينشق (3).
وهو هنا يعطينا نموذجا لأسلوبه، وهو أسلوب تبدو عليه الصنعة الإعرابية والتزام الترتيب النحوى فى حل البيت، واظهار الأسماء، ووضعها مكان الضمائر، ولو أدى ذلك إلى تكرار يوهن الأسلوب.
__________
(1) الحلبيات ورقة: 38.
(2) إنباه الرواة: 2/ 119تتحكم هذه الصنعة حتى فى حديثه الدارج: انظر قوله إلى عبد الله الأندلسى لما أراد صرفه: إلى كم تتبعنى؟ والله إن على وجه الأرض أنحى منك كيف أجاب القسم؟ وكيف وضع (إن) موضع (ما)؟.
(3) الحجة: 1/ 10.(1/118)
(د) وقد كتب أبو على إلى الصاحب بن عباد ذلك ما يفهمه قول الصاحب:
وللشيخ (أيده الله) بكتابه الوارد (1). ولكن التاريخ لم يحتفظ لنا بما كتب أبو على، ولعل عدم احتفاظه بذلك لأنه لم يكن مما يستحق أن يروى أو يحتفظ به. وهل يفهم قول الصاحب لأبى على: والشيخ (أدام الله عزه) يقتصر على الخطاب الوسط دون الخروج فى إعطاء الرتب إلى الشطط (2). هل يفهم قوله هذا ما استظهرته آنفا من أن أبا على كان يلتزم الاقلال فيما يكتب من نثر لأنه لا طاقة له بالاطالة فيه؟. أرجح ذلك.
وبعد: فان بعد أبى على من صناعتى النثر والنظم يؤكد قول أبى حيان:
«أكثر أئمة العربية بمعزل عن التصرف فى الفصاحة، والتفنن فى البلاغة وقل أن ترى نحويا بارعا فى النظم والنثر (3)»
وهذا أبو سعيد السيرافى وهو هو لم يستطع أن يقيم كتابا للصيمرى يرد به على ابن العميد فى خبر مفيد طريف يرويه أبو حيان فى الإمتاع (4).
ومما سبق يتضح ما كان يراد من قولهم مثلا: «إن أبا القاسم بن جرو الأسدي أخذ الأدب عن الشيخ أبى على الفارسى (5) فالمراد ما كان يسيع عند أبى على من ثقافة عربية شاملة فى اللغة والنحو (6)، والصرف، والعروض، وتوجيه القراءات، والشعر، ورواية الأخبار ولا يفهم منها بناء على ما سبق التعرض لهذه الآثار المروية، والاشعار بالتذوق الأدبى، أو النقد بأسلوب يمت إلى الأساليب الأدبية كما يصطنعه أرباب البلاغة والبيان.
__________
(1) معجم الأدباء: 7/ 241.
(2) يتيمة الدهر: 4/ 271ومعجم الأدباء 7/ 250.
(3) البحر المحيط: 91.
(4) انظر الامتاع: 1/ 132وما بعدها.
(5) بغية الوعاة: 320.
(6) انظر نزهة الألباء: 61.(1/119)
«شيوخ أبى على»
لأبى على ضربان من الشيوخ: ضرب عاصره، وأخذ منه، وتلقى عنه، وضرب لم يعاصره، ولكنه اعتمد على كتبه وأقواله، فجعلها مصادره: استقى منها، واعتد بها.
والضرب الأول هو الذى يذكره المؤرخون والمترجمون، فينصّون على أنه تلمذ للزجاج (1)، وابن السراج (2)، وابن الخياط (3)، وابن دريد (4)، وابن مجاهد (5)، ومبرمان (6) ولم أر واحدا تحدث عن تلمذة أبى على للأخفش: على بن سليمان (7)
مع أنه عاصره، والتقى به، وأخذ منه، وحدث عنه.
كذلك لم أرهم يتحدثون عن غير ابن مجاهد من شيوخه القراء وهم كثير.
أما الضرب الآخر الذى لم يعاصره أبو على فيمثله كثير من الشيوخ أخصهم
أبو زيد وسيبويه والأخفش الأوسط: سعيد بن مسعدة.
وسأتحدث عن الضربين، وأبين مدى تأثر أبى على بكل فى تفصيل:
(1) أبو إسحاق إبراهيم بن السرى الزجاج (8):
تعرض أبو على للزجاج وذكر أنه أحد شيوخه عند الحديث على إعراب قوله تعالى: {«ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»} (9) وتعرض له من غير تصريح باسمه فى الكلام على «مهما» (10) ولم يكن الزجاج فى أول الأمر من المشتغلين بالعلم إنما كان يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو، ولزم المبرد (11) وصار أقدم أصحابه قراءة عليه، وكان من يريد أن يقرأ على المبرد يعرض عليه أولا ما يريد أن يقرأه (12).
وقد ارتفعت منزلة الزجاج فى الحياة الاجتماعية، وبلغ مكانة عند الخلفاء حتى نادم المكتفى (13)، والمعتضد (14). وقد كان الزجاج من أهل الفضل والدين حسن الاعتقاد (15)
__________
(1) ت 311هـ.
(2) ت 316هـ.
(3) ت 320هـ.
(4) ت 321هـ.
(5) ت 324هـ.
(6) ت 345هـ.
(7) ت 315هـ.
(8) ت 311وقيل 316هـ.
(9) الحجة: 1/ 185.
(10) البغداديات: 27، 28.
(11) بغية الوعاة: 179.
(12) الفهرست: 90.
(13) طبقات الزبيدى 121.
(14) إنباه الرواة: 1/ 164.
(15) انباه الرواة: 1/ 164.(1/120)
وتتجلى عقيدته عند ما ذكر اسم الله فقال: «أكره أن أذكر ما قاله النحويون فى هذا الاسم تنزيها (1).
والزجاج صاحب اختيار فى النحو والعروض (2) كما عرف بنظرية الاشتقاق التى زعم فيها أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف، وإن نقص حروف احداهما عن عن حروف الأخرى، فان إحداهما مشتقة من الأخرى (3).
والزجاج مذكور بكتابه معانى القرآن (4) وله كتب أخرى ذكرها بن النديم (5)، منها كتاب الاشتقاق، وكتاب القوافى، وكتاب العروض، وله كذلك مختصر نحو، وكتاب ما ينصرف وما لا ينصرف (6).
وقد ذكر الزبيدى أن أبا إسحاق كان يقول بالعلم والنظر (7).
أما مدى تأثر أبى على بشيخه أبى إسحاق فقد رأيته يروى ما أخبره به الشيخ فى اللغويات (8)، ويتعرض له فى الإعراب (9)، وإذا كان أبو إسحاق يقول بالعلم والنظر فان أبا على برع فى ذلك، وربما كان من منابع براعته اتجاه شيخه الزجاج، وقد عقدت فى هذا البحث دراسة مقارنة بين الشيخ وتلميذه فى الاحتجاج. وقد سمع أبو على من شيخه كتابه فى معانى القرآن (10) وقد كان معانى القرآن مثار نشاط فكرى: أبو على يصلح عليه مسائل فى كتابه الذى سماه (11) الاغفال أو المسائل المصلحة ثم يرد ابن خالويه على كتاب الاغفال، فيؤلف أبو على نقض الهاذور فى الرد على ابن خالويه، وكان أبو على قوى الهجوم على شيخه: يصفه بالسهو فى الحكاية والغلط (12)، والخطأ (13)، أو يصف كلامه بأنه فاسد (14)، وليس بالجيد (15)، وحينا ينصفه (16)، وقد تناولت ذلك بالتفصيل عند الحديث على كتاب الاغفال، وقد روى
__________
(1) الاغفال: 2.
(2) نزهة الألباء: 166.
(3) معجم الأدباء: 1/ 145.
(4) انباه الرواة: 159.
(5) فهرست / 61.
(6) محفوظ بدار الكتب المصرية برقم 141نحو.
(7) طبقات: 119.
(8) انظر مثلا العسكريات: 133والحجة: 1/ 286مراد ملا.
(9) انظر الحجة: 1/ 185.
(10) الاغفال: 2.
(11) انظر إقليد الخزانة: 62، 125.
(12) الاغفال: 2رقم 875تفسير.
(13) 443442.
(14) 31.
(15) 48.
(16) انظر ص 61.(1/121)
أبو على عن شيخه كتابه، الإبانة والتفهيم عن معنى بسم الله الرحمن الرحيم (1).
ويعد أبو إسحاق الزجاج طريق أبى على إلى المازنى (2).
(2) الأخفش الصغير ت 315هـ:
وهو أبو الحسن على بن سليمان، قرأ على ثعلب والمبرد (3)، ويختلف المترجمون فى تقديره: فهو عند أبى البركات الانبارى من أفاضل علماء العربية (4)، وهو عند المرزبانى: «لم يكن بالمتسع فى الرواية فى الاخبار والعلم بالنحو (5)، وكان إذا سأل عن مسائل النحو ضجر، وانتهر كثيرا من يواصل مسألته ويتابعها (6)، على حين يقرر ابن النديم فى الفهرست أن على بن سليمان كان حافظا للاخبار (7).
وكان على بن سليمان مولعا باعتراض ابن الرومى بما يتطير به، فشق ذلك على ابن الرومى فهجاه وأقذع، واستعمل الأخفش حفظ هجائه، وأملاه فيما يملى من الأخبار والأشعار على أصحابه، فلما رأى ابن الرومى أن الأخفش لا يألم لهجائه أقصر عنه (8).
ويبدو أن أبا على انتفع بالجانب الذى برع فيه على بن سليمان وهو رواية الأخبار، فالفارسى يروى عنه بسنده قصيدة يزيد بن الحكم الثقفى لأخيه من أبيه وأمه عبد ربه (9)، وينص فى الإيضاح على أنه أنشده (10)، ويستثبته فى آراء شيخه ثعلب (11) واستعانة أبى على بالأخفش الصغير لم تبلغ مبلغ استعانته بالأخفش الأوسط على أية حال.
__________
(1) انظر المخطوطة رقم 67نحوش دار الكتب الصفحة الأخيرة من هذه المجموعة والرسالة فى المجموعة الثالثة وقد ذكر فهرس المحفوظات المصورة بالأمانة العامة أن الرسالة للزجاجى ت 377هـ.
(2) انظر البغداديات 29، 32.
(3) بغية الوعاة: 338.
(4) نزهة الألباء: 168.
(5) معجم الأدباء: 13/ 247وبغية الوعاة: 338.
(6) المصدر السابق وانظر الفهرست لابن النديم 137.
(7) الفهرست: 123.
(8) طبقات الزبيدى: 126.
(9) البصريات: 57.
(10) الايضاح: 39.
(11) الحجة: 1/ 226من البلدية.(1/122)
(3) أبو بكر محمد بن السرى البغدادى ابن السراج ت 316هـ:
ومن أشياخ أبى على محمد بن السرى بن السراج صاحب الكتب المفيدة فى النحو، منها كتاب الأصول، جمع فيه أصول العربية، وأخذ مسائل سيبويه، ورتبها أحسن ترتيب (1)، وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه (2)، وكتاب الأصول غاية فى الشرف، والفائدة (3) ولابن السراج كتاب فى مختصر النحو أختصر فيه أصول العربية، وجمع مقاييسها (4).
وكان ابن السراج من أحدث غلمان المبرد سنا مع ذكائه وفطنته، وقد انتهت إليه الرئاسة بعد موت الزجاج (5)، نظر فى دقائق سيبويه وعوّل على مسائل الأخفش والكوفيين، وخالف أصول البصريين فى مسائل كثيرة، ويقال «ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله (6) وابن السراج هو الذى احتج للقراءات التى ذكرها ابن مجاهد، وكانت بينهما صحبه (7)، وقفى قفوه أبو على الفارسى، على النحو الذى تعرضت له عند حديث الموازنة بين الرجلين فى الاحتجاج.
وكان (رحمه الله) يعرف قدر المتقدمين عليه، والذين سبقوه ممن اشتغلوا بالعلم (8)، وقد أخذ أبو على عن ابن السراج كتاب سيبويه (9).
وها نحن أولاء نرى مقدار الأثر الكبير الذى تركه ابن السراج فى نفس أبى، فجمعه المقاييس، ونظره فى دقائق الكتاب، وتعويله على مسائل الأخفش واحتجاجه للقراءات، ومعرفته فضل المتقدمين، كل أولئك بعض ما كان لابن السراج من آثار عند الفارسى. وقد أخبره أبو بكر بن السراج بمذاهب الكوفيين، ومن هنا يعتمد عليه أبو على فى تفسير مصطلحاتهم (10).
وقد رأيت أبا على يحتفل فى مسائله بابن السراج: يسائله مستفهما (11).
__________
(1) نزهة الألباء: 69.
(2) معجم الأدباء: 18/ 200.
(3) طبقات الزبيدى: 122.
(4) طبقات الزبيدى: 122.
(5) الفهرست: 92.
(6) معجم الأدباء: 18/ 198.
(7) انظر نزهة الألباء: 168.
(8) انظر معجم الأدباء: 15/ 1201200.
(9) بغية الوعاة: 45.
(10) انظر البغداديات: 36.
(11) البغداديات: 21.(1/123)
ويورد قوله ويشرحه (1)، ويعقب عليه (2)، ويقيس على كلامه (3)، ويستأنس بما يملى عليه (4)، وينقل تعريفه للاسم ويعلق عليه (5)، ويدلل على رأيه ويعلله (6)، ويعتمد عليه فى تقسيم الشاذ (7) وينشد ما أنشده عن أبى العباسى عن أبى عثمان (8)، ويروى ما أنشده عن السكرى عن هاشم (9) وكل ذلك فى اعتداد وتوثيق.
(4) أبو بكر بن الخياط ت 320هـ:
أما أبو بكر الخياط فهو محمد بن أحمد بن منصور، قدم بغداد، واجتمع مع إبراهيم ابن السرى الزجاج، وجرت بينهما مناظرة، وكان يخلط المذهبين: نحو البصريين والكوفيين، اثنى عليه السيوطى، ذكر له صاحب الفهرست (10) النحو الكبير، ومعانى القرآن، والمقنع (11). والموجز فهو بذلك مشارك فى الدراسات النحوية والقرآنية جميعا:
قرأ عليه أبو على الفارسى، وكتب عنه شيئا من علم العربية رأى ذلك ياقوت بخط أبى على (12).
وقد أدعى ابن خالويه على أبى على الفارسى أنه قال بأن ابن الخياط لا يعرف شيئا، فرد ذلك أبو على فى كتاب منه إلى سيف الدولة حيث قال:
وأما قوله: انى قلت أن ابن الخياط كان لا يعرف شيئا فغلط فى الحكاية.
كيف استجيز ذلك؟ وقد كلمت ابن الخياط فى مجالس كثيرة، ولكنى قلت: إنه لا لقاء له لأنه دخل إلى بغداد، بعد موت محمد بن يزيد، وصادف أحمد بن يحيى، وقد صمّ صمما شديدا لا يخرق الكلام سمعه، فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان
__________
(1) البصريات: 66.
(2) البصريات: 68.
(3) البصريات: 69.
(4) البصريات: 74.
(5) العسكريات: 132.
(6) نفس المصدر.
(7) العسكريات: 134.
(8) العسكريات: 135.
(9) العسكريات: 137.
(10) وانظر نزهة الألباء وبغية الوعاة: 121.
(11) فى البغية المتقن فى النحو وهو تحريف انظر ص 19.
(12) معجم الأدباء: 17/ 142، وانظر معجم الأدباء: 7/ 261.(1/124)
يقوله (كذا والصواب يقول) فيما كان يؤخذ عنه على ما يمليه، دون ما كان يقرأ عليه (1).
وفارق أبو على أبا بكر قبل وفاته وهو يشغل بالعلة التى توفى فيها، ورجع أبو على إلى بلاد فارس ثم عاد وقد توفى أبو بكر (2). وقد اثنى ابن جنى على كتب أبى بكر بحضرة أبى على الفارسى قائلا لو عاش لظهر من جهته علم كثير «فقال أبو على: نعم إلا أنه كان يطول كتبه (3)
فإذا أردت التعرف على أثر ابن الخياط فى أبى على وجدته فى مشاركته فى الدراسات النحوية، والقرآنية، ومعرفته مذاهب الكوفيين والبصريين جميعا، وما كان عليه الرجل من علم كثير. وقد كتب ابن الخياط كثيرا من كتب أبى زيد (4)
وسنرى مقدار انتفاع أبى على بابن الخياط، وتأثره به فى هذا الجانب (5).
(5) أبو بكر بن دريد ت 321هـ:
وابن دريد هو أبو بكر محمد بن الحسن (221213هـ)، ولد بالبصرة ونشأ بعمان فأقام بها مدة، ثم صار إلى جزيرة ابن عمارة (6). فسكنها مدة ثم صار إلى فارس فقطنها، ثم صار إلى بغداد (7)، بعد أن أسن، فأقام بها إلى آخر عمره (8).
فربما التقى به أبو على فى فارس، وربما التقى به فى بغداد.
وكان ابن دريد عالما باللغة، وأشعار العرب، أخذ عن علماء البصريين، وقرأ عليهم أخذ عن أبى حاتم السجستانى، وأبى الفضل الرياشى، وعبد الرحمن ابن أخى الأصمعى (9)، وهو مشهور بكتابه الجمهرة فى علم اللغة (10)، ومقصورته (11)
التى مدح بها الأمير أبا العباسى الميكالى رئيس نيسابور (12).
وإذا كان كل من الزجاج، وابن السراج، وابن الخياط من أساتذة أبى على مذكورا
__________
(1) معجم الأدباء: 17/ 145.
(2) معجم الأدباء: 7/ 261.
(3) انظر معجم الأدباء: 7/ 260.
(4) المصدر السابق.
(5) انظر ص 128من هذا الكتاب.
(6) فى معجم الأدباء جزيرة ابن عمر: 18/ 128.
(7) الفهرست: 91.
(8) معجم الأدباء: 18/ 128.
(9) نزهة الألباء: 173.
(10) الفهرست: 91.
(11) نزهة الألباء: 173.
(12) معجم: 18/ 131.(1/125)
بحميد الأخلاق، وحسن العقيدة فان ابن دريد كان محبا للشراب والغناء، حتى كان يعلق العيدان والشراب المصفى فى بيته وقد جاوز التسعين (1)، يلقاه الناس على كبر سنه سكران لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من سكره (2)، وكان يتصدق بدنان الخمر قائلا: {«لَنْ تَنََالُوا الْبِرَّ حَتََّى تُنْفِقُوا مِمََّا تُحِبُّونَ»}، كما كانت تهدى إليه الدنان (3)»، كما كان يتعلق بالوضىء من الغلمان (4).
وكان لا يمسك شيئا يقع بيده (5). تصدر ابن دريد فى العلم ستين سنة، وقد مات. هو وأبو هاشم الجبائى فى يوم واحد، فقال الناس: «مات علم اللغة والكلام (6)».
فإذا تبينت آثار ابن دريد فى الفارسى وجدته فى العلم باللغة، ورواية أشعار العرب، وفى مسائل أبى على البصريات يظهر تأثر أبى على بابن دريد واضحا فهو يروى ما أنشد ابن دريد: «تقول عرسى وهى لى فى عومرة الخ، ويشرح ألفاظ البيت بألفاظ ابن دريد ولا يزيد، كذلك يروى ما قاله ابن دريد فى الرحمن من غير تعليق (7)» وقد روى شيئا من كلامه (8). كما يروى عنه ما جرى بين الأصمعى والمفضل الضبى (9).
وربما تأثر أبو على بشيء من شرب ابن دريد ومجانته (10).
(6) أبو بكر بن مجاهد (ت 324هـ):
وأبو بكر بن مجاهد هو أحمد بن موسى آخر من انتهت إليه رئاسة القراءات والاقراء بمدينة السلام فى عصره، اجتمع فى حلقته نحو ثلاثمائة مصدر (11)، ذكره ابن النديم، فأثنى عليه، ووصفه بأوصاف حسنة من الفضل والعلم، والديانة
__________
(1) نزهة الألباء: 174وانظر معجم الأدباء: 18/ 130.
(2) معجم الادباء: 18/ 131.
(3) معجم الأدباء: 18/ 136.
(4) 18/ 139.
(5) طبقات الزبيدى: 201.
(6) نزهة الألباء: 475.
(7) انظر البصريات: لوحة رقم 57.
(8) انظر الاغفال: 58تفسير 875بدار الكتب.
(9) انظر المخصص: 1/ 29.
(10) انظر الكلام عن أخلاق أبي على.
(11) طبقات القراء: 1/ 142.(1/126)
والمعرفة بالقراءات، وعلوم القرآن، وحسن الأدب، ورقة الخلق، وثقوب الفطنة (1)، ووصفه ابن الجزرى فى كتابه الطبقات: بأنه شيخ الصنعة، وأول من سبع السبعة (2) وهو الذى حمل الوزير ابن مقلة على تعذيب ابن شنبوذ (3)، وروى أبو على القراءة عنه عرضا (4).
ولولا أبو بكر بن مجاهد ما كان كتاب الحجة لأبى على، ويكفى ذلك أثرا يتحدث عن فضل ابن مجاهد، وصدى لعلمه وكتبه فى نفس الفارسى. وقد استظهرت فى مكان آخر أن الجدل الذى أقامه ابن مجاهد حول القراءات الشاذة كان بعض ما دفع ابن جنى تلميذ الفارسى إلى تأليف المحتسب.
(7) أبو بكر مبرمان (ت 245هـ)
أما المبرمان فهو محمد بن على بن اسماعيل العسكرى، كان إماما فى النحو قيّما به أخذ عنه السيرافى والفارسى، وكان مع علمه وفضله وضيع النفس (5)، ساقط المروءة نحيفا، إذا أراد أن يمضى لمصلحة طرح نفسه فى طبق حمال، وشده بحبل، وربما كان معه نبق أو غيره فيأكل، ويرمى الناس بالنوى يتعمد رءوسهم، وربما بال على رأس الحمال (6)، وقد كان مبرمان ضنينا بعمله لا ييسر سبيل الأخذ عنه، فكان لا يقرأ كتاب سيبويه إلّا بمائة دينار، وقد احتال عليه أبو هاشم الجبائى، وسخر منه فى حيلة طريفة يرويها المترجمون (7)، كانت لمبرمان عناية بكتاب سيبويه، شرحه، وشرح شواهده، إلى جانب شرحه كتاب الأخفش وله كتب أخرى فى النحو (8) هذا ولقبه المبرد مبرمان لكثرة سؤاله له (9).
ولعلك ترى ما كان لمبرمان من أثر عند الفارسى: فهو معنىّ بالكتاب، وحسبك هذا عملا له أثر جليل فى نفس التلميذ أبى على. وأصحح هنا ما قال العاملى صاحب
__________
(1) الفهرست: 47.
(2) 1/ 139.
(3) انظر طبقات القراء: 2/ 5554.
(4) طبقات القراء: 207.
(5) الفلاكة والمفلوكون: 113.
(6) بغية الوعاة: 75.
(7) انظر معجم الأدباء: 18/ 256.
(8) انظر بغية الوعاة: 75.
(9) الفلاكة والمفلوكون: 113.(1/127)
أعيان الشيعة، فبعد أن ذكر مشايخ أبى على، وعد منهم أبا إسحاق الزجاج، وأبا بكر ابن السراج، وأبا بكر مبرمان، وأبا بكر الخياط قال: وفى لسان الميزان أخذ عن أبى بكر بن مجاهد ثم علق العاملى على ذلك بقوله: «ولعله أحد المذكورين» أقول: وهذا الذى قاله العاملى خطأ فإن أبا بكر بن مجاهد غير الزجاج، وابن السراج ومبرمان، وابن الخياط. كذلك وقع العاملى فى خطأ آخر فبعد أن ذكر قول ابن جنى الذى أورده ياقوت فى معجم الأدباء وسؤاله أبا على هل قرأ على أبى بكر؟
قال العاملى: ولا يعلم أن أبا بكر هذا من هو لأنه مر فى مشايخه أنه أخذ عن ثلاثة كلهم يكنى أبا بكر، ولعل المراد به السراج فإنه أعرفهم وأشهرهم والله أعلم (1).
أقول: وأبو بكر هنا هو أبو بكر بن الخياط الوارد فى كتاب الفارسى لسيف الدولة (2)
وبعد فهؤلاء هم شيوخ أبى على فى القراءة واللغة والنحو وقد أوردتهم على حسب سنى وفاتهم، وذكرت ما كان لكل شيخ من الأثر الخلقى والعلمى فى نفس أبى على، ومما يستحق التسجيل. أن معظم هؤلاء الشيوخ قد اختارهم الله إلى جواره فى الربع الأول من القرن الرابع الهجرى، وبعد نزول أبى على بغداد بنحو خمسة عشر عاما فالزجاج ت 311هـ (3)، وابن السراج توفى سنة 316هـ (4)، وابن الخياط ت (320هـ) (5). وابن دريد ت (321هـ) (6). وابن مجاهد ت (224هـ) (7). والذى أريد أن أرتبه على ذلك أن أبا على قد خلا الجو له نحو خمسين عاما: نصف قرن من الزمان، تصدر فيه للإمامة، وقد أحس أبو على من نفسه ذلك فى حياة شيخه أبى بكر بن الخياط إذ يرى أنه أصبح فى درجة تعلو به على أصحاب ابن الخياط، وترفعه إلى درجة ابن الخياط نفسه: قال ابن جنى: حدثنى أبو على قال: اجتمعت مع أبى بكر بن الخياط عند أبى العباس المعمرى بنهر معقل فى حديث طويل، فسأله عن العامل فى إذا من قوله سبحانه: هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق» قال فسلك فيها مسلك الكوفيين، فكلمته إلى أن
__________
(1) أعيان الشيعة: 21/ 28.
(2) انظر الحلبيات: 33ظهره نحو.
(3) انظر نزهة الألباء: 168.
(4) المصدر السابق: 169.
(5) انظر معجم الأدباء: 17/ 141.
(6) نزهة الألباء: 175.
(7) الفهرست: 47.(1/128)
أمسك، فسألته عن غيرها، وعن غيرها، وافترقنا، فلما كان الغد اجتمعت معه عند أبى العباس، وقد أحضر جماعة من أصحابه، فسألونى فلم أر فيهم طائلا، فلما انقضى سؤالهم قلت لأكبرهم: كيف تبنى من سفرجل مثل عنكبوت؟ فأجابه مسرعا: سفر روت، فلما سمعت ذلك قمت فى المسجد قائما وصفقت بين الجماعة: سفر روت سفر روت!! فالتفت إليهم أبو بكر وقال: «لا أحسن الله جزاءكم، ولا أكثر فى الناس أمثالكم (1) خجلا مما جرى، واستحياء من أبى على (2) وافترقنا فكان آخر العهد بهم (3)، وهذه الحكاية إلى جانب ما استشهدت بها عليه تدل على براعة أبى على فى التصريف، وتنقله فى مجالس العلم، ومناصرته أهله من الشيوخ، ونابغى الطلاب فها أنت ذا ترى أنه يكلم ابن الخياط إلى أن يمسك، وأنه يقبل على أكبر طلابه سنا، وأرجحهم عقلا، وأوسعهم علما عند نفسه، فيلقى عليه هذه المسألة الصرفية التى يجيب عنها إجابة تخجل أبا بكر بن الخياط، وتبعث فى نفسه الاستحياء من أبى على، ثم يكون الافتراق بين الرجلين الذى لا لقاء بعده.
وهكذا يرتفع أبو على عن طبقة شيوخه الذين تلقى عنهم، فيتعرض للزجاج فى كتابه الاغفال، ويعرض احتجاجه للقرآن جنبا إلى جنب احتجاج شيخه أبى بكر ابن السراج على النحو الذى عرضت له فى مكان آخر من ذلك البحث، ويتحدث فى بعض كتبه أن شيوخه كانوا يسألونه (4). ويتعرض لابن دريد بقوله: «وقد كان شيخ من أهل اللغة وزن هذه الكلمة يستعور بيفتعول حتى نبه عليه، وله فيما كان أملاه من الأبنية حروف كثيرة تحتاج إلى إصلاح» (5) وبهذا يرتفع أبو على عن شيوخه المعاصرين، ويعلو باسناده إلى المصادر الأولى (6).
وقد بينت فى حديثى عن ثقافة أبى على انتفاعه بالشيوخ القدامى أمثال الاصمعى وأبى عبيدة، وأبى عثمان المازنى، وأحمد بن يحيى ثعلب، كما أوردت فى غضون عرضى لمسائله مهاجمة القراء، والكسائى، والمبرد ثم ثعلب حينا، ورأيت أبا على لم يكن يعجبه نقل اللحيانى (7). كما رأيته يهاجم ابن السكيت (هو أبو يوسف يعقوب ابن
__________
(1) الخصائص: 2/ 594وما بعدها 274نحو تيمور.
(2) معجم الأدباء: 7/ 235.
(3) الخصائص: 2/ 595.
(4) انظر الحجة: 1/ 326مراد ملا.
(5) البغداديات: لوحة رقم 4.
(6) انظر طبقات الزبيدى: 127.
(7) المخصص: 3/ 146، 4/ 44، 14/ 232 وهو على بن حازم اللحياني، انظر نزهة الألباء: 122.(1/129)
السكيت (1)). فيخطئه فى الرواية (2)، ويرميه بالوهم (3)، وينص على أنه غير مسموع له فى التصريف (4).
لكن أبرز من انتفع بهم أبو على من الشيوخ القدماء، واعتد بأقوالهم فى توقير وإجلال ثلاثة رجال: أبو زيد، وسيبويه، والاخفش.
(ا) فاما أبو زيد فهو سعيد بن أوس بن ثابت الانصارى (5) وثابت هذا شهد أحدا، وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم). وأبو زيد معدود من القراء، والنحاة، واللغويين: روى القراءة عن المفضل عن عاصم الكوفى، كما روى عن أبى عمرو بن العلاء البصرى (6)، وألف كتابا فى قراءة أبى عمرو (7).
وكان من جلة أصحابه وكبرائهم (8). ويقول السيرافى: «وعامة كتاب النوادر لأبى زيد عن المفضل (9). فها نحن أولاء نرى أن أبا زيد لا يتعصب فى طلب المعرفة (10). وهذا ما يقرره السيرافى إذ يقول: «ولا نعلم أحدا من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة شيئا من علم العرب إلا أبا زيد (11).
ومعظم تأليف أبى زيد فى اللغة (12).
ورأيت أبا على يصف أبا زيد بالضبط فى الرواية (13)، ويعقد لما ينشده مسألة مستقلة سأل عنها عضد الدولة (14)، ويستعين به فى تفسير الكلمات (15)، ويروى ما أنشده فى كثرة ظاهرة، ويوجه إعراب ما ينشده (16). ويعرف طريقته فى
__________
(1) انظر نزهة الألباء: 123المخصص: 7/ 107.
(2) المخصص: 7/ 107.
(3) المخصص: 4/ 102، 14/ 62.
(4) انظر المخصص 8/ 112فى وزن تتحيز.
(5) طبقات الزبيدى: 182.
(6) طبقات القراء: 1/ 189.
(7) الفهرست: 81.
(8) طبقات القراء: 1/ 305.
(9) أخبار النحويين البصريين: 45وفى صدر النوادر تفصيل لما أخذ أبو زيد عن الفضل وما سمعه عن العرب من شعر القصيد وأبواب.
الرجز واللغات انظر نوادر اللغة: 1.
(10) سيبويه امام النحاة لأستاذنا: 62.
(11) أخبار النحويين البصريين: 45.
(12) انظر الفهرست: 81.
(13) الحجة: 1/ 717، من البلدية.
(14) انظر الشيرازيات: 99.
(15) الحجة: 1/ 226من البلدية.
(16) الحجة: 1/ 148من البلدية.(1/130)
تناوله مسائل اللغة (1)، ويورد تفسيره للكلمات (2)، ويبلغ اعتداد أبى على بأبى زيد مبلغه إذ ينشد ما حكى أبو زيد.
(فإذا سمعت بأننى قد بعتهم ... بوصال غانية فقل كذبذب)
ثم يعلق على ذلك بقوله: «وهذه الكلمة: «كذبذب» يحكى فيما شذ عن سيبويه فى الأبنية، ولولا ثقة أبى زيد، وسكون النفس إلى ما يرويه لكان ردها مذهبا (3).
وجاءت عناية أبى على بأبى زيد مصداقا لقولة أبى حيان: «وما تجاوز أبو على فى اللغة كتب أبى زيد وأطرافا مما لغيره (4)».
فإذا ذهبت ألتمس الأسباب التى من أجلها تأثر أبو على أبا زيد رأيت منها:
أولا أن أبا زيد ثقة مقبول الرواية (5). فيه عفاف وتقوى وإسلام (6).
وثانيا أنه روى عن الأعراب الفصحاء (7): روى عن عقيل وقشير من أعراب مضر، وقد نزلوا بالبصرة من محل أصابهم (8).
وثالثا أن شيخا من شيوخ أبى على هو أبو بكر بن الخياط كتب كثيرا من كتب أبى زيد (9). فلعل التلميذ تأثر بما تأثر به الشيخ.
ورابعا أن الناس عنوا من قديم بكتب أبى زيد، فقد كان الرياشى يحفظ الشعر الذى فى النوادر، كما يحفظ السورة من القرآن. كما حفظ كتاب الهمز لأبى زيد وقرأه عليه حفظا، وكان يعد حروفه (10). وقد شرح نوادر أبى زيد أبو الحسن الأخفش، وأبو هاشم، والجرمى، والسكرى (11).
وخامسا أن سيبويه كرم أبا زيد فى الكتاب، فلم يصرح باسمه فى الرواية عنه، بل كنى عنه بأفضل ما يكنى به عن الرواة والعلماء مثل: «من نثق به، ومن لّا نتهم» فكانما أراد سيبويه كما يقول أستاذنا أن يدعو الناس إلى هذه التسمية، وأن يشاركه فيها من لم يكن يشاركه اجلالا للرجل ومكافأة (12). وسيبويه هو من هو
__________
(1) المخصص: 14/ 248.
(2) الحجة: 1/ 176، 180مراد ملا.
(3) الحجة: 1/ 228مراد ملا.
(4) الامتاع: 1/ 131.
(5) أخبار النحويين والبصريين: 42.
(6) نزهة الألباء: 87.
(7) الحجة: 1/ 73من البلدية.
(8) طبقات الزبيدى: 182.
(9) معجم الأدباء: 7/ 260.
(10) نوادر ابي زيد: 2.
(11) انظر إقليد الخزانة: 125.
(12) انظر سيبويه امام النحاة: 93.(1/131)
جلال قدر، وارتفاع محل عند أبى على بخاصة، فلا غرو أن يكون أول المستجيبين لدعوة سيبويه إلى إكبار أبى زيد.
(ب) وأما سيبويه فيبلّر موقف أبى على منه، ويختصر تقديره له ما قال أبو حيان: «أما أبو على فأشد تفردا بالكتاب، وأشد إكبابا عليه (1)، وفى غضون بحثى هذا، وعند عرض كتب أبى على المختلفة جلّيت مصداق قولة أبى حيان، وأنه من المعاد المكرور أن أذكر النصوص الدالة على هذه القولة، فذلك مما يطيل حبل الكلام، ولكنى اكتفى اختصارا بذكر مظاهر تأثر أبى على بسيبويه:
أبو على قرأ الكتاب قراءة فاحصة واعية (2)، ووازن نسخه بعضها ببعض (3)، ورد ما قد يتوهم فى الكتاب من التدافع (4)، وصحح مذهبه (5)، واحتج به (6)، واحتج له (7). ونص على أن القول قول سيبويه (8)، وبنى على ما يرويه، وقاس على ما يحكيه (9). وجاء الحجة شرحا للكثير من نصوص سيبويه، وتطبيقا للقواعد التى ذكرت فى الكتاب (10). ورأيت أبا على يستعمل بعض ألفاظ سيبويه، إن قال سيبويه مثلا: «أخبرنى من نثق به». قال أبو على: «أنشدنا بعض من نثق بروايته» أخبرنى وإن قال سيبويه: وجيه ضعيف (11). قال أبو على:
أبو على: «وجيه فى القياس (12)». ومن هنا فهم أبو على أسلوب سيبويه، وحكمه وصار إليه (13)، ولا يقتصر نظر أبى على إلى سيبويه على اللغة والنحو بل يستهدى به قارئا راوية للقراءات (14). يعقد فى الحجة كلام سيبويه فيما يصدره من أحكام على مختلف الروايات. قال: «وقد روى أن بعضهم قرأ يوم التناد، وكأنه اعتبر يوم يفر المرء من أخيه فجعل التناد تفاعلا من ند البعير إذا شرد ونفر، وليس ذلك بالوجه، ألا ترى أنه لا يسهل أن تقول:
«نددت مما لزمك ولا ناددت منه كما يقول: فررت منه، ونرى سيبويه يستعمل
__________
(1) الامتاع: 1/ 131.
(2) انظر عرض كتاب الاغفال.
(3) انظر المخصص 14/ 145، 180.
(4) الحجة: 1/ 196مراد ملا.
(5) الحجة: 1/ 262مراد ملا.
(6) الحجة: 1/ 40من البلدية.
(7) البغداديات: 25.
(8) البصريات: 260/ 88.
(9) الحجة: 1/ 60من البلدية.
(10) الحجة: 1/ 5351.
(11) الكتاب: 2/ 354.
(12) الحجة: 3/ 2015من البلدية.
(13) انظر المخصص 6/ 191.
(14) انظر الحجة: 1/ 44من البلدية.(1/132)
فى هذا المعنى فرّ كثيرا، ولا يستعمل ند وليس هذا الاعتبار إذا بالوجه (1)».
وقد نقل هذا ابن سيده فى المخصص (2). أرأيتم كيف احتكم أبو على إلى استعمال سيبويه، وبنى عليه؟ ومن أجل سيبويه خاصم أبو على المبرد ومن تابعه، والمبرد نقض على سيبويه، ومن أجله أيضا سالم فى الأعم الأغلب أحمد بن يحيى خصم المبرد.
ولسيبويه المكانة الأولى بين النحاة، والباحث فى غنى بسبب هذه المكانة عن التعليل لدوران أبى على فى فلك سيبويه، ولكن هناك أسبابا خاصة نجعل أبا على يقف هذا الموقف من إمام النحاة. فكلاهما فارسى، بل إن قبر سيبويه بشيراز (3)، حيث سلخ أبو على أيام صباه وتلقيه قبل أن ينتقل إلى بغداد، ثم حيث أقام عشرين سنة أخرى بعد اتصاله بعضد الدولة، فهذه نحو أربعين عاما يقضيها بشيراز قريبا من ذلك الكنز الدفين. ألا يكفى ذلك لأن يحذو أبو على حذوه، ويقتفى منه الآثار؟ بلى!
(ج) أما الأخفش: فهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة (4). وكان تأثر أبى على به ظاهرا: قوّى قراءاته، ودلّل عليها (5)، وخطّأ ما حكى السكرى بما قال أبو الحسن (6)
وفهم كلامه على وجهه، ورد فهم ابن السراج له، وقيد إطلاق المبرد عنه (7)، واعتمد عليه فى اللغويات (8)، وتصريف الكلمات (9)، وأخذ برأيه فى بعض المسائل النحوية (10)، وقاس على ما يقول (11)، واحتج له (12)، وأورد كلامه ووجهه (13).
وكان أبو على يوثق الأخفش، ويثنى على صدقه، ويعلن ذلك لتلاميذه. حكى ابن جنى قال: قال لنا أبو على: «يكاد يعرف صدق أبى الحسن ضرورة، وذلك أنه كان مع الخليل فى بلد واحد، ولم يحك عنه حرفا واحدا (14)». ولعل الأخفش أحد أولئك الذين وجهوا أبا على للمنطق والقياس فقد كان الأخفش فيما يقول
__________
(1) الحجة: 1/ 322مراد ملا.
(2) انظر: 7/ 118.
(3) معجم الأدباء: 16/ 116.
(4) المزهر: 2/ 419.
(5) الحجة: 1/ 254252مراد ملا.
(6) الحجة: 1/ 182بلدية.
(7) الحجة: 1/ 254مراد ملا.
(8) الحجة: 1/ 216، 231من البلدية.
(9) الحجة: 1/ 8، 103، 104من البلدية
(10) الحجة: 1/ 28من البلدية.
(11) المصدر السابق 1/ 180.
(12) نفس المصدر: 1/ 188.
(13) 1/ 248مراد ملا.
(14) انظر المزهر: 2/ 416.(1/133)
السيوطى: «أعلم الناس بالكلام، وأحذقهم فى الجدل (1)، وألف فيما ألف المقاييس فى النحو (2)»، وعندى أن اعتداد أبى على بسيبويه وأبى زيد هو الذى جعله يتأثر بأبى الحسن، فهو الطريق إلى الكتاب (3)، ثم هو أحذق أصحاب سيبويه (4)، وأعلم من أخذ عنه (5)، وأحفظهم (6). وهو بعد ذلك شارح نوادر أبى زيد (7).
هذا وكان أبو على يروى عن أبى الحسن عن طريق أبى عبد الله اليزيدى عن عمه عنه (8).
حاشية: يدلل بعض المشتغلين بالعلم فى زماننا على قيمة مؤلفات الأخفش، بما نقله ابن جنى عن بعضها، وما درى أن الذى وجه ابن جنى إلى الأخفش هو أستاذه أبو على الذى تلمذ على الأخفش كما سلف به البيان (9).
زملاء أبى على
كان لأبى على زملاء أخذوا العلم معه عن شيوخه، وبرز منهم:
(ا) أبو سعيد السيرافى.
(ب) على بن عيسى الرّمانى.
(ج) أبو القاسم الزجاجى.
(د) ابن خالويه.
وقد عقدت فى مناسبات البحث المختلفة، دراسات موازنة بين أبى على وهؤلاء الزملاء بما يغنى عن إعادة الحديث فى هذا المقام.
__________
(1) بغية الوعاة: 258.
(2) الفهرست: 78.
(3) الفهرست: 78ونزهة الألباء: 45.
(4) أخبار النحويين البصريين: 39.
(5) نزهة الألباء: 94.
(6) بغية الوعاة: 258.
(7) خزانة الأدب: 1/ 14.
(8) الحجة: 1/ 440مراد ملا.
(9) انظر بحث الأستاذ طه الزينى عن الأخفش مخطوطة بمكتبة كلية اللغة العربية برقم 373 ص 26، 27.(1/134)
تلاميذ أبى على
جلس أبو على للتدريس فى البلاد التى تنقل فيها: شيراز، وبغداد، والبصرة، وواسط والموصل، وحلب، وغيرها، وكان له فى كل بلد من هذه البلاد تلاميذ أخذوا عنه، ومنهم من صحبه وتبعه فى أسفاره، وخلا به فى مقامه كابن جنى (1). ومنهم من أقام عليه عشرين سنة، حتى لا يبقى له شىء يحتاج أن يسأل عنه، وذاك على بن عيسى الربعى (2). وقد ذكر العبدى أبا على، وأحصى من كان يحضر مجلسه ويقرأ عليه كتاب سيبويه دون غيره من المتوسطات، فجعلهم ثلاثين رجلا وأكثر (3). وقد تقسم تلاميذ أبى على علمه، واختلفت حظوظهم منه، فمنهم مستوعب علم أبى على يتأثره فى أطرافه المختلفة كابن جنى، ومنهم قارئ يروى القراءة عنه عرضا كعبد الملك ابن بكران النهروانى (4). ومنهم من سمع منه الحديث كأبى القاسم التنوخى، وعلى ابن المحسن الذى سمع فى أوائل حاله (5) من أبى على وقبيل وفاة أبى على (6)، ومحمد ابن عبد الواحد أبى الحسن (7)، ومحمد بن عبد الواحد أبى عبد الله ابن زوج الحرة (8)، وهلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابى (9).
ومنهم العروضى، والنحوى، واللغوى. ومنهم بارع كأستاذه فى جودة النظر ودقة الفهم والقياس وهكذا وهكذا
ولا يكاد المترجمون لأبى على يذكرون فى ترجمته غير ابن جنى والربعى (10)، مع أن تلاميذه الآخرين قد رزقوا حظا من الشهرة، واحتل بعضهم مكانة مرموقة فى الحياة، وإليك طائفة من تلاميذ أبى على، وأكثرهم متصدر متميز، وما منهم إلا له مقام معلوم فى اللغة، والنحو، والعروض، أو النظر، والقياس، وإقامة الحجج.
وتفصيل الحديث عن تلاميذه على سبيل التقصى، وبيان مدى تأثرهم بأبى على،
__________
(1) انباه الرواة: 2/ 33.
(2) انباه الرواة: 2/ 297.
(3) انباه الرواة: 2/ 387.
(4) انظر طبقات القراء: 1/ 207.
(5) انظر تاريخ بغداد: 12/ 115.
(6) تاريخ بغداد: 7/ 275.
(7) تاريخ بغداد: 2/ 361.
(8) نفس المصدر: 36.
(9) تاريخ بغداد: 14/ 76، ومعجم الأدباء: 19/ 294، ووفيات الأعيان: 5/ 152.
(10) تحدثت عنهما بالتفصيل عند الكلام على كتاب المحتسب، وفى الكلام على أخلاق أبي على تحدثت عن تعشقه لمحمد بن طويس القصرى تلميذه النحوى المعتزلى، والذى إليه تنسب المسائل القصريات فى بعض الأقوال (انظر معجم الأدباء: 18/ 296).(1/135)
مما يتصل اتصالا وثيقا بطرف من موضوع هذا البحث: آثار أبى على فى النحو، وقد ذكرت قريبا بإيجاز من سمع الحديث من أبى على، (1) وها هم أولاء بقية تلاميذه على حسب سنوات الوفاة:
1 - كان من تلاميذ أبى على قاضى القضاة بشيراز عبيد الله بن أحمد الفزارى، وهو من أولئك الذين تلقوا العلم على الفارسى بشيراز، وصنف صناعة الإعراب، وعيون الإعراب (2).
2 - ومحمد بن أحمد بن عمر الخلال أبو الغنائم: اللغوى، قال عنه ياقوت: إمام عالم جيد الضبط صحيح الخط معتمد عليه (3).
3 - إبراهيم بن على الفارسى: ذكره الثعالبى فى البخاريين، وقال: كان من الأعيان فى اللغة والنحو، ورد بخارى فى أيام السامانية، فأجل، وبجلّ، ودرس عليه أبناء الرؤساء والكتاب بها وأخذوا عنه، وولى التصفح فى ديوان الرسائل، وصنف وأملى، وشرح، وتكلم فى العروض والقوافى، والمعانى (4)، وشرح كتاب الجرمى وناقض المتنبى، وحفظ الطم والرم (أى الكثير، فهو مثل (5)).
4 - هذا ويجعل صاحب أعيان الشيعة من تلاميذ أبى على الأزهرى (6). ولم أجد شيئا من ذلك فى كتب التراجم الأخرى (7).
5 - عبد الله بن محمد بن جرو الأسدي أبو القاسم: كان كأستاذه نحويا عروضيا، معتزليا (8)، كما سلك مسلك أستاذه فى المقايسة بين مسائل النحو، ومعانى الشعر (9). أنشد فى مسألة ياءات الإضافة:
ويسقط بينها المرئى لغوا ... كما أسقطت فى الدية الحوارا (10)
وكان أبو القاسم الأسدي من أهل الموصل، قدم بغداد، وقرأ على شيوخها (11).
__________
(1) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر.
(2) بغية الوعاة: 320، وروضات الجنات: 221.
(3) معجم الأدباء: 17/ 208، بغية الوعاة: 15.
(4) معجم الأدباء: 7/ 205.
(5) بغية الوعاة: 184.
(6) أعيان الشيعة: 21/ 28.
(7) انظر مثلا نزهة الألباء: 214، معجم الأدباء: 17/ 166165.
(8) انظر معجم الأدباء: 12/ 63.
(9) انظر الخصائص: 1/ 560وما بعدها
(10) انباه الرواة: 2/ 155.
(11) معجم الأدباء: 12/ 63.(1/136)
وقد عرفه القفطى بأنه صاحب أبى على (1)، وكانت له مناظرات جرت له مع الشيوخ فى العروض أورد بعضها ياقوت (2). وكان فيه بعد ذلك حذق، وذكاء مع جودة خط، وصحة ضبط (3).
كان أبو على بارّا بأبى القاسم الأسدي، واثقا به، قدمه أبو على إلى عضد الدولة أماما يصلى به حين طلب منه ذلك، واقترح عليه أن يكون جامعا إلى العلم بالقراءة العلم بالعربية، وصلّى أبو القاسم بعضد الدولة، فلما كان الغد وأتى أبو على، وسأل الملك عنه فقال: «هو كما وصفت إلا أنه لا يقيم الراء» فيقدّم أبو على لصاحبه نصيحة حتى لا يلثغ، وينتصح الأسدي فتستقيم له الراء (4).
وتوفى ابن جرو الأسدي (387هـ) بعد أن صنف «الموضح فى العروض والمفصح فى القوافى، والأمد فى علوم القرآن (5).
6 - اسماعيل بن حماد الجوهرى: صاحب الصحاح (6). من أعاجيب الدنيا (7)
ذكاء وفطنة وعلما (8). دخل العراق فقرأ علم العربية على شيخى زمانه، ونور عين أوانه أبى على الفارسى، وأبى سعيد السيرافى (9). ومضى لسبيله عن آثار جليلة، وله كتاب العروض ومقدمة فى النحو (10). والصحاح فى اللغة قال الثعالبى: «وهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولا من مجمل اللغة (11).
وقد رأيته يرجع فى الصحاح إلى شيخه أبى على، ويروى عنه (انظر مثلا بأبى «بقم»: و «مدن (12)». وقال ابن فضل الله فى المسالك مات الجوهرى:
393 - هـ (13).
7 - عبد الباقى بن محمد بن الحسن: قرأ على الفارسى (14). وكان نحويا متصدرا
__________
(1) انباه الرواة: 2/ 154.
(2) معجم الأدباء: 12/ 6563.
(3) نفس المصدر.
(4) انظر خبر ذلك فى بغية الوعاة: 320.
(5) معجم الأدباء: 12/ 65.
(6) نزهة الألباء: 227.
(7) يتيمة الدهر: 4/ 289.
(8) معجم الأدباء: 6/ 152151.
(9) معجم الأدباء: 6/ 153.
(10) بغية الوعاة 195.
(11) يتيمة الدهر: 4/ 289.
(12) تاج اللغة وصحاح العربية، فى هاتين المادتين وانظر مختار الصحاح: 60، 619.
(13) انظر بغية الوعاة: 195
(14) بغية الوعاة: 294.(1/137)
للافادة (1) مات لعشر بقين من ربيع الأول سنة أربعمائة وصنف الدواة واشتقاقها، وشرح حروف العطف (2).
8 - أبو طالب أحمد بن بكر العبدى: أخذ عن أبى على جل ما عنده (3)
وكان نحويا لغويا قيما بالقياس كما يقول السيوطى (4). اعتنى بكتاب العضدى وشرحه شرحا كافيا شافيا (5). وبلغ من تأثره بشيخه أنه شرح كتاب أبى على بكلام أبى على لكثرة اطلاعه على كتبه وفوائده، وفى رأى القفطى أن شرح العبدى للعضدى يعد عمدة لكل من تعرض لشرح هذا الكتاب (6) (7). وله غير شرح العضدى شرح كتاب الجرمى (8). ولعل الذى وجهه إلى شرح هذا الكتاب قولة أستاذه أبى على فيه (9). عاش العبدى إلى قريب من سنة عشرين وأربعمائة (10).
ويقول ياقوت أنه توفى سنة ست وأربعمائة فى خلافة القادر بالله وينقل السيوطى ذلك (11).
9 - محمد بن عثمان بن بلبل: لغوى، نحوى، صحب السيرافى، والفارسى، وروى عنه كتاب الحجة، وسمعه منه ابن بشران النحوى (12). ومات سنة عشرين واربعمائة، وقد رأيت أحمد بن تميم بن هشام اللبلى ينقل العسكريات من خطه (13). وفى الأمانة العامة للجامعة العربية (الإدارة الثقافية) نسخة من كتاب المبهج كتبت سنة 420هـ منقولة من خط ابن بلبل (14).
10 - على بن عبيد الله السمسمى: اللغوى (15)، النحوى (16)، تصدر ببغداد للرواية وأقرأ الأدب، وكان جيد المعرفة بفنون العربية، كما كان ثقة فى روايته
مات فى المحرم سنة 415هـ. (17)
__________
(1) انباه الرواة: 2/ 155، وأورده باسم عبد الباقى بن محمد بن بانيسى النحوى.
(2) بغية الوعاة: 294.
(3) انباه الرواة 2/ 387.
(4) البغية 129.
(5) نزهة الألباء: 222.
(6) انظر انباه الرواة 2/ 387.
(7) البغية: 129، وهذه قضية يحتاج تحقيقها إلى مقام غير ما أنا فيه الآن.
(8) انظر نزهة الألباء: 101.
(9) انباه الرواة: 2/ 388.
(10) البغية: 129.
(11) معجم الأدباء: 2/ 237.
(12) بغية الوعاة: 72ومعجم الأدباء 18/ 249، انظر طبقات القراء: 1/ 566.
(13) انظر لوحة 241/ 2العسكريات.
(14) انظر فهرس المخطوطات المصورة: 369.
(15) انباه الرواة: 2/ 288.
(16) معجم الأدباء: 14/ 58.
(17) وانظر بغية الوعاة: 343(1/138)
11 - على بن عبيد الله الدقيقى النحوى: أحد الأئمة العلماء فى هذا الشأن وكان مباركا فى التعليم، تخرج عليه كثير لحسن خلقه، وسجاحة سيرته، وله شرح الإيضاح، وشرح الجرمى (1). وكتاب العروض. والمقدمات. توفى سنة 415هـ (2).
12 - صاعد بن الحسن بن عيسى الربعى البغدادى أبو العلاء: لغوى أديب، كان عارفا باللغة، وفنون الأدب، والأخبار (3) وكان أحضر الناس شاهدا، وأرواهم لكلمة غريبة (4). وأصله من الموصل، ودخل الأندلس، واتصل بالمنصور بن أبى عامر ونادمه وأحسن المنصور إليه وزاد (5). ومعنى ذلك أنه نشر علم أستاذه فى المغرب، ألف للمنصور كتاب الفصوص على مثال نوادر أبى على القالى (6).
وقد اتهمه الصفدى بالكذب فى نقله، وعلل بذلك رفض الناس كتبه (7). وكان يسمى كتبه أسماء غريبة لا أصل لها (8). وكان وفيا للمنصور فلم يحضر مجلس أنس بعده، وقد كان أولاده تولوا الأمر، فادعى وجعا لساقه منعه الحضور (9). وله طرف حكاها القفطى والسيوطى نقلا عن تذكرة الصفدى (10). توفى بصقلية سنة 417فيما يذكر السيوطى وسنة 419فيما يذكر القفطى نقلا عن ابن حزم (11).
13 - أحمد بن محمد بن الحسن الإمام المرزوقى أبو على: من أصبهان كان غاية فى الذكاء والفطنة، وحسن التصنيف، وإقامة الحجج (12) قرأ كتاب سيبويه على أبى على الفارسى، وتلمذ له بعد أن كان رأسا بنفسه (13). وقد أخذ الناس عنه واستفادوا منه، وكان الحجة فى وقته (14). عنى فى تأليفه بشرح الشعر، فكان له:
شرح الحماسة، وشرح المفضليات، وشرح أشعار هذيل (15)، وشرح الفصيح، وشرح الموجز، ثم كان له كتاب الأزمنة (16).
__________
(1) انظر سبب العناية بشرح ذلك الكتاب نزهة الألباء: 101.
(2) انظر ياقوت: 14/ 57256بغية الوعاة: 343.
(3) معجم الأدباء: 11/ 282281.
(4) بغية الوعاة: 268.
(5) انباه الرواة: 2/ 86.
(6) معجم الأدباء 11/ 283.
(7) انظر بغية الوعاة: 268.
(8) انباه الرواة: 6/ 86وانظر معجم الأدباء: 11/ 285.
(9) انظر انباه الرواة ومعجم الأدباء.
(10) البغية: 268.
(11) انظر انباه الرواة: 2/ 90.
(12) بغية الوعاة: 159.
(13) الوافى بالوفيات: 6/ قسم ثالث 241.
(14) انباه الرواة: 1/ 106.
(15) انظر بغية الوعاة: 159.
(16) انظر الوافى بالوفيات: 2/ قسم ثالث 241(1/139)
ومفردات متعددة فى النحو (1). وكان معلم أولاد بنى بويه بأصبهان، دخل عليه الصاحب بن عباد فلم يقم له، فلما أفضت إليه الوزارة جفاه توفى سنة احدى وعشرين وأربعمائة (2).
14 - أبو الحسين عبد الوارث النحوى ابن أخت أبى على الفارسى: وقد تحدثت عنه عند الكلام على أسرة أبى على (3).
15 - الحسين بن محمد بن جعفر النحوى المعروف بالخالع (4): رافقى الأصلى، سكن الجانب الشرقى من بغداد (5). قال الصفدى: كان من كبار النحاة، وكان من الشعراء (6). وقد حدث عنه الخطيب البغدادى (7). وقد عنى الخالع فى تآليفه عناية خاصة بالآداب، فكان له فى ذلك: «الأمثال، وتخيلات العرب، شرح أبى تمام صناعة الشعر كما كان له: الاودية والجبال والرمال (8). مات الخالع سنة 422هـ (9).
16 - على بن طلحة بن كردان النحوى أبو القاسم: قرأ على أبى على والرمانى كتاب سيبويه من نحاة واسط، وعنه أخذ النحو جماعة من الواسطيين، وهم يفضلونه على ابن جنى والربعى (10). وهو موصوف بالفضل والمعرفة (11) واشتهر بالتصوف والتنزه، وصنف إعراب القرآن فى خمسة عشر مجلدا، ثم بدا له فغسله قبل موته توفى سنة 424هـ (12).
17 - محمد بن محمد بن عيسى أو الحسن المعروف بالخيشى: من أهل البصرة قرأ على أبى على، وبرع فى النحو والأدب، وسكن واسط مدة، وأقرأ بها، وروى عنه، وقدم آخر عمره إلى بغداد، وأقام بها حتى مات، وحدث بها، وكان من أئمة
__________
(1) انباه الرواة: 1/ 106.
(2) راجع معجم الأدباء: 4/ 241، بغية الوعاة: 159، الوافى بالوفيات: 2/ قسم.
ثالث: 341وانباه الرواة: 1/ 106.
(3) راجع يتيمة الدهر: 2/ 272، نزهة الألباء: 227226، معجم الأدباء:
18/ 187، بغية الوعاة: 38.
(4) معجم الأدباء: 10/ 155.
(5) تاريخ بغداد: 8/ 105.
(6) بغية الوعاة: 235.
(7) تاريخ بغداد: 8/ 105.
(8) معجم الأدباء: 10/ 155.
(9) تاريخ بغداد: 8/ 106.
(10) انباه الرواة: 2/ 284.
(11) معجم الأدباء: 13/ 290.
(12) راجع معجم الأدباء: 13/ 259، وانباه الرواة: 2/ 284، والبغية: 339.(1/140)
النحاة المشهورين بالفضل والنبل، وأخذ كذلك عن ابن جنى واضرابه مات سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة (1).
18 - عالى بن عثمان بن جنى أبو سعد النحوى، ولا يذكر ياقوت أنه أخذ عن أبى على (2). وتبعه فى ذلك السيوطى فى البغية (3). ولكن القفطى يعده ممن أخذ العربية عن أبيه وعن أبى على الفارسى، وظاهر أن شيئا من ذلك قد كان لصحبة أبيه الطويلة وملازمته أبا على، وكان عال فوق علمه بالعربية شاعرا (4).
توفى سنة سبع وخمسين وأربعمائة أو ثمان وخمسين (5).
هذا وقد ورد فى رياض العلماء القول بأن الشريف الرضى قرأ النحو على أبى على (6)، وقد يكون ذلك فى أوائل حال الرضى وأواخر حياة أبى على كما يقول العاملى فى أعيان الشيعة (7). ويبدو أن الشريف الرضى بدأ بقراءة النحو على الربعى، ولم يتتلمذ لأبى على (8). وإن كان قد عاصره، ولقيه بدليل ما قال فيه من رثاء (9).
كما يعد العاملى أيضا الصاحب بن عباد من بين تلاميذ أبى على (10). ويذكر أنه أجازه بالرواية عنه، وعن مشايخه، وقد ورد شىء من هذا فى مكاتبة من أبى على للصاحب حيث يقول: كتابى فى قراء الأمصار فما تضمن من أثر، وقراءة، ولغة فهو من المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى أثر سيدنا الصاحب الجليل أدام الله عزه والخ حكاية شىء منه عنهم أو عنى لهذه المكاتبة فعل، وكتب الحسن بن أحمد الفارسى بخطه (11)» ولعل العاملى ينظر إلى هذه العبارة، فهل الإجازة بالرواية تبرر أن يكون الصاحب بن عباد تلميذا لأبى على دون أن يجلس ابن عباد إلى الشيخ مجلس التلميذ إلى أستاذه يتلقى منه، ويأخذ عنه؟
وقد وجدت عبارة من ابن عباد إلى أبى على تمت بصلة إلى ما أنا فيه تلك:
__________
(1) انظر بغية الوعاة: 10099
(2) انظر معجم الأدباء: 12/ 29.
(3) انظر: 274.
(4) انظر إنباه الرواة: 2/ 385.
(5) انظر ياقوت: 12/ 39.
(6) انظر ص 4139مخطوط الشيخ آقابزرگ.
(7) 21/ 28.
(8) انظر حقائق التأويل: 5/ 87.
(9) انظر الحديث عن صفات أبى على العقلية.
(10) أعيان الشيعة: 21/ 28.
(11) معجم الأدباء: 7/ 240239.(1/141)
«والشيخ (أدام الله عزه) يبرد غليل شوقى إلى مشاهدته بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته، ويقتصر على الخطاب الوسط دون الخروج فى إعطاء الرتب إلى الشطط، كما يخاطب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه، ويبسط فى حاجاته، فاننى أظننى أجدر إخوانه بقضاء مهماته إن شاء الله تعالى (1).
وأرى أن الصاحب لم يعترف صراحة بتلمذة لأبى على، وإنما أراد أن يؤنس الشيخ حتى يفضى إليه بحاجاته، ولو كان ابن عباد تلميذا حقا لأبى على لغيّر وجه الكلام من التشبيه إلى الاعتراف الصريح، على أنه سرعان ما عاد فجعل أبا على من طبقته إن لم يرتفع الصاحب بنفسه فى عبارته التى فيها يقول: «فاننى أظننى الخ» إلى مرتبة فوق مرتبة النظراء.
هذا وقد قرأ على بن عيسى الرمانى كتاب الجمل، وكتاب الموجز لابن السراج على أبى على فى حياة ابن السراج (2). ولكن ذلك ليس معناه تتلمذ الرمانى للفارسى فقد كانا من طبقة واحدة (3) لا تجعل أحدهما شيخا، والآخر تلميذا، وإن كان ذلك يدل على ارتفاع درجة أبى على ولعل قراءة الرمانى على أبى على، لأن ابن السراج عمل من الموجز النصف الأول، ثم تقدم إلى أبى على باتمامه، فنقل أبو على ما وضعه من كلام ابن السراج فى الأصول وفى الجمل (4).
وبعد: فقد قصدت قصدا إلى استقصاء تلاميذ أبى على الذين أخذوا عنه فى فارس.
والعراق، ثم شرقوا، وغربوا فى الآفاق «فى بلاد العراق، والشام، وصقلية والأندلس، ثم فى فارس، وأفغانستان، وخراسان، وأصبهان، وجرجان، وغيرها من البلدان التى حلوا بها، وتنقلوا فيها ينشرون معهم علم الشيخ أبى على ويرسمون صورة واضحة المعالم لذيوع ثقافة الرجل فى مختلف أقطار الإسلام، ويتركون له بذلك.
أثرا باقيا على مدى الأيام.
__________
(1) معجم الادباء: 7/ 250.
(2) معجم الادباء: 7/ 239.
(3) انظر طبقات الزبيدى: 129، 130.
(4) رسالة الغفران: 358357تحقيق ابنة الشاطئ.(1/142)
وفاة أبى على
وتاريخ الوفاة مختلف فيه على ثلاثة أقوال:
(ا) قول ابن النديم فى الفهرست.
(ب) قول ابن الأثير فى الكامل وتابعه أبو الفداء.
(ح) قول سائر المترجمين.
ولرأى ابن النديم أهمية خاصة لأنه معاصر لأبى على، وقد صنف كتابه كما يقول ياقوت سنة 377هـ (1)، وابن النجار فى كتابه ذيل «تاريخ بغداد يوفى التحديد إلى أبعد مما ذكر ياقوت فيقول: «صنف ابن النديم كتابه الفهرست فى شعبان سنة 377هـ، ومات يوم الأربعاء لعشر بقين من شعبان سنة 384هـ (2)
ولهذا التحديد فى التصنيف صلة بما أنه فيه من الحديث عن سنة الوفاة رابطا بين ما قاله ابن النديم وما قاله سائر المؤرخين.
وأسارع فأذكر أقوال المؤرخين جملة حتى يتاح لى التعليق: يقول ابن النديم:
أن أبا على توفى قبل السبعين وثلاثمائة (3).
ويقول ابن الأثير فى كتابه الكامل فى حوادث سنة 376هـ: وفيها توفى أبو على الحسن بن احمد بن عبد الغفار الفارسى النحوى صاحب الإيضاح،
وقد جاوز تسعين سنة (4) وتكاد تكون عبارة أبى الفداء فى تاريخه هى عبارة ابن الأثير، فهو متفق معه على أن سنة الوفاة 376هـ، وأنه قد جاوز التسعين (5).
والخطيب البغدادى (ت 463) يقول: «قال محمد بن أبى الفوارس فى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة توفى أبو على الفسوى النحوى، كما يذكر الخطيب فى وفاة أبى على قوله: «توفى أبو على الفارسى النحوى فى يوم الأحد السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثلاثمائة (6).
وتابعه الانبارى فى نزهة الألباء، وسائر المؤرخين للنحاة، واللغويين، والأدباء
__________
(1) انظر معجم الأدباء: 18/ 17.
(2) مقدمة الفهرس: ب.
(3) الفهرست /: 15.
(4) الكامل لابن الأثير: 9/ 19.
(5) تاريخ أبي الفداء: 2/ 131.
(6) تاريخ بغداد: 7/ 286.(1/143)
والفرق يسير بين ما ذكره هؤلاء، وما قاله ابن الأثير وأبو الفداء، ولكنه كبير بين ما ذكره الخطيب البغدادى، وما ذكره ابن النديم.
فبأى القولين آخذ! وأيهما أدع؟!
أرجح أن أبا على توفى سنة 277هـ. لما يأتى:
(أولا) فى سنة 369كان أبو على وكيل عضد الدولة فى عقد العقد للخليفة الطائع لله على ابنة عضد الدولة (1).
و (ثانيا) تذكر كتب تاريخ المحدثين أن أبا على الفارسى روى عنه التنوخى والجوهرى (2) فمتى روى التنوخى أو الجوهرى عن أبى على؟!
قد سمح التنوخى فيما يروى البغدادى أبا على فى رجب سنة خمس وسبعين وثلاثمائة (3). وهذا ينفى قول ابن النديم أنه توفى قبل السبعين وثلاثمائة، وقد وقر فى نفسى أن يكون هناك خطأ وتغاير بين النسخة الخطية للفهرست والنسخ المطبوعة فرجعت إلى كل النسخ التى استطعت العثور عليها، والرجوع إليها، فوجدتها متفقة على أن سنة الوفاة قبل السبعين بقى على أن أوافق أحد المؤرخين: ابن الأثير أو الخطيب، ولا سبيل إلى ترجيح أحد القولين على الآخر لأن السنوات قد تتقارض فتأخذ هذه من تلك، ومن هنا يقع الاختلاف والتردد فى تاريخ الحوادث بين سنتين متتاليتين.
لكن إجماع المؤرخين عدا ابن الأثير على أن أبا على توفى سنة 377هـ يرجح أنه توفى فى هذا العام. وقد اتفقوا فى اليوم الذى انتقل فيه أبو على إلى جوار ربه وأنه يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع، ويختلفون: آخر هو أم الأول (4)؟. فابن خلكان يقول بالآخر، والخطيب البغدادى (5) وابن الانبارى (6). يقولان بالأول. ولا يعنى الباحث هذا الخلاف اليسير، اللهم إلا إذا رجحنا قول البغدادى لاجماع المؤرخين الأوائل عليه.
__________
(1) تاريخ الاسلام للذهبى وهامش: 414تجارب الامم.
(2) لسان الميزان: 2/ 195وعقد الجمان للعينى القسم الثالث: 400.
(3) تاريخ بغداد: 7/ 275.
(4) 1/ 362.
(5) 7/ 276.
(6) نزهة الالباء: 1/ 210.(1/144)
و (ثالثا) وهناك دليل لاسقاط قول ابن النديم:
فابن جنى يولد سنة 230 (1)، وقد صحب أبا على أربعين سنة (2)، ولما مات تصدر مجلسه ببغداد (3) فاذا كان موت أبى على قبل سنة 330كما يقول ابن النديم فمعنى هذا أن ابن جنى على أكثر تقدير لازم شيخه منذ ولادته، وهذا مستحيل أى مستحيل؟!
والمؤرخون يذكرون أن ابن جنى كان يقرئ النحو وهو شاب بجامع الموصل فمرّ به أبو على، فاعترض عليه الفارسى، فوجده مقصرا، وسأل ابن جنى عنه فقيل له: «هذا أبو على» فأخذ فى طلبه، فوجده ينزل إلى السميرية يقصد بغداد، فنزل معه فى الحال، ولزمه وصاحبه منذ ذلك الحين إلى أن مات، وخلفه ابن جنى، وتصدر مجلسه فى بغداد. (4) فمتى بدأت الصحبة؟ هناك بريق من النور يرشد إلى ذلك، هو قول ابن جنى: «وحدثنا أبو على سنة إحدى وأربعين (5)».
فمن المحقق الثابت أن الصحبة بدأت منذ ذلك التاريخ، وإن كان هذا لا ينفى أن تكون الصحبة بدأت قبل ذلك، وانتهت بموت الفارسى، ومعنى هذا أن.
الصحبة استمرت نحو الأربعين عاما (6) كما يقول ياقوت
__________
(1) معجم الأدباء: 12/ 83ووفيات الأعيان: 2/ 412.
(2) بغية الوعاة: 322.
(3) معجم الادباء: 12/ 90.
(4) نزهة الالباء: 221.
(5) الخصائص: ص 7/ 76.
(6) التحديد الضابط غير مقصود فى عدد السنين فليس معنى صحبة أربعين سنة أنها لا تزيد ولا تنقص، وحسبى أن يكون العدد قريبا من الاربعين.(1/145)
من آراء القدماء فى أبى على وأقوالهم عنه
يثنى القدماء على أبى على، ويرون فيه رأيا حسنا، ذكره الخطيب البغدادى (ت 463هـ) فنقل عن قوم من تلامذة أبى على أنهم قالوا: «أبو على الفارسى فوق المبرد وأعلم منه (1)، وأثنى البغدادى على كتبه، ووصفها بأنها عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها، وذكر شهرته فى الآفاق، وبراعة غلمان له حذاق (2)» وقال أبو طالب العبدى: «ما كان بين سيبويه وأبى على أفضل منه (3)». وكان أبو على إمام وقته (4)، وانتهت إليه الرئاسة فى النحو (5) وانفرد به، وقصده الناس من الأقطار وعلت منزلته فى العربية (6).
وكان عضد الدولة يقول إذا افتخر بالعلم والمعلمين: «معلمى فى النحو أبو على» (7).
أو يقول: «أنا غلام أبى على النحوى فى النحو» (8).
وقد بلغ من تقدير المعاصر بن لأبى على أن تلمذ عليه الإمام المرزوقى أحمد بن محمد بعد أن كان أى المرزوقى رأسا بنفسه (9). وذكر محمد بن الحسن الحاتمى (ت 388هـ) أبا على، ووصفه بأنه فارس العربيّة، وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة (10). وقدّمت قبل ثناء الشريف الرضى على الشيخ فى أبياته التى بها يرثيه، وذكر الشيخ أبو على الطبرى (ت 548هـ) صاحب مجمع البيان (11) عن الشيخ أبى على الفارسى كلاما فى ذيل قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهََادَةُ بَيْنِكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنََانِ ذَوََا عَدْلٍ مِنْكُمْ»} الآية ثم قال: «وهذه كلمة مأخوذة من كلام أبى على الفارسى، وناهيك به فارسا فى هذا الميدان! نقابا يخبر
__________
(1) تاريخ بغداد: 7/ 275، ونزهة الالباء: 209والمنتظم لابن الجوزى: 7/ 138.
(2) تاريخ بغداد: 7/ 275وانظر النجوم الزاهرة: 4/ 151.
(3) نزهة الالباء: 209.
(4) عقد الجمان القسم الثالث: 400.
(5) إشارة التعيين.
(6) النجوم الزاهرة: 4/ 151.
(7) اخبار العلماء بأحكام الحكماء: 152.
(8) انظر تاريخ بغداد: 7/ 275، وإنباه الرواة: 1/ 273، ووفيات الاعيان: 1/ 362 وبغية الوعاة: 216وشذرات الذهب: 3/ 88.
(9) معجم الادباء: 5/ 35.
(10) معجم الادباء: 18/ 157.
(11) انظر معجم سركيس: 1227.(1/146)
عن مكنون هذا العلم بواضح البيان». ثم عقب صاحب الروضات بقوله: «وناهيك به ثناء على مرتبة الرجل من شيخ كبير، ومطلع خبير، مضافا إلى سائر ما يوجد من التعظيم عليه فى مواضع كثيرة من تضاعيف مصنفات الأدب والتفسير (1).
وأثنى القاضى الأكرم على ابن الخشاب (ت 567هـ) فقال: «إنه كان فى درجة أبى على الفارسى (2). وثناء الأكرم على ابن الخشاب ومقارنته بأبى على فى مضمونه اعتداد بفضل الشيخ، وتقدير لمكانته.
وقال فى مسالك الأبصار عن أبى على: «رجل خط ببراعة، وحط الصبح عن قناعه، وكف الدهر عن قراعة، وسعت إليه الزمر، وسعد لديه بالثمر، وجاءته الوفود، وتزاحمت لديه على الورود، وصدرت عنه الركائب، وقد أودعت حقائبها طيبا، وحقائقها ما كان لسقام الأفهام طبيبا، وكان على هذا لا يسلم من لسان حاسد، وثالب حاشد، وثباته على هذا عجب، وإثباته فى أهل الفضل قد وجب (3)».
فها نحن أولاء نرى أن مبعث ثناء القدماء على أبى على، وتقديرهم له أمور:
(ا) صلته بعضد الدولة.
(ب) إمامته فى النحو.
(ج) مصنفاته.
(د) براعة تلاميذه وحذقهم.
ومما لا شك فيه أن تقدم أبى على عند عضد الدولة، أضفى عليه كثيرا من تقدير القدماء، على أن الرجل ما كان ليتقدم عند الأمير لولا قدمه الراسخة فى النحو، وبراعته الفائقة فى التصنيف.
وأود أن أقف وقفة عند رأى لأبى العلاء فى أبى على أورده فى رسالة الغفران قال: «وكنت قد رأيت فى المحشر شيخا لنا كان يدرس النحو فى الدار العاجلة يعرف بأبى على الفارسى» وقد امترس به قوم يطالبونه، ويقولون: تأولت علينا وظلمتنا، فلما رآنى أشار إلىّ بيده، فجئته فإذا عنده طبقة منهم يزيد بن الحكم الكلابى) وهو يقول: «ويحك! أنشدت عنى هذا البيت» برفع (الماء) يعنى قوله:
__________
(1) روضات الجنات: 219، 220.
(2) انظر معجم الادباء: 12/ 48.
(3) مسالك الابصار ج 4مجلد 2: 301.(1/147)
فليت كفافا كان شرك كله ... وخيرك عنى ما ارتوى الماء مرتوى (1)
ولم أقل إلا الماء، وكذلك زعمت أنى فتحت الميم فى قولى:
تبدل خليلا بى كشكلك شكله ... فانى خليلا صالحا بك مقتوى
وإنما قلت: مقتوى بضم الميم.
* * * وإذا رجل آخر يقول: ادعيت علىّ أن الهاء راجعة على الدرس فى قولى:
هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب
أفمجنون أنا حتى أعتقد ذلك؟
وإذا جماعة من هذا الجنس كلهم يلومونه على تأويله، فقلت: يا قوم! إن هذه أمور هينة، فلا تعنتوا هذا الشيخ فإنه يمت بكتابه فى (القرآن) المعروف (بكتاب الحجة)، وأنه ما سفك لكم دما، ولا احتجن عنكم مالا فتفرقوا عنه (2).
وفى هذا النص دلالات:
أولها: أن أبا على يتأول على الشعراء، ويدعى عليهم.
وثانيها: وأن تأوله هنا وادعاءه من الأمور الهينة.
وثالثها: أن كتاب الحجة لأبى على مقدر من أبى العلاء، ومن أجله نهى عن إعنات الشيخ، ودفع عنه الهجوم.
واتهم أبو محمد الأسود فى كتابه نزهة الأديب أبا على بتحريف البيت:
وطرفك إما جئتنا فاحبسنه ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
وذكر أن الصواب فيه:
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا ... لكى يحسبوا أن الهوى حيث تنظر (3)
وإذا كان أبو على مشهورا بأمانته العلمية، ودقته فيما يرويه وتحريه، فالباحث لا يسلم بما اتهم به من تحريف أو ادعاء، سواء أكان ذلك من الأسود أم من أبى العلاء فالقصيدة التى ورد فيها بيتا يزيد الكلابى مسندة إليه فى البصريات إسنادا دقيقا، أنشدها أبو على عن أبى الحسن على بن سليمان الأخفش، عن أبى العباس
__________
(1) فى البصريات لوحة 57وامالى القالى: 1/ 68 فليت كفافا كان خبرك كله ... وشرك عنّى ما ارتوى الماء مرتوى.
(2) رسالة الغفران تحقيق ابنة الشاطئ: 154.
(3) المغنى لابن هشام: 1/ 148.(1/148)
ثعلب، عن أبى الحسن، عن الأحول الذى رواها عن رجل عن أبى عبيدة. إلى أنّ كلمتى «الماء ومقتوى» مضبوطتان بما أراد يزيد (1). فلعل هذا الضبط توارثه تلاميذ أبى على عنه، على أنى رأيت أبا على يتعقب الرواة بما يدل على تحقيقه للرواية وتمحيصه ما ينشد المنشدون (2). ورجل هذا شأنه يكون بعيدا عن قصد التحريف أو الادعاء.
هذا ويتفق كل من الأعلم الشنتمرى والبغدادى مع أبى على الفارسى فى رجع الضمير على الدرس فى البيت «هذا سراقة» ولم يجز عوده على القرآن لئلا يلزم تعدى العامل إلى الضمير وظاهره معا (3). وإذن للرأى الذى ذهب إليه أبو على فى البيت وجه من الصناعة النحوية، وعلى أية حال فاتهام الشيخ بما اتهم به لا يضع من مكانته، ولا يحط من قيمته، ويكفيه ما انتهى إليه حكم أبى العلاء، وهو حكم ترضى حكومته.
__________
(1) البصريات: 57.
(2) انظر المخصص: 4/ 102، 7/ 107.
(3) انظر شرح الشواهد للأعلم الكتاب: 1/ 437، والخزانة ط السلفية: 2/ 2 وانظر الحجة: 4/ 55ن البلدية حيث أورد أبو على البيت، وخرجه، وعلل لتخريجه.(1/149)
الفصل الثالث آثار أبى على
إحصاؤها وترتيبها وملاك ذلك عاش أبو على فى عصر انقسام الدولة العباسية إلى دويلات تكرم العلم، وتتنافس على اجتذاب العلماء، ويسعى هؤلاء إلى نيل الخطوة عند الحكام والأمراء بما يهدونه من تآليف ينسبونها إليهم، ثم كان أن تلمذ أبو على لشيوخ تختلف نواحى تخصصهم:
ففيهم القارئ كأبى بكر بن مجاهد، وفيهم النحوى كابن السراج والزجاج، وفيهم اللغوى كابن دريد، وكان أبو على بعد ذلك محبا للعلم مشغوفا به، مكبا على دراسة ما خلف الأقدمون من تراث فى النحو والثقافة العربية، ثم نسأ الله له فى أجله، فامتلأت حياته الطويلة بالبحث، والدرس، والتأليف، وتنقل أبو على فى الأقطار الإسلامية المختلفة يسعى إليه طلاب العلم، يجتمعون حوله، مستمعين إليه، مشتركين معه فيما يتناوله من مسائل اللغة والصرف بحثا، ودراسة، وتفسيرا، وتفتيشا، وإملاء، وتدوينا. ثم يكون أبو على مؤدبا لأبناء خسرو، ويؤلف لعضد الدولة الذى تلمذ له وكانت طبيعة أبى على ناقدة، وقريحته وقادة تعقب الشيوخ إصلاح ما أغفلوه، وتتبعهم بالتنبيه على مواضع السهو والغلط، فجاءت آثار أبى على صورة صادقة لهذه العوامل التى أحاطت به فى بيئته العامة، وطبيعته، وظروفه الخاصة، وترك ثروة علمية ضخمة أحصيتها مما ذكره المترجمون والوراقون فيما يأتى:
1 - الحجة.
2 - التذكرة: قال فى كشف الظنون، وهو كبير فى مجلدات (1).
3 - أبيات الإعراب.
4 - شرح أبيات الإيضاح، ذكره ابن النديم.
5 - مختصر عوامل الإعراب.
6 - المسائل المصلحة يرويها عن الزجاج، وتعرف بالأغفال.
__________
(1) انظر كشف الظنون: 1/ 384.(1/150)
7 - الإيضاح.
8 - المقصور والممدود.
9 - الإيضاح الشعرى.
10 - المسائل الحلبية.
11 - المسائل البغدادية.
12 - المسائل الشيرازية.
13 - المسائل القصرية.
14 - نقض الهاذور.
15 - كتاب الترجمة ذكره ياقوت (1).
16 - المسائل المنثورة.
17 - المسائل الدمشقية.
18 - أبيات المعانى.
19 - التتبع لكلام أبى على الجبائى فى التفسير.
20 - تفسير قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ»}.
21 - المسائل البصرية.
22 - المسائل العسكرية.
23 - المسائل المصلحة من كتاب ابن السراج.
24 - المسائل المشكلة.
25 - المسائل الكرمانية: ذكرها ياقوت، والقفطى، والسيوطى، وابن الحاج خليفة.
26 - العوامل المائة.
27 - المسائل المجلسيات.
ذكرهما القفطى، وابن خلكان، وابن العماد الحنبلى فى الشذرات
28 - المسائل الذهبيات: انفرد بذكرها القفطى فى إنباه الرواة (2).
29 - تعليقة على كتاب سيبويه: ذكره السيوطى فى بغية الوعاة (3).
30 - جواهر النحو: انفرد بذكره بروكلمان وذكر أنه بمكتبة مشهد (4).
31 - الهيثيات: ذكرها ابن هشام فى المغنى (5)، كما ذكره البغدادى (6).
32 - أقسام الأخبار فى المعانى (7).
33 - الأهوازيات: ذكرها ابن سيدة فى المحكم (8).
__________
(1) انظر معجم الأدباء: 7/ 241
(2) انظر: 1/ 274.
(3) انظر 217.
(4) انظر تاريخ الأدب العربي: 1/ 113، 1142والملحق 175، 176.
(5) انظر: 2/ 10.
(6) انظر الخزانة: 2/ 63.
(7) انظر فهرس المخطوطات المصورة: 379.
(8) المحكم فى اللغة لابن سيدة: 1ص 14.(1/151)
تعليق وتحقيق:
(ا) النحو هو الطابع العام لكتب أبى على التى نظرتها، وأستثنى كتاب الحجة فهو موسوعة جامعة للثقافة العربية.
(ب) نسب العلامة أحمد تيمور كتاب البارع للفارسى وقال: «إنه لا يوجد إلا نتف منه بباريس (1)». والمعروف أن البارع لأبى على القالى (2)، فلعل هناك لبسا دعا إليه تشابه الكنيتين.
(ج) علق المرحوم الشيخ عبد الخالق عمر على كتاب نقض الهاذور بقوله: «هذا الكتاب ذكره أبو بكر بن خير فى فهرسه (3)»، ولم نفهم له موضوعا إلا أن يراد من الهاذور الهاذر، غير أن هذا الوزن لم يرد فى القاموس مع كثرة ما جاء به من الوصف فى الهذر (4). وتشير علامة الاستفهام التى وضعها محققو سر صناعة الإعراب بعد: نقص (كذا) الهاذور إلى نحو ما حاك فى صدر الأستاذ عبد الخالق عمر (5).
وأقول: إن موضوع نقض الهاذور هو الرد على ابن خالويه فى رده كتاب الأغفال (6).
(د) لا أعلم أن أحدا من المترجمين ذكر أن للفارسى كتابا فى معانى القرآن، ولعل الأمر قد التبس على بعض الباحثين فى زمننا (7).
(هـ) المسائل القصرية: أملاها أبو على على تلميذه أبى الطيب محمد بن طويس القصرى فسميت به (8)، ويذكر صاحب الروضات أسبابا أخرى فى تسميتها بالقصرية (9).
__________
(1) انظر مجلة الهلال سنة 28ص 331.
(2) انظر وفيات الأعيان: 1/ 204، وتذكرة النوادر: 111مطبعة دائرة المعارف الهندية سنة 1350هـ.
(3) ص 310.
(4) حاشية معجم الأدباء: 7/ 241.
(5) انظر مقدمة سر الصناعة: 30.
(6) انظر الفلاكة والمفلوكين: 102وخزانة الأدب: 4/ 125.
(7) انظر أثر القرآن فى تطور النقد العربي: محمد زغلول سلام: 33.
(8) انظر كشف الظنون: 3/ 1170.
(9) راجع روضات الجنات: 220وأعيان الشيعة: 20/ 465.(1/152)
(و) ذكر ياقوت من كتب أبى على: المسائل المصلحة على ابن السراج (1).
والذى أعرفه أن أبا على أصلح على الزجاج حسب (2).
(ز) هل الإيضاح الشعرى هو شرح أبيات الإيضاح؟ أو هو كتاب الشعر؟
أو هو ما ذكره أبو على فى كتاب الحجة باسم: «شرح الأبيات المشكلة الإعراب من الشعر (3)».
ليس لدى ما أجيب به عن هذه الأسئلة على وجه اليقين.
(ع) عقد أبو على فى التكملة فصلا جامعا عن المقصور والممدود، فهل هو كتاب المقصور والممدود الذى ورد فى الإحصائية السابقة؟
(ط) قال المرحوم أحمد أمين ما نصه: «وقد رحل أبو على إلى بلاد كثيرة، وكان يدون فى كتابه ما يجرى له من مناظرات فى كل بلد، فكتاب المسائل الحلبيات والبغداديات، والشيرازيات الخ (4)».
والقارئ لمسائل أبى على هذه لا يجد شيئا فيها من مناظرات وإنما هى مسائل أشتات بعيدة كل البعد عن جو المناظرات، ولا رائحة فيها لشىء من ذلك (راجع البحوث التى عرّفت فيها بهذه المسائل).
(ى) رتبت ما عثرت إليه من كتب أبى على على النحو الآتى:
المسائل المشكلة، فالإغفال فيما أغفله الزجاج من المعانى، فالبغداديات، فالعسكريات، فالبصريات، فالحلبيات، فالإيضاح، والتكملة، فالشيرازيات، ثم الشعر، وأقسام الأخبار، والمسائل المنثورة، فالحجة.
أما الأسس التى بنيت عليها هذا الترتيب فتكاد تنحصر فيما يأتى:
(ا) نصوص وردت فى كتبه تشير إلى تقدم كتاب عن كتاب، فهو يشير فى الأغفال إلى المشكلة، ويشير فى الحلبيات إلى الإغفال، كما يشير فى الحجة إلى مسائله جميعا.
(ب) ما انتهيت إليه فى فصل (بيئة أبى على المكانية) الذى رتبت فيه تنقلاته فى المدن التى زارها، وعلى هذا الترتيب نسقت مسائله التى عثرت عليها، فكانت
__________
(1) انظر معجم الأدباء: 7/ 141.
(2) انظر التعريف بالاغفال.
(3) انظر الحجة: 3/ 15ن البلدية.
(4) ظهر الاسلام: 1/ 243.(1/153)
البغداديات، والبصريات سابقتين للحلبيات، وكانت هذه سابقة للشيرازيات، وهكذا
(ج) بدء صلته بعضد الدولة عينت لى تاريخ الإيضاح والتكملة ومكانهما الزمنى فى ترتيب كتبه.
(د) لم أهتد إلى ميلاد الشعر، والعسكريات، وأقسام الأخبار، فليس هناك نصوص كاشفة ولا دلائل تعين، وقد أورد أبو حيان فى ارتشاف الضرب (1).
رأى أبى على فى أن القسم يجوز أن يتلقى بلام كى، وقال: «إن أبا على أجازه فى العسكريات، ورجع عنه فى البصريات، والتذكرة»، فهل يفهم من ذلك أن العسكريات سابقة على البصريات والتذكرة؟!
وقد أعددت أول الأمر أن يكون أساس الترتيب ما يبدو فى كتب الشيخ من دلائل التطور العقلى وآثاره فالكتاب الذى يظهر فيه العمق والنضج يكون خالفا، والذى يبدو فيه السماحة والفجاجة يكون سالفا هذا على وجه العموم وعنيت بخاصة أخذا بذلك الملاك بجمع مسائل وردت فى أكثر من كتاب، والموازنة بينها، والتعرف على دلائل التطور العقلى فيها كحديثه مثلا عن إعراب أو جاءوكم حصرت صدورهم فقد ورد فى البغداديات (2). والشيرازيات (3)، وتدليله على أن الجمل لا تقوم مقام الفاعل فقد ورد فى البصريات (4). والبغداديات (5)
وحديثه عن شنآن (6). وحديثه عن أن (7). وهكذا (8) ولكنى رأيت أن الأخذ بذلك الملاك يتدافع. أولا مع النصوص التى وردت فى كتبه، وهى أحق أن يؤخذ بها، وأن تعتبر دون سواها، ثم رأيت. ثانيا أن مرد التعمق عند الشيخ الحال التى ألّف فيها، والظروف التى أحاطت به، وأهمية الموضوع الذى يتناوله. ومن أجل ذلكم كان احتفاله بالاغفال وهو من كتبه الأولى
__________
(1) انظر ص 868.
(2) لوحة: 19.
(3) لوحة: 42.
(4) لوحة: 47.
(5) 46.
(6) انظر البغداديات: 45، والعسكريات: 133.
(7) انظر الشيرازيات: 67والمنثورة 164.
(8) راجع التعريف بهذه الكتب.(1/154)
لأنه تعرض لشيخه الزجاج، فلا بد أن يحشد الجهد، وأن يدقق إذا ما أخذ أو ردّ، ثم كان احتفاله بكتابه إلى سيف الدولة وهو جزء من الحلبيات لأنه يرد فيه كيدا، ويفحم به خصما، افترى عليه حسدا، كما كان احتفاله بالشيرازيات لأنها ولدت فى فترة من الهدوء والاستقرار مكّنا للشيخ أن يتعمق وأن يتأنق (1).
أما كتابه الحجة فقد اجتمعت عوامل مختلفة دفعت الشيخ إلى تجويده: فهو أولا من كتبه المؤلفة أخيرا ثم هو ثانيا يقرن احتجاجه للقراءات بما احتج ابن السراج (2)، وأخيرا كان موضوعه كافيا لأن يحمل الشيخ على الاحتفال به، فجاء الكتاب بعد ذلك نابضا بحيويته، ومعرضا لثقافته وشخصيته
__________
(1) راجع عرض ذلك الكتاب.
(2) راجع الفصل الخاص بذلك.(1/155)
الباب الثانى أبو على والاحتجاج للقراءات
الفصل الأول الاحتجاج للقراءات، وتطوره حتى عصر أبى على الفارسى
أعقد هذا الفصل، والغرض منه المامه بأهم ظواهر الاحتجاج للقراءات وتطورها منذ عصر صدر الإسلام حتى عصر أبى على الفارسى لتكمل أمامى حلقات البحث فى سلسلة مترابطة آخذ بعضها بحجز بعض. حتى إذا ما انتهيت إلى أبى على فصلت الكلام على عمله فى الاحتجاج تفصيلا، وبذلكم يتجلى جهده فى تطور الاحتجاج، وموازنا عمله بالسالفين، متحدثا عن أثره فى الخالفين.
ومن الحق أن أذكر أنى لم أستقص مظاهر الاحتجاج كلها فما لى طاقة بذلك، وان كانت فليس من الشأن فى هذا البحث أن أحشد الجهد له، ولكنه مجرد التمثيل للمعالم الكبرى التى بدت لى من آثار المشهورين من المحتجين، قراءً كانوا أو نحويين. وأبدأ الحديث فأقول:
قد يكون التخالف بين قراءة وقراءة ناشئا من اختلاف المصاحف (1)، أو من لهجات القبائل العربية (2). وقد يكون التخالف فى الأعم الأغلب بسبب اختلاف الأحكام النحوية فى الأساليب العربية، وهو ما سماه أبو الفضل الرازى:
«الاختلاف من حيث وجوه الإعراب (3)». وما سماه ابن قتيبة: «الاختلاف فى إعراب الكلمة وحركات بنائها (4)». وقد اشتغل كل من القراء والنحاة
__________
(1) انظر الفهرست لابن النديم / 54.
(2) راجع القرطين لابن مطرف الكناني: 222.
(3) النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى: 1/ 27.
(4) القرطين: 221.(1/156)
بالاحتجاج للقراءات، فوجهوها، وكشفوا عن عللها على اختلاف بين الفريقين فى النزعة، ومنهج التناول على ما سأبينه فى موضعه المقسوم إن شاء الله.
وكانت هناك احتجاجات فردية لبعض القراءات، وتتمثل هذه الاحتجاجات فيما روى مثلا عن ابن عباس (ت 68هـ) (1). انه قرأ ننشرها من قوله تعالى:
«وانظر إلى العظام كيف ننشرها» (2) واحتج (3) بقوله: {«ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ»} وما روى عن عاصم الجحدري (ت 128هـ) (4) انه كان يقرأ ملك يوم الدين (5) بغير ألف، واحتج على من قرأها مالك «بألف» فقال: يلزمه أن يقرأ: «أعوذ برب الناس مالك الناس» (6).
وكان عيسى بن عمر (ت 149هـ) يقرأ: «يا جبال أوّبى معه والطير (7)» بالنصب ويقول: هو على النداء (8). وأستطيع أن أستنتج من رواية ابن السراج عن اليزيدى أن أبا عمرو أحد القراء السبعة (ت 154هـ) (9). احتج لقراءته فى بعض منها: جاء فى كتاب الحجة فى الاحتجاج لقراءة أبى عمرو {«مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»}، قال أبو بكر محمد بن السرى: قال أبو عمرو فيما أخذته عن اليزيدين:
«إن ملك يجمع مالكا» (10).
وكان يحتج على من قرأها مالك بألف (11) بقوله: «أفلا يقرءون: فتعالى الله المالك الحق (12)»؟.
يقول أبو عمرو ذلك متعجبا إذ لم يقرأها فى سورة طه بالألف أحد من العشرة (13) ولا من الأربعة عشر (14).
__________
(1) طبقات القراء: 1/ 426.
(2) سورة البقرة: آية 259.
(3) معاني القرآن للفراء: 1/ 173.
(4) سورة عبس آية 22.
(5) طبقات القراء: 1/ 349.
(6) سورة الفاتحة آية: 4.
(7) الحجة: 1/ 3.
(8) سورة سبأ آية 10.
(9) طبقات النحويين واللغويين للزبيدى: 36.
(10) طبقات القراء: 1/ 292.
(11) الحجة: 1/ لوحة 2من مراد ملا.
(12) سورة طه آية: 114.
(13) انظر النشر: 1/ 322.
(14) انظر اتحاف فضلاء البشر 307، 308.(1/157)
ويبدو أن التوجيه الإعرابى للقراءات المتخالفة قد ذاع فى عصر محمد بن سليمان والى البصرة (ت 173هـ) (1).
فقد كان يقول: «إن الله وملائكته» وكان يرفع الملائكة، فقيل له فى ذلك، فقال: «خرجوا لها وجها، ولم يكن يدع الرفع (2)».
هذه تخريجات فردية مرتبة ترتيبا تأرخيا لبعض القراءات، ينهج أصحابها نهجا لغويا وإعرابيا فى الاحتجاج (3).، أو يستعينون بقراءة على تخريج أخرى (4)
حتى إذا كان هارون بن موسى الأعور (ت قبل سنة 200) (5) وذكر صاحب البغية أنه توفى فى حدود السبعين ومائة (6) رأيناه فيما يقول أبو حاتم السجستانى:
أول من سمع البصرة وجوه القراءات، وألفها، وتتبع الشاذ منها، فبحث عن اسناده (7)، وكان الذى هيأ له ذلك فيما يبدو أنه روى القراءة عن ثلاثة من القراء: قرأ على عاصم بن أبى النجود، وعبد الله بن كثير، وأبى عمرو ابن العلاء (8)، وإذن فهارون الأعور يعد الخطوة الأولى كما يقول أبو حاتم فى تأليف القراءات والاحتجاج لها، وأذكر هنا جهد سيبويه (ت 180هـ) واحتجاجه للقراءات فى مواضع من الكتاب، وسأفردها بعد بالحديث والبيان.
وقد ذكر ابن الجزرى أن العباس بن الفضل (ت 186هـ) ناظر الكسائى فى الامالة (9)، والمناظرة بما فيها من برهان وتدليل، يرجح عندى أنها جاءت على صورة احتجاج وتعليل، وربما كان معنى ناظر الكسائى أنه نظيره، وبذلك التفسير لم تقع هناك منافسة، ولهذا التفسير وجهة من قول ابن الجزرى عن يحيى بن زياد الخوارزمى رواية عن الهذلى أنه أى يحيى نظير قتيبة فى الإمالة (10).
ولكن يبعد هذا التأويل عندى:
(ا) صيغة المفاعلة مع الكسائى.
__________
(1) انظر شذرات الذهب: 1/ 782.
(2) البيان والتبيين للجاحظ: 6/ 234.
(3) انظر تخريج عيسى بن عمر لقراءة يا جبال أوّبي معه والطير وكذلك تخريج حمزة لهمز الذئب، وتسهيل الحوت.
(4) انظر تخريج ابن عباس لقراءة (ننشرها).
(5) طبقات القراء: 2/ 348.
(6) بغية الوعاة: 406.
(7) طبقات القراء: 2/ 348.
(8) المصدر السابق.
(9) طبقات القراء: 1/ 353.
(10) المصدر السابق: 2/ 372.(1/158)
(ب) قول الذهبى: «أن قتيبة بن مهران له إمالات مزعجة معروفة (1)»، فيكون ابن الجزرى أراد أن يحيى بن زياد نظير قتيبة فى ذلك.
(ج) أن العباس بن الفضل والكسائى كانا متعاصرين مما يقوى وقوع المناظرة بينهما (فقد توفى الأول 186هـ)، (وتوفى الكسائى 182هـ وقيل سنة 189هـ) (2).
ويمثل لنا ما دار بين حمزة بن حبيب أحد القراء السبعة وتلميذه الكسائى.
طرفا من المناقشات حول القراءات وما فى غضون هذه المناقشات من احتجاج:
قالوا: «قرأ الكسائى أمام حمزة سورة يوسف، فلما بلغ إلى قصة الذئب قرأ:
«فأكله الذيب» بغير همزة فقال له حمزة: «الذئب بالهمزة» فقال له الكسائى:
«ولذلك أهمز الحوت وقرأ: {«فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ»} فقال: «لا» فقال الكسائى لم همزت الذئب، ولم تهمز الحوت، وهنا فأكله الذئب، وهذا فالتقمه الحوت؟! فرجع حمزة ببصره إلى حماد الأحول وكان أكمل أصحابه، فتقدم إليه فى جماعة أهل المجلس فناظروه فلم يصنعوا شيئا، وقالوا: أفدنا (يرحمك الله تعالى) فقال والقائل حمزة تقول «إذا نسبت الرجل إلى الذئب قد استذأب ولو قلت: قد استذاب بغير همز لكنت انما نسبت إلى الذوب. فتقول: قد استذاب الرجل إذا ذاب شحمه بغير همز. وإذا نسبته إلى الحوت قلت: قد استحات الرجل أى كثر أكله للحوت إذا كان يأكل منه كثيرا، فلا يجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز الذئب، ولم يهمز الحوت، وفيه معنى آخر: لا تسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه، وأنشدهم:
أيها الذئب، وابنه، وأبوه! ... أنت عندى من أذؤب ضاريات (3)
وقد دارت مناقشة حول قوله تعالى: {«إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ»} (4).
اشترك فيها يحيى أكثم، واليزيديان: محمد بن أبى محمد وأخوه إبراهيم وكانا يقرءان المأمون: قرأ المأمون «إنما أنا رسول ربك ليهب لك» فردها يحيى متمسّكا برسم المصحف وأقرّها محمد، وخرجها على وجه من التأويل (5). فمثّل يحيى فى هذه
__________
(1) طبقات القراء: 2/ 26.
(2) انظر نزهة الألباء: 47.
(3) نزهة الألباء: 44.
(4) سورة مريم آية 19.
(5) انظر خبر هذه المناقشة فى طبقات النحويين واللغويين للزبيدى: 79.(1/159)
المناقشة جانب القول بالأثر (1)، وذهب محمد فيها مذهب أهل الرأى من المحتجين.
ويذكر المترجمون يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمى (ت 205هـ) أحد القراء العشرة (2) وحفيد عبد الله بن أبى إسحاق النحوى بعمل فى الاحتجاج. يقول عنه أبو حاتم: «كان أعلم من أدركنا ورأينا بالحروف، والاختلاف فى القرآن، وتعليله ومذاهبه، ومذاهب النحو فى القرآن، وأروى الناس لحروف القرآن، وحديث الفقهاء (3)، وقد ألف يعقوب كتابا «سماه الجامع» جمع فيه عامة اختلاف وجوه القرآن، ونسب كل حرف إلى من قرأ به (4). ويبدو أن كلا من هارون الأعور (ت فى حدود 170هـ) ويعقوب الحضرمى (ت 205هـ) جمع بين القراءات المتواترة والشاذة، كما كان من أبى عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) مثل ذلك، جاء فى كشف الظنون: «أول إمام معتبر جمع القراءات فى كتاب، وجعلها فيما أحسب خمسا وعشرين قراءة مع السبعة (5).
وبقيت التخريجات الفردية بجانب هذه الكتب الجامعة للقراءات واسنادها ذلكم ما قاله أبو سوار (6). فيما يرويه أبو عثمان المازنى (246هـ) قال: قرأت على أبى وأنا غلام: ترى الودق يخرج من خلاله «فقال أبو سوار وكان فصيحا: يخرج من خلله» فقال أبى: «من خلله قراءة!؟» فقال أبو سوار: أما سمعت قول الشاعر:
«يشير بغمزة، يخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب»
قال أبو عثمان: خلل وخلال واحد هما مصدران (7). وكان أمر تقتضيه طبيعة الأشياء أن تؤلف كتب الاحتجاج للقراء السبعة بعد أن اختارها ابن مجاهد (ت 324هـ) أول من سبع السبعة (8) فى كتابه المترجم بقراءات الأمصار، إذ كيف يكون احتجاج للقراء السبعة ولما يقع عليهم الاختيار؟! قبل ابن مجاهد
__________
(1) كان يحيى سليما من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة انظر تاريخ بغداد: 14/ 198.
(2) طبقات القراء: 2/ 382.
(3) طبقات الزبيدى: 51وطبقات القراء: 2/ 389.
(4) طبقات النحويين واللغويين للزبيدى: 51.
(5) كشف الظنون: 2/ 220.
(6) لم أجد فى كتب التراجم إلا سوار بن عبد الله (245هـ) انظر تاريخ بغداد: 9/ 210 والا ابن سوار، وليس هو المذكور هنا إذ أن ابن سوار هذا توفى سنة 496هـ (انظر طبقات القراء: 1/ 86).
(7) الفهرست لابن النديم: 67.
(8) ابراز المعاني: 5.(1/160)
كانت الكتب الجامعة للقراءات تشتمل على السبعة التى وثقتها ابن مجاهد فيما بعد، بجانب ما تشتمل على غيرها من القراءات الأخرى، واحتج العلماء لهذه القراءات جميعا السبعة وغيرها كالذى كان من المبرد (ت 285هـ) الذى ألف كتابه «احتجاج القراءة (1). فى ذلك الوقت الذى سبق ابن مجاهد بما يقرب من نصف قرن. وكالذى كان من الطبرى (ت 310) على النحو الذى سأعرض له فيما بعد بالتفصيل وقد ألف ابن درستويه (ت 347هـ) كتاب «الاحتجاج للقراء» كما يذكر ابن النديم (2). وقد توفى ابن درستويه بعد ابن مجاهد، ومن هنا لا أستطيع على التحقيق أن أجزم بأن احتجاج ابن درستويه كان للقراء السبعة أو كان على نحو احتجاج المبرد شاملا للسبعة وغيرها؟ ومن المرجح أن يكون على هذا النحو الأخير، كما يفهم من تقديم أبى على كتاب الحجة حيث يذكر أنه مسبوق بعمله فى الاحتجاج لسبعة ابن مجاهد: سبقه محمد بن السرى حسب، ولم يعرض لذكر ابن درستويه (3). ويعد عمل ابن مجاهد خطوة حاسمة باختياره القراء السبعة، وكان الرجل ذا قدم راسخة فى القراءات، وكان بعيد الصيت مع الدين والحفظ والخير (4).
كما كان مسموع الكلمة عند الحكام، فانتصروا لهذه القراءات، وأوقعوا بمن خالفها العذاب (5). واتجه المحتجون إلى الاحتجاج لقراء الأمصار السبعة، محمية للدين، وحفاظا على التنزيل، فتتابع المعالم الكبرى للتأليف فى الاحتجاج على النحو الآتى:
يحتج أبو بكر محمد بن السرى المعروف بابن السراج (316هـ) للقراءات المسموعة التى ذكرها ابن مجاهد فى كتابه القراءات، فيتم سورة الفاتحة ويتناول جزءا من سورة البقرة ثم يمسك (6). ويؤلف أبو طاهر عبد الواحد البزار (ت 349هـ) كتاب الانتصار لحمزة (7). وقد جعلته من كتب الاحتجاج لما يوحى به العنوان، كما يؤلف محمد بن الحسن الأنصارى (ت 351هـ) كتاب السبعة بعللها الكبير (8)، وينشط أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم (ت 362هـ) فى هذا الباب فيؤلف:
__________
(1) الفهرست: 88.
(2) الفهرست: 53، 94.
(3) الحجة: 1/ لوحة.
(4) طبقات القراء: 1/ 142.
(5) كما حدث لابن شنبوذ وابن مقسم.
(6) تقديم الحجة: 1/ 2.
(7) الفهرست: 48.
(8) الفهرست: 50.(1/161)
(ا) كتاب احتجاج القراءات.
(ب) كتاب السبعة بعللها الكبير.
(ج) كتاب السبعة بعللها الأوسط.
(د) كتاب السبعة بعللها الأصغر (1).
ويؤلف الأزهرى (ت 368هـ) صاحب تهذيب اللغة كتابا فى علل القراءات (2).
ثم يعقبه أبو على الفارسى (377هـ) بكتابه الحجة، ويعاصر أبا على ابن خالويه (370هـ) فيحتج لقراءات السبعة كذلك (3). ويجيء ابن جنى تلميذ الفارسى (ت 392هـ) فينتصر لما شذذ ابن مجاهد من القراءات، ويحتج لها فى كتابه المحتسب.
وفى القرن الخامس ينشط القراء فى الاحتجاج، فيؤلف مكى بن أبى طالب حموش (ت 437هـ) كتابه الكشف عن علل القراءات وحججها (4). ويؤلف الدانى (444هـ) كتاب الموضح لمذاهب القراء واختلافهم فى الفتح والإمالة (5).
وتتابع كتب القراء جامعة تفصيل مذاهب السبعة (6). أو العشرة (7) أو الاربع عشرة (8) واغلبها يحتج احتجاجا موجزا للأصول، وفرش الحروف. وبقى علىّ أن أقول: «ان هناك كتبا ألفت فى معانى القرآن (9)، وقد قصدت هذه الكتب.
كما يدل عليها اسمها، وكما استنتجت من اطلاعى على الباقية منها (10) قصدت إلى إلى تفسير القرآن، وتعرضت تبعا لذلك إلى إعراب الكلمات التى يتعلق باعرابها توجيه المعنى. وتختلف باختلافه الأوجه الإعرابية فى الكلمة، أو إلى التفسير اللغوى للمتن القرآنى الذى اختلفت القراء فى ألفاظه. وتعرض هذه الكتب لتوجيه القراءة، ولكن من هذه الزاوية أولا ومن هذه الناحية يعدها الباحث من كتب الاحتجاج.
__________
(1) الفهرست: 49.
(2) تاريخ الاسلام الذهبى: 109حوادث سنة 368.
(3) فى حجة ابن خالويه مخطوط بدار الكتب رقم 19523ب.
(4) الكتاب بدار الكتب رقم 19182ب.
(5) له نسختان بمكتبة الأزهر رقم 103، 59802قراءات.
(6) كالتيسير وجامع البيان للدانى والمفتاح لأبي القاسم عبد الوهاب بن محمد المحفوظ بدار الكتب رقم 19669ب.
(7) كالنشر لابن الجزرى.
(8) كاتحاف فضلاه البشر للبنا الدمياطى.
(9) انظر الفهرست: 51.
(10) كمعانى القرآن للفراء والزجاج.(1/162)
وبعد: فيجدر بى أن ألخص المعالم الكبرى للاحتجاج فى الخطوات الآتية:
كانت الخطوة الأولى فى الاحتجاج تتمثل فى هذه التخريجات الفردية «تأتى منثورة هنا وهناك، يدعو إليها المقام، وترد عند الاقتضاء، واستمرت هذه الخطوة مسايرة للخطوة الثانية التى تمثلت فى جمع القراءات الصحيحة والشاذة والبحث عن أسنادها كما فعل هارون بن الأعور، ويعقوب بن أبى إسحاق، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأمام المفسرين الطبرى فى كتابه القراءات، وهذه الخطوة تكاد تكون مفقودة طوى كتبها الزمان، وعصفت بها الأحداث.
ثم كانت المرحلة الفاصلة فى الخطوة الثالثة باختيار إمام القراء أبى بكر بن مجاهد القراءات السبع، ويدور حول عمله هذا نشاط له مظاهر أربع تتمثل فى:
(ا) الاحتجاج لهذه القراءات والكشف عن عللها جملة كما فعل أبو على فى الحجة.
(ب) توثيق غير هذه السبع والاحتجاج له كما فعل ابن جنى فى المحتسب.
(ح) الاقتصار على الانتصار لقارئ من السبعة كما فعل أبو طاهر البزار فى كتابه الانتصار لحمزة.
(د) الاحتجاج لأصل من أصول القراءات يعلل المؤلف لمذاهب القراء السبعة فيه كما فعل الدانى فى كتابة الموضح. حيث احتج للفتح والإمالة عند سبعة القراء. ويبرز بين هذه المعالم كتاب سيبويه علما شامخا يهدى المحتجين، كما تظهر بجانبه فى الاحتجاج كتب المفسرين. وسأعرض فى الفصول التالية نزعة كل من إمام النحاة، وإمام المفسرين، وإمام القراء فى الاحتجاج تمهيدا لتناول نزعة أبى على بالدرس والبيان(1/163)
سيبويه والاحتجاج للقراءات
يعد الكتاب فيما أرى الأصل فى باب الاحتجاج، وهو العمدة لمن سلك هذا المنهج من المحتجين، قراء كانوا أو نحويين، ومن هنا كان من الضرورى أن أتحدث عما كان من سيبويه فى هذا السبيل.
وأقدم أن سيبويه فى كتابه كان يحتج للأساليب العربية، وأوجه الخلاف والمشابهة بينهما، وطرائق إعرابها، ومقتضيات هذه الطرائق، وتلك الأوجه من المعنى والاستعمال (1).
وقد قال سيبويه فى معرض التدليل على أن العرب يستخفون فيحذفون النون والتنوين، ولا يتغير من المعنى شىء وبعد أن أورد طرفا من الأمثلة يستشهد بها على ذلك، قال: «وستراه أيضا مفردا فى بابه مع غير هذا من الحجج (2)». فدل لفظه هذا أنه كان يقصد إلى الاحتجاج قصدا، وهو بعمله هذا قد فتح باب الاحتجاج لمن جاء بعده من النحاة والقراء، وقد كان أبو على الفارسى فى الحجة ينظر إلى الكتاب (3).
وأسجل فيما يأتى بعض الملاحظات على منهج سيبويه فى تناوله الآيات القرآنية التى قرئت بأوجه متخالفة (4):
(ا) فهو أحيانا يخطئ القارئ، ويضعف القراءة إذا لم تكن متفقة هى وما انتهى إليه من رأى أو قياس، وذلك تخريجه لإعراب فيكون من قوله تعالى:
{«كُنْ فَيَكُونُ»} *، فاختار الرفع، ثم قال: وقد يجوز النصب فى الواجب فى اضطرار الشعر
فمما نصب فى الشعر اضطرارا قول الشاعر:
سأترك منزلى لبنى نميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا
وقول الأعشى:
ثمت لا تجزوننى عند ذاكم ... ولكن سيجزينى الإله فيعقبا
__________
(1) سيبويه إمام النحاة: 37.
(2) الكتاب: 1/ 84.
(3) انظر الحديث عن سيبويه شيخا من شيوخ أبي على.
(4) أعانتنى فهارس شواهد الكتاب التى أوردها أستاذى الأستاذ على النجدى على هذا البحث إعانة ظاهرة.(1/164)
ثم قال: وهو ضعيف فى الكلام (1).
وقد رجعت إلى كتب القراءات، فوجدت أن قراءة النصب عن ابن عامر فى ستة المواضع التى ورد فيها هذا الحرف فى القرآن الكريم، ووافقه الكسائى فى حرفى النحل ويس (2). فكيف يقول سيبويه: والنصب ضعيف فى الكلام؟
وقد ورد فى قراءات إمام ناهيك من إمام؟!
وقد جرى النحاة البصريون وراء سيبويه، فهذا أبو على الفارسى يرى ما يراه إمامه (3)
ويجيء العكبرى فيلف لفهما إذ يقول: «وقرئ بالنصب على جواب لفظ الأمر، وهو ضعيف، ثم دلل على هذا الضعف (4).
(ب) وقد ينفرد قارئ من القراء العشرة بقراءة، ويقرأ غيره بغيرها، ومع ذلك فإن سيبويه يحكم بأن هذه القراءات المنفردة أكثر وأجود، فقد قرر أن النصب فى معذرة من قوله تعالى: {«قََالُوا مَعْذِرَةً إِلى ََ رَبِّكُمْ»} أكثر وأجود (5).
فأما كون القراءة أجود فلا اعتراض لى عليه، وذلك لأن القراءات قد تتفاوت فى ذلك لما نقل ابن الجزرى فى كتابه (منجد الطالبين)، عن أبى نصر الشيرازى فى تفسيره: «إنا لا ندعى أن كل ما فى القراءات على أرفع الدرجات من الفصاحة (6)» وإن كان سبيل التأدب يلزمنا الاعتداد بها جميعا.
وأما أن قراءة النصب أكثر فيرده أن حفصا هو الذى قرأ بالنصب والباقين قرءوا بالرفع (7)، ولا شك فى أن هؤلاء القراء يمثلون الأكثرية فى العرب إذا ما اجتمعوا على شىء، فحكم سيبويه يتخالف هو وإجماع بقية القراء، على غير ما رأى وقرر.
وكان خيرا لو أطلق التجويز من غير ترجيح، كما حكم فى قوله تعالى: {«كَلََّا إِنَّهََا لَظى ََ نَزََّاعَةً لِلشَّوى ََ»} (8)».
__________
(1) الكتاب: ج 1ص 423.
(2) راجع النشر: 2/ 220.
(3) الحجة: ج 1ص 474نسخة مراد ملا.
(4) إعراب القرآن للعكبرى: ج 1ص 33.
(5) الكتاب: ج 1ص 162.
(6) منجد المقرئين: 65.
(7) انظر النشر فى القراءات العشر: ج 2/ 272.
(8) ج 1ص 258.(1/165)
ومن التوافق الملحوظ أن ينفرد حفص بالنصب، ويقرأ الباقون من العشرة بالرفع (1). تماما كما فى قوله تعالى: {قََالُوا مَعْذِرَةً إِلى ََ رَبِّكُمْ»}.
(ج) وأحيانا يجوز قراءة لم ترد عن واحد من القراء العشرة، فقد جوز الرفع والنصب فى «جواب» من قوله تعالى: {«فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا»} *
إذ يقول: فى تأويل النصب أن محمولة على كان كأنه قال: «فما كان جواب قومه إلا قول كذا وكذا»، ثم قال: وإن شئت رفعت الجواب، فكانت إن منصوبة (2). وقد فهمت تجويزه الأمرين فى مساواة من قوله مخيرا: «وإن شئت» ثم رجعت إلى كتاب النشر فلم أجد الرفع فى القراءات العشر (3). وهذا دليل عندى على أن أئمة القراء لا تعمل فى شىء من حروف القرآن على الأفشى فى اللغة، والأقيس فى العربية بل على الأثبت فى الأثر، والأصح فى النقل والرواية (4). ومن هذا القبيل أى من تحكيم القياس ومجانبة العمل بالأثر أن يقول سيبويه مثلا:
ولو قرئ بكذا كان جيدا، كما ذكر فى قوله تعالى: {«وَأَنَّ الْمَسََاجِدَ لِلََّهِ فَلََا تَدْعُوا مَعَ اللََّهِ أَحَداً»} (5).
(د) وأحيانا يجوّد قراءة مشهورة، ويجوز وجها غير مقروء به كأن يقول فى: {«وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ»}، النصب عربى كثير، والرفع أجود (6).
ومن التخالف الذى لم أستطع تفسيره، أنه مع تحكيمه القياس، ومجانبة العمل بالأثر فى ظاهر أمره وتخريجه يقول: «القراءة لا تخالف لأنها سنة! (7)» ولا زلت ألتمس تعليلا لهذين الموقفين المتناقضين، أو أرجو توفيقا بينهما.
فهل كان سيبويه يتخير القراءات على مذاهب العربية؟
هذا هو ما أميل إليه وأرجحه، وليس سيبويه فى ذلك نسج وحده بل إنّ أستاذه عيسى بن عمر له اختيار فى القراءة على مذاهب العربية كذلك (7).
(هـ) وهو يكتفى بالإشارة إلى أن الآية قرئت على وجه من وجوه الإعراب دون اهتمام فى الأعم الأغلب بذكر القارئ مما يدل على أن المهم عنده أن يحتج للوجه الذى قرئت به الآية، ولا يهمه أن يحتج للقارئ فيما ذهب إليه.
__________
(1) النشر ج 2ص 390.
(2) ج 1ص 476.
(3) ج 2/ 348.
(4) منجد المقرئين: 56.
(5) ج 1ص 74.
(6) المصدر السابق: 42، 74.
(7) طبقات القراء لابن الجزرى: ج 1/ 613.(1/166)
فهل ذلك هو الصواب فى تعليل هذه الظاهرة، أو الصواب أن القراء لم يتضح منزلة الأئمة منهم فى زمنه، فنراه يقول: «وقرأ أهل المدينة كذا (1) دون إسناد إلى نافع مثلا؟»، «وقرأ أهل الكوفة كذا (2)» دون إسناد إلى حمزة أو الكسائى؟
«وقرأ بعضهم كذا (3)» أو أن هذه قراءة أهل الحجاز (4)، أو قراءة أهل مكة كذا (5) دون إسناد إلى ابن كثير؟ أو دفعته العصبية الطائفية، والمنافسة فى الصنعة إلى عدم ذكر هؤلاء.
فعلى حسب ما استقصيت لم أره ينص إذا ما نص إلا على إمام بصرى كأبى عمرو بن العلاء (6). أو من قرأ على بصرى كالأعرج (7) أو عيسى (8). أو من بعد عن هذه العصبية كعبد الله بن مسعود (9) أو أبى (10).
وقد استفتيت كتب القراءات والتفسير فيما جوّزه أو جوّده سيبويه من قراءات فى مثل قوله تعالى: {«فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا»} * (11)، «تلتقطه بعض السيارة (12)».
«تماما على الذى أحسن (13)»، {«لََكِنِ الرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} والمقيمون (14)».
{«وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ} [15]»، {«وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ} والصابرون فى البأساء والضراء وحين البأس (16).
فوجدت أن الذى قرأ بالرفع فى قوله: فما كان جواب
الحسن وابن أبى إسحاق (17) وبتأنيث الفعل تلتقطه. الحسن وقتادة وأبو رجاء (18).
وبرفع أحسن يحيى بن بعمر. وابن أبى إسحاق (19).
__________
(1) الكتاب: ج 1/ 283، 429، 475مثلا.
(2) الكتاب ج 1/ 430، 476مثلا.
(3) الكتاب: ج 1/ 25.
(4) الكتاب: ج 1/ 417مثلا.
(5) الكتاب: ج 2/ 410مثلا.
(6) الكتاب: ج 2/ 238مثلا.
(7) الكتاب: ج 1/ 305مثلا.
(8) وانظر ترجمة حميد بن قيس الأعرج وقد روى عنه أبو عمرو ج 2/ 265طبقات القراء، الكتاب: ج 1/ 471مثلا.
(9) ج 1/ 258، 471.
(10) ج 1/ 481.
(11) الكتاب: ج 1/ 476.
(12) ج 1/ 15.
(13) ج 1/ 270.
(14) الكتاب: ج 1/ 348.
(15) ج 1/ 41، 74، ج 2/ 28.
(16) الكتاب: ج 1/ 248.
(17) البحر المحيط بأبي حيان ج 7/ 86.
(18) البحر المحيط لأبي حيان ج 5/ 284.
(19) البحر المحيط لأبي حيان ج 4/ 255.(1/167)
وبرفع المقيمين: ابن جبير، وعمرو بن عبيد.
والجحدري وعيسى بن عمر ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش.
ويونس، وهارون عن أبى عمرو (1). وبرفع ثمود فى قوله:
وأما ثمود: «الحسن وابن أبى إسحاق (2)»، ورفع الصابرين: «الحسن والأعمش ويعقوب (3)».
ثم رجعت إلى كتب طبقات القراء، فوجدت أن هؤلاء القراء بصريون:
فيعقوب بصرى (4) (205هـ)، وعمرو بن عبيد (144هـ) كذلك (5)، والمرجح أنه لم يدركه سيبويه (180هـ) وربما رويت عنه قراءة فرواها سيبويه (6)، وعيسى بن عمر (149هـ) معروفة مكانته فى الشيوخ البصريين (7)، وكل من:
عصمة بن عروة (8)، وهارون الأعور (9)، وقتادة (10) (117هـ)، ومالك بن دينار (11) (137هـ)، ويونس بن حبيب (12)، وأبو رجاء العطاردى (13)
(105هـ) ويحيى بن يعمر بصرى (14)، كما تنص كتب طبقات القراء. ولم أعثر على ترجمة للجحدرى الذى روى قراءة الرفع فى المقيمين.
وأخلص من هذا العرض إلى نتيجة هى أن سيبويه، وقد اهتم هذا الاهتمام الواضح بإيراد هذه الآيات، وبالقراءات التى رويت بها، وبالقراء الذين ظهروا بعد استفتاء كتب القراءات والطبقات أنهم بصريون، بتوجيهه قراءاتهم على النحو الذى أورد فى الكتاب أقول يمكن أن أستخلص من هذا ما أستطيع أن أسميه نحو القراء البصريين، وهو أمر خليق بأن يختبر، ويتوسع فيه، ويتوجه إليه الدارسون والباحثون، إلى ما فيه من توثيق لقراء لم يردوا فى العشر، وأن يقيم ما ورد فى كتاب سيبويه إلى ما ذكرته كتب التفسير المعنية بالقراءات كالبحر المحيط لأبى حيان، والمحتسب لابن جنى، فلعلنا نخرج من هذه الدراسة بنتائج ذات قيمة
__________
(1) البحر المحيط لأبى حيان ج 3/ 395.
(2) البحر المحيط لأبي حيان ج 7/ 491.
(3) المصدر السابق ج 2/ 8.
(4) طبقات القراء: ج 2/ 288.
(5) طبقات القراء: ج 1/ 602.
(6) المصدر السابق.
(7) طبقات القراء: ج 1/ 613.
(8) طبقات القراء: ج 1/ 512.
(9) طبقات القراء: ج 2/ 448.
(10) طبقات القراء: ج 2/ 25.
(11) طبقات القراء: ج 2/ 36.
(12) طبقات القراء: ج 2/ 466.
(13) طبقات القراء ج 1/ 604.
(14) طبقات القراء: ج 2/ 381فى البحر المحيط يحيى بن معمر والصواب ما أثبتناه.(1/168)
فى البحوث المتعلقة بالقرآن وتوثيق قراءاته. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا.
ومما يتصل بموقف سيبويه من المنافسين، أنّه كاد يطرد عندى إذا قال: وقرأها بعضهم أو نحوا من ذلك: أنّه القارئ كوفى، فقد قال: وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا {«وَامْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ الْحَطَبِ} [1]»، وقد رجعت إلى كتاب النشر فرأيت أن الذى قرأ بالنصب عاصم (2)
وقد قال: وقرأها بعضهم خاف (3) (بالإمالة)، وما بعضهم إلا حمزة (4)، وإكمالا لهذا البحث أذكر أن سيبويه يحتج لأوجه القراءة بما هو مرسوم فى بعض المصاحف، مسميا أصحابها حينا، وحينا يغفل ذلك، فقد ذكر فى قوله تعالى:
{«وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ»}، زعم هارون أنها فى بعض المصاحف: ودوا لو تدهن فيدهنوا (5)، وقد أوردها فى مصحف ابن مسعود (6) فوجدتها كذلك (7)، وكذلك وردت فى مصحف أبى والأعمش (8).
وذكر قول الله تعالى: {«لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَلََّا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ»} ثم قال:
وزعموا أنها فى مصحف أبى أنهم لا يقدرون» (9)، وقد ذكرها فى كتاب المصاحف بكسر الهمزة وهو خطأ (10).
وسيبويه باستشهاده بما جاء فى المصاحف يقرب كثيرا من أهل النقل والأثر، ويبعد عن أصحاب القياس والنظر، وهى ظاهرة لو انضمت إلى قوله: «والقراءة لا تخالف لأنها سنة (11). فإن ذلك يجعلنى أضع سيبويه مع مدرسة القراء الذين يأخذون بالنقل عن الأئمة، ويعتدون برسم المصحف. ولكن ما جاء فى كتابه من اعتداد بالقياس. وتضعيف بعض القراء الأئمة يدفعنى إلى القول بأنه كان مترددا بين المذهبين. وهو إلى مذهب القياس ومدرسة النحاة أقرب، ذلك لأن الملاك العام فى احتجاجه للقراءات أنه أراد أن يجرى القراءات على مقاييس العربية، ومن هنا رأيناه لا يتحرج أن يصف كلا من القارئ والقراءة بالضعف، كما بينت من قبل (12).
ثم أخلص إلى الحديث عن اتجاه إمام المفسرين أبى جعفر الطبرى، ومكانته فى الاحتجاج.
__________
(1) الكتاب ج 1/ 252.
(2) النشر ج 2/ 404.
(3) الكتاب ج 2/ 261.
(4) النشر ج 2/ 59وابراز المعاني لأبى شامة / 169فى شرح بيت الشاطبى:
وكيف الثلاثي غير زاغت بماضى ... أمل خاب، خافوا، طاب، ضاقت لتجملا.
(5) الكتاب ج 1/ 422.
(6). 301.
(7) المصاحف للسجستانى / 63.
(8). 74.
(9) الكتاب ج 1/ 481.
(10). 961.
(11) الكتاب ج 1/ 481.
(12) الكتاب ج 1/ 423.(1/169)
أبو جعفر الطبرى والاحتجاج (310224هـ)
يمثل أبو جعفر الطبرى نضج الثقافة الإسلامية فى عصورها الذهبية، فقد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من عصره (1). وكان مليئا بما نهض فيه من أى علم كان (2). والطبرى شيخ أبى بكر بن مجاهد (3). سمع ابن مجاهد منه رواية ورش عن نافع (4). وقد بلغ من تقديره للطبرى أنه كان يجتاز على مسجده فلا يدخله، ويقف بباب مسجد الطبرى يستمع قراءته طويلا، وكان يثنى عليها (5)، كان يقول:
«ما سمعت فى المحراب أقرأ من أبى جعفر (6)»، وقد ألف الطبرى فيما ألف كتابا فى القراءات أثنى عليه الناس (7). ونقل ياقوت أنه فى ثمانى عشرة مجلدة، جمع فيه القراءات من المشهور والشاذ، وعلل ذلك وشرحه (8). ولعله كتاب الفصل بين القراءة (9) الذى ذكره ياقوت وكان أبو بكر يقول فيه: «ما صنف فى معنى كتابه مثله (10)». ووصفه البرانى بأنه كتاب حسن (11). وكتاب الطبرى فى القراءات يشتمل على كتاب أبى عبيد القاسم بن سلام، لأنه كان عنده وعليه بنى كتابه (12). فالطبرى إذن يمثل حلقة من سلسلة متصلة بدأت بهارون الأعور، وتتابعت حلقاتها ممثلة فى يعقوب الحضرمى، وأبى عبيد القاسم بن سلام، ولئن عصفت الأحداث بكتاب الطبرى فى القراءات فلم يصل إلينا إنّ كتابه (جامع البيان فى تفسير القرآن) المشهور المتعالم بين الناس، يضيء للباحث السبيل فى التعرف على حلقة من حلقات التطور فى الاحتجاج للقراءات، كما يبين نزعة الطبرى فى ذلك، فهو يروى فى كتابه هذا القراءات المختلفة مسندة إلى من قرأها، يستجيز بعضا فيرجحه، ولا يستجيز بعضا فيفسده، وملاك الترجيح عنده أمور:
__________
(1) تاريخ بغداد: 2/ 163.
(2) معجم الأدباء: 18/ 78.
(3) طبقات القراء: 2/ 107.
(4) معجم الأدباء: 18/ 67.
(5) تاريخ بغداد: 2/ 164.
(6) معجم الأدباء: 18/ 66.
(7) انظر طبقات القراء: 2/ 107.
(8) معجم الأدباء: 18/ 45.
(9) معجم الأدباء: 18/ 65.
(10) المصدر السابق: 18/ 66.
(11) طبقات القراء: 2/ 107.
(12) معجم الأدباء: 18/ 68.(1/170)
(ا) ما حدث به عن أشياخه، وما نقل من أقوال السلف من الصحابة، والأئمة، والخلف، والتابعين، وعلماء الأمة (1).
(ب) الأخذ بظاهرى المعنى، وحقيقة اللفظ، من غير التجاء إلى المجاز.
(ج) إجماع الحجة من الأمصار، وفى ذلك يقول. ما جاءت به الحجة متفقة عليه حجة على من بلغه، وما جاء به المنفرد فغير جائز لا اعتراض به على ما جاءت به الجماعة التى تقوم بها الحجة نقلا، وقولا، وعملا (2)، وتراه لا يستجيز القراءة بما خالف اتفاق الحجة، وإن كان له فى التأويل، والعربية وجه مفهوم (3) فإن قرأ بقراءة جمهور، وقرأ بأخرى قلة، أشار إلى أن القارئ مصيب الصواب بأى هذه القراءة قرأه، وإن كان يحب ألا يعدو فى قراءته قراءة ما عليه الجمهور (4).
(د) رسم المصحف، فليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين (5). وفى هذا المرجح والذى قبله يقول فى قراءة: {«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مََا آتَوْا} (6)، وعلى هذه القراءة قراءة الأمصار، وبه رسوم مصاحفهم، وبه نقرأ لإجماع الحجة من القراء عليه، ووفاقه خط مصاحف المسلمين (7).
(هـ) الشواهد من الأشعار السائرة، ومنطق العرب ولغاتهم المستفيضة المعروفة، وذلك مشروط بعدم خروجه عن أقوال السلف (8).
وقد أصبت مثالا جامعا، لعظم هذه المرجحات، يستدل به وينقاد على وتيرته، قال أبو جعفر:
(ا) حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: «أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله: {«وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} فى حرف ابن مسعود، وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال، هو مثل قوله: {«تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا»}، واختلفت القراء فى قراءة قوله:
{«لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ»}، فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز، والمدينة: والعراق ما خلا الكسائى، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال بكسر اللام الأولى وفتح الثانية وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقرأه الكسائى: وإن كان مكرهم لنزول منه الجبال
__________
(1) جامع البيان: 1/ 31.
(2) جامع البيان: 1/ 307.
(3) جامع البيان: 2/ 48.
(4) المصدر السابق: 14/ 625.
(5) جامع البيان: 1/ 112.
(6) المؤمنون: آية 60.
(7) جامع البيان: 18/ 23.
(8) المصدر السابق: 1/ 31.(1/171)
بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرأ ذلك: «وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال» من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم، بمعنى اشتد مكرهم حتى زالت منه الجبال أو كادت تزول منه. وكان الكسائى يحدث عن حمزة عن شبل عن مجاهد أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال برفع تزول. حدثنى بذلك الحارث عن القاسم عنه. والصواب من القراءة عندنا قراءة: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال بكسر اللام وفتح الثانية، بمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وإنما قلنا ذلك هو الصواب.
(ب) لأن اللام الأولى إذا فتحت، فمعنى الكلام وقد كان مكرهم تزول منه الجبال، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة، وفى ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزل، (وفى هذا أخذ بظاهر المعنى).
(ج) وأخرى إجماع الحجة من القراء على ذلك، وفى ذلك كفاية عن الاستشهاد على فتحها وفساد غيرها (!!)، فإن ظن ظان أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذا كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك، فإن الأمر بخلاف ما ظن فى ذلك، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام ورفع الثانية، وقرءوا: وإن كاد مكرهم بالدال، وهى إذا قرئت كذلك فالصحيح من القراءة مع «وإن كان» فتح اللام الأولى، ورفع الثانية على ما قرءوا، وغير جائز عندنا القراءة كذلك (1).
(د) لأن مصاحفنا بخلاف ذلك، وإنما خط مصاحفنا «وإن كان» بالنون لا بالدال. وإذا كانت كذلك فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلا ما عليه قراءة الأمصار، دون من شذ بقراءته عنهم (2)
(هـ) أما احتجاجه بالشواهد العربية فى القراءات، فقد أكثر أبو جعفر منها حتى عد كتابه مصدرا من هذه المصادر التى تعنى بإيراد هذه الشواهد، ويبدو موقفه فى الاحتجاج بهذه الشواهد من المثال الآتى:
وأما الميتة من قوله تعالى: {«إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ»} * فإن القراء مختلفة فى قراءتها، فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون: وهو هين لين، الهين اللين كما قال الشاعر:
__________
(1) يلحظ تعثر الطبرى فى التعبير هنا.
(2) جامع البيان: 13/ 147وما بعدها.(1/172)
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
فجمع بين اللغتين فى بيت واحد فى معنى واحد، وقرأها بعضهم بالتشديد، وخطوها على الأصل. والصواب من القول فى ذلك عندى أن التخفيف والتشديد فى باء الميتة لغتان معروفتان فى القراءة وفى كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب لأنه لا اختلاف فى معنييهما (1).
هذه النزعة من الطبرى، وسلوكه هذه المسالك، دليل على أنه كان سلفيا، يعتمد على الرواية، والنقل، والإجماع، ورسم المصحف، وهو فى سبيل إقراره هذا المسلك لم يستجز قراءة ابن عامر (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم)، لإجماع الحجة من القراء على غيرها، وأن تأويل أهل التأويل ورد عليه إجماع القراء (2)، وهذا أمر غريب، وأغرب منه وصفه قراءة حمزة والأرحام فى قوله تعالى: {«وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ»} بأنها غير فصيحة مكروهة فى المنطق، رديئة فى الإعراب (3). فإذا علمنا أن الطبرى معدود من الكوفيين النحويين (4). وهم يجوّزون قراءة حمزة، وأن الطبرى كان يقرأ قديما لحمزة قبل أن يختار قراءته (5). وأن قراءة ابن عامر وحمزة منقولة بالسند الصحيح إذا علمنا ذلك، بدأ الطبرى متدافعا فى مسلكه، ولا يستطيع الباحث له تعليلا.
على أن موقفه فى تفسير قراءة متواترة، قليلة نادرة، وهو فى جل مذهبه كما أورد ياقوت على الجماعة من السلف، وطريق أهل العلم المتمسكين بالسنن (6). وأترك أبا جعفر الطبرى لأتعرف على حلقة جديدة من حلقات الاحتجاج فى مسلك تلميذه شيخ القراء ابن مجاهد احمد بن موسى.
__________
(1) جامع البيان: 2/ 48.
(2) جامع البيان: 8/ 31.
(3) انظر جامع البيان: 4/ 141.
(4) معجم الأدباء: 18/ 60.
(5) معجم الأدباء: 18/ 66.
(6) معجم الأدباء: 18/ 81، 82.(1/173)
أبو بكر بن مجاهد والاحتجاج (ت 324هـ)
روى أبو بكر بن مجاهد قراءات الأئمة السبعة من أهل الأمصار فى كتابه المترجم بالقراءات، وكان اختياره لها قائما على الأساسين الآتيين:
(ا) ما حدثه به الشيوخ مسندا إلى الإمام القارئ.
(ب) رسم المصحف، فكان اعتداده بهذين الأساسين بمثابة توثيق واحتجاج لما اختار من القراءات. وسأعطى مثالا لكلّ يكشف من هذه النزعة عند ابن مجاهد.
(ا) قال فى احتجاج لقراءة ابن كثير جبريل بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وميكائيل مهموز حدثنى الحسين بن بشر الصوفى (1). من روح ابن عبد المؤمن عن محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير قال: «رأيت النبى صلّى الله عليه وسلم فى المقام، وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أقرأهما أبدا إلا هكذا (2)».
(ب) وفى الاحتجاج برسم المصحف يقول: قرأ ابن عامر وحده: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه، بغير واو، وكذلك هى فى مصاحف أهل الشام (3). ومن أجل تمسك ابن مجاهد بهذين الأساسين دفع الوزير بن مقلة إلى تعذيب ابن مقسم، الذى خالف فى قراءته الأساس الأول، إذ كان يقول: «إن كل قراءة وافقت المصحف ووجها فى العربية فالقراءة بها جائزة وإن لم يكن لها سند (4)»، كما عذب ابن شنبوذ الذى كان يقرأ معتمدا على السند، وموافقة العربية، وإن خالف المصحف الإمام (5).
ويبدو من هذا تمسك ابن مجاهد بالأثر تمسكا شديدا، وأرى السبب فى ذلك أنه تأثر فى ذلك بالنزعة التى غلبت على شيخه الطبرى أولا، ولأنه لم يكن ذا بصر بالعربية ثانيا، (6) ولأن كتابه القراءات قائم على النقل والرواية ثالثا. ومن هنا لم يجز شيئا غلبت من القراءة على مقاييس النحاة. وفيما يلى الحلقة الكبرى فى هذا البحث تلكم الحجة لأبى على
__________
(1) انظر طبقات القراء: 1/ 239.
(2) الحجة: 1/ 440ن مراد ملا.
(3) الحجة: 1/ 472مراد ملا.
(4) طبقات القراء: 1/ 124.
(5) طبقات القراء: 2/ 54.
(6) انظر المحتسب لابن جنى: 1/ 60.(1/174)
الفصل الثانى الحجة
لم يشر الزبيدى فى طبقاته إلى شىء من تآليف أبى على، فأغفل فيما أغفل كتابه (الحجة)، وجعله ابن النديم (385هـ) فى فهرسته أول كتبه حين ذكر تصانيفه، وأورده باسم الحجة ولم يزد، ويزيد البغدادى (463هـ) فى تاريخه، فيذكر الكتاب باسم (الحجة فى علل القراءات السبع)، وفى فهرس المخطوطات المصورة يرد الكتاب بأسماء مختلف، فهو حينا الحجة فى شرح القراءات السبع، وحينا الحجة للأئمة السبعة من قراء الأمصار فى القراءات السبع، وحينا الحجة فى علل القراءات.
وهذه الأسماء كلها تدور حول معنى الاحتجاج للقراءات، مقيدة بالسبع وموصفه بها حينا، وعطلا من ذلك حينا آخر ويجمل بى أن أبين الأسباب العامة والخاصة التى دعت أبا على إلى تأليف ذلك الكتاب.
فأول هذه الأسباب أن القراءات السبع جمعت فى كتاب، جمعها أبو بكر ابن مجاهد (ت 324هـ) (1). ومنذ ذلك الحين كانت الخطوة الطبيعية التالية، وهى الاحتجاج لهذه القراءات، وكان الذى قام بهذا العمل تلميذ ابن مجاهد، وهو أبو بكر بن السراج، ثم جاء من بعده أبو على الفارسى. نعم كان هناك احتجاج للقراءات المتخالفة فى بعض الآيات، ولكن لم تكن جمعت بعد فى كتاب.
وسبب ثان، ذلك أن هؤلاء الذين تصدوا للاحتجاج كانوا من النحاة الذين أكبوا على كتاب سيبويه يدرسونه، ويتفهمونه وأبو على فى الصدارة منهم، وكان فى الكتاب احتجاج للقراءات المختلفات فى بعض الآيات، وفيه كذلك توجيه لبعض الأساليب العربية التى لها نظائر فى آى القرآن، وأضرابها، وأوجهها التى رويت بها، فلما أراد النحاة المتأخرون التأليف فى الاحتجاج وجدوا الباب مفتوحا،
__________
(1) ورد فى بغية الوعاة فى ترجمة هارون بن موسى بن شريك المعروف بالأخفش أنه كان قيما بالقراءات السبع؟، فهل ألّف ابن مجاهد هذه القراءات السبع قبل وفاة هارون هذا سنة 292هـ؟! (انظر البغية ص 406).(1/175)
فتحه أمامهم سيبويه ولئن كان الناس قد أسمو الكتاب (قرآن النحو (1)).
إنّ هؤلاء النحاة المحتجين وجدوا فيه كذلك ما أسميه (نحو القراءات)، وجدوا فيه مثلا للاحتجاج للقراءات المختلفة فى الآيات الآتية:
«إن هذه أمتكم أمة واحدة (2)»، «إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (3)».
«تلتقطه بعض السيارة (4)»، تماما على الذى أحسن (5)».
ولم يكن النحاة ليفوتهم هذا الجانب من كتاب سيبويه، وهم الذين اتخذوه قرآنا، أكبوا عليه، ودرسوا ما فيه.
وثالث، أن البيئة العلمية العامة أصبحت بيئة جدلية، يقوم الدين فيها على الاقتناع واليقين، لا على الاتباع والتلقين، وكان شأن الناس فى القراءات شأنهم فى العقائد والديانات، فلم يؤمنوا بأن الله واحد لأنهم قرءوا سورة الإخلاص، وفيها أمر بوحدانية الله، وتنزيهه عن الشركة والولد لا: بل لأنهم نظروا، وفكروا، وجادلوا، وقدروا، وانتهوا من ذلك كله إلى علم اليقين إن لم يكونوا مغرضين. وكذلك القراءات: ما سندها؟ وما حجتها؟ ولم ذهب ذلك القارئ هذا المذهب؟ وهل له معتمد من اللغة والنحو؟. ومن هنا كانت خطة هؤلاء النحاة المحتجين على ما يبدو لى من أنهم آثروا القياس والنظر، وأعملوهما فيما هو ثابت بالنقل والأثر، وهى خطة لا يرتضيها القراء، ولكن النحاة المحتجين كانوا إليها مضطرين لمواجهة المعاندين والمنكرين، فى عصر شاعت فيه الزندقة، وتغشاه الإلحاد، وفيهم ملحدون يكيدون للإسلام، ويغضون من عقائد المسلمين، وينقرون عما يمكن أن يكون ثلمة فى كتابهم الكريم، ويعتمدون فى كيدهم وتعرضهم على مباحث الجدل، ومسائل الفلسفة والمنطق، وما فيه من تعليل وقياس وقد ألف أبو الحسين محمد بن أحمد الملطى الشافعى وهو معاصر لأبى على، وتوفى معه فى عام واحد (377هـ) ألف كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (6)
وفى ذلك دليل على ما ذاع فى هذا العصر من قالة هؤلاء الملحدين، وتجرد حماة الدين
__________
(2) مراتب النحويين الورقة 106.
(3) الكتاب: 1/ 287.
(4) الكتاب: 1/ 470والعسكريات 135.
(5) الكتاب: 1/ 25.
(6) نفس المصدر: 1/ 270.
(1) قام بطبع هذا الكتاب السيد عزت العطار الحسينى (1368هـ 1949م) وانظر ص (101) فى التعريف بالمؤلف ومنهجه فى البحث بقلم المرحوم محمد زاهد الكوثرى.(1/176)
للرد عليهم بالحجة والبرهان. كما تعرض ابن قتيبة فى كتابه (تأويل مشكل القرآن) إلى هؤلاء الملحدين، فأحب كما يقول: «أن ينضح عن كتاب الله، ويرمى من ورائه بالحجج النيرة، والبراهين البينة، ويكشف للناس ما يلبسون (1)، وربما حسب هؤلاء وكانوا يستمعون من العلماء (2)، أنهم يستطيعون العثور على أخطاء نحوية فى الكتاب الكريم، كما يقول دى بور (3).
قال يحيى بن المبارك اليزيدى: «كان يجيئنى رجل فيسألنى عن آيات من كتاب الله مشكلات، وكنت أتبين العنت فى سؤاله، فكنت إذا أجبته أرى لونه يربد ويسود، فقال لى يوما: «أيجوز فى كلام العرب أن نقول: أدخلت القوم الدار ثم أخرجتهم رجلا؟» فقلت: «لا يجوز ذلك حتى تقول: أخرجتهم رجلا رجلا، فتدل على تفصيل الجنس» قال: فكيف قال الله تعالى: {«ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا»}؟
فقلت: «ليس هذا من ذاك، لأن الطفل مصدر فى الأصل: فهو يقع على الواحد، والاثنين، والجمع بلفظ واحد، فنقول هذا طفل، وهذان طفل، وهؤلاء طفل، وهؤلاء طفل، كما قال تعالى: {«أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى ََ عَوْرََاتِ النِّسََاءِ»} وطفل فى الآية موضع أطفال، فكأنه قال: «ثم يخرجكم أطفالا» قال فأخبرنى عن قوله:
{«يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوََّى بِهِمُ الْأَرْضُ»} من أين لهم هذه الأرض هناك؟
فقلت له: وهمت! أما سمعت قوله تعالى: {«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ»}
فودوا أن تلك الأرض تسوى بهم؟ فسكت! (4).
وإذن كان من المعاندين نظر فى كتاب الله، وكان من المسلمين دفاع عن صحة أسلوبه، وفهم متشابهه، وأحرفه المختلفة، وتجد ابن جنى يرد هذه المطاعن فى بعض ما أورد من كتابه المحتسب (5). وينص ابن بشار الانبارى على أنه ألف كتاب الأضداد ليدفع ظن أهل البدع والزيغ (6).
__________
(1) تأويل مشكل القرآن 17وما بعدها.
(2) تاريخ بغداد: 14/ 56.
(3) تاريخ الفلسفة الاسلامية: 370.
(4) أخبار ابي القاسم الزجاجى ورقة 15.
(5) انظر المحتسب: 1/ 368حيث يقرر ابن جنى أن القراءات كلها مروية، ويرد على من طعن عليها عند الاحتجاج لقراءة (فولوا إليه وهم يجمزون).
(6) انظر الأضداد للانبارى: 2.(1/177)
وما لى أذهب بعيدا، وهذا أبو على صريح فى نصه الآتى على أنه صدر فى كتاب الحجة عن نزعة الحفاظ على كتاب الله، ودفع ما قد يتوهم من اللحن فى قراءاته، فبعد أن احتج لقراءة حمزة: ومكر السيئ وإسكانه الهمزة فى الادراج، وبنى احتجاجه على إجرائهم الوصل مجرى الوقف كما فى قولهم هذا أفعويا هذا قال «فإذا ساغ ما ذكر فى هذه القراءة من التأويل لم يسغ لقائله أن يقول: «إنه لحن» ألا ترى أن العرب قد استعملت ما فى قياس ذلك؟ فلو جاز لقائل أن يقول إنه لحن لزمه أن يقول: إن قول من قال أفعو فى الوصل لحن، فإذا كان ما قرأ به على قياس ما استعملوه فى كلامهم المنشور لم يكن لحنا، وإذا لم يكن لحنا لم يكن لقادح بذلك قدح.
ثم قال: «وهذه القراءة وإن كان لها مخلص من الطعن فالوجه قراءة الحرف على ما عليه الجمهور فى الدرج (1).
ومما يؤكد هذه النزعة من أبى على عندى أنه يقف هذا الموقف مع حمزة وهو من الأئمة الكوفيين، ثم تدعو البصرية أبا على إلى ترجيح القراءة بما عليه الجمهور وإن كانت قراءة حمزة خالصة من الطعن لجريانها على ما استعمله العرب فى نثرهم.
وسبب رابع: يؤيد ما سبق: هو أن المحتجين فى العهد الأول للقراءات بصريون: فأبو طاهر البزار بصرى (2)، والنقاش الأنصارى بصرى (3)، وكل من ابن السراج (4)، وأبى على الفارسى (5). وابن جنى بصرى كذلك، والبصرة كما تعلم متأثرة بالمذاهب الفلسفية، وما شاع فى سكانها من مسائل المنطق (6)، ومن أجل ذلك ألف قطرب (206هـ) كتاب الرد على الملحدين فى متشابه القرآن (7) أو فيما سأل عنه الملحدون من آى القرآن (8)، وألف ابن درستويه كتاب الاحتجاج للقراء، وهو كما يقول ابن النديم فى الفهرست يتعصب للبصريين عصبية شديدة (9).
وقد قدر الخاصة المثقفون، والعلماء البصيرون عمل هؤلاء الأئمة المحتجين، فهذا
__________
(1) الحجة: 6/ 190ن البلدية.
(2) الفهرست: 48.
(3) الفهرست: 50.
(4) الفهرست: 92.
(5) الفهرست: 95.
(6) تاريخ الفلسفة: 49.
(7) الفهرست: 79.
(8) نفس المصدر: 57.
(9) الفهرست: 13.(1/178)
أبو العلاء المعرى ينصف أبا على الفارسى فى رسالة الغفران، وقد اجتمع عليه قوم فى الآخرة، يتمرسون به ويطالبونه فيأمرهم أبو العلاء أن يكفوا عنه فلا يعنتوه لأنه يمتّ بكتابه فى القرآن المعروف بكتاب الحجة (1).
هذه الأسباب العامة بجانبها أسباب خاصة بأبى على دفعته إلى الاحتجاج للقراءات:
فالرجل عالم بالكتاب أولا (2). قارئ على أبى بكر بن مجاهد (3). الذى سبع السبعة ثانيا (4). مقتف أثر أستاذه أبى بكر محمد بن السرى فى الاحتجاج لسبع ابن مجاهد ثالثا (5). ثم هو أخيرا أوتى ضلاعة فى اللغة، والنحو، وتوجيه المعنى، والإعراب، وتمرس برواية الأحاديث، وراعة فى القياس، وألم فى كتبه السابقة للحجة بطائفة من الآيات القرآنية وجّه القراءات المختلفة فيها، فكانت هذه الأسباب مجتمعة داعية لأبى على أن يحتج للقراءات بدل أن تكون مفرقة فى كتبه هنا وهناك (6):
وحكم النظر والقياس دفاعا عن القرآن، ودفعا للمفترين من المجوس والنصارى واليهود الذين سكنوا فارس (7) الذى نشأ به وعاش الشطر الأكبر من حياته فيه.
وأبو على قصير النفس فى تقديم الحجة ولكنه مع ذلك يجمل منهجه فى الكتاب ويبين الأسباب التى دعته إلى تأليفه فى إيجاز، فبعد أن حمد الله، وصلى على خاتم النبيين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسائر الصالحين قال:
«أما بعد (أطال الله بقاء الأمير الجليل عضد الدولة وتاج الملة وأدام له العزة والبسطة، وأمدّه بالتوفيق والتسديد، وأيده بالنصر والتمكين) فإن هذا كتاب نذكر فيه وجوه قراءات القراء الذين ثبتت قراءتهم فى كتاب أبى بكر أحمد بن موسى ابن العباس بن مجاهد (رحمه الله) المترجم بمعرفة قراءات أهل الأمصار بالحجاز
__________
(1) رسالة الغفران: 154.
(2) الإمتاع والمؤانسة: 1/ 131.
(3) انظر طبقات القراء: 1/ 207.
(4) المصدر السابق: 1/ 129.
(5) لوحة 2.
(6) انظر المسائل المنثورة لوحة: 153، 159، والشيرازيات: لوحة 18والعسكريات 135ثم الايضاح: 34، 43، 66فى توجيهه على التوالى: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا بالرفع والنصب (الايضاح 34) وما هو على الغيب بظنين أو بضنين فى باب ظن (43الايضاح) لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر الإيضاح: 66نحو 112.
(7) أحسن التقاسيم 439.(1/179)
والعراق والشام، بعد أن نقدم ذكر كل حرف من ذلك على حسب ما رواه وأخذنا عنه. وقد كان أبو بكر محمد بن السرى شرع فى تفسير صدر من ذلك فى كتاب كان ابتدأ باملائه، وارتفع منه بعض (كذا) ما فى سورة البقرة من وجوه الاختلاف عنهم، وأنا أسند إليه ما فسر من ذلك فى كتابى هذا، وإلى الله نرغب فى تيسير ما قصدته، والمعونة عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل (1).
وفى هذا التقديم دلالات فكتاب الحجة مهدى إلى عضد الدولة، وإذن فهو مؤلف قبل سنة 372هـ، وهى السنة التى توفى فيها ذلك المليك (2). بل يبدو أنه مؤلف بعد سنة 367هـ. وذلك ما يدل عليه لفظ «تاج الملة»، فقد لقب عضد الدولة به فيما يقول الذهبى فى سنة 367هـ (3). وخوطب بالملك سنة 368هـ على ما يذكر الشيخ ابن العميد (4). وهى السنة التى لحق فيها أبو على بالخدمة الموسومة به (5). بعد أن استقر الأمر لعضد الدولة فى بغداد.
ودلالة أخرى فى ذلك التقديم: هى أن أبا على بين منهجه فى الحجة، فهو يذكر ما ثبت عن ابن مجاهد فى كتابه (قراءات أهل الأمصار) على حسب ما رواه، وأخذ أبو على عنه، ثم يذكر كلام ابن السراج فى الاحتجاج، إلى أن استقل أبو على به. وأرى أبا على قد وفى بهذا النهج غاية الوفاء، بل أنه ذكر هنا الخطوط الرئيسية من نهجه دون أن يتعرض له بالتفصيل والاستقصاء، وإليكم ما يبدو للباحث من نهج أبى على فى الحجة بشيء من البيان.
__________
(1) الحجة لوحة 2.
(2) انظر الكامل لابن الأثير: 9/ 2.
(3) تاريخ الإسلام للذهبى حوادث 367هـ.
(4) انظر تاريخ المسلمين للشيخ جرجس بن العميد: 237، 238.
(5) انظر الإمتاع: 1/ 131.(1/180)
نهج أبى على فى كتاب الحجة
يبدأ أبو على بنص أبى بكر بن مجاهد فى كتابه القراءات، فيذكر اختلاف القراء فى الحرف الذى يريد الاحتجاج له، مرتبا ذلك على ترتيب آى القرآن الكريم فى الحروف التى وقع الاختلاف فيها، ثم يورد كلام أبى بكر بن السراج، ثم ينهى الحكاية عنه، ثم يصدر احتجاجه بكلمة: «قال أبو على».
وظل أبو على يصطنع ذلك الأسلوب حتى وصل إلى آخر قوله تعالى: {«ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»}، وبعد هذه الآية يستقل أبو على بالاحتجاج، فلا يرد ذكر ابن السراج، وقد عقدت فصلا بينت فيه أوجه التخالف والتشابه بين الشيخين فى الاحتجاج.
ولا يعمد أبو على إلى اللفظ القرآنى، الذى وقع فيه الاختلاف بين القراء، فيتحدث عنه محتجا له بل يتناول الآية التى وقع فيها ذلك الحرف، فيتحدث عن التفسير اللغوى لكلماتها، مستقصيا المعانى التى تحملتها هذه الكلمات، موردا لكل معنى سنده من القرآن الكريم، مستدلا بأقوال أئمة اللغة السابقين: التوّزى، والجرمى، وأبى زيد، وأبى عبيدة، والسكرى، وأبى حاتم، وثعلب ومستشهدا بما روى من الشعر، جاهليه وإسلاميه. وهكذا يمضى فى الشرح اللغوى، ثم يتبعه بتصريف الكلمة إن كانت تحتمل التصريف، ذاكرا الآراء المحتملة، مستدلا على كل رأى بما لديه من نصوص قرآنية وشعر وأقوال، ويذكر الرأى الذى يختار ويستدل عليه، ثم يخلص من ذلك إلى الحديث فيما يتصل بذلك من مسائل النحو، فيذكر آراء أئمة النحاة من أمثال الخليل، وسيبويه، والأخفش، والمازنى، والجرمى، والكسائى، والفراء، وثعلب، والمبرد وينتصر لفريق دون فريق، ويرى الرأى ويعززه بالأدلة والشواهد من النقل والقياس، وفى غضون كل بحث من هذه البحوث يستطرد بذكر قضايا، ويستدل عليها حتى ينتهى من ألفاظ الآية على هذا النحو لغة، ونحوا، وصرفا، وتفسيرا، واحتجاجا، وتدليلا وقد يخلط ذلك كله بمسائل تتصل بالفقه، والكلام، والبلاغة.
ثم يعود إلى إعراب الآية، وقد يذكر شيئا من الأصول النحوية التى بنى عليها توجيهه الإعرابى.(1/181)
وبعد هذه الجولة الواسعة المتقصية المستطردة يعود إلى الاحتجاج للقراء، فيذكر الحجة لكل إمام، راجعا كل قراءة إلى أصل من أصول العربية.
ولم تختف شخصية أبى على وراء هذه النقول التى يوردها للأئمة الأقدمين، من علماء اللغة، والنحو، والصرف، ومنشدى الأشعار، ونقلة الأخبار، ورواة الآثار، بل هو عند ذلك يبدو ماثلا من وراء ستار، ثم يسفر أمامك سفورا فى تعقيبه، وتعليقه، وتحليله، وتعليله، وتفنيده، وتعضيده، وقياسه، وتنظيره، وإغماضه، وإبهامه، وتشقيق المقال، وبسط الجدال، وتأصيل المذهب، والمعالنة بالرأى، ووفرة الاستشهاد، ونزعة الاستطراد ويجمل بى أن أعطى مثلا: مثلا واحدا يتبين منه هذا الذى ذكرت:
مثال من استطراده، واستيعابه، وتقصيه:
الخطوات التى سلكها فى الاحتجاج لاختلافهم فى قوله تعالى:
{«فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ»} برفع الاسم ونصب الكلمات، ونصب الاسم ورفع الكلمات (1):
1 - أورد ما ذكر ابن مجاهد فى كتابه القراءات:
(ا) من قرأ بنصب الاسم ورفع الكلمات وذكر أنه ابن كثير.
(ب) من قرأ برفع الاسم ونصب الكلمات وذكر أنهم الباقون.
2 - ثم بدأ احتجاجه مصدرا كلامه بقوله: «قال أبو على».
3 «لقى» يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان غير مضعف.
4 - واستشهد على هذه القضية بالآيات التى وردت فى التنزيل:
(ا) «فإذا لقيتم الذين كفروا».
(ب) «إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله».
(ب) «لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا».
5 - إذا ضعفت العين تعدى إلى مفعولين، وضرب أمثلة، واستشهد بالآية الكريمة: «ولقاهم نضرة وسرورا».
6 - ليس تضعيف العين هنا على حد: فرح وأفرحته وفرحته، وخرج وأخرجته وخرجته.
__________
(1) الحجة: 2/ 19نسخة البلدية، 1/ 316نسخة مراد ملا.(1/182)
7 - أخذ يدلل على هذه القضية:
إذا قلت ألقيت كذا فليس بمنقول من لقيته، كأشربته من شربته.
8 - ثم دلل على عدم نقله من لقيته بأنه لو كان كذلك لتعدى إلى مفعولين كما تعدى لقيت، فلما لم يتعد إلى الثانى إلا بحرف الجر نحو: ألقيت متاعك بعضه على بعض، علمت أنه استئناف بناء على حده، وليست الهمزة همزة نقل، كالتى فى قولك: ضربت زيدا وأضربته إياه فجعلوا ألقيته بمنزلة طرحته فى تعديه إلى مفعول واحد.
9 - ثم تحدث عن مصدر لقيت ناقلا كلام أبى زيد فى ذلك.
10 - وجره ذلك إلى التحدث عن الآية:
{«إِنَّ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا وَرَضُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا}.
فذكر أن المعنى بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة.
11 - وأكد تفسيره ذلك، بالآية الكريمة الأخرى:
(ا) {«أَرَضِيتُمْ بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا مِنَ الْآخِرَةِ»} أى بدلا منها.
(ب) وبالآية: {«لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََا مِنْكُمْ مَلََائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ»} أى بدلا منكم.
12 - وناظر الآيات السابقة كلها: {«إِنَّ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا»}
و {«أَرَضِيتُمْ بِالْحَيََاةِ»} و {«لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََا مِنْكُمْ»} بالآيات الكريمة:
(ا) {«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النََّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ».}
(ب) {«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مََا يَشََاءُ، كَمََا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.»}
(ج) وقول الراعى:
«أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ... ظلما، ويكتب للأمير أفيلا».
(د) وقول الآخر:
كسوناها من الريط اليمانى ... ملاء، فى بنائقها فضول
أى بدلا من الريط.
13 - ثم عاد إلى تفسير الرجاء فى الآية: «لا يرجون لقاءنا» ففسر لا يرجون بلا يخافون، ودلل على ذلك:(1/183)
(ا) بدليل عقلى: لأنهم لا يؤمنون بها، فلا يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها المعنيون بقوله تعالى: {«إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشََاهََا»}.
(ب) وبالدليل النقلى خليطا بالعقلى: «إنما أنت منذر من يخشاها»، وقال: {«وَهُمْ مِنَ السََّاعَةِ مُشْفِقُونَ».}
ويرتب على هذه المقدمات النتيجة الآية حيث يقول:
فيكون الرجاء هنا الخوف كما قال: {«لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً»} وكما قال:
«إذا لسعته النحل لم يرج لسعها»
14 - ثم ذكر معنى آخر للرجاء، وهو الرجاء الذى خلافه اليأس.
واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {«قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ»}.
15 - وذكر المحذوف فى الآية وقدّره: «كما يئس الكفار من أصحاب القبور من الآخرة» وذكر علة المحذوف، وأنها تقدم ذكر المحذوف.
16 - وقاس الحذف فى هذه الآية على قوله: {«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ»}، حيث حذف المتأخر لدلالة ما تقدم عليه.
18 - ثم قدر محذوفا آخر فى الآية: {«كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ»} فجعل اليأس من الحشر لا من الآخرة على حذف مضاف ويكون التقدير: كما يئس الكفار من حشر أصحاب القبور.
18 - وناظر هذا الشرح فى تلك الآية بقوله تعالى:
(ا) {«وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلََائِكَةُ، أَوْ نَرى ََ رَبَّنََا»}.
(ب) {«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقََاءِ اللََّهِ»} *
(ج) {«بَلْ هُمْ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ كََافِرُونَ»}.
مفسرا لقاء الله فى هذه الآيات بالبعث.
19 - واستشهد على ذلك التفسير بقوله تعالى: {«بَلْ كََانُوا لََا يَرْجُونَ نُشُوراً»}.
وقوى رأيه بقول الله تعالى: {«حَتََّى إِذََا جََاءَتْهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً»}.
20 - وأسلمه الكلام على معنى اللقاء فى الآيات السابقة إلى ما يلقون فى قوله
تعالى: {«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ»} وذكر أنه على معنى يوم يلقون ثوابه، إذ هم على العكس من أولئك الموصوفين بقوله تعالى: {«فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا»}.(1/184)
20 - وأسلمه الكلام على معنى اللقاء فى الآيات السابقة إلى ما يلقون فى قوله
تعالى: {«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ»} وذكر أنه على معنى يوم يلقون ثوابه، إذ هم على العكس من أولئك الموصوفين بقوله تعالى: {«فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا»}.
21 - وشرح حال هذين الفريقين: يلقى أحدهما الثواب، ويلقى الآخر العقاب بقوله تعالى:
{«الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ»}، أى ملاقو ثواب ربهم.
خلاف من وصفوا بقوله: {«لََا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِمََّا كَسَبُوا».} وقوله: {«حَتََّى إِذََا جََاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً»} ونحو ذلك مما يدل على إحباط الثواب.
22 - ثم مضى يشرح قوله تعالى: {«وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رََاجِعُونَ»} بأنهم يصدقون بالبعث ولا يكذبون به، مستدلا بقوله تعالى فيما حكى عن المنكرين له فى نحو {«أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا} {أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ»} * ونحو قولهم فيه: {«إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».}
23 - ثم رجع يفسر الظن هاهنا بالعلم وفى قول المؤمن: {«إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلََاقٍ حِسََابِيَهْ».}
24 - ثم فرق بين معنى الظن فى الآيتين: ففي الآية الأولى: {«الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ»} أى ثوابه قال: «يجوز ألا يكون منهم القطع على ذلك والحتم به مستدلا بقول إبراهيم:
» {«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»} وأما الظن فى الآية الثانية:
{«إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلََاقٍ حِسََابِيَهْ»} فلا يكون إلا على العلم والتيقن مستدلا بدليل عقلى أو عقيدى إذ يقول: «لأن صحة الإيمان إنما يكون بالقطع على ذلك والتيقن به، والشاك فيه لا إيمان له».
25 - ثم عاد بعد هذا التشقيق إلى النقطة التى بدأ منها، وقد بعد عنها عاد إلى «لقيته ولاقيته» وضرب الشواهد:
(ا) من القرآن الكريم على لاقيت: {«وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلََاقُوهُ»} و {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ}. وعلى لقيت: {«وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا».} *
(ب) وبالشعر: «يا نفس صبرا كل حى لاق» أى لاق منيته وأجله.
(1) فلاقى ابن أنثى يبتغى مثل ما ابتغى
من القوم مسفى السمام حدائده
(2) وكان وإياها كحران لم يفق
عن الماء إذ لا قاه حتى تقددا
26 - ثم جره التحدث عن الفعلين: لقى ولاقى إلى التحدث عن مصدرهما المضاف مستشهدا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ}.(1/185)
(1) فلاقى ابن أنثى يبتغى مثل ما ابتغى
من القوم مسفى السمام حدائده
(2) وكان وإياها كحران لم يفق
عن الماء إذ لا قاه حتى تقددا
26 - ثم جره التحدث عن الفعلين: لقى ولاقى إلى التحدث عن مصدرهما المضاف مستشهدا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ}.
27 - وهل الإضافة فى لقائه: (ا) من اضافة المصدر إلى المفعول؟
(ب) ومن إضافة المصدر إلى الفاعل؟
وجوّز الأمرين:
28 - وضرب أمثلة لإضافة المصدر إلى المفعول بقوله تعالى:
{«بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ إِلى ََ نِعََاجِهِ»}، {«وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ»} لأن الضمير للروم وهم المغلوبون.
وفسر الاضافة إلى المفعول فى قوله: {«فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ}: بفهم الرسول ما ورد فى القرآن الكريم كأنه قيل فخذها بقوة أى بجد اجتهاد أعلمنا أنه أخذ بما أمر به وتلقاه بالقبول فالمعنى من لقاء موسى الكتاب فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب.
ووجه ذلك بقوله: وفى ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل كقوله: {«اتَّبِعْ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»} {«فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ».}
ويجوز أن يكون الضمير لموسى فى قوله من لقائه، ويكون الفاعل محذوفا، والمعنى من لقائك موسى، ويكون ذلك فى الحشر، والاجتماع للبعث، أو فى الجنة، فيكون كقوله، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها.
وفسر الاضافة إلى الفاعل بتجويز أن يكون الضمير لموسى والمفعول بمحذوفه وضرب لذلك أمثلة:
(ا) إن تدعوهم لا يسمعون دعاءهم. «فالدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعولون محذوفون.
(ب) لمقت الله أكبر من مقتكم.
29 - ثم انتهى من ذلك كله إلى مقايسة الاضافة فى قوله {«فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ»} فى حال إضافة الضمير إلى موسى، بقوله تعالى: {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ»}، لأن موسى هو اللاقى كما أن آدم هو المتلقى.(1/186)
30 - ثم فسر التلاقى فى قوله تعالى: لينذر يوم التلاق بأن يكون يوم تلاقى الظالم والمظلوم، والجائر والعادل، وتلاقى الأمم مع شهدائها كقوله: ونزعنا من كل أمة شهيدا.
وشبه التلقى هنا بالجمع فى قوله تعالى: {«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ»} وفى قوله:
{«لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ لََا رَيْبَ فِيهِ»} * ونحو ذلك من الآى.
31 - ودفع التوهم الذى قد يسبق إلى الذهن بأن يوم القيامة فيه التفرق لا الجمع بأن ذكر أن التفرق فى قوله: {«وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ»}
تفرق بعد الاجتماع، والتلاقى الذى أضيف اليوم إليهما، وذلك بعد الأخذ للمظلوم من الظالم، وأيد ذلك بقوله تعالى:
{«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ»}.
32 - ووفق بين الفرار فى قوله تعالى: {«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ»}
ويوم الجمع ويوم التلاقى بأن ليس المراد بالفرار المضاف إليه اليوم الشراد ولا النفار، وأنت قد تقول لمن تكلم فررت مما لزمك، لا تريد بذلك بعادا فى المحل. وشرح الفرار فى هذه الآية: {«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}
يعنى: «يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من نصرته، أو من مساءلة أخيه واستدل على كل بالقرآن الكريم.
(ا) فالفرار من الموالاة: يدل عليه قوله: {«إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا»}.
(ب) والفرار من النصرة: على حد ما كانوا يتناصرون فى الدنيا فيدل عليه قوله. يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا إلا من رحم الله.
(ح) والفرار من المساءلة: يدل عليه قوله: ولا يسأل حميم حميما.
23 - وإذ قد فسر الفرار بأنه ليس المراد به الشراد ولا النفار دفع قراءة من قرأ يوم التناد وكان القارئ اعتبر يوم يفر المرء من أخيه فجعل التناد تفاعلا من ند البعير إذا شرد ونفر بقوله: «وليس ذلك بالوجه» وعلل عدم وجاهة هذا الرأى بقوله:
(ا) ألا ترى أنه لا يسهل نددت مما لزمك، ولا ناددت منه كما تقول: فررت منه
(ب) ونرى سيبويه يستعمل فى هذا المعنى فر كثير ولا يستعمل ند.(1/187)
(ا) ألا ترى أنه لا يسهل نددت مما لزمك، ولا ناددت منه كما تقول: فررت منه
(ب) ونرى سيبويه يستعمل فى هذا المعنى فر كثير ولا يستعمل ند.
(ح) التنادى الذى عليه الكثرة والجمهور يدل عليه قوله:
1 - يوم يدعو الداعى إلى شىء نكر 2يوم ندعو كل أناس بإمامهم.
3 - يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده. فالتنادى أشبه بهذه الآى.
وعلل لهذه القضية فقال:
ألا ترى أن الدعاء والنداء يتقاربان. واستشهد بقوله تعالى:
1 {إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ نِدََاءً خَفِيًّا}.
2 {فَنََادَتْهُ الْمَلََائِكَةُ وَهُوَ قََائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرََابِ}.
فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر.
فقد استعمل كل واحد من النداء والدعاء فى موضع الآخر، وليس التناد.
والفرار كذلك.
34 - وبعد أن انتهى من بحث لفى وما استطرد إليه خلص إلى الحديث عن الكلمات فى قوله تعالى: {«فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ»}
فذكر أنها جمع كلمة، والكلمة اسم جنس لوقوعها على الكثير والقليل.
ومثل لوقوعها على الكثير:
قال امرؤ لقيس فى كلمته أى قصيدته
وقال قيس فى كلمته يعنون خطبته
وقال ابن الأعرابى. لفلان كلمة شاعرة أى قصيدة.
وأما وقوعها على القليل: فان سيبويه أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد وناظر الكلمة بالليل، واستشهد بالقرآن الكريم على وقف الليل على الكثير بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبََاساً} {«وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ».}
ومن وقوع الليل على القليل وهو ما دون ليلة قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ.}
ثم ذكر استعمال سيبويه للكلام، ودلل عليه، وذكر أنه على هذا الذى استعمله سيبويه جاء التنزيل. وذكر الدليل من القرآن الكريم:(1/188)
36 - ثم أخذ يفسر الكلمات المذكورة فى قوله {«فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ»}
مستشهدا بما فسره المفسرون، وبأقوال بعض السلف من المسلمين.
37 - ثم انتقل إلى بيان المراد من الكلمات فى قوله تعالى {«وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ»} وحمل على قوله تعالى: {«وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا»} أى (بالشرائع فأخذت بها).
38 - ثم بين أن من الكلم ما يجعل على أنه قول فى قوله تعالى:
(ا) {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللََّهِ وَكَلِمَتُهُ} يعنى بها قوله والله أعلم.
{(خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ، ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)}
(ب) {«وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا»} يعنى بها قوله والله أعلم:
{«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ»}.
(ح) وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا هو كقوله: {«مََا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ»}.
(ء) وألزمهم كلمة التقوى أى شرائعه التى أمروا بالأخذ لها، والتمسك بها.
أو لا إله إلا الله.
39 - ثم ساقه الحديث إلى إعراب (من الذين هادوا) فى قوله تعالى: {وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدََائِكُمْ وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَلِيًّا وَكَفى ََ بِاللََّهِ نَصِيراً مِنَ الَّذِينَ هََادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ}. وربط الإعراب بالمراد من التحريف فى قوله: يحرفون الكلم كأنه قال:
«سماعون محرفين الكلم» أو المراد بالتحريف ما كانوا يقصدونه فى قولهم:
راعنا من السب، وخلاف ما يقصد المسلمون».
41 - ثم انتقل إلى استعمال الكلام فى موضع النطق واستشهد.
41 - وأخيرا وبعد هذه الجولة الواسعة انتقل إلى الاحتجاج على الرفع والنصب فى كلمات آدم وكلمات. ومضى فى احتجاجه على هذا النحو من الاستطراد، وذكر أقوال الأئمة للتدليل والاستشهاد، وترجيح بعض هذه الأقوال على بعض.
ذلكم نهج أبى على فى الحجة، وهو نهج فيه ثقافة عربية عالية، ومعرض لعقلية
أبى على وشخصيته، ولكنه معرض مرهق، وميدان، يجهد من يطوف به أو يسير فيه:(1/189)
ذلكم نهج أبى على فى الحجة، وهو نهج فيه ثقافة عربية عالية، ومعرض لعقلية
أبى على وشخصيته، ولكنه معرض مرهق، وميدان، يجهد من يطوف به أو يسير فيه:
مرهق بذلك الاستطراد الذى يسلمك من موضوع إلى موضوع حتى ليغيب عنك الموضوع الأصلى الذى عقد من أجله الحديث، وقد كنت فى أغلب الأحيان أود التعرف على حجته لقراءة من القراءات فلا يتيسر لى ذلك إلا بعد عناء، ومرور بما قال فى الآية من مسائل نحوية، ولغوية، وصرفية، وكثير منها لا يتصل إلا اتصالا خفيا من بعيد، ولولا الاستطراد ما وردت هذه المسائل فى مواضعها من الكتاب.
ومجهد بحشده الآراء المختلفة للنحاة الذين سبقوه، ومناقشة كل رأى مناقشة تقوم على مزج مسائل النحو بمسائل المنطق فى عسر، وإرهاق، وتعقيد فى التعبير.
والقارئ لحجة أبى على لا بد أن يكون متأنيا واعيا لأن الشيخ يكتب بعقله، يقايس ويناظر، ويعلل حتى يثقب الخردل، ويدلل، ويستطرد حتى لكأنه يشقق الشعرة ولكل كلمة موضعها، ولها ميزانها.
وتتخلل كتاب الحجة فلا تجد من كلام الشيخ إلا القليل، والكثير نقول من كلام الله، والشعراء، ونصوص من كتب النحاة وبخاصة سيبويه وشواهد نظمها نظما عجيبا، وقرن بينها فى ترابط وتداع، واستغل كل أولئك فيما هو بصدده من من حديث، فبدت هذه النقول جميعا وحدة متماسكة يشد بعضها بعضا، أو يناظر بعضها بعضا، أو يتخالف بعضها مع بعض. وهى فى تناظرها وتخالفها وتآلفها كالبنيان المرصوص.
فإذا أردت التعليل لنزعة الاستطراد عند أبى على وجدت من أسبابها:
(أولا): ما شاع فى كتب المشتغلين بالعلم فى هذا الزمان الذى عاش فيه أبو على، والذى سبقه من لدن الجاحظ، وابن قتيبة، إلى أبى حيان التوحيدى المعاصر لأبى على.
ومما لا شك فيه أن كتب الجاحظ كانت شائعة متداولة زمن الفارسى، ونجد ابن جنى فى الخصائص يناقش الجاحظ (1). وهذا عبد الله بن حمود أبو محمد الزبيدى
__________
(1) الخصائص: 1/ 192، 197.(1/190)
الأندلسى تلميذ الفارسى كان مغرى بكلام الجاحظ حتى أنه «رضى بكتبه فى الجنة عوضا عن نعيمها (1)!!».
وكان الميدان الذى يعمل فيه أبو على ميدانا جافا: ميدان النحو والصرف، والتوجيه الإعرابى، والتدليل المنطقى، فاذا أضيف إلى ذلك أسلوب أبى على وطريقته فى للتدليل، وإيثاره التطويل، كان العناء الذى يحسه القارئ لكتابه الحجة، فتجاوز بذلك حاجة القراءة إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء (2). وحتى منع كثيرا ممن يدعى العربية فضلا على القراءة منه، وأجفاهم عنه (3).
ومن المهم أن أبين أن هذه النزعة بلغت أشدها فى الأجزاء الأولى من الكتاب ثم أخذت تتناقص تدريجيا، ولعل السبب فى ذلك أنه كان يحيل إلى النظائر السابقة دون ميل إلى التكرار (4).
(ثانيا): يبدو أن أبا على وقد جاء بعد أستاذه ابن السراج أراد أن يفيض بما عنده من علم وثقافة فى الاحتجاج، حتى يظهر فرق ما بين الرجلين، والمدى الشاسع بين النزعتين، وتلك كانت سنة أبى على مع المعاصرين (5).
(ثالثا) الجو الذى ألف فيه أبو على كتابه الحجة فهو كما استظهرت آنفا ألّفه بعد أن استقرت الحال بعضد الدولة، ومن هنا كان الدرس المتأنى المتقصى، المستوعب، الجامع لثقافة العمر.
هذا الأسلوب من الإغماض والإبهام، وهذه النزعة من الإطالة والاستقصاء أغضبت القراء، وأجفتهم عن الحجة، وإذا كان ابن الشجرى يقرر أن أبا على يفسر أحيانا فيزيد تفسيره إشكالا (6). وأنه أحيانا يلغز فيبهم (7).فماذا يكون موقف القراء؟
__________
(1) بغية الوعاة: 282.
(2) المحتسب: 60.
(3) المحتسب: 1/ 288، وانظر المحتسب أيضا: 1/ 401400، 2/ 261226.
(4) يشير أبو على كثيرا إلى ما تقدم كقوله: «قد قلنا فيما تقدم فى الذرية أن يكون واحدا وجمعا: الحجة: 4/ 57، وكقوله فى: تأتيهم الملائكة بالياء والتاء» وقد تقدم هذا النحو فى غير موضع انظر الحجة: 4/ 133وفى تحقيق الهمزتين يقول: وقد تقدم القول فى أوائل هذا الكتاب: 4/ 289وانظر الحجة: 6/ 35، 36، 45، 79، 96، 131. ن البلدية.
(5) انظر فى ذلك الحديث عن الاغفال.
(6) امالى ابن الشجرى: 1/ 182.
(7) المصدر السابق: 1/ 317.(1/191)
وقد رمى ابن خالويه أبا على بأنه لا يفهم أحد ما يقول (1). ولم يشأ أبو على أن يتنصل من هذه، بل أقرها معتزا بها.
وجاء الحجة بهذا بعيدا عن الأسلوب العلمى بما شاع فيه من إبهام، وما غشيه من تكلف واستطراد، ويبدو أن أبا على لم يرزق حظا من البيان، فكان أسلوبه مهلهل النسج، ضعيف الأسر فاستمع إليه مثلا حين يقول:
رأينا الحركات إنما تلقى على الحروف التى تكون قبل الحروف التى تنقل منها، ولا تنقل إلى ما بعد الحروف المنقولة منها الحركة (2)
أو يقول فى شرح البيت:
فملّك باللّيط الذى تحت قشرها.
«فملك بالقشر الذى فوق القلب الذى تحت القشر ليصون القشر القلب فلا ينشق (3) وقد أصلح ابن جنى ما أفسد الشيخ، فجعل المحتسب سمحا مقربا على أهل القرآن ليحظوا به ولا ينأوا عن فهمه (4)، ولا يلطف عنهم (5).
تفسير أبى على للقرآن الكريم فى كتابه الحجة
رحل أبو على من بلاد فارس إلى بغداد على ما استظهرته، وما يرويه المترجمون سنة 307هـ (6). وإذا كان ابن جرير الطبرى مات ببغداد سنة 316هـ على ما يرويه ياقوت فى رأى، وسنة 311على ما يرويه فى رأى آخر، فقد أدرك أبو على الطبرى شيخ المفسرين مدة لا تقل عن أربع سنوات، وقد تصل إلى تسع.
* * * ولم يعرف أن أبا على تلمذ لابن جرير الطبرى، فلم يذكر واحد من المؤرخين ذلك، ولكن كانت هناك صحبة بين الطبرى، وأبى بكر بن مجاهد، شيخ أبى على فى القراءات
__________
(1) الحلبيات: 38ورقة 5نحو.
(2) الحجة: 1/ 260مراد ملا.
(3) الحجة: 1/ 826مراد ملا والبيت لأوس ابن حجر يصف قوسا ترك صانعها شيئا من القشر على قلبها تتمالك به ويكنها لئلا يبدو قلب القوس فينشق.
(4) المحتسب: 1/ 6.
(5) المصدر السابق: 1/ 288.
(6) وفيات الأعيان: 1/ 36.(1/192)
وكان أبو بكر معجبا بالطبرى أخذ القراءات عنه وكان لا يجرى ذكره إلا فضله (1)، ويروى عنه (2)، ويثنى على قراءته (3) ويصحر معه للطعام والترويح (4). وقد أدرك أبو على ابن مجاهد المتوفى سنة 324هـ، وروى عنه القراءة عرضا (5) وربما كانت هذه الصلة بابن مجاهد الذى كان ذا مودة مع ابن جرير الطبرى بعض ما دفع أبا على إلى التحدث فى التفسير، وابن مجاهد هو الذى نقل عن الطبرى قوله:
«انى أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته (6) إلى جانب هذا الدافع دوافع أخرى دفعت أبا على إلى التفسير فى كتابه الحجة أجملها فيما يلى:
(ا) أبو على يتعرض فى كتابه الحجة الى الإعراب، والإعراب فرع المعنى، واذن كان لا بد أن يلم أبو على بالتفسير معربا حتى يوجه الإعراب مرتبا اياه على معنى الآية المعربة.
(ب) ثم أن أبا على موجه للقراءات، والتوجيه يتطلب التفسير، ذلك لأن الاحتجاج للقراءات يعتمد فيما يعتمد على شرح الآيات، وتفسير المراد من الألفاظ التى وقع فيها الاختلاف عند القراء.
(ح) إلى أن نزعة الاستطراد التى عرف بها أبو على، والتى جرته إلى تناول مسائل مختلفة دفعته إلى أن يتناول فيما تناول التفسير.
(ء) وقد تحدث القدامى فى وجوب معرفة النحوى علم الكتاب، والسنة، وإلّا بقي فارغا بطالا لعابا (7).
(هـ) وأبو على بعد ذلك متبحر فى المواد التى بها يكون التفسير، وقد عدها صاحب البحر المحيط فى تقديم كتابه (8).
* * * __________
(1) معجم الأدباء: 18/ 66.
(2) المصدر السابق: 63.
(3) معجم الأدباء: 18/ 66.
(4) المصدر السابق: 18/ 90.
(5) طبقات القراء: 1/ 207.
(6) معجم الأدباء: 18/ 63.
(7) بيان زغل العلم والطلب لشمس الدين الذهبى: 19.
(8) انظر البحر المحيط لأبي حيان 1ص 5وما بعدها.(1/193)
ولم أر لأبى على كتابا بعينه فى التفسير، وإن كان صاحب كشف الظنون عند الكلام على التفسير ذكر جماعة من المفسرين الأقدمين ثم قال:
ثم انتصبت طبقة إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل أبى إسحاق الزجاج، وأبى على الفارسى (1).
* * * ولم يذكر الداودى المالكى أبا على فى طبقات المفسرين، على أن الرضى قد مدح أبا على فى تفسيره الموسوم بحقائق التأويل، وتعصب له (2).
والذى ذكره الوراقون المترجمون متصلا بعمل أبى على فى التفسير (3) كتابان.
أحدهما كتاب التتبع لكلام أبى على الجبائى فى التفسير نحو مائة ورقة.
والآخر: كتاب تفسير قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ} (4):
ولا أعد كتاب الأغفال لأبى على من كتب التفسير فهو خاص بمسائل أصلحها على الزجاج فى معانى النحو على ما استظهرته فى مكان آخر (5).
ولئن فاتنى الاطلاع على ما كتب أبو على فى التفسير مستقلا إن كتاب الحجة يغنى فى التعرف على منهجه فى التفسير أيما غناء.
والكلام على منهج أبى على فى التفسير يتناول عنصرين:
(ا) طريقته فى شرح غريب القرآن ومكانته فى ذلك بين من سبقوه وبخاصة أبو عبيدة فى مجاز القرآن، وابن قتيبة فى غريب القرآن، وتأويل مشكله. وأبو بكر محمد بن عزيز السجستانى.
(ب) ثم طريقته فى تناول «النص القرآنى» بالتفسير.
__________
(1) كشف الظنون باب التفسير.
(2) أعيان الشيعة: 21/ 29.
(3) هذا يرد كلام الشيخ منير الدمشقى فى كتابه جامع علوم الشريعة من أن أبا على الفارسى لم يؤلف تفسيرا، ولا أحد ذكر له فى ترجمته شيئا فى التفسير.
(4) معجم الأدباء لياقوت: 7/ 241.
(5) انظر البحث الخاص بكتاب الاغفال.(1/194)
تفسير أبى على لغريب القرآن
فى كتابه الحجة ومكانته من أبى عبيدة، وابن قتيبة، وأبى بكر السجستانى
وأبو على فى ذلك يستعرض المادة التى هو بصدد شرحها فى آياتها القرآنية، وما يحفظه من الشعر، وكلام العرب، وما نقله أو رواه عن الأئمة السابقين، ثم يجعل من كل أولئك وحدة يفسر بعضها بعضا، ويستعين ببعضها على بعض، فى استطراد يخرج فيه من قول إلى قول، وربما مزج الحديث عن الغريب بالتعريف، ويعقب على ذلك كله مؤيدا بعض الأئمة أو معارضا، مستغلا مسائل المنطق وقضاياه فى تفسير الغريب القرآنى.
وهو يعتمد غالبا فى التفسير اللغوى على سيبويه (1)، وأبى زيد (2)، والأخفش وأبى عبيدة (3)، وأحمد بن يحيى ثعلب (4).
فأين أبو على بعد ذلك من أبى عبيدة، وابن قتيبة، وأبى بكر السجستانى (5)؟.
أبو على يروى ما يقول أبو عبيدة، وربما أورد ما يقول ابن قتيبة من غير أن يشير إليه وهو بعد ذلك يزيد برواية أقوال سيبويه، وأبى زيد، والأخفش وغيرهم من الأئمة، واستشهاده بأحمد بن يحيى كثيرا، وحديثه فى مسائل التصريف والنحو، وبمزجه كل ذلك بالقياس: ثم هو لا يروى ما يقول أبو عبيدة، أو ابن قتيبة حسب بل يناقش، ويرد ما قال أبو عبيدة إلى الأصول التى استقى منها (6)
__________
(1) انظر الحجة (نسخة البلدية): 1/ 169.
(2) المصدر السابق: 1/ 203.
(3) نفس المصدر: 1/ 169.
(4) الحجة (نسخة البلدية): 1/ 230.
(5) حاشية: اخترت هؤلاء العلماء فى الموازنة بين طريقتهم، وطريقة أبى على لما يأتي: أنهم يلقون ضوءا على تطور القاموس القرآني منذ القرن الثانى حتى القرن الرابع: فأبو عبيدة يمثل القرن الثاني إذ توفى سنة 210وقد قارب المائة، وألف كتابه سنة 188هـ (انظر معجم الأدباء:
19/ 158) وابن قتيبة يمثل القرن الثالث إذ توفى سنة 276هـ والسجستاني يمثل أوائل القرن الرابع توفى سنة 330هـ.
(6) الحجة مراد ملا: 1/ 204.(1/195)
أبو عبيدة فى شرحه للغريب يستشهد بالقرآن الكريم، وبالحديث الشريف، ثم يتبعهما بالشاهد الشعرى القديم، أو بكلام العرب الفصيح، وهو فى ذلك قصير النفس لا يبلغ مبلغ أبى على، ثم هو لا يلتزم ذلك فى كل الألفاظ.
وابن قتيبة فى الغريب أقصر من أبى عبيدة نفسا، وأما أبو بكر السجستانى فهو يقتصر فى الأعم الأغلب على شرح الألفاظ بمرادفها من غير أن يعنى بتأييد ما يقول بالشواهد.
ويطول بى الحديث لو استشهدت على هذه الخصائص من كلام هؤلاء الأعلام، ولكنى أضرب مثلا واحدا فى شرح كل منهم لكلمة هدى للمتقين فهو يكشف عن اتجاه كل، ومنهجه، ثم أتتبعه بما أرى من تعليق.
قال أبو عبيدة: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أى بيانا للمتقين اهـ (1)
وقال ابن قتيبة: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أى رشد لهم إلى الحق اهـ (2)
وقال أبو بكر السجستانى: هدى أى رشد اهـ (3)
فماذا أورد أبو على؟: أورد ما قال سيبويه. «قلما يكون ما ضم أوله من المصدر منقوصا لأن فعل لا تكاد (4) مصدرا من بنات الياء والواو ا. هـ.
وقال أيضا: «قد جاء فى هذا الباب يعنى باب اعتلال اللام المصدر على فعل قالوا هديته هدى، ولم يكن هذا فى غير هدى»
ثم برهن على ما قال سيبويه مستشهدا ومعلقا، وانتهى إلى أن الهدى والسرى والتقى وفى التنزيل إلا أن تتقوا منهم تقاة يكون هذا النحو قد استغنى به عن المصدر كما قالوا: «هو يدعه تركا شديدا»
ثم أورد اعتراضا هر: لم لا يجعل تقاه فى الآية مثل رماه، فيكون حالا مؤكدة؟
ورد هذا الاعتراض.
ثم استشهد بقول أبى عبيدة السابق فى تفسيره هدى للمتقين، ثم أورد قول أبى الحسن فى أن من العرب من يؤنث الهدى.
__________
(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة: 29.
(2) غريب القرآن القرطين: 11.
(3) غريب القرآن للسجستاني: 190ط صبيح.
(4) كذا ولعل تجىء ساقطة.(1/196)
ثم بين أن الفعل من الهدى متعد إلى مفعولين يتعدى إلى الثانى منهما بأحد حرفى جر: إلى واللام، واستشهد من القرآن الكريم.
وقايس ذلك بالفعل أوحى، واستشهد كذلك (1)
وقد رأيته فى التفسير اللغوى يعتمد على ما ذكر ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة، وعلى ما حدث به عن شيوخه (2)، ذلك فوق نزعته فى التحليل والتشقيق.
فإذا كان من نعرف ممن سبق أبا على من أمثال ابن عباس، وأبى عبيدة، وابن قتيبة يمثلون مدرسة الرواية فى اعتمادها على المأثور من الحديث والشعر فإن أبا على فى شرحه اللفظ القرآنى يمثل مدرسة التحليل الدقيق العميق فى شمول واستيعاب (3).
وأقصد بالتحليل الدقيق ما يقوم به من الحديث عن تصريف الكلمة، وإعرابها بموازنة بين الأقوال المختلفة، وترجيح بعضها على بعض، وإيراد الاعتراضات وردها وتقليب اللفظ القرآنى على وجوهه فى معانيه التى يحتملها والتوفيق بين معان نرى النظرة العابرة أنها متدافعة متضاربة.
واود ألا يفهم من لفظ الاستيعاب والشمول أنه شرح جميع الغريب من الألفاظ القرآنية كما فعل أبو عبيدة، وابن قتيبة، والسجستانى، فإن هذا المعنى لا يستقيم مع اقتصاره على الغريب من الآيات التى وردت فيها قراءات مختلفة. وإنما أقصد بالاستيعاب والشمول هذا النهج الواسع النطاق، البعيد المدى، المتعدد الجوانب على ما شرحت آنفا.
(ب) ثم أنتقل بعد ذلك إلى بيان طريقة أبى على فى تفسيره النص القرآنى فى كتابه الحجة.
يسلك أبو على بعض الطرق الآتية فى تفسيره:
(1) تفسير القرآن بالقرآن: وملاك ذلك أن القرآن كالشيء الواحد (4)
وأن مجازه مجاز سورة واحدة، وكلام واحد، فقد يجيء الشيء منه فى سورة ويجيء
__________
(1) الحجة: 1/ 120.
(2) انظر تفسيره طبقا عن طبق الحجة: 7/ 257 ن البلدية، وانظر تفسيره لهو الحديث 6/ 126.
(3) انظر فى ذلك شرحه للكلمات الكفر: الحجة 1/ 166مراد ملا وسواء 1/ 168 وختم: 1/ 208والنبأ: 1/ 302وآدم: 1/ 308.
(4) الحروف للرماني: لوحة 14.(1/197)
جوابه فى سورة أخرى كقوله: {«وَقََالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ»} فجاء جواب ذلك فى سورة أخرى: فقال: {«مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [1]».
وقد جعل ابن تيمية أحسن طرق التفسير، «أن يفسر القرآن بالقرآن (2)»
وأبو على يستغل ذلك الطريق بما يدل على يقظة بعيدة، واستحضار سريع تتداعى عنده الأشباه والنظائر، ويدفع ما يوهم التضاد والضرائر فى موالاة، وحفظ جيد للقرآن الكريم:
قال فى تفسير قوله تعالى: {«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ»}:
يعنى يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من نصرته، أو من مساءلة أخيه
(ا) فالفرار من الموالاة يدل عليه قوله: {«إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا.}
(ب) والفرار من النصرة على حد ما كانوا يتناصرون فى الدنيا فيدل عليه قوله:
{«لََا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ اللََّهُ»}
(ج) والفرار من المساءلة يدل عليه قوله: {«وَلََا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [3]»
وانظر تفسيره الرجاء فى قوله تعالى: {«لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا»} * (4)
ومن تداعى الأشياء عنده إيراده الآيات القرآنية التى تتضمن مادة واحدة مثل الآيات المتضمنة مادة (النبأ): {«عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ»}، {«وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ»}، {«يُنَبَّؤُا الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ بِمََا قَدَّمَ وَأَخَّرَ»}، {«أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ»}، {«يََا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ»} (5)
ومن دفعه ما يوهم التضاد قوله: «فأما جمع من جمع بين قوله تعالى {«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللََّهِ أَلََا بِذِكْرِ اللََّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»} وبين الآية الأخرى وهى قوله: {«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»} وقوله انهما متدافعان لأن الوجل خلاف الطمأنينة فجهل وذهاب عما عليه الآيتان وما أريد بهما، وذلك أن الاطمئنان إنما يكون عن ثلج القلب، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم به، وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة، والثواب الجزيل، والوجل إنما يكون
__________
(1) الشيرازيات: 14.
(2) مقدمة فى أصول التفسير: 25.
(3) الحجة: 2/ 56ن البلدية.
(4) الحجة: 1/ 318مراد ملا.
(5) الحجة: 1/ 302مراد ملا.(1/198)
عند خوف الزيغ، والذهاب عن الهدى، وما يستحق به الوعيد، فتوجل القلوب لذلك فكل واحدة من الحالين غير صاحبتها، فليس هنا إذا تضاد ولا تدافع، وهذان المعنيان المفترقان فى هاتين الآيتين قد اجتمعا فى آية واحدة وهى قوله: {«تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ ذََلِكَ هُدَى اللََّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشََاءُ»} لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم، ووثقوا به فانتفى عنهم الشك والارتياب الذى يعرض لمن كان خلافهم ممن أظهر الإسلام تعودا فحصل له حكمه دون العلم الموجب لثلج الصدور، وانتفاء الريب والشك (1)
وأراه بهذا التدليل النقلى، والمنطقى يصدر عن نزعة الدفاع عن كتاب الله، ودفع ما يلقى به الكائدون من شبهة التدافع والتضاد، وهى النزعة التى انتهيت إلى أنه صدر عنها فى كتابه الحجة، وكانت سببا دفعته إلى تأليفه.
وأقرأ حديثه كذلك فى تفسيره {«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ»} بيوم التلاقى، ودفعه ما يوهم التضاد بين المعنى الذى ذكره فى هذه الآية وقوله تعالى: {«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ»} (2)
هذه أمثلة لبيان هذه الطريقة التى سلكها أبو على فى تفسير القرآن بالقرآن ومظاهرها المختلفة ومما يتصل بها:
(2) تفسير القرآن بقراءة أخرى: وقد كان ابن عباس يفسر القرآن ويستدل بقراءة على قراءة، قال فى قوله تعالى: «ننشرها ثم نكسوها لحما» (3): إنشارها إحياؤها، واحتج بقوله تعالى: {«ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ»} وقد سلك أبو على هذه السبيل حيث يقول: مثلا
فأما قوله: {«هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ»} فهو فى المعنى كقوله: {«مََا لِهََذَا الْكِتََابِ لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً إِلََّا أَحْصََاهََا»}، وقوله: {«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ كِتََاباً»} أى كل شىء من أعمالهم كما قال: {«وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ»} وقال: {«أَحْصََاهُ اللََّهُ وَنَسُوهُ»} وقال: {«وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ كِتََاباً يَلْقََاهُ مَنْشُوراً»} وقال: (وهنا موضع الشاهد)
__________
(1) المصدر السابق: 1/ 152.
(2) الحجة: 2/ 25وما بعدها ن البلدية 1/ 320نسخة مراد ملا.
(3) معاني القرآن للفراء: 137.(1/199)
«هنالك تتلوا كل نفس ما أسلفت» من التلاوة وهى قراءة حمزة والكسائى (1).
وانظر فى ذلك صلة من قرأ يوم التناد بتفسير قوله تعالى: {«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ»} (2).
(3) تفسير القرآن بالحديث الشريف: قال ابن تيمية: «فإن أعياك تفسير القرآن بالقرآن فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن، وموضحة له (3)» وأعان أبا على فى سلوكه هذا المسلك أنه محدّث (4) ومثال ذلك ما ذكره فى تفسير قوله تعالى:
{«أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ»} (5) ويتصل بذلك أنه
(4) يفسر مسندا: وهو بذلك ينحو منحى الطبرى فى تفسيره، وذلك قول أبى على: حدثنا يوسف بن يعقوب الأزرق بإسناد عن مجاهد كلمة التقوى «لا إله إلا الله (6)» وانظر شرحه لقوله تعالى: {«مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتََابِ»} فقد حدث عن أحمد بن محمد البصرى: قال حدثنا المؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن أبى رجاء عن الحسن (7)، ويبدو أنه يحدث عن أحمد بن محمد البصرى كثيرا (8).
(5) ويفسر القرآن بأقوال بعض السلف: وذلك قوله فى تفسير الكلمات المذكورة فى قوله تعالى {«فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ»} سئل بعض السلف عما يقول المذنب فقال: يقول ما قاله أبوه آدم، {«رَبَّنََا ظَلَمْنََا أَنْفُسَنََا»} الآية (9)، وأعانه على ذلك أنه عالم بطريق السلف المفسرين (10)
(6) كما ينقل فى تفسيره عن المتأولين، وهو إذا نقل عنهم يضيف إلى نقوله أدلة تبرز كيانه، وتحدث عن شخصيته قال فى تفسير قوله تعالى: {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»}.
قال بعض المتأولين: أى يؤمنون إذا غابوا عنكم ولم يكونوا كالمنافقين الذين يقولون {«إِنََّا مَعَكُمْ إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ»} ثم قال: ويقوى ما ذهب إليه هذا المتأول قوله: {«الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ»} * وقوله {«وَخَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ»} وقال الهذلى:
أخالد! ما راعيت منى قرابة ... فتحفظنى بالغيب، أو بعض ما تبدى
__________
(1) النشر: 2/ 283.
(2) الحجة: 1/ 322مراد ملا.
(3) مقدمة فى أصول التفسير: 25.
(4) تاريخ بغداد ومعجم الأدباء: 7/ 155.
(5) الحجة: 1/ 124مراد ملا.
(6) الحجة: 2/ 31.
(7) الحجة: 1/ 156مراد ملا.
(8) انظر الحجة: 1/ 350مراد ملا.
(9) الحجة: 1/ 324مراد ملا.
(10) الحجة: 1/ 468.(1/200)
فالجار والمجرور فى موضع الحال أى تحفظنى غائبا، ويخشون ربهم غائبين عن مراءاة الناس، لا يريدن بإيمانهم تصنعا لأحد ولا تقربا إليه رجاء لمناله. ولكن يخلصون لله (1).
وفى هذا النص السابق ما يشير إلى طريقة أخرى من طرائق تفسيره تلك.
(7) تفسيره كلام الله بالشعر: ولست فى حاجة إلى أكثر من ذلك النص لتأييد ما أقول، فأبو على لا يفتأ يفسر القرآن بالشعر، فإن تلمست الأسباب التى تدفعه إلى هذه الظاهرة وجدت تلاحق الأئمة: ابن مسعود وأبىّ بن كعب وغيرهما، والحسن البصرى، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدى (2)
واتفاقهم على قول ابن عباس «الشعر ديوان العرب» (3) وقد كان ابن عباس يرجع إلى الشعر فى تفسيره للألفاظ القرآنية (4) وكان يقول: «إذا تعاجم شىء من القرآن فانظروا فى الشعر فإن الشعر عربى (5)، وإلى جانب ذلك ترى أن أبا على نحوى يستشهد على مذهبه بما أنشد الشعراء، وأنه لغوى اتصل بكتب أبى زيد، وأطراف مما لغيره (6) وأنه بعد ذلك متصل اتصال صداقة وعلم بأبى نصر محمد بن هبة الله (7)
الشيرازى (8) أحد الذين رووا حديث نافع بن الأزرق وسؤاله ابن عباس عن طائفة من الألفاظ القرآنية طالبآ من ابن عباس أن يستدل على معناها من الشعر العربى القديم (9). ويتصل باستشهاد أبى على بالشعر فى تفسير النصّ القرآنى.
(8) تفسيره بأقوال اللغويين، قال: «ومما يقوى الرفع فى آدم أن أبا عبيدة قال فى تأويل قوله: {«فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ»} أى قبلها، ثم يبنى على ذلك فيقول:
فإذا كان آدم القابل فالكلمات مقبولة الخ (10)
وهو هنا كذلك يزيد بما يدل على شخصيته.
(9) كما يفسر القرآن بالدليل العقلى فأبر على فى كتاب الحجة منطقى قياسي،
__________
(1) الحجة: 1/ 156ن مراد ملا.
(2) التسهيل فى علوم التنزيل لابن جزى الكلبى 1/ 9ط مصطفى محمد 1355هـ.
(3) الاتقان: 1/ 149.
(4) طبقات ابن سعد: 2/ 121.
(5) المعجم الكبير للطبراني: 97/ 129.
(6) الامتاع: 1/ 131.
(7) الشيرازيات: 85.
(8) طبقات القراء: 2/ 274.
(9) الاتقان للسيوطى: النوع السادس والثلاثون: 1/ 149.
(10) وقد تقدم النص فى التمثيل لظاهرة الاستطراد عنده.(1/201)
لا يستمسك بالأثر فى تفسيره بل يضيف إلى ذلك المنطق والقياس فمن المعانى التى أوردها فى شرح المؤمن المهيمن أن يكون معناه المصدق أى المصدق الموحدين له على توحيدهم إياه. يدل على ذلك قوله:
{«شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ»}
ألا ترى أن الشاهد مصدق لما يشهد به؟ كما أنه مصدق من شهد له؟ فإذا شهد سبحانه بالتوحيد فقد صدق الموحدين (1).
وهذا تفسير كما ترون بالدليل المنطقى الذى يجوز أن يوضع فى صورة قضايا تؤدى إلى نتيجة.
(10) وحينا يستهدى أبو على الحس الإنسانى فى تفسيره، قال: وأما قوله {«وَمََا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنََا وَلَوْ كُنََّا صََادِقِينَ»} فليس المعنى على ما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين عندك لأن الأنبياء لا تكذب الصادقين، ولكن المعنى: «ما أنت واثقا ولا غير خائف الكذب فى قولنا، ولو كنا على الحقيقة صادقين عندك لما خلونا من ظنة منك فى تهمة لك بأنا قد كذبناك لفرط محبتك ليوسف، وإشفاقك عليه، وهذا المعنى متعالم فى استعمال الناس (2)
هذه هى طرائق أبى على فى تناوله النص القرآنى بالتفسير، ولست أدعى حصر هذه الطرائق، ولكن ما ذكرته يتردد فى كتابه الحجة فى كثرة ظاهرة تدعو إلى لحظها وتسجيلها.
ومن أجل ما تعرض أبو على فى كتابه الحجة إلى تفسير كتاب الله لفظا ونصا اعتمد كثير من المفسرين عليه، وأوردوا أقواله معتدين بها وقد رأيت هذا مثلا فى البحر المحيط لأبى حيان فى مواضع متقاربات (3) كما اعتمد عليه ابن القيم فى كتابه «التبيان فى أقسام القرآن (4)» كما رأيت نظام الدين الحسن بن محمد النيسابورى يستعين بأبى على (5).
__________
(1) الحجة: 1/ 156مراد ملا، 2/ 39البلدية.
(2) الحجة: 1/ 154مراد ملا.
(3) انظر مثلا من الصفحات الخمسين الأولى من الجزء الأول: 17و 20و 22و 25 و 38و 46و 47و 46.
(4) انظر مثلا التبيان: 101، 125، 152، مطبعة حجازى 1352هـ 1933م.
(5) انظر تفسير النيسابورى غرائب القرآن ورغائب الفرقان على هامش الطبرى:
4/ 176، 12/ 52مثلا.(1/202)
أبو على المحدّث والاحتجاج
كان أبو على يقول: «قد سمعت الكثير فى أول الأمر، وكنت أستحيى أن أقول:
اثبتوا اسمى» (1). وإذن فلأبى على أساتذة محدثون سمع منهم الحديث (2) أو شيئا منه (3).، وله كذلك تلاميذ أخذوا عنه: سمع من على بن الحسين بن معدان (4)
الفارسى عن إسحاق بن راهويه، كما اتصل أبو على بمحدثى زمانه، وكاتبهم وإن لم يعدوا من شيوخه الذين سمح منهم، من هؤلاء الذين اتصل بهم محمد بن هبة الله (5) (6).
وهو شيرازى (7). وكان محمد بن هبة الله هذا محدثا وأحد الذين رووا حديث نافع بن الأزرق وبسؤاله ابن عباس عن أمثلة من الألفاظ القرآنية، وطلبة من ابن عباس أن يستدل على معناها من الشعر العربى القديم (8). وقد رأيت أبا على يحدث عن أحمد بن محمد البصرى (9) كثيرا (10).
أما الذين رووا عن أبى على فمنهم محمد بن عبد الواحد أبو الحسن (11).،
ومحمد بن عبد الواحد أبو عبد الله ابن زوج الحرة (12).، وهلال بن المحسن (13).
والقاضى أبو القاسم التنوخى، والجوهرى (14)، والأزهرى، وعلى بن محمد بن الحسن المالكى (15).
__________
(1) معجم الأدباء: 7/ 255.
(2) النجوم الزاهرة: 4/ 191.
(3) عقد الجمان للعينى، القسم: 400.
(4) فى طبقات النحاة واللغويين لابن شهية الأسدي ص 295سعدان بدل معدان والصحيح ما أثبته.
(5) لسان الميزان: 1/ 195.
(6) انظر الشيرازيات: 85.
(7) انظر طبقات القراء: 3/ 274.
(8) الاتقان: 1/ 149.
(9) طبقات القراء: 1/ 126.
(10) انظر مثلا الحجة: 1/ 250ن مراد ملا 4/ 317، 6/ 139.
(11) تاريخ بغداد: 2/ 361.
(12) المصدر السابق: 2/ 360.
(13) نفس المصدر: 14/ 76.
(14) لسان الميزان: 2/ 195.
(15) تاريخ بغداد: 7/ 275.(1/203)
هؤلاء أساتذة أبى على وتلاميذه المحدثون، وتلكم اتصالاته بأهل التحديث فى زمانه، على قدر ما أعانتنى عليه المصادر فماذا كانت نتيجة هذه الدراسة فى كتابه الحجة؟
تجلت هذه الدراسة فى الحجة متخذة المظاهر الآتية:
أولا: روايته الأحاديث فى كتبه بأسانيدها.
ثانيا: توثيقه متون الأحاديث أو تضعيفها.
ثالثا: فهمه الأحاديث فهما يتفق مع ذلك التوثيق أو التضعيف، وتصحيحه فهم غيره لها.
رابعا: احتجاجه بالحديث فى اللغة، والنحو، والصرف.
وسأضرب لهذه الأحوال أمثلة كاشفة تختصر التفصيل والاستقصاء.
(ا) مثال روايته الأحاديث فى الحجة بأسانيدها قوله: «حدثنا أحمد بن محمد البصرى قال: «حدثنا المؤمل قال: حدثنا اسماعيل عن كعب عن مجاهد: ومن الناس من يشترى لهو الحديث قال سماعه الغناء (1).، وقد أورد أبو على فى تفسير طائفة من قوله تعالى: {«وَلْيَشْهَدْ عَذََابَهُمََا طََائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»} الإسناد الآتى:» قال أبو على:
حدثنا أحمد بن محمد البصرى قال: «حدثنا المؤمل بن هشام قال: حدثنا اسماعيل ابن علية عن ابن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله سبحانه وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين» قال: «أقله رجل، وقال عطاء: أقله رجلان (2)». وقد أوردت فى الحديث عن ثقافة أبى على اسناده للحديث: «رحم الله رجلا أصلح من لسانه» فليراجع هناك (3).
(ب) مثال توثيقه متون الأحاديث أو تضعيفها تعليقه على ما روى من أن النبى (صلى الله عليه) قرأ سورة النجم، فأتى على قوله: {«أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ»} ووصل به تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى تعليقه بقوله:
__________
(1) الحجة: 6/ 129.
(2) الحجة: 4/ 317ن البلدية.
(3) وانظر الحجة: 1/ 236ن مراد ملا.(1/204)
«هذا حديث مروى من أخبار الآحاد التى لا توجب العلم» وذهب عامة أهل النظر فيما علمت إلى إبطاله ورده، وأن ذلك لا يجوز على رسول الله (صلى الله عليه) على وجه ما رووه «ولو صح الحديث وثبت لم يكن فى هذا الكلام ثناء على آلهة المشركين، ولا مدح لها. ولكن يكون التقدير وإن شفاعتهن لترتجى عندكم، لا أنها فى الحقيقة كذلك (1)». وذلك أيضا مثال فهمه الأحاديث فهما يتفق مع توثيقها أو تضعيفها.
ومثله فهمه الحديث: «يعذب المصورون يوم القيامة» وفى بعض الحديث:
«ويقال لهم أحيوا ما خلقتم». وقال: «يعذب المصورون» يكون على من صوّر الله تصوير الأجسام، وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التى لا توجب العلم، فلا يقدح لذلك فى الإجماع على ما ذكرنا (2).
وقد فسر أحمد بن يحيى التذكير فيما رواه ابن مسعود: «ذكروا القرآن» بأنه خلاف التأنيث، وناقشه أبو على فى ذلك، وبرهن على أن المراد به الموعظة والدعاء عليه، كما قال: «فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» إلا أنه حذف الجار على القياس الذى ينبغى أن يكون عليه (3)
(د) ومثال احتجاجه بالحديث فى اللغة قوله: «الكفر القرية سميت لاجتماع الناس فيها، وما ستر فقد جمع، ومنه الحديث «تخرجكم الروم منها كفرا كفرا (4).
وانظر شرحه لكلمة: أمين، واستدلاله بالحديث على معناها (5).
__________
(1) الحجة: 1/ 454ن مراد ملا.
(2) الحجة: 1/ 356ن مراد ملا، وقد تنبه بعض الباحثين فى زماننا إلى رأى أبي على واعتمد عليه فى جواز تصوير الأحياء، وأن الحظر مقصور على تصوير الله تعالى تصوير الأجسام (انظر سر الزخرفة الإسلامية للدكتور بشر فارس تمهيد 3431مطبعة المعهد العلمى الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة 1952) وانظر مجلة الأزهر، المجلد الثالث والعشرون جمادى الأولى 1371هـ مقال: المسلمون والتصوير: 468. ولم يتفق الأستاذ الشيخ حسن مأمون مفتى الجمهورية العربية المتحدة مع أبى على فى تفسير هذا الحديث (انظر صحيفة الأخبار عدد 15/ 12/ 1955).
(3) الحجة: 2/ 51، 53ن البلدية.
(4) المخصص: 1/ 78.
(5) الحلبيات: 72/ 73.(1/205)
كذلك رأيته يحتج بالحديث فى النحو والصرف، فقد جاء الآحاد فى الإضافة الجميع كقوله تعالى: {«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا»} وفى الحديث: «منعت العراق درهمها وقفيزها» (1).
وقال: الأدبّ من الجمال: الكثير وبر الوجه، فأما قول النبى (صلى الله عليه وسلم) يخاطب نساءه، «ليت شعرى أيتكن صاحبة الجمل الأدبّ، تخرج فتنبحها كلاب الحوأب «فانه ضعف الأدب بفك الادغام ليخرج على مثال الحوأب (2).
وأود هنا أن أعلق على ما ذكره «يوهان فك» فى كتابه العربية، إذ يقرر أنّ أول من اعتمد على الأحاديث من حيث هى حجة فى أمور اللغة هو النحوى ابن خروف الأندلسى مات فى حلب فى أوائل القرن السابع الهجرى، وتبعه فى ذلك أشهر نحاة القرن السابع ابن مالك (3).
ومن قبل يوهان فك قال أبو الحسن الضائع فى شرح الجمل: «وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرا (4)». وقد وفّى صاحب الخزانة الكلام على الخلاف فى جواز الاستشهاد بالحديث على مسائل اللغة والنحو فى صدر الخزانة (5).،
ولم يتعرض إلى موقف أبى على فى ذلك، ويكاد الباحثون من أهل العربية يجمعون على أن ابن خروف له فضل السبق فى الاعتداد بالأحاديث والاستشهاد بها، ويبدو أن يوهان فك تابعهم فى ذلك على النحو الذى رأيناه، ولست أزعم هنا أن صاحبى أول من اعتمد على الأحاديث فى الاحتجاج اللغوى، والنحوى، والصرفى لست أزعم ذلك لأن هذه قضية عريضة تستلزم استقصاء آثار النحاة الذين سبقوا أبا على، ولكنى اكتفى بتقرير أن أبا على سبق ابن خروف فى الاحتجاج بالحديث والاستشهاد به فى مسائل اللغة والنحو والصرف.
وأرى أن ابن خروف قد تأثر بأبى على إذ كان نسبه العلمى موصولا به فقد تلمذ ابن خروف على الخدبّ، وكان أجل من أخذ منه (6). والخدبّ
__________
(1) الحجة: 7/ 101ن البلدية.
(2) المخصص: 7/ 79.
(3) العربية: يوهان فك ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار: 226.
(4) خزانة الأدب للبغدادى: 1/ 6.
(5) راجع ص 6وما بعدها.
(6) بغية الوعاة: 354.(1/206)
هذا هو ابن طاهر (1). أبو بكر محمد بن أحمد (2). وكان للخدب عناية بايضاح أبى على، فعلق عليه (3)، واهتمام الخدب بالايضاح كاف لاتصاله بأبى على، وتفسير تأثره، وتأثر تلميذه ابن خروف معه بالشيخ الفارسى، وانتقال بعض منهجه إلى ابن خروف ومنه الاحتجاج بالحديث، وقد أشرت إلى استشهاد أبى على بالحديث واحتجاجه به فى حديثى عن كتاب الايضاح.
وتعليل هذا الاتجاه عند أبى على ميسور: فهو قد جمع إلى ثقافته فى اللغة والنحو والصرف التحديث، وإذن فهو يدرى حرص المحدثين على رواية الأحاديث وتحرى النقل فيها، وضبط ألفاظها، ثم هل كان عند أبى على الأعجمى ثقة فى رواة الحديث وهم أعاجم؟ على أية حال فالنتيجة التى أريد الانتهاء إليها هى إثبات سبق أبى على نحاة القرنين الخامس والسادس فى الاحتجاج بالحديث، والاستشهاد فى اللغة والنحو والصرف جميعا على الوجه الذى سلف به البيان.
(تبويب شواهد الحجة من القرآن الكريم والشعر)
وأبو على حاضر الذهن فى إيراد الشواهد محتجا بها، يوردها منسوقة وكأنه ينظمها فى سلك ليستقيم أمامك الدليل لؤلؤا فريدا، ويظهر التدليل عقدا نضيدا.
وأكثر ما يستشهد أبو على بالقرآن الكريم، والشعر العربى القديم.
وقسمت ما يستشهد به فى هذين: القرآن والشعر إلى الجوانب الآتية:
أولا: فى القراءات: (ا) محتجا لقراءة أو (ب) مقويا جانب قراءة من القراءات.
ثانيا: فى المعنى: (ا) محتجا لمعنى كلمة أو (ب) مقويا معنى ذكره.
ثالثا: فى الاعراب، والتصريف، والنحو، واللغة:
__________
(1) بغية الوعاة: 429.
(2) المصدر السابق: 432.
(3) انظر بغية الوعاة: 12.(1/207)
رابعا: فى التعبير: وذلك حين يأتى بالشاهد ليستدل به على صحة تعبير، وعدم جواز غيره.
خامسا: فى التدليل على قضية منطقية.
وإليكم الأمثلة الكاشفة عن كل جانب من الجوانب السابقة بالتفصيل فيما هو خاص بشواهد القرآن الكريم، وأشير بعد إلى هذه الجوانب وغيرها فيما هو خاص بالشعر إيثارا للاختصار.
أولا فى القراءات
(ا) وهو حين يستشهد بالقرآن محتجا لقراءة يستعرض ما جاء فى القرآن من الآيات المختلفة التى يستغلها فى البرهنة على ما هو بسبيله من الاحتجاج للقراءات فتأتى هذه الآيات نصا فيما يريد، ولا تحتمل سواه.
ففي الاحتجاج لإثبات الألف وإسقاطها من قوله جل وعز (لسحر مبين) قال أبو على: يدل على قول من قال سحر قوله: «فلما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون».
ويدل على ساحر قوله تعالى: {«وَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ»} (1).
(ب) وحينا يستشهد بالقرآن مقويا جانب قراءة من القراءات، وفى هذه الحال لا يحتج بالآية ابتداء، وإنما يأتى بها مقوية لما ساقه من دليل قبل ذلك، قال:
«ومما يشهد لمن قرأ (مالك) (2) من التنزيل قوله تعالى: {«وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ»}، فإن قولك «الأمر له» وهو «مالك الأمر» بمعنى ألا ترى أن لام الجر معناها الملك والاستحقاق؟ وكذلك قوله: {«يَوْمَ لََا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً»}
يقوى ذلك» والتقدير: «مالك يوم الدين من الأحكام ما لا تملكه نفس لنفس» ففي هذا دلالة وتقوية لقراءة من قرأ مالك (3).
__________
(1) الحجة: 4/ 359.
(2) فى توجيه قراءة مالك يوم الدين.
(3) الحجة: 1/ 11البلدية.(1/208)
ثانيا فى المعنى
(ا) محتجّا لمعنى ذكره: فالدين فى قوله تعالى: {«مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»} معناه الجزاء، بدلالة قوله تعالى: {«الْيَوْمَ تُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ»}، و {«الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»} (1)
والسلام فى قوله تعالى: {«يَهْدِي بِهِ اللََّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوََانَهُ سُبُلَ السَّلََامِ»} أى سبل دار السلام بدلالة قوله: {«لَهُمْ دََارُ السَّلََامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ»} وإما أن يراد بالسلام جمع سلامة كأنه دار السلام التى لا يلقون فى حلولها عنتا ولا تعذيبا كما قال:
{«الَّذِي أَحَلَّنََا دََارَ الْمُقََامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لََا يَمَسُّنََا فِيهََا نَصَبٌ، وَلََا يَمَسُّنََا فِيهََا لُغُوبٌ} [2]».
(ب) أو مقويا معنى ذكره، وذلك كاشارته إلى أن الله خص الإنسان بالخلق فى قوله تعالى: {«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ»} تنبيها على تأمل ما فيه من إتقان الصنعة ووجوه الحكمة كما قال: «وفى أنفسكم أفلا تبصرون»
ثالثا فى الإعراب، والتصريف، والنحو، واللغة
(ا) فى الإعراب: كما ذكر فى إعراب (الذى) فى قوله تعالى: {«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وأنه وصف للمضاف إليه دون الأول المضاف لأنه كقوله:
{«هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ الْبََارِئُ»} (3)
(ب) وفى التصريف: قولهم آمن زيد يحتمل غير وجه: يجوز أن يكون أمنته فآمن فجاء المطاوع على (أفعل) كقولك كببته فأكب، وفى التنزيل {«فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ»}، وفيه {«أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى ََ وَجْهِهِ} [4]»
(ج) وفى النحو: وأما الفعل من الهدى فيتعدى إلى مفعولين: يتعدى إلى الثانى منهما بأحد حرفى الجر: «إلى أو اللام». فمن تعديه بإلى قوله: {«فَاهْدُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطِ الْجَحِيمِ»}، ومنه قوله: {«وَاهْدِنََا إِلى ََ سَوََاءِ الصِّرََاطِ»}، ومن تعديه باللام قوله: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي هَدََانََا لِهََذََا»} وقوله: {«قُلِ اللََّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ»} (5)
__________
(1) الحجة: 1/ 27.
(2) الحجة: 1/ 173172ن مراد ملا.
(3) الحجة: 1/ 8ن مراد ملا.
(4) الحجة: 1/ 207.
(5) الحجة: 1/ 171ن مراد ملا.(1/209)
(د) وفى اللغة: قال: «وأما الخطيئة فتقع على الصغير، وعلى الكبير. فمن وقوعه على الصغير قوله: {«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»}
ومن وقوعه على الكبير قوله: {«وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [1]»
ويقال استوقد وأوقد، قال تعالى: {«كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً»}، و {«كُلَّمََا أَوْقَدُوا نََاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللََّهُ»} (2)
رابعا فى التعبير
وهو جانب يتصل بالصنعة النحوية ليجرى التعبير على سنن صحيح من العربية قال: «فإن قلت: أيجوز أن توقع الجملة التى من الابتداء والخبر موقع التى من الفعل والفاعل فى نحو: «سواء على أقمت أم قعدت» فتقول: سواء على أدرهم مالك أم دينار «وما أبالى أقائم أنت أم قاعد؟»
فالقول فى ذلك: أن أبا الحسن يزعم أن ذلك لا يحسن، قال: وكذلك لو قلت:
«ما أبالى أتقوم أم تقعد لم يحسن لأنه ليس معه الحرف الذى يجزم (الذى يحوله إلى الماضى) وهم يصححون ما وقع ماضيا، ومما يدل على ما قال أن ما جاء فى التنزيل من هذا النحو جاء مع المثال الماضى كقوله تعالى: {«سَوََاءٌ عَلَيْنََا أَجَزِعْنََا أَمْ صَبَرْنََا»}
{«سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ»}
{«سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ»} * (3)
خامسا فى التدليل النظرى المنطقى
قال: «مثل الانذار فى أنه ضرب من العلم قولهم «اليقين»، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أن اليقين كأنه علم يحصل بعد استدلال ونظر لغموض العلم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك على الناظر يقوى ذلك قوله (عز وجل):
{«وَكَذََلِكَ نُرِي إِبْرََاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ»}
__________
(1) الحجة: 1/ 394.
(2) 1/ 323.
(3) الحجة: 1/ 252وما بعدها.(1/210)
ثم ذكر بعد ما كان من نظره واستدلاله، ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به (1).
أما شواهد الشعر فى كتاب الحجة فهى غزيرة متنوعة، وكان من الطبيعى أن يستكثر أبو على من الشواهد الشعرية فى ذلك الكتاب الضخم الذى عقده للاحتجاج، والشعر ركن مهم من أركان هذا الاحتجاج، وقد أورد أبو على فى الحجة من الأشعار ما لو جمع لكان كتابا ضخما قائما بذاته.
كما دفع الاستطراد أبا على إلى تنويع المقاصد التى يورد من أجلها شواهده الشعرية، فهو يورد الشاهد:
(ا) محتجا لقراءة: كاحتجاجه على حذف حرف اللين بعد الميم، واختياره على وصلها بحرف اللين فى (عليهم) بقول الشاعر:
لا يبعد الله أصحابا تركتهم ... لم أدر بعد غداة الأمس ما صنع
وقول الشاعر:
لو ساوفتنا بسوف من تحيتها ... سوف العيوف لراح الركب قد قنع
وقول عنترة:
يا دار عبلة بالجواء تكلم
فكما حذفوهما فى هذه المواضع، كذلك حذفوهما فى عليهم ونحوه (2).
(ب) أو يورد الشاهد الشعرى موجها معنى ذكره، وإعرابا ارتضاه (3)
(ج) أو متحدثا فى تصريف كلمة (4)، أو مسألة نحوية (5).
(د) أو مدللا على صحة تعبير، وعدم جواز غيره (6).
(هـ) أو مبرهنا على أمر نظرى (7).
(و) أو يورد الشاهد الشعرى متصلا بالحديث عن أمر فى العقيدة (8).
__________
(1) الحجة: 1/ 239.
(2) الحجة: 1/ 50ن مراد ملا.
(3) انظر الحجة: 1/ 156ن البلدية.
(4) انظر الحجة: 1/ 72ن البلدية.
(5) المصدر السابق: 1/ 205.
(6) نفس المصدر: 1/ 252.
(7) انظر: 1/ 240.
(8) انظر مثلا الحجة: 1/ 243.(1/211)
(ز) وكثيرا ما يناظر شواهد سيبويه بشواهد أخرى يأتى بها من عنده تعزز شواهد الكتاب (1).
(ح) أو يستشهد على صحة كلام سيبويه، فإن قال سيبويه مثلا: «يقال دريت الشيء ودريت به، وتعديه بحرف الجر أكثر فى كلامهم
يقول أبو على محتجا لذلك، ومدللا عليه بما أنشد أبو زيد:
وأصبحت من أسماء قيس كقابض ... على الماء، لا يدرى بما هو قابض (2)
وقد يكون (ر، ح) مما يختلف فيه استشهاده بالقرآن الكريم، على أن هناك أمرا آخر بعد هذين، ذلك التحدث فى أمر عروضى، فهو كثيرا ما يستشهد بالشعر له، كاستشهاده على جعلهم الهاء المتحركة بمنزلة الألف الساكنة، فقول الأعشى:
«رحلت سمية غدوة أجمالها»
اللام فيه حرف الروى، والهاء وصل (3)، وكحديثه فى تخفيف ياء النسب فى الشعر. (4) وهكذا استطاع أبو على بتنويع المقاصد التى يستشهد لها بالشعر أن يصدق قول ابن نباتة: «من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه، والحجج لا تؤخذ إلا منه، أعنى أن العلماء، والحكماء، والفقهاء، والنحويين، واللغويين، يقولون قال الشاعر، وهذا كثير فى الشعر»، والشعر قد أتى به، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة (5).
* * * وهو حينا ينسب الشواهد إلى قائليها من الشعراء، أو يسندها إلى منشديها من العلماء، وحينا يتركها غفلا من ذلك.
نسب لامرئ القيس (6)، والنابغة (7)، وزهير (8)، وعدى بن زيد (9)، ولبيد (10)،
__________
(1) انظر الحجة ن البلدية: 1/ 158وللكتاب: 1/ 357.
(2) الحجة: 1/ 242.
(3) الحجة: 1/ 46ن مراد ملا.
(4) الحجة: 1/ 54.
(5) الإمتاع والمؤانسة: 2/ 136.
(6) الحجة: 7/ 185ن البلدية.
(7) 4/ 116، 7/ 29.
(8) 7/ 116.
(9) 4/ 80.
(10) الحجة: 1/ 314، 122، 28مراد ملا.(1/212)
وعنترة (1)، والأعشى (2)، وأمية (3) من الجاهليين كما أنشد لأبى طالب عم النبى (4).
ومن الأمويين نسب إلى الفرزدق (5)، وجرير (6)، والعجاج (7)، ورؤية (8)، والأحظل (9)، والراعى (10)، والكميت (11).
وهو حين يغفل نسبة الشواهد إلى قائليها يبدو أنه على علم بهم، بدليل أن هناك عددا من هذه الشواهد معروف قائلوها لمن له صلة ما بالثقافة العربية فكيف بأبى على؟ من ذلك قوله: ومما جاء بغير الجار يريد الفعل يذكر قولها:
يذكرنى طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس!
والمعروف أن ذلك للخنساء، وهو ظاهر فى غنى عن الاشارة، ولكنه أغفل ذكرها، وإن كان قد أومأ إليها. بتأنيث الضمير فى قولها.
واستشهاده بقول الشاعر:
«وعيد أبى قابوس فى غير كنهه»، فملك أبى قابوس أضحى وقد نجز (12)
فذلك للنابغة وهو معروف.
وأبو على إن شك فى نسبة الشاهد أعلن ذلك، حيث يقول مثلا: ألا ترى الكميت أو غيره قال (13) أو يقول: وقال ساعدة أو غيره (14).
وقد لحظت أنه يستشهد كثيرا بشعر الأعشى (15) ولعل ذلك لأنه حفظ له أكثر من غيره. كما لحظت أنه يكثر من الاستشهاد برجز العجاج (16)، ورؤبة (17)، وهما الراجزان المشهوران، واللذان ورد ذكرهما كثيرا فى نوادر اللغة التى اعتمد عليها أبو على.
__________
(1) نفس المصدر: 1/ 174، 232.
(2) الحجة: 7/ 357ن البلدية.
(3) الحجة: 1/ 426ن مراد ملا.
(4) الحجة: 4/ 6ن البلدية.
(5) الحجة: 7/ 257.
(6) الحجة: 4/ 328، 6/ 196، 7/ 139ن البلدية.
(7) 4/ 337.
(8) 6/ 182، 7/ 115، 205.
(9) 4/ 36ن البلدية.
(10) الحجة: 1/ 200، 212ن مراد ملا.
(11) نفس المصدر: 1/ 220.
(12) الحجة: 6/ 51ن البلدية.
(13) الحجة: 1/ 220ن مراد ملا.
(14) المصدر السابق: 1/ 414.
(15) انظر مثلا من الجزء الأول: 46، 94، 146، 204، 208، 228، 232، 336، 394ومن الجزء الرابع: 19، 43، 116، 133، 136، 166، 200، 241، 323، 324.
(16) انظر مثلا الجزء الأول: 178، 292، 342، 362، 414، 474.
(17) انظر مثلا 6/ 182، 7/ 115، 205.(1/213)
ورأيته كذلك يذكر الروايات المختلفة فى البيت (1) وربما ذكر أقوال المحدثين من الشعراء (2).
* * * وأبو على ينصب فى إيراد الشواهد حتى لينسيه ذلك جلال المقام الذى يتحدث فيه، والمهم الذى نصب نفسه له، وعقد كتابه عليه، فيذكر مثلا الأبيات المكشوفة للنابغة فى وصف المتجردة (3)!.
* * * هذا مجمل الحديث عن شواهد أبى على، أما الرواة الذين يسند إليهم والأشياخ من العلماء المنشدين فهو غالبا ما يسميهم:
أنشد لأبى الأسود (4)، والخليل (5)، وأبى شمر (6)، وأبى عثمان (7)، ومحمد ابن السرى (8)، وأبى الحسن (9)، وعلى بن سليمان (10)، وأبى عبيدة (11)، والطوسى عن ابن الاعرابى (12)، والسكرى (13)، والأصمعى (14).
وقد لحظت أن أكثر من ينشد لهم رجلان:
أما أحدهما فأبو زيد (15)، وأما الآخر فأحمد بن يحيى (16).
وأبو حيان فى الإمتاع يكشف لنا عن سبب استشهاد أبى على بأبى زيد بهذه الكثرة الغالبة، وذلك حيث يقول عنه: إنه لم يتجاوز فى اللغة كتب أبى زيد (17).
__________
(1) انظر مثلا الحجة: 1/ 50مراد ملا.
(2) انظر مثلا: 1/ 182.
(3) الحجة: 1/ 314.
(4) 4/ 11ن البلدية.
(5) 1/ 44ن مراد ملا.
(6) 6/ 117ن البلدية.
(7) 4/ 281، 312.
(8) 4/ 353، 6/ 54.
(9) 4/ 257، 8/ 93.
(10) 4/ 45، 6/ 160.
(11) 1/ 110.
(12) 1/ 216.
(13) 1/ 312.
(14) 7/ 192.
(15) انظر مثلا: 1/ 42، 54، 60، 4/ 123، 161، 210، 257، 6/ 61، 94، 7/ 178.
(16) انظر الحجة مثلا: 1/ 44، 52، 176و 4/ 10، 51، 7/ 190.
(17) الامتاع: 1/ 131.(1/214)
وأما تعليل كثرة استشهاد أبى على بأحمد بن يحيى فميسور، وذلك أن أحمد بن يحيى ثعلبا كان راوية أولا ثم كان خصما لمحمد بن يزيد المبرد (1) ثانيا والمبرد خاصم سيبويه ونقض عليه، وأبو على يقدر الشيخ ثعلبا، ويأنس إلى الاستشهاد بما أنشد، مع أنه لم يكن يعلم مذهب البصريين، ولا مستخرجا للقياس، ولا مطالبا (2) له، وربما كان جهل ثعلب بمذاهب البصريين سببا فى مناقشة أبى على له فى بعض الأحيان (3).
* * *المسائل البلاغية فى الحجة
يلم أبو على بطائفة من المسائل البلاغية فى الحجة (4). فهو يتحدث عن الالتفات، ولام الصيرورة، والتفصيل بعد الاجمال: الاطناب بعد الإيجاز، وخروج كل من الأمر والاستفهام عن معناه الحقيقى إلى معنى بلاغى آخر، كما يتحدث عن ذكر الخاص بعد العام، كما يشير إلى أن تقديم الجار والمجرور من طرق التخصيص: القصر.
وهذه أمثلة كاشفة لهذه المسائل التى ألم بها:
(ا) الالتفات: قال: وأما قول الشاعر:
وتضحك منى شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلى أسيرا يمانيا
فإنه بنشد ترى وترا فمن أنشده ترى بالياء كان مثل: إياك نعبد بعد الحمد الله، وقد يكون هذا قول الأعشى: «حتى تلاقى محمدا بعد قوله: فآليت لا أرثى لها (5).
(ب) لام الصيرورة: قال: وأما قوله: فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فان قوله فلا يؤمنوا ولم يعطوا الأموال ليضلوا ويكفروا، ولكن لما اختاروا ذلك، فصار إليه عاقبة أمرهم كان بمنزلة قوله: {«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ}
__________
(1) طبقات الزبيدى: 160.
(2) طبقات الزبيدى: 155، 156.
(3) انظر مثلا الحجة: 1/ 340ن مراد ملا.
(4) سأشير إلى أنه يلم ببعض هذه المسائل فى كتبه الأخرى.
(5) الحجة: 2/ 60ن مراد ملا وانظر 6/ 119ن البلدية.(1/215)
{عَدُوًّا وَحَزَناً} «لما أدى التقاطهم إياه إلى ذلك، وإن كان الالتقاط لغيره (1).
(ح) التفصيل والاجمال (الاطناب والايجاز): أورد أبو على قول المتأولين فى قوله تعالى: {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} وقواه ثم قال: ويجوز لها وجه آخر، وهو أن هذه الآية كأنها إجمال ما فصل فى قوله: {«وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ، وَمَلََائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ»} والموصوفون فيها خلاف من وصف فى قوله:
{«وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللََّهِ، وَمَلََائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلََالًا بَعِيداً»}
فكفرهم بالملائكة دعاؤهم إياهم بنات كما وبخوا فى قوله: {«أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ بَنََاتٍ»}
وقوله: {«وَجَعَلُوا الْمَلََائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً».} وكفرهم بالكتب إنكارهم لها فى قوله: {«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قََالُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ عَلى ََ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ»} وكفرهم بإرسال الرسل إنكارهم إرسالهم بنحو قوله تعالى: {«وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ»}: {«أَهََذَا الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولًا.} وكفرهم بالآخرة: قولهم: {لََا تَأْتِينَا السََّاعَةُ.} قل: بلى وربى (2). فكل هذه الأمور غيب قد أنكروه ودفعوه، فلم يؤمنوا به، ولم يستدلوا على صحته، فقال تعالى: {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، أى بهذه الأشياء التى كفر بها هؤلاء الذين ذكر كفرهم بها عنهم.
(د) ذكر الخاص بعد العام: وخصهم بالإيمان بالآخرة فى قوله:
وبالآخرة هم يوقنون، وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها، ولما كان من كفر المشركين وجحدهم إياها فى نحو ما حكى عنهم فى قوله: {«وَقََالُوا مََا هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا»} فكأن تخصيصهم بذلك مدح لهم (3). ونظير ذلك فى أنه خص بعد ما عم قوله: {«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»} فعم بقوله خلق جميع مخلوقاته ثم خص فقال:
خلق الإنسان من علق. فالذى وصف للمضاف إليه دون الاول المضاف، لأنه كقوله هو الله الخالق البارئ، ثم خص ذكر الانسان تنبيها على تأمل ما فيه من اتقان الصنعة، ووجوه الحكمة كما قال: {«وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلََا تُبْصِرُونَ} [4].
__________
(1) الحجة: 1/ 154.
(2) المصدر السابق: 1/ 156وما بعدها.
(3) المصدر السابق.
(4) انظر الحجة 1/ 8مراد ملا.(1/216)
(هـ) تقديم الجار والمجرور من طرق التخصيص (القصر): ويقرب من هذا قوله الرحمن الرحيم حيث أريد تخصيص المسلمين بالكرامة فى قوله:
{«وَكََانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [1]». وقد شرح ذلك فى موضع آخر إذ يقول فى قوله:
{«بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} الرحمن أبلغ من الرحيم بدلالة أنه لا يوصف به إلا الله سبحانه، وذكر الرحيم بعده لتخصص المسلمين به فى قوله: {«وَكََانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً»}.
(و) خروج كل من الامر والاستفهام عن معناها الحقيقى إلى معنى بلاغى آخر: قال: المراد بالامر فى اهدنا سؤال واستنجاز (2).
وقال فى قوله تعالى: {«سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ»} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر (3).
وجعل الاستفهام فى قوله: {«أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ بَنََاتٍ»} للتوبيخ (4).، وفى قوله تعالى {«أَهََذَا الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولًا»} للانكار (5).
وأحيانا تكون له خطوات ذهنية فى تقويم الكلمة ومدى ما يكون لها من إشعاع وذلك قوله مثلا وكان قول الله (عز وجل) فى الكفار:
{«وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ»} أبلغ فى الذم للبعث عن الفهم من وصفهم بأنهم لا يعلمون، لأن البهيمة قد تشعر من حيث كانت تحس، فكأنهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم وعلى هذا قوله سبحانه: {«وَلََا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتٌ بَلْ أَحْيََاءٌ، وَلََكِنْ لََا تَشْعُرُونَ»} فقال: «ولكن لا تشعرون ولم يقل ولكن لا تعلمون، لأن المؤمنين إذا أخبرهم الله (عز وجل) بأنهم أحياء علموا أنهم أحياء، فلا يجوز أن ينفى الله (عز وجل) العلم عنهم بحياتهم، إذ كانوا قد علموا ذلك بأخباره إياهم وتيقنوه، ولكن يجوز أن يقال. ولكن لا تشعرون، لأنهم ليس كل ما علموه يشعرونه، كما أنه ليس كل ما علموه يحسونه بحواسهم، فلما كانوا لا يعلمون بحواسهم حياتهم،
__________
(1) الحجة: 1/ 156وما بعدها.
(2) 1/ 72ن البلدية.
(3) الحجة: 1/ 246ن البلدية.
(4) انظر الحجة: 1/ 158مراد ملا.
(5) الحجة: 1/ 156وما بعدها ن البلدية.(1/217)
وأن كانوا علموه بأخبار الله إياهم وجب أن يقال لا تشعرون، ولم يجز أن يقال ولكن لا تعلمون على هذا الحد (1).
هذا وقد ألم أبو على ببعض مسائل التشبيه (2)، والاستعارة (3). فإذا أردت التعليل لالمام أبى على بهذه المسائل البلاغية وقد يكون بعضها من أولياته التى لم يسبق إليها فيما أعلم أقول إذا أردت تعليل ذلك كان الأمر ميسورا، فهو يرجع فيما أرى إلى ثقافة أبى على، وحفظه الواعى للقرآن الكريم، والشواهد العربية، وسرعة استحضاره الأشباه والنظائر، والأضداد والضرائر. أقول هذا لأطبق عليه ما أورده فى الالتفات ولام الصيرورة، والتفصيل فى موضع الإجمال فى آخره فهذه أمور أتصل الكلام فيها أكثرها أتصل بالشواهد المتناظرة والمتضادة، وأود أن نرجع إليها لنرى التناظر فى الالتفات، ولام الصيرورة، والمضادة فى التفصيل والإجمال (الإطناب والإيجاز).
وكذلك حديثه عن العام والخاص يرجع فيما يبدو إلى ذلك السبب، مضافا إليه نزعته المنطقية، واتجاهه العقلى فيما يتناوله من مسائل: فالخاص والعام اصطلاحان منطقيان، وقد يمت حديثه فى تقويم التعبير بقوله «لا يشعرون» بدلا «لا يعلمون» إلى ذلك الفقه اللغوى لمعنى اللفظين، وإلى ذلك النزوع العقلى المنطقى وهنا أعود إلى قوله: «ليس كل ما علموه يشعرونه» كما أن ليس كل ما علموه يحسونه» فهاتان قضيتان حمليتان، كل منهما سالبة جزئية (4).
ذلك فيما أرى بعض ما هيأ له أن يتناول هذه المسائل البلاغية بما تناول على النحو الذى مر بنا من قريب (5).
وليس من شك فى أن الجرجانى تأثير بأبى على تأثرا ما، ألم يكن ابن أخت الفارسى أستاذا للجرجانى؟ ألم يتوفر الجرجانى على شرح الإيضاح للفارسى؟
__________
(1) الحجة: 1/ 180ن مراد ملا.
(2) انظر ص 204مراد ملا.
(3) لوحة 230مراد ملا.
(4) انظر الاشارات والتنبيهات لابن سينا 161، 162.
(5) اقرر ذلك معترفا له بالتقدم فى هذا الباب، وإن كانت النظرة الحديثة لا تقر مزج المسائل البلاغية بالنزعات المنطقية.(1/218)
ألم يستشهد الجرجانى بأبى على الفارسى فى غير دفعة من كتابه دلائل الإعجاز (1).
على أنّى استنتج صلة بين شخصية عبد القاهر فى كتابه دلائل الإعجاز فى المعانى وكتاب الشيخ أبى على الفارسى «المسائل المصلحة فيما أغفله الزّجاج من المعانى» فعبد القاهر يهتف بفضل النحو، ويدفع عنه، ويبين مكانه فى المعانى (2). وأبو على يتعقب الزجاج فى المسائل المصلحة وأكثر هذه المسائل يدور حول مسائل نحوية كان لها الأثر فى المعانى (3).
المنطق وظهوره فى الحجة
يفسر أبو على لفظ المنطق بالفكر (4)، وهو بهذا يتصل بتعريف المناطقة للإنسان بأنه حيوان ناطق، وكان المنطق فى كتاب الحجة أكثر ظهورا منه فى أى كتاب آخر من كتب أبى على التى أطلعت عليها، وذلك أن الغرض من الحجة التدليل والتعليل، ثم كان لا بد له أن يقيس أوجه القراءات المختلفة، ويخرجها على ما يشبهها من الأصول المقررة، أو المسموع من كلام العرب.
ومكن لأبى على فى المنطق أنه حنفى، ثم هو معتزلى، والمعتزلى جدل (5)، ولعله اقتفى أثر شيخه أبى بكر بن السراج الذى درس المنطق (6)، إلى أن البيئة العامة كانت بيئة جدلية فلسفية يستعان فيها بالمنطق ومسائله على مقارعة الحجة، وقد قرر ابن قتيبة من قبل أبى على أن «أرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئا من تقويم الكواكب، وينظر فى شىء من القضاء، وحدّ المنطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن، وهو لا يعرف معناه (7).
ولئن كان الطاعنون يتخذون المنطق وسيلة لأغراضهم إن أبا على اتخذه وسيلة
__________
(1) انظر مثلا دلائل الاعجاز: 353، 385.
(2) انظر مثلا دلائل الاعجاز ص 6، 23.
(3) انظر بحث كتاب الاغفال فى موضعه من هذه الرسالة.
(4) المخصص: 2/ 114.
(5) انظر يتيمة الدهر: 3/ 106.
(6) الفهرست: 92.
(7) مقدمة أدب الكاتب: 3.(1/219)
لرد كيدهم فى نحورهم، فكان ذلك سببا من أسباب شيوع المنطق فى كتاب الحجة بخاصة.
ولفظ الحجة (اسم الكتاب) موح بالمنطق، فالشىء الموصل إلى التصديق المطلوب يسمى حجة (1)، ويفسر هذا الجرجانى إذ يعرف الحجة «بأنها ما دل به على صحة الدعوى» (2).
وتكثر الألفاظ المنطقية فى الحجة: كالاستدلال، والنظر (3)، والأدلة والدلالة (4)، والوجه، والحد، والحجة، والقسمة، والغلط (5)، والقياس، والعلة، والشياع، ومعنى الجنس، وخلاف الخصوص وأشبه الوجوه (6) كما يتجلى المنطق كذلك فى هذه الاعتراضات التى يوردها ثم يدفعها بأدلة يقيس عليها ما رآه (7)
تتجلى المنطقية أيضا فى القسمة العقلية، فتراه يورد الأوجه المحتملة، ثم يصححها جميعا (8)، أو يبطلها إلا واحدة يتعلق بها الحكم فيصححها (9). وأول ما عنى به أبو على من مسائل المنطق «القياس»، وهو ما سأتناوله بالبيان فيما يأتى:
أبو على والقياس
القياس لغة تقدير شىء على مثال شىء آخر، وتسويته به (10)، وعند المناطقة أن يحاول الحكم على شىء بحكم موجود فى شبيهه، والقياس قديم عند النحاة لأولين (11)، فهم يقولون عن عبد الله بن أبى إسحاق أنه أول من بعج النحو، ومد القياس (12)
__________
(1) الاشارات والتنبيهات للرئيس ابن سينا القسم الأول: 26.
(2) التعريفات للجرجاني: 72.
(3) الحجة: 1/ 174مراد ملا.
(4) الحجة: 1/ 190مراد ملا.
(5) الحجة: 1/ 110البلدية.
(6) الحجة: 1/ 37بلدية.
(7) انظر الحجة: 1/ 25وما بعدها البلدية.
(8) انظر الحجة: 1/ 231البلدية.
(9) انظر مثلا الحجة: 1/ 160ن مراد ملا.
(10) ارشاد الفحول للشوكانى: 184.
(11) الاشارات والتنبيهات لابن سينا القسم الأول: 207.
(12) طبقات الزبيدى: 25.(1/220)
والعلل (1)، وكذلك كان كل من عيسى بن عمر بن العلاء (2) وجاء الخليل ومكنته ثقافته وبيئته أن يكون الغاية فى تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله (3)، واستنبط من ذلك ما لم يستنبطه أحد (4)، وكان لأبى زيد فضل معرفته بمقاييس النحو (5)، وكذلك كان ليونس بن حبيب مذاهب وأقيسة تفرد بها (6).
أما إمام النحاة فكثيرا ما يشبه فى الكتاب مثالا بمثال، ويجرى على أحدهما ما يجريه على الآخر، لاشتراكهما فى العلة (7) وأقرأ نصه الآتى، والحظ مقايسته بين رأى العلمية، وأن وأخواتها لاشتراك كل فى الدلالة على معنى، قال:
«وإذا أردت رؤية العين لم يجز رأيتنى، لأنها حينئذ بمنزلة ضربت، وإذا أردت التى بمنزلة علمت صارت بمنزلته أن وأخواتها، لأنهن لسن بأفعال، وإنما يجئن لمعنى، كذلك هذه الأفعال إنما جئن لعلم أو شك، ولم يرد فعلا سلف منه إلى إنسان يبتدئه (8).
ويطول بى الحديث إن ذهبت أستقصى ما أورد سيبويه فى الكتاب من أمثلة القياس، وحسبى ما ذكرت.
واستمر ظهور القياس عند النحاة بعد سيبويه دليلا على براعتهم فى النحو، ورسوخ قدمهم فيه، فسعيد بن مسعدة يغلب عليه النحو ومقاييسه (9)، وكان يحيى ابن المبارك اليزيدى مبرزا فى النحو، والعلل، ومقاييسها (10)، وكذلك كان كل من المبرد ونفطويه (11).
__________
(1) تهذيب اللغة للأزهرى مصور بالمجمع اللغوى رقم 626لغة.
(2) انظر طبقات الزبيدى: 36فى تأويل كل من الرجلين نصب (الطير) فى قوله:
إلى {«يََا جِبََالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ».}
(3) نزهة الأنباء: 29.
(4) انظر أمثلة من أقيسة الخليل فى الكتاب لسيبويه مثلا: 1/ 275، 2/ 11.
(5) تهذيب اللغة: 5.
(6) نزهة الأنباء: 32.
(7) انظر مثلا: (1/ 213، 430).
(8) الكتاب: 1/ 286.
(9) تهذيب اللغة: 5.
(10) المصدر السابق.
(11) نفس المصدر: 13.(1/221)
وكذلك كان الكوفيون قائسين: فالكسائى هو الذى قال: «إنما النحو قياس يتبع» (1) وكثيرا ما يردد القراء فى معانى القرآن عبارة: فأجر الكلام على هذا، أو ابن الكلام على هذا (2) ونحو ذلك. وإن كان هناك من فرق بين البصريين والكوفيين فهو فى أن البصريين كانوا يقيسون على الكثير الشائع، أما الكوفيون فلا يرون بأسا من القياس على الشاذ الذى لا يجوز إلا فى الضرورة ويجعلونه أصلا (3).
* * * هذه نبذة عابرة فى تاريخ القياس، ومكان كل من النحاة الأقدمين السابقين لأبى على الفارس فيه، قدمت هذه الكلمة بين يدى الحديث عن القياس عند أبى على حتى تبدو السلسلة متصلة الحلقات، وحتى أتبين طابع صاحبى فى تناول القياس، وطابع النحاة السابقين.
ويبدو من القياس عند السابقين وبخاصة الشيخان: الخليل وسيبويه أنه قياس فطرى لا أثر فيه للتعمق، هو مجرد مشابهة شىء بشيء، أو اعتبار هذا بذاك، من غير مزج لذلك بالقضايا المنطقية، أو وصله بالمسائل العقلية البحتة، ومن هنا قام قياس الأقدمين على الحس اللغوى، وطبيعة الأساليب العربية، وغلبت فيه الروح الفطرية على الصناعة الفلسفية أو المنطقية.
فماذا كان من أمر أبى على فى القياس؟!
أبو على يعبر عن القياس بالتوفيق (4)، أو موافقة الأشباه (5)، ويسميه الأصل المستمر (6)، وهو عنده نوع من التشبيه (7)، وقد خطا أبو على بالقياس فى كتابه الحجة خطوات واسعات أبعدته عن سنن الأقدمين، فهو:
أولا: نوّع القياس، وتوسع فيه.
__________
(1) بغية الوعاة: 337.
(2) معاني القرآن: 15، 18، 13.
(3) بغية الوعاة: 336.
(4) الحجة: 62من البلدية.
(5) الحجة: 1/ 274.
(6) الاغفال: 11رقم 874تفسير.
(7) البصريات لوحة 77.(1/222)
ثانيا: تعمق فيه حتى أصبح عقليا يتمشى مع الصناعة المنطقية.
ثالثا: حكم القياس فيما هو ثابت بالنقل والأثر.
تلكم مظاهر ثلاثة للقياس عند أبى على، فرقت بينه وبين الأقدمين، وطورت ظاهرة القياس على يديه فى تاريخ النحو والنحويين، وسأتناول كل ظاهرة بما يكشف عنها بأمثلة يقاس عليها، وينقاد على وتيرتها.
أما التنوع فى القياس عند أبى على فأراه فى ضربين.
(1) قياس الشبه.
(2) وقياس العلة.
وتحت كل ضرب من هذين أقسام وفروع.
(ا) ففي قياس الشبه يقيس أبو على بعض الكلم على بعض إذا انعقد بينهما شبه، وقد رأيت أقسامه وفروعه عند أبى على فيما يأتى:
(ا) القياس الصوتى. (ب) القياس اللغوى. (ح) القياس العروضى.
(د) القياس المعنوى. (هـ) القياس الاعرابى. (و) القياس الصرفى.
(ر) القياس الشرعى. (ح) القياس التعليمى. (ط) قياس الحذف.
وأضرب لكل من هذه الأنواع مثالا يختصر ما أريد بيانه فى إجمال:
(ا) فمثال القياس الصوتى قوله: حجة من قرأ بالصاد (الصراط) أن القراءة بالسين مضارعة لما أجمعوا على رفضه من كلامهم، ألا ترى أنهم تركوا امالة وافد ونحوه كراهة أن يصعدوا بالمستعلى بعد التسفل بالامالة، فكذلك يكره على هذا أن يتسفل ثم يتصعد بالطاء فى سراط (1)
(ب) ومثال القياس اللغوى: قوله: «قالوا سىّ» بمعنى سواء، كما قالوا القى بمعنى قواء (2) وقالوا سيّان فتنوا كما قالوا مثلان (3).
(ح) ومثال القياس العروضى: قال: «جعلوا الهاء المتحركة بمنزلة الالف الساكنة، ألا ترى أن قول الاعشى:
«رحلت سمية غدوة أجمالها»
__________
(1) الحجة: 1/ 29بلدية.
(2) القيّ: بالكسر قفر الأرض كالقواء بالكسر والمد.
(3) الحجة: 1/ 230.(1/223)
اللام فيه حرف الروى والهاء وصل، فجعلت الهاء مع تحركها بمنزلة الواو والياء والهاء السواكن فى نحو:
عاذل والعتابا ونحو حبيب ومنزلى وإن لام لائمو، والهاء فى نحو:
وبكى النساء على حمزة (1)
(د) ومثال القياس المعنوى قوله: {«وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ»} فى المعنى مثل {«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ»} وكذلك قوله تعالى: {«صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمََاتِ»} لأن وصف البصير بالكون فى الظلمات بمنزلة الوصف بالعمى، وكذلك وصفه بكون الغشاوة عليه لأنه فى هذه الأحوال كلها لا يصبح به أبصار (2).
وانظر إلى قياسه المعنوى فى قوله: «وقول موسى (عليه السلام) {أَعُوذُ بِاللََّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ} فى جواب {أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً،} يدل على أن الهازئ من الجاهلين (3).
(هـ) القياس الاعرابى: قال: «وقد دخلت لا زائدة فى مواضع كثيرة فى التنزيل وغيره قال تعالى: {«مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ} (كذا) وفى الأخرى {مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} (4).
وربما اقتفى أبو على أثر أبى الحسن الأخفش فى شىء من ذلك، فقد أجاز فى قوله: {«جَزََاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهََا»} أن تكون الباء داخله على خبر المبتدأ لأنه قد جاء وجزاء سيئة سيئة مثلها (5)، وليس بغريب أن يكون من أبى على احتذاء للأخفش فى القياس: فقد ألف الأخفش فيما ألف «المقاييس فى النحو» (6).
(و) القياس الصرفى: قال: الغشاوة من الغشيان كالجباوة من جبيت فى أن الواو كأنها بدل من الياء، وإن لم يصرّف منه فعل (7) كما لم يصرف من الجباوة. وإن شئت قلت: إن غشى يغشى مثل رضى يرضى، ولام الكلمة الواو بدلالة غشاوة وغشوة
__________
(1) الحجة: 1/ 61رما بعدها من البلدية.
(2) الحجة (1/ 280بلدية).
(3) الحجة: 1/ 150بلدية.
(4) الحجة: 1/ 140بلدية.
(5) الحجة: 183بلدية.
(6) الفهرست: 78وبغية الوعاة 258.
(7) قال قبل ذلك: وأما الغشاوة فلم أسمع منه فعلا منصرفا بالواو.(1/224)
ويكون الغشيان كعليان ودنيا ونحو ذلك (1).
(ز) القياس الشرعى: قال: المؤمن والمسلم من أسماء المدح فى الشرع، وسوت الشريعة بين التسمية بالمؤمن والمسلم كقوله تعالى: {«فَأَخْرَجْنََا مَنْ كََانَ فِيهََا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمََا وَجَدْنََا فِيهََا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»} (2).
(ح) وأما القياس التعليمى فقد رأيته يلم به فى كتابه الايضاح، ولعل ذلك مرده إلى النزعة التى صدر عنها فى تأليفه ذلك الكتاب على النحو الذى بينت فى مكان آخر، ومن أمثلة ذلك القياس قوله: ما كان من الأماكن مخصوصا فان الفعل الذى لا يتعدى لا يتعدى إليه: لا تقول: قمت بغداد، ولا قعدت السوق، ولا قمت المسجد، لأن هذه الأماكن مخصوصة كزيد، وعمرو، وينفصل بعضها من بعض بصور وخلق، فهى فى ذلك كالأناس، ولحومهم من الجثث المخصوصة، فكما لا يتعدى الفعل الذى لا يتعدى إلى الأناس كذلك لا يتعدى إلى ما كان من الأماكن بمعناهم فى الاختصاص (3).
(ط) ومن أمثلة قياس الحذف: قوله: ليت شعرى أصلها: «ليت شعرتى كما قالوا: «ذهب بعذرها» أصلها ذهب بعذرتها (4).
وأنتقل بعد ذلك إلى بيان الضرب الثانى من أضرب القياس عند الشيخ ذلكم هو: قياس العلة: والعلماء إذ يتحدثون عن قياس العلة يذكرون أن القياس فيه مبنى على اشتراك المقيس والمقيس عليه فى العلة التى يقوم الحكم عليها. ويقسموه أنواعا ثلاثة:
(ا) قياس الأولى: وفيه تكون العلة فى الفرع أقوى منها فى الأصل.
(ب) قياس المساوى: وفيه تكون العلة فى الفرع والأصل على سواء.
(ج) قياس الأدنى: وفيه تكون العلة فى الفرع أضعف منها فى الأصل (5)
وقد رأيت أبا على حين يبرهن على قضية من القضايا غالبا ما يتبع الخطوات الآتية:
(ا) يصدر أولا تدليله بما يمكن أن أسميه (البرهان المؤسس) وهو أقرب ما يكون إلى القياس المساوى.
__________
(1) الحجة: 208مراد ملا.
(2) الحجة: 1/ 207بلدية.
(3) الايضاح ص 58/ 1120نحو.
(4) الحجة: 1/ 178مراد ملا.
(5) انظر القياس فى اللغة المربية للأستاذ المرحوم محمد الخضر حسين ط 1363هـ / 77وما بعدها.(1/225)
(ب) ثم يتبع ذلك البرهان المؤكد أو المقوى، وقد يرقى فيه إلى القول بالأولى والأجدر وذلك هو قياس الأولى.
(ح) وربما أتى بالبرهان السلبى الذى يتجلى فى الاعتراض ورده، وتشير هذه الخطوة إلى القياس الأدنى. وتتبين خطوات أبى على هذه من المثال الآتى: قال:
(ا) الحجة لقول من قال: أأنذرتهم فلم يجمع بين الهمزتين، وخفف الثانية أن يقول: «إن العرب قد رفضت جمعهما فى مواضع من الكلام من ذلك أنهما لما اجتمعتا فى أأدم، وأأزر، وأأخر الزموا جميعا الثانية البدل، ولم يحققوا الثانية، ولما كسروا وحقروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة ما لا أصل له فى الهمز، فقالوا أواخر وأويخر (وهذا هو الدليل المؤسس أو قياس المساوى).
(ب) ثم قال. ومن ذلك أنا لم نجد كلمة عينها همزة، ولأمها كذلك. كما وجدنا ذلك فى سائر أخوات الهمزة الحلقية كقولهم مهاه، وفهّ، ويدع اليتيم فإن لم يجمعوا بين الهمزتين فى الموضع الذى جمع فيه بين أخواتها وكررت دلالة على رفضهم لجمعها وإذا لم يتوال ذلك فى بنات الثلاثة فألا يتوالى ذلك فى بنات الأربعة أولى
(وذلك هو البرهان المقوى أو قياس الأولى).
(ح) ثم يأتى باعتراض ويرده فى قوله: فأما نحو قأقأ، وطأطأ، وبأبأ الصبى أباه فقد حجز الحرف بينهما، وإنما الذى ينكر، تواليهما من غير أن يحجز بينهما شىء (1).
(وذلك هو ما سميته البرهان السلبى، أو قياس الأدنى)
* * * وهكذا يتنوع القياس عند أبى على، وأود أن أذكر أنى لم أقصد فى تعداد هذا النوع الحصر، فهناك ضروب من القياس تدخل فى بعض الأنواع السابقة حينا، وتستقل عنها حينا (2).
ولكنى أردت إعطاء صورة تؤيد هذه النزعة التى جرى عليها أبو على، حتى يتبين فرق ما بينه وبين السابقين.
وأنتقل إلى بيان المظهر الآخر الذى يميز أبا على فى قياسه عن الأئمة السابقين:
ذلكم التعمق فى القياس:
__________
(1) الحجة: 1/ 188وما بعدها مراد الملا.
(2) راجع الاقتراح للسيوطى: 39وما بعدها (كتاب القياس).(1/226)
أما تعمقه فى القياس: فيلقاك فى كثرة غامرة من كتابه الحجة، وفى مظاهر متعددة، فهو يقايس حتى لا يكاد يخلو احتجاج لآية من قياس ويسلك فى قياسه سبيل المناطقة فى التدليل والتعليل، واكتفى بمظاهر ستة تشرح سلوكه فى تعمق القياس:
أولا: قضايا من الشكل الأول: فتراه أحيانا يصوغ الدليل فى صورة قضية منطقية ذات مقدمات ونتيجة، وأقرأ معى ذلك الكلام تجده يسير فيه سيرا منطقيا يؤلف قضية من الشكل الأول: قال:
وأما قولنا فى وصف القديم (سبحانه) المؤمن، فإنه يحتمل تأويلين، وبعد أن ذكر أحدهما قال: والآخر أن يكون معناه المصدق، أى المصدق الموحدين له على توحيدهم إياه، يدل على ذلك قوله {«شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ»}. ألا ترى أن الشاهد مصدق لما يشهد، كما أنه مصدق من يشهد له، فإذا شهد سبحانه بالتوحيد فقد صدق الموحدين (1).
ويؤلف هذا الكلام قياسا من الشكل الأول يمكن وضعه على الصورة الآتية:
صغرى، وكبرى، ونتيجة.
الصغرى: الله شاهد بالتوحيد فى قوله تعالى: {«شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ»}
الكبرى: وكل شاهد مصدق لما يشهد به (أى التوحيد) كما أنه مصدق من يشهد له (أى الموحدين).
النتيجة: فالله مصدق للتوحيد، والموحدين.
وأقرأ تدليله على «المشابهة المعتبرة بين الهاء، والياء، مشابهتهما الألف تجده كذلك قياسا من الشكل الأول (2)
__________
(1) الحجة: 1/ 216215البلدية.
(2) الحجة: 1/ 122البلدية.(1/227)
ثانيا: القياس الاستثنائى الانفصالى: وأبو على مغرم بذلك القياس، يقدمه للتدليل على كثير من المسائل، فمثلا العامل فى حيث من قوله تعالى: {«اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ»} لا يخلو من أن يكون أعلم هذه المذكورة أو غيرها، وأن عمل أعلم فلا يخلو من أن يكون ظرفا أو غير ظرف، فلا يجوز أن يكون العامل فيه أعلم هذه ودلل، ثم انتهى من ذلك إلى أن العامل فى حيث فعل يدل عليه أعلم (1).
ثالثا: وهناك ما يشبه القياس الاقترانى المضمر الحملى وذلك قوله: وقول موسى (عليه السلام) {أَعُوذُ بِاللََّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ} فى جواب {«أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً»} يدل على أن الهازئ جاهل (2).
وقوله: قوله تعالى: {«وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ»} فى المعنى مثل {«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ»}
وكذلك قوله تعالى: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمََاتِ}، لأن وصف البصر بالكون فى الظلمات بمنزلة الوصف بالعمى، وكذلك وصفه يكون الغشاوة عليه، لأنه فى هذه الأحوال كلها لا يصح له إبصار (3).
رابعا: وتراه يدفع الفارق فى القياس حتى يصح وليجرى حكما واحدا على المتقايسين قال:
«فان قلت: إن الألف التى شبهت بها الهاء فى عليهم ودارهم لا تكون إلا ساكنة، وهذه الهاء متحركة فكيف وفقت بينهما مع اختلافهما من حيث ذكرنا؟
قيل: إن هذا الذى ذكرت من الخلاف بينهما لا يوجب لهما اختلاف حكم بينهما وبين الألف فيما ذكرنا لأنهم قد جعلوا الهاء متحركة بمنزلة الألف الساكنة»، ثم أخذ يدلل على هذه القضية الأخيرة (4).
خامسا: ومن أسباب الغلط فى القياس تحريفه، والجهل بقياسيته (5)، ومن هنا تراه لا يجعل علة ما ليس بعلة وذلك حيث يقول: «وليست الدلالة على أن ضمير الجمع المجرور أو المنصوب أصله الضم انضمام الهاء فى هم» (6).
__________
(1) الحجة: 1/ 17.
(2) الحجة: 1/ 384مراد ملا.
(3) الحجة: 1/ 308مراد ملا.
(4) انظر الحجة: 1/ 61، 192البلدية وانظر كذلك 1/ 388مراد ملا.
(5) انظر الاشارات والتنبيهات لابن سينا: 292289.
(6) الحجة: 1/ 121120بلدية.(1/228)
سادسا: ويرد فى كلام أبى على «العموم والخصوص الوجهى» فكل موضع جاز فيه الكسر فالضم فيه جائز (1)، وأما الانذار فاعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا (2).
ومثل الانذار فى أنه ضرب من العلم قولهم اليقين: فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا (3).
وأنتقل إلى الفارق الثالث بين أبى على والسالفين فى القياس وذلك:
تحكيم القياس فيما هو ثابت بالأثر: وكتاب الحجة كله قائم على ذلك، وقد حاول أبو على أن يجرى مقاييس العربية على القراءة ما وجد إلى ذلك سبيلا، فهو يجرى وراء القياس إلى أبعد الحدود، ولا يقول بالأثر المنقول إلا إذا لم يكن منه بد، كما فعل فى تعليله إمالة حمزة ما كان منسوقا بالواو من فعل الإحياء (4)، وذلك حيث يقول: «ولعل حمزة اتبع فى ذلك أثرا، لأن القراءة ليست موقوفة على مقاييس العربية دون اتباع الأثر فيها». ثم نراه مع ذلك يوجه ما ذهب إليه الكسائى من ترك الفصل بين الفعل الذى قبله واو أو فاء وبين ما ليس قبله من ذلك شىء، وذلك حيث يقول: «وما ذهب إليه الكسائى
هو الوجه فى قياس العربية» (5)، بل أحيانا إذا أعوزه القياس لا يحتج بالأثر، فتراه يقول: «وليس له وجه» (6).
وقد لحظت أن ما كان من القراءات موافقا للقياس وصفه أبو على بالحسن والجمال (7) وما لم يكن موافقا وصفه بالقبح (8). ويقرر أن الحمل عليه والرد إليه ينبغى ألا يجوز ما وجد عنه مندوحة (9).
وإنه ليبلغ الغاية فى الاعتداد بالقياس حين يقرر أن الكتاب جاء عليه: اقرأ
__________
(1) الحجة: 1/ 123بلدية.
(2) الحجة 100/ 172مراد ملا.
(3) المصدر السابق 1/ 174.
(4) يذهب حمزة إلى عدم إمالة الفعل أحيا إذا كان منسوقا بالواو، ويميل ما كان منسوقا بالفاء، ولا يفرق الكسائى فيميل المنسوق بالفاء والواو. انظر قرة العين فى الفتح والامالة.
وبين اللفظين لابن القاصح سورة البقرة.
(5) الحجة: 290مراد ملا.
(6) الحجة: 7/ 381البلدية.
(7) انظر الحجة: 1/ 382361البلدية.
(8) انظر الحجة: 1/ 214.
(9) الحجة: 1/ 224من البلدية.(1/229)
قوله فى وقف حمزة على جزء فى الجر، والرفع (1) قال أبو على: فان وقف بالجر والرفع أسكن الزاى فى اللغة الشائعة فقال: «هذا جز، ومررت بجز، وإن كان ممن يقول هذا فرجّ فثقل لزمه أن يثقل الحرف الذى ألقى عليه حركة الهمزة، فاذا عضد هذا القياس أن يكون الكتاب عليه جمع إليه موافقة الكتاب، وإنما جاء الكتاب فيما نرى على هذا القياس (2).
أرأيتم كيف يجعل الكتاب تابعا للقياس؟ وأن القياس هو الأصل عنده وما ثبت بالنقل والأثر هو الفرع؟ وذلك عندى غاية ما يعتد به فى أمر القياس حتى يحكمه أبو على على هذه الصورة فى كتاب الله!
* * * وبعد فتنوع القياس عند أبى على، وتعمقه فيه، وتحكيمه إياه فيما هو ثابت بالنقل والأثر كل ذلك يحقق ما روى ابن جنى عنه إذ يقول: «قال له أبو على (رحمه الله) بحلب سنة ست وأربعين» أخطئ فى خمسين مسألة فى اللغة، ولا أخطئ فى واحدة من القياس (3).
ولا يعتذر لأبى على من نزعته فى الاحتجاج، وتحكيمه القياس على النحو الذى بيّنت إلا ما استظهرته آنفا من أنه حكم القياس فى القراءات دفاعا، ومحمية للكتاب الكريم أمام هؤلاء المكابرين المعاندين الطاعنين (4).
ولموقف أبى على من القياس أرى أنه كتب الحجة بروح النحوى لا بروح القارئ، فإذا أضفت إلى ذلك موقفه من القراءات الصحيحة التى تخالف مذهبه النحوى (5)، وكثرة تعرضه للمسائل النحوية والصرفية، والبرهنة على ما يراه من هذه المسائل برهانا قائما على التدليل المنطقى فى تقص واستطراد (6) إذا أضيف ذلك عرفنا السبب فى جفوة القراء عن حجته، وبعدهم منه، وصدودهم عنه، حتى عدوه كتاب نحو بما فيه من تخريج ودراية، لا كتاب قراءات يتبع فيه التلقى والرواية.
* * * __________
(1) الرفع كما فى قوله تعالى: لكل باب منهم جزء مقسوم «وأما جزء بالجر فلم ترد فى القرآن الكريم. راجع مفتاح كنوز القرآن.
(2) الحجة: 1/ 388مراد ملا.
(3) الخصائص: 1/ 483.
(4) انظر مطلع الحديث عن الحجة فى هذا البحث.
(5) بينت ذلك فى مكان آخر.
(6) ضربت أمثلة لاستطراده عند الكلام على نهجه فى الحجة.(1/230)
ويجدر بى وأنا أتحدث هنا عن القياس أن أذكر الرأى فى أمر فهمه الأستاذ أحمد أمين على غير وجهه، وقرره فى بحث ألقاه على مؤتمر المجمع، وناقش المؤتمرون هذا الرأى دون أن يفطنوا إلى الحقيقة فيه، وتناقل العلماء فى كتبهم ما انتهى إليه الأستاذ أحمد أمين خطأ عن رأى أبى على فى القياس. والدراسة الفاحصة تقضى بالرجوع إلى كتب أبى على، والاتصال بنصوصه فيها، حتى نظفر بنتائج صحيحة، ويستقيم لنا الحكم على أبى على ونظرته فى القياس، وتقويم الرأى فيه:
فماذا قال الأستاذ أحمد أمين؟
ألقى الأستاذ بحثا بعنوان مدرسة القياس فى اللغة «فى الجلسة التاسعة من جلسات مؤتمر المجمع فى دورته الخامسة عشرة».
قسم الأستاذ المشتغلين بالعلم ومنهم اللغويون والنحاة إلى أحرار، وهم الذين يقيسون ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص ومحافظين يلتزمون ما ورد فى اللغة، ولا يخرج منه بحال من الأحوال (1)، وقرر أن من اللغويين المحافظين الذين وقفوا عند ما ورد الأصمعى وابن الأعرابى، وأبا زيد، واستدل على محافظتهم بأنهم لم يكونوا يستبيحون لأنفسهم أن يقولوا كلمة، أو يشتقوا اشتقاقا إلا عن سماع، وكذلك جعل منهم أصحاب المعاجم كالجوهرى، والقيروزآبادي، وابن منظور لأنهم لم يقيسوا على ما رووا (2).
ثم جعل بجانب هؤلاء قلة من القياسيين ممثلة فى أبى على الفارسى، وتلميذه ابن جنى، واستدل المرحوم أحمد أمين على قياسية أبى على فنسب إليه العبارة الآتية:
«ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب» (3)، وقوله: «لأن أخطئ فى خمسين مسألة بما به الرواية أحب إلى من أن أخطئ فى مسألة واحدة قياسية»، وقول أحد تلاميذه: أحسب أن أبا على قد خطر له، وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا (4).
__________
(1) انظر محضر الجلسة التاسعة من الدورة الخامسة عشرة ص (2).
(2) انظر نهاية ص 4من المحضر المذكور.
(3) قائل هذه العبارة أبو عثمان المازني «ت 247هـ» لا أبو على انظر الخصائص: 1/ 362 (والاقتراح: 26).
(4) يبدو واضحا اعتماد الدكتور إبراهيم أنيس على هذه المحاضرة فى كلامه عن القياس:
قابل ص 20من أسرار اللغة وص 4، 5من محاضرة الدكتور أحمد أمين. ومن هنا اكتفى بمناقشة الدكتور أحمد أمين ففي ذلك غناء عن مناقشة من نقل عنه.(1/231)
ونصوص أبى على كاشفة عن رأيه فى القياس على غير ذلك الذى انتهى إليه الأستاذ أحمد أمين، وفيها يبدو أبو على أقرب إلى المحافظين منه إلى المجددين، واقرءوا نصه الذى قال فى الحلبيات: «ولو لم يعاضد القياس السماع حتى يجيء السمع بشيء خارج عن قياس لوجب اطراح القياس، والمصير إلى ما أتى به السمع، ألا ترى أن التعلق بالقياس من غير مراعاة السمع منه يؤدى إلى الخروج عن لغتهم والنطق بما هو خطأ فى كلامهم؟ فلو أعللت استحوذ، ولم تراع فيه السماع وقلت: «انه جاء معلا نحو استعاد، واستفاد، فكذلك أعل هذا المثال قياسا على الكثير الشائع، لكنت ناطقا بغير لغتهم، ومدخلا فيها ما ليس منها، فالقياس أبدا يترك للسماع، وإنما يلجأ اليه إذا عدم فى الشيء السمع، فأما أن يترك السماع للقياس فخطأ فاحش، وعدول عن الصواب بين. ألا ترى أنه يجوز فى القياس أشياء كثيرة نحو الجر فى لدن غدوة، والضم فى لعمرك فى القسم، واستعمال الماضى فى يذر ويدع، وإيقاع أسماء الفاعلين أخبارا لكاد، وعسى ثم لا يجيء به السماع فيرفض ولا يؤخذ، ويطرح ولا يستعمل، ويكون المستعمل لذلك آخذا بشيء رفضه أهل العربية كما رفضوا استعمال سائر اللغات التى ليست بلغة لهم، وهذا طريق يؤدى سالكه إلى خلاف ما وضعت له العربية لأن هذه العلل إنما تستخرج من المسموعات بعد اطرادها فى الاستعمال، لتوصّل إلى النطق به على حسب ما نطق به أهل اللغة العربية، وتسوى فى الفصاحة بمن أدركها، ويأمن بتمسكه بها الزيغ عن لغة الفصحاء المعربين إلى لغة من لم يكن على وصفهم، فإذا أدى إلى خلاف ذلك وجب أن ينبذ ويطرح من حيث كان ضدّا عما له وضعت هذه الصناعة، واستخرج من أجله هذا العلم (1).
ولهذا النص دلالات:
أولها: ما يجوز فى القياس، ولا يجيء به السماع يرفض، ويطرح ولا يستعمل أو كما يقولون: «يحفظ ولا يقاس عليه».
ثانيها: القياس على الشاذ خطأ، والأخذ به أخذ بشيء رفضه أهل العربية، وادخال فيها لأجنبى عنها ليس منها
ثالثها: يسوى أبو على الأخذ بالقياس على الشاذ باستعمال سائر اللغات الأجنبية عن لغة العرب.
__________
(1) الحلبيات: نحوش ورقة 52.(1/232)
رابعها: السماع مقدم على القياس، وترك السماع للقياس خطأ فاحش، ولا يلجأ إلى القياس إلا إذا عدم السماع.
خامسها: الغرض من القياس تمكين غير العربى من النطق بما نطق به أهل العربية، وتسويته فى الفصاحة بأهلها، وذلك لا يكون إلا بالقياس على المسموعات المطردة فى الاستعمال.
وسادسها: أن أبا على يقف موقفا وسطا بين المحافظين والمجددين، بل كان محافظا فى تجديده، فالقياس فى اللغة أمر دعت إليه الحاجة فيؤخذ به على مقدارها (1)، ومن هنا توسط فى القياس، فرأى أن ما لم يسمع لا يقاس عليه حتى ولو كان المقيس عليه كثيرا شائعا، وهذه نظرة محافظة، فالقياس عنده على المسموع الوارد، لا على الذى لم يرد. ثم هو بعد ذلك يرى اللجوء إلى القياس إذا عدم السماع، فإذا جاءت الرواية لم يرد بالقياس (2)، وهناك فريق أفسح طريق القياس، ووسع ميدانه على وجه لم يقره أبو على ومن هؤلاء المبرد، فقد رأى سيبويه أن أما فى قول الشاعر:
«أيا خراشة أما أنت ذا نفر» لا يذكر بعدها الفعل المضمر لأنه من المضمر المتروك اظهاره حتى صار ساقطا بمنزلة تركهم ذلك فى النداء (3). وجوز أبو العباس المبرد فى القياس وقوع الفعل بعد أن، ولم ير ذلك ممتنعا، وتعقبه أبو على فى البغداديات فقال:
«فأما ما ذكر أبو العباس فى الرد من أنه لا يرى وقوع الفعل بعد أن هذه ممتنعا، وأنه جائز عنده فى القياس فكالمغالطة، ألا ترى أنه قد يجوز فى القياس أشياء كثيرة لا يجيء به الاستعمال وكذلك إظهار الفعل فى هذا الموضع لا يجوز لشذوذه عن عن الاستعمال، وإن أجازه القياس ثم كرر رأيه الذى ذكره فى الحلبيات من أن العلل إنما تستخرج، وتوضع بعد سماع الشيء واطراده فى الاستعمال ليوصل إلى النطق بالشىء على حسب ما نطق به أهل اللغة، فإذا أدى إلى خلافه، وجب أن يشذ ويطرح، فحكم السماع فى أن يتقدم القياس، فإذا لم يتقدمه فلا موضع للقياس وقرر بعد ذلك أنه لا يقاس على الشاذ فى قوله:
__________
(1) انظر القياس فى اللغة للأستاذ محمد الخضر حسين (رحمه الله): 52.
(2) الحجة: 1/ 363مراد ملا.
(3) انظر الكتاب: 148.(1/233)
«فإذا لم يسمع الشيء إلا على بينه، ولم يحفظ إلا على هيئة، فلا معدل عنه إلى سواه، ولا مجاوزة فيه إلى ما عداه ما لم يسمع منهم فلم يحفظ عنهم، فعلى هذا مجرى القياس النحوى وحكمه (1)»
فهل يعد أبو على بعد هذه النصوص الصريحة مجددا؟ وهل نعتبره من اللغويين الأحرار بعد هذه القيود التى وضعها للقياس؟؟ والتى حرص على ترديدها فى كتبه المختلفات، فى البغداديات، وفى الحلبيات، وفى الحجة، على أنى رأيته فى العسكريات (2) يورد أقسام الشاذ ويجعلها ثلاثة:
(ا) الشاذ عن الاستعمال المطرد فى القياس. (ب) والمطرد الاستعمال الشاذ عن القياس.
(ح) الشاذ فى الاستعمال وعن القياس، ثم يرفض هذه الأقسام جميعا، ولا يأخذ إلا بالمطرد فى القياس والاستعمال: (السماع) متفقا فى ذلك مع نظرة المحافظين (3).
وهكذا يكرر أبو على فى كتبه رأيه فى القياس ويصور لنا هذا الرأى أبا على أقرب إلى المحافظين منه إلى المجددين، وإذا كان الأمر كذلك فما تفسير قوله:
«أخطئ فى خمسين مسألة فى اللغة، ولا أخطئ فى واحدة من القياس؟ وكيف لا تجعله هذه القولة من الأحرار المجددين كما ذهب إليه الاستاذ أحمد أمين؟»
تفسيرها ما انتهيت إليه فى غضون هذا الفصل من أنه نوّع القياس، وتعمق فيه، وحكمه فيما هو ثابت بالنقل والأثر، فخرج القراءات، واعتبرها بما ورد فى اللغة، وما سمع منها، وكانت براعته فى القياس دليلا على رسوخ قدمه فى الصنعة فأحب إلى نفسه أن يخطئ فى اللغة، ولا يخطئ فى القياس حتى أنه ليتجاوز عن خطئه فى خمسين مسألة لغوية، ثم يعدها كبيرة إن أخطأ فى واحدة من القياس. وما كان الرجل خطّاء فى اللغة أو القياس، ولكنه أخرج العبارة مخرج ما يعتبر الناس.
وبعد، فقد وصف الأستاذ أحمد أمين صاحبى بالحرية والتجديد، وكنت أود
__________
(1) البغداديات لوحة 35، 26.
(2) العسكريات لوحة 134.
(3) انظر من أسرار اللغة للدكتور إبراهيم أنيس ص 20وما بعدها.(1/234)
أن يكون كذلك، لولا أن سبيلى هنا تصحيح الرأى، وتقويم أبى على بما له وما عليه فى انصاف بعيد عن التحيز، ومن غير محاباة أو محاماة، مستدلا بالنصوص الواردة فى كتب الشيخ، وبأقواله الشاهدة على نزعته، ومما يتصل بهذا مسألة أخرى فهم فيها أبو على على غير رأيه، ووصف فيها كذلك بالتجديد تلكم ما رآه بعض الناس فى زماننا حول ما أسموه مشكلة الاعراب، وفيما يلى تناول رأى أبى على بالتحقيق:
نجمت فى أيامنا هذه دعوة إلى ترك الإعراب، واستعان أصحاب هذه الدعوة بسيبويه وصاحبى أبى على يتكئ الداعون على نصوصهما فى تأييد ما إليه يذهبون، وقال هؤلاء:
«إنه قد وردت آيات أسكنت فيها حركات الاعراب مثل قوله تعالى:
{«وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ»} باسكان التاء. ومثل: {«وَمََا يَعِدُهُمُ الشَّيْطََانُ»} ومثل:
{«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ»} باسكان الدال فيهما، ومثل «فتوبوا إلى بارئكم، باسكان الهمز.
قالوا: وقد تناولها علماء القراءات بالبحث فرجعوها إلى أصولها (1). وأوردوا نص أبى على الذى يقول فيه: «أما حركة الإعراب فمختلف فى تجويز اسكانها، فمن الناس من ينكر فيقول: «إن اسكانها لا يجوز من حيث كانت علما للاعراب، وسيبويه يجوز ذلك فى الشعر (2).
ومن الحق على وموضوع بحثى أبو على، أن أتناول هذه الدعوة بالتمحيص والنقاش فأقول:
يسقط دعوى هؤلاء من أساسها أن سيبويه وأبا بكر بن مجاهد رويا عن أبى عمرو فى قوله تعالى: {إِلى ََ بََارِئِكُمْ} اختلاس حركة الاعراب: ذلك الاختلاس الذى يسرع فيه القارئ باللفظ إسراعا يبقى على الحركة ويحذفها، ولم يرويا الاسكان أصلا، ووافقهما أبو على محتجا للاختلاس لا للاسكان فى قوله تعالى: {إِلى ََ بََارِئِكُمْ،}
و {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ،} و {يَلْعَنُهُمُ اللََّهُ} (3).
وقد عقد سيبويه فصلا فى الكتاب سماه «باب الإشباع فى الجر والرفع وغير الإشباع والحركة كما هى» قال فيه: «فأما الذين يشبعون فيمططون، وعلامتها
__________
(1) انظر الرسالة الجديدة: العدد الحادى عشر / 8.
(2) انظر الهلال: فبراير 55مشكلة الإعراب.
(3) انظر الحجة: 1/ 366مراد ملا.(1/235)
واو وياء وهذا تحكمه لك المشافهة، وذلك قولك: يضربها ومن مأمنك وأما الذين لا يشبعون فيختلسون اختلاسا، وذلك قولك يضربها، ومن مأمنك يسرعون اللفظ. ومن ثم قال أبو عمرو إلى بارئكم، ويدلك على أنها متحركة قولهم: من مأمنك فيبينون النون، فلو كانت ساكنة لم تحقق النون (1)».
صحيح ورد فى كتاب سيبويه تسكين المرفوع، والمجرور فى الشعر، وقد جعله النحاة من أقبح الضرورات (2).
ومثل ما قال إمام النحاة روى شيخ القراء: ابن مجاهد فقال: اختلفوا فى «بارئكم» فى كسر الهمزة، واختلاس حركتها، وذكر القراء الذين يكسرون، والذين يقرءون باختلاس الحركة، وأورد ما روى سيبويه عن أبى عمرو، وما حدثه الشيوخ عن أبى عمرو أيضا فى قراءته» ويعلمهم الكتاب، ويلعنهم باشمام الميم والنون التى قبل الهاء الضم من غير اشباع، وكذلك عن أسلحتكم وأمتعتكم، ويزكيهم ويعلمكم، ويوم يجمعكم، وكذلك قراءته «يأمركم ويأمرهم وينشركم وما أشبه ذلك من الحركات المتواليات. ثم أورد ابن مجاهد قول اليزيدى فى ذلك كله أن أبا عمرو كان يسكن اللام من الفعل فى جميعه، ولكنه رد ذلك بقوله: «والقول ما خبرتك من إيثار أبى عمرو التخفيف فى قراءته كلها (3).
وجاء أبو على من بعد سيبويه وأبى بكر وقبل أن يحتج لما ذكر أبو بكر من اختلافهم فى بارئكم» تحدث فى الساكن والمتحرك من حروف المعجم، وضروب كل منهما، وقسم الحركة إلى حركة اعراب، وحركة بناء، وذكر أن حركة البناء لا خلاف فى تجويز اسكانها، وأما حركة الاعراب فمختلف فى تجويز إسكانها، قال: «وسيبويه يجوز ذلك، ولا يفصل بين القبليين فى الشعر» وذكر فيما ذكر الشواهد الشعرية التى رواها سيبويه فى الكتاب (4). ثم برهن على ما يرى سيبويه، فجاء برهانه على جواز إسكان حركة الاعراب فى الشعر، لا فى سعة الكلام (5).
__________
(1) الكتاب: 2/ 297.
(2) انظر شرح الشواهد للشنتمرى: أسفل الكتاب: 2/ 297.
(3) انظر الحجة: 1: 360وما بعدها.
(4) انظر: 2/ 297.
(5) انظر الحجة: 1/ 364مراد ملا.(1/236)
ثم خلص من ذلك إلى الاحتجاج لقراءة أبى عمرو بالاختلاس، واتفق مع سيبويه وابن مجاهد فقال: «لعل من رواها عن أبى عمرو بالإسكان سمعه يختلس فحسبه لضعف الصوت به والخفاء إسكانا، وعلى هذا يكون قوله: «ويعلمهم الكتاب ويلعنهم الله، وكذلك عن أسلحتكم، وأمتعتكم، ويزكيهم ويعلمهم، ويوم يجمعكم، ولا يأمركم» هذا كله على الاختلاس مستقيم، ومن روى عنه الاسكان وقد جاء ذلك فى الشعر فلعله ظن الاختلاس إسكانا (1).
وهذا أبو سعيد السيرافى يرى أن نحو «وقد بدا هنك من المئزر» مرفوع تركت ضمته استثقالا (2). وكذلكم قرر ابن جنى فى الخصائص أن قراءة أبى عمرو إلى بارئكم بالاختلاس غير ممكن كسرة الهمزة، «حتى دعا ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ إلى أن ادعى أن أبا عمرو كان يسكن الهمزة، والذى رواه صاحب الكتاب اختلاس الحركة لا حذفها البتة، وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكنا» ثم يعتذر ابن جنى من موقف القراء، ولعله يقصد اليزيدى فيقول: «ولم يؤت القوم فى ذلك من ضعف أمانة، لكن أتوا من ضعف دراية (3).
أبعد هذه النصوص الصريحة يدعو الداعون إلى جواز إسكان حركة الاعراب؟
إن سيبويه لم يرو الإسكان إلا فى الشعر، واحتج أبو على لهذا الذى روى سيبويه، فهل تجعل الضرورة الخاصة قاعدة عامة يؤخذ بها فى سعة الكلام؟
إلى أن سيبويه، وابن مجاهد، وأبا على، والسيرافى، وابن جنى ويتفق معهم ابن خالويه (4) لا يقولون بالاسكان فى إلى بارئكم ونحوه، ويؤولون ما ورد عن اليزيدى بما رأينا، فكيف ينسب أصحاب هذه الدعوة إلى سيبويه، وأبى على، ومن لف لفهما ما نسبوا؟ وكيف يرتبون على ذلك القول بجواز ترك الإعراب؟؟
وبعد: فكم كنت أود لو أن صاحبى قد سبق إلى روح التجديد كما يقول أصحاب هذه الدعوة وأن المجددين يجدون فى نصوصه دليلا يؤيدون به ما إليه يتجهون.
ولكن النصوص كما رأينا لا تعين على صحة ما يذهب إليه هؤلاء الداعون (5).
__________
(1) الحجة: 1/ 366.
(2) شرح السيرافى على سيبويه: 3/ 649، 650.
(3) الخصائص: 1/ 75.
(4) انظر الحجة لابن خالويه: ورقة 9وجه.
(5) أردت أن أبين حقيقة موقف أبي على من هذه الدعوة غير مسترسل فى التعرض إلى الدعوة ذاتها بالتفنيد، أو التأييد، فليس هنا لشىء من ذلك مجال.(1/237)
علل أبى على وتقويمها
بعض تعليلات أبى على مصطنع، يجتهد فيه على حسب ما يحضره فى الحال، فيبدو عندئذ التمحل فى التعليل والاستدلال، من ذلك طلب عضد الدولة منه تعليل نصب الاسم الواقع بعد إلا فى نحو «خرج القوم إلا زيدا» فيعلل الشيخ، ويراجعه عضد الدولة، فينطق أبو على بما يدل على أن تعليله من قبيل الاجتهاد فى التماس العلة، واصطناعها، والتمحل فيها، وذلك إذ يقول: «هذا جواب ميدانى، وإذا رجعت ذكرت لك الجواب الصحيح» (1)، ويسجل أبو على نحوا من هذا على نفسه فى مسألة أخرى، وذلك ما يحكى ابن جنى عنه «كان أبو على (رحمه الله) يقول فى هيهات: أنا أفتى مرة بكونها اسما سمى به الفعل كصه ومه، وأفتى مرة أخرى بكونها ظرفا على قدر ما يحضرنى فى الحال» (2).
وهذا التعليلات على ما فيها من صناعة تدل على ما عند أبى على من براعة، حيث يستطع أن يفتى بأمرين متخالفين، ويلتمس العلة لكل منهما مع تخالفهما، وقد برهن فى البغداديات على أن ما فى قوله تعالى {«وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ»} حرف (3) ثم عاد فى الشيرازيات، وبرهن على أنها موصولة (4).
وإذا كانت النظرة المجددة لا تلقى بالا لهذه العلل النحوية المصطنعة (5)، ونرجو بحق أن يتخلى النحو عنها تخليا تاما (6) فإن التخريجات النظرية كانت دليلا على رسوخ القدم فى الصنعة، فى عصر تفلسفت العلوم فيه، وشاع ذلك التفلسف فى فروع العلم المختلفة وفيها النحو. وآية ذلك ما قال أبو على فى الألف من يا فى قول الشاعر:
فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعى المثوب قال: يا لا
__________
(1) نزهة الألباء: 210، والانصاف: 1/ 170وكان الشيخ يسير مع عضد الدولة فى الميدان بشيراز.
(2) الخصائص: 213.
(3) البغداديات: لوحة 22.
(4) الشيرازيات: لوحة 129.
(5) انظر الرد على النحاة لابن مضاء: وإحياء النحو لابراهيم مصطفى.
(6) انظر الاجتهاد فى النحو العربي لأمين الخولى: 13.(1/238)
وذهابه إلى أنها خلطت باللام بعدها، ووقف عليها، فصارت اللام كأنها جزء منها فصارت (يال) بمنزلة قال، والألف فى موضع العين وهى مجهولة فينبغى أن يحكم عليها بالانقلاب عن الواو!! وما أثار هذا التعليل المصطنع من اعجاب ابن جنى حتى يقول فيه وفى الشيخ: «وهذا أجمل ما قاله، ولله هو! (وعليه رحمته)! فما كان أقوى قياسه!، وأشد بهذا العلم اللطيف الشريف أنسه! فكأنه إنما كان مخلوقا له، وكيف لا يكون كذلك، وقد أقام على هذه الطريقة مع جلة أصحابها، وأعيان شيوخها سبعين سنة، زائحة علله، ساقطة عنه كلفه، وجعله همه وسدمه (1).
وابن جنى يشير فى نصه هذا إلى أسباب أخرى لبراعة أبى على فى التعليل والقياس، فهو قد تمرس به، زمنا طويلا، واتجه بهمته إليه، وعكف فارغ البال عليه، (حتى انتزع كما يقول ابن جنى من العلل ثلت ما وقع لجميع أصحابه!!) (2)
وأرى أن يضاف إلى ما ذكر ابن جنى من الأسباب ثقافة أبى على العربية الشاملة، وإكبابه على الكتاب، مع ذكاء، وقوة حافظة، وسرعة استحضار.
* * * بجانب هذه التعليلات المصنوعة تعليلات أخرى يتهدى فيها الشيخ بالحس النفسى (3) أو بالنظر البلاغى، كقوله فى إعراب صبيا من قوله تعالى: {«كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا»}؟ أنه حال من نكلم أى كيف نكلمه صبيا؟ وإن جعلته حالا مما فى المهد كان الأول أحسن لأنه أدل على موضع المعجزة (4).
* * * ومن المهم أن أذكر وأنا فى صدد تقويم أبى على فى تعليله أن الرجل فطن فى بعض ما علل إلى ما يقوله المحدثون من علماء اللغة والأصوات، فقد أورد فى معرض الاحتجاج لقراءة عليهم بالكسر، وترجيحها هذا الاعتراض:
__________
(1) الخصائص: 1/ 285284.
(2) الخصائص: 215ولست أرى لم قدر ابن جنى الثلث ولم يزد ولم ينقص: وعلى أى أساس قاس هذا التقدير؟.
(3) انظر بحث الشيرازيات وانظر لوحتى 43، 74من هذه المسائل.
(4) البصريات: 85.(1/239)
فإن قال قائل: «إن الضمة هى الأصل فى عليهم، وبهم، ونحو ذلك، بدلالة أن علامة المضمر المجرور كعلامة المضمر المنصوب المتصل، وأن ما جاز فيه الكسر جاز فيه الضم، نحو بهو، وبدار هو الأرض، وليس كل ما جاز فيه الضم يجوز فيه الكسر، تقول هذا له، وسكنت دار هو، ولا يجوز كسر الهاء فى شىء من ذلك، وإذا كان استعمال الضم فيه أعم وكان الأصل، وجب أن يكون أوجه من الكسر»
قيل: «إن كون الضم الأصل ليس مما يجب من أجله أن يختار على الكسر مع مجاورة الكسرة أو الياء لأنه قد تحدث أشياء توجب تقديم غير الأصل على الأصل طلبا للتشاكل، وما يوجب الموافقة، ألا ترى أن الأصل الذى هو السين فى الصراط الصاد أحسن منه؟، وأن النون التى هى الأصل فى شنباء قد رفضت وترك استعمالها (1).
وأبو على فى هذا يلتقى مع نظرية للمحدثين من علماء الأصوات تلكم ظاهرة التشاكل) ((2)، وفيها يتحول أحد الصوتين المتجاورين أو المتقاربين إلى صوت من نوع الصوت الآخر، وقد قسموا ظاهرة التشاكل هذه قسمين:
(ا) فاذا تأثر الصوت الأول منهما بالآخر سمى ذلك التأثر رجعيا) ((3).
(ب) وإذا تأثر الصوت الآخر منهما بالصوت الأول سمى ذلك التأثر تقدميا) (.
وأرى أبا على قد جمع فى نصه السابق نوعى التأثر المذكورين، فكان التأثر فى قراءة عليهم وبهم من النوع التقدمى، إذ تأثرت حركة الهاء بالياء فى عليهم وبكسرة الباء فى بهم، فحركت من أجل ذلك بالكسرة طلبا للمماثلة.
وكان التأثر فى الصراط بالصاد وشنباء بالميم من النوع الرجعى، حيث قلبت السين صادا حتى تتشاكل مع الطاء لأنهما من حروف الاستعلاء والاطباق (4)، كذلك قلبت النون ميما فى شنباء حتى تتشاكل مع الباء، وهما حرفان شفويان (5).
__________
(1) الحجة: 1/ 46مراد ملا.
(2) انظر ص 70وتوابعها من
(3) انظر الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس 106وما بعدها واللهجات العربية: 51.
(4) ارتشاف الضرب: 8والنشر 1/ 202، 203.
(5) ارتشاف الضرب لأبي حيان: 5والنشر: 1/ 201.(1/240)
والتأثر الرجعى يدل على الاستعداد، والتأهب للنطق قبل أن يلابس المتكلم النطق بالحرف وهو عندى نوع من النشاط الفكرى والنطقى معا (1)، وفى اللغة العربية كان التأثر الرجعى أكثر شيوعا من التأثر التقدمى (2) مما يدل على أنها لغة نشاط فكرى ونطقى، لأنها لغة منطوقة قبل أن تكون مكتوبة، وذلك شىء يتصل بما يتصف به العرب من فصاحة وبيان، وقد لحظ ذلك أبو على، وأشار إليه، وإن لم يفصح به وذلك قوله: «قد تحدث أشياء توجب تقديم غير الأصل على الأصل طلبا للتشاكل (3).
* * * وأمر آخر فطن اليه أبو على، والتقى فيه مع المحدثين، وأقره علماء الأصوات منهم، ذلك قوله: أواخر الآى موضع وقوف، والوقوف رأيناه قد أوجب إعلالا فى الموقوف عليه، وتغييرا عما عليه فى الوصل» ويشرح ذلك فيقول: «ألا ترى أنهم قد أبدلوا من التاء الهاء فى نحو رحمة؟ ومن الألف الياء أو الواو فى نحو أفعى وأفعو؟ وزادوا فيه فى نحو هذا فرجّ، وهو يجلّ؟ ونقصوا منه فى نحو:
«وبعض القوم يخلق ثم لا يفر» (4).
ذلكم كلام أبى على، فماذا قال المحدثون؟ قالوا: «إن موقع الصوت فى الكلمة يعرضه لكثير من صنوف التطور والانحراف، وأكثر ما يكون ذلك فى الأصوات الواقعة فى أواخر الكلمات (5). وأنتم ترون أن أبا على يلتقى مع المحدثين فى تقرير هذه القاعدة أولا، وفى ضرب الأمثلة لصنوف التطور من إبدال أو زيادة أو نقص ثانيا (6).
وتوفيق أبى على فى التعليل، والتقاؤه مع المحدثين ربما يرجع فى بعض منه
__________
(1) القراءات واللهجات العربية الامالة: 222.
(2) انظر القراءات واللهجات العربية الامالة: 272270.
(3) الحجة: 1/ 46مراد ملا.
(4) الحجة: 1/ 381وانظر 7/ 357من البلدية.
(5) انظر علم اللغة للدكتور على الواحد: 214وفقه اللغة له أيضا: 148.
(6) ألقى الدكتور عبد الوهاب عزام على مؤتمر المجتمع فى دورته الثانية والعشرين بتاريخ 12/ 1/ 1956بحثا عن «أحكام القوافى فى الانشاد» تعرض فيه لما يعترى القوافى من حذف أو زيادة، وتبادل المؤتمرون من أعضاء المجمع الرأى فى ذلك وتعليله. وكان يختصر لهم التعليل لهذه الظاهرة ما ذكره أبو على من أن الأواخر موضع وقوف، والوقف يوجب تغييرا مما عليه فى الوصل.(1/241)
إلى تأثره بما كان للهنود فى الاصوات من دراسات، وبما كان للقراء فى فن التجويد من تفصيلات (1).
العروض فى الحجة
لم يعرف عن أبى على أنه ألف فى العروض، أو القوافى، وإن كان تلميذه ابن جنى له فى ذلك كتاب العروض والقوافى، ومختصر القوافى (2)، وأبو على مع ذلك له صلة وثيقة بالعروض، ورجاله، فقد التقى منذ صباء الباكر بأبى جعفر البصير الموصلى العروضى، وكان إماما فى استخراج المعمى والعروض، وهو الذى قال له الزجاج يوما وقد سأله عن أشياء من العروض: يا أبا جعفر! لو رآك الخليل لفرح بك (3)
وقبل أن ينظر أبو على فى العروض كان يدلل على مسائله بما يعرف من مسائل النحو كجوابه عن خرم متفاعلن (4). وتدل كتب أبى على أنه اتصل بما ألف أبو الحسن الأخفش فى القوافى (5)، كما أنه اتصل كذلك بما ألف أحمد بن محمد أبو الحسن العروضى، وكان أماما فى العروض (6)، وتطالعك معرفة أبى على للعروض فى حديثه هنا وهناك فى كتاب الحجة: رأيته يسوق الشاهد الشعرى للتحدث فى قياس عروضى (7) أو لأمر يتعلق بالقافية، تحدث عن الروى، والتأسيس، والردف (8) وفى لزوم ما يلزم (9) وفى الضرورات الشعرية (10) ويسوق تعليلات تتعلق بالعروض أو القافية: لم تعاقبت السين والفاء فى مستفعلن التى هى عروض البيت الأول من المنسرح؟ (11) ولم وقعت الواو والياء ردفا فى قصيدة دون الألف (12)؟ كما دلل على أن الهاء فى وزن الشعر وإن كانت خفية تجرى
__________
(1) التطور النحوى للغة العربية: برجستراسر (ص 5).
(2) أنظر فهرس المخطوطات المصورة: 415وما بعدها.
(3) معجم الأدباء: 18/ 203، 204.
(4) انظر معجم الأدباء: 7/ 235وما بعدها.
(5) انظر الشيرازيات لوحة 18ولأبى الحسن كتاب القوافى فهرس المخطوطات المصورة: 416.
(6) معجم الأدباء: 4/ 232.
(7) الحجة: 1/ 61البلدية.
(8) المصدر السابق: 1/ 62.
(9) نفس المصدر: 1/ 63.
(10) الحجة: 1/ 73. ثم انظر العسكريات: 134.
(11) الحجة: 1/ 70وما بعدها.
(12) (نفس المصدر: 1/ 76).(1/242)
مجرى غيرها من الحروف التى لا خفاء فيها (1)، وعلى أن الهمزة المخففة فى الوزن مثل المحققة (2)، واستجازة حذف الحركة فى الزحاف (3)، ولفظ وسط الساكن الأوسط يستعمل ظرفا، فاذا اضطر الشاعر استعمله اسما، واستشهد على ذلك ببيت للفرزدق، وآخر للقتال الكلابى (4) كما رأيته يشبه فواصل الآيات بالقوافى (5)
وقد فعل ذلك الرمانى (6).
وكان لأبى على أثره عند المشتغلين بالعروض بعده: نقل تعليله لتعاقب السين والفاء فى مستفعلن السابقة الذكر الدمنهورى فى شرح متن الكافى (7)
كما نقل السيوطى فى الأشباه والنظائر كلام أبى على لابن جنى فيما يجوز من الضرورة فى الشعر، وأورده الدمنهورى فى آخر حاشيته على متن الكافى (8).
وهكذا يضع أبو على لبنة فى صرح العروض الذى ابتدأه الخليل، وانتهى إلى أبى على، وتسلمه تلاميذه من بعده.
(موقف أبى على من القراءات التى تخالف مذهبه، وتقويمه)
أقدم بين يدى هذا الموضوع نصوصا من كتب أبى على، ثم استنتج منها ما يدل على موقفه من القراءات التى تخالف مذهبه لتكون الأحكام صادرة عن بينة لا لبس فيها ولا غموض، ثم اتبع ذلك تقويم ما يذهب إليه أبو على.
(ا) أورد أبو على فى قراءة حمزة: {«وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ»}
قوله: «وأما من جر الأرحام فانه عطفه على الضمير المجرور بالباء وهذا ضعيف فى القياس، وقليل فى الاستعمال، وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن (9).
ثم أخذ يدلل على ضعف هذه القراءة فى القياس.
(ب) وقال: «وأما قول ابن عامر: {«وَكَذََلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ»} (10). فان الفعل المبنى للمفعول به أسند إلى القتل، فأعمل المصدر
__________
(1) الحجة: 1/ 199.
(2) 1: 267.
(3) (1/ 163).
(4) الحجة: 1/ 234233).
(5) انظر الحجة: 1/ 355البلدية.
(6) انظر النكت فى إعجاز القرآن مخطوط بالخزانة التيمورية رقم 298تفسير:
3936.
(7) انظر ص 60.
(8) انظر ص 112.
(9) الحجة: 3/ 229ن البلدية.
(10) الأنعام آية 133.(1/243)
عمل الفعل، وأضافه إلى الفاعل والمعنى «قتل شركائهم أولادهم» ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، والمفعول به مفعول المصدر، وهذا قبيح قليل فى الاستعمال، ولو عدل عنها إلى غيرها كان أولى (1).
(ج) رأى أن إعراب تقاة فى قوله: {«إِلََّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقََاةً} مصدر أوجه من إعرابها حالا مؤكدة لأن القراءة الأخرى «إلا أن تتقوا منهم تقيّة» (2).
(د) وقال: «ومما يجوز ذلك ويسوّغه يشير إلى تحقيق الهمزتين فى أأنذرتهم» أن سيبويه زعم أن ابن أبى إسحاق كان يحقق الهمزتين وأناس معه (3).
(هـ) ويقول فى العسكريات: وأما قراءة: {وَمِنْ وَرََاءِ إِسْحََاقَ يَعْقُوبَ} (4) بالفتح، فلا يخلو من أن تعطفه على الباء المجرورة كأنه أراد أنها بشرت بهما، أو تحمله على موضع الجار والمجرور على حد من قرأ «وحورا عينا «بعد» يطاف عليهم بكأس» والوجه الأول ليس بالسهل لأن الواو عاطفة على حرف جر، وقد فصل بينهما وبين المعطوف بها بالظروف، والآخر أيضا كذلك، وإن كان الأول أفحش، وهذا كما أعلمتك إنما نجده فى الشعر (5).
والذى قرأ (يعقوب بالفتح) ابن عامر، وحمزة من السبعة (6).
هذه النصوص لها الدلالات الآتية:
1 - أن أبا على أجرى مقاييس العربية على القراءات المروية، وأصدر أحكام القبح والحسن على هذه القراءات بمقدار ما لها من جريان على القياس.
فما اتفق من هذه القراءات مع تلك المقاييس كان حسنا، وما لم يتفق كان رديئا!!
2 - أنه يعتد بأقوال النحاة فيأخذ بها، ولا يعتد بالقراء السبعة إذا خالفوا فى قراءتهم مذهبه النحوى. (انظر العلة فى جواز أأنذرتهما بالتحقيق).
3 - أنه يأخذ بقراءة فوق السبعة ما دامت دليلا على ما هو بسبيله من قضية يبرهن عليها: فقارئ «إلا أن تتقوا منهم تقيّة» هو يعقوب بن إسحاق الحضرمى (7).
__________
(1) الحجة: 4/ 101ن البلدية.
(2) الحجة: 1/ 171ن البلدية.
(3) الحجة: 1/ 256ن البلدية.
(4) سورة هود آية 71.
(5) العسكريات لوحة: 135.
(6) انظر البحر المحيط: 5/ 244.
(7) انظر النشر: 2/ 239وإتحاف فضلاء البشر: 172.(1/244)
4 - أن مسلكه فى ذلك مسلك القياس والنظر لا مسلك الرواية والأثر.
تقويم مذهب أبى على:
أحكام الحسن وأمثاله لا ضير فيها، ولا حرج منها، ففي النشر لابن الجزرى مثل هذه الأحكام، فإذا توافق قياس العربية مع القراءة المروية كان ذلك حسنا (1)
ولا يدعى القراء أن كل ما فى القراءات من الفصاحة على أرفع الدرجات (2)
لكن الأمر الذى لا يفهم ما يصدره أبو على وغيره من البصريين، ومن لف لفهم من أحكام القبح على قراءة ثبتت بالرواية، وصحت بالسند، وأن قراءة من هذه القراءة لحن لا تحل القراءة بها (3) لأنها لم توافق مذاهب النحاة. والوضع مقلوب بمسلك أبى على فالقراءة يحتج بها على قواعد النحاة ومقاييسهم، لا أن تجرى مقاييس اللغة على ما روى من القراءات. إذا سمع عن العربى أخذ بما قال، وإذا قرأ القارئ بقراءة صحيحة متصلة السند بالرسول ردت لأنها لم تسمع عن العرب؟
وهل استقصى الرواة كل ما نطق العرب به؟ إن شيئا من ذلك ما كان! وقد كان الأئمة السابقون من متقدمى أهل العربية ينكرون على القارئ قراءته ويلحنونه لأنهم لم يعرفوا لها وجها من كلام العرب، حتى إذا عرفوا وجهها أقروها: حكى أبو زيد أنه سمع عمرو بن عبيد يقرأ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جأن «قال أبو زيد:» فخلته وقد لحن حتى سمعت العرب بعد ذلك تقول دأبه وشأبه فعلمت أن عمرا لم يلحن (4).
وهذه الحكاية مع دلالتها على مذهب النحاة فى تقديم ما يرويه العرب على ما يقرأ به القراء تشير إلى أن كلام العرب لم يتقصّ كله كما تدل على صحة ما رواه القراء، ومن المحال أن يصح فى القراءات ما لا يسوغ فى العربية (5).
هذا إلى أن من لحنت قراءتهم كانوا موثقين: فقد أطلق على حمزة حبر القرآن (6).
وكان شعيب بن حرب يقول: «ألا تسألوننى عن الدر يعنى قراءة حمزة (7).
__________
(1) النشر: 1/ 432.
(2) انظر منجد المقرئين: 65.
(3) انظر إعراب القرآن للنحاس: 360.
(4) البصريات لوحة: 58والشيرازيات: 153.
(5) النشر: 1/ 429.
(6) طبقات القراء: 1/ 263.
(7) معجم الأدباء: 10/ 292.(1/245)
وقال سفيان الثورى عنه: «ما قرأ حرفا من كتاب الله إلا بأثر (1) وقد انصف المقدسى البشارى ابن عامر بما يحب له من التوثيق (2).
وها هو ذا ابن جنى كان أسلم موقفا من شيخه، ومن أبى العباس المبرد، بتاليفه كتاب المحتسب، وتصحيحه قراءة حمزة: {«وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ} «حيث قال»: ليست هذه القراءات عندنا من الابعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس، بل الأمر فيها دون ذلك، وأقرب وأخف، وألطف، ثم ذكر وجه ذلك (3).
وقد كان الكوفيون فى هذا أسلم موقفا من البصرين على وجه العموم، وإنك لترى الفراء لا يطعن فى القراءة بل يقول: «فى الوجه الذى يرجحه: «وإنه لأحب الوجهين إلى» أو نحو ذلك (4).
وقيض الله لمذاهب القراءة من النحاة من يحتج لها، ويأخذ بها كابن يعيش (5).
وابن مالك (6). فقد جوز الفصل بين المتضايفين بغير الظرف والجار والمجرور، وقال:
وحجتى قراءة ابن عامر ... فكم لها من عاضد وناصر
ودلل على ذلك بوجوه:
(ا) أن الفصل فضله وهو لذلك صالح لعدم الاعتداد به.
(ب) أنه غير أجنبى معنى لأنه معمول للمضاف وهو المصدر.
(ح) أن الفاصل مقدر التأخير لأن المضاف إليه مقدر التقديم، لأنه فاعل فى المعنى (7).
والمسألة لا تحتاج إل هذه الصناعة فى التخريج فيكفى عندى أن تروى عن إمام، وأن يصح سندها عن الرسول (عليه السلام).
وقد وقف مثل هذه الوقفة المنصفة أحمد بن منير الاسكندرى (ت 683هـ) فى رده على الزمخشرى (8). وكذلك فعل أبو حيان فى البحر المحيط (9). والنيسابورى
__________
(1) النشر: 1/ 230.
(2) انظر أحسن التقاسيم 142الطبعة الثانية ط ليدن سنة 1909.
(3) انظر الخصائص: 1/ 294.
(4) انظر معانى القرآن للقراء: 74، 75.
(5) انظر شرح المفصل: 3/ 78.
(6) الاقتراح: 15.
(7) النشر: 2/ 264وما بعدها.
(8) انظر تفسير الكشاف: 2/ 41.
(9) البحر المحيط: 4/ 229.(1/246)
فى غرائب القرآن (1). والسيوطى فى الاقتراح (2). ومن قبل تعجب الرازى من استشهاد النحاة بالشعر المجهول، وتركهم الاستشهاد بقراءة فى القرآن العظيم (3).
وفى زماننا انبرى الأستاذ محمد الخضر حسين (رحمه الله (4)) يدفع عن قراءة ابن عامر، فلم يسلم أن الفصل فى مثل هذا مخالف للفصاحة، وبين أن فى اللسان الألمانى يفصلون بين أداة التعريف، والمعرف بجمل كثيرة، وربما كان الفعل مركبا من قطعتين فيضعون القطعة الأولى فى صدر الكلام، ويلقون الأخرى فى نهايته، فيتفق أن يكون بين القطعتين كلمات فوق العشر، وتراهم يفصلون بين علامة الاستقبال والفعل بجمل متعددة، ولا شبهة أن الارتباط بين هذه الأشياء لا يقل فى شدته عن ارتباط المضاف بالمضاف إليه (5).
ولا شك أن الأستاذ (رحمه الله) أراد أن يقيم الدليل مشكورا على صحة هذه القراءة وسوغها بالنظر إلى الأساليب المستعملة فى اللغات الحديثة، وإن كان الأمر يقطع القول فيه بأن هذه القراءات إلى الرسول مسندة، ومن عند الله منزلة ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فلا يجوز أن يحكم القياس فيما ثبت بالنقل والرواية (6).
رسم المصحف، وموقف أبى على من الاحتجاج به
ما المراد بالرسم هنا؟ وأى مصحف يريدون؟ يجيب أبو العباس القسطلانى هذين السؤالين فيقول: الرسم الأثر، والمراد أثر الكتابة فى اللفظ، وهو تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقرير الابتداء بها، والوقوف عليها.
والمراد بالمصحف: المصاحف العثمانية التى أجمع عليها الصحابة (7).
وقد وقف القدامى من المحتجين للقراءات مواقف مختلفات بالنسبة لرسم المصحف، فمنهم من ينظر إليه، ويعتمد عليه، ويمنحه فضل اهتمام فى الاحتجاج
__________
(1) انظر غرائب القرآن على هامش الطبرى: 4/ 176، 8/ 31.
(2) انظر ص 17.
(3) انظر تفسير الرازى: 3/ 193.
(4) توفى أثناء طبع هذه الرسالة، وكان (رحمه الله) من العلماء العاملين فى خلق متين، وتدين قويم.
(5) انظر القياس: 30، 31.
(6) انظر مثلا الشاطبية: 78ط 1351هـ.
(7) انظر لطائف الاشارات فى علم القراءات لشهاب الدين أبى العباس القسطلانى: 211.(1/247)
والتعليل لمذاهب القراء، ومن المحتجين من لا يعتمد على رسم المصحف، سالكا سبيل أهل الرأى والنظر فى التخريج والاحتجاج، وقد رأينا قبل موقف سيبويه (180هـ) من رسم المصحف، وانه يحتج لأوجه القراءة بما هو مرسوم فى بعض المصاحف غير المصحف الإمام مسميا أصحابها حينا، وحينا يغفل ذلك (1).
وسنرى موقف الفراء (207هـ) من رسم المصحف، وأنه لا يخضع فى كتابه معانى القرآن «إلى نظرة ذات اتجاه معين أو مطرد، والملاك العام عنده فى ذلك اتباع الرسم إذا وجد له وجها من كلام العرب أحب اليه من خلافه (2).
وكان الزجاج (311هـ) يلح فى مواضع مختلفات من كتابه «معانى القرآن» بأن رسم المصحف لا يخالف، ووجدته يدافع عن كتبة المصاحف من الصحابة (3).
كذلك كان ابن خالويه (270هـ) يعتد بالرسم اعتدادا عظيما حتى بلغ منه فى ذلك أنه قال فى احتجاجه لمن قرأ: «ثم اتخذتم» بالإظهار: «أنه أتى بالكلمة على على أصلها، واغتنم الثواب على كل حرف منها (4)».
ورأيت على بن عيسى الرمانى (384هـ) فى كتابه الحروف يعتد برسم المصحف حتى أنه قال فى رد رواية ابن قنبل عن ابن كثير «لأقسم» على أن اللام لام القسم:
وهذه القراءة فيها نظر من وجهين:
أحدهما: حذف الألف التى بعد لا، وهى فى الإمام ثابته.
والثانى: حذف النون التى تصحب لام القسم (5).
أما مكى بن أبى طالب (437هـ) فى الكشف، وأبو عمرو الدانى (444هـ) فى الموضح فقد تردد اعتدادهما برسم المصحف فى كتابيهما بكثرة ظاهرة، حتى أشبهت عبارتهما النماذج التعبيرية تلقى هنا وهناك، وهذا ظاهر عند الدانى فى الاحتجاج لمذاهب القراء فى ذوات الياء من الأسماء والأفعال مما هو مرسوم فى المصحف بالياء (6).
__________
(1) انظر الكتاب: 1/ 74، 258، 422، 481، وانظر البحث الخاص بسيبويه والاحتجاج فى هذه الرسالة.
(2) الصاحبى لابن فارس: 11.
(3) وكان كل الشيخين الطبرى وابن مجاهد يعتد برسم المصحف على النحو الذى سبق به البيان.
(4) الحجة لابن خالويه ظهر ورقة 8من المخطوطة.
(5) معاني الحروف للرماني لوحة رقم 1.
(6) يراجع الموضح فى هذا الباب.(1/248)
بينا يقف هؤلاء جميعا هذا الموقف إذ أجد أبا على الفارسى (277هـ) يقف فى الجانب الآخر من الرأى، فلا يكاد (1) يقول برسم المصحف فيما يسوقه من احتجاج، فلم يقل برسم المصحف مثلا فى احتجاجه لا تفاق القراء على قراءة لم يتسنه فى الوصل بالهاء (2).، واحتجاجه تاركا القول برسم المصحف لقراءة {«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرََاراً»} بالواو وغير الواو (3).
وقد وعدت فى غصون الفصول المختلفة التى تعرضت فيها للمعالم الكبرى لمناهج أولئك الذين سبقوا أبا على فى الاحتجاج، أو خلفوا من بعده وعدت ببيان الرأى الذى أذهب إليه، وأراه صوابا، وقد حان الآن وقت الوفاء فأقول:
«الملاك العام عندى فى هذا الأمر: أن القراءة سنة، فما خالف منها ظاهر لخط فلا سبيل إلا إلى القراءة به مرجحين جانب النقل والرواية، وما وافق منها الرسم فذلك نور على نور (4) «وذلك ما يشير إليه أبو شامه (665هـ) حيث يقول: «القراءة نقل، فما وافق منها ظاهر الخط كان أقوى، وليس اتباع الخط بمجرده، واجبا ما لم يعضده نقل، فإن وافق فبها ونعمت (5).
ويؤكد ما ذكره الدانى عن شيوخه عن عاصم الجحدرى قال: فى الإمام مصحف عثمان فى الحجة (6). ولؤلؤا بالألف، والتى فى الملائك (7). ولؤلؤ خفض بغير ألف (8).
قال الشيخ السخاوى: «وهذا الموضع أول دليل على اتباع النقل فى القراءة لأنهم لو اتبعوا الخط، وكانت القراءة إنما هى مستندة إليه لقرءوها أى فى سورة الحج بألف: {«يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبََاسُهُمْ فِيهََا حَرِيرٌ»}
__________
(1) اخترت ذلك التعبير لأنى وجدت أبا على مرة يقول: وجه قول من أثبت فى الوصل الألف من قوله الظنونا الرسولا السبيلا أنها فى المصحف كذلك، وهى رأس آية.
ورءوس الآى تشبه الفواصل من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافى مقاطع الحجة: 6/ 147.
(2) الحجة: 3/ 2015ن البلدية وانظر 1/ 471ن مراد ملا.
(3) الحجة: 4/ 347.
(4) ناقشت الدانى فى الاحتجاج برسم المصحف فى رسالة الماجستير: القراءات واللهجات العربية الإمالة: فليراجع الفصل الخاص بذلك هناك.
(5) إبراز المعانى: 406.
(6) ص 26آية 22.
(7) ص 25آية 33.
(8) المقنع 42وانظر مورد الظمآن: 22.(1/249)
وفى فاطر بالخفض {«جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}» (1).
قال أبو عبيد: «لولا الكراهة لخلاف الناس لكان اتباع الخط أحب إلى، فيكون فى الحج بالنصب، وفى فاخر بالخفض، فإنه رسم بالألف فى الحج خاصة دون فاخر (2) يقول ذلك أبو عبيدة، ولكنه لم يقرأ به متبعا النقل لا الرسم.
فالنقل لا الرسم هو الذى يحتج به فى هذه الكلمات التى تتصل برسم المصحف، وإذا أردت تقويم آراء القدامى فى مواقفهم المختلفة من الرسم أقول.
«أما سيبويه فقد كان على حق لأنه احتج بمصحف ابن مسعود (3)، ومصحف أبى مثلا (4). لأنه احتج بما هو جائز فى العربية، موثق بالأسانيد، وإن خالف رسم المصحف الإمام، ويكفى لتجويز إعراب ما أن تستشهد بما فى مرسوم المصاحف التى كانت قبل المصحف الإمام، إذ كانت كما قلت موثقة الأسناد، لكن لا يقرأ بها لمخالفتها المصحف المجمع عليه.
ومسلك سيبويه يبدو طبعيا إذ كانت صفته الأولى والباقية على الدهر أنه نحوى ينظر إلى المصاحف على عمومها، محتجا بما جاء فى مرسومها، غير مقيد بمصحف الإمام ما دامت المصاحف الأخرى كافية فى الاحتجاج على المذاهب العربية فى فنون الكلام.
وصحيح من الفراء، والزجاج، والطبرى أن يرفض كل مخالفة لرسم المصحف فيما يتصل بنقص (5) أو تبديل (6) ما هو مرسوم بالمصحف الإمام، فهذه المخالفة المردودة عند القراء بعد الاستقرار على الصحف الإمام، أما القراءات التى يحتملها الرسم العثمانى وكانت ترجع فى أساسها الأول إلى النقل على النحو الذى فصلت فى قول الزجاج بالأثر فلا داعى لإقحام الاحتجاج برسم المصحف فيها، فالنص على ذلك أمر لا ضرورة له، وأرجو أن ترجعوا إلى تفسير ذلكم فى مكانه من هذا البحث (7).
__________
(1) انظر عقيلة اتراب العقائد وشرحها تلخيص الفوائد: 44، 45.
(2) ابراز المعاني: 406.
(3) الكتاب: 1/ 258.
(4) الكتاب: 1/ 481.
(5) كقراءة فاذا لا يؤتوا الناس نقيرا.
(6) كقراءة فاذا اطبأننتم، كقراءة وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال.
(7) وتوضيح ذلك أني لا أرى إقحام الاحتجاج بالرسم مثلا لقراءة من قرأ بالإمالة ذوات الياء من الأسماء والأفعال، لأنها رسمت فى المصحف بالياء. فالاحتجاج بالنقل وحده هو العمدة فى ذلك عند أهل الأثر، ومن هنا يجتمع فى بعض الحروف من أسباب الإمالة.(1/250)
وأقول لابن خالويه من حيث مسلكه فى الاحتجاج مثل ما قلت للزجاج، وأزيد: أن ابن خالويه بالغ فى أن جعل ثواب الله أكبر بقراءة الإظهار فى قوله تعالى: {«ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ»} فان كرم الله لن يضيق بثوابه على التالين لكتابه، والمتعبدين بما به، ولن يكون ضيقا حرجا بالإدغام، وواسعا عفوا بالاظهار! فثواب التلاوة ثابت فى كلتا الحالين بقدر ما تخشع القلوب، وتلين الجلود!!
وقد بدا لى أن أبا على جانب الأثر فى احتجاجه وأراد أن يحتج للقراءات بطريق النظر فقد دعت الاتجاهات العامة فى عصره أن يرد على الملحدين المجادلين فى آيات الله، وهم لا يعتدون بالأثر، ولا يقتنعون إلا بالرأى القائم على الحجة والدليل المنطقى، فأجرى مقاييس العربية على القراءات، هذا داع من الدواعى الدافعة لأبى على أن يسلك مسلكه، وشىء آخر: لقد كان معاصرا لابن مقسم (154هـ) الذى قرأ خاطئا بكل ما يحتمله رسم المصحف فأبعد كل هذا أبا على فيما أرى عن الاحتجاج بالرسم، ووثق القراءات الصحيحة السبعة بجريانها على ركن هام من أركانها ذلك هو قياس العربية، بجانب الآثار العربية.
فإذا لم يستطع أبو على أن يجرى مقاييس العربية على قراءة من القراءات سلم مضطرا بأن القراءة سنة، ثم هو: لا يخلى تسليمه عندئذ من الاشارة إلى أن القراءة بما يوافق القياس أحسن وأولى.
وإذا أردت تقويم اتجاهه وجدته خيرا وأحسن تأيلا من سلوك مسالك الأثر فى عصر اشتعلت فيه نيران الجدل، وتفشته مظاهر الالحاد، واختلفت فيه النحل، وتفرقت فيه الأحزاب طرائق قددا، ثم اجتمعوا على الكيد للاسلام فكان لا بد من اصطناع البراهين التى يصطنعون، واتخاذ الوسائل التى يسلكون، وإن كان أبو على قد غالى فى ذلك حتى لا يكاد يقول برسم المصحف، وتجاوزه إلى قياس القراءة على العروض والقوافى. ويشفع له فى ذلك أنه كان عن كتاب الله منافحا، ومن هنا لم يكن غريبا أن ينال تقدير صادق الحكومة أبى العلاء فى رسالة الغفران، فأخلاه من لوم اللائمين لأنه يمتّ إلى الله بكتابة الحجة وهو سبب متين (1).
وأرجو أن يكون مفهوما وهذه عقيدة الفارسى أن ليس معنى انصرافه
__________
ما لا يجتمع فى حروف أخرى من جنسها فيميل بعض القراء ما كان سبب الامالة فيه ضعفا ويترك ما كان السبب فيه قويا (انظر الامالة لمكى ورقة 14والموضح للداني ص: 247.
(1) رسالة الغفران: 154.(1/251)
عن الاحتجاج برسم الامام أنه لا يقول به ركنا من أركان القراء الصحيحة (1).
ولكنه ترك جانب الأثر إلى غيره من الجوانب التى دعته إليها دواعى العصر الذى كان يعيش فيه.
مادة الاحتجاج عند أبى على
فى دراساتى السابقة ألممت بما يحتج به أبو على، وأجمع هنا فى إيجاز ما تفرق فى غضون هذه الدراسات.
يورد أبو على شواهده من القرآن الكريم، والشعر العربى القديم محتجا للقراءات المختلفة، أو مقويا جانب قراءة من هذه القراءات، أو مفسرا، أو معربا، أو مصرفا، أو متحدثا فى مسائل النحو اللغة، أو مستدلا على صحة تعبير وعدم جواز غيره، أو مبرهنا على القضايا المنطقية
وقد عرضت قبل موقفه فى الاحتجاج من القراءات التى تخالف مذهبه النحوى، وقومت اتجاهه عند ذاك، ومكانه بين السابقين فى هذا الموضوع.
أما رسم الصحف فلا يكاد أبو على يحتج به، وقد عللت لذلك، وقومته، ووازنت بين موقفه هذا وموقف السالفين والذين خلفوه من النحاة والقراء.
ثم بينت أنه سبق المدرسة الأندلسية ممثلة فى ابن خروف، وابن مالك فى الاحتجاج بالحديث الشريف، واعتداده به، وعللت لموقفه هذا.
ورأيت أبا على يأخذ باللهجات المختلفة، ويسميها اللغات، ويحتج بها فى توجيه القراءات (2).
كما رأيته يعتد بالكثرة، ويحتج بها، ويعدها من أسباب قوة القراءة، ويختصر الدليل على هذه النزعة عنده قوله: «حزنته أكثر من أحزنته، وفى ترك قول الأكثر ضرب من الاستيحاش (3). ويروى قول أبى الحسن: فى خرقوا وخرّقوا الخفيفة أعجب إلىّ لأنها أكثر، وبها أقرأ (4). وقوله: بشهاب قبس الاضافة أكثر وأجود فى القراءة (5).
__________
(1) أمعروف بالضرورة ب لأنه يقول برسم المصحف نادرا وفى هذا اعتراف به ضمنيا.
(2) انظر مثلا الحجة: 1/ 78ن مراد ملا.
(3) الحجة: 4/ 5ن البلدية.
(4) 4/ 73ن البلدية وانظر 2/ 28فى الاحتجاج لقراءة فتلقى آدم من ربه كلمات.
(5) الحجة: 6/ 52.(1/252)
وعرفت أبا على يقدم السماع والرواية على القياس، ثم يحاول أن يجرى مقاييس العربية على القراءات المروية فيخرجها بما يتفق مع الصناعة النحوية، وانه ليبلغ الذروة فى ذلك حيث يقول: «وإنما جاء الكتاب فيما نرى على هذا القياس (1)». وحيث يقول: «وإذا جاءت الرواية عن العرب (2). لم ترد بالقياس» (3).
هذا وكانت عبارة سيبويه فى الكتاب بله الشواهد مادة لاحتجاج أبى على، وإنه ليرقى فى ذلك حتى ينص على أن التنزيل جاء على الذى استعمله سيبويه (4).
فالقرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العربى القديم، ولهجات العرب المختلفة، والاعتداد بالكثرة، وتقديم السماع والرواية عن العرب على القياس، وتطبيق القياس على ما نقل القراء، وعبارة سيبويه فى الكتاب، كل أولئكم كان مادة الاحتجاج عند أبى على فى كتابه الحجة.
ولا أزعم أنى حصرت كل ما كان منه فى ذلك، ولكنى كدت أو قاربت بقدر ما أعاننى الجهد والتثبت فى الاستقصاء، ومع ذلك فهذه هى الظواهر الكبرى فى الاحتجاج تتردد فى كثرة تدعو إلى التقييد والتسجيل.
قيمة الحجة:
ألف أبو على كتاب الحجة للقراءات السبع التى ذكرها ابن مجاهد فى كتابه القراءات، ثم قدمه إلى عضد الدولة (5). أشهر آل بويه، فموضوع الكتاب إذا جليل، والمهدى اليه له مكانته وسلطانه، والمؤلف له إمامته العلمية فى زمانه، وعلى هدى من موضوع الكتاب، ومكانة عضد الدولة، وامامة أبى على سار ذكر الحجة الى أن الكتاب يعد معلمة تفتح أفاقا جديدة فى فروع الثقافة الاسلامية المختلفة، وقد استظهرت من قبل أن أبا على ألفه فى فترة من الاستقرار والاطمئنان فى أخرة من زمانه، وبعد جملة صالحة عن كتبه، فجاء الكتاب مرآة لضلاعة أبى على وبراعته وتبحره وتمكنه من الثقافة الاسلامية، ودرايته، بأساليب العرب، وسنن العربية فهو يجد فيها مادة الدليل، وعنصر التدليل، فهذا قارئ يميل. وآخر لا يميل، وهذا يهمز، وآخر يخفف، وهذا يقرأ الآية بالرفع مثلا، وآخر يقرؤها بالنصب وهكذا
__________
(1) الحجة: 1/ 348ن مراد ملا.
(2) ما بين الشرطتين زيادة منى للتوضيح.
(3) الحجة: 1/ 362ن مراد ملا.
(4) انظر الحجة: 1/ 322من مراد ملا.
(5) انظر مقدمة الحجة: 1.(1/253)
وهكذا فيحتج لكل ويستشهد، ويورد أقوال القدامى، ويعلق، ويناقش، ويعقب بما يدل على فقهه العربية، ويتابع أدلته دليلا بعد دليل، كأنما قد نظم ذلك كله فى سلك يعينه وفرة محفوظة، وقوة ذاكرته، وقدرته على جميع الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض، مستعينا بالقرآن، والحديث، وأحكام الشرع، وأقوال الأئمة جميعا (1).
فجاء الحجة موسوعة جامعة لكتب مختلفة فى القراءات، والتفسير. واللغة، والنحو، والصرف، ومسائل الخلاف، والاحتجاج لها، والعروض، والشواهد العربية القديمة، مع تفسيرها وشرح لمتنها (2).، ولهجات القبائل: فصحاء اليمن، وقيس (3).
وطيئ (4). وأهل الحجاز عامة (5). وأهل مكة خاصة (6) ومن هنا كان الحجة معتمد القراء، والمفسرين، واللغويين، والنحويين، كما أسلفت بذلك البيان.
وإذ كنا نحرص على تراثنا القديم، ونعمل جاهدين على تتبعه فى مظانه من مكتبات العالم، وتحقيقه، وإخراجه إلى النور فان كتاب الحجة لأبى على من أنفع ما خلف أسلافنا فى الثقافة العربية الاسلامية، ثم هو يشتمل فيما يشتمل على كتاب القراءات السبع للامام الحافظ أبى بكر بن مجاهد (7). ولئن عصفت الأحداث بكثير مما للاسلام من تراث، وطوت فيما طوته كتاب أبى بكر بن مجاهد هذا إن كتاب الحجة يهدى إليه، ومن أراد كتاب ابن مجاهد مستقلا فليجرده، متتبعا له فى أجزاء الحجة المختلفة، وبذلك نظفر من تراثنا القديم بأثر يعد أمّا فى أصالته، وتفرده، وأسبقيته، وتوثيقه لقراءات السبعة من أهل الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام.
وما كاد اللغوى النحوى محمد بن عثمان بن بلبل (ت 410هـ) يذيع الحجة ويرويه (8). حتى شغل به الناس قادرين منزلته، فسمعه منه ابن بشران النحوى (9).
وعنى به الأندلسيون عناية ظاهرة: اختصره مكى بن أبى طالب حموش القيسى (ت 437) (10). فى كتاب سماه فيما أورده ياقوت: منتخب الحجة فى القراءات
__________
(1) انظر مثلا الحجة: 1/ 156ن مراد ملا، 1/ 56ن البلدية.
(2) انظر الحجة: 1/ 276، 177ن البلدية.
(3) الحجة: 1/ 48.
(4) المصدر السابق: 1/ 24.
(5) انظر الحجة: 1/ 50، 56، 74، 175، 3432.
(6) الحجة: 1/ 44.
(7) كشف الظنون: 2/ 214.
(8) انظر معجم الأدباء: 18/ 249.
(9) انظر بغية الوعاة: 22.
(10) كشف الظنون: 2/ 244.(1/254)
وجعله فى ثلاثين جزءا (1). كما اختصره أبو طاهر اسماعيل بن خلف الأندلسى (ت 455هـ) (2). ومحمد بن شريح الرعينى (ت 476هـ) (3). وبحاشية أحد المصاحف بالخزانة التيمورية مختصر الحجة لم يعلم اسم مختصره (4). وتدارس الحجة عدد من مشهورى القراء، والمفسرين، والنحاة، واللغويين (5).
وانتقلت العناية بالحجة من الأندلسيين إلى أهل الشام حتى كانوا يقرءونه ويحفظونه فى القرن السابع الهجرى (6).، وكان كتاب الحجة من المصادر التى اعتمد عليها البغدادى فى خزانته (7).
ثناء القدماء على الحجة:
أثنى القدماء على الحجة وأجلّوه، سواء فى ذلك المؤرخون، والأدباء، والنحويون، واللغويون، والقراء، فأقوالهم تدل على إكبارهم له وإعجابهم به.
قال فى ذيل تجارب الأمم: «صنف فى أيام عهد الدولة المصنفات الرائعة فى أجناس العلوم المتفرقة، فمنها كتاب الحجة فى القراءات السبع، وهو كتاب ليس له نظير فى جلالة قدر، واشتهار ذكر (8).
ويرى أبو العلاء المعرى أن أبا على بكتاب الحجة حقيق أن يؤخذ بالرفق فى الأمر كله، لأنه عمل ما لم يعمل مثله الآخرون، وذلك إذ يقول فى رسالة الغفران وقد امترس قوم بأبى على يطالبونه: «يا قوم! لا تعنتوا هذا الشيخ فإنه يمت بكتابه فى القرآن المعروف بكتاب الحجة (9).
وفى طبقات النحاة واللغويين: «كتاب الحجة فى تخريج القراءات السبعة من أحسن الكتب وأعظمها (10)». وقال فى طبقات القراء: «وألف أبو على كتاب
__________
(1) معجم الأدباء: 19/ 169.
(2) كشف الظنون: 2/ 194وطبقات القراء: 1/ 164وبغية الوعاة: 195وانظر تحفه الاخوان لابن الجزرى: 7مخطوطه رقم 306تفسير بالخزانة التيمورية.
(3) انظر الصلة لابن بشكوال: 215مخطوطه رقم 362.
(4) انظر المصحف 264قراءات وفهرست الخزانة التيموريه 1/ 289تفسير.
(5) انظر التمليكات والسماعات التى على نسخة مراد ملا الجزء الأول.
(6) انظر النجوم الزاهرة: 6/ 267.
(7) انظر إقليد الخزانة 425.
(8) ذيل تجارب الأمم: 183.
(9) رسالة الغفران: 154152.
(10) طبقات النحاة واللغويين لابن قاضى شهبة الأسدي: 295.(1/255)
الحجة شرح سبعة ابن مجاهد فأجاد وأفاد (1)، وتقدم فى شهادة القدماء وأقوالهم فى أبى على ثناؤهم على مؤلفاته بصفة عامة (2). هذه نظرة القدامى إلى كتاب الحجة، وذلكم مبلغ انتفاعهم، وحرصهم عليه، وأما عبارة ابن جنى التى تشير إلى أن القراء رفضوا كتاب الحجة، ولم يقبلوا عليه (3). فإنها لا تدل على انتقاص الحجة وسوء الرأى فيه فابن جنى أبعد الناس من أن يرى هذا الرأى فى أبى على. وعبارة ابن جنى فيما أرى تدل على أن الحجة موضوع لخاصة المثقفين من أهل العربية دون عامتهم، ذلكم ما يفهم من قول ابن جنى: «وقد كان شيخنا أبو على عمل كتاب الحجة فأغمضه، وأطاله حتى منع كثيرا ممن يدعى العربية فضلا على القراء منه وأجفاهم عنه (4). وجفوة هؤلاء ممن يدعى العربية والقراءة عن كتاب الحجة لا يضع مكانته، وأحسب أنه على العكس يرفع من درجته، ويعلى من قيمته.
وبعد: فلعل الجهود تتضافر لإخراج هذا الكتاب وتحقيقه، ونشره، إذا لافادت الثقافة الإسلامية العربية، وانتفع طلاب العلم به أيما انتفاع.
ولا يزال الرأى حسنا فى كتاب الحجة وصاحبه حتى هذا الزمان ذكر الأستاذ أحمد تيمور نسخة الحجة المودعة خزانة البلدية بالإسكندرية، وأنها تنقص جزءا ثم قال: «وقد قرأتها كلها، واستخرجت منها فوائد عزيزة (5). وقراءة تيمور للحجة دليل على تفطنه لهذا الكتاب، واستخراج ما استخرج من فوائد وصفها بأنها عزيزة، ينبه الباحثين إلى ما فى الحجة من ذخائر العربية لا تظفر بها من سواه.
وجاء فى صحيفة الأهرام ما نصه:
«ألقى الدكتور بشر فارس فى قاعة المجمع العلمى المصرى محاضرة ضمنها نصا عربيا قديما فى كتاب مخطوط ألفه أبو على الفارسى من أئمة العربية المسلمين فى القرن الرابع الهجرى، خصصه لبحث مسألة التصوير فى الإسلام، مصرحا بأنه جائز بإجماع لا يقدح فيه اعتراض الآحاد، والحظر فيه مقصور على تصوير الله (سبحانه وتعالى) تصوير الأجسام، فأما غير ذلك من أنواع التصاوير للأحياء فليس محظورا.
__________
(1) طبقات القراء: 1/ 207.
(2) راجع المنتظم: 7/ 138.
(3) راجع المحتسب: 1/ 236.
(4) المحتسب: 1/ 288.
(5) مجلة الهلال سنة 28/ 50.(1/256)
وقد طلب كثير من الأدباء المستمعين طبع هذه المحاضرة إذاعة لذلك النص الفريد المفيد، وتعزيزا للنهضة الفنية فى الشرق الحديث، فوعدوا بإجابة طلبهم (1).
وقد يكون الباعث على ذلك توجيه الناس إلى نص من نصوص أبى على يحسم الخلاف فى جواز التصوير، وربما كانت الغاية منه تنبيه الأذهان إلى جهد المحاضر فى البحث، وتعمقه فى التنقيب والتنقير، وأيا ما كان الباعث على ذلك المقال فإن فيه تسجيلا لفضل أبى على فى كل حال.
وقد ذكر المحاضر فى كتابه «سر الزخرفة فى الإسلام» أنه قدم النص (2)
بالفرنسية إلى مجلة الجمعية الأسيوية بباريس فى 10/ 11/ 1950، ثم بين ما للنص من شأن، وما لصاحبه من فحولة بين علماء الإسلام (3).
نسخ الحجة وأماكنها:
أقدم نسخ الحجة التى أعلم نسخة كتبت فى حياة أبى على سنة 274هـ بخط كبير جدا كتبها العباس بن أحمد بن أبى مواس، والذى سلم على الدهر منها مجلدتان:
تحتوى المجلدة الأولى على الأجزاء (3221) وتبتدئ من قوله تعالى:
{«إِنَّ الْمُنََافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النََّارِ} (4) «وتنتهى إلى قوله:» {بَلْ لِلََّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} (5) وجاءت هذه المجلدة فى ثلاثمائة وستين ورقة كبيرة الحجم.
ويحتوى المجلدة الأخرى على الأجزاء (4433) مبتدئة من قوله تعالى:
{«إِنََّا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ كَمََا أَوْحَيْنََا إِلى ََ نُوحٍ»} سورة النساء: «آية 163ومنتهية بأوائل سورة الزخرف. وبلغ عدد أوراق هذه المجلدة ثلاثمائة وثمانيا وثمانين ورقة كبيرة الحجم.
وكلنا المجلدتين بشهيد على رقم 26، 27.؟
تلى هذه النسخة فى القدم نسخة كتبت سنة 310هـ بخط شرقى جميل تقع فى ستة
__________
(1) صحيفة الأهرام: 10/ 3/ 1951.
(2) النص يقع فى الحجة: 2/ 6967ن البلدية، وقد تعرضت لذلك النص عند الحديث عن أبي على المحدث.
(3) انظر نص الزخرفة فى الاسلام تمهيد 3431. ويدعى كاتب مقال (المسلمون والتصوير) فى (مجلة الأزهر جمادى الأولى 1371هـ المجلد الثالث والعشرون السبق فى نشر نص ابي على فى جواز التصوير لأول مرة ولست هنا فى مقام تحقيق هذه الدعوى وإن كانت تشير إلى تنازع الناس فضل كتاب الحجة، والاعتراف بجدوى الاتصال به على الباحثين فى الدراسات الاسلامية جمعاء.
(4) النساء: آية 145.
(5) الرعد آية 31.(1/257)
مجلدات ينقصها الخامس بمكتبة بلدية الإسكندرية برقم 3570ع، وبدار الكتب مصورة منها تحت رقم 462قراءات وقام مجمع اللغة العربية بتصوير نسخة منها وأودعها خزانته.
وفى مكتبة مراد ملا باستانبول رقم (96) نسخة كاملة تقع فى أربعة أجزاء بخط طاهر بن غلبون النحوى المقرئ (1). كتب الأجزاء الثلاثة الأولى سنة 427 وكتب الجزء الرابع سنة 428. ويبدأ الجزء الأول من أول سورة البقرة إلى قوله:
{«كُنْ فَيَكُونُ} من سورة البقرة أيضا (2). فى تسع وثلاثين ومائتى ورقة. وبدأ الجزء الثانى ببقية سورة البقرة وينتهى بآخر سورة الأنعام فى ست وثلاثين ومائتى ورقة.
ويبتدئ الجزء الثالث بسورة الأعراف وينتهى بآخر سورة الأنبياء فى خمسين ومائتى ورقة. أما الجزء الرابع فيبتدئ بسورة الحج، وينتهى بآخر القرآن فى أربع وخمسين ومائتى ورقة.
وعلى الجزء الأول من هذه النسخة تملكات وسماعات لرجالات من أهل العلم ترجم لهم المؤرخون، من هؤلاء الذين ملكوا أحمد بن مكتوم (ت 749) تلميذ أبى حيان (3). ويرى توقيعه على هذه النسخة بخطه، ومن الذين سمعوا الحجة وأقرءوها زيد بن الحسن بن زيد الكندى أبو اليمن النحوى، اللغوى، المقرئ، المحدث، الحافظ (4). قال أبو اليمن فى ظاهرة هذه النسخة: وكتاب الحجة أحد مقروءاتى على شيخى الامام أبى محمد المعزى النحوى، عن أبى طاهر المعرى النحوى، عن أبى عبد الله الآمدى، عن الربعى النحوى، عن أبى على الفارسى، وكتب زيد بن الحسن بن زيد الكندى أبو اليمن فى ذى الحجة من سنة ست وستمائة. وفى آخر هذه النسخة سماعات عن أبى اليمن الكندى هذا من خلق كثير منهم: علم الدين السخاوى المقرئ المفسّر النحوى اللغوى شيخ مشايخ الاقراء بدمشق ت 643هـ (5) وأحمد بن تميم بن هشام اللبلى كاتب المسائل المشكلة، والبصريات، والمنثورة، والعسكريات لأبى على وأقر هذه السماعات أبو اليمن الكندى بقوله: هذا صحيح وكتب أبو اليمن الكندى بخطه (6).
__________
(1) ترجمة فى طبقات القراء: 1/ 339.
(2) آية: 112.
(3) ترجمته فى طبقات القراء: 1/ 70، وبغية الوعاة: 140وما بعدها.
(4) 613520هـ 5ترجمة فى طبقات القراء: 1/ 297وبغية الوعاة: 349.
(5) ترجمته فى طبقات القراء: 1/ 569وما بعدها وبغية الوعاة: 349.
(6) انظر الحجة: 1/ 477مراد ملا.(1/258)
وهذه النسخ الثلاث من المخطوطات المصورة بالأمانة العامة للجامعة العربية (معهد إحياء المخطوطات) (1).
هذا ورأيت بمكتبة جامعة القاهرة مجلدات أربعا من كتاب الحجة مصورة رقم 24012وتنتهى المجلدة الأولى إلى قوله تعالى {«كُنْ فَيَكُونُ»} (2) وتبتدئ المجلدة الثانية من قوله تعالى: {«وَلََا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحََابِ الْجَحِيمِ»} (3). وتنتهى بقوله تعالى:» {«لَمََا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتََابٍ وَحِكْمَةٍ»} (4) وتبتدئ المجلدة الثالثة بقوله تعالى {«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»} (5). وآخرها {«فَأَرْسِلْ مَعَنََا أَخََانََا نَكْتَلْ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ»} (6) أما المجلدة الرابعة فتبتدئ من قوله تعالى: {«وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ} (7). وتنتهى بقوله تعالى:
{«ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ»} (8).
وهذه المجلدة الأخيرة مكتوبة بخط نسخ واضح جميل، وكاتبها غير كاتب المجلدات الثلاث الأولى.
ومن كتاب الحجة جزءان عتيقان كتبا فى القرن الخامس بخط عادى فى مكتبة بانكى بور (9)، ولعل هذين الجزءين بعض المجلدات الثلاث التى صورها معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية من مكتبة بانكى بور المذكورة رقم 114 (10).
وبعد: فالأمل معقود على المحققين والباحثين لتحقيق الحجة وإخراجه ونشره، وعسى أن تتاح لى الفرصة للاسهام فى هذا العمل الجليل الذى أعرف قدره والمدى البعيد لجدواه (11).
__________
(1) انظر فهرس المخطوطات المصورة: 1/ 8.
(2) سورة البقرة: 117.
(3) سورة البقرة: 119.
(4) آل عمران: 81.
(5) سورة الاعراف: 172.
(6) سورة يوسف: 63.
(7) سورة يوسف: 109.
(8) سورة الحجة: 39.
(9) إقليد الخزانة: هامش 42.
(10) أخبرنى الأستاذ محمد رشاد عبد المطلب أن بالأمانة العامة للجامعة العربية (معهد إحياء المخطوطات) مجلدات ثلاثا مصورة من مكتبة بانكى بور رقم 114. قام سيادته بتصويرها فى بعثته إلى الهند سنة 1952مندوبا عن المعهد.
(11) وقد حقق الله رجائى فكلفت رسميا تحقيق كتاب الحجة بالاشتراك مع الأستاذين الجليلين: على النجدى ناصف، والدكتور عبد الحليم النجار. والله الموفق لخدمة اللغة العربية لغة الكتاب الكريم.(1/259)
الباب الثالث دراسات مقارنة
الفصل الأول بين الفراء والفارسى فى الاحتجاج
اشتغل أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء (يرحمه الله) بالبحوث القرآنية، فكان له غير معانى القرآن المصادر فى القرآن، والجمع والتثنية فى القرآن (1)، واختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام فى المصاحف (2).
وكان إلى جانب ذلك يروى الحروف، ويجلس للإقراء، وتروى القراءة عنه:
روى الحروف عن أبى بكر بن عباس راوى عاصم أحد القراء السبعة (3)، كما روى عن على بن حمزة الكسائى (4)، ومن تلاميذه الذين رووا عنه: سلمة بن عاصم، ومحمد بن الجهم (5). ومحمد بن الجهم هذا هو الذى روى كتاب معانى القرآن (6).
ولعل من الأسباب التى دعت إلى اشتغال القراء بهذه الدراسات القرآنية أنه كان مولى لبنى أسد (7) من أهل الكوفة (8)، وبنو أسد، وأهل الكوفة لهم سبق مذكور فى القراءة والاقراء، ومن مشهوريهم: زر بن حبيش الأسدي الكوفى (ت 82هـ)، وأبو عمرو الشيبانى الأسدي الكوفى (ت 96هـ) (9)، وهما شيخان لعاصم الأسدي مولاهم الكوفى (ت 127هـ) (10). ثم كان بالكوفة حمزة (156هـ) (11)، وتلميذه الكسائى الأسدي مولاهم الكوفى (189هـ) (12)، وكل هؤلاء إمام فى القراءة والاقراء.
__________
(1) الفهرست: 100.
(2) معجم الأدباء: 20/ 13.
(3) طبقات القراء: 1/ 327.
(4) طبقات القراء: 1/ 371.
(5) المصدر السابق.
(6) انظر معانى القرآن ص 1ط دار الكتب.
(7) معجم الأدباء: 20/ 9، 10.
(8) نزهة الألباء: 66.
(9) طبقات القراء: 1/ 294.
(10) 1/ 342.
(11) طبقات القراء: 1/ 281.
(12) طبقات: 1/ 545535.(1/260)
وكان الفراء يعقد مجالس للاملاء أول النهار من أيام الثلاثاوات والجمع فى شهر رمضان، وقد أملى على الناس كتابه «معانى القرآن» فى هذه المجالس من شهور سنة اثنتين، وفى شهور سنة ثلاث، وشهور من سنة أربع ومائتين (1).
وذهب الفراء حاجا سنة 206 (2)، وتوفى بطريق مكة (3) سنة سبع ومائتين (4)، بعد دخول المأمون العراق بثلاث سنوات (5)، توفى الفراء وعمره ثلاث وستون (6)، ومعنى هذا أن كتاب المعانى أملى على الناس والفراء يدرج نحو الستين:
أى بعد استقراره الذهنى والمذهبى، وإذن فهذا الكتاب: كتاب معانى القرآن يمثل المرحلة التى انتهى إليها علم الفراء فى الثقافة العربية على وجه عام. ولهذا الاستنتاج أهميته فى تقويم الآراء التى صدرت عنه: ما كان منها متصلا باتجاهاته اللغوية والنحوية، وما كان متصلا بالبحوث القرآنية، وهو ما سأعرض له فى هذا الفصل بالبيان.
ومعانى القرآن كتاب للفراء يكشف عن مذاهب القراء من الكوفيين فى الاحتجاج فى تلك الحقبة التى سبقت عصر ابن مجاهد أولا الى جانب ما يكشف عنه ثانيا من خصائص نحاتهم، والسمات العامة لمنهجهم. وكلا الأمرين يتصل بهذا البحث الاتصال الوثيق. ثم هو بعد يمثل حلقة من الحلقات المتتابعة فى الدراسات القرآنية سبقت أبا على الفارسى بما يقرب من قرن ونصف من الزمان.
على أن لكل من الرجلين موقفا يخالف موقف الآخر نحو القراءات التى لم تتواتر:
ونحو الاحتجاج بها، وبرسم المصحف والاعتداد به أى فى الاحتجاج، وهو ما يبيحه لى الحديث عن معانى القرآن وتناول هذه النواحى منه بالبيان. هذا إلى جعل أسلوب الشيخين فى الكتابين موضعا للموازنة والتعليل. على أن أبا على قد قرأ كتاب المعانى على ابن مجاهد:
قال ابن جنى: أخبرنا أى أبو على بما فى كتاب المعانى عن أبى إسحاق إبراهيم بن السرى الزجاج سماعا منه، وبمعانى الفراء عن ابن مجاهد عن الفراء (7).
__________
(1) معاني القرآن 1ط دار الكتب.
(2) طبقات القراء: 2/ 361.
(3) الفهرست: 100.
(4) وردت سنة الوفاة خطأ فى كتاب طبقات الزبيدى المطبوع أخيرا (سبع وثمانين ومائة) ولم يتنبه إليه المحقق.
(5) نزهة الألباء: 70.
(6) معجم الأدباء: 20/ 13.
(7) المحتسب: 1/ 10.(1/261)
فاذا أضيف إلى ذلك كله مكانة كل من الرجلين فى التاريخ النحوى، وما قرره المؤرخون من أن الفراء كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائى (1)، وأنه ما كان بين سيبويه وأبى على أفضل منه (2) إذا كان كذلك علمنا أهمية دراستى لمعانى القرآن بجانب دراستى لآثار الفارسى.
والفراء لم يقصد فى كتابه «معانى القرآن» إلى الاحتجاج للقراءات، حقيقة هو يحتج لكثير من القراءات التى وردت فى القرآن الكريم، ولكن احتجاجه هذا جاء تبعا للغرض الأول الذى من أجله ألف الكتاب، والذى بسببه أسماه: «تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه»، فان كان فى الآية مشكل إعرابى أو معنوى، وكان توضيحه يدعو إلى توجيه القراءات فيه تعرض للاحتجاج، ومن هنا نراه لا يلتزم الموالاة فى عرض كتاب الله، يتحدث عن تفسير كلمة أو جملة من آية، ثم يتخطى بعض أحرف بعدها، ليعود إلى التحدث بعد ذلك فى تفسير مشكل أو إعرابه، وقد تكون بالحروف التى تخطاها قراءات، واختلف فيها الأئمة القراء، ولكنه يتركها، لأنها لا تتصل بالغرض الذى إليه قصد من تأليف الكتاب، والذى ندبه إليه «عمر بن بكير» (3)، فهو يتحدث عن قوله تعالى: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ»} (4)، وينتقل بعدها إلى الحديث عن قوله: عليهم (5) تاركا الحديث عن القراءات فى: مالك (6)
والصراط، مع أن فيهما قراءات (7).
كما يتحدث عن قراءتى الرفع والنصب فى (فيضاعفه) من قوله تعالى فى سورة البقرة: {«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ لَهُ»} (8)، وينتقل بعدها إلى قوله تعالى: {«ابْعَثْ لَنََا مَلِكاً نُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ»} ويترك الحديث عن القراءات المختلفة فى (فيضاعفه) من حيث حذف الألف، وتشديد العين، ثم لا يذكر شيئا عن القراءات فى قوله تعالى: يبسط (9). مع أن ابن مجاهد روى أنها بالسين فيما حدث به الفراء نفسه عن الكسائى (10).
وآية أنه لم يقصد إلى الاحتجاج أيضا أنه يشير إلى القراء أحيانا
__________
(1) بغية الوعاة: 411.
(2) نزهة الألباء: 209.
(3) الفهرست. 99.
(4) سورة الفاتحة: 3.
(5) ص: 5.
(6) الحجة: 1/ 4مراد ملا.
(7) انظر الحجة: 1/ 30مراد ملا.
(8) ص: 157.
(9) انظر النشر: 2/ 228.
(10) انظر طبقات القراء: 2/ 372.(1/262)
إشارة غير معينة فتراه يأتى بها مجملة من غير ذكر للأسماء، وذلك إذ يقول مثلا والقراء تقرأ (1)، وبعضهم يقرأ كذا (2)، أو يقول: وبعض من قراء أهل المدينة (3) الخ
ويظهر أنه كانت له قراءة، فتراه يقول مثلا: وفى قراءتنا (4)، وقد روى محمد بن الجهم عنه ما يعزز ذلك (5). ويبدو كذلك أن مذهبه فى القراءات لم يكتب له الاختيار من أبى بكر بن مجاهد كما كتب لأستاذيه: حمزة والكسائى (6).
والفراء إلى جانب ذلك مذكور بين علماء الكوفيين (7)، بل هو رأس الطبقة الثالثة من نحاتهم (8)، حتى لقب فى النحو بأمير المؤمنين (9).
وكان لهذه الدراسات الكوفية أثرها ومظهرها فى معانى القرآن للفراء:
(1) فهو يصطنع اصطلاحات الكوفيين التى اشتهروا بها. وأخذت عنهم.
ومن هذه الاصطلاحات: مردود (10) أى معطوف، وينصب ويخفض (11)
فيما يقابل يفتح ويكسر، ويذكر القطع ويريد به الحال، والصفة ويريد بها حرف الجر (12)، والجارى (للمنصرف)، وغير الجارى (للممنوع من الصرف (13))، والعماد لضمير الفصل عند البصريين (14)، والتبيان ويريد به الاظهار عند البصريين (15)، وواو الصرف وهى التى فى نحو قول الشاعر: «لا تنه عن خلق وتأتى مثله (16).
(2) وقد وردت فى معانى القرآن كلمة مبيوع بدل مبيع (17).
(3) ويقيس على الشواهد الفردية من كلام العرب، ويبنى على هذه الشواهد قواعده سواءً كانت هذه الشواهد شعرا أم نثرا، فتراه يحتج بالبيت الذى لا يعرف قائله: كأن يقول: أنشدنى بعض العرب (18)، وأنشدنى آخر (19)، وأنشدنى بعضهم، من غير تعيين القائل ولا قبيلته. وأحيانا يعين القبيلة دون تعيين القائل منها، فيقول مثلا أنشدنى بعض ربيعة (20) وبعض
__________
(1) ص: 77.
(2) ص: 207.
(3) انظر مثلا 17، 19، 28، 82.
(4) معانى القرآن: 28.
(5) انظر طبقات القراء: 2/ 381.
(6) انظر ابراز المعانى ص 5.
(7) الفهرست لابن النديم: 98.
(8) طبقات الزبيدى: 143.
(9) أخبار النحويين للسيرافى: 126.
(10) معانى القرآن: 17.
(11) 9817.
(12) 31.
(13) 42.
(14) 51.
(15) 18.
(16) 34.
(17) 30.
(18) 32، 44، 72، 212.
(19) 32.
(20) 56.(1/263)
بنى عقيل (1)، وبعض بنى أسد (2)، وعكل (3).
وأحيانا يسمى من أنشده: كالقاسم بن معن (4)، وسليمان بن عيينة (5)، وأبو ثروان (6)، والمفضل (7)، كما ينشده يونس بن حبيب (8)، والكسائى (9).
وبعض هذه الشواهد أوردها للدلالة على أن موضع الشاهد فيها كثير فى كلام العرب (10). ومن أمثلة الشواهد النثرية ما أورد من أنه سمع بعض بنى الحارث يقول: «كان به جرب فنشر. أى عاد وحبى (11). ويرد البصريون الشواهد الفردية أو الشواهد غير المعروف قائلها، فلا يقيسون بها، ولا يبنون قواعدهم عليها (12).
(4) وهناك ظاهرة استرعت نظرى، ذلك أنى رأيته يشير فى كثرة إلى قراءة عبد الله (13) ويشير إلى قراءة أبى أقل من إشارته إلى عبد الله، ولكنها كثيرة بالنسبة إلى ابن عباس (14)، والحسن البصرى (15)، وحمزة الزيات (16) ويحيى بن وثاب (17)، والمفضل عن عاصم أبى النجود (18)، وزهير الفرقبى (19)، وأبى جعفر محمد بن على ابن الحسين (20)، وعمر بن الخطاب (21)، ومجاهد (22)، فالإشارة إلى هؤلاء قليلة نادرة، ومن الملاحظ أن أغلبهم كوفيون، ولهذا أهميته ذلك لأننا نستطيع بهذا أن نتعرف على اتجاهات قراء الكوفة، بعد أن عرفنا اتجاهات نحاتها، وقد رأينا من قبل كيف أن سيبويه يشير إلى تجويد قراءات أغلب أصحابها بصريون، وقد دعوت إلى اختبار هذه القراءات ودراستها، وهنا أدعو إلى مثل هذه الدعوة بجانب شيخ النحاة الكوفيين، كما دعوت إليها بجانب إمام النحاة أجمعين.
هذا وتعليل الاشارة الكثيرة إلى عبد الله وهو عبد الله بن مسعود أمر ميسور ذلك لأنه إليه تنتهى قراءة عاصم، وحمزة، والكسائى (23)، الكوفيين.
وقد عرفت بمكانة هؤلاء وأثرهم فى الشيخ الفراء. هذه واحدة، والأخرى أنه لم يكن أحد من أهل الكوفة يرغب عن قراءة ابن مسعود (24) فيما يقول حذيفة بن اليمان،
__________
(1) 67.
(2) 68.
(3) 182.
(4) 68، 136.
(5) 222.
(6) 56.
(7) 61.
(8) 127.
(9) 80، 91، 103.
(10) انظر مثلا ص 126.
(11) 173وانظر ص 51.
(12) راجع الانصاف فى مسائل الخلاف 1/ 251، 2/ 346، 280مثلا.
(13) انظر مثلا ص 28، 31، 41، 42، 43، 73، 78، 87، 106، 156الخ
(14) 75.
(15) 70، 96.
(16) 70.
(17) 78.
(18) 14.
(19) 42.
(20) 85، 75.
(21) 150.
(22) 188.
(23) طبقات القراء: 1/ 459.
(24) انظر المصاحف للسجستانى: 35.(1/264)
فاذا اجتمع إلى ذلك أن له كتاب «اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام فى المصاحف (1) فهمنا السر فى الاشارة إلى قراءة عبد الله بن مسعود هذه الاشارة الظاهرة، وأكثر هذه القراءات التى أشار إليها الفراء قراءات شاذة، وقد احتج بها، وعلى سبيل المثال لم ترد قراءة عبد الله: «إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله» (2)
بين القراءات العشر (3). وكذلك لم ترد «وإن كان ذا عسرة» (4). وهذه القراءة لعبد الله. كما له أيضا قراءة: «وأولوا العلم القائم بالقسط» (5)، ولم ترد فى العشر أيضا (6).
* * * وهذه أمثلة توضح منهج الفراء فى الاحتجاج بالقراءات الشاذة وهو منهج سليم (7) ثم هو يتفق مع منج الكوفيين فى الاحتجاج بالمثال الواحد، والبيت الذى لا يعرف قائله، فاذا كان هذا شأنهم مع الشواهد التى قالها العرب فما بالك بقراءة منسوبة إلى قارئها، مشهور بين الناس أمرها، متصلة بالرسول فى سندها، موافقة للعربية على وجه من وجوهها؟
ومن هنا أيضا رأيت الفراء يجوز القراءات التى تجيزها الصنعة الاعرابية، واللغوية، فتراه يقول فى كثرة ظاهرة ولو قرأ قارئ بكذا كان صوابا
كما ذكر فى قوله تعالى: {«قَدْ كََانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتََا فِئَةٌ تُقََاتِلُ»} (8)، قرئت بالرفع وهو وجه الكلام على معنى: إحداهما تقاتل فى سبيل الله (9) (وأخرى كافرة) على الاستئناف كما قال الشاعر:
فكنت كذى رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ولو خفضت لكان جيدا: ترده على الخفض الأول كأنك قلت: كذى رجلين:
كذى رجل صحيحة ورجل سليمة. وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أول الكلام.
__________
(1) معجم الادباء: 20/ 13.
(2) سورة البقرة: 229وانظر 145 معاني القرآن.
(3) انظر النشر: 2/ 238.
(4) معاني القرآن 186وانظر النشر: 2/ 236.
(5) معاني القرآن: 200.
(6) انظر النشر: 2/ 238.
(7) سأزيد ذلك بيانا فى موضع آخر.
(8) سورة آل عمران: 13.
(9) معاني القرآن ص 192.(1/265)
ولو قلت: فئة {«تُقََاتِلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَأُخْرى ََ كََافِرَةٌ»} كان صوابا على قولك:
التقتا مختلفتين (1) وكما قال عند قوله تعالى: {«هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً»}
الذرية جمع، وقد تكون فى معنى واحد، فهذا من ذلك، لأنه قد قال: {«فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا»} ولم يقل أولياء وإنما قيل «طيبة» ولم يقل طيبا، لأن الطيبة أخرجت على لفظ الذرية فأنثت لتأنيثها، ولو قيل ذرية طيبا كان صوابا (2).
وإذن فالملاك العام عنده الاعتداد بالشاذ، وتصويب القراءة ما دامت موافقة لوجه من وجوه العربية كما رأيت ومن هنا نراه يحتج لقراءة صحيحة بقراءة شذذت فيما بعد كاحتجاجه لرفع الحق، من قوله تعالى: {«ذََلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ»}، قال: رفعه حمزة والكسائى، وجعلا الحق هو الله تبارك وتعالى) لأنها فى حرف عبد الله، «ذلك عيسى ابن مريم قال الله» كقولك: كلمة الله، فيجعلون «قال» بمنزلة القول، كما قالوا: العاب والعيب (3).
وبعد أن أورد قول الله تعالى: {«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ وَالْمَلََائِكَةُ»} (4) قال: رفع أى الملائكة مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض أهل المدينة (5)، «يريد فى ظلل من الغمام وفى الملائكة» والرفع أجود لأنها فى قراءة عبد الله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة فى ظلل من الغمام» (6).
وقد أعطانا الفراء هذا الملاك العام فى قوله: «والكتاب أعرب وأقوى فى الحجة من الشعر» (7) كما نراه يقف من القراءات التى لا توافق مذهبه موقفا سليما لا يهاجم فيه بل يعترف به فى لطف كأن يقول: «وأنه لأحب الوجهين إلى (8)»، أو يقول:
«والرفع أحب إلى من الجزم فى قراءة من قرأ: «لا يحزنهم الفزع الأكبر» ومن قرأ: «أنزلكموها وأنتم لها كارهون (9). فأنت ترى أن كلا من الوجهين
__________
(1) ص 192.
(2) معاني القرآن: 208، وانظر فى مثل ذلك من معاني القرآن ص 213، 214، 220، 221، 224.
(3) معاني القرآن ص 105.
(4) سورة البقرة: 210.
(5) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع انظر البحر: 2/ 325.
(6) معاني القرآن: 124.
(7) معاني القرآن: 140.
(8) معانى القرآن: 75.
(9) معاني القرآن: 88.(1/266)
حبيب إليه، ولكن أحدهما أحب إليه من الآخر، ومبعث هذا عنده ما يراه فى صحة القراءات جمعاء، وذلك قوله فى سلامة من العقيدة: «ولم يجتمع فى قراءتنا وفى قراءة أبى إلّا على صواب والله أعلم (1).
* * * وغاية ما يبدو منه إذا لم يسترح إلى قراءة أن يقول: «ولست أشتهى ذلك» (2)
أو يقول: «ولا يعجبنى ذلك» (3)، وهنا نراه ينفى حبه وإعجابه، ولكن ليس فى قسوة البصريين الذين قالوا فى قراءة لعبد الله بن عامر: «هى واهية، والقارئ بها واهم» (4)؟ وقد رأينا مواقف أبى على الفارسى نحو القراءات التى تخالف مذهبه، وهو يتجه فى سمته العامة اتجاه البصريين (5).
* * * (5) والفراء يستفتى فى معانى القرآن روح العربية فهذا وجه من الأوجه كثير الدوران فى الكلام، خفيف على الألسنة. ولذلك نطق به، ويجعل الخفة، وكثرة الدوران سببا من أسباب الاحتجاج، أو وسيلة إلى توجيه قراءة من القراءات (6).
* * * (6) أما القياس واستغلاله فى الاحتجاج، فواضح فى كتاب معانى القرآن، تراه مثلا يقيس خفض الدال من قوله: الحمد لله على اجتماع الكسرتين فى إبل (7)، ويقيس رفع الدال فى قراءة من قرأ: الحمد لله على المثال الأكثر من أسماء العرب الذى يجتمع فيه الضمتان مثل: الحلم والعقب. وانظر قياسه كسر الصاد فى صاد على خفض النون من «رجلان»، وفتح النون فى «نون» و «القلم» على «المسلمون» (8).
__________
(1) معاني القرآن: 106.
(2) معاني القرآن: 125.
(3) معانى القرآن: 145.
(4) الانصاف: 1/ 252.
(5) انظر الفصل الخاص بذلك.
(6) معانى القرآن انظر ص 5.
(7) معاني القرآن: 3.
(8) معاني القرآن: 10(1/267)
وأحيانا يعطى قاعدة عامة تنتظم مسائل كثيرة متشابهة ثم يقول: فأجر الكلام على هذا (1)، أو يقول: فابن على هذا (2).
وواضح من هذا أنه يدعو إلى القياس على الكثير الشائع، ومعلوم من مذهب الكوفيين أنهم يقيسون أيضا على القليل النادر، ولكن الفراء يعلن أنه لا يستحب القياس عليه، وذلك ما توحى به عبارته التى ذكرها فى الجمع بين صيغة الأفعال والباء فى قراءة من قرأ: {«يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ»} (3)، حيث قال:
ولست أستحب ذلك لقلته» (4)،
* * * (7) أما موقفه من النحاة السابقين فانا نراه يثنى على شيخ الكوفيين: أبى جعفر الرؤاسى حيث يقول: «وقد قرأها الم الله رجل من النحويين وهو أبو جعفر الرؤاسى وكان رجلا صالحا (5).
وليس معنى ذلك أنه جرى على هذا الثناء لشيوخه، فقد رأيته يتتبع أستاذه الكسائى، يعرض آراءه، ويردها حينا (6)، كما رأيته يعرضها ويدلل عليها (7).
* * * ولا ينظر إلى البصريين، ولا يستشهد بسيبويه إلا فى الأقل الأندر، وأبو عبيدة وهو بصرى غير موثق عنده فقد أورد فى معانى القرآن قوله: قال بعض من لا يعرف العربية إن معنى غير فى الحمد (سورة الفاتحة) معنى سوى، وأن «لا» صلة فى الكلام، واحتج بقول الشاعر:
فى بئر لا حور سرى وما شعر (8)
ومن لا يعرف العربية هنا هو أبو عبيدة (9).
* * * __________
(1) معاني القرآن: 15.
(2) المصدر السابق وانظر مثلا ص 81، 93.
(3) سورة النور: 43.
(4) معاني القرآن ص 19.
(5) معاني القرآن 9.
(6) انظر معاني القرآن: 32.
(7) انظر: 56، 58.
(8) معاني القرآن: 8.
(9) انظر اللسان (غير).(1/268)
ويظهر أن أبا عبيدة قد تناولته ألسنة كثيرة بعدم التوثيق (1)، فربما كان الدافع للفراء ما فى الرجل من شخصيته، لا مذهبه فى بصيرته.
وقد اتخذ موقف الفراء من رسم المصحف، والاعتماد عليه فى الاحتجاج مظاهر مختلفة ألخص معالمها الكبرى فى النقاط الآتية:
(ا) فهو حينا يعلل لرسم كتاب المصاحف «بسم الله الرحمن الرحيم» من غير ألف، ورسمهم: فسبح باسم ربك العظيم بألف (2).
(ب) وقد تكون القراءة صحيحة خالفت رسم المصحف المخالفة الجائزة على النحو الذى بينته فى فصل سابق فيحتج لها الفراء (3).
(ج) وقد يرتضى القراءة الشاذة التى تجوزها العربية وإن كانت مخالفة للرسم (4).
(د) وقد ينفى شهوته (كذا) قراءة صحيحة لأنها مخالفة للرسم (5).
(هـ) ويحتج لرجوع الكسائى عن قراءة إلى أخرى بموافقتها قراءة العامة، والكتاب (6).
* * * وهو كما ترى اتجاه لا يخضع لنظام معين، أو نظرة مطردة، إذ هو حينا يرتضى ما يخالف الرسم، وأحيانا يشير إلى موافقة الكتاب فيحتج برسمه.
على أن الاتجاه فى أغلبه يدل على أنه معتد بالرسم إذا وجد له وجها من كلام العرب (7) وذلك يجعله بين أهل الأثر، ويبعده عن أصحاب القياس والنظر.
* * * هذا والمترجمون للفراء يقولون: «أنه كان يتفلسف فى تصانيفه» (8)، ولعل صحبته لثمامة بن الأشرس أثرت فى ذلك (9)، وقد ألف الفراء كتاب «الحدود» ولا أستطيع أن أحكم على أسلوبه فيه لأنى لم أطلع عليه، إلا أن اسمه يوحى بمنطق،
__________
(1) طبقات انظر الزبيدى: 192.
(2) ص 2.
(3) معانى القرآن: 88.
(4) معانى القرآن: 96.
(5) معاني القرآن: 125.
(6) معاني القرآن: 202.
(7) الصاحبى: 11.
(8) بغية الوعاة: 411.
(9) نزهة الألباء: 68.(1/269)
وقد أورد ابن النديم مسائل هذا الكتاب، وهى تعاريف لأبواب العربية والنحو، فلعله كان فى هذه التعاريف جامعا مانعا كما يقول المنطقيون.
على أنى فيما قرأت من معانى القرآن للفراء لم أجد نصا يشير إلى هذا التفلسف، وربما كان ذلك إن صح فى كتبه الأخرى، وربما كان السبب فى بعده عن التفلسف فى معانى القرآن ميله إلى الايضاح الذى دعت إليه دواع أفصلها فيما يلى (1):
يبدو أن الفراء آثر فى كتابه معانى القرآن البيان والايضاح فى أسلوبه متأثرا بما يصطنعه المؤدبون، فقد حدثنا المترجمون أنه كان مؤدبا لولدى المأمون (2)، إلى أن كتابه معنون بتفسير المشكل وما أحوج مثل ذلك إلى الأسلوب السهل حتى يزيل من إشكاله، ويفتح المغاليق من أقفاله، وسبب ثالث أراه دعا الفراء إلى أن يسلك أوضح المسالك، ذلك أنه ألف الكتاب ممليا على خلائق كثير من الناس، وقد هم أبو بريدة الوضاحى أن يعدّهم فلم يضبط عددهم (3)، وموقف الاملاء على مثل هؤلاء وأكثر الناس من العامة يدعو إلى التبسط فى المقال مراعاة لمقتضى الحال.
وكان فى طبيعة الفراء سماحة «كان أكثر مقامه فى بغداد، فاذا كان آخر السنة أتى الكوفة، فأقام بها أربعين يوما يفرق فى أهله ما جمعه (4)، كما كان فى خلق الفراء إسجاح، وذلك ما تحدثنى به عبارة «أبى بريدة» عند ما خزن الوراقون كتاب المعانى عن الناس ليتكسبوا به، وأغلوا نسخه حتى جعلوه درهما عن كل خمسة أوراق، وشكا الناس إلى الفراء فدعا الوراقين وكلمهم فى ذلك، وقال عبارته التى أستنتج منها سجاحته «قاربوا الناس تنفعوا، وتنتفعوا (5)» ورجل هذه نزعته فى الخير، وذلك حبه لمقاربة الناس خليق بأن يزيل عنهم فيما يمليه الغموض والالباس، تقرأ ذلك أيضا فى عبارته التى يهدد بها الوراقين عند ما أبوا عليه دعوته فى مقاربة الناس: إنى أريد أن أملى كتاب معان أتم شرحا، وأبسط قولا من الذى أمليت قبلا (6).
__________
(1) الفهرست: 100.
(2) نزهة الألباء: 67.
(3) معجم الأدباء: 20/ 12.
(4) بغية الوعاة: 411.
(5) معجم الأدباء: 2/ 12.
(6) معجم الأدباء: 20/ 13.(1/270)
ولوقوفه موقف المعلم الموضّح نراه يجيل الكلام على صورة حوار.
قال فى قوله تعالى {«فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيََاءَ اللََّهِ مِنْ قَبْلُ»} (1) يقول القائل «إنما تقتلون» للمستقبل فكيف قال. من قبل؟ ثم أخذ يجيب بضرب الأمثلة الموضحة من القرآن الكريم والشعر (2)، وربما قال فى نهاية حديثه عن مشكل:
وفى هذا بيان (3).
ومن أجل ذلك وردت قواعد عامة فى كلام الفراء، كأنه يريد بهذه القواعد تيسير الأمر على الناس بضم أشتات العلم فى قواعد وتطبق على مسائل متعددة كأن يقول «وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحدا فأجزه (4)» أو يقول. وإن العرب لتجمع بين الحرفين وإنهما لواحد إذا اختلف لفظاهما كما قال عدى بن زيد.
وقدمت الأديم لراهشيه (5) وألفى قولها كذبا ومينا.
وقولهم. بعدا وسحقا، والبعد والسحق واحد.
وكأن يقول وقد تجعل العرب «ما» فى بعض الكلام للناس، وليس بالكثير (6).
وبعد، فكثير من الباحثين ينسبون إلى ابن السراج أنه أول من وضع أصول العربية والنحو فى كتابه الأصول، وقد ذكر شيئا من ذلك محققو كتاب «سر صناعة الاعراب» فى مقدمته (7) ولا بد هنا أن نعترف «ليحيى بن زياد الفراء» فى هذا الميدان، وأنه سبق ابن السراج فى وضع أصول العربية بنحو قرن من الزمان، ولعل هذه القواعد العامة وأمثالها كثير، فى كتاب معانى القرآن. بعض هذه الأصول التى قررها الفراء. على أن المؤرخين من الوراقين يذكرون أن لأبى زكريا يحيى بن زياد الفراء كتابا فى أصول النحو. قال. أبو بريدة الوضاحى أمر أمير المؤمنين الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب (8). ومن هنا
__________
(1) سورة البقرة: 91.
(2) معانى القرآن ص 60.
(3) معاني القرآن: 36.
(4) معانى القرآن: 15.
(5) معانى القرآن ص 37.
(6) معانى القرآن 102وانظر فى هذه القواعد العامة ص 14، 22، 30، 34، 103، 142مثلا.
(7) ص 6.
(8) معجم الأدباء: 20/ 12.(1/271)
قال أحمد بن يحيى ثعلب «لولا الفراء لما كانت اللغة لأنه حصلها وضبطها ولولا الفراء لسقطت العربية (1).
ويقولون مثل هذه العبارة فى الأصول لابن السراج (2).
فهذه نماذج من أصول العربية للفراء فى كتابه معانى القرآن، وإذا كان علم ابن السراج فى الأصول قد بسطه ابن جنى فى كتابه «الخصائص» ولخصه السيوطى فى كتابه الاقتراح فان دراسة هذه الكتب تفتح لنا آفاقا جديدة فى التعرف على مذاهب الكوفيين ممثلة فى (شيخ النحاة الفراء)، ومذاهب البصريين ممثلة فى ابن جنى.
* * * وبعد فهذا عرض سريع لكتاب معانى القرآن للفراء بعامة وفى الاحتجاج للقراءات بخاصة، أضعه حلقة فى سلسلة تاريخ الاحتجاج، ومعالمه الكبرى، كما أعده كاشفا عن منهج الكوفيين فى هذا السبيل، كما عددت «الكتاب» كاشفا عن منهج البصريين، وعلى ضوء هذين نستطيع أن ندرس ما سميته من قبل.
«نحو القراءات» وهو ما أرجو أن يتجه إليه الباحثون.
__________
(1) نزهة الألباء: 66.
(2) انظر نزهة الألباء: 169.(1/272)
الفصل الثانى بين الزجاج فى معانى القرآن وتلميذه أبى على فى الاحتجاج
هناك أسباب كثيرة تدعونى إلى إقامة الدرس حول معانى القرآن لأبى إسحاق إبراهيم بن السرى بن سهل الملقب بالزجاج (ت 311هـ)، فالزجاج شيخ لأبى على الفارسى، وقد سمع الفارسى من شيخه كتاب المعانى (1)، فلا بد أن يكون هناك تفاعل بين الرجلين، هذا إلى أن معانى القرآن للزجاج يمثل حلقة من هذه الحلقات المتتابعة فى الدراسات القرآنية، ونحو القراءات، وهو أمر يتصل بموضوع هذا البحث اتصالا وثيقا، وقد عرضت من قبل لهذا الجانب من نحو القراءات ممثلا فى دراستى لكتاب سيبويه، ثم تكلمت عن اتجاه الفراء الكوفى فى معانى القرآن، ووجدت هناك طابعا خاصا تناولته بالبيان، ودعوت وأنا أصحب سيبويه فى الكتاب، والفراء فى المعانى إلى اختبار هذا النحو القرآنى: والآن أضيف حلقة جديدة إلى هذه الحلقات فتمتد سلسلة الدراسات إلى الزجاج فأتعرف هذه الناحية عنده، كما سيكون كتاب الموضح للدانى حلقة أخرى تمثل نظرة القراء إلى النحو والنحاة، وأرجو بعد ذلك كله الدعوة إلى النظر فى هذا التراث: فهؤلاء شيوخه، وتلك مدارسه، فلعلنا نظفر بنحو موثق مدعوم الأسانيد من القراءات الصحيحة. (2)
والمطلع على ثبت الكتب التى أضافها الزجاج إلى المكتبة العربية يرى أنها متصلة فى الأعم الأغلب باللغة، والنحو، والصرف، والأدب، والعروض، والقوافى جميعا (3).
ولم يترك أثرا متصلا بالدراسات القرآنية إلا كتابه «معانى القرآن» على ما علمت من كتب التراجم. وعلى الرغم من ذلك، يظهر أن الزجاج اشتهر به دون غيره من كتبه الأخرى، حتى إن أبا بكر الخطيب البغدادى فى تاريخه لا يعرفه إلا به:
فيقول: «إبراهيم بن السرى بن سهل صاحب كتاب معانى القرآن (4)، ويأتى بذكر كتبه الأخرى فى إشارة مجملة حيث يقول. «وله مصنّفات حسان فى الأدب» (5) ولا يزيد.
__________
(1) المحتسب: 1/ 10.
(2) تاريخ بغداد: 6/ 92.
(3) الفهرست لابن النديم: 91.
(4) تاريخ بغداد: 6/ 89.
(5) المصدر السابق: 6/ 90.(1/273)
وقد أورد ياقوت فى معجمه قوله: «قرأت على ظهر كتاب المعانى: ابتدأ أبو إسحاق باملاء كتابه الموسوم بمعانى القرآن فى صفر سنه خمس وثمانين ومائتين، وأتمه فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثمائة (1)» وأود أن أسوق النصوص الآتية وهى كاشفة عن حلقات التأليف فى معانى القرآن وكيف ألف الزجاج فى المعانى مندفعا ببعض شيوخه فى ذلك.
(ا) قال صاحب طبقات المفسرين (2): ومن تآليف اسماعيل بن إسحاق (3)
كتاب معانى القرآن وإعرابه خمسة وعشرون جزءا، و، وكتاب المعانى المذكور كان ابتدأه أبو عبيد القاسم بن سلام، بلغ فيه إلى الحج، والأنبياء، ثم تركه فلم يكمله.
وذلك أن الامام أحمد بن حنبل كتب إليه يقول: «بلغنى أنك تؤلف كتابا فى القراءات أقمت فيه الفراء، وأبا عبيدة، أئمة يحتج بهم فى معانى القرآن فلا تفعل، فأخذه إسماعيل، وزاد فيه زيادة وانتهى إلى حيث انتهى أبو عبيدة، وتوفى فجأة
سنة 282هـ».
(ب) وأود كذلك أن أضيف إلى هذا النص ما يأتى:
أولا كانت هناك صلة مودة وتعاطف بين المبرد شيخ الزجاج وإسماعيل ابن اسحاق (4).
ثانيا يشير أبو إسحاق الزجاج إلى اسماعيل بن إسحاق هذا مثلا عند الاحتجاج لقراءة {«وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ».}
ثالثا آخر ما سمع من الزجاج قوله: «اللهم احشرنى على مذهب أحمد ابن حنبل (5)
رابعا يخطئ الزجاج الفراء فى معانى القرآن، ويهاجم أبا عبيدة على النحو الذى سأشرحه بعد فى هذا الفصل.
وأظننى بعد تلك القرائن أستطيع أن أستنتج السبب الذى من أجله ألف الزجاج معانى القرآن مبتدئا فيه بعيد الوقت الذى توفى فيه اسماعيل بن إسحاق، محققا توجيهات ابن حنبل لأبى عبيد القاسم بن سلام.
__________
(1) معجم الادباء: 1/ 151.
(2) ورقة: 45.
(3) قاضى بغداذ ت 272هـ (المصدر السابق).
(4) معجم الأدباء: 6/ 135.
(5) معجم الأدباء: 1/ 130.(1/274)
هذا وكتاب معانى القرآن للزجاج مخطوط بدار الكتب تحت رقم 111م تفسير، وما فى الدار منه إلا جزء واحد من سورة النساء إلى آخر هود.
وفى الأمانة العامة للجامعة العربية (معهد المخطوطات) أفلام لأجزاء مختلفة من معانى القرآن للزجاج (1). وأمضى بعد ذلك إلى بيان خصائص هذا الكتاب، ومقدار ما بين الزجاج وأبى على من تخالف أو اتفاق.
خصائص معانى القرآن للزجاج
أولا فى تفسير اللفظ القرآنى،
وقد رأيت أبا إسحاق يسلك طرقا مختلفات فى تفسير اللفظ القرآنى، وأن أبا على يشترك معه فى بعض منها، متأثرا بشيخه فيها، غير مطفئ، ذلك شخصية أبى على، فهو وإن كان قفى قفو أستاذه محتفظ بما له من سمات، تبدو فى تناوله هذه اللغويات، كما تبدو فيما تراه من إضافات وتعقيبات.
وفى بعض آخر ينفرد أبو إسحاق، ولا يجرى أبو على فى سننه، مما يجعل ذلك طابعا خاصا للزجاج، يدل عليه، ويشير إليه، ويميزه عمن عداه. وابدأ ببيان السمة المميزة لأبى إسحاق فأقول:
الاشتقاق
وأبو إسحاق مولع ولعا شديدا بالاشتقاق: يجعل للفظ معنى أصيلا تؤخذ منه وتدور حوله معانى الألفاظ التى تمت له باتفاقها معه فى بعض الحروف، ومتصرفه منه، وهكذا يأخذ أصلا من الأصول يجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، وهو ما سماه ابن جنى الاشتقاق الصغير (2).
فاذا ما تعرض الزجاج مثلا لشرح «فريضة» من قوله تعالى: {«فَرِيضَةً مِنَ اللََّهِ، إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً حَكِيماً} (3) قال: أصل الفرض فى اللغة القطع، الفرضة:
الثلمة تكون فى النهر، والفرض: الحز الذى يكون فى المسواك يشد فيه الخيط،
__________
(1) انظر فهرس المخطوطات المصورة: 45.
(2) الخصائص: 1/ 562.
(3) سورة 4آية 11.(1/275)
والفرض فى القوس: الحز الذى تشد فيه الوتر، والفريضة فى سائر ما افترض ما أمر الله به العباد فجعله أمرا حتما عليهم قاطعا، وكذلك قوله: {«وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً»}
أى جعلتم لهن قطعة من المال.
وإذا ما شرح لفظ كفل فى قوله تعالى: {«وَمَنْ يَشْفَعْ شَفََاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهََا»} (1). قال: الكفل فى اللغة النصيب، وأخذ من قولهم: «أكفلت البعير» إذا أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كساء، وركبت عليه، وإنما قيل له كفل، واكتفل البعير لأنه لم يستعمل الظهر كله، إنما استعمل نصيب من الظهر، ولم يستعمل كله.
والزجاج يشير إلى طريقته فى الاشتقاق من أنه يأخذ أصلا من الأصول يجمع بين معانيه وذلك إذ يقول: «قد استعز المرض على المريض إذا اشتد وجعه وكذلك قول الناس: يعز على أن تفعل: أى يشتد، فأما قولهم: قد عز الشيء إذا لم يوجد، فتأويله: قد اشتد وجوده أى صعب أن يوجد، والمآب واحد».
وألق بالك معى إلى قوله: «والمآب واحد تر فيه إشارة إلى نزعته فى الاشتقاق، وتأصيل الأصول لمعانى الكلمات.
وقد رمى به ولعه بالاشتقاق على هذا النحو إلى ترجيح جانبه على ما عداه من التأويلات، فاذا كانت هناك عدة تأويلات، وكان بعضها يرجع فى معناها إلى أصل من أصول الاشتقاق رجح هذا الجانب، ونبه عليه: أورد فى قوله تعالى:
{«وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً»} (2).
قال بعضهم: المقيت: القدير وقال بعضهم: «المقيت: الحفيظ، ثم يختار هذا التأويل بدليل قوله: «وهو عندى والله أعلم بالحفيظ أشبه، ثم بين سبب الاختيار بقوله: هو بالحفيظ أشبه لأنه من القوت مشتق: يقال قت الرجل أقوته قوتا إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته. والقوت اسم ذلك الشيء الذى يحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قوت الحفظ. فمعنى المقيت والله أعلم الحفيظ الذى يعطى الشيء قدر الحاجة من الحفظ. قال الشاعر:
ألى الفضل أم على اذا حو ... سبت إنى على الحساب مقيت
__________
(1) سورة 4آية 58.
(2) سورة النساء آية (85).(1/276)
وهكذا كان ولع الزجاج بالاشتقاق، وقد وجه حمزة بن الحسن الأصبهانى فى كتابه الموازنة نقدا لاذعا إلى أبى إسحاق حيث قال: «كان الزجاج يزعم أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف وإن نقص حروف إحداهما عن حروف الأخرى فان احداهما مشتقة من الأخرى (1)، فيقول: «الرجل مشتق من الرجل، والثور إنما يسمى ثورا لأنه يثير الأرض، والثوب إنما سمى ثوبا لأنه ثاب لباسا بعد أن كان غزلا (حسيبه (2) الله!)، ثم أورد حمزة سؤال يحيى بن على بن يحيى المنجم الزجاج عن الاشتقاق للجرجير ولم سمى الحبل جريرا، وتعليل تسمية الجرة والمجرة، والجرجور وقد ناقشة يحيى بن على فى تعليله تسمية الفصيل المجر الذى يشق طرف لسانه لئلا يرتضع أمه بقوله أى الزجاج «لأنهم جروا لسانه حتى قطعوه» فقال يحيى ينقض عليه: «فان جروا أذنيه فقطعوهما تسميه مجرا؟
قال الزجاج: لا يجوز ذلك! قال يحيى بعد أن رمى الزجاج بمناقضة العلة التى أتى بها:
«ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حس له (3)» وهكذا رمى الزجاج بهذه النكراء.
ويظهر أن الزجاج قد اشتهر بهذا المذهب شهرة تجعله يجادل فيه، ويسأل عنه، ثم يكون موضع المفاكهة والتندر: حكى ابن العلاف الشاعر: «يلزمه أن يقول
والدب مشتق من الدب، والعذب من الشراب مشتق من العذاب، والخريف من الخروف والخنفساء من والخنثى من الأنثى والمخنث من المؤنث
(ضرط ابليس على ذا من أدب (4)!!)
والحق أن خصوم الزجاج غالوا فى مهاجمته على النحو الذى ترى، وعندى أن الزجاج على صحة من المذهب فى بعض ما رأى، لكن لا على أن يمعن ويتعمل،
__________
(1) المراد من الاشتقاق هنا مجرد الأخذ كما نص على ذلك المحقق لمعجم الأدباء.
(2) معجم الأدباء: 1/ 144.
(3) معجم الادباء: 2/ 146.
(4) معجم الادباء: 1/ 147.
حاشية: وقد بقيت أثارة من هذا التندر فى أهل زماننا هذا، سمعت بعض المشتغلين بالعلم يقول: «ان كادر الموظفين مشتق من الكدر» وما أبعد ما اشتقوا: لفظا أعجميا من آخر عربى، ويظهر أن شيئا من ذلك كان عند الاقدمين، فقد نبه ابن السراج فى رسالته عليه، وحذر إياه حيث يقول: «مما ينبغي أن يحذر كل الحذر أن يشتق من لغة العجم، فيكون بمنزلة من ادعى أن الطير ولد الحوت» (المزهر للسيوطى: 1/ 205ط صبيح).(1/277)
ويتلمس العلاقة البعيدة فى اشتقاق كلمة، وارتباط معنى بمعنى، فهذا يرمى به إلى جانب من التكلف يؤدى به إلى خطأ وانتقاض كانا موضع التعقب والتندر والتهجم من الخصوم.
* * * وإذ قد قومت مذهب الزجاج فى الاشتقاق، وذكرت موقف القدامى منه، وقلت كلمة الإنصاف فى هؤلاء وهؤلاء، أود أن أذكر الأسباب التى أراها دعت الزجاج إلى انفراده بما انفرد من الامعان فى الاشتقاق، والتكلم فيه على هذه الصورة الواسعة:
ربما كان الباعث على هذا المذهب عند الزجاج أنه كان ضعيف العلم باللغة (1)
فأراد أن يستر ضعفه، وأن يستوعب معانيها على هذا الوجه المقرب، بايجاد هذه العلاقات والترابط بين الألفاظ والمعانى، وهو أسلوب يأخذ به طلاب العلم أنفسهم لحفظ ما يحصلون، ويصطنعها بعض المعلمين لتقريب ما يلقون إلى من يعلمون، وقد كان الزجاج معلما لأولاد بنى مارقة (2) ثم ولد عبيد الله بن سليمان (3).
على أن شيئا من ذلك يتصل فيما بدا فى بصناعته الأولى، حيث كان يخرط الزجاج (4)، وما يلازم هذه الصناعة من أخذ شىء من شىء، واشتقاق فروع يشكلها من أصول، والمرء مشدود إلى بيئته يشير إليها، وتدل عليه، وتعمل عملها فى حديثه وتصرفه حتى لا فكاك له من ذلك، لا سيما إذا علمنا أن الزجاج جمع بين خراطة الزجاج، وتلقى العلم فى وقت واحد، يأخذ من الأولى ليرد على أستاذه المبرد ما وعده به أن يعطيه كل يوم درهما (5).
ولا يدفع بعض هذه التعليلات ما كان من مؤلفات فى الاشتقاق للأئمة السابقين كالأخفش (6)، والأصمعى (7)، وأحمد بن حاتم (8)، والمبرد شيخ الزجاج (9)،
__________
(1) الفهرست: 90.
(2) معجم الادباء: 1/ 131.
(3) الفهرست: 90.
(4) وفيات الأعيان: 1/ 32.
(5) تاريخ بغداد: 6/ 90، نزهة الألباء: 166، ومعجم الادباء: 1/ 1.
(6) الفهرست: 78.
(7) المصدر السابق: 81.
(8) 83.
(9) الفهرست: 88.(1/278)
كما كان لابن دريد (1)، وابن السراج (2) وللرمانى الاشتقاق الصغير، والاشتقاق الكبير (3). كما أفرد النحاس وابن خالويه الاشتقاق (4) بالتأليف أقول: «لا يدفع ما عللت شىء من ذلك لأن تعرض الناس للزجاج بما تعرضوا وقد سقت طرفا منه يجعل للزجاج طابعا خاصا وقد أشرت إليه فى تناوله الاشتقاق، مميزا له عن غيره من الأئمة اللغويين، متصلا فيما يتصل بالحياة التى اضطرب فيها الزجاج، والظروف التى أحاطت به، ووجهته، وأثرت فيه (5).
__________
(1) الفهرست: 92.
(2) الفهرست: 93.
(3) الفهرست: 95.
(4) المزهر: 1/ 204ط صبيح.
(5) وبهذه المناسبة أقول: «إن الباحثين من المحدثين المحققين يذكرون لابن دريد أنه بدأ النجاح الكبير لفكرة الاشتقاق بتأليف كتاب الاشتقاق، وأن ابن فارس قد تأسى به.
(انظر مقدمة كتاب مقاييس اللغة تحقيق الاستاذ عبد السلام هارون 23) ويفهم من هذه العبارة أن المؤلفين القدامى قيل ابن دريد كانت لهم بحوث فى الاشتقاق، ولكنها لم تبلغ الدرجة العليا من النجاح وذلك الكلام يحتاج إلى تعقيب، فطبيعة الاشياء تدعونا إلى الاعتداد بالتطور التاريخى لهذا الامر، وبناء الخالفين على أصول السالفين من اللغويين، فأبو عمرو ابن العلاء (154هـ)، يسأل أعرابيا عن اشتقاق الخيل وسؤاله دليل على مشغلة الناس فى ذلك الوقت بالاشتقاق فيجيب الاعرابى أنه استفاد الاسم من فعل السير، ويفسر أبو عمرو ذلك بأنه مشتق من الخيلاء والعجب، ويقول: ألا تراها تمشى العرضنة خيلاء وتكبرا (طبقات الزبيدى 29).
وأبو زيد الانصارى (214هـ) يقول: سميت «منى» منى لما يمنى فيها من الدماء (المزهر 1/ 205) والاخفش (215هـ) «طبقات الزبيدى 76» يسمعه أبو عثمان يقول:
«اشتقاق الدكان من الدكدك، وهى أرض فيها غلظ وانبساط، ومنه اشتقاق ناقة دكاء، إذا كانت مفترشة السنام فى ظهرها أو مجبوبته (المزهر 1/ 205)
ومنذ الاخفش يتجه العلماء إلى التأليف فى الاشتقاق وأفراده بالبحوث، وقد قرر الاستاذ «عبد السلام هارون» أن الكلام فى الاشتقاق قديم، فقد أشار إلى المؤلفين القدامى فيه، (مقدمة مقابيس اللغة انظر ص 23ج 1) ولكنه يغفل ما أردت الإشارة إليه هنا فى هذا الفصل وهو مشاركة أبى إسحاق الزجاج فى هذا الباب على هذه الصورة التى تستحق التسجيل، والتى عرضت أمثلة لها فى تفسيره اللفظ القرآنى، وأرجو بعد ذلك ألا ينسب إلى ابن دريد أنه بدأ النجاح الكبير فى الاشتقاق، وينسى أبو إسحاق الزجاج (ت 311) وهو معاصر ابن دريد (324هـ). ويذكره المؤرخون فى كتب الطبقات سابقا عليه
وربما كان الأستاذ مدفوعا إلى ما رأى بأن الكتب المؤلفة فى الاشتقاق طواها الزمن، وامتدت إليها يد الضياع، خلا كتاب ابن دريد فى الاشتقاق المعروف فى أيدى الناس (الكتاب مطبوع فى جوتنجن سنة 1854م) فهل تلتمس المعذرة بعد أن أورد الزجاج هذه.(1/279)
أما أبو على فلم يحفل بهذا الاشتقاق فى تفسير الألفاظ القرآنية التى عرض لها فى كتابه الحجة، وإنما كان يعتاده، ولا يعول عليه، حتى لأستطيع من ذلك أن أخلص إلى النتيجة التى أريد تسجيلها وهى: «أن تفسير اللفظ القرآنى بطريق الاشتقاق طابع خاص تميز به الزجاج، وفصل عنه تلميذه الفارسى، ولم يشأ أبو على أن يحذو حذو شيخه فيه».
وربما كان السبب فى ذلك أن أبا على تأثر أكثر ما تأثر فى اللغة بكتب أبى زيد الأنصارى (1) ولم يكن الاشتقاق على ما يبدو قد ظهر فى صورة واضحة المعالم فى ذلك العهد عهد أبى زيد، وإنما كان الكلام فيه نتفا تروى ولم تبلغ درجة الرشد والاكتمال. وأمضى فى بيان بقية خصائص كتاب معانى القرآن للزجاج.
ثانيا: تفسير اللفظ القرآنى أولا بالقرآن:
وهذه ذات شعبتين:
1 - فإما أن يكون اللفظ المفسر لا حقا للفظ المفسر فى آية واحدة، فيستدل بذلك على هذا بطريق الاستنتاج كما فى قوله تعالى: {«يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحََاكَمُوا إِلَى الطََّاغُوتِ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطََانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلََالًا بَعِيداً} (2).
قال: الطاغوت: الشيطان بدليل قوله تعالى: {«وَيُرِيدُ الشَّيْطََانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلََالًا بَعِيداً}.
وفى قوله تعالى: {«وَقََالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبََادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دََاخِرِينَ»} قال: ادعونى: اعبدوني والدليل أن الذين يستكبرون عن عبادتى».
__________
الطائفة الصالحة من الاشتقاق فى كتابه معاني القرآن؟! وأى الشيخين المتعاصرين بدأ النجاح الكبير فى نظرية الاشتقاق إذا سلمت جدلا، بعدم الاعتداد بجهود السابقين؟! صحيح أن بعض العلماء وربما دفعهم التحامل لم يرضوا عن منهج الزجاج فى الاشتقاق كما أشرت إلى ذلك من قبل ولكن هذا لا يدعو إلى عدم الاعتداد به، وإغفاله حتى لا يشار إليه، مع أنه يمثل مرحلة كبرى من المراحل التى خطاها السابقون فى هذه السبيل، ومما يزيد فى أهمية هذه المرحلة عند الزجاج أنه يكاد يلتزمها فى تفسير اللفظ القرآنى، فى كتابه المعانى. هذا وقد عرضت فى مكان آخر أبى بكر محمد بن السرى الملقب بابن السراج وهو معاصر كذلك لابن دريد وبينت تأسى ابن فارس به، ودعمت ما رأيت بالنصوص، وانتهيت إلى أن ابن السراج هو الأصل فى الحديث عن الاشتقاق على صورة رضى عنها العلماء المشهورون بالادقاق (كابن جنى فى خصائصه 1/ 526) راجع ص 293وما بعدها من هذا البحث.
(1) انظر الامتاع: 1/ 131.
(2) سورة النساء آية: 40.(1/280)
وفى هذا النوع يبدو المنطق، ولكنه لا يكون فى شكل قصية كما يفعل أبو على الفارسى.
2 - وإما أن يكون اللفظ المفسر فى سورة، واللفظ المفسر فى أخرى، وذلك هو الأكثر، كما فى قوله تعالى:
(ا) بث فيها رجالا كثيرا ونساء: معنى بث: نشر. يقال: «بث الله الحلق» وقال (عز وجل) {«كَالْفَرََاشِ الْمَبْثُوثِ»} فهذا يدل على بث.
(ب) الدليل على أن المحصنات هن العفائف قوله: {«وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرََانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا»} أى أعفت فرجها (1).
والأصل فى هذين القسمين ما ذكره أبو إسحاق من أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ألا ترى أن جواب الشيء فيه يقع وبينهما سور، كما قال (جل وعز) جوابا لقوله: {«وَقََالُوا: يََا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ»} فقال: {«ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ»}.
ومما يجدر ذكره أن أبا على تأثر بشيخه أبى إسحاق الزجاج فى مسلكه هذا تأثرا واضحا على الفرق بين الرجلين فى ظهور مسحة المنطق عند أبى على (2)، وخفوتها عند الزجاج، ولكن أبا على متأثر بشيخه فى هذا على أية حال.
كما يفسر اللفظ القرآنى ثانيا بالشعر العربى، وأقوال الأئمة اللغويين من شيوخه أو من تأسى بهم من السابقين، وذلك قوله: «الكلالة سوى الولد والوالد، والدليل على أن الأب ليس بكلالة قول الشاعر:
فإن أبا المرء أحمى له ... ومولى الكلالة لا يغضب
وقد يمزج فى الشرح بين الاشتقاق، وأقوال الأئمة، والاستشهاد الشعرى كما فى قوله «العزة» المنعة وشدة الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: «أرض عزاز» قال الأصمعى العزاز النّفل من الأرض الصلب الحجارة الذى يسرع منه جرى الماء والسيل، فتأويل العزة الغلبة والشدة التى لا يتعلق بها إذلال، قالت الخنساء.
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزّا
أى من قوى غلب وسلب.
وهكذا تراه يبنى على قول الأصمعى، ويرجع المعنى فى العزة إلى ما ذكره وهو
__________
(1) كتاب معاني القرآن: سورة النساء.
(2) راجع فصل المنطق عند الفارسى.(1/281)
فى إيراد الشواهد قصير الباع، ضيق النفس، فلا يورد فى الكثير الغالب إلا الشاهد الواحد، على العكس من أبى على تلميذه الذى يطول نفسه فى ذلك إلى أمد بعيد.
ثم ترى أبا على يناقش هذه الشواهد، ويعقب عليها، بما يظهر من شخصيته، ثم يضيف هو إلى ما روى الأقدمون شواهد من محفوظه تنثال على لسانه انثيالا يدل على حافظة قوية وذاكرة حاضرة، ودقة نادرة فى استحضار الشواهد المتعددة فى الموضع الذى يتحدث فيه.
ثالثا: وقد رأيت الزجاج مستهاما بأقوال اللغويين،
يحكمهم، ويرتضى حكومتهم فى:
(ا) اختيار القراءات.
(ب) وفى التفسير القرآنى.
(ج) وفى مسائل الفقه.
(د) ويعد مذاهب اللغويين أقوى فى الرد على الملحدين.
(هـ) وأنهم منزهون عن الوهم الكتابى فى رسم المصحف.
وأضرب لكل واحدة من هذه مثالا يختصر ذكر نظائره، ويغنى عن الحصر والتفصيل.
(ا) قال محكّما اللغة فى اختيار القراءات: (زبورا) القراءة فيه بفتح الزاى وضمها، وأكثر القراء على فتح الزاى، وقد قرأت جماعة زبورا منهم الأعمش وحمزة.
فمن قرأ زبورا بفتح الزاى فمعناه كتابا وهذا الوجه عند أهل اللغة، لأن الآثار كذا جاءت زبور داود، كما جاء توراة موسى، وإنجيل عيسى.
(ب) وقال فى الأخذ بأقوال اللغويين فى التفسير القرآنى:
وقال بعضهم: إلا ليؤمنن به أى سيؤمن بعيسى إذا نزل لقتل الدجال، وهذا بعيد فى اللغة، لأنه قال: {«وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ إِلََّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ»} المعنى ما أحد منهم إلا سيؤمن به قبل موته، والذين يبقون إلى ذلك الوقت إنما هم شرذمة منهم، ولكنه يحتمل أنهم كلهم يقولون: «إن عيسى الذى ينزل لقتل الدجال نحن نؤمن به فيجوز على هذا، والله أعلم بحقيقته.(1/282)
(ج) وقال فى اختياره مذاهب اللغويين فى مسائل الفقه:
«يجوز أن يكون أو فى قوله تعالى: {«هَدْياً بََالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفََّارَةٌ طَعََامُ مَسََاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذََلِكَ} [1] صِيََاماً» وهو الأجود فى اللغة للتخيير، فان شاء أهدى، وإن شاء أمسك الهدى، وأطعم بدله، أو جعل مثل ذلك صياما، لأن أو للتخيير.
وقال بعضهم: كأنه ان لم يقدر على الابل والغنم فينبغى أن يطعم أو يصوم، والذى يوجبه اللفظ التخيير وأهل الفقه أعلم بالسنة فى ذلك إلا أنى أختار على مذهب اللغة أنه مخير.
(د) وعنده أن العلم باللغة يمكن منه الرد على الملحدين:
قال أبو إسحاق: «وهدا موضع أعنى تعلم ما فى نفسى، ولا أعلم ما فى نفسك» يلبس به أهل الالحاد على من ضعف علمه باللغة، ولا يعلم حقيقة هذا إلا من اللغة:
قال أهل اللغة: «النفس فى كلام العرب تجرى على ضربين: أحدهما قولك:» خرجت نفس فلان، وفى نفس فلان أن يفعل كذا وكذا.
والضرب الآخر: معنى النفس فيه جملة الشيء، ومعنى حقيقة الشيء، تقول «قتل فلان نفسه»، وأهلك فلان نفسه، فليس معناه أن الاهلاك وقع ببعضه، إنما الاهلاك وقع بذاته كلها، ووقع بحقيقته. ومعنى تعلم ما فى نفسى. أى تعلم ما أضمره، ولا أعلم ما فى نفسك: لا أعلم ما فى حقيقتك، وما عندى علمه. فالتأويل:
«أنك تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم ويدلك عليه إنك أنت علام الغيوم. فانما هو راجع إلى الفائدة فى المعلوم، والتوكيد أن الغيب لا يعلمه إلا الله (جل ثناؤه).
هـ فى تنزيه أهل اللغة الأولين عن الوهم فى الكتابة:
قال بعضهم: المقيمين عطف على الهاء والميم: المعنى لكن الراسخون فى العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك. وهذا عند النحويين رديء، لأنه لا يعطف بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إلا فى الشعر، وذهب بعضهم إلى أن هذا وهم من الكاتب، وقال بعضهم فى كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، وهذا القول عند أهل اللغة بعيد جدا لأن الذين جمعوا القرآن أصحاب
__________
(1) المائدة آية: 95.(1/283)
رسول الله، وهم أهل اللغة، وهم القدوة، وهم قريبو العهد بالاسلام، فكيف يتركون فى كتاب الله شيئا يصلحه غيرهم؟ وهم الذين أخذوه عن رسول الله وجمعوه؟ وهذا ساقط من لا يعلم بعدهم، وساقط عن من يعلم لأنهم يقتدى بهم، فهذا مما ينبغى أن ينسب إليهم (رحمة الله عليهم). والقرآن محكم لا لحن فيه، ولا فيه شىء تتكلم العرب بأجود منه فى الاعراب كما قال الله (جل وعز): {«تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»}. وقال:
{«بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ».}
وقد لحظت فى أكثر هذه النقاط أنه يعترف بالأثر إلى جانب اعتداده باللغويين كأن يقول:
فى (ا) الآثار جاءت فى الزبور.
وفى (ج) أهل الفقه أعلم بالسنة.
وفى (هـ) والصحابة هداية وقدوة، والقرآن محكم.
على أنه إلى القول بالأثر على النحو الذى ترى إلى الجانب اللغوى أميل، فاذا حكى أهل اللغة فى اللفظ وجهين، وافق على أحدهما أصحاب الأثر كان المرجع عنده حينئذ فى الاختيار الأثر من اجتماع المحدثين: قال: القراءة الدّرك بفتح الراء، والدرك بتسكين الراء واللغتان حكاهما جميعا أهل اللغة، إلا أن الاختيار فتح الراء لاجتماع المدنيين والبصريين عليها، وإن أحدا من المحدثين ما رواها إلا الدرك بفتح الراء، فذلك اخترنا الدرك.
ويبعد أبو على كثيرا عن منهج شيخه أبى إسحاق فى ذلك، فهو لا يستهيم بأقوال اللغويين على النحو الذى يبدو عند الزجاج، ولا يخلط القول بالأثر مع أقوال اللغويين فى الاحتجاج. ولعل ذلك فيما يبدو لى أثر من آثار شخصية كل من الشيخين، فالزجاج ينطوى تحت الأئمة اللغويين السابقين لأنه كان ضعيف العلم باللغة كما يقرر ابن النديم (1). فهو مغلوب على أمره بجانبهم، والمغلوبون مولعون بالجرى وراء الغالبين، سنة الله فى خلقه أفرادا وجماعات من السابقين، واللاحقين (2).
هذا إلى أن الزجاج كان مشهورا بحسن الاعتقاد وجميل المذهب (3)، وأنه كان
__________
(1) الفهرست: 90.
(2) انظر مقدمة ابن خلدون.
(3) تاريخ بغداد: 6/ 89.(1/284)
من أهل الدين المتين (1)، والقول بالأثر يتصل إلى حد ما بمتانة الدين، وحسن اليقين.
على أن القول بالأثر عند الزجاج له مظاهر أخرى أتناولها فيما يرد من حديث إذ تعد سمة من سماته، وخصيصة من خصائصه فى كتاب معانى القرآن.
رابعا: قول الزجاج بالأثر:
ويتجلى ذلك فى شعبتين
(ا) القراءة سنة.
(ب) ورسم المصحف لا يخالف.
وأبدأ بالمظهر الأول، حيث كان كذلك فى حقيقة الواقع، وأضرب أمثلة فى نواح ثلاث: فى اللغويات، والاعراب، والصرفيات، أعرضها فى اختصار يجمل التفصيل:
القراءة سنة فى اللغويات:
قوله (عز وجل): {«وَآتُوا النِّسََاءَ صَدُقََاتِهِنَّ نِحْلَةً»}: يقال: «صداق المرأة، وصدقة المرأة، وصدقة المرأة، وصداق المرأة مفتوح أولها. والذى فى القرآن جمع صدقة.
ومن قال: صدقة قال صدقاتهن، كما يقول غرفة وغرفات، ويجوز صدقاتهن، وصدقاتهن بضم الصاد وفتح الدال، ويجوز صدقاتهن.
وبعد أن أورد اللغات الجائزة فى هذه الكلمة نبه على ما ورد منها فى سنة القراءة، وصحيح الرواية، حيث يقول: ولا يقرأ من هذا إلا بما قد قرئ به، لأن القراءة سنة «لا ينبغى أن يقرأ فيها بكل ما يجيزه النحويون، وأن تتبع، فان الذى روى من المشهور فى القراءة أجود عند النحويين، فيجتمع فى القراءة بما قد روى الاتباع وإيثار ما هو أقوى حجة إن شاء الله».
وبعد أن أورد أنه يجوز فى عبد الطاغوت: عبد الطاغوت، وعبد الطاغوت قال: «ولا تقرأن بهذين الوجهين، وإن كانا جائزين لأن القراءة لا تبتدع على وجه يجوز، وإنما سبيل القراءة اتباع من تقدم».
* * * القراءة سنة فى الإعراب:
بعد أن وجه الرفع والنصب فى «غير» من قوله تعالى: {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ}
__________
(1) وفيات 1/ 31.(1/285)
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} «قال:» ويجوز جر غير على الصفة للمؤمنين أى لا يستوى القاعدون من المؤمنين الأصحاء والمجاهدون، فالرفع والنصب القراءة بهما كثير، والجر وجه جيد إلا أن أهل الأمصار لم يقرءوا به، وإن كان وجها جيدا لأن القراءة سنة متبعة.
فى قوله تعالى: {«لََكِنِ اللََّهُ يَشْهَدُ بِمََا أَنْزَلَ إِلَيْكَ»} قال: «القراءة الرفع مع تخفيف لكن، والنصب جائز إلا أنه لا يقرأ بما يجوز فى العربية إلا أن تثبت به رواية عن الصحابة أو قراء الأمصار».
* * * القراءة سنة: فى الصرفيات:
قال بعد أن ذكر القراءات فى هزؤا: وفيها وجه آخر لا يجوز القراءة به، لأنه لم يقرأ به وهو: هزا مثل هدى.
وانظر قوله «فى أن يمسسكم»: ولو قرئت أن يمسكم قرح كان صوابا، ولكن لا تقرأ به لمخالفة الصحف، ولأن القراءة سنة.
* * * (ب) رسم المصحف لا يخالف:
وهو يقول برسم المصحف، ويتخذه حجة فى تحذيره القارئ قراءة من القراءات تخالفه، وإليك ثلاثة من الأمثلة يغنى إيرادها عن الحصر والتفصيل:
رسم المصحف فى اللغويات:
قال: فاذا اطمأننتم: أى سكنت قلوبكم، ويقال اطمأن الشيء إذا سكن، وطمأنته إذا سكنته، وقد روى اطبأن بالباء، ولكن لا تقرأ بها لأن المصحف لا يخالف البتة.
رسم المصحف فى الاعراب:
قال: «وأما رفع يؤتون فى قوله تعالى: {«فَإِذاً لََا يُؤْتُونَ النََّاسَ نَقِيراً»} فعلى فلا يؤتون الناس نقيرا إذا. ومن نصب فقال فاذا لا يؤتوا الناس جاز ذلك فى غير القراءة فأما المصحف فلا يخالف.
تعليق: قرأ بها ابن مسعود (1)!
__________
(1) انظر البحر المحيط: 3/ 273.(1/286)
رسم المصحف فى الصرفيات:
قال: «وأما من يرتدد فهو الأصل لأن التضعيف إذا سكن الثانى من المضاعفين ظهر التضعيف نحو قوله: {«إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ»}، ولو قرئت أن يمسكم قرح كان صوابا، ولكن لا تقرأن به لمخالفة المصحف. ولأن القراءة سنة.
* * * ويبدو أنه ضرب صفحا عن الاعتداد بمصحف أهل الشام ذلك قوله فى الآية:
{«مََا فَعَلُوهُ إِلََّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ»} رفع قليل على البدل من الواو: المعنى: ما فعله إلا قليل منهم. والنصب جائز فى غير القرآن «يذهب إلى أن النصب لا يجوز فى القراءة لما فى ذلك من مخالفة رسم المصحف، مع أن ابن مجاهد نص على أن قراءة النصب لابن عامر لأنها كذلك فى مصاحف أهل الشام (1).
وعندى: أن رسم المصحف راجع فى حقيقة الواقع إلى سنة القراءة، وصحة الرواية، فهو يندمج فيها، ويدخل تحتها، وقد تنبه هو نفسه إلى ذلك حيث يقول:
قوله تعالى: {«وَلََا يَجِدُونَ عَنْهََا مَحِيصاً»} أى لا يجدون عنها معدلا ولا ملجأ، يقال «حصت عن الرجل أحيص، ورووا: جضت عنه أجيض بالجيم والضاد المعجمة بمعنى حصت، ولا يجوز ذلك فى القرآن، وإن كان المعنى واحدا والخط غير مخالف، لأن القرآن سنة متبعة لا تخالف فيه الرواية عن النبى (صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، والسلف، وقراء الأمصار، بما يجوز فى النحو واللغة، وما فيه أفصح مما يجوز، فالاتباع فيه أولى.
وأرجو أن أرجع بكم إلى ما كان من الفراء فى معانى القرآن، فقد جوز فى غير قيد ولا تحذير القراءة بما يتفق هو والأوجه الاعرابية، واللغوية، والصرفية وقد رأينا أن ذلك قد ورد فى كتابه فى كثرة غامرة (2).
ونرى هنا الزجاج يجوز ذلك فى العربية، ويحذر القارئ إياه فى القرآن، فلعل ذلك الموقف من أبى إسحاق البصرى يجبه به الفراء الكوفى فيما جوز واختار، ويحقق
__________
(1) كتاب القراءات لابن مجاهد. الحجة 3وانظر المقنع للدانى 110والنشر 2/ 250 والاعلان بتكملة مورد الظمآن لابن عاشر 38.
(2) راجع ذلك فى هذا البحث.(1/287)
إشارة ابن حنبل التى بها أشار (1)، ثم هو دليل على الصرامة التى نوهت بها، وأشرت إليها، واشتهر بها البصريون، إذ لا يجوزون كثيرا مما يجوز الكوفيون.
كما أود أيضا أن أشير إلى أن أبا على لا يقول بالرسم، ولا يتخذه سببا من الأسباب التى يحتج بها (2)، ثم هو كذلك لا يقول بأن القراءة سنة إلا إذا ضاقت عليه سبل التعليل، ولم يستطع أن يخرج القراءة على وجه من وجوه القياس، وعند ذلك يلقى هذه العبارة مضطرا، ومع ذلك يشير إلى أن القراءة بما يجرى على سنة القياس أجدر وأولى (3).
* * *خامسا: المذهب البصرى والزجاج:
والمذهب البصرى غالب على أمره يجوده، ويعتد به، ويدفع عنه، ويحتج له، ويهجم القراء المخالفين، فيضعف قراءتهم بالخطإ فى العربية، بل بالخطإ العظيم فى الدين، ويسم مذاهبهم بالرداءة، ويرميهم بالقبح والنكير، وذاك تناقض ظاهر مع قوله بالأثر، وبعد عنه كبير.
وأود أن تقرأ قوله فى تخريج قراءة حمزة: والأرحام فى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ}: قال: القراءة الجيدة نصب الأرحام: المعنى، واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وأما الجر فى الأرحام فخطأ فى العربية (4) لا يجوز إلا فى اضطرار شعر، وخطأ أيضا فى أمر الدين عظيم ثم أخذ يذكر العلة، ويوجه الخطأ فى العربية، والخطأ فى الدين.
ثم اقرأ كلامه فى تأويل قراءة وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم»: وقد رويت شركائهم بالياء فى بعض المصاحف، ولكن لا يجوز إلا على:
زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم فيكون: شركائهم من نعت أولادهم، لأن أولادهم شركاؤهم فى أموالهم.
ويجوز شركائهم، لأنها إنما رويت أنها وجدت أنها وجدت فى بعض المصاحف بالياء، فيكون فى موضع رفع، وتبدل من الهمزة الياء كما روى بعضهم فى رداءان ردايان!! وهذا رديء جدا، ومخالف للمصحف المجتمع عليه، فلا تقرأن به، ولا تلتفت إليه.
__________
(1) راجع صدر هذا الفصل.
(2) انظر ذلك فى فصل ابن خالويه وأبى على.
(3) راجع مثلا الحجة: 4/ 109ن البلدية.
(4) الكوفيون يجوزون ذلك انظر الانصاف.(1/288)
وهكذا يغفل الإشارة إلى قراءة ابن عامر جملة، وفى قراءة تتفق مع مذهب النحاة الكوفيين (1) ويذهب فى تجويز شركائهم برسم المصحف، ثم يشير إلى رداءة هذه القراءة بهذه الإشارة التى يتبعها بالنهى عن القراءة بها، والالتفات إليها!!
وقال فى قراءة يهدى من قوله تعالى: {«أَمَّنْ لََا يَهِدِّي»}: قرأ بعضهم بإسكان الهاء والدال، وهذه القراءة مروية إلا أن اللفظ بها ممتنع، فلست أدرى كيف قرئ بها وهى شاذة؟! وقد حكى سيبويه أن مثلها قد يتكلم به.
وأقول: «أما بعضهم الذى أشار إليه بأنه قرأ بها، فهم أهل المدينة إلا ورشا (2)، فكيف يشذذها مع أنها مروية؟ ثم ما باله يعجب فلا يدرى؟!
والعجب منه هو: يردد دائما القراءة سنة متبعة أو نحوا من ذلك بما فى معناه كما سبق، ويتخذ ذلك سبيلا إلى التحذير من قراءة جازت فى العربية، ومذاهب البصرية، ولم يرد بها أثر. فهل تراه يعد نحاة البصرة هم النحاة، وقراءهم هم القراء، ولا شىء غير هؤلاء وهؤلاء؟!
ذلك أثر من آثار بصيرته، ومظهر من مظاهر عصبيته، ومن هنا وقف من القراء الكوفيين موقف التجهم والتضعيف، وهو معهم يشدد النكير على غير موقفه من القراء المدنيين فقد رأيناه من قبل يتعجب من قراءتهم (لا يهدى) بإسكان الهاء والدال على شذوذها فى رأيه هو، ويتلمس لهم وجها من كلام سيبويه، ولا يزيد.
أما الكوفيون فإذا أورد قراءتهم يهدى بكسر الهاء والياء وهى قراءة لعاصم قال:
وهى رديئة لثقل الكسرة فى الياء.
وتسأل نفسك! أى القراءتين أثقل فى النطق: القراءة المدنية وفيها التقاء الساكنين؟
أم القراءة الكوفية ومبعث الثقل فيها الكسرة فى الياء؟ لا شك أن قراءة المدنيين أثقل وأصعب، فكيف يرمى القراءة الكوفية مع سهولتها موازنة بالمدنية بالرداءة؟! هى العصبية تعمى البصائر، وتعصب الأنظار!! (ألا قاتلها الله).
وقد دفعت بصيرته المتعصبة إلى أن يتجاهل قراءة كوفى مثل الكسائى وربما جهلها وذلك قوله: والعين بالعين. بعد أن وجه الرفع فيها قال: «ولا أعلم أحدا قرأ بها!! ولا يقرأن بها إلا أن تثبت بها رواية صحيحة».
__________
(1) يجوز الكوفيون الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف والجار والمجرور فى سعة الكلام.
(2) انظر البحر المحيط: 5/ 156.(1/289)
وقد قرأ بها الكسائى (1)، فهل جهله الزجاج أو تجاهله؟ إن هذه القراءات كانت شائعة فى عصره، فابن مجاهد سبع السبعة، وألف كتابه حوالى عام 300هـ (2)، والزجاج حى يرزق، ثم؟؟؟ ما قوله ولا يقرأن بها إلا أن تثبت بها رواية صحيحة!؟ ألا يصح عنده ما يروى الكسائى؟ أم لأنه كوفى يتجاهله، ويتجاهل قراءته؟!
ثم اقرأ معى قول الزجاج: «ون تلووا أو تعرضوا» قرأ أبو عاصم، وأبو عمرو بن العلاء، وأهل المدينة تلووا بواوين، وقرأ يحيى بن وثاب، والأعشى وحمزة بواو واحدة تلوا. والأشبه على ما جاء فى التفسير مذهب أهل المدينة وأبى عمرو لأنه جاء فى التفسير: إن لوى الحاكم أو أعرض ثلاثة بعددهم: عاصم، وأبو عمرو، وأهل المدينة، فإذا ما حكم بالجودة عز عليه أن يذكر عاصما فيقتصر على ذكر أهل المدينة، وأبى عمرو، ويسكت عن عاصم!! والنص أمامكم أود أن تراجعوه.
لا شىء عليه أن يختار قراءة البصريين، كاختياره مثلا قراءة {«الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ»}
بالفتح على الدرك بالسكون وهى قراءة الكوفيين (3)، أما أن يسكت عن الإشارة بجودة قراءة الكوفيين فلا تعرف إلا استنتاجا، وأما أن يصفها بالرداءة حينا، والبعد عن الدين حينا فشىء من ذلك لا أوافقه عليه! بل يجب أن يوجه من أجله اللوم إليه، اما ابو على وموقفه من القراءات التى تتخالف هى ومذهبه النحوى، فقد اشرت إليه آنفا فى موضعه المقسوم.
* * *سادسا تعرض الزجاج للنحاة الكوفيين:
رأينا تعرض الزجاج للقراء الكوفيين، ورأينا كيف شدد عليهم النكير، وإذا كان ذلك موقفه من قرائهم الذين رووا القراءة بالسند المتصل عن رسول الله فلا شك أن موقفه من نحاتهم يكون أشد وأنكى:
1 - تراه يخطئ القراء فى حكايته «أن لام الأمر قد فتحها بعض العرب فى نحو قولك ليجلس، فقالوا: ليجلس ففتحوا» وهذا خطأ لا يجوز فتح لام الأمر لئلا تشابه لام التوكيد. ثم يعتذر من شذوذ حكاية بعض البصريين، وأنهم عنده صادقون فى الرواية، الا أن الذى سمع منهم هو الذى أخطأ!! قال:
__________
(1) البحر المحيط: 3/ 494.
(2) الحضارة الاسلامية لمتز: 1/ 321.
(3) النشر: 2/ 253.(1/290)
«وقد حكى بعض البصريين فتح لام الجر نحو قولك المال لزيد وهذه الحكاية فى الشذوذ كالأولى، لأن الإجماع والروايات الصحيحة كسر لام الجر والأمر، ولا يلتفت إلى الشذوذ خاصة إذا لم يروه النحويون القدماء الذين هم أصل الرواية. وجميع من ذكرنا من الذين رووا هذا الشاذ عندنا صادقون فى الرواية إلا أن الذى سمع منهى مخطئ.
(ب) كما يخطئ الكسائى فى قوله: والصابئون نسق على ما فى هادوا (1)
فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هََادُوا، وَالصََّابِئُونَ، وَالنَّصََارى ََ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَعَمِلَ صََالِحاً فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ»}. كما يخطته فى قوله:
ان أشياء أشبه آخرها آخر حمراء، ووزنها عنده أفعال، وكثر استعمالهم فلم تصرف قال: «وقد أجمعوا على أن قول الكسائى خطأ فى هذا، وألزموه ألا يعرّف أبناء، وأسماء.
(ج) ويرمى الفراء، والكسائى معا بالتقصير فى التعليل فى اعراب خيرا من قوله تعالى {«فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ»} (2) من قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً»}.
(د) ويهاجم الكوفيين جملة، وذلك عند قوله (تعالى): {«ذََلِكَ بِمََا عَصَوْا وَكََانُوا يَعْتَدُونَ»} قال: «ذلك»: الكاف فيه للمخاطبة واللام زائدة كسرت لالتقاء الساكنين، ولم يذكر الكوفيون كسر هذه اللام فى شىء من كتبهم، ولا عرفوه، وهذه من الأشياء التى كان ينبغى أن يتكلموا فيها إذ كان ذلك إشارة إلى كل متراخ عنك إلا أن تركهم الكلام أعود عليهم من تكلمهم، إذ كان أول ما نطقوا به فى فعل (كذا) قد نقض سائر العربية، ثم قال: وقد بينا ذلك قديما.
وكان بودى أن أعرف بيانه! فأنى لى ذلك؟!
* * *سابعا استغلاله العروض فى التعليل:
ويبدو ذلك فى قوله: فأما {«وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ»} فحذفت الياء لأنها رأس آية،
__________
(1) سورة المائدة آية: 69.
(2) سورة النساء آية: 170.(1/291)
ورءوس الآى الحذف جائز فيها، كما يجوز فى أواخر الأبيات (1).
وقد كان الزجاج على علم بالعروض، وصاحب اختيار فيه (2)، ألف فيما ألف كتاب القوافى، وكتاب العروض (3)، ومن هنا رأيت يتعرض للرجز مستطردا، تحدث عن أصله فى اللغة، وأورد رأى الخليل فيه، وأدلته على ما رأى، وتعقيب الأخفش على رأى الخليل، وذلك حيث يقول:
أصل الرجز فى اللغة تتابع الحركات فمن ذلك قولهم: ناقة رجزاء، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها، ومن هذا رجز الشعر لأنه أقصر أبيات الشعر، والانتقال من بيت إلى بيت سريع نحو قوله:
يا ليتنى فيها جذع ... أخب فيها وأضع
ونحو قولهم «صبرا بنى عبد الدار» ونحو قولهم: «ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا».
* * * وزعم الخليل أن الرجز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث، ودليل الخليل فى ذلك: ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم):
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لم تزود بالأخبار
قال الخليل: لو كان نصف البيت شعرا ما جرى على لسان النبى (صلى الله عليه وسلم) ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا، وجاء النصف الثانى على غير تأليف الشعر لأن نصف البيت لا يقال له شعر، ولا بيت، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر لقيل لجزء منه شعر، وجرى على لسانه فيما روى:
أنا النبى لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
قال بعضهم إنما هو (لا كذب). أنا ابن عبد المطلب بفتح الباء على الوصل.
قال الخليل: فلو كان شعرا لم يجر على لسان النبى (صلى الله عليه وسلم) قال الله:
{«وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ وَمََا يَنْبَغِي لَهُ»} أى وما يتسهل له.
قال الأخفش: كان قول الخليل إن هذه الأشياء شعر، قال: وأنا أقول: إنها ليست بشعر. وذكر أنه ألزم الخليل ما ذكرناه أن الخليل اعتقده
__________
(1) أنظر تفسير قوله تعالى: {(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً)} من معانى القرآن للزجاج.
(2) نزهة الألباء: 166.
(3) الفهرست: 91.(1/292)
وتناول الزجاج للعروض على كل حال فى معانى القرآن يبدو قليلا، فلم يتوسع فيه.
أما أبو على فقد ذهب فى ذلك إلى مدى بعيد تناولته بالبيان فى موضعه.
والزجاج يعتمد اعتمادا ظاهرا على سيبويه، ولا غرو فى ذلك، فقد كان للكتاب أهلا.
قال ابن كيسان عند ما قصده أبو بكر مبرمان ليقرأ عليه كتاب: «اذهب إلى أهله» يشير بذلك إلى الزجاج (1).
ويظهر من عبارة الزجاج التى يقول فيها: إذا تأملت الأمثلة من كتاب سيبويه تبينت أنه أعلم الناس باللغة (2). يظهر من عبارته تلك أنه كان يقرأ، ويتفحص ويمحص، ويستخرج.
(ب) ويثنى على المازنى، ويقف منه موقف التقدير اذ يقول: «وقد فسر المازنى هذا تفسيرا مقنعا» يشير الى عطف الظاهر على المضمر فى حال الجر، وكونه لا يجوز الا بإظهار الجار.
(ح) كما يأخذ باقوال الخليل، والأصمعى، والأخفش
(د) ويشير الى أبى إسحاق اسماعيل بن إسحاق حيث يقول: فى بيان خطأ قراءة والأرحام فى أمر الدين: «ورأيت أبا إسحاق اسماعيل بن إسحاق يذهب الى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وأن ذلك خاص لله (عز وجل) على ما أتت به الرواية».
وأبو إسحاق هذا هو الأزدى، اسماعيل بن إسحاق بن اسماعيل بن حماد (200 282 (3) هـ) والذى أدركه الزجاج، ولعله نظر اليه فى التأليف فى معانى القرآن، فله فيه كتاب (4)، وكان من أعلام القضاة ببغداد (5)، وأنت تلحظ أنه ينقل عنه فى النص السابق ما يتصل بالحلف والإيمان، وهو ما يأخذ به القضاة الخصوم فى صدر المقاضاة، على أن له صلة الحكاية عن المبرد (6)، واذ كان المبرد أخص شيوخ لزجاج صلة به، فمن حقه أن يعطى فضل بيان اذ كانت هذه الصلة سببا فى مهاجمة أبى على الزجاج فيما أرى:
__________
(1) طبقات الزبيدى: 171.
(2) المصدر السابق: 73.
(3) المذكور فى اول هذا الفصل.
(4) انظر طبقات المفسرين ورقة 45.
(5) المرقبة العليا: 32.
(6) طبقات الزبيدى: 108.(1/293)
(ا) فقول المبرد على مذهب العربية حسن فى رأى الزجاج، وذلك قوله: مهيمن فى معنى مؤتمن، إلا أن الهاء بدل من الهمزة، والأصل مؤتمنا عليه كما قالوا: هرقت الماء وأرقت الماء، وكما قالوا: إياك وهياك.
(ب) والمبرد من أهل النظر: وذلك حيث يقول الزجاج: «اختلف أهل النظر فى تفسير قول عيسى: {«وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ»} فقال بعضهم: «إن تغفر لهم كذبهم على» وقالوا: عيسى لا يجوز أن يقول: إن الله يجوز أن يغفر الكفر، وكأنه على هذا القول إن تغفر لهم الحكاية فقط هذا قول أبى العباس محمد بن يزيد، ولا أدرى أشىء سمعه، أم استخرجه؟.
فانظر قوله أولا اختلف أهل النظر، ثم قوله أخيرا هذا قول أبى العباس
(ج) وبذكر أدلته، ويصوبها بأدلة أخرى (1).
(د) وفى الأقل الأندر يغلطه: قال أبو العباس محمد بن يزيد فى إعراب كان من قوله تعالى {«إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَمَقْتاً»} جائز أن تكون كان زائدة، فالمعنى على هذا إنه فاحشة ومقت، وأنشد فى ذلك قول الشاعر:
فكيف إذا حللت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام
قال أبو إسحاق «هذا غلط من أبى العباس لأن كان لو كانت زائدة لم تنصب خبرها، والدليل على هذا البيت الذى أنشدوه «وجيران لنا كانوا كرام» ولم يقل كانوا كراما.
وموقفه منه على هذه الأنحاء صورة من مواقفه منه فى حياته العامة: فالزجاج أقدم أصحاب المبرد قراءة عليه، وكان من يريد أن يقرأ على المبرد يعرض عليه أولا ما يريد أن يقرأه (2)، وكان الزجاج يخدم المبرد فى أموره (3)، وكان لا يخليه من التفقد، والمبرد هو الذى أسمى الزجاج لبنى مارقة معلما لأولادهم بالصراة، ويرد عنه فى غيبته (4)، ويرد على ثعلب فى الفصيح (5) وثعلب خصيم المبرد (6)، وقد ظل وفيا له إلى أن مات (7)، وبعد الممات، أما تغليطه فى الأقل الأندر فقد كان كذلك
__________
(1) انظر فى معانى القرآن إعراب المبرد اللاتي فى قوله تعالى: {«مِنْ نِسََائِكُمُ اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ»}
سورة النساء آية 22.
(2) الفهرست: 90.
(3) بغية الوعاة: 179وما بعدها.
(4) معجم الأدباء: 1/ 137.
(5) نزهة الألباء: 176.
(6) طبقات الزبيدى: 113.
(7) تاريخ بغداد: 6/ 90.(1/294)
صورة من علاقته به، فقد مرت بالزجاج فتيرة انقطع فيها عن بر أستاذه، وعن إجرائه عليه ما كان تعوده منه (1).
وشخصية الزجاج ظاهرة كل الظهور فى كلامه عن الاشتقاق، وتناوله تفسير الكلمات على هذا النمط الذى أشرت اليه من قبل، حتى أصبح المتصل دراسة بالزجاج يستطيع أن يميزه بذلك، اذ كان مما يطالع القارئ فى كتابه كثيرا.
وهو أحيانا يسرد الأقوال من غير تعليق، تراه يورد أقوال الشيوخ السابقين فى تفسير قوله تعالى: {«فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ مِنَ النِّسََاءِ»}. فيذكر قول مجاهد، ثم يقول: وقال غيره ثم يقول: وقال بعض المفسرين قولا ثالثا، وقال أهل البصر من أهل العربية فهو يكثر من النقول إكثارا يخفى شخصيته الباحثة أو المعقبة (2).
وحينا يعلق، ولكنه مع ذلك لا تبرز له شخصية واضحة (3).
وأحيانا يعطى حكما من غير تعليل، فيورد الأقوال فى تفسير قوله تعالى:
{«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكِتََابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى ََ رَسُولِهِ»} ثم يقول:
«والتأويل الأول أشبه» ولكنه لا يبين لم كان كذلك؟
وأحيانا ينبض كلامه بشيء من الذاتية. ولكنه لا يكون دافقا ولا قويا كأن يورد الأوجه الاعرابية فى موضع من فى قوله تعالى: {«لََا يُحِبُّ اللََّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلََّا مَنْ ظُلِمَ»} ثم يقول: «وفيها وجه آخر لا أعلم النحويين ذكروه» وانظر كلامه فى توجيه المعنى من قوله تعالى: {«هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ»} «وهل تستطيع ربك» وهو كلام قريب لا يدل على غور بعيد.
هذا وللزجاج اختيار فى بعض مسائل النحو (4)، ولكن ذلك ليس بالكثير.
وقد وقف من أبى عبيدة موقفا يشبه موقف الفراء منه فى معانى القرآن يغلطه (5)، ويجهله، فيروى عنه أنه لا يعرف عدد أجزاء الجزور فى قسمة الجزور، ويرى غير ما يراه، فقد قال أبو عبيدة المائدة فى معنى مفعولة، ولفظها فاعلة، وقال الزجاج:
__________
(1) طبقات الزبيدى: 133.
(2) وانظر قوله فى تفسير قوله تعالى: {فَنَرُدَّهََا عَلى ََ أَدْبََارِهََا}.
(3) انظر رأيه فى تبديل الجلود فى قوله تعالى: {كُلَّمََا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}.
(4) انظر الانصاف ص 19، 155، 167، 176، 406.
(5) انظر الكلام على ومن يرتد.(1/295)
والأصل عندى فى مائدة أنها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنما تميد بما عليها» (1).
وقد عللت موقف الفراء من أبى عبيدة، وكذلك يكون هنا ذلك التعليل، وأضيف إليه: أن أبا عبيدة لم يكن بارعا فى الاشتقاق الذى برع فيه الزجاج، حتى رووا عنه أنه قال عند ما سئل عن اشتقاق كلمة «منى»: قال فى سخرية: لم أكن مع آدم حين علمه الله الأسماء فأسأله عن اشتقاق الأسماء (2)، ولعلكم معى أن القول بما قال أبو عبيدة يهدم نظرية الزجاج فى الاشتقاق. ثم إشارة ابن حنبل إلى أبى عبيدة وعدم توثيقه له.
هذا وقد وجدت للزجاج أصولا فى العربية، ولكنها لا تكثر كثرتها عند الفراء من قبل، وهى تعد بذرة لهذه الأصول التى ملأ بها تلميذه الزجاجى كتابه الجمل فيما أرى. مثل هذه الأصول.
1 - الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث.
2 - لا ينوب الواحد عن الجماعة إلا أن يكون من أسماء الفاعلين، فلو كان حسن القوم رجلا لم يجز عنده.
3 - كلام العرب موضوع على الايجاز والتخفيف، لا على التثقيل، ولهذا خطأ قول من قال: ان أصل سدس: سدس.
4 - الحال يستقبل بها.
وبعد فهل أستطيع بعد الذى ذكرت أن أجمع أوجه التخالف بين أبى على الفارسى وشيخه الزجاج فى كتابه معانى القرآن فيما هو خاص بالاحتجاج؟
الزجاج يحتج لقراءات غير القراءات السبعة التى ذكرها ابن مجاهد فى كتابه المترجم بقراءات الأمصار، ويدخل فى الاحتجاج الأثر، ويقول برسم المصحف، ولا يوثق قراءته فتراه يقول قرأ بعضهم كذا على حين أن الفارسى يلتزم فى الأعم الأغلب تخريجها على وجوه القياس، كما يسند كل قراءة يحتج لها إلى الإمام القارئ بها:
__________
(1) فى قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنََا مََائِدَةً مِنَ السَّمََاءِ}.
(2) المزهر: 1/ 205ط صبيح.(1/296)
والزجاج لا يستطرد بل هو معتدل فى إيراده الاحتجاج على خلاف مع الفارسى فى ذلك، وقد رأينا أن الزجاج يورد الشواهد على قلة، وكان فيها قصير الباع، وأنه يحكم الاشتقاق، ويأخذ به، كما أن مسائل المنطق وقضاياه خافتة عند الزجاج، ومن هنا كان أسلوبه سمحا سهلا لا أثر للتعقيد فيه ولا الالتواء، وربما كان سبب ذلك أيضا اتصاله بالمبرد الأديب، وروايته الأخبار والأشعار على أبى نواس، والعباس بن الأحنف، وابن المعتز، وقد كانت صلة الزجاج بالمبرد قوية على النحو الذى بينت، والمبرد قد نقض على سيبويه الكتاب، فكان أن تعصب أبو على الفارسى لسيبويه، ورد على المبرد فى كتبه، وأنصف منه إمام النحاة، وأصاب الزجاج شرر من هذه الخصومة. فكان كتاب الاغفال للفارسى ألفه فيما أغفله الزجاج من معانى القرآن(1/297)
الفصل الثالث بين أبى بكر بن السراج، وأبى على فى الاحتجاج
فى الصدر الأول من كتاب الحجة لأبى على الفارسى يطالع القارئ العبارة الآتية:
«وقد كان أبو بكر محمد بن السرى شرع فى تفسير صدر من ذلك يشير إلى الاحتجاج لوجوه القراءات فى كتاب كان ابتدأ بإملائه، وارتفع منه بعض (كذا) ما فى سورة البقرة من وجوه الاختلاف (1)، فمن محمد بن السرى هذا الذى سبق الفارسى فى الاحتجاج، وبنى عليه أبو على؟ محمد بن السرى هذا هو أبو بكر محمد ابن السرى بن السراج (2)، وهو أحد الأشياخ الذين أخذ عنهم أبو على (3)، ودرس له فيما درس كتاب الجمل، وكتاب الموجز (4)، وسمع منه الكتاب (5)، وابن السراج معدود من مشهورى النحاة (6)، مذكور بكتابه فى «أصول النحو» الذى ظفر بثناء العلماء عليه حتى زماننا هذا (7)، حتى قال الزبيدى فى طبقاته: «هو غاية من الشرف والفائدة (8)» وقالوا: «ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله (9)، ولم يتعرض ابن الجزرى لمحمد بن السرى فى طبقات القراء حتى أتمكن من معرفة مكانة الرجل بين القراء. نعم! ورد فى طبقات القراء من اسمه ابن السراج، ولكنه المتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة (10)، وبدهى أن ابن السراج الذى عناه أبو على لا بد أن يكون متقدما عليه، وهناك آخران بين القراء عرفا بالسراج أحدهما (11)
أحمد بن مسعود أبو العباس (12)، والآخر محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران ابن عبد الله، وليس فيهما من اشتهر بأبى بكر، أو من كان اسمه محمد بن السرى.
__________
(1) الحجة للفارسى: 1/ 1.
(2) تاريخ بغداد: 5/ 319فى ذكر من اسمه محمد واسم أبيه السرى.
(3) نزهة الألباء: 169.
(4) معجم الأدباء: 7/ 239.
(5) بغية الوعاة: 44.
(6) نزهة الألباء: 169.
(7) انظر مقدمة سر صناعة الاعراب.
(8) طبقات الزبيدى: 122.
(9) معجم الأدباء: 18/ 198.
(10) طبقات القراء: 2/ 256.
(11) طبقات القراء: 2/ 97.
(12) طبقات القراء: 1/ 138.(1/298)
محمد بن السرى السراج غير معدود فى طبقات القراء ومع ذلك فله فيما يقول المؤرخون من الوراقين كتاب احتجاج القراءة (1)، ويسميه ياقوت: احتجاج القراء (2)، ويشير أبو على إلى أن لابن السراج كتابا فى القراءات، وأنه اطلع عليه (3)
وإذن فللرجل مشاركة فيما هو متصل بالقراءات، وإن كان غير معدود فى القراء، ويظهر أن انتهار الزجاج إياه حتى هم بضربه لخطئه فى مسألة نحوية (4) جعله يشغل بالنحو، ويعكف عليه دون ما سواه، كما عكف سيبويه لأجل ذلك من قبل على الدراسات النحوية، بعد أن كان يطلب الحديث فى حلقة حماد بن سلمة (5).
وإذا كان ابن السراج قد توفى سنة ست عشرة وثلاثمائة (6)، وكانت وفاته فى سن مبكرة (7)، وإذا علمنا أن أبا على انتقل من بلاده إلى بغداد سنة 307 (8) هـ، وأنه سمع الكتاب على ابن السراج (9)، فمعنى هذا أن اتصال أبى على بابن السراج كان اتصالا مبكرا فى صدر الشباب من أبى على (10)، منذ أوائل نزوله بالعراق.
ويشهد بما كان عليه ابن السراج من الذكاء ما تركه من كتب أثنى عليها العلماء واتصلت مع ذلك بفنون مختلفة: فى القراءة، والنحو، واللغة، والأدب، والخط (11)
مع أنه لم يعمر طويلا، فلم تطل مدته، ومات شابا (12).
وكان الشيخ أبو بكر عظيم الثقة بتلميذه أبى على، وآية ذلك أن الشيخ يتقدم للتلميذ راغبا إليه بإتمام الموجز بعد أن عمل نصفه بما ينقله من كلام فى الأصول والجمل (13). وإذن فقد تأثر أبو على بابن السراج فى دراساته النحوية منذ باكورة الشباب، يقرأ عليه الكتاب، وينقل من كتاب ابن السراج فى الأصول ليتم كتاب الموجز، ثم يجلس أبو على للدرس ليقرأ عليه الناس كتاب الجمل، وكتاب الموجز لشيخه ابن السراج (14)، وكان من هؤلاء الذين يقرءون على أبى على هذين الكتابين على بن عيسى الرمانى (15)، كما يتأثر أبو على بابن السراج فى الدراسات القرآنية،
__________
(1) الفهرست: 93.
(2) معجم الأدباء: 18/ 200.
(3) انظر كتاب الحجة: 1/ 336.
(4) الفهرست: 92.
(5) طبقات القراء: 66.
(6) نزهة الألباء: 169.
(7) بغية الوعاة: 44.
(8) وفيات الأعيان: 361.
(9) معجم الأدباء: 18/ 201.
(10) ولد أبو على سنة 288.
(11) انظر معجم الأدباء: 18/ 198.
(12) بغية الوعاة: 44.
(13) رسالة الغفران: 358تحقيق ابنة الشاطئ.
(14) معجم الأدباء: 7/ 239.
(15) المصدر السابق.(1/299)
إذ يطلع على كتابه فى القراءات (1)، ويقفو أثره فى الاحتجاج للقراء (2)، ولعله تأثر به فى الناحية الأدبية كذلك، فقد كان ينشد ما يرويه أستاذه على ما أورد ياقوت (3). وسنراه واضح الشخصية فيما يعرض لابن السراج فى الاحتجاج معقبا، أو شارحا، أو ناقدا مفندا.
ومهما يكن من أمر فى كون ابن السراج غير معدود فى طبقات القراء، فإن القدر الذى تركه لنا فى الاحتجاج على ضآلته يتيح لنا فرصة التعرض لمنهجه بالحديث عنه وأقول على ضآلته، لأن الرحل (رحمه الله) احتج لاختلاف القراء فى أم الكتاب، ثم انتقل منها إلى سورة البقرة، ووصل فيها إلى آخر قوله تعالى: {«ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»} ثم أمسك.
ولقد أراد أبو على الفارسى أن يطلع الناس على منهجه فى الاحتجاج، وما أوتى من قدرة عليه، وتمكن فيه، إلى جانب احتجاج ابن السراج، فالتزم فى القدر الذى ترك ابن السراج أن يسند إليه ما فسر من ذلك فى كتابه (4)، ثم يشير إلى أن الحكاية انتهت عن أبى بكر، ثم يبدأ هو بالاحتجاج بقوله: قال أبو على وبذلك أتاح أبو على للدارسين بما أسند إلى ابن السراج، وأورد من كلامه فى الاحتجاج أتاح لهم التعرف على خطة ابن السراج، واختبار منهجه وموازنته بمنهج أبى على، وعقد دراسة مقارنة بينهما، توضح خطة الرجلين، ومقدار ما بينهما من تشابه، أو اختلاف فى القدر الذى اشتركا فيه من الاحتجاج، ولهذه المقارنات مكانتها فى الدراسات القرآنية بعامة، وما هو متصل منها بالاحتجاج للقراء على وجه خاص، وهو ما أنا فى سبيلى إليه الآن.
ولست بحاجة إلى بيان الأسباب الداعية إلى تأليف ابن السراج فى الاحتجاج، فقد تعرضت لشىء من ذلك على وجه عام فى الفصول السابقة، وذكرت أنى سأفرد للكلام عن منهج ابن السراج فصلا خاصا أتعرف فيه عليه إلا أنه مما يستحق الذكر فى مقامى هذا أن أذكر أن المبرد (285هـ) شيخ أبى السراج (5)
الف فى احتجاج القراءة (6)، وقد كان اتصال ابن السراج بالمبرد، وصحبته له
__________
(1) الحجة: 1/ 336نسخه البلدية.
(2) الحجة: 1/ 1نسخه مراد ملا.
(3) انظر معجم الادباء: 17/ 197.
(4) انظر الحجة: 1/ 1.
(5) انظر تاريخ بغداد: 5/ 319.
(6) الفهرست: 88.(1/300)
مبكرة كذلك إذ يحكون أن ابن السراج كان أحدث أصحاب المبرد سنا (1)، فتأثر الشاب الناشي بأستاذه الشيخ، فكان احتجاجه للقراءة كما احتج أستاذه، وإلى جانب ذلك كانت هناك صحبة بين أبى بكر بن السراج، وشيخ القراءة والإقراء ببغداد.
وهو ابن مجاهد (324هـ) الذى سبع السبعة، وأطلق عليه شيخ الصنعة (2)، وقد أشار إلى هذه الصحبة التى انعقدت بين الشيخين ابن الأنبارى فى نزهة الألباء، فى حكاية طريفة عند ترجمته لابن السراج (3). كما أن لأبى حاتم السجستانى وكثيرا ما ينقل عنه ابن السراج كتابا فى القراءات (4)، وللزجاج أستاذ ابن السراج مشاركته كذلك فى التآليف القرآنية إذ له: معانى القرآن (5)، ويسميه ابن الأنبارى «المعانى فى القرآن (6)» فهذه أسباب خاصة دافعة لابن السراج إلى أن يؤلف فى الاحتجاج بجانب هذه الأسباب العامة التى فصلتها فى مكانها تفصيلا (7).
وأبو بكر بن السراج يستهدى الحس فى الاحتجاج، فتراه يستريح إلى القراءة الخفيفة على اللسان الحسنة فى السمع والأكثر دورانا على الألسنة، وذلك اختياره القراءة بالصاد فى «الصراط» حيث يقول:
«للقارئ بالسين أن يقول هو أصل الكلمة، ولو لزم لغة من يجعلها صادا مع الطاء لم يعلم ما أصلها»، ويقول من يقرأ بالصاد: «إنها أخف على اللسان، لأن الصاد حرف مطبق كالظاء يتقاربان ويحسنان فى السمع»، وبعد أن أورد الحجة لمن قرأ بالزاى، والحجة لمن قرأ بالمضارعة التى بين الصاد والزاى قال: «والاختيار عندى الصاد للخفة والحسن فى السمع، وهو غير ملتبس ومع ذلك فهى قراءة الأكثر، ألا ترى لمن من رويت عنه القراءة بالسين منهم قد رويت عنه بالصاد؟
ثم قال: «وأما القراءة بالمضارعة التى بين الصاد والزاى فعدلت عن القراءة بها لأنه تكلف حرف بين حرفين وذاك أصعب على اللسان (8)».
وقال فى موضع آخر بعد أن أورد القراءات المختلفة فى (عليهم)، واحتج للقارئين بها: «والاختيار عليهم بالكسر، لأنها أخف على اللسان، وهى قراءة
__________
(1) بغية الوعاة: 44.
(2) طبقة القراء: 1/ 139.
(3) نزهة الالباء: 169.
(4) الفهرست: 87.
(5) الفهرست: 91.
(6) نزهة الالباء: 166.
(7) انظر الفصل الخاص بذلك.
(8) الحجة: 30نسخه مراد ملا.(1/301)
الاكثر (1) وقال فى موضع آخر: من أثبت الياء فى (فيه هدى) لا يجوز له أن يدغم، لأنه لم يلتق حرفان، ومع ذلك فهى من الحروف التى يكره إدغام بعضها فى بعض لثقل ذلك (2).
هذه النظرية الفنية من ابن السراج فى حاجة إلى تعليل، حقيقة، تنبه سيبويه من قبل إلى أن العرب جرت على ألسنتهم لهجات بعينها دعاهم إليها التماس الخفة فى الانسجام الصوتى (3). ومن قبل سيبويه، كان لشيخه الخليل جولات فى هذا الباب (4).
ولكن أليس من تعليل لهذا الاتجاه عند الخليل، واختيار ابن السراج من القراءات ما خف على اللسان، وارتاحت إليه الآذان؟!
وهذا ابن جنى يقرر أن الحذاق المتقنين من النحويين يحيلون فى عللهم على الحس، ويحتجون فيه بثقل الحال، وخفتها على النفس (5)، ثم يكرر هذا المعنى فى صفحات متتابعة من الباب الذى عقده لعلل العربية أكلامية لى أم فقهية (6)؟ ولكن لم كان ذلك الاختيار من ابن السراج، والتعليل من الخليل!! السبب عندى أن كلا منهما قد اشتغل بالموسيقى فالخليل له معرفة بالإيقاع والنغم (7)، وألف فيه كتاب الإيقاع والنغم (8)، كما أن ابن السراج كان يشتغل بالموسيقى (9)، فليس ببعيد إذن أن يستريح الى القراءة التى يكون لها وقع موسيقى على الآذان بما فيها من خفة على اللسان. وأن ينبه الى ذلك فى احتجاجه بوضوح وبيان.
* * * واذا كان لابن السراج جهد مذكور فى دراسة كتاب سيبويه، واستخراج مسائله، وعقد أصوله (10)، فلا غرابة ان رأيناه فى احتجاجه وتلك صلته بالكتاب ينظر الى سيبويه، ويستمد منه التعليل، وذلك حيث يقول مثلا فى حجة من قرأ عليهمو فكسر الهاء ووصل الميم بواو وهو قول ابن كثير ونافع
__________
(1) الحجة: 1/ 38نسخه مراد ملا.
(2) الحجة نسخه مراد ملا: 118.
(3) انظر مثلا الكتاب لسيبويه 2/ 2592وما حواليها.
(4) انظر اللسان: 3/ 225و 9/ 349.
(5) ص 6/ 46الخصائص.
(6) المصدر السابق انظر 47، 48، 50، 55، 54، 59، 62، 70.
(7) بغية الوعاة: 244.
(8) المصدر السابق: 245والفهرست. 65.
(9) الفهرست: 92.
(10) انظر نزهة الالباء: 169.(1/302)
فى أحد قوليه قال سيبويه: «قال بعضهم: عليهمو أتبع الياء ما أشبهها وترك ما لا يشبه الياء ولا الألف على الأصل (1).
* * * وإذا كان ابن السراج قد درس المنطق (2)، فإنا نرى ملامح هذه الدراسة فيما أورد من احتجاج، فهو يذكر بعض اصطلاحات المناطقة كالجنس (3)، والعموم، والخصوص، قال: الوصف بالملك أعم من الوصف بالملك ثم قال مبينا أن فيهما عموما وخصوصا مطلقا فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا.
* * * وإذا كان ياقوت قد أورد قوله عن ابن السراج: أنه عول على مسائل الاخفش والكوفيين (4) فإنا نراه يروى عن الاخفش كثيرا، ويعتمد عليه فى الاحتجاج (5).
كما رأيت ابن السراج يعتمد كثيرا على ما يحكيه أبو حاتم (6)، وأبو حاتم هذا هو أبو حاتم السجستانى (ت 255هـ) إمام البصرة فى النحو، والقراءة، واللغة والعروض، قال ابن الجزرى: وأحسبه أول من صنف فى القراءات (7)، فلعل ابن السراج اعتمد على ما كتب فى هذا الشأن.
وهو وإن كان يعتمد على ما اتصل بهم دراسة، فيحكى عنهم، وينظر اليهم، ويروى نقولهم، نراه يقف من هؤلاء موقف الناقد المفند، كأن يقول:
«رواية من روى عن أبى عمرو وغيره أنه كان يشم ويدغم فى قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً}: (8) هذا محال، لا يمكن الادغام مع شىء من هذا، وذلك أنه لا فصل بين الحرفين إذا أدغما بحال من الأحوال لا بقطع ولا حركة، ولا ضرب من الضروب، وإنما يصيران كالحرف الواحد للزوم اللسان لموضع واحد، وإنما كان أبو عمرو يختلس ويخفى فيظن به الادغام، وكيف يكون متحرك مدغم؟ فيجب أن يكون متحركا ساكنا» (9).
__________
(1) الحجة: 36نسخه مراد ملا.
(2) الفهرست: 92.
(3) الحجة نسخه مراد ملا 1/ 4.
(4) معجم الادباء: 18/ 198.
(5) نسخه مراد ملا انظر ورقة 120.
(6) انظر مثلا ورقة 30و 38و 128و 120.
(7) طبقات القراء: 1/ 320.
(8) سورة البقرة آية 2.
(9) الحجة 1ورقة 120نسخه مراد ملا.(1/303)
ونلحظ هنا أيضا تدليله المنطقى، وذلك يتصل بدراساته المنطقية التى أشرت إليها قبل.
هذا ويذكر المترجمون لأبى بكر بن السراج أنه عول على مسائل الكوفيين وخالف أصول البصريين فى مسائل كثيرة (1)، وقد ظهر أثر ذلك فى اعتداده برسم المصحف، وتلك نظرة كوفية رأيناها عند الفراء فى معانى القرآن (2)، كما يعتد بكثرة الدور على الألسنة، وهذه أيضا يعتد بها الأئمة الكوفيون (3)، وإن أردت الدليل على اتجاه ابن السراج الكوفى فاقرأ قوله: «الاختيار فى فيه الكسر بغير ياء ولا إدغام، وحكى عن أبى حاتم أن ذلك قراءة العامة، قال أبو بكر: «وهو الأخف، وخط المصحف بغير ياء، قال: وأكره الادغام، لأن من كسر فالياء يريد، ومن أثبت الياء لم يجز له أن يدغم، لأنه لم يلتق حرفان، ومع ذلك فهى من الحروف التى يكره ادغام بعضها فى بعض لثقل ذلك (4).
ومع أنه يختار بعض القراءات، ويكره البعض الآخر فهو معترف بها جميعا محتج لها كذلك، «ولولا ذلك ما جازت القراءة به، ولا بد للمعانى من أن تتقارب (5).
ثم الحظ اختياره للقراءة لأنها كثيرة الدور على ألسنة أكثر العرب فى قوله:
والاختيار عندى الصاد (فى الصراط) للخفة، والحسن فى السمع ومع ذلك فهى قراءة الأكثر، ألا ترى أن من رويت عنه القراءة بالسين منهم قد رويت عنه بالصاد (6)؟
ذلك أثر دراساته الكوفية، وأخذه بآراء الكوفيين، واتجاهات مدرستهم فى البحوث القرآنية، ورسم المصحف لا يقول به أبو على كما بينت ذلك فى فصل آخر.
ومن أثر اختلاط الدراسات الكوفية بنحوه البصرى استعماله منجزمة (بدل ساكنة (7))، وذلك اصطلاح كوفى (8). ثم هو إلى جانب ذلك يورد أقوالا لأحمد
__________
(1) معجم الأدباء: 18/ 198.
(2) انظر معاني القرآن ص 2و 14.
(3) انظر مثلا معانى القرآن 4و 5.
(4) الحجة: 1/ 118نسخه مراد ملا.
(5) نسخه مراد ملا ورقة 6.
(6) الحجة: 1/ 30نسخه مراد ملا.
(7) 1/ 46.
(8) انظر معانى القرآن للفراء ص 223.(1/304)
ابن يحيى ثعلب يحتج فيها للكسائى، وهذا الى جانب دلالته على نزعته الكوفية يدل على أن الخلاف بين المدرستين لم يكن فى المسائل النحوية حسب بل تعداه إلى احتجاج كل مدرسة لشيوخها فى القراءات، أورد ابن السراج فى الاحتجاج لقراءة الكسائى مالك بألف: «وقال أحمد بن يحيى: من حجة الكسائى أنه يقال:
ملك الناس، مثل سيد الناس، ورب الناس، ومالك يوم الدين، ولا يقال سيد يوم الدين، فاذا كان مع الناس (1) ما يفضل عليهم كان ملك، وإذا كان مع غير الناس كان مالك (2).
وأود هنا أن أنصف ابن السراج، وأرد اليه فضل السبق فى التحدث عن الاشتقاق الصغير، ذلك لأن الأستاذ أحمد أمين (رحمه الله) قال فى ظهر الاسلام ما نصه:
«ومن خير ما ألف فى اللغة أيضا (3) فى ذلك العصر كتاب مقاييس اللغة لابن فارس المتوفى سنة 395، وقد نحا فيه نحوا جديدا، وقد استخلص من معانى الكلمة المختلفة معنى واحدا، أو معنيين جعله أساسا للكلمة، ونقص عليه، وبيّن أن الاشتقاقات المختلفة تدور حوله. مثال ذلك «وجب» قال الواو والجيم والباء أصل واحد يدل على سقوط الشيء ووقوعه، ثم يتفرع، يقال وجب البيع وجوبا حق ووقع، ووجب الميت سقط، والقتيل واجب، وفى الحديث: «إذا وجب فلا تبكين باكية» أى إذا سقط. وقال الله فى النسك {«فَإِذََا وَجَبَتْ جُنُوبُهََا»} قال قيس:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
ووجب الحائط سقط (4).
فأنت ترى أن الأستاذ أحمد أمين وصف ابن فارس فى كتابه مقاييس اللغة بأنه «نحا نحوا جديدا فيه»، ثم بين ذلك النحو الجديد بأن يؤول المعانى كلها إلى معنى واحد، أو كما قال: يريد أن يصب الكلام المتشعب فى «برشامة» واحدة (5) وأرى أن ابن فارس (395هـ) لم يكن مبتدعا ذلك ابتداعا، فقد سبقه فيه ابن السراج، والزجاج، ولكن ابن السراج ينفرد بأنه ألف كتابا فى الاشتقاق
__________
(1) فى نسخة مراد ملا وما يفضل ليهم والتصحيح عن نسخة البلدية: 1/ 4.
(2) نسخة مراد ملا 1/ 4.
(3) فى الكتاب (غير) والصحيح ما أثبته.
(4) ظهر الإسلام 2/ 93.
(5) مؤتمر المجمع اللغوى الدورة الخامسة عشرة، من الجلسة التاسعة ص 16 (1948/ 1949).(1/305)
كما يقول ابن جنى (ت 316هـ)، واقرأ معى كلام أبى بكر فيما أورد من الاحتجاج لقراءة من قرأ ملك يوم الدين، وأنه يختار هذه القراءة قال: «الاختيار عندى ملك يوم الدين، والحجة فى ذلك أن الملك والملك يجمعهما معنى واحد، ويرجعان إلى أصل: وهو الربط والشد، كما قالوا: ملكت العجين أى شددته، وقال الشاعر:
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
يصف طعنة، يقول: «شددت بها كفى»، والاملاك من هذا: انما هو رباط الرجل بالمرأة، وكلام العرب بعضه مأخوذ من بعض، فقد يكون الأصل واحدا ثم يخالف بالأبنية، فيلزم كل بناء ضربا من ذلك الجنس، مثال ذلك: العدل يشتق منه العدل، والعديل، فالعدل ما كان متاعا، والعديل الانسان، والأصل انما هو العدل، فكذلك مالك وملك، فالملك الذى يملك الكثير من الأشياء، وشارك غيره من الناس بأن يشاركه فى ملكه بالحكم عليه فيه، وأنه لا يتصرف فيه إلا بما يطلقه له الملك، ويسوسه (1) به الخ
وقد أورد ابن فارس فى كتابه مقاييس اللغة كلاما فى مادة ملك ينظر فيه إلى قول ابن السراج (2). فها أنتم أولاء ترون سبق ابن السراج فى هذا الباب؟ وكيف ساق الأمثلة من كلام العرب وقد ساقها بعد ابن فارس؟ وكيف أورد شواهد الشعر كما أورد؟ أيجوز بعد ذلك أن نطمئن إلى ما يقول الأستاذ أحمد أمين: «ان ابن فارس نحا نحوا جديدا فى كتابه مقاييس اللغة» (3)؟ على أننى وجدت ابن قتيبة وهو سابق لابن السراج يرجع المعانى المختلفة للفظ الواحد إلى أصل واحد نشأت منه وتفرعت عنه، فقد ذكر مثلا كلمة القضاء وبين معانيها المختلفة التى تصير إليها ثم ختم بحثه بقوله: وهذه كلها فروع ترجع إلى أصل واحد (4). فلعل الأستاذ أحمد أمين (رحمه الله) يرى أن ابن فارس أول من ألف كتابا نحا فيه هذا النحو الجديد، ولكن هذا مردود أيضا لأن ابن السراج «قد قدم رسالته فيه،،
ولم يأل فيه كما يقول ابن جنى نصحا، وإحكاما، وصنعة، وتأنيسا (5)
إلى أن الكلام فى الاشتقاق قديم يرجع العهد به إلى زمان الاصمعى، وقطرب
__________
(1) الحجة نسخة مراد ملا: 1/ 4.
(2) انظر مقاييس اللغة 1/ 6.
(3) ظهر الإسلام: 2/ 93.
(4) المشكل: 343.
(5) الخصائص لابن جنى: 1/ 526.(1/306)
وأبى الحسن الاخفش وكلهم قد ألف فى هذا الفن (1). ولم يتنبه رجال مجمع اللغة العربية إلى سبق ابن السراج وإحكامه وصنعته، ذلك أنه لم يناقش أحد منهم فيما أعلم السيد محمد رضا الشبيبى فى تقريره أن ابن فارس فى مقدمة أئمة مدرسة القياس بما ألف من كتاب المقاييس فى اللغة (2).
ومن تمام الحديث أعرض لخطة كل من الرجلين: ابن السراج، وأبى على ليتجلى الفرق واضحا بين المنهجين.
فابن السراج يبدأ ببيان أوجه القراءة فى اللفظ الذى وقع فيه الاختلاف بين القراء، ثم يعين قراءة كل قارئ من القراء السبعة فى ذلك اللفظ، ثم يحتج لكل فريق من القراء اتفق على قراءة فى الحرف المختلف عليه، ويعتمد فى احتجاجه على:
(ا) دليل نقلى ويشمل:
1 - النقول التى سمعها من شيوخه، وقد تصل هذه النقول إلى قارئ من القراء السبعة بطريق السند.
2 - ما اتفقوا على قراءته فيما يشبه هذا الحرف المختلف عليه فيحتج لقراءة ملك يوم الدين لأن الله قال: «ملك الناس، والملك القدوس» ويحتج لقراء مالك يوم الدين بأن الله قال: {«قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ».}
(ب) دليل يمكن أن نسميه دليلا عقليا أو معنويا وهنا يعرض للمعنى الذى عليه الآية مقروءة بالوجه الذى يحتج له.
(ج) ثم يذكر ما يختار من القراءة، ويحتج لاختياره احتجاجا يكشف عن شخصيته هو.
(د) ثم يذكر رأى الفريق الآخر ويذكر احتجاجه معترفا بحسن ما ذهب إليه «إذ لولا ذلك ما جازت القراءة».
(هـ) ثم يقوى جانب ما اختار، ويضعف الجانب الذى ترك.
وبدهى أن الخطوات التى قبل الاحتجاج وهى أوجه القراءة فى اللفظ الذى وقع فيه الاختلاف، وتعيين قراءة كل قارئ من الأئمة السبعة هذه الخطوات من عمل ابن مجاهد، بل هى «كتابه فى القراءات (3)، وقد سار أبو على هذا النهج
__________
(1) المزهر: / 351.
(2) الدورة الخامسة عشرة للمجمع اللغوى ص 11من الجلسة التاسعة.
(3) الفهرست: 47.(1/307)
الذى سار عليه ابن السراج فيما هو خاص بعرض قراءات القراء واختلافهم فى فرش الحروف (1).
وتبدو خطوات ابن السراج السابقة من هذا المثال:
اختلفوا فى إثبات الألف وإسقاطها من قوله عز وجل: {«مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»} (2)، فقرأ عاصم والكسائى مالك بألف، وقرأ الباقون ملك بغير ألف، ولم يمل أحد الألف فى مالك.
(ا) قال أبو بكر محمد بن السرى: «قال أبو عمرو فيما أخذته عن اليزيديين:
أن «ملك» يجمع «مالكا» أى ملك ذلك اليوم بما فيه، ومالك إنما يكون للشيء وحده، تقول «مالك هذا الشيء» وقال الله عز وجل: {«قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ»} (3)
للشيء بعينه، فملك يجمع مالكا، ومالك لا يجمع ملكا، وقال الله عز وجل:
{«مَلِكِ النََّاسِ»} (4) و {«الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ»} (5).
قال: وحكى أن عاصما الجحدرى قرأها ملك بغير ألف، فقال محتجا على من قرأ مالك بالألف يلزمه أن يقرأ: {«قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ»}: قال هارون: قد ذكرت ذلك لأبى عمرو، فقال: نعم! أفلا يقرءون «فتعالى الله المالك الحق» (6)، قال:
وقال بعض من اختار القراءة بملك أن الله قد وصف نفسه بأنه مالك كل شىء بقوله:
{«رَبِّ الْعََالَمِينَ»}، فلا فائدة فى تكريره ذكر ما قد مضى ذكره من غير فصل بينهما بذكره معنى غيره قال: وقال: «وإن الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقراءته ملك يوم الدين أصح إسنادا من الخبر بقراءته مالك، وأن وصفه بالملك أبلغ فى المدح قال: وهى قراءة أبى جعفر، والأعرج، وشيبة بن نصار، وقال أحمد ابن يحيى: «من حجة الكسائى أنه يقال: ملك الناس، مثل سيد الناس، ورب الناس، ومالك يوم الدين. ولا يقال سيد يوم الدين، فاذا كان مع الناس وما يفضل عليهم كان ملك، وإذا كان مع غير الناس كان مالك».
__________
(1) تعبير للقراء يقصد به الألفاظ التى وقع الاختلاف فى قراءتها فى القرآن الكريم. انظر النشر: 2/ 306.
(2) سورة الفاتحة.
(3) سورة آل عمران.
(4) سورة الناس.
(5) سورة الحشر.
(6) سورة طه.(1/308)
قال: وقال من احتج لمالك، وكره ملك: أن أول من قرأ ملك: مروان بن الحكم، وأنه قد يدخل فى الملك ما لا يجوز ولا يصح دخوله فى الملك، قالوا: «وذلك أنه صحيح فى الكلام أن يقال:» فلان مالك الدراهم والطير، وغير صحيح أن يقال فلان ملك (الدراهم والدنانير).
(ب) قالوا: فالوصف بالملك أعم من الوصف بالملك، والله مالك كل شىء، قالوا: والمعنى أنه يملك الحكم يوم الدين بين خلقه دون سائر الخلق الذين كانوا يحكمون بينهم فى الدنيا. «قالوا:» وقد وصف الله «(عز وجل) نفسه بأنه مالك الملك، فقال:» قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء، ولا يقال «هو ملك الملك»، قالوا: فوصفه بالملك أبلغ فى الثناء وأعم فى المدح من وصفه بالملك.
وقرأ (مالك) من متقدمى القراء قتادة، والأعمش. وقال أبو عبيدة فى قوله:
«ملك يوم الدين» معناه الملك يومئذ ليس ملك غير، ومن قرأ مالك أراد به أنه يملك الدين والحساب لا يليه سواه قال: وكذلك يروى عن عمر.
(ج) قال أبو بكر: الاختيار عندى «ملك يوم الدين»، والحجة فى ذلك أن الملك والملك يجمعهما معنى واحد، ويرجعان إلى أصل، وهو الربط والشد، كما قالوا: ملكت العجين أى شددته. وقال الشاعر:
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
يصف طعنة يقول: شددت بها كفى، والاملاك من هذا إنما هو رباط الرجل بالمرأة. وكلام العرب بعضه مأخوذ من بعض، فقد يكون الأصل واحدا ثم يخالف بالأبنية، فيلزم كل بناء ضربا من ذلك الجنس، مثال ذلك العدل، يشتق منه العدل، والعديل، فالعدل ما كان متاعا، والعديل الانسان، والأصل إنما هو العدل، فكذلك مالك وملك، فالملك الذى يملك الكثير من الأشياء، ويشارك غيره من الناس بأن يشاركه فى ملكه بالحكم عليه فيه، وأنه لا يتصرف فيه إلا بما يطلقه له الملك ويسوسه به، ويجتمع مع ذلك أن الملك يملك على الناس أمورهم فى أنفسهم وجميع متصرفاتهم (!!!)، فلا يستحق اسم الملك حتى يجتمع له ملك هذا كله، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا. وأما قوله (عز وجل) مالك الملك «فان الله (عز وجل) يملك ملوك الدنيا، وما ملكوا، وإنما تأويل ذلك أنه يملك ملك الدنيا، فيؤتى الملك من يشاء، فأما يوم الدين فليس إلا ملكه، وهو ملك الملوك
(جل وعز) يملكهم كلهم، وقد يستعمل هذا فى الناس، فيقال: فلان ملك الملوك وأمير الأمراء، يراد بذلك أن من دونه ملوكا وأمراء، فيقال ملك الملوك، وأمير الأمراء ولا يقال ملك الملك، ولا أمير الامارة، لأن أميرا وملكا صفة غير جارية على فعل، ولا معنى لاضافتها إلى المصدر. وأما إضافة ملك إلى الزمان فكما يقال: «ملك عام كذا، وملوك سنة كذا، وملوك الدهر الأول، وملك زمانه، وسيد زمانه، وهو فى المدح أبلغ، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله تعالى، والصفة له، ألا ترى قوله تعالى: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ، الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} فالربوبية والملك متشابهان.(1/309)
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
يصف طعنة يقول: شددت بها كفى، والاملاك من هذا إنما هو رباط الرجل بالمرأة. وكلام العرب بعضه مأخوذ من بعض، فقد يكون الأصل واحدا ثم يخالف بالأبنية، فيلزم كل بناء ضربا من ذلك الجنس، مثال ذلك العدل، يشتق منه العدل، والعديل، فالعدل ما كان متاعا، والعديل الانسان، والأصل إنما هو العدل، فكذلك مالك وملك، فالملك الذى يملك الكثير من الأشياء، ويشارك غيره من الناس بأن يشاركه فى ملكه بالحكم عليه فيه، وأنه لا يتصرف فيه إلا بما يطلقه له الملك ويسوسه به، ويجتمع مع ذلك أن الملك يملك على الناس أمورهم فى أنفسهم وجميع متصرفاتهم (!!!)، فلا يستحق اسم الملك حتى يجتمع له ملك هذا كله، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا. وأما قوله (عز وجل) مالك الملك «فان الله (عز وجل) يملك ملوك الدنيا، وما ملكوا، وإنما تأويل ذلك أنه يملك ملك الدنيا، فيؤتى الملك من يشاء، فأما يوم الدين فليس إلا ملكه، وهو ملك الملوك
(جل وعز) يملكهم كلهم، وقد يستعمل هذا فى الناس، فيقال: فلان ملك الملوك وأمير الأمراء، يراد بذلك أن من دونه ملوكا وأمراء، فيقال ملك الملوك، وأمير الأمراء ولا يقال ملك الملك، ولا أمير الامارة، لأن أميرا وملكا صفة غير جارية على فعل، ولا معنى لاضافتها إلى المصدر. وأما إضافة ملك إلى الزمان فكما يقال: «ملك عام كذا، وملوك سنة كذا، وملوك الدهر الأول، وملك زمانه، وسيد زمانه، وهو فى المدح أبلغ، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله تعالى، والصفة له، ألا ترى قوله تعالى: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ، الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} فالربوبية والملك متشابهان.
(د) قال: وللمختار لمالك أن يقول: قرأت مالك لأن المعنى يملك يوم الدين وهو يوم الجزاء، ولا يملك ذلك اليوم أن يأتى به، ولا سائر الأيام غير الله. وهذا ما لا يشاركه فيه مخلوق فى لفظ ولا معنى، فيقال: هذا الذى قلت حسن، ولولا هذا المعنى وما يؤيده ما جازت القراءة به، ولا بد للمعانى من أن تتقارب، والملك فى ذلك اليوم أيضا لا يكون إلا لله، فهو متفرد بهذا الوصف، ويقوى ذلك قوله لمن الملك اليوم؟ لله!! (1)، وقوله {«وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ».}
(هـ) فان احتج المختار لمالك بما روى من أن أول من قرأ ملك مروان بن الحكم، احتج عليه من الأخبار بما يبطل ذلك، ولعل القائل لذلك أراد أن أول من قرأ فى ذلك العصر، أو من ضربه، لأن القراءة بذلك أعرض وأوسع من ذلك بحسب ما انتهى إلينا. انتهت الحكاية عن أبى بكر. (2).
وهكذا نرى ابن السراج يمزج فى احتجاجه بين الأدلة المنقولة عن شيوخ القراءة واللغة، والأدلة العقلية التى يناقش بها هذه النقول النقلية، ثم تظهر شخصيته واضحة فيما يختار من الأوجه المختلفة، وما يدل به على ذلك الاختيار، وهو بعد ذلك منظم فى عرض الفكرة، معتدل بين الايجاز والاطناب، ثم ان إطنابه لا يسلمك إلى نوع من الاستطراد الذى يبعد بك عن النقطة الأصلية التى توجه بالاحتجاج لها والتحدث فيها.
فأين هذا من خطة أبى على التى ترمى بك إلى ناحية من الاستطراد والاحتجاج الذى يخلطه أو يقدم له، ويحشوه، ويفرع فيه، ويدحوه، بذكر مسائل فى النحو والصرف، والعروض، واللغة، والاعراب، حتى يبلغ الملال منك مبلغا يضيع معه الاحتجاج الذى وسم كتابه به، وآية الفرق ما بين الخطتين أنك إذا قرأت كلام
__________
(1) سورة المؤمن.
(2) الحجة نسخة مراد ملا ورقة 3وما بعدها.(1/310)
أبى بكر بن السراج أدركت من أول وهلة الموضوع الذى يتحدث فيه، والحرف المختلف عليه، والذى يحتج له دون أن يكدك أو يجهدك. على حين أنك لو قرأت كلام أبى على الفارسى لا تصل فى سرعة ويسر إلى إدراك القراءة التى يحتج لها، والموضع المختلف عليه الذى يتحدث فيه، وقد ضربت مثالا لاستطراده فى موضع آخر من هذا البحث، ولكن من الموضح أن أشير إلى ما اتبعه فى الاحتجاج لاختلاف القراءة فى «ملك ومالك» حتى يبدو الفرق بينه وبين ابن السراج واضحا.
بدأ أبو على الاحتجاج لمن قرأ باسقاط الألف أو اثباتها فى مالك يوم الدين ببحث لغوى فى معنى أملاك المرأة، ومعنى الملك للشيء فيذكر أنه اختصاص من المالك به، وخروجه عن أن يكون مباحا لغيره، ثم يستطرد فيذكر معنى الاباحة، ويقرن ذلك بقولهم: باح السر، وباحت الدار، ويستدل على أن التمليك معناه التشديد بقول أوس بن حجر:
فملك بالليط الذى تحت قشرها ... كغرقيء بيض كنه القيض من عل
ثم يأخذ فى إعراب الذى، وأنه فى موضع نصب بأنه مفعول به لملك، ولا يكون فى موضع جر على أنه وصف لليط، ويذكر السبب فى ذلك التوجيه و،
وتسأل نفسك: ما علاقة الاحتجاج لاختلاف القراءة فى إسقاط الألف من مالك أو اثباتها بالحديث عن موضع الذى من الاعراب فى قوله: فملك بالليط الذى تحت قشرها؟، وبالحديث (1) عن الاضافة إلى يوم الدين فى كلتا القراءتين؟ وبانتصاب أياما فى قوله: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ كَمََا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيََّاماً} على أنه مفعول به على الاتساع، وكان فى الأصل ظرفا!؟
وبتقدير المحذوف فى قوله: {«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومََاتٌ} [2]»، و {«مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [3]»؟، وبالعامل فى قوله: {«اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ»} (4)، وباعراب يوم فى قوله تعالى:
{«وَأَتْبَعْنََاهُمْ فِي هََذِهِ الدُّنْيََا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ»} (5)، وفى قول الشاعر:
حميت عليه الدرع حتى وجهه ... من حرها يوم الكريهة أسفع (6)
__________
(1) نسخة البلدية 1/ 9.
(2) 1/ 14.
(3) 1/ 15.
(4) 1/ 17.
(5) 1/ 19.
(6) 1/ 21.(1/311)
وفى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدََاءُ اللََّهِ إِلَى النََّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (1)؟. وبتعلق الياء فى قولهم بامامهم من قول الله: {«يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنََاسٍ بِإِمََامِهِمْ} (2)، وبالعامل فى إذا من قوله تعالى: {فَإِذََا نُقِرَ فِي النََّاقُورِ} (3)، وباعراب الشهر فى قوله تعالى:
{«فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»} (4)، وبالحديث عن حذف ما يعلم (5)؟، وبالعامل فى الصفة (6)، وبالحكم الشرعى فى قول من قال: «المرأة التى أتزوجها فهى طالق (7) وما صلة هذا كله وهو بعض ما أورد بالاحتجاج لاختلاف القراء فى إسقاط الألف أو إثباتها من مالك؟ ولكنها خطة أبى على فى الاستطراد، وسأتحدث عن هذا، وعن دلالته، وآثاره فى مكان آخر.
ولم يشأ أبو على أن تنمحى شخصيته بجانب شخصية ابن السراج، وقد كان هذا الجولان الواسع المدى كافيا وحده على شخصيته ولكنه إلى ذلك نراه، يعقب، أو يكمل، أو يشرح كلام ابن السراج، فيضيف أدلة جديدة من القرآن والشعر تفسر اتجاهه، وتؤيد ما ذهب إليه، فاذا قال ابن السراج. أن الله (سبحانه) وصف نفسه بأنه مالك كل شىء بقوله: رب العالمين، فلا فائدة فى تكرير ذكر ما قد مضى عقب الفارسى على ذلك (8)، ثم نراه كذلك يقوى قراءة رآها ابن السراج ضعيفة (9)، وإذا قال ابن السراج: «لم يمل أحد الألف من مالك (10)» قال أبو على: «الامالة فى مالك لا تمتنع فى القياس (11)، وأحيانا يعنف أبو على حتى ليقول على رأى شيخه ابن السراج: «إنه ليس بمستقيم (12)».
* * * وقد وصل ابن السراج إلى آخر قوله تعالى: {«ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»}، ولم ينبه أبو على إلى ذلك، ولم ترد إشارة إلى انتهاء ابن السراج، ولكن القارئ (13) يدرك أن روح ابن السراج قد اختفت بما فيها من وضوح المحجة، وإيراد الحجة، والاعتدال فى سوق الكلام، يدرك هذا دون حاجة إلى الإشارة إليه ليستقل أبو على بالاحتجاج، وليخلص له وحده الميدان (14).
__________
(1) 1/ 22.
(2) 1/ 22.
(3) 1/ 24.
(4) 1/ 25.
(5) 1/ 25.
(6) 1/ 28.
(7) 1/ 35.
(8) نسخة البلدية: 1/ 10.
(9) البلدية: 1/ 11.
(10) نسخة البلدية: 1/ 3.
(11) نسخة البلدية: 1/ 28.
(12) انظر الحجة: 1/ 120و 122و 124وانظر: 200.
(13) المتصل بكتاب الحجة.
(14) نسخة البلدية ابتداء من 2051.(1/312)
الفصل الرّابع بين أبى على الفارسى، وأبى عبد الله بن خالويه فى الاحتجاج
تلمذ أبو على الفارسى لأحمد بن موسى بن مجاهد، كما تلمذ أبو عبد الله بن خالويه له أيضا (1)، وكل من الفارسى وابن خالويه يؤخذ عنه القراءة، ويكون له تلاميذ من القراء: فأبو على يروى عنه عرضا عبد الملك بن بكران النهروانى (2)، كما يروى عن ابن خالويه عرضا أبو على الحسين بن على الرهاوى (3)، وكان لكل تآليف فى الدراسات القرآنية، والذى يهمنى منها فى هذا البحث الآن كتاباهما المسميان باسم «الحجة».
وقد كانت الدوافع إلى الاحتجاج للقراءات كثيرة: عامة وخاصة كما ذكرت من قبل، ومن هذه الدوافع أستطيع أن أفسر تآليف كل من أبى على الفارسى، وابن خالويه ومعهما ابن السراج فى الاحتجاج، وأخص من هذه الدوافع العامة والخاصة أن كلا من الفارسى وابن خالويه عاشا فى عصر واحد إذ توفى الفارسى (377هـ)، وتوفى ابن خالويه (370هـ) (4) وإذن فقد تأثرا بهذه العوامل التى دفعت العلماء إلى الاحتجاج فى هذا العصر، إلى أن كلا منهما قرأ على ابن مجاهد الذى سبع السبعة كما يقولون (5)، ومعنى هذا أن طريق الاحتجاج لقراء الأمصار قد مهد بعمل شيخهما الجليل ابن مجاهد (رحمه الله).
وكان بين أبى على الفارسى وابن خالويه منافسة فى بلاط سيف الدولة بحلب، (6)
كما كانت هذه المنافسة كذلك فى بلاط عضد الدولة، فكلاهما يقدم له كتبه:
ابن خالويه يؤلف له كتابه «المجدول فى القراءات على ما يذكر ابن الجزرى (7)، والفارسى يذكر اسم عضد الدولة فى صدر كتابه الحجة، ويدعو له بالعزة والبسطة والنصر والتمكين (8).
وعلى الرغم من هذه المنافسة فأنا لا أملك من الأقوال ما يجعلنى أفسر تأليف
__________
(1) طبقات القراء: 1/ 237.
(2) طبقات القراء: 1/ 207.
(3) المصدر السابق: 1/ 237.
(4) معجم الأدباء: 9/ 204.
(5) ابراز المعانى 5.
(6) انظر المسائل الحلبيات ورقة 33مخطوط 5نحوش.
(7) النشر: 1/ 237.
(8) الحجة: 1/ 1.(1/313)
كل من ابن خالويه وأبى على فى الاحتجاج بالمنافسة التى كانت بينهما، لسبب قريب: هو أنى لست أعرف على التحديد أى الرجلين سبق بالتأليف فى الاحتجاج ولو كنت أعرف شيئا من ذلك لكان من المرجح عندى أن المتأخر منهما فى الاحتجاج نافس المتقدم، ولكن هذا غير مستبين، فالقول به ضرب.
من إرسال الكلام إرسالا لا يقوم على بيّنة، ولا ينهض به دليل.
على أن هناك خيطا دقيقا أستطيع أن أمسك به، للاهتداء فى هذه المسألة، فابن جنى فى كتابه المحتسب يقرر أن أبا على لم يكن واضح العبارة فى كتابه الحجة، وأن ذلك كان سببا فى بعد القراء عنه، وعدم الفهم له، وأن ابن جنى من أجل ذلك قد تخفف فى عبارته تخففا يجعل كتابه قريبا من أفهام القراء، حبيبا إلى منهجهم الذى ألفوه: أسلوبا، واختصارا، ووضوحا (1).
وابن خالويه فى مقدمة كتابه الحجة يومئ إيماء خفيا إلى هذا الذى ذكره ابن جنى، فيؤلف ابن خالويه كتابه: قاصد قصد الابانة فى اقتصار من غير إطالة، ولا إكثار، محتذيا لمن تقدم فى مقالهم، مترجما عن ألفاظهم واعتلالهم، جامعا ذلك بلفظ جزل، ومقام واضح سهل، ليقرب على مريده، ويسهل على مستفيده (2).
فابن خالويه بهذه السهولة التى تحاشاها أبو على فى كتابه الحجة يحقق للمريدين الفوائد، ويسهل على المستفيدين المراد.
ذلك هو الخيط الدقيق الذى أشرت إليه من قبل، وهو على أية حال لا يدل دلالة صريحة على أن ابن خالويه قد نافس أبا على فى الاحتجاج. نعم! وهو يشير إلى ذلك فى خفاء.
* * * هذا ومن المهم أن أشير إلى أن كتب التراجم لا تذكر لابن خالويه كتابا باسم الحجة، والذى ذكره ابن الأنبارى فى نزهة الألباء من كتب القرآن والقراءات:
«كتاب البديع فى القراءات» وكتابا فى «إعراب سور من القرآن» وكتاب البديع معروف أخرجه المستشرق (ج. برجستراسر)، وهو فى شواذ القراءات. وكتاب الاعراب يسميه ياقوت: إعراب ثلاثين سورة (3)، على أن كتاب الحجة لابن خالويه مخطوط تحت رقم (19523ب) دار الكتب، وهذه النسخة هى التى اعتمدت
__________
(1) انظر المحتسب لابن جنى.
(2) الحجة لابن خالويه 3.
(3) معجم الأدباء: 9/ 204.(1/314)
عليها فى هذا البحث. ولابن خالويه كتاب القراءات مخطوط نسخة كتبت سنة 600هـ يقول فى أوله: هذا كتاب شرحت فيه قراءات أهل الأمصار، ولم يعد ذلك إلى ما يتصل بالاعراب من تفسير مشكل، أو غريب حروف القراءة الشاذة (1).
ولعله كتابه الموسوم بالحجة!.
* * * ومهما يكن من أمر فان الذى يعنينى هذه الدراسة المقارنة التى أتعرف فيها منهج كل من أبى على الفارسى وابن خالويه فى الاحتجاج، وما كان بينهما من توافق فى ذلك المنهج، وما كان بينهما من خلاف.
والملاك العام الذى التزمه ابن خالويه بينه فى مقدمة كتابه إذ يقول: «وبعد:
فانى تدبرت قراءة الأئمة السبعة من أهل الأمصار الخمسة (2) المعروفين بصحة النقل واتقان الحفظ، المأمونين على تأدية الرواية واللفظ فرأيت كلا منهم قد ذهب فى إعراب ما انفرد به من حرفه مذهبا من مذاهب العربية لا يدفع، وقصد من القياس وجها لا يمنع، فوافق باللفظ والحكاية طريق النقل والرواية، غير مؤثر للاختيار على واجب الآثار، وأنا بعون الله ذاكر فى كتابى هذا ما احتج به أهل صناعة النحو لهم فى معانى اختلافهم، وتارك ذكر اجتماعهم وائتلافهم فيه، معتمد على ذكر القراءة المشهورة، ومنكب على الروايات الشاذة المنكورة (3).
وهو بهذا التقديم يشير إلى منهجه فى تناول هذه القراءات، والاحتجاج لها، بعد ثنائه على أصحابها اتقان حفظ، وأمانة رواية، وأستطيع أن أحدد منهجه فى النقاط الآتية:
فهو أولا سيسلك مسلك النحاة فى الاحتجاج للقراءة.
ثم هو ثانيا سيحتج للقراءات المشهورة، ويقصد بهذه قراءات الأئمة السبعة: «نافع، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائى، وأبى عمرو، وابن عامر (4)» وهم الذين وثقهم ابن مجاهد، وإن كان ابن خالويه لم يشر إليه فى هذا التقديم.
__________
(1) مراد ملا 85، 325ق، 1014سم ص 12فهرست المخطوطات المصورة.
(2) يقصد مكة والمدينة والبصرة والكوفة ودمشق.
(3) الحجة لابن خالويه: 1.
(4) انظر إبراز المعانى: 5.(1/315)
ثم هو ثالثا ينكر قراءة غير السبعة، فلا يتعرض لشىء منها، ويعدها شاذة منكورة. «وسنرى أن ابن جنى» وقف من هذه القراءات موقفا آخر سأوضحه عند الكلام على منهجه فى الاحتجاج للقراءة الشاذة فى كتابه «المحتسب»
فهل تراه التزم هذا المنهج؟ أما من حيث سلوكه مسلك النحاة فلم يكن ذلك منه على اطراد، فقد تردد بين مسلكهم حينا، ومسلك القراء حينا آخر، سنراه يهاجم القراء فى القراءات التى تخالف مذاهب النحاة. وذلك مسلك نحوى (1)، ونراه مثلا يحتج برسم المصحف (2)، وذلك مذهب أهل الأثر الذى يخالف مذاهب النحاة أهل القياس، والنظر، وقد كان مضطرا إلى أن يسلك مسلك غير النحاة، لأن تخالف القراءات لا يرجع إلى الأوجه الإعرابية حسب، بل إلى أسباب أخرى تعرضت لها فى صدر الكلام على الاحتجاج للقراءات (3).
وهو بعد وفّى بما ذكره من حيث الاحتجاج لقراءات الأئمة السبعة، وإن كنت قد وجدت بينه وبين أبى على بعض التخالف اليسير فى الحروف التى احتج لها، وسأشير إلى ذلك قريبا (4).
على أنه وإن شذذ ما تجاوز السبع من القراءات، نراه ينكر بعض ما ورد من القراءات التى رواها الأئمة القراء الثقاة، شأنه فى ذلك شأن أهل الصنعة من النحاة.
وأنتقل بعد ذلك إلى عرض نصوص أستنبط منها أوجه التخالف، وأوجه التوافق بين الإمامين فى الكتابين:
أولا: رسم المصحف:
(ا) قال ابن خالويه: قوله تعالى: {«إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»} (5) قرأه حمزة باشباع فتح الشين ووقفه على الياء قبل الهمزة، وكذلك يفعل بكل حرف سكن قبل الهمزة. والحجة له فى ذلك أنه أراد صحة اللفظ بالهمزة وتحقيقها على أصلها، فجعلها كالمبتدإ، وسهل ذلك عليه أنها فى حرف عبد الله مكتوبة فى السواد شاى بألف (6)» وصحيح ما قال ابن خالويه:
__________
(1) سأسوق أمثلة لذلك فى حينه إن شاء الله.
(2) سأعرض لذلك بما يوضحه فى هذا الفصل بعد قليل.
(3) انظر الفصل الخاص بذلك.
(4) انظر ص 324من هذا الكتاب.
(5) آية سورة البقرة.
(6) وجه ورقة (6) الحجة لابن خالويه.(1/316)
جاء فى المقنع للدانى ما نصه: قال محمد بن عيسى: «رأيت فى المصاحف كلها شىء بغير ألف ما خلا الذى فى الكهف (س 18آ 23) يعنى قوله: «ولا نقولن لشاى» قال وفى مصحف عبد الله رأيت كلها بالألف (شاى (1))
(ب) وقال فى الاحتجاج لمن قرأ اتخذتم بالإظهار «ثم أتى بالكلمة على أصلها واغتنم الثواب على كل حرف منها!! (2)»
(ج) وقال فى موضع آخر: «لم اتفقت القراء على قوله خطاياكم هنا (البقرة) واختلفوا فى الأعراف، وسورة نوح؟ فقل: لأن هذه كتبت بالألف فى المصحف فأدى اللفظ ما تضمنه السواد، وتينك كتبتا بالتاء من غير ألف (3)»
(د) وقال: قوله تعالى: {«أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً»} تقرأ هزؤا وكفؤا بالضم والهمز وجزءا بإسكان الزاى والهمز، والحجة فى ذلك اتباع الخط، لأن هزؤا وكفؤا فى المصحف مكتوبان بالواو، وجزءا بغير واو، فاتبعوا فى القراءة تأدية الخط (4).
(هـ) وقال ابن خالويه: قوله تعالى: {«لَمْ يَتَسَنَّهْ»} يقرأ وما شاكله (ما أغنى عنى ماليه، سلطانيه، وما أدراك ماهيه (5)) باثبات الهاء، وطرحها فى الإدراج.
فالحجة لمن أثبتها أنه اتبع الخط، فأدى ما تضمنه السواد. والحجة لمن طرحها أنه إنما أثبت لتبين بها حركة ما قبلها فى الوقف، فلما اتصل الكلام صار عوضا منها، وميزانها فى آخر الكلام كألف الوصل فى أوله، وكان بعض القراء يتعمد الوقوف على الهاء، ليجمع بذلك موافقة الخط، وتأدية اللفظ. وبعضهم يثبت بعضا، ويطرح بعضا بغير ما علة (6)»
وقال أبو على الفارسى (7): فأما قراءة ابن كثير، ونافع، وأبى عمرو، وعاصم، وابن عامر هذه الحروف كلها باثبات الهاء فى الوصل فإن ذلك مستقيم فى قياس العربية فى يتسنه، وذلك أنهم يجعلون اللام فى يتسنه الهاء، فإذا وقفوا وقفوا على اللام، وإذا وصلوا كان بمنزلة لم يتقه زيد، ولم يجبه عمر» ثم قال أبو على:
__________
(1) المقنع: 45.
(2) المخطوطة ظهر ورقة (8).
(3) المخطوطة ظهر ورقة (9).
(4) الحجة لابن خالويه ظهر ورقة (10).
(5) نسخة البلدية انظر الحجة للفارسى: 3/ 17.
(6) الحجة لابن خالويه وجه ورقة 30.
(7) نسخة البلدية الحجة: 3/ 15.(1/317)
قال أحمد بن موسى «ولم يختلفوا فى كتابيه، وحسابيه أنها بالهاء فى الوصل، فاتفاقهم فى هذا دلالة على تشبيههم ذلك بالقوافى، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون لهذا التشبيه، أو لأنهم راعوا إثباتها فى المصحف، فلا يجوز أن يكون لهذا الوجه، ألا ترى أن تاءات التأنيث أو عامتها قد أثبتت فى المصحف هاءات، لأن الكتابة على أن كل حرف منفصل من الآخر، وموقوف عليه، فلو كان ذلك للخط لوجب أن يجعل تاءات التأنيث فى الدرج هاءات لكتابتهم إياها هاءات، ولوجب فى نحو قوله: {«إِخْوََاناً عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ»} (1) أن يكون فى الدرج بالألف لأن الكتابة بالألف، فإذا لم يجز هذا علمت أن الكتابة ليست معتبرة فى الوقف على هذه الهاءات، وإذا لم تكن معتبرة علمت أنه للتشبيه بالقوافى.
ولإثبات هذه الهاءات فى الوصل وجيه فى القياس، وذلك أن سيبويه حكى فى العدد أنهم يقولون ثلاثة أربعة، وقد أجروا الوصل فى هذا مجرى الوقف على التاء التى للتأنيث وترك القياس على هذا أولى من القياس عليه؟ لقلة ذلك وخروجه مع قلته على القياس، وإذا جاء الشيء خارجا عن قياس الجمهور والكثرة فى جنس لم ينبغ أن تجاوز به ذلك الجنس (2).
* * * من هذه النصوص أستطيع أن أستنتج أن ابن خالويه (3) مولع بالاحتجاج برسم المصحف، وهذا أمر يقربه من مسلك أهل الأثر، والتعبد بما رسم الكاتبون فى السواد على حد تعبيره والدليل على أنه يسلك طريق أهل الأثر كذلك ما قاله فى موضع الاحتجاج لمن قرأ ثم اتخذتم بالاظهار:
أنه أتى بالكلمة على أصلها، واغتنم الثواب على كل حرف منها!! (4)
ونرى أبا على الفارسى فى نصه الذى عرضت ينفى أن يكون إثبات الهاء فى المصحف من قوله تعالى: {«كِتََابِيَهْ *} و {حِسََابِيَهْ»} سببا فى اتفاق القراء على قراءتها
__________
(1) آية 47سورة الحجر.
(2) الحجة للفارسى نسخة البلدية 3/ 2015.
(3) الحجة لابن خالويه وجه ورقة (3) ووجه ورقة (11).
(4) الحجة لابن خالويه ظهر ورقة (8).(1/318)
بالهاء فى الوصل، ثم يبرهن بهذا القياس الذى أورد على ما اتجه إليه ورآه من أنهم أثبتوها فى الوصل تشبيها لها بالقوافى
إلى أن لإثبات الهاء فى هذه الأحرف وجيها من القياس (1)
ثانيا: المنطق والقياس ومدى ظهوره عند كل:
قال أبو على: اختلفوا فى قوله تعالى: {«فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ عَنْهََا»} فقرأ حمزة فأزالهما بألف خفيفة، وقرأ الباقون: «فأزلهما» مشددا بغير ألف. قال أبو بكر أحمد «وروى أبو عبيد أن حمزة قرأ فأزالهما بالإمالة وهذا غلط، وحجة حمزة فى قراءته «فأزالهما الشيطان عنها» أن قوله عز وجل {«يََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلََا مِنْهََا»} تأويله أثبتا فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال الذى هو خلافه، ومثل ذلك قوله (عز وجل) {«فَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} (2) تأويله فضرب فانفلق، ومثله: {«فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} (3) أى فحلق فعليه فدية، ونسب الفعل إلى الشيطان، لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه، ووسوسته، وتسويله، فلما كان ذلك منه سبب زوالهما عنها أسند الفعل إليه، ومثل هذا قوله عز وجل {«وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ»} فالرّمى كان للنبى عليه السلام حيث رمى فقال «شاهت الوجوه» إلا أنه لما كان بقوة الله وإرادته نسب إليه، ومما يقوى قراءته قوله فأخرجهما مما كانا فيه «، فقوله فأخرجهما فى المعنى قريب من ازالهما، ألا ترى أن إخراجه إياهما إزالة منه لهما عما كانا فيه فان قال قائل:» ما تنكر أن يكون فاعل أخرجهما لا يكون ضمير الشيطان، ولكن المصدر الذى ذكر فعله كقولهم:
«من كذب كان شرا له» فالدلالة على فاعل أخرجهما ضمير الشيطان قوله فى الأخرى: {«يََا بَنِي آدَمَ لََا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطََانُ كَمََا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ»} ففاعل أخرجهما الشيطان كما بين ذلك فى هذه الآية. ويقوى قراءته أيضا تأويل من تأول أن أزلهما من زل الذى هو عثر ألا ترى أن ذلك قريب من الازالة فى المعنى؟
فان قال قائل: فانه إذا قرأ فأزالهما كان قوله بعد: فأخرجهما تكريرا، فالقراءة الأخرى أرجح، لأنها لا تكون على التكرير، قيل: إن قوله عز وجل: أخرجهما
__________
(1) نسخة البلدية، انظر الحجة للفارسى: 3/ 2015.
(2) سورة الشعراء آية 63.
(3) سورة البقرة آية 196.(1/319)
ليس بتكرير لا فائدة فيه، ألا ترى أنه قد يجوز أن يزيلهما عن مواضعهما، ولا يخرجهما مما كانا فيه من الدعة والرفاهية، فاذا كان كذلك لم يكن تكريرا غير مفيد، وعلى أن التكرير فى مثل هذا الموضع لتفخيم القصة، وتعظيمها بألفاظ مختلفة ليس بمكروه ولا مجتنب بل هو مستحب مستعمل كقول القائل: أزلت نعمته، وأخرجته من ملكه، وغلظت عقوبته، وقالوا: «زال عن موضعه وأزلته»، وفى التنزيل:
{«إِنَّ اللََّهَ يُمْسِكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولََا»} وفيه: {«وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ».}
حجة من قرأ فأزلهما الشيطان «أن أزلهما يحتمل تأويلين: أحدهما: كسبهما الزلة، والآخر أن يكون: أزل من زل الذى يراد به عثر. والدلالة على الوجه الأول ما جاء فى التنزيل من تزيينه لهما تناول ما حظر عليهما جنسه بقوله: {«مََا نَهََاكُمََا رَبُّكُمََا عَنْ هََذِهِ الشَّجَرَةِ»} إلى قوله: {«لَمِنَ النََّاصِحِينَ»} وقوله عز وجل: {«فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطََانُ لِيُبْدِيَ لَهُمََا مََا وُورِيَ عَنْهُمََا مِنْ سَوْآتِهِمََا»} وقد نسب كسب الانسان الزلة إلى الشيطان فى قوله عز وجل: {«إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطََانُ بِبَعْضِ مََا كَسَبُوا»} واستزل وأزل كقولهم استجاب وأجاب، واستخلف لأهله وأخلف، فكما أن استزلهم من الزلة المعنى فيه كسبهم الشيطان الزلة، كذلك قوله: فأزلهما الشيطان. والوجه الآخر أن يكون فأزلهما من زل عن المكان إذا عثر فلم يثبت عليه، ويدل على هذا قوله عز وجل: {«فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ،} كما أن خروجه عن الموضع الذى هو فيه انتقال عنه إلى غيره، كذلك عثاره فيه وزلته» (1).
فما الذى قاله ابن خالويه فى الاحتجاج لاختلاف القراء فى هذا الحرف؟
كل ما كان منه أن قال: قوله تعالى: «فأزلهما يقرأ باثبات الألف والتخفيف، وبطرحها والتشديد. فالحجة لمن أثبت الألف أن يجعله من الزوال والانتقال عن الجنة.
والحجة لمن طرحها أن يجعله من الزلل (2). ثم مضى بعد ذلك إلى الاحتجاج لما اختلف فيه القراء بعد ذلك.
ولكننا إذا أردنا أن نضع أيدينا على القياس عند أبى على فى احتجاجه لاختلاف القراء فى أزلهما. «رأيناه يقابل مقايسا قوله تعالى: و {يََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلََا مِنْهََا} أى أثبتا فثبتا فأزالهما الشيطان يقابل ذلك بقوله تعالى:
__________
(1) الحجة نسخة مراد ملا ورقة 310وما بعدها.
(2) الحجة لابن خالويه ظهر ورقة 7.(1/320)
{فَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} «أى فضرب فانفلق»، وبقوله تعالى: {«فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} أى فحلق فعليه فدية.»،
ورأيناه كذلك يعقد القياس بين اسناد الفعل إلى الشيطان لأن وسوسته كانت سببا فى زوال آدم وحواء عن الجنة وإسناد الرمى الى الله تعالى لأنه كان بقوة الله وإرادته (1). ونراه أيضا يقايس مبرهنا على أن فاعل أخرجهما ضمير الشيطان فى قوله تعالى: {«فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ} بقوله تعالى: {يََا بَنِي آدَمَ لََا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطََانُ كَمََا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ»}.
ثم نراه يعتبر التكرير فى قوله تعالى: «فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما» بالتكرير فى قول القائل: «أزلت نعمته»، وأخرجته من ملكه، وغلظت عقوبته.
ثم انظر كيف يبرهن على القراءة الأخرى: فأزلهما إذ يتأول هذا الحرف على أنه من زل عن المكان إذا عثر فلم يثبت عليه، ويقيس الخروج فى قوله تعالى: {«فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ»} على العثار من حيث أن الخروج عن الوضع انتقال عنه إلى غيره كالعثار (2).
وبعد فالقياس شائع عند أبى على، وقد عقدت فصلا تحدثت فيه عن القياس عنده بالتفصيل (3)، ولكنى أردت بعرض هذين المثالين أن أبين اختلاف المنهجين بين الامامين فى حرف لتكون الموازنة أوضح، ولتتبين طريقة كل منهما فى جلاء.
ومن المهم أن أقول: «إن هذا المنهج هو السمة العامة لكل، ومن الحق أيضا أن أقرر» أن ابن خالويه تبدو عنده فى القياس لمحات خافتات، تعد فلتات نادرات (4)، ثم هى لا تكون فى مثل ذلك الاستطراد الذى رأيناه عند الفارسى، حيث يسلمك القياس إلى قياس، وهذه الفلتات لندرتها لا تبنى عليها الأحكام.
ثالثا العروض واستغلاله فى الاحتجاج:
ومن الظواهر البادية عند أبى على الفارسى استغلاله العروض ومسائله فى الاحتجاج، ولا أثر لذلك فى كتاب الحجة عند ابن خالويه، فالفارسى يقيس على العروض (5)، ويتحدث عن الروى، والتأسيس، والردف (6)، وفى لزوم
__________
(1) الحجة نسخة مراد ملا ورقة 310.
(2) الحجة للفارسى نسخة مراد ملا ورقة 312.
(3) راجع الفصل الخاص بذلك.
(4) انظر مثلا وجه ورقة 30.
(5) الحجة نسخة البلدية: 1/ 61.
(6) الحجة: 1/ 62.(1/321)
ما لا يلزم (1)، ولم تعاقبت السين والفاء فى مستفعلن التى هى عروض البيت الأول من المنسرح (2)، ويسوق الشواهد على الضرورات الشعرية (3)، واستجازة حذف الحركة فى الزحاف (4). وقد عقدت فصلا تحدثت فيه عن كل ذلك وغيره فى تفصيل، ثم قومت منهج الفارسى فى استغلاله العروض (5).
رابعا الاصطلاحات وتعددها عند الفارسى:
وعلى سبيل المثال أدكر أن ابن خالويه يلتزم فى حديثه عن الأحرف التى وقعت الإمالة فيها من القراء يلتزم قوله: يقرأ بالإمالة والتفخيم (6)، ولكن أبا على يتحدث عن الإمالة: أسمائها ودرجاتها، كالكسر (7)، والإجناح (8)، والبطح (9)، والإضجاع (10)، والإمالة (11) الشديدة، وإشباع الإمالة (12)، والقارئ لا يفتح ولا يكسر (13) وبين الفتح والكسر، وبين الكسر والتفخيم (14)، وبين الإمالة والتفخيم (15)، ويسمى عدم الإمالة فتحا (16)، ونصبا (17)، وتفخيما (18) وهكذا يراوح أبو على فى تعبيره بين الاصطلاحات المختلفة، وقد تعرضت لهذه الاصطلاحات عند كلامه على مذهبه النحوى.
خامسا تدفق أبى على فى إيراد الشواهد، ولا شىء من ذلك عند ابن خالويه:
وربما كان السبب فى مثل هذا ونحوه من ابن خالويه أنه أخذ على نفسه الاختصار، والتزام الاقتصار من غير اطالة ولا إكثار (19) وبمثل هذا أعلل.
سادسا نسبة القراءات المختلفة إلى أئمتها عند الفارسى كما يذكر أسانيدها، وتجاوز ابن خالويه عن ذلك.
فأبو على يروى عن القصبى (20) باسناده عن عبد الوارث عن أبى عمرو واليزيدى (21)، ويحكى عن أبى هشام بإسناده عن سليم عن حمزة، ويحدث
__________
(1) 1/ 63.
(2) ص 70وما بعدها.
(3) 73.
(4) 1/ 263.
(5) راجع الفصل الخاص بذلك.
(6) انظر ورقات 3، 5، 6، 7من كتاب الحجة لابن خالويه وص 15من بحثى القراءات واللهجات العربية: الامالة.
(7) 2/ 146.
(8) 1/ 373.
(9) 7/ 383.
(10) 282.
(11) 1/ 373.
(12) 1/ 373.
(13) 1/ 348.
(14) 1/ 376.
(15) 1/ 348.
(16) 2/ 548.
(17) 1/ 354.
(18) 1/ 361و 2/ 153.
(19) ظهر ورقة 1.
(20) لم اجد القصبى متقدما على الفارسى والقصبى الذى وجدته متأخر توفى سنة 540 انظر طبقات القراء 1/ 66.
(21) الحجة: 1/ 380.(1/322)
عن أبى بكر بن مجاهد بسنده عن وهيب بن عبد الله، عن الحسن بن المبارك عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم، ويحدث عن وهيب (1) بن عبد الله المروذى عن الحسن بن المبارك عن أبى حفص كما يحدثه سهل أبو عمرو عن أبى عمرو عن عاصم ويخبره محمد بن الفرج عن محمد بن إسحاق عن أبيه نافع
ويحدثه أبو سعيد البصرى الحارثى عن الأصمعى عن نافع (2) وهكذا، ولكن ابن خالويه يروى القراءات، ويحتج لها، دون أن يذكر أسانيدها، ولمنهج أبى على قيمة هى توثيق هذه القراءات، بذكر أسنادها المتصلة بالقراء السبعة الذين اتصل سندهم برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفى ذلك ضمنا دفاع عن هذه القراءات، وأنها تنزيل من حكيم حميد.
سابعا اللغويات عند كل من الإمامين:
وهذه تذكر على نحو واسع متقص فى الحجة لأبى على، وعلى الرغم من أن المترجمين يذكرون ابن خالويه بأنه لغوى (3) ومن كبار أهل اللغة (4)، ووصفه الدانى بأنه حافظ للغة (5) على الرغم من ذلك فابن خالويه لا يتعرض للغويات على صورة واسعة شاملة (6)، وتعرض أبى على الفارسى للمفردات اللغوية وشرحها، والاستشهاد لها من كتاب الله، والشعر، وكلام العرب، وما نقل الأئمة وما رووا من أمثال سيبويه، وأبى زيد، وأبى عبيدة، أقول تعرضه على هذه الصورة له قيمة فى تفسير القاموس القرآنى، وفى تاريخ تطوره منذ أبى عبيدة فى مجازه حتى الراغب الأصفهانى فى مفرداته، وتعليله، وقد خصصت فصلا لذلك وفى تقويمه، وتعليله، ولعل ابن خالويه لم يتعرض لشىء منه مع شهرته اللغوية لأنه التزم كما قلت الاختصار ويتصل بذلك أنك تجد أبا على.
ثامنا يهتم بتفسير القرآن الكريم:
ذلك لأن أبا على أراد أن يوجه إعراب الكلمات التى وقع الاختلاف فيها، وغيرها مما هو متصل بها، ويدعوه الاستطراد إلى التعرض لها كما وجه معنى كل قراءة احتج لها، فأسلمه ذلك إلى
__________
(1) الموجود فى طبقات القراء وهب 2/ 361.
(2) انظر الحجة نسخة مراد ملا 1ورقة 382.
(3) طبقات القراء: 1/ 237.
(4) نزهة الألباء: 207.
(5) معجم الأدباء: 9/ 202.
(6) انظر تعرضه الموجز لهمز النبيئين والصابئين الحجة ظهر ورقة 10وانظر وجه ورقة 14فى أفعل وفعل.(1/323)
التفسير، ومن هنا كان الفارسى يمثل حلقة من السلسلة المتتابعة فى هذا الميدان، وهو ما ذكر بالتفصيل فى الفصل المعقود لذلك: منهجه؟ وكيف استقى من المفسرين قبله؟ وكيف تأثر به من بعده؟ ومما يستحق التسجيل أن محمد بن على أحمد الداودى المالكى لم يذكر الفارسى فى طبقات المفسرين (1) مع أنه ذكر ابن خالويه ويتفرع على ذلك.
تاسعا: تقرير أن أبا على يستخدم القرآن استخداما يدعو إلى الدهشة
ويدل على اليقظة الذهنية الدقيقة فى توجيه الإعراب، والاحتجاج، انظر مثلا قوله: فأما النون والياء فى قوله «نكفر ويكفر عنكم من سيئاتكم ويدخلكم (2)» فمن قال:
ويكفر فلأن ما بعده على لفظ الافراد، فيكفر أشبه بما بعده من الافراد منه بالجمع.
وأما من قال: نكفر على لفظ الجمع «فإنه أتى بلفظ الجمع، ثم أفرد كما أتى بلفظ الأفراد، ثم جمع فى قوله تعالى: {«سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ»} ثم قال: {«وَآتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ} [3]». وهذا قليل من كثير ما أورد فى هذا الباب، وقد نجد شيئا من ذلك عند ابن خالويه، ولكنه يأتى فى قلة نادرة، تطالعك فتحس كأنها جاءت إليك بعد غيبة طويلة، فتجد لها فى نفسك غربة لأنها وردت عليك بعد انقطاع عنك، على حين تأتى عند أبى على فى كثرة غامرة أولا، ثم هى تدل على عمق ويقظة ذهنية ثانيا، ولا شىء من ذلك تحسه عند ابن خالويه، واكتفى بما ذكرت فى فصل «الشواهد» عند أبى على دالا على منهجه وطابعه فى إيراد الآيات القرآنية، وإليك بعض أمثلة لابن خالويه فى هذا الباب تحدثك عن طابعه من السطحية فى الاحتجاج بآيات الكتاب، والضعف كذلك قال: قوله تعالى {«قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ»} قرئ «كبير» بدليل قوله: وإثمهما أكبر ولم يقل أكثر، و «كثير» بدليل قوله:
{«وَلََا أَدْنى ََ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْثَرَ»} (4).
وقال: قوله تعالى: من موصّ بالتشديد من وصّى بدليل قوله: {«وَمََا وَصَّيْنََا بِهِ إِبْرََاهِيمَ»}، و «من موص» بالتخفيف من أوصى، ودليله قوله {«يُوصِيكُمُ اللََّهُ} [5]»
ومثال الضعف عند ابن خالويه احتجاجه لقوله تعالى: {«فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا»} أمتعه
__________
(1) ظهر ورقة 16.
(2) كذا عبارته وجه ورقة 14.
(3) مخطوط بدار الكتب رقم 168تاريخ.
(4) سورة النساء آية 31.
(5) نسخة البلدية: 3/ 42.(1/324)
يقرأ بتشديد التاء وتخفيفها. فالحجة لمن شدد تكرير الفعل ومداومته، ودليله قوله:
{«وَمَتَّعْنََاهُمْ إِلى ََ حِينٍ»}، والحجة لمن خفف أن تكرير الفعل لا يكون معه «قليلا» فلما جاء معه بقليل كان أمتع أولى به من متّع، على أن أفعل وفعّل يأتيان فى الكلام بمعنى واحد كقولك أكرمت وكرمت، ويأتيان والمعنى مختلف كقولك: أفرطت وفرطت، وتأتى فعلت لما لا تأتى له أفعلت كقولك كلمت زيدا، ولا يقال أكلمت، وأجلست زيدا، ولا يقال جلست.
فأنت ترى أنه ذكر وجهين للاحتجاج آخرهما لا يستقيم مع الاحتجاج (1)
الأول بل هو يسقطه، والأولى أن يقتصر على قوله: أن أفعل وفعل يأتيان فى الكلام بمعنى واحد.
وقال: قوله تعالى: {«أَنْ يُنَزِّلَ اللََّهُ»}: يقرأ بالتشديد والتخفيف. حجة من شدد أنه أخذه من نزل ينزل، وحجة من خفف أنه أخذه من أنزل ينزل والحجة لهما (أى للكسائى وحمزة) فى ترك التشديد فى قوله: {«وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ»}
فى لقمان، {«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ»} فى عسق قوله {«وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً»}
فمضارع أنزل ينزل بالتخفيف فاعرفه (2)!!»
وأراه فى هذا يفسر الماء بالماء!! وأية دقة فى أن مضارع أنزل هو: ينزل حتى يدعو إلى معرفتها!!؟ وانظر استدلاله بالقراءة على قراءة أخرى كلامه فى قوله تعالى:
{«وَلََا تُسْئَلُ»} (3). ومثل ذلك استدلال كلّ بالحديث الشريف (4).
عاشرا شخصية كل:
وأبو على ظاهر الشخصية بما يعلق أو يعقب (5)، أو ينشئ من الأدلة إنشاء، وما يورد من الشواهد بعد شواهد الشيوخ (6)، أو بما يتفهم من نصوص الأئمة السابقين، فهو كما يقول المحدثون يفهم ما بين السطور، ويضع النقط على الحروف. وتعليقاته وتعقيباته تدل على عمق فهم، وبعد غور (7)، وقد تعرضت لذلك فى تفصيل فى البحث الذى عقدته عن شيوخه فليراجع. ولم يكن ذلك من
__________
(1) الحجة لابن خالويه وجه 18.
(2) وجه ورقة 13.
(3) ظهر ورقة 13.
(4) انظر لابن خالويه الحجة ظهر ورقة 15ولأبي على الفارسى: 2/ 120نسخة البلدية.
(5) الحجة نسخة البلدية: 3/ 22.
(6) نسخه البلدية: 3/ 15، 44.
(7) الحجة نسخة البلدية: 3/ 22.(1/325)
ابن خالويه بالضرورة لأنه لم يتعرض لأقوال الأئمة الذين سبقوه أو عاصروه حتى تتاح له فرصة التعقيب أو التعليق أو النقد وأكبر الظن أنه لو تعرض لأقوالهم ما استطاع أن يقف منها موقف الفارسى، أقول ذلك مستنتجا إياه من المواطن الأخرى التى تعرض فيها الرجلان إلى الحديث عنها، واختلفا فى المنهج عمقا عند الفارسى، وسطحية عند ابن خالويه.
وقد وجدت: حادى عشر: أن ابن خالويه يتعرض لمذاهب القراء من حيث الأداء، فهو يتعرض للمد ومقداره، والتنوين بغنة وبغيرها، والوقف فى حروف لم يتعرض لها أبو على، قال ابن خالويه: قوله تعالى: {«يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ»} كان ابن كثير يمد إسرائيل أكثر من مد بنى، والحجة له فى ذلك أن مد بنى لأجل استقبال الهمزة فهى مد حرف لحرف، والمد فى إسرائيل من أصل بنية الكلمة لا لأجل غيرها، وسوّى الباقون بين مدتيهما لأنهما فى اللفظ سيان (1)».
ولم يذكر أبو على شيئا من اختلاف القراء فى ذلك.
وقال ابن خالويه: قوله تعالى: {«مَنْ يَقُولُ»} يقرأ مدغما بغنة، وبغير غنة لأن النون والتنوين يدغمان عند ستة أحرف يجمعها قولك «يرملون»، ويظهران عند ستة أحرف، وهى الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، ويخفيان عند سائر الحروف فالنون الساكنة، والتنوين يدغمان فى اللام، والراء بغير غنة، وفى الواو كذلك فى قراءة حمزة، ويدغمان فى الميم والنون بغنة لا غير (2)، فالحجة لمن أدغم فى اللام، والراء، والياء، والواو، بغير غنة أن اللام، والراء حرفان شديدان، والغنة من الأنف فبعدت منهما، والياء، والراء، رخوتان فجرتا مع النون والتنوين فى غنة الخياشيم. واتفقوا على إدغام النون، والتنوين عند الميم بغنة لا غير لمشاركة الميم لهما فى الخروج من الخياشيم، واستدلوا على ذلك بأن المتكلم بالميم والنون الساكنة لو أمسك بأنفه لأخل ذلك بلفظهما (3)، ولم أر أبا على تعرض لهذا الإدغام، وفصل الكلام فيه على النحو الذى فعل ابن خالويه، بل إنه لم يذكر هذا الاختلاف فى ذلك الحرف من حيث الغنة أو عدمها. ثم انظر تعليل ابن خالويه لوقف حمزة بالتاء على مرضات، وهيهات هيهات، ولات، واللات، والتوراة ويا أبت (4)، على حين أن أبا على لم يتعرض لشىء من ذلك، إذ بعد أن أتم
__________
(1) الحجة لابن خالويه ظهر ورقة 8.
(2) الحجة لابن خالويه 4.
(3) الحجة وجه ورقة 4.
(4) ظهر ورقة 17.(1/326)
احتجاجه لاختلاف القراء فى قوله تعالى: {«فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ وَلََا جِدََالَ»} انتقل إلى اختلافهم فى السلم (1)
هذا وهناك ناحية اختلاف بين المنهجين فى الشكل، أذكرها إتماما لسمات الاختلاف بين كل: ذلك أن أبا على الفارسى ينتقل من حرف إلى حرف بقوله:
«اختلفوا» ثم يذكر قراءات الأئمة واختلافهم فى هذا الحرف بالتفصيل، ويذكر الأسانيد المختلفة لتوثيق هذا الاختلاف، أما دلالة الانتقال من حرف إلى حرف عند ابن خالويه هو لفظ: قوله تعالى «ومن النادر أن يعين القارى وقراءته فى الحرف المختلف فيه
* * * أما عن النواحى التى اتفق فيها الإمامان فهى أولا: فى أن كلا منهما يحتج للقراء السبعة، وثانيا: أن كليهما يتعرض للقراءات التى تخالف مذهبه النحوى بالتوهين والتضعيف. وربما بدا ابن خالويه فى ذلك أعنف من أبى على، وتعليل ذلك عندى أن أبا على واسع الأفق، ماهر فى القياس، قوى فى الاحتجاج، عالم بمذاهب العرب، دارس لكتاب سيبويه فى اتقان. قد أكب عليه، وتفرد به كما يقول أبو حيان (2)، فقاس على ما فيه، وقد مكنه ذلك كله من الاعتراف بصحة القراءات فى الأعم الأغلب التى تخالف مذهبه، وإن كان يتبع ذلك بأحكام الجودة أو الحسن، أو التنبيه على موافقة القياس للقراءات التى تتفق وما يذهب إليه.
وقد تعرضت فى تفصيل إلى بيان ذلك الموقف من أبى على فى فصل خاص عقدته له فلتراجع الاستشهادات هناك، وأسوق هنا بعض الأمثلة لكل للتدليل على ما أقول.
قال ابن خالويه: «وأدغم أبو عمرو وحده الراء فى اللام من {«يَغْفِرْ لَكُمْ»} وما شاكله فى القرآن، وهو ضعيف عند البصريين (3).
وقال: أما ما روى عن أبى عمرو من إمالة قوله: {«فَلَمََّا رَأَى الْقَمَرَ»} وما شاكله فغلط عليه لأن الإمالة من أجل الياء فلما سقطت الياء سقطت الإمالة
فإن كانت هذه الرواية صحت عنه، فإنما أراد أن يعلم أنه كذلك يقف، وفى هذا بعض الوهن، ولكنه عذر له، والمشهور عنه فى ذلك الفتح (4).
__________
(1) نسخة البلدية 2/ 1انظر ورقة 319.
(2) الامتاع / 131.
(3) الحجة لابن خالويه وجه ورقة 10.
(4) آخر وجه ورقة؟.(1/327)
وجاء فى كتاب الحجة لأبى على: فإذا سقطت الياء فى الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء كقوله: {«حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً»}، و {«النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ»}، و {«يَرَى الَّذِينَ»}
قال أبو على: هذا الذى ذهب إليه أبو عمرو مذهب، وللعرب فى هذا مذهبان:
أحدهما: ألا يميلوا بالفتحة نحو الكسرة لأن إمالتها إنما كانت لتميل الألف نحو الياء، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين صحح الفتحة، ولم يملها لسقوط الألف التى كانت الفتحة تمال لتميلها، قال سيبويه: «قالوا لم يضربها الذى تعلم (1)» فلم يميلوا لأن الألف قد ذهبت. والآخرة أن يميل الفتحة نحو الكسرة، وإن كانت الألف قد سقطت، لأن الألف كما كان حذفها لالتقاء الساكنين والتقاء الساكنين غير لازم صارت الألف كأنها فى اللفظ. وقد روى أحمد بن موسى هذا الوجه الثانى أيضا عن أبى عمرو فقال: «روى عبد الوارث وعباس بن الفضل عن أبى عمرو إمالة ذلك كله استقبله ساكن أو لم يستقبله، قال أحمد: المعروف عن أبى عمرو ترك الإمالة فى مثل {«نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً»} وقد حكى هذا الوجه أبو الحسن، وحكى الأول الذى حكيناه من سيبويه فقال: إن شئت تركت الإمالة على حالها، قال، وذلك نحو {«فَلَمََّا رَأَى الْقَمَرَ»} و {«فِي الْقَتْلى ََ الْحُرُّ»} و {«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»}.
وهكذا تبدو رحابة صدر أبى على، التى اعتمدت على سعة علمه بأقوال النحاة والقراء على السواء. وقد فقد ذلك ابن خالويه على ما يبدو فى كتابه.
وإن كنت فى شك مما قررت فاقرأ كيف يعنف ابن خالويه بمخالفة القراء للقياس ويضيق صدره بما يقولون، ثم انظر كيف يقف أبو على منهم محتجا لمذاهبهم فيما يتلون: قال بن خالويه (2): فأما إمالة الكسائى (رحمه الله) قوله (تعالى) فى آذانهم من الصواعق (3) «فإن كان أماله سماعا من العرب فالسؤال عنه وبل (كذا)، وإن كان أماله قياسا فقد وهم لأن ألف الجمع فى أمثال هذا لا تمال، ويلزمه على قياسه أن يميل قوله تعالى: {«أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ»} (4) {«وَيُطََافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ»} (5) وإمالة هذا محال».
أما ما جاء فى كتاب الحجة لأبى على فقد قال: اختلفوا فى قوله (عز وجل)
__________
(1) الكتاب / 2.
(2) الحجة لابن خالويه ظهر ورقة 5.
(3) سورة البقرة آية: 99.
(4) سورة البقرة آية: 33.
(5) سورة الانسان آية: 15.(1/328)
{«فِي طُغْيََانِهِمْ} و {فِي آذََانِهِمْ»} (1) قال أبو عمر العدوى، ونصير بن يوسف النحوى: كان الكسائى يميل الألف فى طغيانهم، وآذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح، وقال أبو الحرث الليث بن خالد، وغيره: كان الكسائى لا يميل هذا وأشباهه، والباقون يفتحون وبعد أن احتج لإمالة طغيانهم قال: وأما {«فِي آذََانِهِمْ»} فجازت فيها الامالة، كما جازت فى قوله مررت ببابه (2)، لمكان كسرة الإعراب. وهى فيه حسنة جائزة، والإمالة فى طغيانهم أحسن (3)
وقد بينت الرأى الذى إليه انتهيت فى موقف النحاة من القراءات التى تخالف مذاهبهم فى مكان مستقل (4)، مؤرخا لنظرتهم تلك، ذاكرا ما رأيته وجه الحق فيما إليه يذهبون.
* * * وبعد، فكتاب الحجة لابن خالويه لا يخلو من ميزة، لأنه يوفى بحاجة المتخلفين من الراغبين فى التعرف على مذاهب القراء والاحتجاج لها فى سرعة وسهولة، ثم يقنعهم هذا المنهج المتخفف الذى لا يكلفهم عنتا ولا إرهاقا، ولا يكلفهم من أنفسهم مشقة ولا عسرا، أما أولئك الذين يستريحون للتقصى الذى ينقع الغلة، وأولئك الذين يتعمقون ويستريحون لهذا النوع من الاستيعاب، وما أخذه، أبو على على نفسه من نواحى منهجه التى أشرت إليها فى إجمال هنا، وتفصيل هناك فلا يعدلون بكتاب الحجة بديلا، ويجدونه خيرا مقاما، وأحسن تأويلا.
على أن لكتاب الحجة للفارسى هنات، وعليه مآخذ، وفيه سقطات، وقد تحدثت عن هذه منذ حين.
__________
(1) سورة البقرة آية: 15، 16.
(2) الكتاب لسيبويه: 2/ 261.
(3) الحجة لأبي على نسخة مراد ملا 1/ 256.
(4) انظر ص 240من هذا الكتاب.(1/329)
الباب الرابع أثر أبى على فى الاحتجاج للقراءات
الفصل الأول تأثر بن جنى فى المحتسب بأبى على
فى الموصل ذلك البلد الجليل، الطيب الهواء، الصحيح الماء (1) يولد أبو الفتح عثمان بن جنى سنة ثلاثين وثلاثمائة بعد الهجرة (2) وبه ينشأ، وإليه ينسب (3)، وينزع فى باكورة صباه إلى العلم، يغترف من مناهله، وسدد هذه النزعة عنده ذلك الجو العلمى الذى اتسمت به الموصل، فهو كما يقول المقدسى: «كثير المشايخ، لا يعلو من إسناد عال، وفقيه مذكور (4)». ومن النماذج الصالحة لهؤلاء المشايخ جعفر ابن محمد الموصلى الذى كان له ببلده دار علم جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، وفتح أبوابها لطلاب العلم، ويسر للغرباء والمعسرين امر ارتياد هذه الخزانة والانتفاع بها، وكان جعفر هذا أدبيا ظريفا عالما، فقيها (5)، ويدفع الطموح أبا الفتح ولمّا تنضج ملكاته فيتصدر للتدريس فى مسجد الموصل سنة (41هـ)، ويمر بالصبى الرومى شيخ فارسى فى نحو الستين من عمره، فيترامى إلى أذن الشيخ كلمات تتصل بالنحو الذى وقف عمره عليه، ويخطئ الصبى، ويراجعه الشيخ فى مسالة صرفية، فيقول عنه قولته المشهورة: «تزببت قبل أن تتحصرم!». ويلزم الصبى الشيخ. وتستمر الصحبة ما يقرب من ستة وثلاثين عاما، ويجد الشيخ فى الفتى مخايل النبوغ، والفطنة، فيصطنعه على عينه، ويصحبه فى تنقلاته، ويتلقف ابن جنى
__________
(1) أحسن التقاسيم 138.
(2) ابن خلكان: 2/ 412.
(3) معجم الأدباء: 12/ نزهة الألباء: 220.
(4) أحسن التقاسيم: 138.
(5) أنظر معجم الأدباء: 7/ 193.(1/330)
الشيخ معتزا به، حريصا عليه، ويجد الشيخ فى ابن جنى غلاما يتخذه كما كان يصطنع الشيخ من الأدباء والنحاة، فكان أبو عمر الزاهد غلاما لثعلب (1)، وأبو جعفر محمد ابن رستم الطبرى غلاما للمازنى (2)، ثم تكون بين الرجلين صحبة، كما كان بين ابن السراج، وابن الرومى من قبل.
وقد تعرض محققو كتاب سر الصناعة لأسباب طول الصحبة بين التلميذ ابن جنى وشيخه أبى على، وأرى أن هناك ما يصح أن يضاف فى تفسير هذه الصحبة الطويلة:
فأولا: كان أبو على فى نحو الستين من عمره، لم يكن له عقب، فكان كما يقول ابن جنى: خاليا من الأهل والولد (3)، وكان ابن جنى فى صباه حين بدأ اتصاله بأبى على، ورأى الشيخ من الصبى تعلقا به، كما يرى فيه ذكاء وفطنة، ورغبة فى ملازمته، فكان عطف من الشيخ فى هذه السن على ابن جنى، يشبه عطف الأب على ابنه.
وثانيا: كان أبو على فى غنى ويسر، على حين كان ابن جنى فيما يبدو يعانى من الضيق والعسر يدل على ذلك قوله:
«ولعل الخطرة الواحدة تخرق بفكرى اقصى الحجب المتراخية عنى فى جمع الشتات من أمرى، ودمل العوارض الجائحة لأحوالى، وأشكر الله ولا أشكره، وأسأله توفيقا لما يرضيه (4)».
ويبدو أن بر أبى على لتلميذه لم ينقطع بموته، فقد أوصى بثلث ماله لنحاة بغداد (5)، ومن يمثل نحاة بغداد ويتجه القصد إليه فى هذا المقام إلّا الصاحب ابن جنى خليفة الشيخ فى مجلس درسه (6)؟
ثالثا: لم يجد أبو على فى ابن جنى ما يؤخذ عليه، فلم يصرفه كما صرف على ابن عيسى الربعى بعد صحبة عشرين عاما. أو الاندلسى بعد ما اتصل به وأخذ عنه، فقد كان فى الربعى لوثة، وكان مبتلى يقتل الكلاب، ويحكى من سيره وتصرفاته ما طيه أحسن من نشره (7). وأما الاندلسى فقد كان فيه حرص بارد على العلم (8).
__________
(1) نزهة الألباء 186.
(2) إيضاح علل النحو للزجاجى.
(3) انظر الخصائص لابن جنى 1/ 284: 28.
(4) مقدمة المحتسب 7.
(5) طبقات القراء: 1/ 207.
(6) نزهة الألباء 1.
(7) نزهة الألباء 226.
(8) إنباه الرواة: 2/ 19.(1/331)
ومهما يكن من أمر فان طول ملازمة ابن جنى للفارسى كان لها آثارها العامة ومظاهرها التى لا تنكر:
(ا) فقد درس ابن جنى أبا على دراسة دقيقة حتى عرف خطرات نفسه.
(ب) وحفظ علمه وأذاعه فى كتبه.
(ج) وسلك مسلكه فى الاحتجاج للقراءات على اختلاف بين الرجلين.
كانت كتب ابن جنى امتدادا لكتب أبى على الفارسى، وابن جنى يحس ذلك فلا يفرق بين كتبه وكتب الشيخ فنراه يقول: بعد أن أورد أبياتا فى الخصائص وهذه الأبيات قد شرحها أبو على (رحمه الله) فى البغداديات فلا وجه لا عادة ذلك هنا، فاذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها (1)،. وهكذا نرى ابن جنى يشير إلى ما كتب الشيخ، وكأنه يشير إلى مؤلف له من المؤلفات السابقة.
* * * وبعد: فما الذى دعا ابن جنى إلى تأليف كتاب المحتسب فى الاحتجاج للشواذ؟!:
شهد القرن الرابع الهجرى حركة غايتها توثيق بعض القراءات، وتشذيذ بعضها الآخر ذلك إلى جانب الأسباب العامة التى دفعت أبا على إلى الاحتجاج على وجه العموم، وكان قائد هذه الحركة أبو بكر بن مجاهد (ت 324هـ) أول من سبع السبعة كما يقولون (2)، وشذذ ما عداها، وقد عرفنا من رجال هذا العصر رجلين من القراء فقرأ بروايات أخرى من التى شذذها ابن مجاهد، أحدهما: ابن شنبوذ، والآخر: أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم العطار. وقد حمل ابن مجاهد على ابن شنبوذ، وعقد له مجلسا بحضرة الوزير ابن مقلة، وكتب عليه محضرا، واستتيب عما كان يقرأ به من الشاذ (3) وكذلك فعل بابن مقسم من بعده (4).
أما الرأى العام فينقسم فريقين أمام هذه الحركة المتحررة التى سبق اليها كلا الرجلين كما تدل عليه عبارات كتب التراجم: فكان ابن الجزرى يمثل المؤيدين لها حين يقول فى ابن شنبوذ: «أنه كان ثقة فى نفسه، صالحا، دينا، متبحرا فى هذا الشأن (5)».
وحين ينقل عبارة أبى عمرو الدانى فيه: «تحمل الناس الرواية عنه، والعرض
__________
(1) الخصائص 1/ 336.
(2) إبراز المعانى 5.
(3) طبقات القراء 2/ 54.
(4) طبقات القراء: 2/ 124.
(5) المصدر السابق: 2/ 54.(1/332)
عليه، لموضعه من العلم، ومكانه من الضبط (1)».
ويمثل المعارضين ابن النديم حيث يقول فى الفهرست: «كان ابن شنبوذ يناوئ أبا بكر، ولا يفسده، وكان دينا فيه سلامة وحمق، وينقل عن الشيخ أبى محمد يوسف بن الحسن السيرافى عن أبيه أنه كان كثير اللحن، قليل العلم (2).
كذلك كان الحال تجاه ابن مقسم: فهو عند بعض: «مشهور بالضبط والاتقان، عالم بالعربية، حافظ للغة، حسن التصنيف فى علوم القرآن».
وعند بعض آخر: يبتدع بدعة ضل بها عن قصد السبيل (3) ويراه أبو أحمد الفرضى فى النوم، وقد ولى ظهره للقبلة، وهو يصلى يستدبرها، فيتأول ذلك بمخالفة الأئمة فيما اختاره لنفسه» (4).
ويبدو أن ابن جنى كان من أنصار هذه النظرة المتحررة، ولا سيما وقد اتصل بابن شنبوذ حين تلمذ على شيخه أبى جعفر محمد بن على بن الحجاج (5)، كما اتصل بابن مقسم، وتلمذ عليه، وروى عنه، وتأثر به (6).
ولعل ذلك هو أول ما دفع ابن جنى إلى الاحتجاج للشواذ، وتأليف كتابه المحتسب حسبة، ودفاعا عنها إذ كانت من عند الله منزلة، وعن رسوله مروية (7).
وأمر ثان أنه رأى من سبقه من أصحابه لم يفرد لهذه الشواذ كتابا فى الاحتجاج (8)، فأراد أن يعمل عملا يقصره عليها، ويظل مذكورا بالانتصار لها، وتوضيح أسرارها وعللها ذلك ما يدل عليه قوله: «وإذا كان من مضى من أصحابنا لم يضعوا للحجاج كتابا فيه، ولا أولوه طرفا من القول عليه، وإنما ذكروه مرويا مسلما، مجموعا أو متفرقا، وربما اعتزموا الحرف منه، فقالوا القول المقنع فيه، فأما أن يفردوا
__________
(1) طبقات القراء 2/ 56.
(2) الفهرست 47.
(3) طبقات القراء: 2/ 124.
(4) طبقات القراء: 2/ 125.
(5) المحتسب 1/ 279.
(6) انظر المحتسب: 1/ 370، 2/ 285، 336مثلا.
(7) مقدمة المحتسب 6.
(8) وجدت إشارات خافتة للاحتجاج للشاذ فى كتاب مختصر شواذ القرآن من كتاب البديع لابن خالويه المطبعة الرحمانية مصر 1934. انظر للاحتجاج باللهجات «ما لكم من إله غيره «بالنصب ص 44، والاحتجاج اللغوى ص 171 {«يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ»}
والإعرابى: قال فالحق والحق 130والمعنوى: من حيث أفاض الناس (س 2آ 199).(1/333)
له كتابا مقصورا عليه، أو يتجردوا للانتصار له، ويوضحوا أسراره وعلله فلا تعلمه».
وأمر ثالث أفضى به فى مقدمة المحتسب إذ يقرر أن التشاغل (1) بالاحتجاج للشواذ وحى من أستاذه أبى على، ذلك أن الشيخ كانت قد هجست خواطره به، وحدث نفسه بعمله، وهم أن يضع يده فيه، ويبدأ به، ولكن خوالج هذا الدهر اعترضت دونه (2). فكان حسنا من ابن جنى أن يمضى فيما فكر فيه أستاذه، وأن ينفذ ما اعتزم عليه من ذلك.
هذه أسباب قريبة دفعت فيما أرى ابن جنى إلى الاحتجاج للشواذ، وإلى جانب ذلك ما كان لابن جنى من قدم راسخة، فهو عالم باللغة، محيط بأسرارها، حافظ لأشعارها، ملم بأصولها، إلى ما له من قريحة وقادة، وذكاء نافذ، ونظرة عميقة، واستخراج موفق، كل ذلك يسر له كثيرا الاحتجاج للشواذ دون عناء كبير.
ثم: ألم يشرح ابن جنى لأبى الطيب المتنبى أبياته الغامضة؟ والتى كان إذا سئل عنها المتنبى نفسه أحال السائل إلى ابن جنى حتى يستوضحه، ويبين له الوجه فيما قال (3)؟
ثم ألم يتناول مشكل أبيات الحماسة بالبيان؟ ولا شك أن ميدان العمل فى الاحتجاج للقراءات الشاذة ضرب من هذا القبيل، إلى ما فيه من التماس للثواب الجميل، واحتساب الأجر الجزيل.
وفى كتاب المحتسب لابن جنى إشارات تدل على أنه ألفه بعد جملة صالحة من كتبه المعروفة، إذ يشير إلى كتابه المحاسن (4)، والمنصف (5)، وشرح ديوان المتنبى (6)، وسر الصناعة (7)، والتنبيه وهو تفسير مشكل أبيات الحماسة (8)، والخطيب، وهو شرح المذكر والمؤنث لابن السكيت (9)، كما يشير إلى كتابه الخصائص المشهور بين الناس (10). ومعلوم من كتب التراجم أن كتاب الخصائص مؤلف لبهاء الدولة (11)، الذى ملك سنة (379هـ) (12). فكتاب المحتسب إذن مؤلف بعد هذا
__________
(1) مقدمة المحتسب: 6.
(2) مقدمة المحتسب: 7.
(3) الصبح المبنى.
(4) المحتسب: 1/ 246.
(5) 1/ 46و 89و 350مثلا.
(6) 1/ 117.
(7) 1/ 46.
(8) 1/ 230.
(9) 2/ 274.
(10) 1/ 87و 279.
(11) الخصائص 1/ 2.
(12) انظر الكامل لابن الأثير 279وذيل تجارب الأمم 3/ 153وتاريخ المسلمين للشيخ جرجس بن العميد ط 1925ص 241.(1/334)
التاريخ، بل إن هناك دليلا على أنه مؤلف بعد سنة (384هـ) وفى جمادى الآخرة من تلك السنة على التحديد، ذلك أن أبا الفتح عثمان بن جنى كتب إجازة للشيخ أبى عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر أن يروى عن مصنفاته وكتبه (1)، ولم يرد المحتسب فى هذه الاجازة، وبما أن هذه الاجازة بتاريخ جمادى الآخرة سنة 384هـ فمعنى هذا أن كتاب المحتسب مؤلف بعد تاريخ الاجازة، وإذ كان ابن جنى قد توفى سنة 392هـ عن اثنين وستين عاما، فاذن قد ألف كتاب المحتسب وهو باخرة من زمانه متقدما فى سنه نحو الخامسة والخمسين. وإذ قد ثبت أن كتاب المحتسب مؤلف بعد الخصائص فهو مؤلف كذلك بعد النوادر الممتعة الذى يشير إليه ابن جنى فى كتاب الخصائص (2).
ويبدو من مقدمة الكتاب أنه ألف وقد أحس دنو منيته، وذلك قوله:
«وإن قصرت أفعالنا عن مفروضاتك، وصلتها برأفتك بنا، وتلافيتنا من سيئات أنفسنا ما امتدت أسباب الحياة لنا، فاذا انقضت علائق مددنا، واستوفى ما فى الصحف المحفوظة لديك من عدد أنفاسنا، واستؤنفت أحوال الدار الآخرة بنا فاقلبنا إلى ظل جنتك التى لم تخلقها إلا لمن وسع ظل رحمتك (3)».
فالتفكير فى انقضاء علائق الحياة، واستيفاء الأنفاس، واستئناف أحوال الدار الآخرة، والتطلع إلى ما فيها من ظلال النعيم كل ذلك ظواهر تختلج على ألسنة الذين أدبرت أعمارهم، وولت حياتهم، وشعروا بدنو آجالهم.
الذى أريد أن أرتبه على ذلك كله أن أبا الفتح قد اجتمعت له فى تأليف المحتسب تجارب طويلة ممتدة، وخبرات نافعة متعددة، هى تجارب العمر كله التى انتهت به إلى الاستقرار الذهنى، ونضج ثمرة التحصيل المبكر، والدرس المستمر، والصحبة المجدية لأستاذه أبى على. إلى ما ركب الله فيه من صفاء القريحة، وتوقد الذهن، والقدرة البالغة على الاستخراج، والبراعة الفائقة فى تفهم اللغة، والتفقه فى خصائصها، والتعرف على أصولها، والغوص البعيد فى أعماقها، والسعى المديد
__________
(1) معجم الأدباء: 12/ 109.
(2) انظر مثلا 336و 388.
(3) مقدمة المحتسب وقرأت بعد ذلك فى حقائق التأويل للرضى ما نصه: كان شيخنا أبو الفتح النحوى عمل فى آخر عمره كتابا يشتمل على الاحتجاج بقراءة الشواذ».
(حقائق التأويل: 5/ 331)(1/335)
فى آفاقها ومن ثبت الكتب التى تركها ابن جنى استنتج أنه لم يشتغل بالدراسات القرآنية على صورة واسعة، فلم يعقب فى هذه الدراسات إلا كتاب المحتسب فى شرح ما شذ من القراءات، على الرغم من أن له فى الدراسات الأدبية والنحوية ما يقرب من ستة وثلاثين كتابا، جاء بعضها فى إجازته لأبى عبد الله الحسين بن نصر، ونص على البقية الباقية منها ياقوت الحموى فى معجم الأدباء (1).
وإلى جانب ذلك لم ترد لابن جنى ترجمة فى كتاب غاية النهاية لابن الجزرى، مع أن شيخه أبا على ممن روى القراءة (2): روى القراءة عرضا على أبى بكر بن مجاهد، كما روى عن أبى على عرضا عبد الملك بن بكران النهروانى. وإذا كان ابن جنى قد ولد قبل سنة 330هـ (3) فان اتصاله بأبى على كان بعد فراغه أى أبى على من التلقى عن ابن مجاهد المتوفى (324هـ) (4).
قد يقال: وما الذى يمنع ابن جنى (ت 392هـ) أن يشترك مع عبد الملك ابن بكران النهروانى (ت 404هـ) فى أخذ القراءة عن أبى على الفارسى مع أن النهروانى عاش بعد وفاة ابن جنى ما يزيد عن عشر سنوات كما ترى؟!
فالجواب ما يبدو من أن النهروانى اتصل مبكرا بأبى على، وقبل أن يتصل ابن جنى به، فالنهروانى وإن لم يرد ميلاده فى كتب التراجم قد عمر دهرا كما أورد ابن الجزرى (5). ومفهوم ما أورد ابن الجزرى بضميمة جلوسه للأخذ عن أبى على فى السن التى يؤخذ فيها عادة يرجع أنه اتصل بأبى على قبل أن يولد ابن جنى:
وشىء آخر أراه صرف ابن جنى من الاشتغال برواية القراءة، ذلك ما كان من سبب اتصاله بأبى على فى مسألة صرفية، فاعتنى منذ ذلك الحين بالتصريف ولزم شيخه، فما أحد أعلم منه به، ولا أقوم بأصوله وفروعه (6). فلعل اتصاله وهو حصرم بأبى على من أجل مسألة صرفية صرفه عن رواية القراءة، إلى دراسة الصرف بخاصة، والعربية بعامة، ومن قبل انصرف إمام النحاة عن دراسة
__________
(1) 12/ 113109.
(2) انظر غاية النهاية 1/ 207.
(3) معجم الأدباء 12/ 83.
(4) الفهرست 47.
(5) طبقات القراء 1/ 468.
(6) معجم الأدباء 12/ 91.(1/336)
الآثار والفقه إلى طلب النحو بسبب تلحين حماد بن سلمة له (1)
هذا إلى أن شيخه أبا على الذى لازمه أربعين سنة كان من المقلين فى الإقراء فلم يقرأ عليه، إلا عبد الملك بن بكران النهروانى كما يحدثنا بذلك ابن الجزرى (2)
وليس معنى انصراف ابن جنى عن الدراسات القرآنية أنه تركها جملة، لا: بل أريد أن أقول: «إنه لم يحتشد لها، ولم يحتفل بها، كما فعل فى النحو واللغة مثلا.
فالشواذ التى وردت فى كتاب المحتسب عرفها من اطلاعه على كتاب أبى بكر ابن مجاهد فى الشواذ (3)، وكتاب كل من أبى حاتم السجستانى، وقطرب، وبعض هذه الكتب أخبره فيها شيخه أبو على الفارسى (4)، على أن كتاب المحتسب فى مجموعه كتاب تخريج للقراءات الشاذة من الناحية اللغوية، والإعرابية، والصرفية.
* * * وقد صدر ابن جنى كتاب المحتسب بمقدمة، بدأها بحمد الله ودعائه، ثم أثنى على نبيه، وضمن ذلك ثناء على القرآن الكريم، وأشار إلى اعجازه الذى كد بمهله شد المجدين، واستولى بأوله على آخر غاى الناطقين، سواء فى ذلك ما اجتمع عليه قراء الأمصار، وما تعدى ذلك مما سماه أهل زمانه شاذا.
ثم خلص من ذلك إلى بيان آرائه فى الشواذ، والفرق بينه وبين قراءات القراء السبع. ومقدار ما للشاذ من وثاقة، ثم ذكر الأسباب الموجبة إلى التشاغل بالاحتجاج للشاذ، وبين ما يلتزمه من الأسلوب فى ذلك الكتاب، وما يدعو ذلك من الاسباب. ثم وثق كتابه: فذكر المصادر التى استقى منها القراءات الشاذة، راويا، طرفا، وطرفا مرويا له، ومخبرا به، كما أنه أشار إلى التزامه الدقة والأمانة فى عرض ما يورد من روايات وقراءات.
وهكذا بين ابن جنى فى هذه المقدمة آراءه فى الشاذ، وما يدور حوله من مسائل فى توثيقه، وما يشير إليه من فصاحة، وما يكون فى الاحتجاج له من لطف فى الصناعة، وذلك ما أعرضه فيما يأتى من حديث فى هذا الفصل، مبينا مقدار ما تلاقى بأبى على، وما بعد فيه عنه.
__________
(1) نزهة الألباء 38.
(2) طبقات القراء: 1/ 207.
(3) انظر المحتسب 1/ 379.
(4) انظر 9، 10من كتاب المحتسب.(1/337)
فسر ابن جنى الشاذ بأنه خارج عما أجمع عليه أكثر قراء الأمصار، ولكنه مع خروجه عن قراءات القراء السبع نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالرواية من أمامه وورائه (1)، بل ارتقى ابن جنى بالشاذ فقال: «لعله أو كثيرا منه مساو فى الفصاحة للمجتمع عليه (2)». بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقرر أنه ربما كان فى الشاذ ما تلطف صنعته، وتعنف بغيره فصاحته (3)، وابن جنى بذلك لا يخالف القراء المجتمع فى أهل الأمصار على قراءتهم، ولا يعدل عما أثرته الثقات عنهم. غاية الأمر أنه يرى قوة ما يسمى فى عهده شاذا، ولا ينبغى أن يغض منه أو يتهم، ثم عاد فدلل على ما يرى فى الشاذ بما يأتى:
(ا) أن له سندا من صحة الرواية.
(ب) وأن له وجها من سمت العربية.
وإذا كانت الرواية تنميه إلى رسول الله فنحن مأمورون بتقبله، والأخذ به، والعمل بموجبه، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {«وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ»} (4).
وإذن فكل من القراءات السبع، والشاذ مروى مسند إلى السلف، وإذ كان المجتمع عليه أقوى إعرابا، وأنهض قياسا، فإن ذلك لا يقدح فى الشاذ، ولا يمنع من الأخذ به، لأن ضعف الإعراب لا يمنع من صحة الشاذ. ولو كان ضعف الإعراب فى قراءة قادحا فيها، مانعا من الأخذ بها ما أخذنا بقراءة ابن كثير ضئاء بهمزتين، وقراءة ابن عامر: {«وَكَذََلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ»} (5).
ثم وضع ابن جنى ملاكا عاما للقارئ الذى يجب الأخذ بقراءته، وذلك إذ يقول: «ولعمرى أن القارئ به من شاعت قراءته، واعتبر الأخذ عنه، فأما من يتوقف من الأخذ به لان غيره أقوى إعرابا منه فلا (6)».
وأرى ابن جنى بعد ذلك على حق فيما ذهب إليه، فما دامت القراءة عن رسول الله مسندة سواء أكانت من المجتمع عليه أم مما هو خارج عنه وما دام لها وجه من العربية، فلا معنى لردها، وعدم الأخذ بها، وليس ضعف العربية
__________
(1) المحتسب 1/ 3.
(2) 1/ 4.
(3) 1/ 4.
(4) سورة 59آ 7.
(5) سورة الأنعام.
(6) المحتسب: 1/ 65.(1/338)
كذلك مما يقدح، لأن القراءات سنة متبعة، وليس للقياس مدخل فيما هو معتمد على محض الرواية، وخالص الآثار (1)
وبعد أن وثق ابن جنى الشاذ على هذا النحو، ووطد الميدان الذى سيعمل فيه خلص لبيان السبب فى اتجاهه لتأليف كتاب فى الاحتجاج للشواذ، ذلك أن من سبقه ذكروا الشاذ مرويا مسلما مجموعا أو متفرقا دون أن يحتجوا له، وربما احتجوا لحرف منه، ولكنهم لم يفردوا له كتابا مقصورا عليه (2)، ومن هنا حسن بل وجب التشاغل بعمل يسد فراغا، ويكمل نقصا، وبين ابن جنى أن عمله فى الشواذ إبراز لما هجس به خاطر أستاذه أبى على، إذ كان وقتا حدت نفسه بعمله، وهم أن يضع يده فيه، ويبدأ به، فاعترت خوالج هذا الدهر دونه، وحالت هنواته بينه وبينه (3). «ومن أجل ذلك كان لكتاب المحتسب موضعه الظاهر فى آثار أبى على الفارسى»
وذكر ابن جنى أن كتابه ليس موضوعا على جميع كافة القراءات الشاذة من قراءة السبعة، وإنما الغرض فيه إبانة ما لطفت صنعته، وأغربت طريقه. أما ما كان عاريا منها، وليس فيه إلا ما يتناوله الظاهر فلا وجه للتشاغل به (4).
ثم بين أنه سيتناول ذلك بأسلوب سمح، ويورده بألفاظ قريبة على أهل القرآن ليحظوا به، ولا ينأوا عن فهمه. وأراه بذلك قد تجنب ما كان من أبى على فى كتاب الحجة إذ تجاوز فيه قدر حاجة القراء إلى ما يجلو عنه كثير من العلماء.
ثم بين المصادر التى استقى منها القراءات الشاذة على الشرط الذى اشترطه فيها ما كان غامضا منها وأذهب فى طريق الصنعة الصريحة، وجعل هذه المصادر فيما يأتى:
أولا ما رواه هو.
ثانيا ما صح عنده من طريق رواية غيره. واعتمد من ذلك على:
(ا) كتاب أبى بكر بن مجاهد (رحمه الله) الذى وضعه لذكر الشواذ من القراءة (5) وقد وثق ابن جنى أبا بكر إذ جعل كتابه أثبت فى النفس من كثير من
__________
(1) انظر من الشاطبية 78.
(2) 1/ 6.
(3) 1/ 7.
(4) المصدر السابق.
(5) لم يرد فيما ذكر ابن النديم لابن مجاهد كتاب بهذا الاسم انظر / 47وقد ذكر له كتابين: القراءات الكبير والقراءات الصغير، فلعل كتاب الشواذ هو الصغير منهما انظر / 53.(1/339)
الشواذ المحكية عمن ليست له روايته، ولا توفيقه، ولا هدايته
(ب) وكتاب أبى حاتم السجستانى، وقد أخبره به أبو إسحاق إبراهيم ابن أحمد القرميسينى.
(ج) وكتاب أبى على بن المستنير قطرب روى منه صدرا كبير. غير أن كتاب أبى حاتم أجمع من كتاب قطرب من حيث كان مقصورا على ذكر القراءات عاريا من الإسهاب فى التعليل والاستشهادات التى انحط قطرب فيها وتناهى إلى متباعد غاياتها. ثم وثق كتاب قطرب بأن ذكر أسناد من أخبره به (1)، ومن المصادر التى اعتمد عليها ابن جنى.
(د) كتاب المعانى للزجاج.
(هـ) وكتاب المعانى للفراء، وقد أخبره بكليهما أبو على: الأول سمعه من الزجاج، والآخر سمعه من ابن مجاهد (2).
وقد بين أنه التزم فى كل ذلك ما رواه، وما صح عنده من طريق رواية غيره له الدقة. وتحرى الأمانة فى الرواية. ذلك ما يشير إليه قوله: «لا نألو فيه ما تقتضيه حال مثله من تأدية أمانته، وتحرى الصحة فى روايته (3).
وعلى هذه الأسس من المنهج، والتوثيق، والوسيلة، والغاية، يمضى ابن جنى فى كتابه مبتدئا من أول القرآن الكريم فى موالاة بين سوره حتى ينتهى إلى سورة الناس: يذكر الأحرف التى وقع فيها الشذوذ مرتبة فى سورها، مصدرا الحديث عن كل حرف بقوله: «ومن ذلك» ثم يوثق ما يورد بذكر سند القراءة بإيراد القراء الذين قرءوا بها وهذا من قبل الاحتجاج بالرواية ثم يورد التوجيه الذى يراه فى هذا الحرف الشاذ ووجهه من العربية وهذا من الاحتجاج بالصنعة والدراية.
وبعد: فهل وفى ابن جنى بما ذكر فى خطبة المحتسب؟
يجيب عن ذلك ما سأورده حول هذا الكتاب من دراسات، وهو ما أنا فى سبيلى إليه إن شاء الله: سأتناول الخصائص البارزة فى كتاب المحتسب لابن جنى.
ثم أجمع الفروق التى بدت لى بين أبى على وتلميذه فى الاحتجاج، ذاكرا مدى تأثر ابن جنى به فى هذا السبيل.
__________
(1) 1/ 9.
(2) ص 10.
(3) 1/ 8.(1/340)
موقف ابن جنى من القراءات التى عدها غيره شاذة
رأينا ابن جنى ينصب الموازين لتقويم القراءات التى عدها غيره شاذة، فما كان منها جاريا على سنن من العربية، فاشيا فى اللغة والشعر وفصيح الكلام، نازعا كما يقولون بالثقة إلى قرائه. محفوفا بالرواية من أمامه وورائه ما كان كذلك قبله ولم يرده، وصح الاحتجاج به كالمتواتر (1)، ويرى وهو على حق فيما يرى أنه من الخطأ بعد ذلك تسميته شاذا.
ثم يختلف تقديره للشواذ وموقفه منها بمقدار ما اشتملت عليه من هذه الأسس التى بنى عليها التقويم، فلم يكن ابن جنى فى كتابه المحتسب متحيزا إلى القراءات الشاذة يرجحها على الإطلاق، بل وقف منها موقف الحكم العدل، ولم يجرمه احتجاجه للشواذ، وأنه عقد كتابه المحتسب من أجلها على ألا يعدل فى تقدير القراءات. ومن هنا رأيته يقف من القراءات الشاذة مواقف مختلفات:
أولا فهو حينا يرجح القراءة الشاذة على قراءة الكافة.
ثانيا وحينا يفسر قراءات الكافة بقراءة شاذة، ويحتج بهذه لتلك مفسرا أو معربا. وهو فى هاتين الحالين لا يشذذ ما يراه غيره شاذا، بل هو راجح على القراءة السبعة، أو على الأقل فى درجتها.
ثالثا وحينا تراه يهاجم القراءة الشاذة، فيتناكر لها، ويتعجب من القراءة بها. وفى هذه الحالة يتفق هو والكافة فى تشذيذها.
والملاك العام عنده حسن الظن بالمنكر من القراءات يرى أن تأويله خير من الحكم عليه بالفساد، اعتدادا بمن رواها من الأئمة القراء. وقد دعته هذه النزعة إلى إخراج القراءة من دائرة القليل النادر، أو أنها لا تجوز إلا فى الشعر، إلى أنها كثيرة فى الشعر، وواردة فى النثر، وأورد فى قراءة طلحة بن سليمان أن يحيى الموتى ساكنة «قوله معنى قول ابن مجاهد أنه قرأه على سكون الياء من يحيى على لغة من قال: يا دار هند عفت إلا أثافيها» فأسكن الياء فى موضع النصب، لا أن الياء فى قوله: «يحيى الموتى» ساكنة، وذلك أنه لا ياء هناك فى اللفظ أصلا، لا ساكنة ولا متحركه لأنها حذفت لسكونها وسكون اللام من الموتى.
قال أبو العباس: هذه الياء فى موضع النصب من أحسن الضرورات، حتى أنه لو جاء به جاء فى النثر لكان جائزا، وشواهد ذلك فى الشعر أكثر من أن يؤتى بها،
__________
(1) انظر خزانة الأدب 1: 5.(1/341)
ومما جاء منه فى النثر قولهم: لا أكلمك حيرى دهر، فأسكن الياء من حيرى وهى فى موضع نصب (1).
وانظر إيراده قول أبى العباس من أن هذه الياء فى موضع النصب من أحسن الضرورات، وأنها جائزة لو جاءت فى النثر. ذلك لأنه يحاول أن يخرج القراءة الشاذة من حكم الشذوذ الذى لا يقاس عليه إلى الشيوع والجواز والاتساع (2).
وسأسوق الشواهد الكاشفة عن مواقفه تلك فيما يأتى من حديث:
أولا ترجيح القراءة الشاذة على قراءة الكافة:
وتتجلى هذه الظاهرة فيما يأتى من الأحوال:
1 - القراءة الشاذة أعرب: وقد حكم بذلك على قراءة الأعرج: لمّا أتيناكم بفتح اللام وتشديد الميم، وأتيناكم بألف قبل الكاف (3).
2 - تخريج القراءة الشاذة على الكثير الشائع فى الشعر وفصيح الكلام:
وذلك قراءه بما حفظ الله (4) إذ قال: «هو على حذف مضاف أى بما حفظ دين الله، وشريعة الله، وعهود الله، ومثله «إن تنصروا الله ينصركم» أى دين الله، ثم قال: «وحذف المضاف فى الشعر وفصيح الكلام فى عدد الرمل سعة (5)».
3 - استدلاله بقراءة شاذة على مذهب البصريين: ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن عباس فى مصحف ابن مسعود: «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإسماعيل ويقولان ربنا (6)» وفيه: «والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم» (7).
وفيه: «والملائكة باسطو أيديهم يقولون أخرجوا» (8).
قال أبو الفتح: وهذا دليل على صحة ما يذهب إليه أصحابنا من أن القول مراد مقدر فى نحو هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه دون أن يكون القول مقدرا معه، وذلك كقول الشاعر:
رجلان من ضبة أخبرانا ... أنا رأينا رجلا عريانا
فهو عندنا نحن على: قالا. وعلى قولهم لا اضمار قول هناك، لكنه لما كان أخبرانا فى معنى قالا لنا صار كأنه قال: «قالا لنا» فأما على إضمار قالا والحقيقة فلا. وقد رأيت إلى قراءة ابن مسعود كيف ظهر فيها ما يقدره من القول فصار
__________
(1) 2/ 412411وانظر 1/ 402401.
(2) وانظر فى مثل ذلك 1/ 117.
(3) 1/ 193.
(4) سورة النساء آ 34.
(5) 1/ 223.
(6) سورة البقرة آ 127.
(7) سورة الزمر آ 3.
(8) سورة الأنعام آ 93.(1/342)
قاطعا على أنه مراد فيما يجرى مجراه. وكذلك: «يدعون عنتر والرماح كأنها» فيمن ضم الراء من عنتر أى يقولون يا عنتر، وكذلك من فتح الراء وهو يريد يا عنترة. وكذلك {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ} سلام عليكم (1) أى يقولون.
وقد كثر حذف القول من الكلام جدا (2).
4 - ويستدل على جواز تقديم خبر كان عليها بقراءة شاذة:
قال: «ومن ذلك أى من القراءات الشاذة قراءة أبى وابن مسعود:
«وباطلا ما كانوا يعملون»، قال أبو الفتح: «باطلا منصوب بيعملون، وما زائدة للتوكيد فكأنه قال: «وباطلا كانوا يعملون» ثم قال: «ومن بعد ففي هذه القراءة دلالة على جواز تقديم خبر كان عليها كقولك:» قائما كان زيد ووجه الدلالة من ذلك أنه إنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل. وباطلا منصوب بيعملون. والموضع إذا لسيعلمون لوقوع معموله متقدما عليه. فكأنه قال ويعملون باطلا كانوا (3). وانظر استدلاله بقراءة شاذة على إعراب فى قراءة سبعية (4):
«وكأين من نبى قتل معه ربيون كثير».
5 - القراءة الشاذة راجحة فى معناها على قراءة الجماعة:
قال: «ومن ذلك قراءة الحسن (رضى الله عنه) «اهدانا صراطا مستقيما».
قال أبو الفتح ينبغى أن يكون أرادوا والله أعلم التذلل لله (سبحانه)، وإظهار الطاعة له: أى قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: صراط مستقيم، ولسنا نريد المبالغة فى قول من قرأ الصراط المستقيم، أى الصراط الذى قد شاعت استقامته، وتعولمت فى ذلك حاله وطريقته، فان قليل هذا منك لنا زاك عندنا، وكثير من نعمتك علينا، ونحن له مطيعون، وإلى ما نأمر به، وننهى فيه صائرون.
وزاد فى حسن التنكير هنا ما دخله من المعنى، وذلك أن تقديره أدم هدايتك لنا، فانك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم، فجرى حينئذ مجرى قولك:
«لئن لقيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتلقين منه رجلا متناهيا فى الخير، ورسولا جامعا لسبل الفضل، فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد كقول الأخطل:
بنزوة لص بعد ما مر مصعب ... بأشعث، لا يفلى، ولا هو يقمل
ومصعب نفسه هو الأشعث. وعليه قول طرفه:
__________
(1) سورة الرعد آية 24.
(2) المحتسب 1/ 113112.
(3) 1/ 399.
(4) 1/ 233.(1/343)
جازت القوم إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفور خدر
وهى نفسها عنده اليعفور. أنشدنا أبو على:
أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفى الله إن لم يحكموا حكم عدل
وهو سبحانه أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكما عدلا، فأخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وفيه مع ذلك لفظ الرضا باليسير» (1).
وهكذا يرقى ابن جنى بالقراءة التى عدها غيره شاذة، فيرجحها على قراءة الكافة على النحو الذى رأيت.
6 - رده معنى القراءة الشاذة إلى القراءة الصحيحة بما هو متعارف شائع كثير عند العرب فى القديم والمولد.
من ذلك ما حكى ابن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لا تقرأ {«فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مََا آمَنْتُمْ بِهِ»} فان الله ليس له مثل، ولكن اقرأ بما آمنتم به، قال: وروى عنه أيضا أنه يقرأ «بالذى آمنتم به» قال: وقال عباس فى مصحف أنس، وأبى صالح، وابن مسعود:
«فان آمنوا بما آمنتم به» قال أبو الفتح: هذا الذى ذهب إليه ابن عباس حسن، لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة، وصحة ذلك أنه إنما يراد فان آمنوا بما آمنتم به كما أراده ابن عباس وغيره أن العرب قد تأتى بمثل فى نحو هذا توكيدا وتسديدا يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: مثلى لا يفعل هذا، أى أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى، أى أنت كذاك قال: «مثلى لا يحسن قولا فع فع، أى أنا لا أحسنه. وفى حديث سيف ذى يزن: أيها الملك مثلك من سر، وبر، أى أنت كذاك، وهو كثير فى الشعر القديم والمولد جميعا (2).
7 - ورب قراءة عدها غيره شاذة فيها بلاغة (3)، وسأعود إلى تفصيل ذلك عند الحديث عن «استهداء ابن جنى الروح البلاغية فى التعليل والاحتجاج» وهو إذ يقف هذا الموقف من القراءات الشاذة فيرقى بها إلى درجة فوق قراءة الكافة أحيانا يعتمد فى نظرته تلك على الأسس الآتية:
(ا) الرواية.
(ب) القياس على ما ورد فى آية أخرى أو فى كلام العرب.
(ج) ما هو فاش فى اللغة. (د) الحس اللغوى.
__________
(1) المحتسب 1/ 1817.
(2) 1/ 118.
(3) المحتسب 1/ 288.(1/344)
وقد ترى تلك الأسس مفرقة فى توثيقه للشاذ، وقد يجتمع منها اثنان، أو أكثر أحدهما الرواية ولكنى وجدت مثالا جامعا لها كلها فى قوله (1):
(ا) ومن ذلك قراءة أبى عبد الرحمن فى رواية عطاء عنه، وقراءة عاصم الجحدرى أيضا: وملائكته وكتابه على التوحيد (2)، قال أبو الفتح: اللفظ لفظ الواحد والمعنى معنى الجنس أى وكتبه.
(ب) ومثله قوله سبحانه هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق.
(ح) ووقوع الواحد موقع الجماعة فاش فى اللغة ألا ترى إلى قوله تعالى:
{«وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»}. وقال تعالى: {«اقْرَأْ كِتََابَكَ كَفى ََ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ} فلكل إنسان كتاب فهى جماعة كما ترى. وقد قال: {«هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ»} وقال الله تعالى: {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أى أطفالا.
(د) وحسن لفظ الواحد هنا شىء آخر أيضا وذلك أنه موضع إضعاف للعباد، وإقلال لهم فكان لفظ الواحد لقلته أشبه بالموضع من لفظ الجماعة، لأن الجماعة على كل حال أقوى من الواحد فاعرف ذلك (3).
وتراه وهو يوثق القراءة بما هو شائع فى اللغة يقول مثلا: «حكاية الحال فاشية فى اللغة» (4)، أو حذف المضاف والشعر وفصيح الكلام فى عدد الرمل سعة (5)، أو يقول «أفشى من الشمس» (6)، والنظائر فيه كثيرة جدا (7)، أو «وقد كثر حذف القول من الكلام جدا (8) إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة على أنه فى تخريجه القراءة التى يعدها غيره شاذة يعتمد على الكثرة والذيوع، فيخرجها بذلك من دائرة الشاذ إلى الصحة والقياس.
ثانيا: تفسير قراءة الكافة بقراءة شاذة، ويحتج بهذه لتلك مفسرا أو معربا وتتجلى هذه الظاهرة فيما يأتى من الأحوال:
1 - تقويته وجها إعرابيا فى قراءة صحيحة بما ورد فى قراءة شاذة، قال ومن ذلك قراءة ابن محيصن، وبلال بن أبى بردة، ويعقوب: أن الحمد لله: قال أبو الفتح:
«هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة أن الحمد لله على أن مخففة من أن بمنزلة قول الأعشى:
__________
(1) الحروف أوب وج ود فيما يأتي تشير إلى الأسس السابقة على الترتيب.
(2) سورة البقرة آية 285.
(3) المحتسب 1/ 243242.
(4) 1/ 380.
(5) 1/ 223.
(6) 1/ 230.
(7) 1/ 230.
(8) 1/ 113.(1/345)
فى فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
أى أنه هالك، فكأنه على هذا، وآخر دعواهم أنه الحمد لله (1).
2 - استئناسه لمعنى تحتمله قراءة الكافة بما ورد فى قراءة شاذة:
ومن ذلك قراءة أبى عبد الرحمن: قد أجيبت دعواتكما. قال أبو الفتح هذه جمع دعوة، وبهذه القراءة تعلم أن قراءة الجماعة: قد أجيبت دعوتكما، يراد فيها بالواحد معنى الكثرة، وساغ ذلك لأن المصدر جنس والأجناس يقع قليلها موقع كثيرها، وكثيرها موقع قليلها (2).
3 - تقريره أن القراءة الشاذة يؤول معناها إلى قراءة الجماعة:
كما جاء فى احتجاجه لقراءة ابن مسعود: «إنى أرانى أعصر عنبا «قال أبو الفتح:
هذه القراءة هى مراد قراءة الجماعة: «إنى أرانى أعصر خمرا» وذلك أن المعصور العنب فسماه خمرا لما يصير إليه من بعد حكاية لحاله المستأنفة كقول الآخر:
إذا مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش، فجئ بزاد
أراد إذا مات حى، فصار ميتا كان كذا أو فليكن كذا، وعليه قول الفرزدق:
قتلت قتيلا لم ير الناس مثله (3)
4 - استدلاله على إعراب فى قراءة الجماعة بقراءة شاذة:
كاحتجاجه لقراءة قتادة: «وكأين من نبى قتل معه ربيون كثير» مشددة. قال:
فى هذه القراءة دلالة على أن من قرأ من السبعة قتل أو قاتل معه ربيون، فإن (ربيون) مرفوع فى قراءته بقتل أو قاتل، ولبس مرفوعا بالابتداء، ولا بالظرف الذى هو معه كقوله مررت برجل يقرأ عليه سلاح (4)
ثالثا: مهاجمته القراءة الشاذة وتنكره لها، وتعجبه من القراءة بها، ويتجلى هذا المسلك فى الأحوال الآتية:
1 - قراءة الكافة أقوى معنى من قراءة شاذة: وذلك عند ما احتج لقراءة ابن مسعود «وكان عبد الله وجيها» قال: قراءة الكافة أقوى معنى من هذه القراءة، وذلك أن هذه إنما يفهم منها أنه عبد الله، ولا يفهم منها وجاهته عند من هى؟ أعند الله أم عند الناس؟ وأما قراءة الجماعة فانها تفيد وجاهته عند الله، وهذا أشرف من القول الأول لاسناد وجاهته إلى الله تعالى، وحسبه هذا شرفا (5). وتراه هنا يفضل القراءة السبعية، ولكنه معترف بالشاذة، وهجومه عليها يكاد يكون هجوما
__________
(1) 383/ 1.
(2) 1/ 394.
(3) 1/ 427.
(4) 1/.
(5) المحتسب: 20/ 232وانظر 1/ 354.(1/346)
ضمنيا (1). وانظر كلامه فى الاحتجاج لقراءة: لا يقضى عليهم فيموتون، وتقريره أن قراءة العامة أوضح وأشرح وتعليله ذلك (2).
2 - القراءة الشاذة لغة مرذولة: قرر ذلك عند احتجاجه لقراءة ابن محيصن ثم أطره بادغام الضاد فى الطاء، قال أبو الفتح: «هذه لغة مرذولة أعنى إدغام الضاد فى الطاء وذلك لما فيها من الامتداد والفشو، فانها من الحروف الخمسة التى يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هى فيما يجاورها وهى: الشين، والضاد، والراء، والفاء، والميم، ويجمعها فى اللفظ قولهم: ضم شفر، وقد أخرج بعضهم الضاد من ذلك، وجمعها فى قولهم:
مشغر، قال: لأنه قد حكى ادغام الضاد فى الطاء فى قولهم: فى اضطجع اطجع وأنشدوا قوله:
يا رب أباز من العفر صدع ... تقبض الظل إليه، واجتمع
لما رأى أن لا دعه، ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف واطجع
ويروى واضطجع، وهو الأكثر والأقيس، ويروى أيضا فالطجع تبدل أيضا اللام من الضاد.
3 - القراءة الشاذة لا تعرف فى اللغة: ومن ذلك ابن شعيب قال: سمعت يحيى ابن الحارث يقرأ: «لنظر كيف تعملون» نون واحدة قال: فقلت له: ما سمعت أحدا يقرؤها قال: هكذا رأيتها فى المصحف الامام مصحف عثمان. أيوب عن يحيى عن ابن عامر: «لنظر» بنون واحدة مثله. قال أبو الفتح: ظاهر هذا أنه أدغم نون ننظر فى الظاء، وهذا لا يعرف فى اللغة، ويشبه أن تكون مخفاة، فظنها القراء مدغمة على عادتهم فى تحصيل كثير من الاخفاء إلى أن يظنوه مدغما وذلك أن النون لا تدغم إلا فى ستة أحرف يجمعها قولك: يرملون (3).
4 - القراءة الشاذة ضعيفة جدا: قرر ذلك فى قراءة أبى جعفر: للملائكة اسجدوا. قال أبو الفتح: هذا ضعيف عندنا جدا وذلك أن الملائكة فى موضع جر والتاء إذا مكسورة، ويجب أن تسقط ضمة الهمزة من اسجدوا لسقوط الهمزة أصلا إذا كانت وصلا، وهذا إنما يجوز ونحوه إذا كان ما قبل الهمزة حرف ساكن صحيح نحو قوله عز وجل: وقالت ادخل واخرج فضم لالتقاء الساكنين ليخرج من ضمة إلى ضمة فأما ما قبل همزته هذه متحركة، ولا سيما حركة إعراب، فلا وجه لأن تحذف حركته، ويحرك بالضم، ألا تراك لا تقول قل للرجل ادخل، ولا قل للمرأة ادخلى، لأن حركة الاعراب لا تستهلك لحركة الاتباع إلا على لغية ضعيفة،
__________
(1) ومثل ذلك قراءة ومكرا سيئا فى سبأ 2/ 253.
(2) المحتسب 2/ 252.
(3) 1/ 384.(1/347)
وهى قراءة بعض البادية الحمد لله بكسر الدال، ونحو منه ما حكاه لى أبو على أن أبا عبيدة حكاه من قول بعضهم: دعه فى حرّمه فحذف كسرة راء حر، وألقى عليها ضمة همزة أمه، وهذا عندنا على شذوذه أعذر من قوله للملائكة اسجدوا ثم دلل على ذلك الحكم (1).
* * * وعلى هذا النحو يقف ابن جنى من الشواذ، يحكم حكما عادلا غير متحيز إلى فئة، ويوفى بذلك ما ذكره فى المقدمة بما وعد به، ونوه عنه، غير أنه بعد ذلك حسن الظن بالشاذ لغة ثقة بمن رواه، وأسوق للتدليل على نظرته تلك مثالين يختصران هذه النزعة، ويغنيان عن التفصيل:
(ا) ومن ذلك قراءة أبى عمرو فى رواية هارون بن حاتم عن حسين عنه (بغتّه) قال أبو الفتح: فلعله مثال لم يأت فى المصادر، ولا فى الصفات أيضا، وإنما هو مختص بالاسم منه الشّربّة اسم موضع: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن، عن أبى عباس أحمد ابن يحيى يقول عبد الله بن الحجاج التغلبى لعبد الملك بن مروان فى خبر له معه:
ارحم أصيبيتى الذين كأنهم ... حجلى تدرج بالشربة وقع
ومنه الجربّة الجماعة، واستشهد لذلك.
وجاء بلا تاء فى الاسم أيضا وهو معدّ، وهبىّ، وهو الصبى الصغير. ثم يقول هذه العبارة التى بها يقرر نزعته من حيث حسن الظن بالمروى ثقة بمن رواه: «ولا بد من حسن الظن بأبى عمرو، ولا سيما وهو القرآن، وما أبعده عن الزيغ والبهتان (2)!!.
وكذلك أحسن الظن بابن عباس فى قراءته «وأيقن أنه الفراق» (3).
(ب) روى الأعمش قال: سمعت أنسا يقرأ: لولوا إليه وهم يجمزون. قيل له وما يجمزون؟ إنما هى يجمحون! قال: يجمحون، ويجمزون، ويشتدون واحد «قال أبو الفتح: ظاهر هذا أن السلف كانوا يقرءون الحرف مكان نظيره من غير أن تتقدم القراءة بذلك، لكن لموافقة صاحبه فى المعنى، وهذا موضع يجد الطاعن به إذا كان هكذا على القراءة مطعنا فيقول: ليست هذه الحروف كلها عن النبى (صلى الله عليه وسلم)، ولو كانت عنه لما ساغ إبدال لفظ مكان لفظ إذ لم يثبت التعبير فى ذلك عنه، ولما أنكر أيضا عليه يجمزون. إلا أن حسن الظن بأنس يدعو إلى اعتقاد تقدم القراءة بهذه الأحرف الثلاثة التى هى يجمحون، يحمزون، يشتدون، فيقول:
اقرأ بأيها شئت، فجميعها قراءة مسموعة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) لقوله عليه
__________
(1) 1/ 60.
(2) المحتسب 2/ 336.
(3) انظر 2/ 411.(1/348)
السلام: «نزل القرآن بسبعة أحرف كلها شاف كاف»، فان قيل: لو كانت هذه الأحرف مقروّا بجميعها لكان النقل بذلك قد وصل إلينا، قيل أولا يكفيك أنس موصلا إلينا؟ فان قيل أن أنسا لم يحكها قراءة، وإنما جمع بينها فى المعنى، واعتل فى جواز القراءة بذلك لا بأنه رواها قراءة متقدمة.
قيل: قد سبق من ذكر حسن الظن به ما هو جواب عن هذا
وبعد أن ساق نحوا من ذلك فى كلام العرب شعرائهم ومنشديهم، قال: «وهذا لعمرى سائغ لأنه شعر، وتحريفه جائز لأنه ليس دينا ولا عملا مسنونا» (1) اهـ.
أرأيت كيف بلغ به حسن الظن بالرواة حتى أنه لم يجد جوابا مقنعا وقد قلب الأمور على أوجهها المختلفة إلا أن يقول: بحسن الظن بأنس!؟
ثم أرأيت كيف لا يسلم بهذا التحريف فى القرآن محسنا الظن، ولا يسلم باختلاف الرواية فى الشعر، وتحريف الكلم فيه عن مواضعه، لأنه ليس دينا ولا عملا مسنونا؟!
وبعد فها نحن أولاء نرى ابن جنى يتلمس الأسباب، ويسلك سبيل الدفاع عن القراءات، على حين رأينا من قبل أبا على وقد هاجم حمزة فى جره الأرحام من قوله تعالى: {«وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ»} وحكم بأن هذا ضعيف فى القياس وقليل فى الاستعمال، وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن (2)، وبمثل ذلك هجم قراءة لابن عامر، ووصفها بالقبح، والقلة فى الاستعمال، ولو عدل عنها إلى غيرها كان أولى (3).
وموقف أبى على يتفق مع خطته فى تحكيم القياس والنظر، والبعد عن التعليل بالأثر، أما ابن جنى فإن موقفه يتفق مع خطته التى أعلنها فى صدر كتابه «المحتسب» من الاعتداد بما سموه شاذا، لأنه محفوف بالرواية من أمامه وورائه، ومن هنا كان ابن جنى أرحب صدرا، وأقرب إلى مذاهب القراء رحما، إذ كان بموقفه هذا يقترب من أهل الأثر، حيث يحسن الظن بالرواة من القراء على النحو الذى عرضته منذ قليل (انظر حسن ظنه بابن عباس فى قراءته «وأيقن أنه الفراق (4)» وحسن ظنه بأنس فى قراءته «لولوا إليه وهم يجمزون (5)»، ويوثق ما رووه بما يعرفه من أوجه القياس، انظر المحتسب فى توثيق ابن مجاهد، وأبى بكر محمد بن مقسم، واعتداده بما رواه، ثم تعليل ذلك بالقياس (6). وكذلك فعل فى الاحتجاج لقراءة حمزة {«وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ»} وهى مردودة عند جمهرة البصريين (7).
__________
(1) 1/ 370.
(2) الحجة 3/ 229.
(3) الحجة 4/ 109.
(4) 2/ 411.
(5) 1/ 270.
(6) 1/ 279.
(7) راجع كتاب الخصائص 1/ 294.(1/349)
مدى تأثر ابن جنى بأبى على فى المحتسب
وابن جنى أمين جدا فيما ينقله عن أبى على، تراه يدل على القدر الذى استعان به فيه، وينبه عليه، ثم يزيد هو من عنده معقبا، أو معلقا، أو خارجا، فالمسائل والأصول لأبى على فيها النصيب الموفور، ولكن ابن جنى يضعها فى بوتقة من فكره وتعليقه، فيخرجها بعد ذلك أوضح أسلوبا، وأسد نظرا، وأشد تحقيقا، وأوثق صلة بروح العربية وخصائصها.
تراه مثلا يقول: «وحدثنى أبو على بكذا وكذا، ثم ينبه على ما انتهى إليه حديث الشيخ بقوله مثلا: «هذا آخر الحكاية عن أبى على ويزيد على ذلك ما قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد (1). أو يقول مثلا: «وروينا عن أبى زيد فيما أخذناه عن أبى على، وعن غير أبى زيد كذا وكذا (2)
واقرأ قوله: «ورأيت أبا على (رحمه الله) يذهب إلى استحسان مذهب الكسائى فى قوله:
إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبنى رضاها
لأنه قال: «عدى رضيت بعلى كما تعدى نقيضتها وهى سخطت به، وكان قياسه رضيت عنى، وإذا جاز أن يجرى الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ وإلى هنا ينتهى الأصل الذى قرره أبو على، ثم يزيد ابن جنى عليه بقوله: «وفيه غيره وذلك إذا رضى عنه فقد أقبل عليه، فكأنه قال: «إذا أقبلت على بنو قشير» وهو غور من أنحاء العربية طريف، ولطيف، ومصون، وبطين (3).
ويعتمد فى التدليل أحيانا على ما أنشده أبو على: قال فى الاحتجاج لقراءة الأعمش على الجودى «تخفيف ياءى الإضافة قليل إلا فى الشعر. أنشدنا أبو على:
بكى بعينك واكف القطر ... ابن الحوارى العالى الذكر (4)
يريد الحوارى، وروى عنهم لا أكلمك حيرى الدهر يريد حيرى الدهر، وهذا فى النثر، فعليه قراءة الأعمش جودى خفيفا (5).
__________
(1) انظر المحتسب 1/ 53.
(2) أنظر 1/ 59، 60.
(3) 1/ 32.
(4) كل مبالغ فى نصرة آخر (حوارى) وخص بعضهم به أنصار الأنبياء (عليهم السلام) وقوله وأنشده ابن دريد. إنما أراد ابن الحوارى يعنى بالحوارى الزبير، وعنى بابنه عبد الله ابن الزبير
(5) 1/ 400.(1/350)
وتراه يستغل الأصل الذى قاله أبو على وسمعه منه، وهو أن العرب إذا نطقت بالأعجمى خلطت فيه، كما يستغل ما أنشده أبو على لرؤبة وغيره ثم يرقى من ذلك إلى التدليل على قراءة إسراييل بلا همز (1).
وإنك لتراه يعتمد عليه فى التفسير اللغوى أورد فى تفسير قول الله تعالى:
{«سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى ََ لَهُمْ»} (2) معنى سول لهم أى دلاهم، وهو من السول وهو استرخاء البطن، رجل أسول وامرأة سولاء إذا كان مسترخى البطن قال الهذلى:
كالسّحل البيض جلا لونها ... سحّ نجاء الحمل الأسول
أى السحاب المسترخى الأسافل لثقله، وغزر مائه فهذا إذا كقول الله سبحانه:
فدلاهما بغرور وهذا اشتقاق حسن أخذناه عن أبى على (3).
وتتردد مظاهر هذا التأثر فى مواضع مختلفات من المحتسب، ولكنى أعطيت الأمثلة الدالة من غير حصر أو استقصاء لأن ذلك أمر يطول.
وابن جنى فى مبتكراته التى يستقل فيها عن أستاذه وما أكثرها كذلك يشير إليها كأن يقول مثلا: «ينبغى أن يعلم ما أذكره (4)» أو: «وفيه عندى شىء لم يذكره أبو على ولا غيره من أصحابنا (5) «أو أن يقول: «ووجه ذلك (6) عندى ما أذكره (7)، أو نحو ذلك مما يرد فى كثير من صفحات الكتاب (8).
استغلال ابن جنى للعروض والقافية فى الاحتجاج
وابن جنى يستغل كأستاذه «العروض» فى التدليل والاحتجاج، ولكنك تلحظ القلة فى ذلك، هذا مع دماثة أسلوب التلميذ، وبعده عن الجفوة والجفاف والتكلف والإفحام الذى تراه عند الشيوخ.
قال فى قراءة ابن عباس: {«فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى ََ عَذََابِ النََّارِ»} (9) يحتمل أمرين: أحدهما وهو الظاهر أن يكون الفاعل فى قال ضمير إبراهيم عليه السلام أى قال إبراهيم: ومن كفر فأمتعه يا رب ثم أضطره يا رب. وحسن على هذا إعادة
__________
(1) 1/ 71.
(2) سورة محمد آية 25.
(3) المحتسب 2/ 337.
(4) 1/ 49.
(5) 2/ 412411.
(6) يشير إلى قراءة يا حسره على العباد بالهاء ساكنة.
(7) 2/ 261.
(8) انظر مثلا 1/ 39و 1/ 196و 2/ 45.
(9) س (1) آية 126.(1/351)
قال لأمرين. أحدهما: طول الكلام، فلما تباعد آخره من أوله أعيدت، قال: لبعدها كما قد يجوز مع طول الكلام ما لا يجوز مع قصره. والآخر أنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين، فكان ذلك أخذا فى كلام آخر، فاستؤنف معه لفظ القول فجرى ذلك مجرى استئناف التصريح فى القصيدة إذا خرج من معنى إلى معنى، ولهذا ما يقول الشاعر فى نحو ذلك:
ألا ناد فى آثارهن الغوانيا ... سقين سماما!! ما لهن وماليا؟
كان التصريح مع الانتقال من حال إلى حال أخرى بالجواز، فهذا أحد الوجهين (1)
وجاء فى الاحتجاج لقراءة: «يا حسره على العباد» مبينا أثر إطالة الصوت، وعلى هذا قال سيبويه: إنهم يقولون سير عليه ليل يريدون ليل طويل، وهذا إنما يفهم عنه بتطويل الياء فيقولون سير عليه ليل فقامت المدة مقام الصفة، ومن ذلك ما تستعمله العرب من إشباع مدات التأسيس، والردف، والوصل، والخروج عناية بالقافية إذ كانت للشعر نظاما، وللبيت اختتاما (2)» وانظر مهاجمة الفراء فى تأويله قراءة أهل المدينة يخطف بسكون الخاء والطاء والتشديد فيجمع بين ساكنين (3).
المنطق وظهوره عند ابن جنى فى الاحتجاج
وهو ذو منطق خفيف يأتى به فى التدليل سمحا سهلا، لا يمعن فيه كما يمعن أستاذه أبو على فيه، ومن هنا لم يشق ابن جنى على القارئ، ولم يعنف به كما لا يطيل، فذكر الأوجه، والتفريعات، والاحتمالات قليلا ما يرد عند ابن جنى (4). وإنك لتراه يأتى بالمقدمات التى تسلم إلى النتيجة فى غير عسر، كما تراه يقايس، أو يقول بالأولى والأجدر فى هوادة ولين، وسأضرب أمثلة ثلاثة أعقب، كل مثال بالاشارة إلى ما يدل على اعتماده على المنطق، وإلى ما فيه من مسائله فى الاحتجاج والتدليل.
المثال الأول:
أنكر ابن مجاهد رواية الحلوانى عن قالون عن شيبة» {أَوْ آوِي إِلى ََ رُكْنٍ شَدِيدٍ} (5).
فدلل ابن جنى على أن ما أنكره ابن مجاهد سائغ جائز وهو أن تعطف آوى على قوة
__________
(1) 1/ 108.
(2) 2/ 261.
(3) 1/ 42.
(4) انظر مثلا ص 1/ 108.
(5) سورة هود آ 88.(1/352)
فكأنه قال: «لو أن لى بكم قوة، أو أويا إلى ركن شديد، فاذا صرت إلى اعتقاد المصدر فقد وجب اضمار أن ونصب الفعل بها، ومثله قول ميسون بنت بجدل الكلبية:
للبس عباءة وتقر عينى ... أحب إلىّ من لبس الشفوف
فكأنها قالت: للبس عباءة وأن تقر عينى، أى لأن ألبس عباءة وتقر عينى أحب إلى من كذا، وعليه بيت الكتاب أيضا:
فلولا رجال من رزام أعزة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما
أى أو أن أسوءك فكأنه قال: أو مساءتى إياك. فكذلك هذه القراءة لو أن لى بكم قوة أو أويا أى أو أن آوى إلى ركن شديد وهذا واضح (1).
فانظر إلى ذلك القياس الذى عقده بين هذه الآية وقول ميسون: للبس عباءة.
وبيت الكتاب: فلولا رجال ثم انظر إلى ما يشبه النتيجة لهذا القياس فى قوله:
فكذلك هذه القراءة ثم انظر بعد ذلك إلى قوله: «وهذا واضح» وهو قول يشبه العبارة التى يسجلها المشتغلون بالنظريات الهندسية فى أعقاب البراهين.
المثال الثانى:
دلل على أن «أبيك» فى قوله تعالى: «وإله أبيك» (2) جمع لا مفرد بما يأتى وفيه يرد على ابن مجاهد فى ان أبيك مفرد هنا قال أبو الفتح: «قول ابن مجاهد» «بالتوحيد لا وجه له، وذلك أن أكثر القراءة» وإله آبائك جمعا كما ترى، فاذا كان أبيك واحدا كان مخالفا لقراءة الجماعة فنحتاج حينئذ إلى أن يكون أبيك هنا واحدا فى معنى الجماعة، فاذا أمكن أن يكون جمعا كان كقراءة الجماعة، ولم يحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة، وطريق ذلك أن يكون أبيك جمع «أب» على الصحة على قولك للجماعة هؤلاء أبون أحرار، أى آباء أحرار، وقد اتسع ذلك منهم، ومن أبيات الكتاب:
فلما تبين أصواتنا ... بكين، وفديننا بالأبينا
وقال أبو طالب:
ألم تر أنى بعد همّ هممته ... لفرقة حرمن أبين كرام؟
وقال الآخر: «فهو يفدى بالأبين والخال».
وقد أشبعنا هذا الموضع فى شرح ديوان المتنبى. ويؤكد أن المراد به الجماعة
__________
(1) 1/ 407406.
(2) س 1آ 133.(1/353)
ما جاء بعده من قوله: «إبراهيم وإسماعيل وإسحق» فأبدل الجماعة من أبيك، فهو جماعة لا محالة، لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل. فيصير قوله تعالى «وإله أبيك» كقوله «وإله ذويك» هذا هو الوجه، وعليه فليكن العمل (1).
وفى هذا المثال نرى أكثر من دليل على استعانته بالمنطق فى التدليل:
(ا) ففي قوله: «وذلك أن أكثر القراءة وإله آبائك جمعا كما ترى الخ تعليل لقوله «لا وجه له».
(ب) وفى استشهاده بأبيات الكتاب، وأبى طالب وغيرهما استعمال للدليل المؤسس.
(ج) وفى قوله: ويؤكد أن المراد به الجماعة اتباع الدليل المؤسس بالدليل المؤكد.
(د) وفى قوله: فيصير قوله تعالى وإله أبيك قياس وتنظير.
(هـ) وقوله فى خاتمة هذا الدليل: «هذا هو الوجه، وعليه فليكن العمل» كالنتيجة التى يسلم إليها البرهان.
المثال الثالث: خطأ ابن جنى ابن مجاهد فى قوله: آيدتك على فاعلتك من قوله تعالى: {«إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ»} (2) قال أبو الفتح: «هذا الذى توهمه ابن مجاهد أن أيدتك على فاعلتك لا وجه له. وإنما أيدتك أفعلتك من الأيد وهو القوة.
وقال أبو على: «إنما كثر فيه أيدتك فعلتك لما يعرض فى أيدتك من تصحيح العين مخافة توالى اعلالين فى أيدتك، وأنشدنا قوله:
ينبى تجاليدى واقتادها ... ثاو كرأس الفدن المؤيد
فهذا من أيدته أى قويته لأنه مفعل كمكرم ولو كان أيدتك كما ظن ابن مجاهد فاعلتك لكان اسم المفعول منه مؤايد كمقاتل ومضارب، ولكن قراءة من قرأ آتيناها فاعلنا، ولو كان أفعلنا لما احتاج إلى حرف الجر، لأنه إنما يقال أتيت زيدا بكذا، وآتيته كقولك أعطيته، فكذاك لو كان آتينا أفعلنا لكان آتيناها كقولك أعطيناها، وأنت لا تقول آتيته بكذا كما لا تقول أعطيته بكذا. فقوله فى تلك القراءة آتيناها كقولك حاضرنا بها، وشاهدنا بها وهذا واضح.
ومعنى قول أبى على: لو جاء آيدتك على ما يجب فى مثله من إعلال عين أفعلت إذا كانت حرف علة كأقمت زيدا، وأبعته أى عرضته للبيع لتتابع فيه اعلالان، لأن أصل آيدت أأيدت كما أن أصل آمر أأمر، فانقلبت الهمزة الثانية ألفا لاجتماع
__________
(1) 1/ 117.
(2) سورة المائدة آ 110.(1/354)
الهمزتين فى كلمة واحدة، والأولى منهما مفتوحة، والثانية ساكنة فهى فى الأسماء نحو آدم وآدار، فكان يجب أيضا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوا لأنها قد تحركت وانفتح ما قبلها ولا بد من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها كما قلت فى تكسير آدم أوادم فكان يلزم على هذا أودته كأقمته، وأدرته فتحذف العين كما ترى، وتقلب الفاء التى هى فى الأصل همزة واوا فتعتلّ الفاء والعين جميعا، وإذا أدى القياس إلى هذا رفض وكثر فيه فعلت أيدت ليؤمن ذلك الاعتلالان، فلما استعمل شىء منه جاء قليلا شاذا أعنى آيدت. وإذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت وهى حرف علة على الصحة نحو قوله:
«صددت فأطولت الصدود» وقولهم «أغيلت المرأة، وأغيمت السماء» وأخوص الرمث، وأعوز القوم، وأليث الشجر ولو خرج على منهج إعلال مثله لم يخف فيه توالى اعلالين كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب اعلال عينه من اجتماع اعلالها مع اعلال الفاء قبلها أولى وأجدر. فقد ثبت أن قراءة مجاهد إذ آيدتك إنما هو أفعلتك لا فاعلتك كما ظن ابن مجاهد (1).
وفى هذا المثال غير دليل على تأثر ابن جنى بأبى على فى التدليل:
فهو أولا يستشهد به فى التدليل:
(ا) فيورد تعليله الذى يمت إلى الدراية والصنعة وذلك قوله: «إنما كثر فيه أيدتك»
(ب) ثم ينشد قوله: ينبى تجاليدى وأقتادها
وذلك أشبه بالدليل النقلى.
وهو ثانيا يتبع هذا الاستشهاد النقلى بشرح كلام ابى على وإيضاحه
وهو ثالثا يستعمل القياس المضمر فى قوله: ولو كان آيدتك كما ظن ابن مجاهد الخ
ثم هو رابعا ينبه إلى قياس خاطئ ربما قاس ابن مجاهد عليه فى قوله:
«ولكن قراءة من قرأ آتيناها فاعلنا
وهو خامسا يعود إلى شرح قول ابى على مفسرا مبهماته، عارضا فكرته فى اسلوب اوضح من أسلوبه، ضاربا الأمثلة المقربة (2)
__________
(1) 1/ 9493.
(2) انظر فى ضرب الأمثلة المقربة المحتسب: 1/ 253.(1/355)
وهو سادسا يقول بالأولى والأجدر فى خروج آيدت على الصحة حيث قد أخرجوا عين أفعلت، وهى حرف علة على الصحة.
وأخيرا سابعا هذه العبارة التى ذيل بها رده على ابن مجاهد، والتى تشبه النتيجة التى يصل إليها المبرهن بعد المقدمات والحيثيات وهى قوله: «فقد ثبت».
ومن آثار أبى على الظاهرة عند ابن جنى:
الاستشهاد بقراءة على قراءة: كما فى الاحتجاج، لقراءة مجاهد، وسعيد بن جبير {«إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ مُبِينٌ»} (1) قال أبو الفتح: «هذا على قراءة الجماعة لسحر مبين إشارة إلى الفعل الواقع هناك من قلب العصا حية ونحوه، وهذا على من قرأ لساحر إشارة إلى موسى (عليه السلام). كما أن هذا من قول الله تعالى: {«هََذََا يَوْمُ لََا يَنْطِقُونَ»}
إشارة إلى اليوم، وهذا على قراءة من قرأ «هذا يوم لا ينطقون» بالنصب إشارة إلى الفعل الواقع فى ذلك اليوم (2) وكذلك فعل فى الاحتجاج لقراءة {«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ»} (3).
البلاغة ومسائلها فى المحتسب: رأينا أبا على يلم ببعض مسائل البلاغة، وهنا نرى ابن جنى يلم ببعض المسائل الأخرى على نحو آخر يختلف عن أبى على، ذلك لأن ابن جنى قد اقتدى فى تناوله هذه المسائل بالحس اللغوى، والنزوع النفسى، والطبع الانسانى، فى أسلوب نقى من شوائب التعقيد. وسأعرض أمثلة لذلك كله، وأعقب عليها مثالا مثالا ما لا يبدو من ملاحظات:
(ا) قراءة ابن مسعود: «إنى أرانى أعصر عنبا» (4) قال أبو الفتح: «هذه القراءة هى مراد قراءة الجماعة. {«إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً»} ذلك أن المعصور حينئذ هو العنب فسماه خمرا لما يصير إليه من بعد حكايته لحاله المستأنفة كقول الآخر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجىء بزاد
أراد إذا مات حى فصار ميتا كان كذا أو فليكن كذا، وعليه قول الفرزدق:
«قتلت قتيلا لم ير الناس مثله (5).
وغنى عن التعليق هذا المثال، وما يشير إليه من مسائل المعانى، فهنا مسألة من مسائل المجاز باعتبار ما يصير إليه أو ما سيكون.
__________
(1) سورة يونس آ 76.
(2) 1/ 394.
(3) أنظر 1/ 5349وانظر احتجاجه بقراءة يتوتون 1/ 136.
(4) سورة يوسف آ 36.
(5) المحتسب 1/ 427.(1/356)
(ب) ومن القراءات التى احتج لها قراءة يزيد البربرى: {«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا»} قال أبو الفتح: «ينبغى أن يعلم ما أذكره، وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة بعد الفاعل كضرب زيد عمرا، وإذا عناهم ذكر المفعول قدموه على الفاعل، فقالوا: «ضرب عمرا زيد» فاذا ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصبة فقالوا: «عمرا ضرب زيد» فان تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رب الجملة، وتجاوزوا به حد كونه فضلة، فقالوا: عمرو ضربه زيد «فجاءوا به مجيئا ينافى كونه فضلة، ثم زادوه على هذه الرتبة فقالوا: عمرو ضرب زيد «فحذفوا ضميره، ونووه ولم ينصبوه على ظاهر أمره رغبة به عن صورة، الفضلة، وتحاميا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة، ثم أنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغوا ذكر الفاعل مظهرا أو مضمرا فقالوا «ضرب عمر» فاطرح ذكر الفاعل البتة، نعم. وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل البتة، وهو قولهم أولعت بالشىء ولا يقول «أولعنى به كذا» وقالوا: «ثلج فؤاد الرجل» ولم يقولوا «ثلجه كذا» وامتقع لونه ولم يقولوا:
«امتقعه كذا» ولهذا نظائر فرفض الفاعل هنا البتة، واعتماد المفعول به البتة دليل على ما قلناه فاعرفه وأظننى سمعت أولعنى به كذا، وإن كان كذلك فما أقله أيضا وهذا كله يدل على شدة عنايتهم بالفضلة، وإنما كانت كذلك لأنها تخلو الجملة، وتجعلها تابعة المعنى لها، ألا ترى أنك إذا قلت: «رغبت فى زيد» أفيد منه إيثارك له، وعنايتك به، وإذا قلت: «رغبت عن زيد» أفيد منه اطراحك له. وإعراضك عنه، ورغبت فى الموضعين بلفظ واحد، والمعنى ما تراه من استحالة معنى رغبت إلى معنى زهدت.
وهذا الذى دعاهم إلى تقديم الفضلات فى نحو قول الله سبحانه {«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ»} وإنما موضع اللام التأخير، ولذلك سيبويه (كذا) إن الجفاة ممن لا يعلم كيف هى فى المصحف يقرؤها «ولم يكن كفوا له أحد».
فان قلت: «فقد قالوا زيدا ضربته فنصبوه، وإن كانوا قد أعادوا عليه ضميرا يشغل الفعل بعده عنه حتى أضمروا له فعلا ينصبه، ومع هذا فالرفع أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه رب الجملة ومبتدأها فى قولهم: «زيد ضربته».(1/357)
قيل: هذا وإن كان على ما ذكرته فان فيه غرضا من موضع آخر، وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت فانه لا يعدم دليل العناية به وهو تقديمه فى اللفظ منصوبا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدا مع تفسيره فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذى نصبه وكذلك يقول الكوفيون أيضا، فاذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم الفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنوا الفعل لمفعوله فقال: «ضرب زيد» حسن قوله تعالى: {«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا»} لمكان الغرض فيه أنه قد عرفها وعلمها وأنس أيضا علم المخاطبين بان لله سبحانه هو الذى علمه إياها بقراءة من قرأ {«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا»} ونحوه قوله تعالى: {«إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً»} وقوله تعالى {«خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ»} هذا مع قوله: {«خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ»} وقال سبحانه {«خَلَقَ الْإِنْسََانَ عَلَّمَهُ الْبَيََانَ»} وقال تبارك اسمه: {«خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ»} فقد علم أن الغرض بذلك فى جميعه أن الانسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضرب زيد، إنما الغرض منه أن يعلم أنه قد ضرب، وليس الغرض أن يعلم من الذى ضربه، فان أريد ذلك ولم يدل عليه فلا بد أن يذكر الفاعل فيقال: «ضرب فلان زيدا، فان لم يفعل كلف علم الغيب (1)»!!
وقد قصدت قصدا إلى نقل ذلك النص بتمامه كما قصدت إلى نقل نصوص أخرى فى هذا الفصل ليتضح أسلوب ابن جنى فى تناوله المسائل العلمية، ثم لا يغنى فى هذا النص جزء من جزء، فتفهمه والتعليق عليه يدعوان إلى قراءته جملة واحدة دون بتر أو اكتفاء، ويبدو من هذا النص:
أولا ما أشرت إليه منذ حين إلى أن ابن جنى إذا ما أحس أنه سيتناول فكرة مبتكرة يستقل بها عن شيوخه نبه إليها بمثل قوله هنا: «ينبغى أن يعلم ما أذكره» أو نحو ذلك.
ثانيا هذا الأسلوب القوى الأسر فى مسألة من مسائل النحو، ويكفى أن ترجع إلى قوله مثلا: «فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رب الجملة» أو قوله:
«ولم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له وبنوه على أنه مخصوص به» ثم هذه المقابلة فى تفسير التعبيرين: «رغبت فى زيد» و «رغبت عنه» فالأول «يفيد
__________
(1) 1/ 5349.(1/358)
إيثارك له، وعنايتك به» والآخر يفيد اطراحك له، وإعراضك عنه الخ
ثالثا هذا المنطق الخفيف الذى أذابه التدليل السمح فى هوادة ولين لا يرهق القارئ، ولا يكد ذهن السامع.
رابعا هذا المنهج التعليمى الذى يقدم النظائر المفهومة ليقرب بها، ويقيس عليها نظائر أخرى من أشباهها. ذلك قوله:
فاذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حسن قوله تعالى: {«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ»}.
خامسا ذلك التذوق اللغوى وفهم روح العربية وأسرارها.
سادسا تحدثه فى نظرية النظم التى وضع أساسها لعبد القاهر الجرجانى من بعده.
سابعا أنى لا أجد فرقا بين ما يقوله ابن جنى هنا وما يقرره المحدثون من النقاد والباحثين فى علوم البلاغة والنقد من أن «الفكرة والصورة فى الأسلوب كل لا يتجزأ، ووحدة لا تتعدد، وليس أدل على اتحادهما من أنك إذا غيرت فى الصورة تغيرت الفكرة، وإذا غيرت فى الفكرة تغيرت الصورة فقولك «أعنيك» «غير قولك» إياك أعنى «وقولك» كل ذلك لم يكن غير قولك: «لم يكن كل ذلك» وقولك «ما شاعر إلا فلان غير قولك» ما فلان إلا شاعر «فترتيب الألفاظ فى النطق لا يكون إلا بترتيب المعانى فى الذهن (1)».
(ح) فى احتجاجه لقراءة «فبذلك فلتفرحوا» (2) برهن على أن هذه القراءة خارجة عن أصلها لاستغنائهم ب اضرب عن لتضرب ونحوه ثم قال: «وكأن الذى حسن التاء هنا أنه أمر لهم بالفرح فخوطبوا بالتاء لأنها أذهب فى قوة الخطاب فاعرفه. ولا تقل قياسا على ذلك فلتحزنوا، لأن الحزن لا تقبله النفس قبول الفرح إلا أن تريد إصغارهم وإرغامهم فتؤكد ذلك بالتاء (3).
أرأيت كيف لاءم بين التعبيرات المختلفة وطبيعة النفس الانسانية؟ فالفرح مقبول، والحزن غير مقبول، ومن هنا حسن فلتفرحوا، ولم يحسن فلتحزنوا، مستغلا فى ذلك الأصل النحوى: من أن التاء أذهب فى قوة الخطاب؟
__________
(1) دفاع عن البلاغة للزيات: 60.
(2) سورة يونس آ 58.
(3) المحتسب 1/ 390.(1/359)
ثم ألا تراه قد نبه إلى خروج الأمر عن معناه الحقيقى إلى التهديد والارغام مما يبرر المخاطبة بالحزن بعد أن نهاك، عنه، وحذرك إياه!
ثم ألا تراه بعد ذلك كيف استغل الميول الانسانية فى الاحتجاج لقراءة مروية؟! ثم اقرأ فى نحو ذلك حديثه عن قوله تعالى: {«نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا»}
أى أطفالا، فبعد أن قرر أصلا لغويا هو أن وقوع الواحد موقع الجماعة فاش فى اللغة «قال:» وحسن لفظ الواحد هنا شىء آخر أيضا وذلك أنه موضع إضعاف للعباد، وإقلال لهم، فكان لفظ الواحد لقلة أشبه بالموضع من لفظ الجماعة، لأن الجماعة على كل حال أقوى من الواحد فاعرف ذلك (1).
وهكذا يمزج ابن جنى فى الاحتجاج بين الأصل اللغوى المقرر، والادراك الفنى المحرر.
(د) ثم إليك هذا النص الذى أنقله على طوله لأن فيه امتاعا، وابتكارا، واستهداء بالحس النفسى، واعتمادا على الذوق الأدبى، واتكاء فى التعليل على طبيعة العربى فى التعبير، وفيه إلى جانب ذلك دماثة ورقة واشباع (2)!
قال فى الاحتجاج لقراءة يا حسره على العباد، ويا حسرة العباد:
أما يا حسره على العباد بالهاء ساكنة ففيه النظر، وذلك أن قوله على العباد متعلق بها أو صفة لها، وكلاهما لا يحسن الوقوف عليها دونه ووجه ذلك عندى ما أذكره، ذلك أن العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتمدته ولا معتزمة عليه أسرعت فيه، ولم تتأن على اللفظ المعبر به عنه، وذلك كقوله «قلنا لها قفى لنا قالت قاف» معناه وقفت، فاقتصرت من جملة الكلمة على حرف منها تهاونا بالحال، وتثاقلا عن الاجابة، واعتماد المقال، ويكفى فى ذلك قول الله سبحانه: {«لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ»}
قالوا فى تفسيره هو كقولك لا والله، بلى والله! فأين سرعة اللفظ يذكر اسم الله تعالى هنا من التثبت فيه، والاشباع له، والمماطلة عليه من قول الهذلى:
فو الله لا أنسى قتيلا رزيته ... بجانب قوسى (3) ما مشيت على الأرض
أفلا ترى إلى تطعمك هذه اللفظة فى النطق هنا بها، وتمطيك لاشباع معنى القسم عليها؟
__________
(1) 1/ 243242.
(2) هذه هى السمات الظاهرة فى ذلك النص وهناك سمات اخرى يشترك فيها مع نصوص تحدثت عنها فى مناسبات مختلفة من هذا الفصل.
(3) اسم موضع انظر معجم البلدان لياقوت.(1/360)
وكذلك أيضا قد ترى إطالة الصوت بقوله من بعده:
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... توكل بالأدنى، وإن جل ما يمضى
أفلا تراه لما أكذب نفسه، وتدارك ما كان أفرط فيه لفظه أطال الاقامة على قوله بلى رجوعا إلى الحق عنده، وانتكاثا عما كان عقد عليه يمينه، فأين قوله هنا «فو الله» وقوله «بلى» منهما فى قوله: لا والله، وبلى الله؟ وعليه قوله تعالى:
«ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان»، أى وكدتموها وحققتموها، وإذا أوليت هذا أدنى تأمل عرفت منه وبه ما نحن بسبيله، وعلى سمته، وعلى هذا قال سيبويه:
إنهم يقولون سير عليه ليل يريدون «ليل طويل» وهذا إنما يفهم عنهم بتطويل الياء فيقولون: سير عليه ليل، فقامت المدة مقام الصفة، ومن ذلك ما تستعمله العرب من اشباع مدات التأسيس، والردف، والوصل، والخروج، عناية بالقافية إذ كانت للشعر نظاما، وللبيت اختتاما، أخبرنا أبو أحمد الطبرانى عن شيخ له ذكره عن البحترى قال: سمعت ابن الاعرابى يقول: استجيدوا القوافى فانها حوافر الشعر، وقال له الشجرى فى بعض كلامه: «القافية رأس البيت»، وهذا ليس نقضا للأول، وإنما غرضه فيه أنها أشرف ما فيه، كما أن حوافر الفرس هى أوثق ما فيه، وبها نهوضه، وعليها اعتماده، ولقد تغنى يوما خفير لنا بشعر مؤسس نحو قوله: «ألا عللانى قبل يوم العواذل» فلعهدى به وهو يمطل الألف حتى يخطو به فرسه الخطوة والعشرين.
ولولا ظاهر ما فى القول لقلت الأكثر. فاذا تجاوز الألف أسرع عند الدخيل فاختلس الذال والروى بعدها، وكان أيضا يمده بتقبل صدى صوته مع تماديه واغتراق أقصى النفس فيه ما كان يعطيه إياه نقل الفرس به، فان ذلك كان يهز الألف ويصنعها ويزيل تحيرها والساذجية المملولة عنها وإذا كان جميع ما أوردناه ونحوه مما استطلناه فحذفناه يدل على الأصوات تابعة للمعانى فمتى قويت قويت، ومتى ضعفت ضعفت علمت أن قراءة من قرأ يا حسره على العباد بالهاء ساكنة إنما هو لتقوية المعنى فى النفس، وذلك أنه موضع وعظ وتنبيه، وايقاظ وتحذير، فطال الوقوف على الهاء كما يفعله المستعظم للأمر المتعجب منه، الدال على أنه قد بهره، وملك عليه لفظه وخاطره، ثم قال من بعد على العباد عاذرا نفسه فى الوقوف على الموصول دون صلة لما كان فيه، ودالا للسامع على أنه إنما تجشم ذلك على حاجة الموصول إلى صلته، وضعف الاعراب وتحجره على جملته ليفيد السامع منه ذهاب الصورة
بالناطق. ولا يجف ذلك عليك على ما به من ظاهر انتقاض صنعته، فان العرب قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تفسد الاعراب لصحة المعنى (1).(1/361)
ولولا ظاهر ما فى القول لقلت الأكثر. فاذا تجاوز الألف أسرع عند الدخيل فاختلس الذال والروى بعدها، وكان أيضا يمده بتقبل صدى صوته مع تماديه واغتراق أقصى النفس فيه ما كان يعطيه إياه نقل الفرس به، فان ذلك كان يهز الألف ويصنعها ويزيل تحيرها والساذجية المملولة عنها وإذا كان جميع ما أوردناه ونحوه مما استطلناه فحذفناه يدل على الأصوات تابعة للمعانى فمتى قويت قويت، ومتى ضعفت ضعفت علمت أن قراءة من قرأ يا حسره على العباد بالهاء ساكنة إنما هو لتقوية المعنى فى النفس، وذلك أنه موضع وعظ وتنبيه، وايقاظ وتحذير، فطال الوقوف على الهاء كما يفعله المستعظم للأمر المتعجب منه، الدال على أنه قد بهره، وملك عليه لفظه وخاطره، ثم قال من بعد على العباد عاذرا نفسه فى الوقوف على الموصول دون صلة لما كان فيه، ودالا للسامع على أنه إنما تجشم ذلك على حاجة الموصول إلى صلته، وضعف الاعراب وتحجره على جملته ليفيد السامع منه ذهاب الصورة
بالناطق. ولا يجف ذلك عليك على ما به من ظاهر انتقاض صنعته، فان العرب قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تفسد الاعراب لصحة المعنى (1).
وهو فى مثل هذه الابتكارات يسمح لنفسه بأن يطيل، ويستطرد من مثال إلى مثال غير خارج عن الموضوع الذى يتحدث فيه، ويحتج له.
(هـ) ثم أقرأ حديثه عن «التضمين» بما يدل على تفهمه لروح العربية، وغوصه البعيد عن أسرارها، قال فى قراءة: {«وَمََا يَخْدَعُونَ إِلََّا أَنْفُسَهُمْ»} (2) بضم الياء وفتح الدال:» هذا على قولك» خدعت زيدا نفسه «ومعناه عن نفسه، فان شئت قلت على هذا حذف حرف الجر فوصل الفعل، كقوله عز اسمه {«وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا»} أى من قومه وقوله: «أمرتك الخير» أى «بالخير». وإن شئت قلت: حمله على المعنى فأضمر له ما ينصبه، وذلك ان قولك خدعت زيدا عن نفسه يدخله معنى انتقصته نفسه، وملكت عليه نفسه، وهذا من أسد وأدمث مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه اليه، ويصرفه بحسب ما يؤثره عليه، وجملته أنه متى كان فعل من الأفعال فى معنى فعل آخر فكثيرا ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه، فيعدل فى الاستعمال به اليه، ويحتذى فى تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قول الله (جل اسمه) {«هَلْ لَكَ إِلى ََ أَنْ تَزَكََّى»} (3)، وأنت تقول: هل لك فى كذا؟ لكنه لما دخله معنى أجذبك إلى كذا وأدعوك اليه قال: هل لك أن تزكى، وعليه قول الفرزدق:
كيف ترانى قالبا مجنى ... قد قتل الله زيادا عنى
واستعمل عن هاهنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عنى لأنه إذا قتله فقد صرف عنه. وعليه قوله تعالى: {«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ»} (4)، وأنت لا تقول رفثت الى المرأة وإنما رفثت بها ومعها، ولما كان الرفث بمعنى الافضاء، عدى بالى كما يعدى أفضيت بالى، نحو قولك أفضيت الى المرأة. وهو باب واسع منقاد فكذلك قوله عز وجل: {«وَمََا يَخْدَعُونَ إِلََّا أَنْفُسَهُمْ»} جاء على خدعته نفسه لما كان معناه معنى انتقصته نفسه (5).
__________
(1) 2/ 261.
(2) سورة البقرة آية 9.
(3) سورة النازعات آية 18.
(4) سورة البقرة آية 187.
(5) 1/ 31.(1/362)
ويبدو فى هذا النص أيضا «المنطق الخفيف» الذى يستقرئ الأمثلة، ويستعرض المقدمات ليستنبط منها النتائج فى غير جفاف، ولا إرهاق، ولا تعمل.
(و) وهو فى نص آخر يتحدث عن «التجريد» حديث الأديب العالم فى تدين وخضوع، ويتناوله بروح الناقد الموازن المستعرض للنظائر من الشعر القديم، وشعر المولدين، فى منطق لا يجفو عن القراء، ولا ينبو على الأسماع، ويخرّج القراءة الشاذة تخريجا متضمنة البلاغة فى التعبير، ويرجحها بذلك على القراءة السبعية:
«ومن ذلك قراءة الحسن (رضى الله عنه) «اهدنا صراط المستقيم» قال أبو الفتح: ينبغى أن يكون أراد والله أعلم: التذلل لله سبحانه، وإظهار الطاعة له، أى قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له صراط مستقيم «ولسنا نريد المبالغة فى قول من قرأ: الصراط المستقيم، أى الصراط الذى قد شاعت استقامته، وتعولمت فى ذلك حاله وطريقته، فان قليل هذا منك لنا زاك عندنا، وكثير من نعمتك علينا، ونحن له مطيعون، وإلى ما تأمر به، وتنهى فيه صائرون. وزاد فى حسن التفكير هنا ما دخله من المعنى، وذلك أن تقديره: «أدم هدايتك لنا»، فانك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتلقين منه رجلا متناهيا فى الخير، ورسولا جامعا لكل الفضل، فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد كقول الأخطل:
بنزوة لص بعد ما مر مصعب ... بأشعث لا يفلى، ولا هو يقمل
ومصعب نفسه هو الأشعث، وعليه قول طرفة:
جازت القوم إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفور خدر
وهى نفسها عنده اليعفور. أنشدنا أبو على:
أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفى الله ان لم يحكموا حكم عدل
وهو سبحانه أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكما عدلا، فأخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وفيه مع ذلك لفظ الرضا باليسير.
وإذا جاز أن يرضى الانسان من مخلوق مثله بما رضى به الشاعر من محبوبه بما دل عليه قوله: (أنشده ابن الأعرابى):
وإنى لأرضى منك يا ليل بالذى ... لو ابصره الواشى لقرت بلابله
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول ينقضى ... أواخره لا نلتقى وأوائله
وأنشدنى بعض أصحابنا لبعض المولدين:(1/363)
وإنى لأرضى منك يا ليل بالذى ... لو ابصره الواشى لقرت بلابله
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول ينقضى ... أواخره لا نلتقى وأوائله
وأنشدنى بعض أصحابنا لبعض المولدين:
عدينا، واكذبينا، وامطلينا ... فقد أو منت من سوء العقاب
فلسنا من وعيدك فى ارتياب ... ولا من صدق وعدك فى اقتراب
ولكنا لشؤم الجد منا ... نفر من العذاب إلى العذاب
وعليه قول الآخر:
عللينى بموعد ... وامطلى ما حييت به
ودعينى أعيش من ... ك بنجوى تطلبه
* * * ونظائره كثيرة قديمة ومولدة كان العبد البر، والزاهد المجتهد، أحرى أن يسأل خالقه (جل وعز) ومقتصدا فى سؤاله، وضامنا من نفسه السمع والطاعة على ذلك ممن يأمره.
ويؤكد عندك مذهب ما أنشدته آنفا ما حدثنا به أبو على قال: لما قال كثير:
«ولست براض من خليلى بنائل ... قليل، ولا أرضى له بقليل»
قال له ابن أبى عتيق:
هذا كلام مكافئ. هلا قلت كما قال ابن الرقيات:
رقّى بعمركم لا تهجرينا ... ومنينا المنى، ثم امطلينا
وأنشدنى بعض أصحابنا:
وعللينى بوعد منك آمله ... إنى أسر وإن أخلفت أن تعدى
وعليه قول الله عز اسمه: «ولهديناهم صراطا مستقيما» أى هديناهم من نعمتنا عليهم، ونظرنا لهم صراطا مستقيما.
وقال كثير:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج المعاند مستقيم
وهذا كقولك «أمير المؤمنين على الصراط المستقيم» لا فرق بينهما وذلك أن مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته من حيث كان فى كل جزء منه معنى ما فى جملته ألا ترى إلى قوله:
وأعلم أن تسليما وتركا ... للا متشابهان، ولا سواء
فهذا فى المعنى كقوله: «إن التسليم والترك لا متشابهان، ولا سواء» (1).(1/364)
وأعلم أن تسليما وتركا ... للا متشابهان، ولا سواء
فهذا فى المعنى كقوله: «إن التسليم والترك لا متشابهان، ولا سواء» (1).
* * * وبعد: فقد عقدت هذا البحث من ذلك الفصل للمسائل البلاغية عند ابن جنى، وها نحن أولاء نرى كيف تناول من هذه المسائل على هدى من الحس النفسى، والذوق الأدبى، والطبع الانسانى وهو ما يدعو إليه المجد دون من الباحثين فى هذا الزمان فى تحليل وبراعة، وغوص على المعانى الدقيقة فى يسر واسجاح.
ومن الانصاف أن أذكر أن أصول هذه المسائل كان بعضها من مبتكرات ابن جنى، وبعضها الآخر أشار إلى أثر شيخه أبى على فيها، لكنه صبغها بمنهجه فى البحث والتعليل، وطبعها بشخصيته فى التناول والتعليل، فجاءت من بعد دالة عليه، مشيرة اليه.
وطريقة ابن جنى فى الاحتجاج لبعض القراءات التى تتصل بمسائل بلاغية لها دلالتها الكثيرة فى أن النحويين القدماء لم يكونوا يعنون بالألفاظ فقط كما اتهمهم بذلك المناطقة (2)، بل إلى جانب ذلك عنوا بالمعانى، وقدروها حق قدرها، ويكفى أن تقرأ كلمة ابن جنى فى ذلك إذ يقول: «إن العرب قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تفسد الاعراب لصحة المعنى» (3)، وهذا القول شبيه بما قاله فى الخصائص:
«فان أمكنك أن يكون تقدير الاعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه، وان كان تقدير الاعراب مخالفا لتفسير المعنى تركت تفسير المعنى على ما هو عليه، وصححت طريق تقدير الإعراب» (4).
وقد تناولت هنا مدى تأثر ابن جنى بأبى على فى المسائل البلاغية، وحديثه عن المعانى فيها، ومن المهم أن أذكر أن هذا الأثر سار فى امتداده حتى شيخ البلغاء:
«عبد القاهر الجرجانى» الذى يعده الباحثون صاحب «علم المعانى» وقد اعتمد فى أغلبه على مسائل النحو، وردد فى غير دفعة من كتابه «دلائل الاعجاز» أن هذه التسمية أتته من معانى النحو.
أما كيف امتد هذا الأثر، وكيف اتصل عبد القاهر الجرجانى بمدرسة أبى على
__________
(1) 1/ 2017.
(2) راجع المقابسات لأبي حيان.
(3) المحتسب 2/ 261.
(4) الخصائص 1/ 292.(1/365)
فى معانى النحو، فموضعه فى القابل من البحث إن شاء الله (1).
ومن آثار أبى على التى يمكن أن أسميها «آثارا سلبية» أن ابن جنى تحامى ما وقع فيه أبو على من الاطالة، والغموض فى كتابه الحجة، قال ابن جنى:» وقد كان شيخنا أبو على عمل كتاب الحجة فى قراءة السبعة فأغمضه، وأطاله، حتى منع كثيرا ممن يدعى العربية فضلا على القراءة منه، وأجفاهم عنه (2) ويكرر ابن جنى ما لحظه على شيخه فى كتاب الحجة من الاطالة، وأن ذلك قد هاج جفوة القراء له، وأبعد كثيرا من علماء العربية عنه: فبعد أن بين ابن جنى وجوه الاحتجاج لقراءة: ثم يدركه الموت قال: «وفيه أكثر من هذا، إلا أنا نكره ونتحامى الاطالة لا سيما فى الدقيق لأنه مما يجفو على أهل القرآن. وقد كان شيخنا أبو على عمل كتاب الحجة وظاهر أمره أنه لأصحاب القراءة، وفيه أشياء كثيرة قلما ينتصف فيها كثير ممن يدعى هذا العلم، حتى أنه مجفو عند القراء لما ذكرناه» (3).
ومن هنا أراد ابن جنى تقريب كتاب المحتسب على القراء ليحظوا به، ولا ينأوا عن فهمه، ولتحقيق هذه الغاية اتخذ الوسائل الآتية:
1 - صاغه بالألفاظ السمحة، والأسلوب الدمث، ولا أغفل هنا فى تعليل ذلك أيضا أن ابن جنى أديب: شاعر يقرض الشعر، وناثر تروى له الخطب (4)، فكانت هذه الهبة الطبعية عونا له على أن يتخفف من أسلوبه، وييسره على القراء والقارئين.
2 - اختصر كتابه، وقلل من ذكر الشواهد، وابتعد عن الاسهاب فى الاستشهاد، والتمادى فى الاستطراد، حتى أنه قال فى الاحتجاج لقراءة «لا تنفع نفسا إيمانها» على معنى طاعتها: مثل فلان لغوب جاءته كتابى فاحتقرها على معنى صحيفة ثم قال: والشواهد على ذلك كثيرة، لكن الطريق التى نحن عليها مختصرة، قليلة، قصيرة ومن هنا فضل كتاب أبى حاتم السجستانى فى الشواذ (5) عن كتاب قطرب من حيث كان كتاب أبى حاتم مقصورا على ذكر القراءات، عاريا من الاسهاب فى التعليل والاستشهادات التى انحط قطرب فيها، وتناهى إلى متباعد غاياتها (6).
__________
(1) على الباحثين فى تاريخ البلاغة أن يعترفوا باثر أبي على ومكانته فى ذلك التاريخ، وهو ما لم يتنبه اليه أحد منهم فيما أعلم.
(2) المحتسب 1/ 288.
(3) 1/ 236.
(4) معجم الأدباء 12/ 93.
(5) المقدمة: 9.
(6) مقدمة المحتسب: 9.(1/366)
وذكر مثل ذلك فى الاحتجاج لقراءة: «يوم يأتى بعض آيات ربك» (1).
3 - ترك الخوض فى المسائل الدقيقة من أسرار اللغة، وخصائص العربية فى المحتسب، على حين كان فى كتاب الخصائص مثلا متعمقا، غواصا، مستخرجا للمعانى الدقيقة، متوسعا فى الحديث عن أسرار العربية، وكذلك كان فى سر الصناعة وآية ذلك أنه عند الاحتجاج لقراءة «فأكثرت جدلنا» تحدث عن طرف من الاشتقاق، وما تدلى عليه مادة (ج د ل)، ثم قال: «ولولا أن القراء لا ينبسطون فى هذه الطريق لنبهت على كثير منه، بل إذا كان منتحلو هذا العلم، والمترسمون به قلما تطوع طباعهم لهذا الضرب منه، وإن اضطروا إلى فهم شىء من جملته أظهروا التجاهل به، ولم يشكروا الله (عز وجل) على ما لاح لهم، وأعرض من طريقه جريا على عادة مستوخمة، وإخلادا إلى خليقة كرهة، حسدا يريهم، ونفلا يجويهم، وما أقلهم مع ذلك عددا، وكذلك هم بحمد الله ولو ضوعفوا مددا، فما ظنك بالقراء لو جشموا النظر فيه والتقرى لعزوره ومطاويه»؟ (2).
وبينا يقول ذلك فى المحتسب ويقتصر على مثال واحد ولا يزيد، اذ به يورد أمثلة متعددة فى كتابه الخصائص فى الحديث عن تصاقب المعنى لتصاقب الحروف (3)، ويقول: فهذه الطرائق التى نحن فيها حزنة المذاهب، والتورد لها وعر المسالك، ولا يجب مع هذا أن تستنكر، ولا تستبعد (4).
وما رأيته يطيل، أو يذكر ما فيه صنعة الا اذا أخذ سبيل الاحتجاج لقراءة غريبة، ظاهرها يدعو الى التناكر لها، والتعجب منها. عند ذلك يطيل، ويتصنع، ولعل فى ذلك ارضاء للقراء لأنه يحتج لما رووه وقرءوا به: مثال ذلك فى احتجاجه لقراءة ابن عباس وابن سيرين: «ولا أدرأتكم به» قال: «هذه قراءة قديمة التناكر لها، والتعجب منها، ولعمرى أنها فى بادئ أمرها على ذلك، غير أن لها وجها وان كان فيه صنعة واطالة وطريقة ثم ختم احتجاجه بقوله:
«وهذا وان طالت الصنعة فيه أمثل من أن تعطى اليد بفساده، وترك النظر فى أمره» (5)، وانظر احتجاجه لقراءة {«ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ»} (6).
__________
(1) المحتسب 1/ 88.
(2) 1/ 401400والعزور: السيئ الخلق.
(3) ص 537وما بعدها.
(4) الخصائص 10.
(5) 1/ 384.
(6) 1/ 233.(1/367)
رسم المصحف ومدى اعتماد ابن جنى عليه فى الاحتجاج
وابن جنى يستشهد برسم المصحف، ويعتمد عليه إذا أيد الرسم ما يذهب إليه، وإذا كان رسم المصحف متفقا هو وسنن العربية، ولا يخالف أصلا من أصولها، وذلك ما رواه ابن مجاهد عن ابن عباس فى مصحف ابن مسعود، «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت واسماعيل ويقولان ربنا» (1) وفيه «والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم» (2) وفيه «والملائكة باسطو أيديهم يقولون أخرجوا» (3)
قال أبو الفتح: «فى هذا دليل على صحة ما يذهب إليه أصحابنا من أن القول مراد مقدر فى نحو هذ هـ الأشياء، وأنه ليس كما يذهب إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه دون أن يكون القول مقدرا معه، وذلك كقول الشاعر:
رجلان من ضبة أخبرانا ... أنا رأينا رجلا عريانا
فهو عندنا نحن على قالا، وعلى قولهم: «لا إضمار قول هناك لكنه لما كان أخبرانا فى معنى قالا لنا صار كأنه قال: «قالا لنا» فأما على إضمار قالا فى الحقيقة فلا وقد رأيت إلى قراءة ابن مسعود كيف ظهر فيها ما يقدره من القول، فصار قاطعا على أنه مراد فيما يجرى مجراه (4).
ونراه هنا يخرج القراءة على ما يذهب إليه البصريون من تقدير القول فى نحو هذه الآيات، ويجعل دليله فى تخريجه وتأييد مذهبه النحوى ما رواه ابن مجاهد فى مصحف ابن مسعود.
كذلك استعان ابن جنى فى الاحتجاج لقراءة «فلما تبينت الأنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا فى العذاب المهين» (5)، وأوّلها معتمدا على ما جاء فى مصحف عبد الله (6).
ثم نراه لا يلتفت إلى الدليل الذى استشهد به يحيى بن الحارث فى قراءته، «لنظر كيف تعلمون» بنون واحدة. قال ابن شعيب: فقلت له: «ما سمعت أحدا يقرؤها» قال يحيى: «هكذا رأيتها فى الإمام مصحف عثمان. قال أبو الفتح: ظاهر هذا أنه أدغم نون ننظر فى الظاء، وهذا لا يعرف فى اللغة، ويشبه أن تكون مخفاة، فظنها القراء مدغمة على عادتهم فى تحصيل كثير من الاخفاء إلى أن يظنوه مدغما (7).
__________
(1) س 1آية 83انظر المصاحف للسجستانى: 57.
(2) س 39آية 3انظر. 18من مادة وتاريخ المصاحف:.
(3) س 6آية 93ص 41من المصدر السابق.
(4) 1/ 113112.
(5) س سبأ آية 14.
(6) 2/ 235وما بعدها.
(7) 1/ 384.(1/368)
ابن جنى وسيبويه
ومما يتفق فيه مع شيخه أنه استعان بشواهد سيبويه فى توثيق القراءات التى احتج لها فى كتابه المحتسب، وجاءت استعانته بهذه الشواهد دليلا على تفهم الكتاب وما يدل عليه شواهده، ومقايسة هذه الشواهد بما ورد فى القراءات من أوجه إعرابية، واعتبار هذه بتلك، وتفصيله الكلام فى هذه الشواهد بما يعد شرحا لها وتعليقا عليها (1).
اقرأ مثلا احتجاجه لقراءة «أفحكم الجاهلية يبغون» بالياء ورفع الميم (2)، وقد خطأ هذه القراءة ابن مجاهد، وأنكرها الأعرج جملة (3).
وعلق ابن جنى على تخطئة ابن مجاهد بما مضمونه: هذه القراءة وجه، غيره أقوى منه، وهو جائز فى الشعر قال أبو النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعى ... على ذنبا، كله لم أصنع
أى لم أصنعه، فحذف الهاء ثم، ولو نصب فقال كله لم ينكر الوزن، فهذا يؤنسك بأنه ليس للضرورة مطلقة بل لأن له وجها من القياس، وهو تشبيه عائد الخبر بعائد الحال أو الصفة وهو إلى الحال أقرب لأنه ضرب من الخبر، فالصفة كقولهم: الناس رجلان: رجل أكرمت، ورجل أهنت، أى أكرمته وأهنته. والحال كقولهم: مررت بهند يضرب زيد، أى يضربها زيد فحذف عائد الخبر، وهو فى الصفة أمثل لشبه الصفة بالصلة فى نحو قولهم: «أكرمت الذى أهنت أى أهنته» «ومررت بالتى لقيت أى لقيتها» فغير بعيد أن يكون قوله: {«أَفَحُكْمَ الْجََاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ»} يراد به يبغونه ثم يحذف الضمير، وهذا وإن كانت فيه صنعة فإنه ليس بخطإ (4).
واعتبر ما قاله ابن جنى هنا بما ذكره سيبويه فى الكتاب تر أن ابن جنى أضفى على عبارة سيبويه وضوحا، وزادها بيانا، وذيلها تعليقا، وقايس ما أورد سيبويه بما قرأ يحيى، وإبراهيم السلمى، {«أَفَحُكْمَ الْجََاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [5]، واحتج لهذا الوجه من القراءة بما يدل على حضور الذهن، وإفادة من الكتاب، واتكاء عليه، واعتداد به (6).
ثم اقرأ النص الآتى تجد طرفا آخر لابن جنى فى موقفه من سيبويه:
__________
(1) 1/ 253.
(2) انظر المصدر السابق.
(3) المحتسب 1/ 253.
(4) 1/ 44وما بعدها.
(5) المحتسب 1/ 253.
(6) وانظر مثلا آخر لذلك فى احتجاجه لرواية الحلوانى عن قالون عن شيبة أو آوى إلى ركن شديد (المحتسب 1/ 407406).(1/369)
جاء فى المحتسب: ومن ذلك ما حكاه ابن سلام قال: قال سيبويه: «كان عيسى بن عمر يقرأ: «على تقوى من الله» قلت: «على أى شىء نون؟ قال:
«لا أدرى ولا أعرفه» قلت فهل نون أحد غيره؟ قال: «لا».
قال أبو الفتح: «أخبرنا بهذه الحكاية أبو جعفر محمد بن على بن الحجاج عن أبى خليفة الفضل بن حباب عن محمد بن سلام». وأما التنوين فإنه وإن كان غير مسموع إلا فى هذه القراءة فإن قياسه أن تكون ألفة للالحاق لا للتأنيث كتترى فيمن نوّن وجعلها ملحقة بجعفر وكان الأشبه بقدر سيبويه ألا يقف فى قياس ذلك وألا يقول: «لا أدرى» ولولا أن هذه الحكاية رواها ابن مجاهد، ورويناها عن شيخنا أبى بكر لتوقفت فيها، فأما أن يقول سيبويه: «لم يقرأ بها أحد فجائز يعنى فيما سمعه، لكن لا عذر له فى أن يقول: «لا أدرى» لأن قياس ذلك أخف وأسهل على ما شرحنا من كون ألفه للالحاق (1).
وهذا النص فوق أنه يشير إلى أن أوجه القراءات كانت موضع نقاش بين النحاة القدامى، وإلى اعتداد ابن جنى بالرواية يدل على الحقائق الآتية خاصة بابن جنى وسيبويه:
(ا) وقوف ابن جنى أمام عبارات سيبويه يتفهمها. ويحللها، ويقومها. وآية ذلك أنه لا يرى وجها لقول سيبويه: لا أدرى! على حين يفسر قوله: «لم يقرأ بها أحد على وجه ما من التعليق.
(ب) تقديره سيبويه. وذلك قوله: «وكان الأشبه بقدر سيبويه الخ.
(ح) اللطف فى تصحيح رأى سيبويه والاعتراض عليه، والصيرورة لما ذهب إليه اعتدادا به إن كانت هناك مندوحة وذلك قوله: «ولولا أن هذه الحكاية رواها ابن مجاهد ورويناها لتوقفت فيها».
(ء) الاعتذار لسيبويه ما وجد إلى الاعتذار سبيلا: فهو يفسر قوله: «لم يقرأ بها أحد بما يشبه الاعتذار لا التجهيل.
وانك لتلمح تردد ابن جنى بين تصحيح القراءة المروية مرة، والاعتداد بما ذهب إليه سيبويه وتفسيره له من انكار عليه تلمح ذلك فى احتجاجه لقراءة محمد بن مروان، وعيسى الثقفى، وابن أبى إسحاق هن أطهر لكم. قال أبو الفتح:
ذكر سيبويه هذه القراءة، وضعفها وقال فيها: «احتبى ابن مروان فى لحنه»،
__________
(1) 1/ 379.(1/370)
وإنما قبح ذلك عنده لأنه ذهب إلى أنه جعل هن فصلا، وليست بين الجزءين اللذين هما مبتدأ وخبر ونحو ذلك كقولك: «ظننت زيدا هو خيرا منك» «وكان زيدا هو القائم». وأنا من بعد أرى أن لهذه القراءة وجها صحيحا، وهو أن تجعل هن أحد جزءي الجملة، وتجعلها خبرا لبناتى كقولك زيد أخوك هو، وتجعل أطهر حالا من هن ومن بناتى، والعامل فيه معنى الاشارة كقولك: «هذا زيد هو قائما أو جالسا أو نحو ذلك فعلى هذا مجازه، فأما على ما ذهب إليه سيبويه ففاسد كما قال (1).
فاذا اتفق قول سيبويه مع ما يراه من توجيه للقراءة المروية فقد اكتملت عنده أسباب الاحتجاج، وعندئذ تراه يهاجم فى صراحة، وعنف من يخالف سيبويه، ويدفع عنه فى حماسة من يعترض عليه:
أورد فى الاحتجاج لقراءة: {«وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ»} (2) بسكون الميم بيت الكتاب:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله، ولا واغل
ثم قال: «وأما اعتراض أبى العباس هنا على الكتاب فانما هو على العرب لا على صاحب الكتاب لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن فى الوزن أيضا غيره، وقول أبى العباس: إنما الرواية فاليوم أشرب، فكأنه قال لسيبويه: «كذبت على العرب، ولم تسمع ما حكيته عنهم» وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرف فقد سقطت كلفة القول معه». وكذلك انكاره عليه أيضا قول الشاعر: «وقد بدا هنك من المئزر» فقال انما الرواية: «وقد بدا ذاك من المئزر» وكذا الاعتراض عليه فى إنشاده قوله:
لا بارك الله فى الغوانى هل ... يصحبن إلا لهن مطلب
ثم قال: «ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع والسبب اليه لكان الرجل أقوم من الجماعة عنه» وهكذا يقف ابن جنى من سيبويه مدافعا وموقرا على هذه الصورة البالغة من الدفاع والتوقير، والبادية فيما قال عنه بأخرة هذا النص، حيث جعله أقوم من الجماعة بالتخير، وأوصل الى المراد منه، وأنفى للشغب عنه.
ومحاماة ابن جنى عن سيبويه على هذا النحو، ورد الاعتراض عليه من أبى العباس المبرد هو طريق أبى على فى مجابهة أبى العباس، لا يختلف التلميذ عن الشيخ فى شىء من ذلك. وقد مر بك من قبل البيان.
__________
(1) المحتسب 1/ 405.
(2) سورة البقرة آية 129.(1/371)
وابن جنى فى سبيل الاحتجاج للقراءات يستفتى كل شيخ يعين، ويأتنس بكل رأى يؤيد، ويستشهد بلهجات القبائل يعتمد عليها فى تقرير ما هو بسبيله من احتجاج، ومن أجل ذلك تراه يتخلى عن العصبية المذهبية، أو الآراء الطائفية، ما دام ذلك يحقق له ملاك هدفه فى كتابه المحتسب وهو توثيق القراءات التى عدها غيره شواذ:
فرجال البصرة ورجال الكوفة البغداديون كل أولئك عنده سواء، يستشهد بسيبويه، كما يستشهد بالكسائى وثعلب فى غير موالاة أو معاداة، ويثني على الكسائى، كما يثنى على إمام النحاة، ويقرر الحقيقة غير متحيز إلى فئة:
احتج لقراءة: {«وَمََا يَخْدَعُونَ إِلََّا أَنْفُسَهُمْ»} بأنها جاءت على خدعته لما كان معناه معنى انتقصته نفسه. ثم قال: ورأيت أبا على (رحمه الله) بذهب إلى استحسان مذهب الكسائى فى قوله:
إذا رضيت علىّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبنى رضاها
لأنه قال: عدى رضيت بعلى كما تعدى نقيضتها وهى سخطت به، وكان قياسه رضيت عنى وإذا جاز أن يجرى الشيء مجرى نقيضه فاجراؤه مجرى نظيره أسوغ، فهذا مذهب الكسائى وما أحسنه (1)!!
وانظر بعد ذلك استشهاده بالكسائى فى توجيه قراءة: «وهذا بعلى شيخ» (2)
وهو فى هذا ونحوه يعتد بالكسائى حتى أنه ليروى قول الكنانى يمدح الكسائى:
أبى الذم أخلاق الكسائى وانتهى ... به المجد أخلاق الأبو السوابق (3)
ولكنه يتخلى عن هذه النزعة، ويلبس ثوب بصيرته، ويهاجم الكسائى لاذعا، وذلك حيث يقول الكسائى فى قول عنترة:
ولقد شفى نفسى وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر! أقدم
أراد ويلك ثم حذف اللام. فلا يقبل ابن جنى تأويل الكسائى أو تعليله، فيقول: «وهذا يحتاج إلى خبر نبى ليقبل» (4)!!
__________
(1) / 33.
(2) 1/ 405.
(3) 1/ 395.
(4) 2/ 201.(1/372)
ابن جنى والفراء
اتصل ابن جنى بالفراء عن طريق شيخه أبى على الذى روى له كتاب المعانى عن ابن مجاهد عن الفراء (1).
على أن خطة ابن جنى فى كتابه المحتسب من حيث اعتداده بالشواذ تقرب من خطة الفراء، وقد قلت فى تقديم معانى القرآن للفراء: «إن الملاك العام عنده الاعتداد بالشاذ وتصويب القراءة به، ما دامت موافقة لوجه من وجوه العربية» وقدمت على هذه القضية الأدلة المدعومة بالاستشهادات من نصوص الفراء فى كتابه معانى القرآن.
وإن كان هناك من فرق بين الرجلين فهو أن ابن جنى يوثق القراءة المشذذة بالرواية بجانب موافقتها وجها من وجوه العربية، وبذلك تزداد عنده درجة التوثيق على هذا النحو لأن الفراء يكتفى بأن توافق، القراءة وجها من وجوه الصنعة الاعرابية واللغوية من غير نظر إلى الطرق المروية إلا فى القليل.
فاذا تحدث الفراء عن مذهبه الكوفى، وخالفه فى ذلك ابن جنى بما له من ميول بصرية بدا ابن جنى وقد شدد الهجوم فى غير هوادة أو لين:
ومن ذلك ما حكاه الفراء عن بعض القراء، وفيما ذكر ابن مجاهد: يخطف بنصب الياء والخاء والتشديد.
قال ابن مجاهد: وحكى الفراء «أن بعض أهل المدينة يسكن الخاء والطاء، ويشدد فيجمع بين ساكنين. «قال ابن مجاهد:» «ولا نعلم أن هذه القراءة رويت عن أهل المدينة».
قال أبو الفتح: «هذا الذى يجيزه الفراء من اجتماع ساكنين فى نحو هذا لا يثبته أصحابنا، وإنما هو اختلاس واخفاء فيلطف عليهم، فيرون أنه إدغام، وإنما هو اخفاء للحركة، وإضعاف الصوت، وهذا كما يروى فى قوله:
«ومسحه مر عقاب كاسر»
«صدر البيت: كأنها بعد كلال الزاجر (2).
إن الحاء مدغمة فى الهاء. ويا ليت شعرى كيف يجوز لذى نظر أو من يخلد إلى أدنى فكر أن يدعى أن هنا ادغاما، وأن تجمع بين ساكنين، وقد قابل به جزء التفعيل، وإذا وقع التحاكم إلى بديهة الحس فقد سقطت كلفة اتعاب النفس، ألا ترى
__________
(1) مقدمة المحتسب: 10.
(2) انظر الكتاب لسيبويه: 2/ 413.(1/373)
أن وزن قوله «ومسحهى» (1) مفاعلن فالحاء مقابل بها علن على والعين أول الوتد.
وهى كما ترى وتعلم محركة أفيقابل فى الوزن الساكن بالمتحرك؟ وإذا أفضى الأمر فى السفور الى هاهنا حسر شبهة اللبس والعناء» (2).
ثم نراه يستشهد بأحمد بن يحيى ثعلب خذ مثلا لذلك احتجاجه لقراءة «فضحكت» (3)
فتحا (4)، ويرجع استشهاده بأحمد بن يحيى فوق السبب الذى ذكرت الى أن شيخه أبا بكر محمد بن الحسن (5) قرأ على أحمد بن يحيى وسمعه ونقل عنه (6)، ثم أن ثعلبا خصيم المبرد الذى هاجم سيبويه، وحسبك هذا سببا يجعل ابن جنى يعتد بأحمد بن يحيى وينقل عنه.
وابن جنى يدلل على بغيته للحق، ونصرته له فى احتجاجه لقراءة محمد بن السميفع «قرح» (7) بفتح القاف والراء وذلك حيث يقول: «ظاهر هذا الأمر أن يكون فيه لغتان: قرح، وقرح كالحلب والحلب وفيه أيضا قرح على فعل يقرأ بها جميعا ثم لا أبعد من بعد أن تكون الحاء لكونها حرفا حلقيا يفتح ما قبلها كما تفتح نفسها فيما كان ساكنا من حروف الحلق نحو قوله فى الصّخر الصّخر ولعمرى إن هذا عند أصحابنا ليس أمرا راجعا إلى حرف الحلق لكنها لغات، وأنا أرى فى هذا رأى البغداديين فى أن حرف الحلق يؤثر هنا من الفتح أثرا معتدا معتمدا، فلقد رأيت كثيرا من عقيل لا أحصيهم يحرك من ذلك ما لا يتحرك أبدا لو حرف الحلق وهو قول بعضهم: نحوه يريد نحوه وهكذا ما لا توقف فى أنه أمر راجع إلى حرف الحلق لأن الكلمة بنيت عليه البتة وبعد أن دلل على ذلك، وذكر ما سمعه من الشجرى اعتدادا بقول البغداديين قال: ولا قرابة بينى وبين البصريين لكنها بينى وبين الحق والحمد لله».
وتلك غاية ما يسمو اليه منصف فيما يقرر من رأى، وفيما يصدر من أحكام.
ذلك كان شأن ابن جنى فى المحتسب، لأن هدفه الأول الاحتجاج للقراءة التى شذذت، فاستعان بالمذاهب الأخرى، ووجد فيها مقنعا ومحتجا. وهذا يفسر لنا مهاجمته فى الخصائص مذهب البغداديين الذى قال به آنفا وذلك قوله: «وسمعت الشجرى أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحلقى فى نحو: «يعدو وهو محموم» ولم أسمعها من غيره من عقيل، فقد كان يرد علينا منهم من يؤنس به، ولا يبعد
__________
(1) فى النسخة: ومرحمى.
(2) المحتسب: 1/ 42.
(3) سورة هود آية 71.
(4) 1/ 404403.
(5) المحتسب: 2/ 236.
(6) طبقات القراء: 2/ 123.
(7) سورة آل عمران آية 140.(1/374)
عن الأخذ بلغته، وما أظن الشجرى إلا استهواه كثرة ما جاء عنهم من تحريك حرف الحلق بالفتح إذا انفتح ما قبله فى الاسم على مذهب البغداديين نحو قول كثير:
له نعل لا تطبى الكلب ريحها ... وإن جعلت وسط المجالس شمت
وقال أبو النجم:
وجبلا طال معدا فاشمخر ... أشم لا يستطيعه الناس الدهر
وهذا قد قاسه الكوفيون، وإن كنا نحن لا نراه قياسا، لكن مثله يعدو وهو محموم لم يرو عنهم فيما علمت. فإياك أن تخلد إلى كل ما تسمعه، بل تأمل حال مورده، وكيف موقعه من الفصاحة فاحكم عليه وله (1).
موقفان مختلفان لابن جنى يحذر فى الخصائص أن نخلد إلى تحريك حرف الحلق بالفتح إذا انفتح ما قبله فى الاسم على مذهب البغداديين، ويرى أن ذلك لا يقاس عليه، فاذا احتج فى «المحتسب» لقراءة «قرح» رأى ما يرى البغداديون من أن حرف الحلق يؤثر فى الفتح أثرا معتدا معتمدا (2). ثم يقرر أن الذى يراه من رأى البغداديين هو الحق الذى يقرب وحده بينه وبين النحويين: بصريين كانوا أو بغداديين.
ولا أرى سببا فى تفسير هذين الموقفين إلا ائتناسه بالآراء الموثقة للشواذ من القراءات وربما كان لاستقراره الذهنى أثر فى رحابة صدره نحو المذاهب النحوية واللغوية المختلفة. قد يكون ذلك، ولكنى إلى السبب الأول أميل، وبه أقول.
ولم يكن ذلك التناقض غريبا من ابن جنى فاستفتاؤه الشيوخ، وتخليه عن العصبية الطائفية، والتماسه وجه الحق وحده أمر يمليه عليه عمله فى الاحتجاج لقراءات تمت بصلة قوية إلى آراء النحاة من هؤلاء وهؤلاء. ومن أجل ذلك أيضا احتج بلهجات القبائل المختلفة، ونظر إليها معتمدا عليها فى توثيق الشاذ من القراءات إذ كان صورة من هذه اللهجات، وكانت استعانته باللهجات فى كثرة ظاهرة دفعت الأستاذ أحمد تيمور (رحمه الله) الى أفراد ثبت خاص لهذه اللهجات فى صدر كل جزء من جزءي المخطوطة فى خزانته. والنظر فى هذه اللهجات يفيد كثيرا فى تعليل القراءات ورجعها الى أصولها من لهجات القبائل: ما كان منها راجعا الى الضبط الحركى، أو اختلاف المعنى مع اتحاد الحروف، أو اختلاف الحروف مع اتحاد المعنى.
واليك بعض أمثلة من ذلك:
__________
(1) الخصائص: 1/ 409.
(2) 1/ 196، 197.(1/375)
الضبط الحركى: اختلاف المعنى مع اتحاد الحروف: اختلاف الحروف مع اتحاد المعنى
صنوان (تميم) صنوان: يئس بمعنى علم (هبيل فخذ: الجدف (تميم)، الجدث (الحجاز) القطران: من النخع (1)): (الحجاز (2))
(تميم)::
كلمة (3):: صوّاغ (تميم) صبّاغ (الحجاز (4))
اسكان العين من فعل::
يقولون فى رسل رسل:: أعطأتك فى أعطيتك (عقيل)
لغة تميم والتثقيل لغة::
(الحجاز (5))
بحر وشعر (عقيل (6)):: هدى قلب الألف من آخر المقصور ياء
نحوه فى نحوه (7) وانظر (8):: وهى لغة فاشية فى هذيل وغيرهم (9)
هذه أمثلة لأنواع من اللهجات قسمتها على هذا النحو، وقد لاحظت أن ابن جنى بكثير من الاستشهاد بعقيل، وانك لتجد ذلك مترددا غير دفعة من كتابه المحتسب، فتراه فى الاحتجاج لقراءة «من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا فى الأرض» (10)
بنصب فسادا يقول: ينبغى أن يكون ذلك على فعل محذوف يدل عليه أول الكلام، وسمعت غلاما حدثا من عقيل ومعه سيف فى يده فقال له بعض الحاضرين وكنا مصحرين: يا أعرابى! سيفك هذا يقطع البطيخ فقال: أى والله وغوارب الرجال!، فنصب الغوارب على ذلك. أى ويقطع غوارب الرجال (11).
أو تراه يقول مثلا: «ورأيت كثيرا من عقيل لا أحصيهم يحرك ما لا يتحرك أبدا لو حرف الحلق (12)» وفى الخصائص يقرر أنهم كانوا يردون عليه (13)
وقد دعانى هذا إلى التعرف على مساكن بنى عقيل، وأين هى من الأماكن التى تنقل فيها ابن جنى، فاستشرت القلقشندى فى صبح الأعشى فعرفت أن بنى عقيل قد تغلب
__________
(1) 2/ 12.
(2) 2/ 100.
(3) 2/ 25و 26.
(4) 1/ 175.
(5) 1/ 245.
(6) 1/ 77.
(7) 1/ 197.
(8) 1/ 285.
(9) 1/ 67.
(10) سورة المائدة آية 32.
(11) 1/ 252.
(12) 1/ 171.
(13) 2/ 25و 26.(1/376)
عليهم بنو تغلب فطردوهم من البحرين فساروا إلى العراق، وملكوا الكوفة والبلاد الفراتية، وتغلبوا على الجزيرة والموصل، وملكوا تلك البلاد، وكان منهم المقلد وقرواش وقريش وابنه مسلم ملوك الموصل، وبقيت بأيديهم حتى غلبهم عليها ملوك بنى ساجوق (1) والعراق، والبلاد الفراتية، والجزيرة، والموصل كلها شهدت ابن جنى متنقلا فيها بل ان الموصل موطنه ومسقط رأسه واليها ينسب (2).
وإذن فقد أراد ابن جنى أن يستمع إلى الفصحاء ويشافههم، ويسلك سنة الأئمة الأولين كالخليل بن أحمد، ومن لف لفه فى الأخذ عن الأعراب فى البوادى «يحدث غلمانهم، ويطاول شيوخهم. وهذا ما تراه باديا فى مثل قوله:» ورأيت كثيرا من عقيل لا أحصيهم (3). «أو يقول:» حضرنى قديما بالموصل أعرابى عقيلى جوشى تميمى يقال له محمد بن العساف الشجرى، وقلما رأيت بدويا أفصح منه، فقلت له يوما شغفا بفصاحته، والتذاذا بمطاولته، وجريا على العادة معه فى ايقاظ طبعه، واقتداح زند فطنته (4) «والق بالك إلى وصف ابن العساف بالفصاحة، ثم إلى ما يقرره ابن جنى من تلذذه بمطاولته، وأن ذلك عادة جرى عليها معه»
وينتفع ابن جنى بذلك فى تقرير خصائص العربية، والاحتجاج للقراءات المروية، وكثيرا ما كان يذهب إلى هؤلاء الأعراب فى بواديهم، يرصد أحاديثهم، ذلك قوله:
سمعت غلاما حدثا من عقيل وكنا مصحرين (5)، أو سألت غلاما من آل المهيا فصيحا (6) وقد كثر سماعه (7)، ومسألته (8) للشجرى أبى عبد الله، ومحمد بن العساف (9).
* * * وبعد، فقد كانت استعانة ابن جنى باللهجات العربية المختلفة فى الاحتجاج للقراءات الشاذة أكثر من استعانة شيخه أبى على فى احتجاجه لقراءات السبعة. ويبدو ذلك أمرا طبيعيا يسير التعليل، ذلك أن القراءات الشاذة كانت صورة للهجات مفرقة فى قبائل متعددة، ولم يرزق كثير من هذه القبائل حظا من الشهرة بين العرب، فشذذت القراءات التى تصور لهجات هذه القبائل، وكان عمل ابن جنى تصحيح النظر إلى هذه القراءات فجاء حديثه عن لهجات القبائل على صورة أوسع من حديث شيخه أبى على الذى احتج لقراءات تتصل بلهجات قبائل مشهورة فأغناه ذلك عن الاشارة اليها، أو ذكر أسمائها.
__________
(1) انظر الخصائص: 1/ 409.
(2) صبح الأعشى: 1/ 342.
(3) نزهة الألباء: 220.
(4) المحتسب: 1/ 197.
(5) معجم الأدباء: 12/ 105.
(6) الخصائص: 1/ 80.
(7) الخصائص 80، 409والمحتسب 1/ 197.
(8) الخصائص: 1/ 342.
(9) معجم الأدباء: 2/ 105والخصائص 78.
ابن جنى وابو بكر ابن مجاهد 1(1/377)
ابن جنى وابو بكر ابن مجاهد 1
تعقب ابن جنى أبا بكر ابن مجاهد فى كثير من المواضع، وكان من الطبيعى ذلك التعقب، ذلك أن ابن جنى فى كتابه المحتسب يحتج للشواذ من القراءات ويوثقها، ويرجعها إلى سند من الرواية وأصل من أصول العربية. وهى بذلك الاعتبار موثقة
[1] حاشية استقصيت احتجاج ابن جنى للقراءات التى عذب من أجلها ابن شنبوذ فوجدت منها
(1) فامضوا إلى ذكر الله. قال أبو الفتح فى هذه القراءات تفسير للقراءة العامة فاسعوا إلى أى فاقصدوا وتوجهوا وليس فيه دليل على الاسراع وإنما الغرض المضى إليها (المحتسب 2/ 389)
(2) وتجعلون شكركم أنكم تكذبون (س 56آية 79). قال أبو الفتح هو على حذف مضاف أى تفعلون بدل شكركم ومكان شكركم تكذبون، ومثله قول العجاج:
ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائى بالعصا أن أجلدا
أى كان مكان جزائى الجلد بالعصا (المحتسب: 2/ 378).
(3) كل سفينة صالحة غصبا. لم ترد فيما احتج له من الشواذ (1).
(4) كالصوف المنقوش. (سورة القارعة لا شىء فيها) (2).
(5) فاليوم ننجيك ببدنك وردت.
(6) تبت يدا أبى لهب وقد تب. لم يورد هذه القراءة (3).
(7) فلما خر تبينت الانس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا فى العذاب المهين.
قراءة ابن عباس والضحاك وأبى عبد الله وعلى بن حسين تبينت الانس، قال أبو الفتح أى تبينت الانس أن الجن لو علموا بذلك ما لبثوا فى العذاب يدل على صحة هذا التأويل ما رواه معين عن قتادة قال فى مصحف عبد الله. تبينت الانس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا (4).
(8) والذكر والأنثى (س 92/ 3) بغير ما. النبى (صلى الله عليه وسلم) وعلى بن أبى طالب وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس (رضى الله عنهم) قال أبو الفتح فى هذه القراءة شاهد بما أخبرنا به أبو بكر محمد بن الحسن عن أبى العباس أحمد بن يحيى من قراءة بعضهم وما خلق الذكر والأنثى. وذلك أنه جره لكونه بدلا من ما فقراءة النبى صلى الله عليه وسلم شاهد بذلك (5).
(9) فقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاما س 125/ 77. قراءة ابن عباس وابن الزبير فقد كذب الكافرون قال أبو الفتح: وهذا مما ترك فيه لفظ الحضور إلى الغيبة ألا ترى قبله قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم فقد كذب الكافرون (6).
(10) وينهون عن المنكر ويستغيثون الله على ما أصابهم وأولئك هم المفلحون (7).
(11) وفساد عريض (8).
__________
(1) انظر المحتسب: 2/ 59.
(2) 2/ 439.
(3) انظر 2/ 445.
(4) انظر 2/ 235وما بعدها.
(5) انظر 2/ 433.
(6) انظر 2/ 168.
(7) س 3/ 104لم ترد.
(8) س 8آية 73لم ترد.(1/378)
عند علماء اللغة والنحو، ولا يجوز أن تتسم بالشذوذ. هذا فيما يرى ابن جنى وهو على حق فيما ذهب اليه أما ابن مجاهد فقد قال بشذوذ ما خرج عن قراءات الأئمة السبعة فى الأمصار، بل وقعت العداوة بينه وبين إمام من أئمة عصره هو محمد ابن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ (1)، الذى كان يقرأ فى اعتبار ابن مجاهد بالشذوذ، وقد عذب فى حضرة ابن مجاهد، عذبه الوزير أبو على ابن مقلة (2)، واستكتبه محضرا بأن يرجع عن الشاذ من قراءته واستتيب عنه بعد اعترافه به (3).
ومن هنا كان تعقب ابن جنى لأبى بكر بن مجاهد أمرا يحتمه الدفاع عن القراءات التى عدها ابن مجاهد شاذة. ويدعو اليه اتجاه كل من الرجلين بالنسبة لهذه القراءات.
وجاء احتجاجه فى المحتسب لبعض القراءات التى شذذها ابن مجاهد دليلا على انتصاره إلى حد ما لهذه النظرة المتحررة التى حمل لواءها ابن شنبوذ.
وشىء آخر كان سببا فى تعقب ابن جنى لابن مجاهد. ذلك ما يبدو من أن أبا بكر كانت له تعليقات على القراءات الشاذة من حيث الميزان الصرفى والتوجيه الاعرابى أو التفسير اللغوى، أو غير ذلك مما يتصل بالصناعة الصرفية والنحوية واللغوية.
ولما كانت قدم ابن مجاهد فى ذلك غير راسخة رسوخها عند ابن جنى (4)، فقد وقف مواقف كانت باعثة لابن جنى على التعقيب والتعليق. والذى يقرأ كتاب المحتسب يجد أن ابن جنى قد اعترف لابن مجاهد فى ناحية تخصصه، فابن جنى يوثق ابن مجاهد، ويأخذ بقوله، ويعتد به، ويعتمد عليه فيما هو متصل بالرواية، ويعترف بتوفيقه وهدايته فى ذلك (5). أما فيما هو خاص بالتفسير اللغوى، أو البحث الصرفى، أو فقه العربية فكثيرا ما ينبه على خطأ ابن مجاهد فيه، أو بعده، عن الصواب، أو قوله بغير الأولى أو نحو ذلك مما استشهد له، وأدل عليه عما قريب:
فشاهد اعتداد ابن جنى بابن مجاهد فى الرواية قوله فى قراءة عيسى بن عمر:
__________
(1) طبقات القراء: 2/ 5652.
(2) الفهرست: 47.
(3) انظر طبقات القراء: 1/ 54.
(4) انظر الفهرست لابن النديم: ص 52ففيها كتاب معانى القرآن وتفسيره ومشكله لأبي الحسن على بن عيسى بن داود بن الجراح الوزير أعانه على عمله أبو بكر بن مجاهد وأبو الحسن الخزاز النحوى. ويبدو أن ابن مجاهد قام بما هو خاص بالقراءات على حين قام الخزاز بالنواحى النحوية والاعرابية.
(5) انظر المقدمة: 8.(1/379)
«على تقوى من الله» ولولا أن هذه الحكاية رواها ابن مجاهد، ورويناها عن شيخنا أبى بكر لتوقفت فيها (1).
وهكذا يمتنع ابن جنى عن التوقف فى قراءة من القراءة لأن ابن مجاهد رواها وذلك عندى غاية الاعتداد به فى هذا المجال.
ويقابل اعتداده بابن مجاهد فيما هو خاص بالنقل والرواية، مخالفته له فيما هو متصل بالصنعة والتأويل والدراية، وذلك إذا ما تعرض ابن مجاهد لشىء من اللغة أو النحو أو الصرف أو الإعراب عند ذاك يتعقبه ابن جنى فى عنف حينا، وفى اعتذار من خطئه حينا. وأسوق أمثلة تشير فى اجمال لكل جانب من هذه الجوانب:
(1) يتعقب ابن مجاهد فى اللغة: «فى قراءة محمد بن زياد الأعرابي فضحكت فتحا».
قال أبو الفتح: «روى ابن مجاهد قال: قال أبو عبد الله ابن الاعرابى:
«الضحك هو الحيض وأنشد:
ضحك الأرانب فوق الصفا ... مثل دم الجوف يوم اللقا
قال وأنشد:
المزج: العسل.
فجاءت بمزج لم ير الناس مثله ... هو الضحك إلا أنه عمل النحل
وبعد: فليس فى اللغة ضحكت أى حاضت. قال احمد بن يحيى: «والضحك الشهد وهو الثلج، وهو الطلع قال محمد بن الحسن: «قلت لأبى حاتم فى قوله:
«تضحك الضبع لقتلى هذيل» قال: «ومن أين لهم أن الضبع تحيض وقال يا بنى:
«وإنما تكشر للقتلى إذا رأتهم «ويقال فى تضحك الضبع لقتلى هذيل أى تستبشر لقتلاهم لتأكلهم فيهر بعضها على بعض فجعله ضحكا. وترى الذئب لها يستهل أى يعوى فيستدعى الذئاب فرحا بذلك (2).
(2) ويتعقبه فى ميزان صرفى: روى ابن مجاهد عن أبى عمرو قراءة:
وآيدناه. قال ابن مجاهد على فاعلناه ممدودة الألف، خفيفة الياء، وقد روى عن
__________
(1) المحتسب: 1/ 379.
(2) المحتسب: 1/ 404403.(1/380)
مجاهد فى قوله «إذ أيدتك آيدتك قال ابن مجاهد على فاعلتك». قال أبو الفتح:
هذا الذى توهمه ابن مجاهد أن آيدتك فاعلتك لا وجه له، وإنما آيدتك أفعلتك من الأيد وهو القوة، ثم برهن على ما رآه وسلك سبيل المناطقة وختم برهانه بقوله: «فقد ثبت أن قراءة مجاهد إذ آيدتك إنما هو افعلتك لا فاعلتك كما ظن ابن مجاهد (1).
(3) ويتعقبه فى الإعراب:
افى قراءة يحيى وإبراهيم والسلمى أفحكم الجاهلية يبغون بالياء ورفع الميم قال ابن مجاهد وهو خطأ. وقال الأعرج: لا أعرف فى العربية أفحكم وقرأ أفحكم نصبا قال أبو الفتح: «قول ابن مجاهد إنه خطأ فيه سرف لكنه وجه غيره أقوى منه. وهو جائز فى الشعر ثم استشهد ودلل (2).
ب فى رواية الحلوانى عن قالون عن شيبة أو آوى بفتح الياء قال ابن مجاهد «ولا يجوز تحريك الياء هاهنا.
قال أبى الفتح: «هذا الذى أنكره ابن مجاهد عندى سائغ جائز ثم دلل على جوازه (3)»
(4) ويتعقبه فى التعبير:
ايصححه له فى قراءة {«أَيْنَمََا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ»} برفع الكافين قال ابن مجاهد وهذا مردود فى العربية، قال أبو الفتح هو لعمرى ضعيف فى العربية وبابه الشعر والضرورة لأنه ليس بمردود فى العربية، لأنه قد جاء عنهم، ولو قال:
مردود فى القرآن لكان أصح معنى ثم دلل على ذلك (4).
ب ويصوبه: قال ابن مجاهد: يتوفّون منكم لا يقرأ بها قال أبو الفتح الذى أنكره مستقيم جائز على حذف المفعول أى والذين يتوفون أيامهم وأعمارهم أو آجالهم (5) وانظر قول ابن جنى: قول ابن مجاهد بالتوحيد فى قراءة وإله أبيك لا وجه له (6).
__________
(1) المحتسب: 1/ 93.
(2) المحتسب: 1/ 253.
(3) 1/ 407406.
(4) 1/ 230.
(5) 1/ 137136.
(6) 1/ 117.(1/381)
(5) يتعقبه بما هو أصل من أصول العربية «الساكن ليس بحاجز حصين» قراءة الحسن (رحمه الله) أنبهم بوزن أعطهم. وروى عن ابن عامر أنبئهم بهمز وكسر الهاء، قال ابن مجاهد وهذا لا يجوز. رد ذلك أبو الفتح فقال: طريق قراءة ابن عامر ان هذه الهمزة ساكنة والساكن ليس بحاجز حصين عندهم فكأنه لا همزة هناك أصلا، وكأن كسرة الباء على هذا مجاورة للباء (كذا) فلذلك كسرت فكأنه على هذا قال أنبهم. وروينا عن أبى زيد فيما أخذناه عن أبى على وعن غير أبى زيد منهم ومنه، ومنكم، وبكم، أجرى كاف المضمر مجرى هائه فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد هذا لا يجوز لا وجه له لما شرحناه من حالهم.
ثم اعتذر ابن جنى من خطأ ابن مجاهد بما يعد ملاكا لتعليل موقفه منه فيما هو متصل بالصناعة النحوية أو الصرفية أو اللغوية، وذلك إذ يقول أبو الفتح:
«ورحم الله أبا بكر فإنه لم يأل فيما علمه نصحا، ولا يلزمه أن يرى غيره ما لم يره الله تعالى إياه، وسبحان قاسم الأرزاق بين عباده، وإياه نسألى عصمة وتوفيقا وسدادا بفضله (1).
وبهذا النص الأخير يلخص ابن جنى موقفه من ابن مجاهد، ويعترف بما له من فضل ويعتذر مما كان منه من مجانبة للصواب، ويقرر فى شكر يشبه الزهو نعمة الله عليه بفقه للعربية، وبصره بأسرارها.
وبعد: فماذا كان موقف أبى على من ابن مجاهد؟ فى الحقيقة أن أبا على لم تتح له الفرصة يتعقب فيها ابن مجاهد فى احتجاجه لقراءات السبعة ذلك لأن مهمة أبى على كانت محصورة فى الاحتجاج بالصناعة النحوية واللغوية والصرفية. الخ.
لما أورده ابن مجاهد من روايات نقلية، لم يتعرض فيها لهذه البحوث التى تعرض لها فى القراءات الشاذة، والتى فتحت الباب أمام ابن جنى ليلجه متعقبا أبا بكر على النحو الذى تناولته بالبيان والتفصيل.
__________
(1) 1/ 6053.(1/382)
قواعد عامة
وقد كان ابن جنى يتقرى اللغة، ويدعو إليها (1)، ويتعرف خصائصها، ويتهدى فى أحكامه على القراءات المختلفة، واحتجاجه لها، وبيان درجتها من حيث القوة أو الضعف والذيوع والشذوذ بالاستقراء، وقد أعانه على ذلك ملاحظة دقيقة، وبصر نافذ، وفطانة واعية فى عمق، وقد سبق أن نظر فى خصائص اللغة وأصولها فى كتابه الموسوم بالخصائص، وانتهى إلى قواعد عامة قررها، فاستغل هذه وغيرها فى الاحتجاج للقراءات وتقويمها فى كتابه المحتسب، وبنى على الأسس التى هداه إليها شيخه، وقد جمعت مثلا لبعض هذه القواعد وقسمتها على النحو الآتى:
اأصول عامة مقررة:
(1) القرآن يتخير ولا يتخير عليه (2). (2) اختصار المختصر إجحاف به (3).
(3) العرب إذا نطقت بالأعجمى خلطت فيه (4). (4) الأصوات تابعة للمعانى فمتى قويت قويت، ومتى ضعفت ضعفت، ويكفيك من ذلك قولهم قطع وقطّع، وكسر وكسّر، زادوا الصوت لزيادة المعنى، واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه (5).
(5) يجوز مع طول الكلام ما لا يجوز مع قصره (6). (6) إذا نفى الأصل كان الفرع أشد انتفاء (7).
ب لغويات:
(1) الأجناس يقع قليلها موقع كثيرها، وكثيرها موقع قليلها (8).
(2) وقال فى الاحتجاج لقراءة فى قلوبهم مرض بالتسكين: «لا يجوز أن يكون مرض مخففا من مرض لأن المفتوح لا يخفف، وإنما ذلك فى المكسور والمضموم كابل وفخذ وطنب وعضد وما جاء عنهم من ذلك فى المفتوح فشاذ لا يقاس عليه (9).
(3) وقوع الواحد موقع الجماعة فاش فى اللغة (10).
(4) الفتح والسكون يتقاودان (11).
(5) إذا جاز أن يجرى الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ (12)
__________
(1) المحتسب 1/ 401400.
(2) 1/ 23.
(3) انظر الصناعة 1/ 271و 1/ 31.
(4) 1/ 71.
(5) 2/ 261.
(6) 1/ 108.
(7) 2/ 252.
(8) 1/ 394.
(9) 1/ 33.
(10) 1/ 243242.
(11) 1/ 33.
(12) 1/ 32.(1/383)
(6) حركة الأتباع تجرى مجرى الصدر الذى لا اعتداد به، ولا هو عندهم مما يعقد على مثله (1).
(7) فى الاحتجاج لقراءة {«وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ»} قال: «تخفيف ياءى الاضافة قليل إلا فى الشعر (2)».
(8) العرب قد تأتى بالمصدر من غير صيغة الفعل كقوله: «ونقرتها بيديك كل منقّر (3).
(9) ما سمع فى شىء فعل إلا وسمع فيه فعل وعليه قول طرفه: «وراد وشقر» يريد شقرا (4).
(10) الذل بالكسر فى الدابة ضد الصعوبة، والذّل بالضم للانسان ضد العز وكأنهم اختاروا الضمة للإنسان والكسرة للدابة للفصل بينهما، لأن ما يلحق الانسان أكبر قدرا مما يلحق الدابة، واختاروا الضمة لقوتها للإنسان والكسرة لضعفها (5).
ج نحويات:
(1) قال فى الاحتجاج لقراءة بما حفظ الله: «حذف المضاف فى الشعر وفصيح الكلام فى عدد الرمل سعة (6).
(2) بين الشرط والابتداء مشابهات (7).
(3) الصلة أذهب فى باب التخصص من الصفة لابهام الموصول، ثم رتب درجات الابهام على النحو الآتى: الصلة ثم الصفة ثم الحال ثم الخبر وقال: كذا ينبغى أن يرتب هذا الباب من تنزيله، ولا ينبغى أن يؤخذ بابا سردا وطرحا واحدا (8).
(4) الحال المستأنفة تحكى كما تحكى الحال السالفة (9).
(5) الخطاب بالتاء أذهب فى قوة الخطاب (10).
(6) المستقبل أسبق رتبة فى النفس من الماضى (11).
(7) يجيء اللفظ على حكم لفظ آخر لأنه فى معناه وإن عرى هذا من موجب اللفظ فى ذاك نحو تصحيح عور وحول لأنهما فى معنى ما لا بد من صحته وهو أعور وأحول (12).
__________
(1) 1/ 61.
(2) 1/ 402401.
(3) 1/ 72.
(4) 1/ 190.
(5) 2/ 45.
(6) 1/ 223.
(7) 1/ 233وما بعدها.
(8) 2/ 325.
(9) 1/ 388.
(10) 1/ 381380وانظر ص 427من هذا الجزء.
(11) 2/ 252.
(12) 2/ 431412.(1/384)
د إعرابيات:
(1) حركة الإعراب لا تستهلك لحركة الاتباع إلا على لغية ضعيفة وهى قراءة بعض البادية الحمد لله (1).
(2) العرب قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تفسد الإعراب لصحة المعنى (2)
(3) لو انصرف عن اللفظ إلى المعنى لا يحسن العود من بعد إلى اللفظ (3).
(4) وقال فى تقدير المحذوف من قوله تعالى: {«وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ََ»}.
اولكن البر بر من اتقى. ب ولكن ذا البر من اتقى.
والتقدير الأول أجود عندنا، وذلك أن تقديره حذف المضاف من الخبر أعنى بر من اتقى والخبر أولى بذلك من المبتدأ، وذلك أن حذف المضاف ضرب من التوسع، والتوسع آخر الكلام أولى به من أوله كما أن الحذف والبدل كلما تأخر كان أمثل من حيث كانت الصدور أولى من الأعجاز (4).
(5) يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل (5).
هـ عروضيات:
(1) الأمثال تجرى مجرى المنظوم فى تحمل الضرورة، قال أبو على. «لأن الغرض فى الأمثال إنما هو التسيير كما أن الشعر كذلك، فجرى المثل مجرى الضرورة فى تجوز الضرورة فيه (6).
(2) ويروى عن البحترى قوله «القوافى حوافر الشعر» وعن الشجرى قوله «والقافية رأس البيت» (7).
(3) إذا جاز أن يصرع وهو فى أثناء المعنى الواحد نحو قوله.
ألا ناد فى آثارهن الغوانيا ... سقين سماما، ما لهن وماليا؟
كان التصريع من الانتقال من حال إلى حال أحرى بالجواز (8).
(4) تشبع العرب مدات التأسيس، والردف، والوصل، والخروج عناية بالقافية إذ كانت للشعر نظاما، وللبيت اختتاما (9).
* * * __________
(1) 2/ 413411.
(2) 2/ 65.
(3) 1/ 233.
(4) 2/ 273.
(5) 1/ 399.
(6) المحتسب 2/ 105.
(7) 2/ 261.
(8) 1/ 108انظر النص كاملا فى استغلال ابن جنى للعروض.
(9) 2/ 261.(1/385)
ومن الحق أن أشير إلى أن بعض هذه الأصول من مبتكرات ابن جنى، واستنباطاته وبعضها الآخر بنى على كلام شيخه الفارسى، وأقيم عليه، فهو يروى مثلا عن أبى على استحسانه لمذهب الكسائى فى قوله.
إذا رضيت علىّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبنى رضاها
ويورد كلامه فى أنه عدى رضى بعلى كما تعدى نقيضتها وهى سخطت به ثم يخلص من ذلك إلى تأصيل أصل هو «إذا جاز أن يجرى الشيء مجرى نقيضه فاجراؤه مجرى نظيره أسوغ» ثم يبنى على ذلك الأصل قوله. وفيه غيره على سمت ما كنا بصدده، وذلك أنه إذا رضى عنه فقد أقبل عليه فكأنه قال. إذا أقبلت على بنو قشير» وهو غور من أنحاء العربية ظريف ولطيف ومصون وبطين (1).
وبعد: فهذا ابن جنى فى كتاب المحتسب، وذلك مبلغ تأثره بأبى على سلبا وإيجابا، ويعد الكتاب فى جملته وعلى نحو ما أثرا من آثار أبى على، وسيرا فى طريق الاحتجاج الذى سار فيه الشيخ من قبل فى كتابه الحجة، بل إن ابن جنى كان مدفوعا كما بينت فى صدر هذا الفصل إلى التأليف فيه بما خطر لأبى على فى نفسه، وهجس به خاطره، وقد رأينا أوجه التخالف البعيدة بينه وبين شيخه، وما تخالف فيه هو والشيخ بمقدار، كما عرضت لأوجه التشابه بينهما.
وإن كان لا بد فى خاتمة هذا الفصل من كلمة مجملة تختصر ما بين الرجلين من توافق وتخالف فى الاحتجاج فاليك هذا الحديث: (2).
واضح أن ابن جنى يحتج للشواذ، أما أبو على فإنه يحتج لقراءات الأئمة السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد. وقد تكفل أبو بكر بن مجاهد فى كتاب القراءات بايراد أوجه الاختلاف مسندة إلى أصحابها، أما ابن جنى فانه بحث هذه الأوجه وساقها هو دليلا على جهده.
وقد رأينا ابن جنى لا تنثال عليه الشواهد كما تنثال على أستاذه ولعل لطبعة البحثين أثرا فى ذلك، ثم إن لهجات القبائل ظهرت فى كتاب المحتسب على صورة أوسع من ظهورها فى كتاب الحجة، ويقابل هذا أن المتن اللغوى عند أبى على ظهر واضحا فى احتجاجه، دعاه إليه فيما دعاه حبه للاستطراد.
__________
(1) 1/ 32.
(2) كل ظاهرة من هذه الظواهر من توافق أو تخالف عللت لها من قبل والمقام هنا مقام جمع لما مضى من غير تعليل أو تدليل.(1/386)
وقد رأينا كيف كان ابن جنى يستهدى الروح البلاغى فى التأويل، ويتجه إلى المعانى النفسية فى الاحتجاج، كما كان يستهدى الحس اللغوى وبهذا شاعت الروح الأدبية فى كتاب المحتسب، وإنك لتلقى فيه دماثة الأسلوب ووضوح العبارة، وتحامى الغموض والإملال، والتخفف من المنطق، والبعد عن الاستطراد، والإطالة والتشعب. وتجافى الامعان فى التعليل، والاسهاب فى الاستشهاد، مما يجعل كل أولئك شواهد مميزة لابن جنى تخالف فيها مع أستاذه أبى على.
وقد رأينا قبل كيف كان ابن جنى يهاجم ابن مجاهد فى أغلب ما شذذ من القراءات، على غير موقف الشيخ فى ذلك.
كما تعرضت لموقفه من رسم المصحف والاستشهاد به، وشىء آخر يطهر عند ابن جنى ذلك هو الاستشهاد بشعر المولدين فى المعانى (1)، وظهور مسائل الخلاف بين النحاة البصريين والكوفيين على صورة باهتة، لا كما تظهر فى كتاب الحجة.
ومرد أغلب هذه الفروق أن ابن جنى لحظ تجافى القراء عن الحجة بما فيه من إملال واستطراد وتعمق، وإمعان فى النظر فأراد أن يتحامى ذلك كله، وأن بتخفيف فيما لا بد منه فجاء كتابه على هذه الصورة التى تقربه إلى النفوس.
وغنى عن البيان إذا ما أردت التحدث فى التوافق الذى كان بين الشيخين أن أقول:
إن ابن جنى استعان بكثير من أصول شيخه ومسائله، ثم زاد هو عليها بالتعليق والصياغة والتحقيق: يحدث عنه، ويعتمد عليه فى التدليل، كما يعتمد عليه فى التفسير اللغوى، ويسلك مسلكه فى تقديره سيبويه، والدفاع عنه فى إيمان، ومهاجمته القراء فى عنف وامعان، ويستغل العروض كأستاذه فى التدليل والاحتجاج على فرق بين الرجلين كما سبق به البيان.
وجزى الله الرجلين كل خير، فقد احتجا للسبعة أو الشواذ دفاعا عن القرآن الكريم وحفاظا، عليه، واحتسابا للأجر الجزيل، والثواب العظيم
__________
(1) المحتسب: 1/ 161.(1/387)
الفصل الثانى (مكى ابن أبى طالب 437335هـ)
(ومدى تأثره بأبى على فى الاحتجاج) ولد أبو محمد مكى بن أبى طالب بن حموش القيسى بالقيروان سنة 335هـ (1)
وارتحل فى طلب العلم إلى مصر فعرض على عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون المصرى (2). سنة 378هـ (3). وألف مكى بعد وفاة أبى على كتابا فى القراءات السبع سنة احدى وتسعين وثلاثمائة، ألفه وهو بالمشرق، وسماه كتاب التبصرة فيما اختلف فيه القراء السبعة المشهورون (4) واعتمد فى أكثره على ما قرأ به على شيخه ابن غلبون (5). وأضرب فيه عن الحجج والعلل ومقاييس النحو (6). ووعد فى صدره أنه سيؤلف كتابا يذكر فيه كشف وجوه القراءات واختيار العلماء وأقاويل النحويين وأهل اللغة (7)، وكان أن وفى أبو محمد بما وعد، فألف فى أخريات عمره كتاب الكشف عن علل القراءات وحججها سنة أربع وعشرين وأربعمائة (8). وفرغ منه سنة خمس وثلاثين (9). قبل أن يتوفاه الله بعامين. واختصر مكى الحجة (10). فى كتاب سماه منتخب الحجة فى القراءات (11).
وقد قصدت قصدا إلى اقتباس هذه الحقائق من حياة مكى وعنيت بتاريخ هذا الجانب من نشاطه العلمى والنص عليه لأنه يمت إلى موضوع البحث بسبب وثيق.
فأولا لأن مكيا بتأليفه التبصرة قام بعمل يناظر فيه عمل ابن مجاهد فى كتابه المترجم بقراءات أهل الأمصار.
وثانيا أن كتاب الكشف فى جملته أثارة من علم أبى على، قفىّ فيه مكى قفو
__________
(1) طبقات القراء: 2/ 301.
(2) طبقات القراء: 1/ 471.
(3) التبصرة لوحة (2).
(4) الكشف 1/ 2.
(5) التبصرة لوحة 3.
(6) الكشف: 1/ 2.
(7) التبصرة: 2.
(8) الكشف: 2.
(9) انظر الكشف: 2/ 493.
(10) كشف الظنون: 1/ 214.
(11) معجم الأدباء: 19/ 119.(1/388)
الشيخ، فهو يكشف فيه عن علل القراءات وحججها، تلك القراءات التى أوردها فى التبصرة مضارعا بذلك الحجة لأبى على الذى شرح فيه سبعة ابن مجاهد. وقد قال فى صدر كتابه الكشف: «هذا كتاب فهم وعلم ودراية، وكتاب التبصرة كتاب نقل ورواية (1). تماما على الذى كان فى سبعة ابن مجاهد وحجة أبى على.
وثالثا إن عمل مكى فى التبصرة والكشف مظهر من مظاهر التنافس العلمى بين المشارقة والمغاربة فى ذلك الزمان، فاقامة الدرس حول الكشف بخاصة تتيح للباحث التعرف على أثر الحجة لأبى على ومداه، كما يستطيع بهذه الدراسة أن يتعرف على نزعة مكى فى الاحتجاج: أمن مدرسة الأثر هو؟ أم من مدرسة القياس والنظر؟
فيثبت بذلك قولة مكى عن كتاب الكشف أو ينفيها أو يقرها بمقدار.
ورابعا إن اختصار مكى كتاب الحجة يشير إلى تأثره بأبى على على نحو من الانحاء.
وقد ذكر مكى نهجة فى كتاب الكشف فقال: «وها أنا ذا حين أبدأ بذلك أذكر علل ما فى أبواب الأصول دون أن أعيد ذكر ما فى كل باب من الاختلاف، إذ ذاك منصوص فى الكتاب الذى هذا شرحه، وأرتب الكلام فى علل الأصول على السؤال والجواب. ثم إذا صرنا إلى فرش الحروف ذكرنا كل حرف ومن قرأ به، وعلة وحجة كل فريق، ثم أذكر اختيارى فى كل حرف، وأنبه على علة اختيارى لذلك، كما فعل من تقدمنا من أئمة المقرئين (2).
وأرى مكيا قد وفى بهذا المنهج، عقد أبوابا لعلل الاستعاذة (3). وعلل البسملة (4)، ثم عقد بابا لسورة الحمد (5). وهاء الكناية (6). والمد وعلله وأصوله (7). واختلاف القراء فى الهمز (8). وتحدث عن الوقف وعلله (9).
والروم والإشمام (10). وأصول الادغام والإظهار (11). كما عقد بابا فى جملة من مخارج الحروف (12). وعلل الفتح والامالة (13). وأحكام الراءات وعللها (14)
كل ذلك على طريق السؤال والجواب: كان يقول: قال أبو محمد فإن سأل سائل
__________
(1) الكشف لوحة رقم 2
(2) لوحة رقم 2.
(3) لوخة 2.
(4) لوحة 4.
(5) 8.
(6) 14.
(7) 16.
(8) 26، 30، 36، 44.
(9) 5440.
(10) 56.
(11) 62.
(12) 64.
(13) 1110.
(14) 102.(1/389)
عن كذا فالجواب كذا وأراه فصل بين هذه الأبواب وهى فى علل الأصول بالباب الذى عقده فى سورة الحمد (1) فذكر القراءات المختلفة فيها، وكان من حق هذا الباب أن يبدأ به حين يتحدث عن فرش الحروف الذى رتب الكلام فيه على سور القرآن (2).
وهذه الأصول التى تحدث فيها، ذاكرا عللها بعض ما يفترق فيه عن أبى على ونصه على أنه سيذكر اختياره فى كل حرف أمر يتخالف فيه مع أبى على، فلم ينص الشيخ فى الحجة على اختياره، وأرى مكيا قد تأثر فى ذلك بالطبرى، ولعله هو المشار إليه فى قول مكى: كما فعل من تقدمنا من أئمة المقرئين»
وفيما عدا ذلك يتأثر مكى بأبى على تأثرا ظاهرا، ويلقاك هذا التأثر لقاء مبكرا يلقاك حين يحتج للقراءات المختلفة فى سورة الحمد بصدر كتابه الكشف:
ألقى مكى بعد أن احتج للقراءتين مالك وملك يوم الدين السؤال الآتى:
فإن قيل: فما اختيارك فى ذلك؟ فالجواب أن القراءتين صحيحتان حسنتان، غير أن القراءة بغير ألف أقوى فى نفسى لما ذكرته من الحجج فى ذلك، ولما فيه من العموم، تقول: «كل ملك مالك، ولا تقل: كل مالك ملك، وإنما هو ذو ملك لا غير فملك أعم فى المدح، وأيضا: فإن أكثر القراء على، ملك، ومالك أيضا حسن قوى فى الرواية وقد روى أبو هريرة أن النبى (صلّى الله عليه وسلم) كان يقرأ مالك يوم الدين بألف، وكذلك روت أم سلمة: ولما روى الزهرى عن أنس أن النبى وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى بن كعب ومعاذ بن جبل، كانوا يقرءون مالك بألف. وكذلك روى أبو هريرة والحسن وابن مسعود وعلقمة والأسود وابن جبير وأبو رجاء والثقفى وابن سيرين وأبو عبد الرحمن السلمى ويحيى بن يعمر وغيرهم. وأيضا فإن مالكا بالألف هو اختيار أبى حاتم وأبى الطاهر وغيرهما. ومالك بغير ألف أقوى فى نفسى لما ذكرت لك (3).
__________
(1) 8
(2) انظر لوحة 112.
(3) الكشف رقم 8(1/390)
وذلك النص بعيد إلى الذهن ما حكاه أبو على فى الحجة عن ابن السراج من غير كبير اختلاف:
(ا) فمكى يرجح قراءة ملك كما رجحها ابن السراج من قبل فيما حكاه أبو على عنه.
(ب) وقول مكى: «تقول كل ملك مالك، ولا تقل كل مالك ملك» قالها قبله ابن السراج.
(ج) وقول: «أكثر قراءة العامة على ملك» يقابل حكاية أبى على: «القراءة بملك أعرض وأوسع».
(د) وقول مكى: «مالك حسن قوى فى الرواية» مأخوذ من قول ابن السراج معلقا على المختار لمالك:
«هذا الذى قلت حسن، ولولا هذا المعنى وما يؤيده، ما جازت القراءة به (1)».
أما ما زاده مكى فهو تلك الروايات المستندة إلى النبى، والتى قرأ بها أئمة القراء وأود ألا يفهم من تردد اسم ابن السراج فى النص السابق أن مكيا بعد عن التأثر بأبى على بنظره إلى ما قال ابن السراج. فمكى متأثر فى الجملة بأبى على كما بينت ذلك من قبل، ثم أن الذى حكى ما قال أبو بكر. هو أبو على، فصنيعه هذا هو الذى مكن مكيا من تأثر ما ورد فى الحجة لابن السراج. على أن لمكى نصوصا صريحة تهدى المقابلة بينها وبين نصوص أبى على إلى أن مكيا تأثر بالشيخ واعتمد عليه.
فماذا قال أبو على؟ وماذا قال مكى؟.
قال أبو على: «حجة من صرف سلاسلا وقوارير» (2). فى الوصل والوقف أمران:
أحدهما: أن أبا الحسن قال: «قد سمعنا من العرب من يصرف هذا، ويصرف جميع ما لا ينصرف، وقال هذا لغة الشعراء، لأنهم اضطروا إليه فى الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك، واحتملوا ذلك فى الشعر، لأنه يحتمل الزيادة كما يحتمل النقص فاحتملوا زيادة التنوين، فلما دخل التنوين دخل الصرف.
__________
(1) انظر الحجة، 1ا 4من مراد ملا.
(2) سورة الدهر آية 45، 15(1/391)
والأمر الآخر: أن هذه الجموع أشبهت الآحاد، لأنهم قد قالوا صواحبات يوصف فيما حكاه أبو الحسن وأبو عثمان، فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوه فى حكمها فصرفوها. قال أبو الحسن: «وكثير من العرب يقولون مواليات يريد الموالى»
وأنشد الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكسى الأبصار
فهذا كأنه جمع نواكس (1).
هذا ما قاله أبو على «فانظروا قول مكى: قوله «سلاسلا» قرأه نافع وأبو بكر وهشام والكسائى بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين وحجة من نونه حمله على لغة لبعض العرب، حكى الكسائى أن بعض العرب يصرفون كل ما لا ينصرف، قال أبو محمد: وأكثر ما ينصرف هذا وشبهه فى الشعر، فأما فى الكلام فهو قليل ومن صرفه فى الكلام فحجته أنه لما رأى هذه الجموع تشبه الآحاد، لأنها تجمع الآحاد قالوا: هؤلاء صواحبات يوسف، حكاه الأخفش والمازنى، وجاء ذلك فى لفظ النبى (صلّى الله عليه وسلم) وفى حديثه وحكى الأخفش: مواليات يريدون جمع الموالى وأنشد الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكسى الأبصار
يريد نواكس فجمع الجمع بالياء والنون، وحذف النون للاضافة، فلما أن جمعوا هذا الجمع كما يجمع الواحد أجروه مجرى الواحد فى الصرف والتنوين، وقوى ذلك لثبات الألف فيه فى الخط، ولأن الصرف والتنوين هو الأصل فى جميع الأسماء (2).
وهذا النص صريح فى اعتماد مكى على أبى على، ونقله عنه لا يحتاج إلى دليل ويبدو أن مكيا أراد أن يكون له شىء من الجهد، فلم يشأ أن ينقل من غير أن يتصرف فجاء تصرفه فى ذكر الأخفش والمازنى بلقبيهما، على حين أن أبا على ذكرهما بكنيتيهما!!، وفى اعتماده فى الاحتجاج على رسم المصحف، وفى الإشارة إلى الكسائى، وفى هذه الشروح التى علق بها على «نواكسى» فى بيت الفرزدق.
وكل ذلك تصرف ساذج، لا يزال مكى على الرغم منه مطويا بيمين
__________
(1) الحجة: 7/ 318.
(2) الكشف: 2/ 472:(1/392)
الشيخ أبى على. ومن الغريب أن أبا على يلتزم إسناد الأقوال إلى أصحابها، ويجيء مكى فيغفل ذلك، بل ينسب بعض كلام الأئمة إليه هو فقوله قال أبو محمد: وأكثر ما ينصرف هذا وشبهه فى الشعر» كلام أبى الحسن لا كلام أبى محمد!!
بعد هذا التأثر الواضح الذى هدتنى إليه المقابلة رأيت مكيا يومئ إيماء خفيا يوحى أنه تأثر بأبى على تأثرا سلبيا، بجانب هذا التأثر الإيجابى، فيتجنب ما كان من الشيخ من الإطالة والإملال والتقصير، وذلك حيث يقول فى خاتمة الكشف قد أتينا على شرطنا، واختصرنا الكلام فى العلل غاية ما قدرنا من غير أن نكون قد أخللنا بعلة، أو تركنا حجة مشهورة، وأوجزنا العلل خوف التطويل، واختصرنا ذكر قراءة التابعين ومن وافقهم لمن ذكرنا من القراء، لئلا يطول الكتاب فيعجز عن نسخه، ويحدث الملل فى قراءته (1).»
وموقف مكى هنا يشبه موقف ابن جنى فى المحتسب الذى اختصره متحاميا إغماض الشيخ فى كتابه الحجة واطالته (2).
هذا ورأيت مكيا ينزع منزع الكوفيين فى: (ا) الاحتجاج برسم الصحف فى كثرة ظاهرة (3). وفى (ب) ترجيح القراءات التى تتفق مع مذهبهم، رجح قراءة حاش الله بحذف الألف لأنها فعل، وأيضا لأن خط المصحف كذلك (4).
والكوفيون يقولون بفعلية حاشى (5).
واستناد مكى على الاسناد فى الاحتجاج (6) وقوله برسم المصحف يجعله مع السلفيين أهل النقل والأثر ولكنه يجنج أحيانا إلى تحكيم القياس النحوى، كتضعيفه «قراءة ابن عامر» «وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم» (7) وذكر أن العطف فى قراءة حمزة والأرحام، قبيح قليل فى الاستعمال بعيد فى القياس (8)
ومن عجب أن يقف مكى هذا الموقف، ولا يدفع عن حمزة، مع أنه يصفه بأن إمامته ظاهرة وثيقة مشهورة وسنده مستقيم (9). وليس من تفسير لذلك إلا أنه أراد أن
__________
(1) الكشف: 2/ 493.
(2) انظر المحتسب: 1/ 236، 288.
(3) انظر مثلا من الكشف اللوحات: 10، 50، 62، 385، 472.
(4) الكشف لوحة: 304.
(5) انظر الانصاف المسألة: 37والموفى على النحو الكوفى: 7574وشرح الأشمونى وحاشية الصبان: 2/ 314).
(6) انظر احتجاجه لقراءة مالك بالف.
(7) الكشف 1/ 254.
(8) انظر الكشف: 1/ 206.
(9) التبصرة: 11.(1/393)
يجعل الكشف كتاب فهم ودراية فجرى بذلك إلى حد ما وراء مقاييس النحاة كأبى على ومن لف لفه من أهل الرأى والقياس.
وبعد: فيجمل بى أن ألخص مدى تأثر مكى بأبى على:
كان مكى بتأليفه الكشف متأثرا فى الجملة بصنيع أبى على فى الحجة، ثم رأينا مكيا يسلك مسلك أبى على فى الاحتجاج، ويستغل ما حكاه الشيخ عن ابن السراج ويذكر تعليله، وينقل نصوصه، ورأيناه بعد ذلك يتحامى ما كان من الشيخ من الاطالة والاغماض، ويجرى وراءه بقدر فى تحكيم القياس.
كانت نزعة مكى السلفية فابعدته عن صاحبى، على أن مكيا فى بعده يلبس ثوبا يشف، ينبئك أن الكف أثاره من علم المشرقى الشيخ أبى على.
ولئن بدا أثر أبى على عند مكى على هذا النحو إنه ليبدو جليّا عند رجل آخر من رجالات أهل المغرب، ذلكم أبو عمرو الدانى (444هـ) موضع الحديث فيما يأتى فى توضيح وتفصيل.(1/394)
الفصل الثالث تأثر الدانى (1) (371هـ 444هـ) فى الموضح بأبى على (286هـ 377هـ)
توفى أبو على الفارسى وعثمان بن سعيد الدانى لم يتجاوز السادسة من عمره، ولكن الله يشاء أن يرث الدانى بعض ما وهب أبو على، فيتأثر به، وينهج نهجه، ثم تكون له طريقته فى تناول الدراسات القرآنية، ويمثل مدرسة يقدرها القراء حق قدرها من الإجلال والتبجيل.
ولست أريد أن أتحدث عن شيوخ الدانى الذين تأثر بهم بصفة عامة، وما منهم إلا له مقام معلوم فى التأليف والتمكن فى العربية وعلوم القرآن (2)، وفيهم خاله الذى ربطته به رحم العلم والقرابة المتقن العارف محمد بن يوسف مقرئ الناس بقرطبة، والذى كان معه نصيب وافر من علم العربية وعلم الفرائض والحساب (3).
لست أريد أن أتحدث عن هؤلاء الذين أورثوا الدانى ذلك العلم الباقى أثره ما حفظ الله القرآن على مر الزمان، فذلك أمر ليس فى الحساب الآن، وإنما حسابه فى ترجمة مفصلة للدانى يتعرف فيها على بيئته التى تقلب فيها، وشيوخه الذين أخذ عنهم، وأثر ذلك وغيره فى علم الدانى وانتاجه، وإنما أريد أن أتعرض لهؤلاء الشيوخ بما كان لهم من أثر عند الدانى فى نقطة واحدة، هى موضوعى الذى أتناوله بالبحث والبيان: هل هناك صلة بين هؤلاء الشيوخ واتجاه أبى عمرو إلى التأليف فى مذاهب القراء واختلافهم فى الفتح والامالة، والاحتجاج لهم، وهو ما تناوله كتابه المترجم «بالموضح»؟
الجواب عن ذلك السؤال ميسور إذا عرفنا مذهب شيوخ الدانى الذين أخذ عنهم وتلقى منهم: فطاهر بن عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون بن المبارك أبو الحسن الحلبى كان شيخا للدانى، وروى عنه الدانى القراءات عرضا وسماعا (4)، وقد صنف
__________
(1) ذكر خطأ تاريخ الوفاة فى دائرة المعارف الاسلامية مادة (الداني) 318هـ.
(2) طبقات القراء: 1أنظر ص 215، 271، 2: 193و 198.
(3) طبقات القراء 2/ 287.
(4) طبقات القراء 1/ 339.(1/395)
ابن غلبون فيما يقول أبو شامة مجلدة قصرها على حكم الامالة (1)، كذلك كان شيوخ الدانى «خلف بن إبراهيم بن خاقان، وعليه اعتمد الدانى فى قراءة ورش، وقال عنه: كان ضابطا لقراءة ورش متقنا لها (2)».
ومن شيوخ الدانى أيضا «محمد بن عبد الواحد بن على بن إبراهيم أبو الحسن البغدادى» وقد روى فيما يقول ابن الجزرى حرف نافع (3)، وقد كان ورش أحد رواته، وله مذهب فى الامالة ينفرد به، بل إن من الشيوخ الذين روى عنهم الدانى «الحسن بن سليمان بن الخير أبا على الانطاكى النافعى (4)» ولعل النسبة فى «النافعى» إلى نافع أحد القراء السبعة والذى روى عنه ورش، والأنطاكى على كل حال عرض على «أبى بكر الأذفوى»، وقد كان الأذفوى «منفردا بالامالة فى دهره فى قراءة نافع رواية ورش (5)، والذى غلط مكيا فى كتاب الامالة، فكتب مكى (6)
كتابه المسمى: «الانتصاف فى الرد على الأذفوى فيما زعم من تغليطه فى كتاب الامالة، وجعله فى ثلاثة أجزاء (7).
أولئكم شيوخ الدانى، وكلهم ضابط لقراءة نافع ورواية ورش، وبعضهم ألف فى الإمالة وتصدى لكبار القراء فى عصره بالتغليط والتفنيد. فليس عجيبا إذن أن ينهج الدانى نهج أساتذته فى الاهتمام بالامالة على وجه عام، وليس عجيبا أيضا أن نقرأ عن الدانى أنه ألف فيما ألف كتبا تتصل من قريب بهذا الموضوع. فله «ايجاز البيان فى قراءة ورش»، وكتاب التلخيص فى قراءة ورش، وكتاب التمهيد لاختلاف قراءة نافع، وكتاب الإمالات، وكتاب الراءات لورش، وكتاب الامالة (8)، وكتاب التعريف فى القراءات الشواذ، وهى رسالة فى مختلف القراءات التى افترق فيها تلاميذ نافع: إسحاق بن محمد، واسماعيل بن جعفر، وعيسى بن موسى، وعثمان بن سعيد المعروف بورش (9).
هذا مبلغ العلم بما ألف الدانى فيما يتصل نصا بالامالة أو يتعلق بها تعلقا قريبا،
__________
(1) ابراز المعاني لأبي شامة 152.
(2) طبقات القراء 1/ 271.
(3) طبقات القراء 2/ 193.
(4) المصدر السابق 1/ 215.
(5) طبقات القراء 2/ 198.
(6) هو مكى بن أبي طالب حموش القيسى ت 437 (صاحب الكشف عن علل القراءات وحججها والتبصرة والابانة وغيرها.
(7) معجم الأدباء 19/ 170.
(8) طبقات القراء 1/ 505.
(9) دائرة المعارف الاسلامية مادة الدني.(1/396)
وإذ كان قد أحصى ما ينيف على مائة تصنيف له فى أرجوزة من نظمه (1) وأنه كما كما يقول المقرى له مائة وعشرون مصنفا (2)، ولم نعرف إلا بعضا منها، فمن المحتمل جدا وقد عرفنا اهتمامه بقراءة ورش سميه أن يكون بعض هذا المجهول من كتبه كان فى الامالة من قريب أو بعيد، وإن كنت لا أقطع فى ذلك بوجه من اليقين.
ولم يذكر ابن الجزرى فيما ذكر من كتب الدانى «الموضح لمذاهب القراء واختلافهم فى الفتح والامالة (3)»، وإنما الذى ذكر كتاب الإمالات. فهل هذه كتب ثلاثة للدانى فى الامالة: الموضح، موضوع الحديث والامالة، والإمالات؟
أو أنها كتاب واحد أخذ هذه الأسماء، لكن ينفى الاحتمال الآخر أن ابن الجزرى ذكر الكتابين فقال: «له الإمالات فى مجلد، ثم ذكر الكتاب الآخر بقوله:
والامالة فى مجلد، وليس بين النص على الكتاب الأول والكتاب الآخر إلا سطر واحد فقط، وذلك ينفى جانب السهو والنسيان بالتكرار عند ابن الجزرى، كما يقوى أن كلا منهما: الامالة والإمالات كتاب مستقل عن الآخر، أنا أرجح أن أحدهما تعرض للامالة على صورة مختصرة خالية من العلل والاحتجاج، وجاء الآخر شارحا للأول ذاكرا العلل والأسباب والاحتجاج لمذاهب القراء، أقول بذلك، لأن هذا جرى عليه بعض العلماء القراء الذين عاصرهم الدانى: فهذا مكى يؤلف التبصرة، وقد أخلاها كما يقول من كثرة العلل، وجعله مجردا من الحجة (4)، ثم ألف كتاب الكشف عن وجوه ما ذكره فى كتاب التبصرة من القراءات والأصول (5).
ولعل الكتاب الذى تعرض للامالات فى صورة مفصلة هو الموضح الذى بين أيدينا الآن، ومن الغريب عدم ذكر ابن الجزرى له كما بينت مع أنه قد اعتمد عليه فى مواضع متعددة فى كتابه «النشر فى القراءات العشر (6)». وقد قابلت
__________
(1) المصدر السابق.
(2) نفح الطيب 1/ 386.
(3) انظر طبقات القراء 1/ 505.
(4) التبصرة مصور بدار الكتب ص 3.
(5) المصدر السابق ص 301والكتاب رقم 20103.
(6) انظر مثلا النشر 2/ 30و 35.(1/397)
بين نصين أوردهما ابن الجزرى فى النشر أحدهما ذكر أنه مأخوذ من الموضح، والآخر مأخوذ من كتاب الامالة للدانى، فوجدت أن النص الأول (1) يتفق مع ما هو موجود فى الموضح (2) الذى بين أيدينا فى لفظه ومعناه وترتيبه والنص الآخر (3) المأخوذ من الامالة لا يتفق هو وما ورد فى الموضح (4) إلا فى المعنى فقط ومع غير ترتيب.
ومما يرجح ما اتجهت اليه من تأويل: أن للدانى كتابا اسماء جامع البيان» عقد به فصلا للامالة، سار فيه على نهج كتاب الموضح، وأخلاه من الاحتجاج وذكر العلل والأسباب، وفى مواضع قليلة يذكر الاسناد (5) والاسناد ظاهرة فاشية فى الموضح كما سيرد بعد حين وأحيانا يذكر المروى من غير اسناد (6)
كما فى امالة ما زكى، فقد قال: وقد رويت امالته عن أبى (كذا) عن عاصم «والصحيح عن أبى بكر عن عاصم، وآخر الكلام على مذاهبهم فى فواتح السور إلى مواضعها (7)، تماما على الذى سار عليه فى كتاب الموضح على خلوه من الاحتجاج والاسناد.
وقد رسم أبو عمرو الدانى منهجه فى كتاب الموضح (8) فى مطلعه حيث يقول:
هذا كتاب أذكر فيه إن شاء الله تعالى مذاهب القراء السبعة (رحمهم الله) فى الفتح والامالة فى الأسماء والأفعال وغيرهما مما جاء الاختلاف فيه عنهم من الطرق المعروفة عند العلماء، والروايات المشهورة عند أهل الأداء، وأبين ذلك بمعانيه، وأشرحه بوجوهه، وأدل على جليه، وأنبه على خفيه، أرسمه أبوابا، وأرتبه فصولا، وأحصر جميع الوارد فى كتاب الله تعالى من كل باب وفصل، وآتى به مفرقا حرفا حرفا، وأصل ذلك بالاختلاف فيه، مع تلخيص ما ينطوى عليه من المعانى والوجوه والعلل والأسباب من قول الأكابر من القراء والمقرئين، والرؤساء من أهل اللغة والنحويين، من غير استغراق ولا إطناب، ولا اطالة ولا اكثار، لكى يعم نفعه الطالبين، ويقرب فائدته على الملتمسين (9)».
__________
(1) ينظر النشر 2/ 30.
(2) ينظر الموضح ص 3.
(3) انظر النشر 2/ 89.
(4) انظر الموضح 329.
(5) ورقة 140ب.
(6) انظر ورقة 131.
(7) ورقة 144.
(8) للكتاب نسختان فى المكتبة الازهرية رقم 103رقم 54 5980.
(9) ص 2وما بعدها.(1/398)
هذا هو المنهج الذى رسم، وسأعرض هذا المنهج عرضا سريعا، ذاكرا الخطوط العريضة ورءوس المسائل، حتى ألم بالكتاب إلماما خاطفا، وأتعرض لما بينه وبين أبى على من فروق بالتفصيل معللا لموقف كلّ من الشيخين فى كل تخالف.
وأسارع فأذكر أن الدانى وفى بما رسم، فقد ذكر بعد الافتتاح القول فى الفتح والامالة، وتحدث عن الأسباب الجالبة لها، وبين ما يمال وما لا يمال بأصوله وفروعه، ثم ذكر ما أمالته القراء من الأفعال الثلاثية التى من ذوات الواو، ثم بوب الألفاظ الممالة أبوابا، وجعلها أسماء وأفعالا وحروفا، وجعل لكل من هذه الأبواب أقساما، ولكل قسم وزنه الصرفى، وأحصى فيه جميع ما ورد من القرآن الكريم من هذا الوزن وعده عدا. وبدأ بالأسماء فذكر جميع ما اختلفت القراء فيه بالفتح والامالة منها بكل ما يحتاج اليه من العلل والمعانى، وذكر تحت هذا ما جاء الاختلاف فيه من الأسماء التى الراء فى آخرها مجرورة وقبلها ألف زائدة أو مبدلة وجعل ذلك عشرة أقسام:
القسم الأول: ما ورد فى كتاب الله تعالى من الأسماء التى الراء فى آخرها مجرورة وو قبلها ألف. وهذا القسم على وزن أفعال، وجميع الوارد من ذلك 44موضعا فى القرآن الكريم، عينها، وسمى السور الواردة فيها.
وبمثل هذا ينتقل إلى القسم الثانى، والأقسام التى تليه: ما ورد فى كتاب الله تعالى على وزن فعّال ويحصيه، وكذلك فعال، وفعّال، وفعال، وفعل، وفعّال، وفعلال، ومفعال، وأفعال تراه يذكر فى كل قسم من هذه الأقسام ألفاظه الواردة فى كتاب الله وسورها واختلاف القراء فى فتحها وفى امالتها، وعلة من فتح، وعلة من أمال، موثقا هذه المذاهب المختلفة بالأسانيد المتصلة من شيوخه.
ثم يعقد بابا آخر يذكر فيه الأسماء التى تلا الكسرات ألفاتهن، وقد قسم هذا الباب اثنى عشر قسما، وينتقل إلى باب الأسماء التى الألفات فى أواخرها علامات لتأنيثها وجعله خمسة أقسام. ثم باب الأسماء التى الألفات فيها منقلبات عن ياء أو واو وقسمه أحد عشر قسما. ثم عقد فصلا مستقلا ذكر فيه اختلاف القراء فى {«يََا وَيْلَتى ََ»}
(فى المائدة وهود والفرقان) ويا حسرتى فى الزمر، ويا أسفى فى يوسف (1).
__________
(1) ص 154.(1/399)
وهنا ينتقل إلى ما اختلفت القراء فيه بالفتح والامالة من الأفعال فيبدأ أولا يذكر الأفعال الماضية، وقدم منها ما اعتلت عينه وصحت لامه، ثم ما اعتلت لامه وصحت عينه، وجعل جميع ذلك أحد عشر قسما، ذكر كل قسم بوزنه ومثاله فى باب مفرد مع ذكر اختلافه وشرح علله. ثم انتقل إلى ذكر ما ورد فى كتاب الله تعالى من الأفعال المستقبلة التى فى أوائلها الزوائد الأربع «الياء والتاء والنون والهمزة» وقسمه عشرة أقسام، وعقد بابا لما جاء من الأفعال المستقبلة على وزن: «يفاعلون، وتفاعل، وفاعلوا «بالياء والنون وضمهما وكسر العين وهى راء. وبعد أن استوفى الكلام عن هذه الأقسام قال «فهذا جميع المختلف فيه بالفتح والامالة من الأفعال الماضية والمستقبلة، قد ذكرناه بعلله ووجوهه على طريق الاختصار، وليخف مأخذه، ويسهل حفظه، وأنا متبع ذلك ما بقى من أبواب الامالة، فيكون كتابنا جامعا لهذا الباب، ومفردا بهذا الفن، محيطا بجليه ومشهوره، محتويا على خفيه ونادره، فلا يحتاج لغيره من كتب القراء والمقرئين، وأهل اللغة والنحويين إن شاء الله تعالى (1).
وهكذا نراه يرسم المنهج فى ذلك الجزء الباقى من الكتاب، وهو منهج يختلف فى جوهره وفيما تناول من مسائل عن منهج أبى على، تلك المسائل التى تناولها بعد أبواب الأفعال حيث انتقل إلى الحروف، فذكر ما اختلف القراء فيه بالفتح والامالة فى حروف التهجى الواقعة فى فواتح السور، وقد أفاض فى ذلك افاضة كافية (2).
وفى أعقاب ذلك جمع مفردات بعض الرواة عن القراء وأهل الأداء، وجعل لكل راو بابا خاصا، وذلك قوله: «وقد بقى من الامالة أصول مطردة وحروف متفرقة، انفرد بها بعض الرواة عن القراء وأهل الأداء بغيرها، وأنا أفرد لكل راو بابا أجمع فيه ما انفرد بروايته من ذلك عن الامام الذى روى عنه على حسب روايتى وقراءتى إن شاء الله (3). وقد جعل هذا فى الأبواب الآتية:
اما روى الأعشى عن أبى بكر عن عاصم من الامالة سوى ما تقدم فى تضاعيف الأبواب السابقة (4).
ب ما روى نصير عن الكسائى (5).
__________
(1) ص 248.
(2) (من ص 265248).
(3) ص 265.
(4) ص 265.
(5) 269.(1/400)
ج ما رواه قتيبة بن مهران عن الكسائى من الامالة فيما انفرد به عنه (1).
د مذاهب القراء فى الوقف على المال (2).
هـ مذاهبهم فى الوقف على هاء التأنيث (3).
وحكم الوقف على الراءات المتطرفة (4).
وقد استوعب فى كل قسم من الأقسام التى أوردها تحت الأبواب المختلفة الأسماء والأفعال والحروف البيان عما التزمه من العناصر المختلفة: وزنا، واحصاء، وتوثيقا، وتعليلا، وتعيينا لقراءته، ولم أره تخلى عن الاحصاء إلا فى موضعين اثنين: ما جاء من لفظ الكافرين وكافرين بألف ولام وبغيرهما إذا كانا فى موضع نصب أو خفض (5)، وإلا فيما جاء من لفظ الناس مجرورا (6) وقد نبه هو على ذلك بقوله: «وهو كثير الدور، ومعرفته لا تشكل، فلذلك تركنا احصاء جميع الوارد منه.
كما أراه فرق الكلام على ما اختلفت القراء فيه بالفتح والامالة من الأفعال، فحشر ما أمالته القراء من الأفعال الثلاثية التى من ذوات الواو فى غير موضعه من الترتيب الذى التزمه.
وغير خاف أن استقلال أبى عمرو الدانى بتأليف كتاب فى الامالة، وما اجتمع لديه من روايات مختلفة لمذاهب القراء، وما اشتهر به من تعرف على الأسانيد، ورفعها إلى القراء الأئمة الأولين كل ذلك بعض ما جعله ينهج هذا المنهج الذى عرضت، وما كان الفارسى متجها إلى شىء من ذلك فى كتاب الحجة، فطبيعة العمل الذى تولاه كل من الشيخين هى التى أبرزت الاختلاف بين النهجين.
وقد كنت أتمنى أن لو كان الدانى بوب كتابه تبويبا ييسر التعرف على حكم الكلمات فى سورة من سور القرآن الكريم من حيث الفتح والامالة ومن أمالها ومن القراء، فما أشبه الموضح فى تبويبه بتاريخ الطبرى فى ترتيبه، فلو أننا أردنا التعرف على تاريخ خليفة من الخلفاء من تاريخ الطبرى لاستلزم ذلك قراءة سنوات متعددة نظفر فى كل سنة بخبر، كذلك الشأن مع الموضح: لو أردنا التعرف
__________
(1) ص 278.
(2) 289.
(3) 315.
(4) 359.
(5) ورقة 32.
(6) المصدر السابق.(1/401)
على الممال مثلا فى كلمات السورة الشريفة {«وَالشَّمْسِ وَضُحََاهََا»} ومذاهب القراء فى فتحها وإمالتها، والحجج التى أوردها الدانى فى ذلك لتوزع الجهد فى أبواب متعددة من الكتاب. ويظهر أن ابن القاصح (801هـ) برم بهذا المنهج فكتب «قرة العين فى الفتح والامالة وبين اللفظين» ورتب الكلام فى ذلك على حسب السور وترتيبها فى القرآن الكريم، وجعله كما يقول: لاخوانه المشتغلين بعلم القراءات ليستعينوا بمطالعتها على نقل الروايات (1).
وشىء آخر يلحظ على منهج الدانى: هو أن إدارة الكتاب على الأوزان جعله يدخل كلمات فى غير أوزانها مثال ذلك:
(هار) فقد وضعها تحت ما ورد فى كتاب الله تعالى على وزن فعل، واضطر إلى أن ينبه عليها بعد الانتهاء من ذلك القسم (2).
وانتقل بعد التعريف بكتاب الموضح الآن إلى الحديث عن مظاهر تأثر الدانى بأبى على:
* * *مظاهر تأثر أبى عمرو الدانى بأبى على الفارسى
يبعث على القول بتأثر الدانى بأبى على الفارسى أمور: فالرحلات كانت متبادلة بين المشارقة والمغاربة طالبين للعلم، ومتجرين، وحجاجا إلى بيت الله الحرام، وملتمسين الشفاعة بزيارة قبر الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وقد عقد صاحب نفح الطيب بابا عرف فيه ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق، عد منهم محمد بن خيرون (3)، وهو أستاذ الدانى (4)، كما كان منهم الدانى نفسه (5).
هذا إلى ما كان من التنافس العلمى بين هؤلاء وهؤلاء، على ما هو معروف متعالم بين العلماء والأدباء، وشىء آخر يؤكد هذا التأثر ذلك أستاذ الدانى «طاهر بن غلبون المصرى النحوى (6)»، الذى كتب الحجة لأبى على الفارسى (377هـ)
__________
(1) مخطوط برقم 77دار الكتب.
(2) ص 46وما بعدها.
(3) نفح الطيب 1/ 353.
(4) طبقات القراء 2/ 217.
(5) نفح الطيب 1/ 386.
(6) طبقات القراء 1/ 339.(1/402)
بخطه، فقد وجدت بظاهر نسخة (مراد ملا) ما نصه: «هذا الكتاب وهو الحجة لأبى على الفارسى فى أربعة أجزاء بخط طاهر بن غلبون المصرى النحوى، وكان هذا الرجل خبيرا بالقراءات وبالعربية، ويدرى ما يكتبه (1)»، وقد قرأ ابن غلبون بالبصرة (2)، قريبا من مقام أبى على، ولابن غلبون تعليقات على هوامش النسخة المذكورة فى صورة عناوين جانبية تدل على أنه كان يدرى ما يكتبه حقا (3)، بل له كذلك تصويبات يصحح بها ما أود الفارسى عن ابن مجاهد (4)».
وقد تعرض الفارسى لاختلاف القراء فى الامالة جملة، واحتج لهم فى موضعين من الجزء الأول (5)، فلعل ذلك وجه نظر ابن غلبون إلى التأليف فى الامالة، فقد صنف فيما يقول أبو شامة مجلدة قصرها على حكم الامالة (6)، ثم تلا عمل ابن غلبون احتجاج الدانى للامالة فى كتابه الموضح متأثرا بشيخه ودراساته التى اتصل فيها بأبى على الفارسى، هذه أدلة عامة لتأثر الدانى بأبى على، وللتعرف على أوجه تأثره تأثرا خاصا أسوق ما يأتى من مقارنات:
أولا قال أبو عمرو فى الاحتجاج لامالة الكسائى «حتى» (7):
فأما قوله «حتى» فى جميع القرآن فإنى قرأته فى مذهبه بالامالة يقصد رواية نصير على شيخه أبى الفتح وكذلك رويته عنه، ونص عليه،
وبالامالة فى كتابه الذى جمع فيه حروف الكسائى، وله فى امالته حجتان: احداهما أن الألف فيها لما وقعت رابعة وهو موضع يختص الياء أمالها. ألا ترى أن كل ألف وقعت رابعة فصاعدا من أى جنس كانت فإن الامالة تجوز فيها، وتكتب بالياء، فلذلك أمالها على التشبيه بما قد أميلت ألفه الواقعة فى هذا الموضوع من الأسماء والأفعال، ومن أجل ذلك كتبت بالياء أيضا.
والحجة الثانية. أنه شبهها بألف شتى، من حيث كانت آخر الكلمة، ولم تكن بدلا من ياء فلذلك أميلت، وكتبت بالياء كما أميلت ألف شتى، وكتبت بالياء على
__________
(1) انظر ظاهر النسخة ص 1.
(2) طبقات القراء 1/ 289.
(3) أنظر مثلا هذه العناوين فى ص 110، 112، 142مراد ملا.
(4) أنظر الحجة نسخة مراد ملا 1/ 118.
(5) ص 276262و 290284.
(6) ابراز المعاني 152.
(7) ص 278274.(1/403)
التشبيه بألف هذا الاسم المقصور ألا ترى أن من كلامهم أن يحملوا الشيء على حكم الشيء إذا أشبه فى بعض معانيه ووجوهه؟
ولعلك تلحظ معى كيف ظهر روح القياس عند الدانى متأثرا بطريقة أبى على فى الاحتجاج: فأميلت حتى على التشبيه بما قد أميلت ألفه الواقعة رابعة؟ وكتبت بالياء كما كتبت هذا الجنس أيضا.
ثانيا وشبهت حتى بألف شتى
من حيث كانت آخر الكلمة ولم تكن بدلا من ياء ثم اقرأ الاعتراض ورده فيما يأتى، وفيه دليل على تأثره بأبى على من حيث فهمه أسلوب سيبويه فى الكتاب كما رأينا من أبى على قبل (1).
فإن قال قائل: إن سيبويه قد منع من إمالتها: أى حتى: وحكى الفتح فيها فقال:
«ومما يميلون (2) ألفه حتى، وإما، وإلا، فرقوا بينهما وبين ألفات الأسماء نحو حبلى وعطشى. قيل هذا لا يلزم من ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن الكسائى قد ثبتت إمامته، واشتهرت عدالته، وقد حكى الامالة فيها كما رواه نصير عنه، وهو من الثقة والضبط بمنزلة لا يحملها أحد من علماء النقل للقراءة وغيرهم، وكذا سيبويه قد اشتهرت عدالته وانتشرت إمامته فى علم صناعته.
وإذا كان كذلك صح أن الذى روياه جميعا فيها صحيح، وكذلك قرأهما الكسائى، وجمعهما فى حرفه أعنى الفتح والامالة للدلالة على صحتهما.
والثانى: أن قول سيبويه هذا يحتمل التأويل، وجائز أن يكون أراد بقوله ومما لا يميلون ألفه حتى أى فى حال الكثرة، لأنه قد يستعمل مثل هذا فى كتابه كثيرا، من ذلك قوله: «ولا يميلون فراشا» يريد لا يميله الأكثر منهم، لأنه قد ذكر بعد ذلك امالته فقال: وقالوا: «هذا فراش» يعنى ممالا من أجل كسر أوله.
وكذا قال فى باب الهمزة: «وليس من كلام العرب أن تلتقى همزتان فيكون فيهما جميعا التحقيق «يعنى فى حال الكثرة، لأنه قد ذكر بعد ذلك عند ذكره مذهب ابن أبى إسحاق فى الجمع بين الهمزتين فقال: «وقد تكلم ببعض ذلك العرب».
__________
(1) انظر الفصل المعقود لذلك.
(2) (كذا) والتصحيح ومما لا يميلون بدليل السياق وما ورد فى الكتاب انظر ج 2.(1/404)
وإذا احتمل كلامه ما ذكرناه لم يجز أن يعترض به على رواية الكسائى وسماعه، إذ قوله لا يخالف ذلك على ما بيناه.
تعليق: ومن هذا الأسلوب فى التدليل والاحتجاج أشم ريح المنطق عند الدانى، سالكا فى ذلك مسلك أبى على، إلى ما يدل عليه أنه يفهم أسلوب سيبويه فى تعبيراته التى أورد فى الكتاب إلى جانب تقديره لسيبويه التقدير العظيم، وذلك من المظاهر البادية عند أبى على.
والثالث: وفى هذا الوجه يقول بالأولى والأجدر كما يقول أبو على:
أنه يجوز أن سيبويه لم تصل إليه الامالة فى «حتى» ولم يسمعها، فلذلك لم يذكرها إذ لا يجوز له أن يذكر عنهم إلا ما قد سمعه منهم أو وصل إليه من الثقات عنهم، ووصل ذلك إلى الكسائى وسمعه ممن تقوم عنده الحجة به من القراء والعرب فلذلك قرأ به. وإذا كان ذلك كانت الحجة بقول الكسائى دون قول سيبويه، وذلك أن الكسائى مثبت للامالة، لأنه علمها وسمعها، وسيبويه لم يعلمها، ولم يسمعها، على أن سيبويه قد صار إلى نحو ما احتججنا به للكسائى فى امالة «حتى»، وذلك أنه قال: «وقد قال قوم فأمالوا أشياء ليست فيها علة مما ذكرنا فيما مضى، وذلك قليل: سمعنا بعضهم يقول: «طلبنا، وطلبنا زيد كأنه شبه هذه الألف بألف حبلى حيث كانت آخر الكلام ولم يكن بدلا من ياء». قال أبو عمرو: «فاذا كانوا قد أمالوا ألف طلبنا وطلبنا زيد لما ذكره من شبهها بألف حبلى من حيث وقعت طرفا كشتى لا غير، وليس طلبنا ولا طلبنا على وزن حبلى، ولا مماثلا لها فى الحركة والسكون كانت امالتهم ألف «حتى» للتشبيه بألف شتى أولى وأحق، لأن حتى على وزن شتى ومماثلة لها فى الحركة والسكون فدل على صحة ما قلناه».
وبالله التوفيق (1).
وأراه فوق القول بالأولى والأحق كما يقول أبو على (2) ينهج نهجه فى التدليل بالمنطق (3). الذى تسلمك المقدمات فيه إلى نتائج تبنى عليها الأحكام.
__________
(1) الموضح ص 278.
(2) يرتقى أبو على فى التعليل إلى القول بالأولى إذا أراد أن يحتج للامالة أو عدمها: فقد يميل العرب كلمة لم تجتمع فيها من أسباب الإمالة ما اجتمع فى الكلمة التى يتعرض أبو على لتعليل إمالتها، ثم يرقى من ذلك إلى أن الإمالة أولى فى اللفظ القرآني الذى هو بصدد التعليل لامالته وكذلك يفعل فى التعليل لعدم الإمالة
(3) انظر الحجة 1/ 351، 361نسخة البلدية.(1/405)
ثالثا
أورد أبو على: اختلفوا فى قوله (عز وجل) «فى طغيانهم، وفى آذانهم»: قال أبو عمر الدورى ونصير بن يوسف النحوى: «كان الكسائى يميل الألف فى طغيانهم وآذانهم» وقال غيرهما: «كان يفتح». وقال أبو الحرث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائى لا يميل هذا وأشباهه» والباقون يفتحون. قال أبو على: (الطغيان مصدر طغا كالكفران والعدوان والرضوان». قال أبو على:
«وحكى أبو الحسن طغا يطغو» وقالوا يطغا (كذا) فى المضارع وفى التنزيل:
{«وَلََا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي»} (1)»، فألف طغا تكون منقلبة من الياء فمن قال طغيت، وعن الواو فيمن قال طغوت وقالوا تطغا (كذا) كما قالوا صفوت تصفى، ومحوت تمحى ففتحت العين فى المضارع للحلقى، وحكى بعضهم:
«طغيت تطغا» فتطغا على هذا مثل تغرق لا مثل تصغى ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول تطغا، وإن جعلته مضارع طغوت أو طغيت لم يجز ذلك فيه. فأما قوله «فأهلكوا بالطاغية فيحتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة أى بطغيانهم.
والآخر: أن يكون صفة كأنه بالريح الطاغية.
وقوله: كذبت ثمود بطغواها فالواو مبدولة من الياء، لأنه اسم مثل التقوى والدعوى والبغوى لأن اللغة التنزيل (كذا) وأحسبها لغة التنزيل الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه فى مواضع فأما لا تطغوا فلا دلالة فيها على الياء والواو.
وإن جعلت طغوى من لغة من قال طغوت كان الواو فيها من نفس الكلمة كالدعوى والعدوى، وحجة من أمال الطغيان هى أن الألف قد اكتنفها شيئان كل كل واحد منهما يجلب الامالة وهما الياء التى قبلها، والكسرة التى بعدها، فإذا كان كل واحد منهما على انفراده يوجب الامالة فى نحو السيال والضياح ومررت ببابه وبداره فإذا اجتمعا كانا أوجب للامالة.
فان قلت: «إن أول الكلمة حرف مستعل مضموم، وكل واحد من المستعلى والضم يمنع الإمالة فهلا منعاها هنا أيضا؟
فالقول: أن المستعلى لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أن قوما أمالوا نحو المناشيط لتراخى المستعلى عن الألف مع أن المستعلى بعد الألف، فإذا تراخى فى طغيان عنها بحرفين من أنه قبل الألف
__________
(1) سورة طه آية 81.(1/406)
كان أجدر بالامالة، ألا ترى أنهم قد أمالوا نحو ضعاف وقباب، ولم يميلوا نحو مراض وقراض لما كان المستعلى متأخرا عن الألف؟ وقالوا: بقادر وبطارد لما تقدم المستعلى الألف، ولم يميلوا فارق وفارض.
وأما فى آذانهم فجازت فيها الامالة كما جازت فى قوله مررت ببابه لمكان كسرة الاعراب، وهى فيه حسنة جائزة، والامالة فى طغيانهم أحسن (1).
هذا ما قال أبو على فى امالة {«فِي طُغْيََانِهِمْ»} {«وَفِي آذََانِهِمْ»} * فهل نظر إليه الدانى حين احتج فى الموضح لهذين الحرفين؟ وهل تأثر به فظهرت سمات احتجاج أبى على عنده؟ إليك نص أبى عمرو فى ذلك. لترى مدى التوافق والتخالف بين الشيخين:
قال: باب ذكر القسم الثانى: وهو ما ورد فى كتاب الله تعالى على وزن فعلان، بضم الفاء ولام الفعل نون أيضا: اعلم أن جميع الوارد من ذلك خمسة مواضع وهى بلفظ واحد فى البقرة، والأنعام، والأعراف، ويونس، والمؤمنين، فى طغيانهم قرأ هذه المواضع بالإمالة الكسائى أيضا فى غير رواية أبى الحرث وأبى موسى وأخلص الباقون فتحها: فأما قوله طغيانا فكلهم أخلص فتحه لكونه منصوبا إلا ما رواه أحمد بن جبير عن الكسائى أنه أماله لأجل الياء، لم يرو ذلك عنه أحد غيره، ولا عمل على ما رواه ولا أحد بما أداه.
فعلة من أمالها: أن الطغيان مصدر طغى يغطى الذى هو من الياء بدليل ظهوره فى قولهم طغيت جاء فعلان كالغفران والكفران، ومعناه العتو والتكبر، ومنه قوله تعالى: {«إِنََّا لَمََّا طَغَى الْمََاءُ»} أى علا.
وأما ما كانت الألف فيه زائدة فيها، وقد اكتنفه من قبلها ومن بعدها أمران كل واحد منهما يجلب الإمالة ويحسنها وهما الياء التى قبلها والكسرة التى بعدها، ألا ترى أنهم يقولون هذا شيبان وغيلان والسيال والضياح فيميلون الألف للياء التى قبلها، ويقولون مررت ببابه وبداره فيميلون الألف للكسرة التى بعدها حكى ذلك سيبويه عنهم. فإذا كان كل واحد من هذين يجلب الإمالة ويحسنها على الانفراد كانا إذا اجتمعتا لا شك أولى. فلهذا أمال ذلك الكسائى، ولم يراع الحرفين اللذين قبلهما وهما الطاء والغين وإن كان الأول منهما مضموما لأمرين:
أحدهما: بعدهما عن الألف لمجيء الياء بينها وبينها.
__________
(1) ورقة 255وما بعدها نسخة مراد ملا.(1/407)
والآخر: أنه منحدر عن المستعلى بالإمالة، والانحدار بعد الإصعاد لا يثقل كما قدمناه بل يخف.
ألا ترى أن سيبويه حكى عن قوم العرب أنهم أمالوا المناشط، لبعد الطاء عن الألف، فإذا جازت الإمالة هنا مع كون المستعلى متأخرا وهو متصعد إليه بعد الانحدار بالإمالة، والتصعد بعد الانحدار ثقيل كان جوازها فى طغيانهم أحرى، لأن المستعلى فيه متقدم، وهو منحدر عنه بالإمالة، والانحدار بعد التصعد خفيف (1).
وعلة من أمال فى آذاننا أنه نحا بالألف نحو الياء من أهل الكسرة التى بعدها، ليتجانس الصوت بهما فى السمع، ويخف على النطق، لكونه من وجه واحد (2).
أرأيت كيف قدم الدانى الأصل اللغوى فى الاحتجاج لمن أمال {«فِي طُغْيََانِهِمْ»}
كما قدم أبو على «ثم أرأيت كيف قايس كما قايس أبو على بين الطغيان والغفران والكفران مستعملا ألفاظه؟ ثم أرأيت كيف سلك مسلكه فى التعليل جملة، ثم كيف قال بالأولى كما قال أبو على؟ ثم أرأيته كيف أورد الاعتراض ورد.
وأجاب عنه فى قوله: فلهذا أمال الكسائى ولم يراع الحرفين اللذين قبلهما كما فعل أبو على ومستغلا الدانى كلام الفارسى فى قوله: فان قلت فالقول؟
واقرارا للحق، وانصافا لسيبويه أقول أن أبا على ينظر فى احتجاجه إلى ما أورد سيبويه فى باب الإمالة من كتابه، ولكن أبا على صادف بعض النقط هى بصناعة القراء أشبه وبمذاهبهم أشد وألصق، فلم يتعرض من أجل ذلك لها ولما يشبهها سيبويه فى الكتاب، مثل: درجات الإمالة ما بين متوسطة وشديدة.
وتفصيل القراء ومذاهبهم فى الممال من مثل:
(1) قراءة أبى عمرو رءوس الآى بين الكسر والفتح من سورة، طه، والنجم، وعبس، والضحى، والليل والشمس.
(2) إمالة عاصم فى رواية أبى بكر الراء والهمزة فى رأى، وفتحه الهمزة وأماله الراء إذا سقطت الألف لساكن.
__________
(1) حذفت هنا الأسانيد والاحصاء الوارد فى كتاب الله تعالى والأوزان.
(2) ص 56وما بعدها من الموضح.(1/408)
فاستقل أبو على بالاحتجاج لهذا وأشباهه (1) من مذاهب القراء غير ناظر إلى سيبويه إلا مقايسا على ما أورد فى مهارة عجيبة، وجاء الدنى فجرى وراء أبو على وسلك مسلكه فى التعليل، ووجد الطريق معبدة أمامه. عبدها أبو على باحتجاجه لما هو ألصق بمذاهب القراء، ولما هو أشبه بصناعتهم، فكان من أجل ذلك متأثرا به إلى مدى بعيد
فمن مسائل الإمالة التى كانت بصناعة القراء أشبه ولم يتعرض لها سيبويه فى الكتاب (2) وتعرض لها أبو على وتبعه الدانى: التعليل لدرجات الإمالة:
قال أبو على: فى إمالة بين بين. «وأما قصده أى نافع فى الإمالة بها نحو الياء وتوسطه فى ذلك، فلأنه كره أن يبالغ فى الانتحاء نحو الياء، فيصير كأنه عائد إلى الياء التى كرهوها حتى أبدلوا منها الألف، وهكذا ينبغى أن تكون الألف فى الإمالة (3).
وقال أبو عمرو الدانى: علة من قرأ التوراة بين اللفظين أنهم توسطوا فى الإمالة كراهة أن يبالغوا فى الانتحاء بها نحو الياء فيصيروا كالعائدين إلى الياء التى كرهوهما حتى أبدلوا منها الألف، وقد وجدوا من ذلك مندوحة مع الدلالة على الأصل (1).
واستعانة أبى عمرو بأبى على فى هذا النص، وسلوكه مسلكه فى التعليل كل ذلك ظاهر لا يحتاج إلى إشارة أو تدليل.
وأمضى بعد ذلك فى تجلية مظاهر التأثر.
* * * (رابعا) فى الاحتجاج لأبى عمرو ومذهبه فى رءوس الآى:
أورد أبو على قول ابن مجاهد: «وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآى بين الكسر والفتح مثل آيات سورة طه، والنجم، وعبس، والضحى، والليل، والشمس وضحاها، ودحاها، وطحاها، فاذا لم تكن رأس آية فتح.
__________
(1) وإن كان قد أورد الأصل الذى بنى عليه أبو على احتجاجه.
(2) الحجة 1/ 351نسخة البلدية وانظر 2/ 263أيضا.
(3) ص 156وما بعدها من الموضح.(1/409)
قال أبو على: إنما أمال الألفات فى رءوس الآى، لأن الفواصل بمنزلة القوافى، فى أنها مواضع وقوف، كما أن أواخر البيوت كذلك، وقد فصلوا بين الوصل والوقف فأمالوا إذا وقفوا، ولم يميلوا إذا وصلوا، ذلك قولهم فى الوقف يريد أن يضربها، ومنا، ومنها، وبنا، ونحو ذلك، فإذا وصلوا نصبوا فقالوا:
«يريد أن يضربها زيد، وأن يضربا زيدا، ومنا زيد» وإنما حملهم على هذا الفصل بين الوقف والوصل أنهم أرادوا فى الوقف تبين الألف، فكما بينوها بأن قلبوا من الألف الياء فى نحو هذه أفعى يا. كذلك بينوها بأن نحوا بها نحو الياء. فإذا وصل ترك الإمالة كما يترك ابدال الياء منها، فيقول: «هذه أفعا فاعلم. لأن الألف فى الوصل أبين منها فى الوقف، فعلى هذا فصل أبو عمرو بين رءوس الآى وغيرها فأما تسويته بين ضحاها وطحاها فليشاكل بينها فى اللفظ، لأن الفواصل كالقوافى فاستحب الملاءمة بين بعض الفواصل وبعض كما استحبوا ذلك فى القوافى (1)
ويقول فى موضع آخر، أواخر الآى موضع وقوف والوقف رأينا قد أوجب إعلالا فى الموقوف عليه، وتغيرا عما عليه فى الوصل ألا ترى أنهم قد:
اأبدلوا من التاء الهاء فى نحو رحمه؟
ب ومن الألف الياء أو الواو فى نحو أفعى وأفعو؟
ج وزادوا فيه فى نحو هذا فرج، وهو يجعل؟
د ونقصوا منه فى نحو «وبعض القوم يخلق ثم لا يفر»؟
فكما غير مواضع الوقف بهذا النحو من التغيير كذلك غيرت الألف بأن نحى بها نحو الياء، وكان ذلك حسنا، إذ أبدلوا من الألف الياء فى الوقف فى نحو قوله أفعى، فكذلك قربوا الألف منها (2) اهـ.
فهل جاء لأبى عمرو الدانى نحو هذا الكلام؟ اقرأ قوله:
«اختلفوا فى قوله: دحاها فى: والنازعات. وتلاها وضحاها فى: والشمس.
وسجا فى: والضحى. فقرأها الكسائى بالإمالة الخالصة فعلة الكسائى فى إمالتها أنها لما كانت رءوس آيات، وقد أميلت الألف فيما قبلها وما بعدها من الفواصل ليستوى اللفظ بالإمالة فى جميعهن فيخف فى النطق ويحسن فى السمع. ويقوى مذهبه
__________
(1) ورقة 32و 43من الموضح النسخة القديمة.
(2) الحجة 1/ 268نسخة مراد ملا.(1/410)
أن رءوس الآيات كالقوافى من حيث كانت كلها فواصل فكما أن التسوية بين القوافى فى اللفظ مراعى ومستحب كذلك ينبغى أن يكون فى رءوس الآيات فكذلك أمالها ليشاكل بينها فى اللفظ وبين ما قبلها وما بعدها من رءوس الآيات الممالة (1).
وهكذا يسلك سبيل أبى على فى التدليل بمسائل القافية ثم انظر كيف ينقل تدليله السابق فى أن الوقف موضع تغيير؟ وإن كان قد اختلف مع الفارسى فى التمثيل بعضه لا كله.
قال أبو عمرو:
قرأ يريد أبا عمرو وورش رءوس الآيات بين اللفظين، لأن رءوس الآيات موضع وقوف. والتغيير فى الوقوف أكثر، ألا ترى أنهم قد ألزموا الموقوف عليه تغييرا عما هو عليه فى الوصل؟ من ذلك:
اأنهم أبدلوا من التنوين الذى يصحب المنصوب ألفا فى الوقف نحو قوله:
وكان ربك قديرا
ب وأبدلوا من النون الساكنة التى تصحب الفعل ألفا فى الوقف أيضا نحو وليكونا ولنسفعا.
ج وأبدلوا فيه من التاء هاء فى نحو نعمه، ورحمه، وحبه، وشبهه (نص مثال أبى على).
د وزادوا فيه الهاء فى نحو كتابيه.
وحكى سيبويه عنهم أنهم يقولون فى الوقف هذه أفعى، فيبدلون من ألف أفعل ياء فيه للبيان فكما غير الوقف بهذا النحو من التغيير كذلك غير أبو عمرو وورش من هذه الألف بأن نحوا بها نحو الياء قليلا ثم ذكر الدانى كلام أبى على فى أن الألف فى الأصل أبين منها فى الوقف (2) (3).
ونرى الدانى فى تعليله لمذهب أبى عمرو فى إمالة رءوس الآي لم يصرح كما صرح أبو على بأن الفواصل بمنزلة القوافى فى أنها موضع وقوف، كما أن أواخر البيوت كذلك (4) ولكن ربط أبو على بين الفواصل والقوافى مكن الدانى على ما يبدو من استغلاله فى موضع آخر فى التعليل لعدم إمالة حمزة ذوات الواو فى:
__________
(1) الحجة 1/ 288نسخة مراد ملا.
(2) الموضح ورقة 27النسخة القديمة.
(3) الموضح ورقة 48من النسخة القديمة.
(4) ينظر نص أبى على فى ذلك.(1/411)
سجا وطحاها وتلاها إذ يقول الدانى فى ذلك: «ويؤيد حمزة أن رءوس الآيات لما كانت كحرف الروى وهى التى يبنى عليها القصيدة من حيث كانت كلها فواصل، وكانوا قد خالفوا بين حركات حرف الروى، فرفعوه وجروه فى القصيدة الواحدة، كقول النابغة:
زعم البوارج أن رحلتنا غدا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان ترحال الأحبة فى غد
فرفع الدال فى البيت، وجرها فى الثانى فى نظائر لذلك جاءت فى أشعار المتقدمين من الفصحاء. وقال الأخفش: «ما من شاعر فحل إلا وقد أقوى» يعنى أنه جمع الرفع والجر، وبين غيرهما فى القصيدة الواحدة، وكثر ذلك فى أشعارهم، كذلك يجوز أيضا أن نخالف بين لفظ الألفات فى رءوس الآيات فى السورة الواحدة فيمال بعضها. فدل ذلك على صحة ما ذهب إليه حمزة فى ذلك.
وهذا كلام غريب من أبى عمرو الدانى أن يجعل رءوس الآيات كحرف الروى ويبنى على ذلك احتجاجه لحمزة فى مذهبه فى التخالف بين لفظ الألفات فى رءوس الآيات فى السورة الواحدة، وإن كان مقبولا من أبى على النحوى فلا يقبل من المقرئ الدانى، فاتباع الأثر والنقل عن الأئمة هنا أظهر من القياس على حروف الروى، وكان يجب أن يقتصر الدانى عليه ولا يزيد، ولكنه فى ذلك يجرى وراء أبى على إلى أبعد الحدود.
* * * (خامسا) وذلك عندى أقوى الأدلة على تأثر الدانى بأبى على
وإليك البيان.
قال أبو على: «فى إمالة عاصم فى رواية أبى بكر الراء والهمزة فى رأى وفتحه الهمزة الراء إذا سقطت الألف لساكن لقيها». (وتلك المسائل التى كانت بصناعة القراء ألصق) قال: «ولما فصله عاصم من إمالة فتحة الراء مع تفخيمه فتحة الهمزة وجه ظاهر، وقياس صحيح وذلك أنهم قالوا: «رحمه الله» فكسروا الراء لكسرة حرف الحلق الذى هو العين، ثم أسكنوا الحاء فبقيت الكسرة على حالها فى الراء ولم يردوها إلى الفتحة التى كانت الأصل فى فعل، فكذلك بقى فى رأى إمالة فتحة الهمزة. ومما يثبت ذلك قوله: «وإن شهد أجدى فضله وجداوله»(1/412)
ومما يقوى ذلك قولهم صعق، ثم نسبوا إليه فقالوا: «صعقى، فقدروا كسرة الصاد «وإن كانت كسرة العين التى لها كسرة الصاد قد زالت (1)»
فماذا قال الدانى؟ اسمع ما يكاد يكون بحروف الفارسى:
قال: «ومما يؤيد مذهب من أمال فتحة الراء دون فتحة الهمزة قولهم: نعم الرجل، ورحمه الله، فكسروا النون والراء لكسرة حرف الحلق الذى هو العين والحاء ثم سكنوا العين والحاء، فقالوا. نعم الرجل ورحمه الله، فبقوا النون والراء على كسرتهما، ولم يردوها إلى الفتح التى كانت الأصل فى فعل قال الشاعر:
«وإن شهد أجدى فضله ونوافله»
فبقى كسرة الشين مع تسكينه الهاء التى من أجل كسرتها كان كسر الشين فكذلك من أمال فتحة الراء وفخم فتحة الهمزة وإن كان أمالها من أجلها فبقى إمالتها مع ذهاب إمالة فتحة الهمزة كما فعل أولئك سواء، ويؤيد ذلك أيضا قولهم: «صعق» ثم نسبوه فقالوا: «صعقى» فأقروا كسرة الصاد، وإن كانت كسرة العين التى لها كسرة الصاد قد زالت (2).
أرأيت كيف ينقل من أبى على نصه، ولا يزيد إلا زيادة لا تعد بما يشرح أو يمثل كما فى نعم أو بما يورد من رواية أخرى فى شاهد أبى على؟
ولعلك قد اقتنعت معى بتأثر الدانى بأبى على إلى مدى بعيد. وأود هنا أن أنبه إلى أن هذا التأثر بدا واضحا بكتاب الحجة بدليل أن أبا على قد أورد احتجاجا آخر لإمالة الراء فى رأى القمر فى المسائل الحلبيات (3)، ولكن بألفاظ وأسلوب يختلف عن أسلوبه فى الحجة، مما قدم على أن الدانى تأثر بالحجة ولم يتأثر بالمسائل الحلبيات، لما بينت فى صدر هذا الفصل، وملاك الأمر فى ذلك جريه وراء أستاذه ابن غلبون على النحو الذى فصلت.
وشىء آخر أود أن أشير إليه وأعلل له: ذلك أن الدانى كان أمينا فى ايراده الأقوال، وروايته عن الأئمة السابقين فى دقة وصدق، فلم لم ينسب ما نقل من أبى على إليه، ويعترف له بالفضل عليه؟ لقد نسب الدانى إلى الخليل كما نسب إلى سيبويه (4) وهما يفوقان أبا على شهرة وفوقا وسبقا، كما نسب إلى أبى عبيد القاسم
__________
(1) الحجة ورقة 272نسخة مراد ملا.
(2) الموضح 190.
(3) ورقة 9مخطوط 5نحوش.
(4) الموضح 210.(1/413)
ابن سلام، بل كان هذا الطابع العام للدانى فيما أورد من نقول: فكيف أغفل ذكر أبى على وهذا اعتماده الظاهر عليه فى الاحتجاج قد فصلته تفصيلا؟!
تجمع لدى من الأسباب ما تمكنت به من الاجابة عن هذا الاتجاه من الدانى نحو الفارسى.
فأولا: أبو على يهاجم (1) رسم المصحف مهاجمة بدت فى كثير ما أورد، ورسم المصحف العثمانى أثير عند الدانى عزيز عليه (2)، ذلكم بعض ما نأى بالدانى عن الفارسى.
ثانيا: أبو على لا يقول بالأثر إلا إذا ضاقت عليه السبل، واستغلق القياس عليه (3) ومن هنا قال أبو على: «كره ابن عامر الامالة فى نحو هدى (4) الخ كأن الامالة هوى من أهواء النفس تحب فتؤتى، وتكره فتستبعد!! أو يقول ممعنا فى الجرى وراء القياس والبعد عن الاحتجاج بالرواية والنقل «ويجوز أن يكون رأى القراء ببعض ذلك ثم انتقل عنه إلى وجه آخر (5)» كأن القراءة بالرأى والنظر لا بالرواية والأثر. أو يقول: وما ذهب إليه الكسائى من ترك الفصل بين الفعل الذى قبله واو أو فاء وبين ما ليس قبله من ذلك شىء هو الوجه فى قياس العربية (6)، ويصف القراءة الموافقة للقياس بأنها حسنة وجميلة (7). وقد عرض الدانى بطريقة أبى على حيث يقول: «لم يمل الكسائى العذاب حيث وقع، والمحال فى الرعد، ومشارب فى يس، فتح هذه الثلاثة على الأصل، ولما صح عنده من الرواية فيها عن أئمته، فلذلك أتبعها، وترك القياس للدلالة على أن القراءة بالأثر المتبع، لا بالقياس المخترع (8)»،
وثالثا: أبو على وتلميذه ابن جنى، ومن قبلهما المازنى يهاجمون نافعا إمام أهل المدينة، وأحد القراء السبعة: قال أبو عثمان المازنى: «فأما قراءة من قرأ من أهل المدينة «معايش» بالهمزة فهى خطأ، فلا يلتفت إليها، وإنما أخذت عن نافع ابن أبى نعيم، ولم يكن يدرى ما العربية، وله أحرف يقرأها لحنا نحوا من هذا (9)».
__________
(1) يراد بالمهاجمة هنا البعد عن الأخذ به سببا من أسباب الاحتجاج. انظر «فصل ابن خالويه والفارسى».
(2) سأتعرض لذلك بالتفصيل.
(3) الحجة 1/ 286مراد ملا.
(4) الحجة 1/ 353نسخة البلدية.
(5) نسخة البلدية 1/ 360.
(6) الحجة 1/ 290 مراد ملا.
(7) الحجة 1/ 361، 382.
(8) الموضح: 28.
(9) المنصف 307.(1/414)
وقد يقال: «وما لأبى عمرو الدانى ونافع المدنى حتى يغضب من أجله؟».
فالقول: «أن نافعا إمام ورش وأستاذه، وقد عرفت بمكانة ورش عند الدانى والمغاربة أجمعين (1).
ورابعا: أبو على حنفى معتزلى شيعى وأهل الأندلس كما يقول المقدسى (2)
لا يعرفون إلا كتاب الله وموطأ مالك فإن ظهروا على حنفى أو شافعى نفوه، وإن عثروا على معتزلى أو شيعى ونحوهما ربما قتلوه «فهل ترى الدانى يشير إلى الفارسى بعد ذلك؟!!
هذه بعض الأسباب التى أراها وقفت بالدانى من أبى على حيث وقف، فلا يذكر اسمه فى كتابه، ولا يسند إليه ما نقل عنه، وما كان لأبى عمرو الدانى مندوحة فى ترك النقل عن أبى على جملة، ذلك لأنه قد اضطر إلى ذلك اضطرارا وبخاصة فى الاحتجاج لهذه المسائل التى كانت بمذاهب القراء أشبه، وبصناعتهم ألصق، فلم يجد الدانى ما يعتمد عليه عند سيبويه، فولى وجهه كارها على ما يبدو نحو أبى على، وكان ذلك عزيزا عليه!
* * * على أن جرى الدانى وراء أبى على كان من أثره أن:
(ا) أبعد الدانى إلى حد ما عن القول بالأثر الذى يعتز به وينتمى إليه.
(ب) وأنه نقل تعليل النحاة فى بعض ما أمال القراء، وبعض هذه التعليلات لا تصلح علة عند تطبيقها على مذاهب أهل الأداء (3).
وبعد فهذه النصوص المقارنة من كلام الشيخين يتبين مدى تأثر الدانى بأبى على، وألخص ذلك فيما يأتى:
أولا: أن الدانى ينزع منزع أبى على فى القياس.
ثانيا: وأنه يتشبه بأبى على فى فهمه وأسلوب سيبويه وتعبيراته.
ثالثا: وفى القول بالأولى والأجدر. وسلوكه مسلك أبى على فى التعليل.
رابعا: وفى استخدام العروض والقوافى فى التدليل.
__________
(1) انظر صدر الكلام فى هذا الفصل.
(2) أحسن التقاسيم 236.
(3) تفصيل ذلك فى الفصل الثامن من بحثى «القراءات واللهجات العربية الإمالة ص 166وما بعدها.(1/415)
خامسا: وأخيرا يورد نصوصا تكاد تكون نصوص أبى على فى ألفاظها واستشهاداتها.
ومن المهم أن أنبه إلى أن الدانى حين يتأثر بأبى على ويجرى فى سننه لا يخلع عنه ثوب التمسك بالأثر وهو ما سأتعرض لشرحه فيما بعد، ثم هو الطابع الذى امتاز به الدانى، والذى يفرده بشخصيته، فهو يضيف ذلك إلى ما يتأثر به من أبى على فى التدليل والاحتجاج والتعليل.
وأود أن أنبه كذلك إلى أن هذه النواحى التى تأثر بها الدانى لا تظهر عنده مجتمعة فى كل نص من نصوصه، بل يظهر بعض هذه التأثيرات حينا فى نص، ثم يظهر بعضها مع أخرى أو تستقل تلك بالظهور فى نص آخر، وهى على أى حال دليل على ما أذهب إليه من الرأى فى تأثر الدانى بأبى على.
* * * ثم أمضى بعد ذلك فى بيان ما كان بين الشيخين من تخالف، وهل جرى الدانى كتابه الموضح وراء الفارسى فى الحجة لا يحيد عن سبيله، أو كانت هناك دلائل على شخصيته فى البحث، جعلت له طابعا يشير إليه، ويدل عليه؟
ذلك ما ابينه فيما يأتى من فروق بين الرجلين ليتضح مدى تأثر الدانى بأبى على وإلى أى حد أثر الفارسى فيه:
فأولا: توثيق القراءة بذكر السند المتصل بالأئمة القراء:
وهى ظاهرة تطالعك فى كثرة غامرة من صفحات الموضح، وقد جرى الدانى فى ذلك على طريقة المحدّثين، يرفع القراءة التى قرأ بها على شيوخه إلى صاحبها من الأئمة السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، هذا المنهج الذى اصطنعه المحدثون لتوثيق النقل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) اصطنعه الدانى خاصة فى كتاب الموضح لتوثيق قراءته ورفعها بالسند المتصل إلى رسول الله (صلوات الله عليه وسلامه).
حقيقة ظهر هذا الاسناد عند السابقين للدانى، وكان منهم أبو على الفارسى نفسه (1) وقد كان هذا بعض ما يفترق به عن ابن خالويه، وأشرت إليه موازنا
__________
(1) انظر مثلا الحجة 1/ 380، و 382نسخة مراد ملا.(1/416)
بينهما (1)، ولكن الدانى حين يلتقى بأبى على فى هذا المنهج من حيث مبدأ الاسناد من جهة يفارقه فيه من جهة أخرى، ذلك أن أبا على الفارسى آخذ عن ابن مجاهد أخذا مباشرا، وابن مجاهد قد أورد السند عن القراء السبعة فى كتابه المترجم بالقراءات، والذى احتج له الفارسى فى كتابه الحجة (2)، وذلك سند قريب، بل يكفى أبا على لتصحيح السند وتوثيق القراءة أن يقتصر على ابن مجاهد ولا يتعداه، وكذلك فعل فى كثير من الأحيان (3)، ففي ذلك توثيق لما يذهب إليه، وما يحتج له. على أنه حينا يسوق سندا لا يتصل بأبى بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، كأن يحدثه سهل أبو عمرو عن أبى عمرو عن عاصم أو يخبره محمد بن الفرج عن محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع أو يخبره القاضى عن قالون عن نافع (4)، أما أبو عمرو الدانى فقد طالت سلسلته فى الإسناد، وتعددت طرقه، كما تعددت رواياته، بحكم ما بين الرجلين من زمن تعدد فيه المشتغلون بالقراءات والإقراء والتأليف فى الأمصار الإسلامية المختلفة التى أخذ فيها أبو عمرو الدانى عن شيوخها، أو عرض عليهم. ومن هنا كان ذكر هذه الأسناد فى اللفظ الواحد المختلف عليه برواياتها المختلفة، وطرقها المتعددة مظهرا من مظاهر ما يفترق فيه الدانى عن الفارسى ونهوضا بعبء ضخم، وداء لأمانه التوثيق، وحفاظا على القرآن فى دقة تأخذ بعجبك وإعجابك جميعا، وتروع المطلع على كتابه الموضح وتبهره. وقد تفشت هذه الظاهرة فى هذا الكتاب تفشيا تفرق بينه كذلك وبين أبى على ويطول حبل الكلام لو أردت الاستقصاء، وأرجع القارئ إلى الكتاب بعامة لا إلى صفحات منه خاصة لتطالعه مثل أخرى فى غزاره فاشية:
* * * ولو ذهبت ألتمس العلة التى من أجلها سلك الدانى هذا المسلك حتى عده ابن الجزرى أفضل من تعاطى ذلك. وحققه، وقيد شوارده ومطلقه (5) لاعتمدت من الأسباب اشتغال الرجل بالحديث، فقد كان له معرفة بالحديث (6)، وطرقه
__________
(1) انظر الفصل الخاص بذلك.
(2) الحجة ص 2ونسخة مراد.
(3) انظر مثلا 1/ 290284وقد تحريت أن تكون هذه الصفحات من التى تكلم فيها أبو على فى الإمالة.
(4) المصدر السابق 1/ 382.
(5) النشر 1/ 193.
(6) طبقات القراء 1/ 504.(1/417)
وإعرابه، وأسماء رجاله (1)، ونقلته (2)، وقد ظهر أثر ذلك فى إسناده الحديث الشريف: «نزل القرآن بالتفخيم» حيث قال: «وهو ما حدثنا محمد ابن أحمد بن على قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا محمد بن مقاتل قال: حدثنا عمارة بن عبد الملك قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز القرشى قاضى المدينة قال: حدثنا أبو الزناد عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «نزل القرآن بالتفخيم (3)»
وهذا الإسناد الدقيق بعض ما يمتاز به الدانى فى الموضح، وبعض ما يسمه بطابع يميزه عن غيره من الكتب التى أعلم أنها تعرضت للإمالة بخاصة. ويظهر أن الدانى كان مولعا بهذه الدقة فى التحديد حتى فيما يروى عن نفسه من تنقلات فى مختلف الأقطار، فقد حدث عن نفسه قائلا: بدأت أتلقى العلم سنة 385هـ فى الرابعة عشر من عمرى، ورحلت إلى المشرق فى يوم الأحد الثانى من المحرم سنة 397هـ وأنفقت فى مدينة القيروان أربعة أشهر، ودخلت مدينة القاهرة فى شوال من السنة نفسها ومكثت بها سنة (4) ورحلت من مصر عام (398هـ) إلى مكة والمدينة للقيام بفريضة الحج، وقد أمضيت الجانب الأكبر من هاتين السنتين فى الدرس والتحصيل، ثم عدت إلى قرطبة فى ذى القعدة من عام (399هـ) (5).
فرجل يروى هذه التنقلات فى هذه الدقة البادية فى تحديد اليوم بالاسم، وذكر تاريخه من الشهر، وموضع الشهر من السنة حتى كاد يصل فى ذلك إلى مستوى المذكرات اليومية التى يصطنعها الناس فى هذا الزمان، بل أن هذه المذكرات لا تزيد عما فعل الدانى شيئا رجل هذا شأنه ليس غريبا منه إن ترى له هذه الدقة واضحة فيما يتناوله من موضوعات، وما يتبعه من إسناد وبخاصة فى أمر يتصل بالقرآن الكريم حيث يعدون السند الصحيح ركنا من أركان القراءة (6)، ولا يزال القراء يحرصون على هذا الإسناد، ويأخذون طلابهم به، ويسجلونه فيما يمنحون من إجازات للقراءة حتى الآن (7).
__________
(1) نفح الطبيب 1/ 386.
(2) طبقات القراء 1/ 504.
(3) الموضح ورقة 32النسخة القديمة.
(4) نفح الطيب 1/ 386.
(5) دائرة المعارف الإسلاميّة مادة الدانى وطبقات القراء 1/ 505وانظر نفح الطيب 1/ 386.
(6) النشر 1/ 9.
(7) انظر سند الشيخ الضباع شيخ المقارئ المصرية حالا فى صدر النشر.(1/418)
ويظهر أن الرجل قد وهب الله له حافظة واعية، وضبطا متقنا حتى عد من أهل الحفظ والتحقيق، وكان يقول: «ما رأيت شيئا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته فنسيته (1)» وكان يسأل عن المسألة مما يتعلق بالآثام وكلام السلف فيردها بجميع ما فيها مسندة من شيوخه إلى قائلها (2)، وقد كان علو السند من الأمور التى يتهافت عليها المحدّثون، وكان شيخ الدانى محمد بن على عالى السند (3)، فتحقق الدانى بذلك ما تمناه يحيى بن معين (رحمه الله) وهو على فراش الموت:
قيل له: «ما تشتهى؟: فقال بيت خال، وإسناد عال!» وقال أحمد بن حنبل:
«الإسناد العالى سنة عمن سلف».
وأمر آخر يتعلق بالسند وشغف أبى عمرو بذكر الروايات المتعددة به: ذلك أنه يورد روايات متضاربة عن القارئ الواحد ولست أدرى، من حسنات الكتاب ذلك الاتجاه أم مما يواخذ الدانى عليه؟ هو حسن من حيث أنه يكشف لنا كيف كان الإمام من الأئمة السبعة يراوح فى قراءته بين الفتح مرة، والإمالة أخرى، وقد يمكننى من ذلك التعقيب على الدكتور إبراهيم أنيس حيث قال فى كتابه اللهجات العربية (4) بعد أن انتهى إلى أن القراء المميلين كوفيون.
«قد يبدو من الغريب أن نرى بين علماء الكوفة أمثال عاصم الذى توفى سنة 127هـ والذى أخذ عنه حفص تلك القراءة المشهورة الآن بالبلاد العربية (5)؟
والتى تكاد تخلو من الإمالة»
حقيقة أن المشهور عن عاصم من كتب القراءات أنه مقل فى الإمالة (6)، ولكن التتبع الدقيق لقراءة عاصم، وأسانيد راوييه عنه على حسب ما أورد الدانى يهدينا إلى شىء لم يشتهر به عاصم ولكنه روى عنه. يهدينا إلى أنه كان من المكثرين كثرة غامرة. فلم تقتصر إمالته فقط على «مجربها» فى رواية حفص عنه، ولا على رمى الأنفال، وأعمى فى موضعى سبحان فى رواية أبى بكر كما جاء فى التيسير للدانى، والشاطبية للشاطبى (7)، بل المروى غير ذلك، فقد روى الشمونى عن الأعشى عن أبى بكر عن عاصم إمالات أخرى تتبعتها فى كتاب الموضح للدانى وحصرتها (8)، فخرجت منها بنتيجة تخالف
__________
(1) نفح الطيب 1/ 386.
(2) طبقات القراء 1/ 504.
(3) طبقات 2/ 72.
(4) ص 42.
(5) هذا الاطلاق فيه نظر.
(6) انظر ص 2من قرة العين وورقة 120من شرح الجعبرى للحرز.
(7) انظر الإمالة فى التيسير والشاطبية.
(8) من الموضح انظر ص 35، 41، 43، 44، 46، 50، 51، 52، 67 70، 72، 315، 93، 143، 154، 126الخ.(1/419)
المشهور عن عاصم فى كتب القراء، ولكن هذه النتيجة على كل حال تفسر لنا التساؤل، وتزيل الغرابة التى بدت للدكتور، أنيس وتصحح اطراد ما هو معروف من أن الكوفيين مميلون (1).
فالروايات المتخالفة لها وجه الحسن لما ذكرت، وهى من ناحية أخرى تتركنا فى حيرة. من غير تعرف رأى واضح محدود: انظر التخالف الذى رواه الدانى فى باب ما ورد فى كتاب الله تعالى من الأسماء التى الراء فى آخرها مجرورة وقبلها ألف (2).
(1) حدثنا الفاسى عن شيوخه عن الأعشى عن أبى بكر عن عاصم أنه أمال الباب كله.
(2) وروى محمد بن خلف التيمى عن الأعشى الباب كله بين التفخيم والكسر
(3) وكذلك روى ضرار عن يحيى عن أبى بكر.
(4) وكذلك حدثنا ابن طالب عن شيوخه عن الأعشى عن أبى بكر عن عاصم.
(5) وحدثنا أبو الحسن شيخنا عن شيوخه عن الأعشى عن أبى بكر عن عاصم أنه لا يكسر شيئا.
(6) وروى لنا أبو الحسن شيخنا عن أصحابه عن الأعشى عن أبى بكر عن عاصم الإمالة فى الباب كله إلا ما كان فيه صاد.
ثم قال معينا قراءته: «والذى قرأت به فى رواية الأعشى من طريق محمد ابن حبيب الشمونى ومحمد بن غالب الصيرفى عنه عن أبى بكر بإخلاص الفتح.
* * * ولو أن الدانى استبعد الروايات الضعيفة أو نبه على رواية يرتضيها لكان قد فعل خيرا، ومن أقدر منه على ذلك وهو كما يقول ابن الجزرى له معرفة بالحديث وطرقه وأسماء رجاله ونقلته ولم يكن أحد يضاهيه فى عصره ولا بعد عصره بمدد فى حفظه وتحقيقه (3).
وإن كان فى قوله: «والذى قرأت به الخ ما بحدد بعض التحديد هذا الموقف المضطرب عن عاصم وتردده بين الفتح مرة، والكسرة أخرى، ويظهر
__________
(1) اللهجات العربية ص 43.
(2) الموضح 34وما بعدها.
(3) طبقات 1/ 504.(1/420)
أن الدانى قد تجنب هذا الاضطراب فى كتاب التيسير، فاستقر على رأى بعينه، وبه أخذ القراء، وأذاعه الشاطبى حين نظمه فى حرز الأمانى، ولا يزال عليه الناس حتى الآن.
على أنه أحيانا يعتمد على من اشتهروا بضعف الرواية، من هؤلاء هارون الذى ذكره فى الموضح (1)، وهو هارون بن حاتم كما جاء فى طبقات القراء (2)، وقال عنه ابن الجزرى فى ترجمته: «مقرئ مشهور ضعفوه وسئل عنه أبو حاتم فقال: «أسأل الله السلامة!!» وكنت انتظر من الدانى وهو العليم برجال الإسناد، وألف فى طبقات القراء أن ينبه على ذلك أو يترك الرواية عنه. ومما يتصل بذلك الفرق
ثانيا: تعيين قراءته التى قرأ بها على شيوخه:
افى صراحة مفصلة كأن يقول: «أقرأنى ابن غلبون لورش ما كان» على وزن فعلى براء: بشرى: أو وقع رأس آية، ولم يتصل بها ضمير المؤنث بين اللفظين، وما عدا ذلك بإخلاص الفتح (3)».
ب مجملة: كأن يقول يقول: «وأنا أفرد لكل راو بابا أجمع فيه ما انفرد بروايته من ذلك الإمام الذى روى عنه على حسب روايتى وقراءتى (4)».
ج أو فى إشارة دالة: كأن يقول: فأما قولهم: «طغيانا» فكلهم أخلص فتحه لكونه منصوبا إلا ما رواه أحمد بن جبير عن الكسائى أنه أماله لأجل الياء.
لم يرو ذلك عنه أحد غيره، ولا عمل على ما رواه (5).
ثم رأيته يتبع قراءته بالتعليل لها والاحتجاج.
وقد رأينا أبا على الفارسى لا يفصح عن قراءته، ولا يدل على الإمام الذى سلك سبيله. على أننى استنتجت ذلك استنتاجا (6) بالقدر الذى أعانتني عليه النصوص، وأسعفتنى به الاشارات التى جمعتها من هنا وهناك فى نقص شديد، وعسر جهيد.
وكان مسلك الشيخين فى تعيين قراءته أو عدم تعيينها طبيعيا، فأبو عمرو الدانى يروى عن شيوخه الذين أقرءوه، وأخذ عنهم، وعرض عليهم بجانب الحديث عن
__________
(1) ص 30.
(2) 2/ 345.
(3) الموضح 130.
(4) 365.
(5) ص 57.
(6) يراجع الفصل الخاص بذلك.(1/421)
مذهب القراء والاحتجاج لهم. أما أبو على فكانت مهمته الأولى فى الاحتجاج للقراء الذين وردت قراءتهم فى كتاب ابن مجاهد، وإذن لم تكن المهمة فى أساسها بيان ما تلقى هو أو عرض كما كان ذلك شأن الدانى فى كتاب الموضح.
وقد وقف كل من الرجلين موقفا يخالف موقف الآخر من القراءات التى تتخالف هى ومذهبه قارئا أو نحويا: فالدانى معترف بها. لا يمنع من صحتها، لصحة الرواية بها، وثقة من نقلها (1). على حين رأينا من قبل موقف أبى على من القراءات التى تتفق ومذهبه النحوى فيصفها بأنها قبيحة (2) أو أنها (3) ضعيفة على النحو الذى تعرضت له فى تفصيل مقدرا مذهبه فيه فى ذلك، ومذهب من لف لفه من النحاة البصريين.
ومن التخالف بين الرجلين.
ثالثا: اهتمام الدانى بمذهب ورش والتعليل له:
ومما يتصل بالحديث عن تعيين الدانى لمذهبه والاحتجاج له عنايته بمذهب ورش، وذلك يبدو فى ميله إلى آرائه، وترجيح مذهبه على مذهب غيره من الأئمة القراء، فمن المعروف عند أهل الأداء أن أصل حمزة والكسائى الإمالة الكبرى، وأصل ورش الصغرى وأن أبا عمرو متردد بين الأصلين (4). ومن هنا نرى الدانى فى كتابه الموضح يحكى هذه الأوجه الثلاثة الفتح المتوسط، والإمالة المتوسطة، والإمالة المحضة، ثم يناقش أى هذه الثلاثة أوجه من طريق النظير، وأولى من جهة القياس، فيروى آراء العلماء من قبله، وأن منهم من يختار الفتح، ويذكر سبب هذا الاختيار، ومنهم من يختار الإمالة الخالصة ويعلل له، ومنهم من يختار الإمالة الصغرى الإمالة المتوسطة التى هى بين بين، وذلك مذهب ورش أستاذه، ثم يفصل هذه الأخيرة، ويدلل عليها.
ومن المهم أن أذكر أن أبا على الفارسى قد ألم بهذه المسألة إلماما عابرا، وذكر رأيه فيها ولكن دون حماسة ظاهرة كالتى كانت عند الدانى. كل ما قاله أبو على:
«أما قصده فى الإمالة نحو الياء وتوسطه فى ذلك فلأنه كره أن يبالغ فى
__________
(1) ص 269.
(2) الحجة 4/ 109.
(3) الحجة 3/ 229.
(4) ورقة 120شرح حرز الأماني للجعبرى مخطوط دار الكتب برقم 612قراءات.(1/422)
الانتحاء نحو الياء فيصير كأنه عائد إلى الياء التى كرهوها حتى أبدلوا منها الألف، ثم أعلن الفارسى عن رأيه فقال: «وهكذا ينبغى أن تكون الألف فى الإمالة (1)».
* * * والدانى ماهر أشد المهارة فى الاحتجاج لورش فى الفرش من الحروف، يقول:
«وأقرأنى أبو الحسن لورش الذى فى النجم يقصد المنتهى فى النجم فى قوله تعالى {«إِلى ََ رَبِّكَ الْمُنْتَهى ََ»} (2) بين اللفظين، والذى فى النازعات إلى ربك منتهاها بإخلاص الفتح «ثم يحتج لورش من قراءته على أبى الحسن بين قوله: المنتهى فى الموضعين احتجاجا يدل على تمكن منه فى مذهب ورش، واقناع فى الاحتجاج له، واقناع به (3).
* * * وهو يحس أنه متمكن من مذهب ورش تمكنا جعله يقول فى كتابه الموضح:
«وسنفرد لمذهبه أى مذهب ورش» فى الراءات بابا نبين ذلك فيه بيانا بليغا إن شاء الله (4).
وحقا: لقد أوفى فى وعده «ببلاغة البيان» وفاء يدل على شمول إحاطته بهذا المذهب بما يحوى كثيرا من الدقائق والتفاصيل (5):
افقد تحدث عن مذهب ورش عن نافع فى إمالة الراءات، وفى إخلاص فتحهن وأفرد لذلك بابا (6) وجعل تحته فصولا.
ب وانتقل منها إلى باب ذكر فيه حكم الوقف على الراءات المتطرفات (7)، ثم عقد بابا لمذهب ورش عن نافع فى ترقيق اللامات وتغليظهن وتحت ذلك فصول.
ولم تظهر عناية الدانى بمذهب ورش فى كتاب الموضح فقط، بل له إلى جانب ذلك تآليف أشرت إليها فى صدر هذا الفصل.
ذلكم مبلغ اهتمام الدانى بمذهب ورش، فإذا حاولت التعليل لهذه النزعة وجدت السبيل واضحة بتتبع الشيوخ القراء الذين نشروا مذهب ورش فى بلاد المغرب موطن الدانى والشيوخ الذين أخذ عنهم، ثم أولئك الذين تلقى عليهم الدانى:
__________
(1) الحجة 1/ 351.
(2) سورة النجم.
(3) ينظر الاحتجاج فى ورقة 39 نسخة قديمة وص 128نسخة جديدة.
(4) ورقة 34نسخة قديمة أو ص 82من النسخة الجديدة.
(5) الموضح ص 338.
(6) 338.
(7) 359.(1/423)
ويحدثنا المقرى فى نفح الطيب أن ابن خيرون أبا عبد الله محمد بن محمد (وقيل محمد ابن عمر) الأندلسى (ت 356هـ) رحل إلى المشرق وأخذ القراءات بمصر عن محمد بن سعيد الأنماطى (1)، ومصر موطن ورش (2)، والذى انتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار المصرية فى زمانه (3)، وعاد ابن خيرون إلى القيروان وسمع بها وبقرطبة (4)، ويقول المقدسى فى أحسن التقاسيم فى كلامه على مذاهب المسلمين فى مختلف الأقطار الإسلامية: «أما فى الأندلس فمذهب مالك، وقراءة نافع (5)».
والذى قدم بقراءة نافع على أهل إفريقية هو ابن خيرون السابق الذكر، وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة، ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلا الخواص حتى قدم بها فاجتمع إليه الناس ورحل إليه أهل القيروان من الآفاق، وكان يأخذ أخذا شديدا على مذهب المشيخة من أصحاب ورش (6)» وإذن فقد وضعت يدى بهذا النص على سبب ذيوع مذهب ورش فى بلاد المغرب، ويكون من تلاميذ ابن خيرون: عبد الحكم بن إبراهيم (7)، الذى روى رواية ورش عن أستاذه، وكان كما يقول الدانى إماما فى رواية ورش (8).
وقد ألممت فى صدر هذا الباب بشيوخ الدانى، وعرفنا منهم ومن تواليفهم اهتمامهم بمذهب ورش وتلمذهم عليه: وهكذا ترى شيوخ الدانى يحتفلون بورش، يؤلفون فى قراءته (9) ويساجل بعضهم بعضا فى مذهبه بالتغليط والرد (10)، وإفرادا بالتأليف فى كتبه الأخرى على ما بينت. وغنى عن الذكر أن أبا على الفارسى لم تتح له هذه الظروف التى جذبت الدانى إلى ورش بما جذبت، والتى كان من نتائجها انفراد الدانى عن أبى على فيما انفرد، وما كان لذلك من أثر فى الظواهر والسمات.
رابعا: الاحتجاج برسم الصحف:
وقد لحظت أن الأدلة التى يوردها الدانى فى الاحتجاج لوجهة نظره تتضمن فى الأعم الأغلب أدلة تتصل برسم المصحف، فالأدلة التى ذكرها فى أصالة الفتح وفرعية الإمالة منها أدلة ثلاث تتعلق بالرسم «وهى الدليل الثالث والرابع والخامس (11)،
__________
(1) نفح الطيب 1/ 353.
(2) انظر حسن المحاضرة للسيوطى.
(3) طبقات 1/ 502.
(4) نفح الطيب 1/ 353.
(5) أحسن التقاسيم 236.
(6) نفح الطيب 1/ 353.
(7) طبقات القراء 2/ 217.
(8) طبقات القراء 1/ 360.
(9) النشر 2/ 198.
(10) معجم الأدباء 19/ 170.
(11) الموضح 4.(1/424)
والأدلة التى ذكرها لإخلاص أبى عمرو فتح» يا بشراى «متصلة برسم المصحف (1)
وكذلك ما استدل به على فتح حمزة» الحوايا (2) وهداى (3)، ومحياى ومحياهم (4)
ومثواى. وغير ذلك مما يشيع فى احتجاجه لمذاهب القراء فاتحين أو مميلين، حتى برهنته على المسائل النحوية، يقحم رسم المصحف دليلا على ما يذهب إليه، فالأدلة التى أوردها للرد على النحويين فى قولهم: أن أصل مهما «ماما» من بينها دليل يتعلق بالرسم وهو الدليل الأول (5)، والدليلان اللذان يرجح بهما أن المحذوف هو الألف المبدلة من التنوين فى الأسماء المقصورة الموقوف عليها فى حال النصب من مثل قوله تعالى: {«مَنًّا وَلََا أَذىً»} الدليل الأول منهما خاص بالرسم (6).
وأنا فى غنى عن التمثيل لذلك الاتجاه، لأنه شائع فى الموضح (7). وقد رأينا أبا على الفارسى من قبل لا يكاد يقول برسم المصحف، ولا يتخذه دليلا يحتج به للأئمة القراء (8). كان ذلك موقف أبى على من القراءات بعامة، وكذلك كان موقفه من الألفاظ الممالة بخاصة، فلم يحتج برسم المصحف بقراءة قارئ من الأئمة السبعة فاتحا أو مميلا.
ولو أردت التعليل لموقف الدانى من الرسم لكان ذلك ميسورا، فالرجل صفته الأولى أنه قارئ، وهى صفة تصله بالمصحف وصلا قويا. إلى أنه ألف كتابه المقنع فى رسم مصاحف الأمصار وكتاب النقط (9). كما أشار فى المقنع إلى أن له كتابا كبيرا فى الرسم (10). إلى أن المتصفح لكتاب المقنع يجد ما يدل على أن الدانى قلب النظر فى مصاحف الأمصار، واستخلص منها ما ورد فى كتابه خاصا بالرسم، تراه يقول مثلا: وكذلك حذفت الألف بعد الهمزة فى قوله «قرءنا» فى مكانين فى يوسف (11). {«إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا»} وفى الزخرف (12) {«إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا»}. ثم يقول: ورأيت أنا هذين الموضعين فى مصاحف أهل العراق وغيرها بالألف (13).
__________
(1) نسخة جديدة / ورقة 36ص 95.
(2) ص 111.
(3) ص 130.
(4) ص 134.
(5) قد ذكرت هذه الأدلة قبل.
(6) الموضح ص 305.
(7) انظر ص 115و 126و 129والصفحات السابقة.
(8) انظر فصل بين ابن خالويه والفارسى.
(9) طبع الكتابان باستانبول 1932باعتناء اتوبرتزل أحد أعضاء جمعية المستشرقين الألمانية.
(10) المقنع 31.
(11) س 12آية 2.
(12) س 43آية 3.
(13) المقنع 20.(1/425)
أو يقول: «رأيت المصاحف تختلف فى أربعة منها: يريد حذف الألف من الأسماء الأعجمية» وهى: «هاروت، وماروت، وهامان، وقارون»، ففي بعضها بالألف وفى بعضها بغير ألف «ووجدت فى مصاحف أهل العراق «هامن» بألف بعد الهاء، وفى كلها بغير ألف بعد الميم وكذلك «إسرائيل» رسم بالألف أيضا فى أكثر المصاحف، وقد وجدت ذلك فى بعض المصاحف المدنية والعراقية العتق القديمة بغير ألف وإثباتها أكثر (1).
ثم تقرأ عنه نصوصا تشير فى صراحة إلى أنه كان «يتبع مصاحف أهل العراق» وينعم النظر فى مصاحفهم الأصلية (2)، إلى غير ذلك من الأمثلة التى تكاد تطالعك فى صفحات متقاربة (3).
وربما جاء الاهتمام برسم المصحف من شيوخه، فكثيرا ما يحدث أخبارهم بأنهم رأوا فى مصاحف أهل العراق كذا، ومصاحف أهل المدينة والحجاز كذا (4)
كما يطلع على ما كتب الغازى بن قيس فى الهجاء (5).
على أن رسم المصحف يتصل بناحية يستمسك بها أهل الأثر والدانى منهم.
وإنك لتجد الدانى مشدودا إلى الأثرين متمثلا ذلك فى القول برسم المصحف شدا قويا (6)، إن احتج بكلام النحويين فسرعان ما يتجه إلى رسم المصحف آخذا به معللا، ومعتمدا عليه دليلا، احتج لإمالة الأفعال الجوف بأن سيبويه قال: «وهى لغة لبعض أهل الحجاز» ثم قال الدانى: «وقال عاصم الجحدري:
«رأيت فى مصحف عثمان بن عفان (رحمه الله) ما طاب لكم طيب.
وقال الكسائى: «رأيت فى مصحف أبى بن كعب جاءتهم رسلهم، جاء بهم، وجاء أمر ربك: جيئتهم الخ (7).
وأبو على من أهل القياس والنظر، فهو يبعد بذلك عن الدانى ومنهجه فى القول برسم المصحف، وهناك ما هو أهم من ذلك، فلأبى على رأى يقول به ويحتج له فى رسم سعى وشبهه (8). فكيف وهذا رأيه يقول برسم المصحف، وهذا الفعل
__________
(1) 23.
(2) 24.
(3) انظر مثلا 27، 29، 59، 69، 70، 71.
(4) انظر ص 36، 37، 38مثلا وهى كما ترى صفحات متوالية.
(5) 23، 50، 68.
(6) من دلائل أتباع الداني للاثر قوله بعد الاحتجاج وبالله التوفيق. أو ما يشبه هذه العبارة وقد تكرر ذلك فى الموضح والمقنع فى صورة ظاهرة انظر المقنع 47، 49، 54.
(7) الموضح 166.
(8) انظر المسائل الحلبية ص 21.(1/426)
نفسه: فعل «سعى» مرسوم بالياء فيه «قد اتفقت على ذلك جميع المصاحف؟! (1)» ويعلل الدانى ذلك الاتفاق بأنه على مراد الامالة (2) كما يعلل رسم «تترا» بالألف، «والصلاة والزكوة والحيوة، والربوا بالواو على مراد التفخيم (3). وهكذا يربط الدانى بين الإمالة والتفخيم والرسم، ويعلل هذين عند القراء بذلك، ويعلل الرسم بهذين.
هذا ومناقشة الدانى فيما اتجه إليه من ربط الامالة بالرسم، وتقويم رأيه فى ذلك، وما ذهب إليه أبو على من عدم الاعتداد به فى الاحتجاج للامالة والفتح وغيرهما من مذاهب القراء موضح هذا فى الفصل المعقود لرسم المصحف فليراجع هناك.
وأمضى بعد ذلك فى بيان ما بقى من تخالف بين الدانى والفارسى:
خامسا: موقف الدانى من النحاة الكوفيين:
وقف النحاة البصريون من القراءات موقفا عرضت له من قبل، على حين اعتد الكوفيون بالقراءات غير مشذذين ولا منكرين، وقد رأينا من قبل موقفهم ممثلا فى شيخهم الفراء أمير النحويين، وموقف البصريين ممثلا فى أبى عثمان المازنى من قراءة نافع الذى تنتهى إليه قراءة الدانى فى الامالة عن ورش، طعن المازنى نافعا وجهله، ولحنه (4)، فلا جرم أن يبادل القراء الكوفيين اعتدادا باعتداد، وتوثيقا بتوثيق. وهذا ما يبدو جليا فى كتاب الموضح، فهو يميل إلى النحاة الكوفيين، ويجعل مذاهبهم الفاشية عند القراء الذين روى عنهم، وغنى عن الاشارة أن أقرر تخالف أبى على مع الدانى فى هذا الأمر، فشىء من ذلك لا يحتاج إلى توضيح أو تعليل.
ولكنى أذكر موقف الدانى، لأنه اتجاه جدير فيما أرى بالذكر والتسجيل.
وأرجو أن أنبه هنا إلى أن القراء لم يكونوا فى تأييدهم للكوفيين متجافين سندهم فى التلقى أو بطريقتهم فى الأخذ والرواية، لذلك أرجو ألا يفسر تأييدهم للكوفيين على أنهم كانوا مدفوعين بدافع من العصبية المذهبية، فانا نعلم أن بين النحاة الكوفيين الكسائى والفراء، وهما كذلك علمان من الأعلام الأئمة فى القراءة والاقراء، ومن
__________
(1) المقنع ص 67وما بعدها.
(2) المصدر السابق.
(3) ص 57.
(4) المنصف 307.(1/427)
قبل هذين كان النحاة القراء، وكان لهم جميعا اختيار فيما يتصل بالأداء، فنقلت هذه الاختيارات إلى القراءات واعتد بها القراء، مؤثرين ما نقلوه عن آراء البصريين.
وإليك بعض الأمثلة التى بها أستشهد على موقف الدانى من نحو الكوفيين:
علل الدانى إمالة حمزة والكسائى «بلى» مستندا الى قول الكوفيين فى تعليل إمالتها بقولهم: «إنما أميلت بلى، لأن الألف التى فى آخرها للتأنيث بمنزلتها فى حبلى وسكرى، ولذلك كتابنا ياء، والأصل بل زيدت عليها الألف دلالة على أن السكوت عليها ممكن، وأنها لا يعطف ما بعدها على ما قبلها كما تعطف بل. ويمكن عندهم دخول علامة التأنيث عليها كما يمكن دخولها على نظائرها من الحروف نحو رب، وثم قيل ربت ثمت فأدخل عليها التأنيث دلالة على تأنيثها.
حدثنا بمعنى هذا محمد بن أحمد عن ابن الانبارى عن أصحابه الكوفيين (1).
ثم نراه فى حديثه عن وزن خطايا بعد أن يبين الأسانيد المختلقة، ويذكر الذى قرأ رواية عن شيوخه يذكر اختلاف النحويين فى كيفية أصل ذلك، فيروى قول الخليل وسيبويه من أن وزنها فعايل (2)، ويروى قول يحيى بن زياد الفراء والكسائى من أن وزنها فعالى (3)، ثم يرجح قول الكوفيين كما ذهب إليه القراء.
وكذلك «كلتا» يورد خلاف الكوفيين والبصريين ثم يقول: «وعلى قول الكوفيين عامة القراء وأهل الأداء (4) ومن هنا نراه يرد عن الفراء، ولا ينسب إليه غلطا، وإنما كان الغلط ممن نقل عنه، وذلك: «حدثنا محمد بن احمد قال:
حدثنا محمد بن القسم قال: قال الفراء: حذفت واو الجمع فى قوله: {«نَسُوا اللََّهَ»} (5).
قال أبو عمرو الدانى: «ولا نعلم أن ذلك كذلك فى شىء من مصاحف أهل الأمصار، والذى حكى عن الفراء غلط من الناقل (6): وبمثل ذلك يقف من الكسائى ويوثقه ويجعله قرين سيبويه فى النقل عن العرب والاعتداد بما نقل.
وبعد: فها هو ذا الدانى فى كتابه الموضح، وها هو ذا مكانه البعيد فى الدراسات
__________
(1) الموضح 225.
(2) 113.
(3) 114.
(4) الموضح 310.
(5) س 9آية 67، وس 9آية 19.
(6) المقنع 38.(1/428)
القرآنية، وذلك أثره المديد فى أجيال الخالفين، ومدى ما ظهرت شخصيته أمام شيوخه والأئمة السالفين، وتلك هى اتجاهاته موافقا أبا على الفارسى حيث ينزع منزعه فى القياس، ويتشبه به فى فهم أسلوب سيبويه وتعبيراته فى الكتاب، واصطناع البرهان المنطقى فى استدلالاته، وفى استخدام العروض والقوافى فى تعليلاته، وفى اقتفائه قفوه فى الاستشهاد بنصوصه، ثم ذلك هو الدانى فى تخالفه هو وأبو على، موثقا القراءة بذكر اسنادها متأثرا تأثرا ظاهرا بورش راوية نافع الإمام الذى ينتهى إليه سند الاستاذ ابن غلبون، ومدى اعتداده برسم المصحف محتجا ومستشهدا، وأخيرا ذلك موقف الدانى من توثيقه القراءات المتصلة بنحو الكوفيين.
ثم أما بعد: فقد دعوت فى مكان آخر إلى فحص، نحو القراءات عند البصريين، ثم دعوت كذلك إلى اختبار نحو القراءات عند الكوفيين فى الحديث عن أمير النحاة الفراء فى كتابه معانى القرآن، والآن وأنا مع أبى عمرو الدانى شيخ القراء، وصاحب الأثر البعيد المدى عند المقرئين الآن أدعو الباحثين إلى الاتجاه بجهودهم ودراساتهم لاستخلاص مسائل النحو الواردة فى غضون القراءات، وتوثيق هذه المسائل بما ورد عن الأئمة القراء، واستخراج نحو جديد يقوم على سند صحيح فى الرواية، وضبط واع فى النقل، ودقة محيطة فى الأداء، ولست أشك فى أنهم سيظفرون بطائفة صالحة نبذها النحاة، واعتد بها القراء، وهؤلاء هم أولى بالاعتداد فى هذا الجانب وقراءتهم أحق وأجدر بالاستشهاد. هذه دعوتى إلى الباحثين والدراسين، فهل يستجيبون؟!.(1/429)
تعقيب
بتقسيم المحتجين للقراءات إلى مدرسة الأثر ومدرسة القياس
* * * الآن وقد فرغت من عرض مذاهب المحتجين للقراءات منذ سيبويه حتى أبى عمرو الدانى وبينت فى الدراسات المقارنة مقدار ما تخالف المحتجون أو توافقوا مع أبى على، ومدى ما تأثر بالسابقين، وما أثر فى الخالفين من المحتجين الآن تتميز أمامى مدرستان: مدرسة الأثر، ومدرسة القياس، ولكل نزعة تخالف نزعة الأخرى، فمدرسة الأثر تنزع إلى ما يأتى:
االتحديث عن الأشياخ، ونقل أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف والتابعين وعلماء الأمة.
ب الاحتجاج بما روى أو نقل عن هؤلاء الأشياخ.
ج الاعتماد على رسم المصحف فى الاحتجاج.
د تغليط ما لم يرو من القراءات وإن كان جائزا فى العربية.
أما مدرسة القياس فكان من مقاييسها ما يلى:
اعدم الاعتماد فى الاحتجاج على ما حدث به الأشياخ وما نقل الأئمة.
ب عدم الاحتجاج برسم المصحف.
ج تغليط القراءات المروية إذا لم تكن موافقة مع ما ترى من مقاييس العربية ويقابل ذلك.
د تصحيح ما لم يرو من القراءات إن كان جائزا فى العربية.
ورأينا بين المحتجين من يقول بالأثر، ومنهم من يقول بالقياس، ومنهم من يقترب من هذين أو يبتعد عنهما بمقدار، ويقف أبو على شامخا يمثل مدرسة القياس البحت بما لها من طابع تحكيم مقاييس العربية فى القراءات المروية (1) وتصحيح قراءات غير مروية إذا كان لها وجه من القياس.
__________
(1) انظر موقف أبي على من القراءات التى تخالف مذهبه.(1/430)
فإذا نقل ابن مجاهد مثلا أن قراءة لا يحطمنكم (1) ساكنة النون غلط، قال أبو على: قوله: وهو غلط يريد أنه غلط من طريق الرواية لا أنه لا يتجه فى العربية، ووجه النون الخفيفة والشديدة هاهنا حسنان (2) وإذا صحح ابن مجاهد عن نافع همز معايش (3) قال أبو على: همز معايش غلط (4).
وقد رأينا كيف تأثر المغاربة بأبى على ممثلين فى أشهر قرائهم مكى بن أبى طالب وأبى عمرو الدانى ينقلون نصوصه، ويرون رأيه، وينهجون نهجه فيما قال، ثم كان منهم تحديث عن أئمتهم، واحتجاج بالرواية عنهم، واعتماد على رسم المصحف، وبذلك مزجوا فى الاحتجاج بين معايير المدرستين، ولكنهم كانوا أقرب إلى مدرسة النقل والأثر.
وقد خلص الاحتجاج للقراءات من مظاهر القياس عند أبى الحسن علم الدين على بن محمد السخاوى (توفى 643) الذى يمثل مدرسة النقل والأثر خالصة، وإنكم لترونه يقول بعد أن بين أسباب الإمالة عند النحاة: «وأما القراء فما قرأ أحد منهم بالإمالة لما ذكر من الأسباب وإنما قرأ لما رواه ونقله «وقد جعل رسم المصحف مقويا للنقل حيث يقول: «أئمة القراءة لم تمل ما كان من ذوات الياء للرسم فقط بل إن إمالته من حيث صحت الرواية بإمالته عندهم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم دلت على حسنها وجوازها وتأكدها وقوتها برسم تلك الحروف بالياء (5).
وفى الجدول الآتى الأعلام من رجال المدرستين، وتلخيص نزعاتهم (6)، وتطور هذه النزعات على مر العصور حتى القرن العاشر، ومكان أبى على بين السالفين والخالفين.
__________
(1) سورة النمل آية 18.
(2) الحجة 6/ 56.
(3) سورة الحجر آية 60.
(4) الحجة 4/ 139.
(5) جمال القراء لعلم الدين السخاوى والكتاب مخطوط غير مرقوم الصفحات دار الكتب 9قراءات م.
(6) اعتبرت فى هذا التقسيم الصفة الغالبة على كل إذ آن بعضهم يمزج معايير المدرستين بمقدار.(1/431)
رقم: الإمام: سنة الوفاة: صفته الغالبة عليه: نزعته النحوية: نزعته فى الاحتجاج: مؤلفه الذى ظهرت فيه هذه النزعة
1: سيبويه: 180هـ: نحوى: بصرى: قياسي: الكتاب
2: الفراء: 206هـ: نحوى: كوفى: أثرى غالبا: معانى القرآن
3: الطبرى: 310هـ: قارئ: كوفى: أثرى غالبا: جامع البيان: تفسيره المشهور
4: الزجاج: 311هـ: نحوى: بصرى: أثرى غالبا: معانى القرآن
5: ابن السراج: 316هـ: نحوى: بصرى: أثرى غالبا: الاحتجاج للقراءات
6: ابن مجاهد: 324هـ: قارئ: بصرى: أثرى صرف: القراءات
7: ابن خالويه: 370هـ: نحوى: بصرى: اثرى غالبا: الحجة
8: أبو على الفارسى: 377هـ: نحوى: بصرى: قياسي صرف: الحجة
9: ابن جنى: 392هـ: نحوى: بصرى: اثرى: المحتسب
10: مكى بن أبى طالب: 437هـ: نحوى: أندلسى: أثرى غالبا: الكشف
قارئ يميل الى نحو الكوفة:
11: الدانى: 444هـ: قارئ: أندلسى يميل إلى مذهب أهل الكوفة: أثرى: الموضح
12: سبط الخياط علم الدين: 541هـ: قارئ:: أثرى: المبهج
السخاوى: 643هـ: قارئ:: أثرى بحت: جمال القراء
14: أبو حيان: 754هـ: نحوى: يميل إلى الكوفة:::
15: ابن الجزرى: 832هـ: قارئ:: أثرى: النشر(1/432)
نتائج وملاحظات:
االمدرسة النحوية الكوفية تظهر عليها النزعة الأثرية فى الاحتجاج للقراءات.
ب وكذلك تظهر هذه النزعة فى المدرسة الأندلسية.
ج من رجال المدرسة البصرية من نزع منزع الأثر كالزجاج وابن السراج وابن جنى.
د يبلغ القول بالأثر ذروته عند ابن مجاهد من المتقدمين (324هـ).
وعند علم الدين السخاوى من المتأخرين (643هـ)، وبعدها يتتابع التمسك بالأثر وتصحيح القراءات المروية عند القراء والمفسرين والنحاة جميعا.
هـ يبلغ القول بالقياس ذروته عند أبى على الفارسى.
وكان من أثر أبى على الفارسى عدم نزوع المحتجين بعده كابن جنى ومكى والدانى منزع الأثر البحت بل استغل كل منهم القياس بمقدار.
* * * وإذ قد انتهيت الى هذا الحد مبينا أثر أبى على مفصلا ومجملا فى الاحتجاج، أرجو أن أتبين ما كان للرجل من آثار فى الميدان النحوى، وذلكم موضوع ما يأتى من حديث.(1/433)
الباب الخامس أبو علىّ والنحو
الفصل الأول
انشأة البحث النحوى وتطوره
يبرز اسم أبى الأسود الدؤلى الكنانى عند النظر فى نشأة البحث النحوى، وقد اختلف الناس من علماء هذا الزمان فيمن وضع النحو، فالمرحوم صادق الرافعى فى كتابه أدب العرب يرى «أن تاريخ وضع النحو لا سبيل إلى تحقيقه البتة (1)»، ويتابع الأستاذ إبراهيم مصطفى المرحوم أحمد أمين، فيرى أن الذى وضع النحو هو عبد الله بن أبى إسحاق، ويستدل على ذلك بأدلة قوامها أن سيبويه فى الكتاب لم يرو لأبى الأسود، على حين قد روى لابن إسحاق، فهو أقدم عالم نسبت إليه مسألة نحوية (2)، ويتعقبه الأستاذ عبد الوهاب حمودة، ويرى أن واضع النحو هو أبو الأسود الدؤلى (3)، ويزيد على هؤلاء أستاذنا على النجدى فيرجح فى كتابه سيبويه امام النحاة رأى الاستاذ حمودة، ويؤكده بما يضيف إليه من أدلة جديدة (4)، ومهما يكن من اختلاف حول وضع النحو فهم متفقون جميعا القدامى والمعاصرون على أن أبا الاسود هو الذى أعرب القرآن، وأقول: إن ذلك معناه عندى أنه هو الذى وضع النحو مستدلا على ذلك بأن طبيعة أبى الاسود، وطبيعة
__________
(1) من محاضرة للأستاذ إبراهيم مصطفى فى أصول النحو مؤتمر المجمع الدورة السادسة عشرة: ص 2.
(2) المصدر السابق: يورد الأستاذ إبراهيم مصطفى إحصائية عن المرات التى نسب فيها سيبويه إلى شيوخه (ص 4) وبموازنة هذه الإحصائية بالاحصائيه التى أوردها أستاذنا فى كتابه سيبويه إمام النحاة ص 98ندرك خلافا فى الاحصاء عند كل.
(3) فصلة من مجلة كلية الآداب م 13ج: 1.
(4) انظر سيبويه امام النحاة ص 137132.(1/434)
عمله الذى تولاه تؤديان بنا إلى التسليم بأنه هو الذى أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها (1).
أما فيما يتعلق بطبيعة أبى الاسود، فقد حكى عنه أنه كان بخيلا (2)، والبخل يدعو إلى التزام الدقة والتحرى والضبط، ثم هو قاض محكم (3)، والقاضى بحكم عمله يقيس الاشباه والنظائر، ويبدو لى أنه لم يحكم من الناس، ولم يرشح للقضاء إلا لانه مأنوس منه دقة النظرة، وصدق الحكومة.
ومن دليل تحريه، والتزامه الدقة فيما يأتيه أن طلب من زياد أن يبعث إليه ثلاثين رجلا، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الاسود عشرة، ثم ما زال ينخلهم حتى اختار منهم رجلا من عبد القيس (4)، فانظر معى كيف يظل يمتحن هؤلاء الرجال الثلاثين، فيصطفى منهم عشرة بادئ الرأى، ثم يمعن فى التصفية حتى يستقر على رجل واحد يضع فيه ثقته، ويتوسم منه لقانته؟! وهكذا حقق ما كان يبغيه فى الرجل الذى يعاونه إذ قال لزياد: «فليبغنى الامير كاتبا لقنا يفعل ما أقول (5)»!
وقد روى أبو الفرج عن شيوخه ما يدل على بخله، ونزعته المنطقية معا. قالوا:
«كان بين بنى الدئل وبين بنى ليث منازعة، فقتلت بنو الديل منهم رجلا، ثم اصطلحوا بعد ذلك على أن يؤدوا ديته، فاجتمعوا إلى أبى الاسود يسألونه المعاونة على أدائها، وألح عليه غلام منهم ذو بيان وعارضه، فقال له «يا أبا الأسود! أنت شيخ العشيرة وسيدهم، وما يمنعك من معاونتهم قلة ذات يد ولا سودد،»
فلما أكثر أقبل عليه أبو الاسود ثم قال له: «لقد أكثرت يا بن أخى: فاسمع منى:
إن الرجل والله ما يعطى ماله إلا لاحدى ثلاث خلات: إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأة ممن يعطيه، أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله، أو رجل أراد وجه الله وما عنده فى الآخرة، أو رجل أحمق خدع عن ماله، والله ما أنتم أحد هذه الطبقات، ولا جئتم فى شىء من هذا، ولا عمك الرجل العاجز فينخدع لهؤلاء، ولما أفدتك إياه فى عقلك خير لك من مال أبى الاسود لو وصل إلى بنى الدئل، قوموا إذا شئتم!» فقاموا يبادرون السباب (6).
__________
(1) مقدمة طبقات الشعراء لابن سلام.
(2) الأغانى 11/ 104ط الساسى.
(3) المصدر السابق ص 105.
(4) نزهه الألباء ص 6.
(5) الفهرست ص 60.
(6) الأغاني: 11/ 103.(1/435)
فانظر معى إلى ذلك التقسيم، وما فيه لأبى الأسود من عقل رجيح، ثم تدبر تعبيره آخر الأمر: «ولما أفدتك إياه فى عقلك خير لك من مال أبى الأسود» فهو بهذا يدل على أن كلامه كلام حكيم يقوّم الفطن، ويثقف العقول، وفيما روى لنا من شعر أبى الأسود يدل على نزعته التى إليها أشرت اقرأ قوله.
إذا كنت مظلوما فلا تلف راضيا ... عن القوم حتى تأخذ النصف واغضب
وإن كنت أنت الظالم القوم فاطرح ... مقالتهم، واشغب بهم كل مشغب
وقارب بذى جهل، وباعد بعالم ... جلوب عليك الحق من كل مجلب
فان حدبوا فاقعس، وإن هم تقاعسوا ... ليستمكنوا مما وراءك فاحدب
ولا تدعنى للجور، واصبر على التى ... بها كنت أقضى للبعيد على أبى
فانى امرؤ أخشى إلهى، وأتقى ... معادى، وقد جربت ما لم تجرب (1)
ففي هذا النص ما يدل على صائب النطق، وصدق الحكم، والتجربة التى تبعث الحكمة، وهى معان سأعتمد عليها فى التدليل على ما أذهب إليه من رأى.
أما طبيعة عمله فهو لا شك يحس جلال العمل الذى ندب إليه، أنه عمل يتعلق بكتاب الله، وهو أمر خطير يدعوه إلى زيادة اليقظة، وعميق الملاحظة، وفضل التأمل إنه سيعرب القرآن بنقطة، وسيقوم بذلك فى جميع القرآن فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره (2) وإذن مر بكثير من المرفوعات، وبعدد ضخم من المجرورات، وبمثل ذلك من المنصوبات والمجزومات، أفلا يهديه الحس اللغوى، والمنطق الفطرى إلى جمع الأشباه والنظائر تحت حكم عام، ووضعها فى قاعدة واحدة، قاعدة بدائية!؟ وأبو الأسود الذى استطاع أن يعقد قياسا بالملحظ الطارئ العابر بين قوله:
فان يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا
وقوله تعالى: {«وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (3)، ألا يستطيع مع فضل التأمل، واستجماع دواعى التثبت، وتعدد الأشباه والنظائر، وخطر العمل الذى ينهض به أن يلحظ عمل الحروف جارة، وناصبة، وجازمة فيما يتوارد عليه من القرآن الكريم؟! وإنك لتقرأ الربع الأول من سورة البقرة الربع الأول فقط فتجد من حروف الجر الذى يقتضى وضع نقطة تحت الحرف ما يأتى:
__________
(1) الأغانى: 11/ 104.
(2) نزهة الألباء 6.
(3) سيبويه امام النحاة ص 135.(1/436)
(الباء): (من): (على): (فى): (الكاف)
بالغيب: من قبلك: على قلوبهم: فى قلوبهم: كصيب
بالآخرة: من الناس: على سمعهم: فى طغيانهم:
باليوم: من السماء (مرتين): على أبصارهم: فى ظلمات:
بمؤمنين: من الصواعق: على كل: فى آذانهم:
بنورهم: من قبلكم: على عبدنا: فى ريب:
بالكافرين: من الثمرات من مثله: على::
بسمعهم: من دون من تحتها:::
بسورة: من ثمرة:::
ألا يستطيع أبو الأسود وقد رزق دقة النظر، ولحظ النظير أن يستنبط قاعدة من تكرار هذه الأحرف وغيرها من حرف النصب والجزم بما يهدى إليه الاستقراء فى كتاب الله الكريم كله؟! وليس بعيدا عندى أن يستعمل بعض الاصطلاحات كالجر، والنصب، والرفع فقد لحظ ابن جنى أن غلاما من أهل المهيا ذكر النصب بهذا اللفظ وعجب ابن جنى منه (1).
على أن القائلين بأن عبد الله بن أبى إسحاق قد وضع النحو لم يلتفتوا إلى عبارة ابن سلام وهو موثق عندهم (2) بأنه أى ابن إسحاق أول من بعج النحو، ومد القياس والعلل بعد قوله فى أبى الأسود: «أنه وضع قياس العربية»، ومعنى هذا أن نحو أبى الأسود كان مجتمعا فبعجه ابن أبى إسحاق، وقياسه كان بدائيا فمدّه، ومعنى هذا. فيما أفهم. أنه كان هناك عند أبى الأسود نحو وكان هناك قياس على أية حال:
وهم يختلفون فيما وضعه أبو الأسود الدؤلى، فهو فيما يذكر ابن سلام: «باب الفاعل، والمفعول، والمضاف، وحرف الجر، والرفع، والنصب، والجزم (3)
ولا يختلف الزبيدى فى طبقاته عن ابن سلام فى شىء من ذلك فى قول، ويقتصر على باب الفاعل والمفعول فيما حدث به على بن محمد الهاشمى (4) وهو فيما يذكر
__________
(1) انظر الخصائص: 1/ 80وانظر عبارة الزبيدى فى طبقاته ص 441.
(2) محاضرة الأستاذ إبراهيم مصطفى ص 1مؤتمر المجمع د 16.
(3) مقدمة طبقات ابن سلام.
(4) انظر طبقات الزبيدى 13و 15.(1/437)
عبد الرحمن بن الأنبارى: باب العطف، والنعت، والتعجب والاستفهام، وإن، وأخواتها ما عدا لكن (1).
وفيما يذكر السيوطى فى الاقتراح: «باب إن، وباب الإضافة، وباب الإمالة ثم باب العطف، والنعت، ثم باب التعجب، والاستفهام (2).
وليس بين السيوطى وابن الأنبارى كبير فرق، وعلى فرض صحة البدء فى وضع هذه الأبواب التى ذكرت، فان حروف النصب تتكرر فى القرآن بكثرة غامرة، وعلى صورة ظاهرة، وبمراجعة القرآن تتضح كثرة تكرر أن وأخواتها ما عدا لكن.
أما التعجب والاستفهام فيبدو لى أن هذين البابين التفت إليهما أبو الأسود من قول ابنته: «ما أحسن السماء» فقال لها: «نجومها» فقالت: «إنى لم أرد هذا وإنما تعجبت من حسنها»، فقال لها: «إذن فقولى: ما أحسن السماء!! (3)» فكان التعجب وكان الاستفهام.
أما الامالة فيرجح عندى إن صح أنها من أول ما وضع أن ذلك كان نتيجة لأن الكاتب الذى اختاره أبو الأسود من عبد القيس، وعبد القيس من أسد (4)، وأسد من القبائل المميلة (5)، ولا شك أن الكاتب مشترك مع أبى الأسود فى تصحيح الضبط، وتدقيق النقط، فلعله وهو من أسد المميلة كان يراجع أبا الأسود فى الكلمات الممالة وضبطها، ولعل ذلك وجه أبا الأسود إلى وضع هذا الباب.
وعمل أبى الأسود فى النحو بدائى يكفيه ما ندب إليه من مهمة، وما قام به من شكل المصحف عن طريق الضبط، ولا داعى للاستقراء الشامل للغة ومفرداتها، والاستيعاب العام لنصوصها وتراكيبها وأساليبها حتى يمكن حصر المفردات فى أى جزئية نحوية من الجزئيات التى تعرض لها. وأنا أخالف الدكتور حسن عون (6) فى ذلك، فطبيعة عمل أبى الأسود وما ركب الله فيه من صدق الحكم، وسديد النظر، تدعوه إلى استقراء كتاب الله واستقراء القرآن الكريم كاف للظفر بنتيجة عامة
__________
(1) نزهة الألباء ص 4.
(2) الاقتراح للسيوطى ص 84.
(3) نزهة الألباء ص 7.
(4) جمهرة أنساب العرب ص 280و 282.
(5) انظر ص 152ابراز المعاني 9/ 54شرح المفصل لابن يعيش 2/ 30النشر و 4/ 438 شرح الأشموني 2/ 350التصريح على التوضيح 114الاتقان للسيوطى.
(6) انظر اللغة والنحو للدكتور حسن عون ص 241.(1/438)
صحيحة لا تكاد تتخلف فى أى جزئية من جزئيات النحو، بله هذه الجزئيات القليلة التى يروى أن أبا الأسود قد تعرض لها.
وأود ألا يفهم من وضع هذه الأبواب أن يكون على الصورة التى انتهت إلينا فى الكتاب، فما ذلك بخاطر على الذهن، ولكنى أقصد من ذلك أن تكون هذه الأبواب كما يقول أستاذنا: «نظرات فى اللغة قريبة، وملاحظات على الأساليب يسيرة، يهدى إليها الطبع ويقضى فيها الذوق (1)» فأبو الأسود لم يبلغ عمله فى النحو كما يقول أستاذنا أيضا البتة مبلغ الرأى المتميز، أو الضابط المستوعب (2).
وأرجو بعد ذلك أن تكون قد اطمأننت معى بعد الذى قدمت إلى أن أبا الأسود كان الأصل فى بناء النحو، وعقد أصوله، بحكم فطرته التى فطر الله عليها، وبحكم طبيعة مهمته التى ندب إليها (3).
هذا، ويتعرض الباحثون المحدثون عند حديثهم عن شكل أبى الأسود للمصحف بطريق النقط يتعرضون إلى الاجابة عن السؤال الآتى: هل كان أبو الأسود مبتكرا لهذه العلامات أو أخذها عن السريان؟
أما الأستاذ عبد الحميد حسن فى كتابه «القواعد النحوية (4)» فيقرر أن علامات الشكل عند السريان كانت نقطا فوق الحرف أو تحته أو فى وسطه، وأنهم هم الذين ابتدعوا هذه العلامات ابتداعا، وانتقلت منهم إلى سائر الساميين، ولكن بعد ذلك يستفهم ولا يجيب، ويعرض المشكلة ولا يأتى لها بحل، ويتوقف فلا يثبت أو ينفى، وذلك حيث يقول: «فهل من صلة بين هذا وبين ما عمله أبو الأسود الدؤلى فى اللغة العربية؟ «ثم يمضى بعد ذلك فى الحديث دون إجابة، مقدرا هذه الخطوة فى تاريخ الخط العربى وضبط الكتابة
على أن فى حديثه عن ابتداع السريان لهذه العلامات، وانتقال هذا الابتكار إلى سائر الساميين ما يدل بطريق الاستنتاج على أنه يميل إلى أن أبا الأسود نظر إلى السريان عند ما قام بضبط المصحف.
__________
(1) سيبويه امام النحاة ص 134.
(2) المصدر السابق 135.
(3) بعيد ما ذكره ابن فارس فى الصاحبى من أن النحو كان قديما وأتت عليه الأيام وقل فى أيدى الناس ثم جدده أبو الأسود (انظر الصاحبى 10).
(4) ص 78.(1/439)
وتوقف الأستاذ عبد الحميد حسن على هذا النحو يقابله رأى للدكتور حسن عون فى كتابه «اللغة والنحو» يقرر فيه بصراحة أن الشكل بالنقط استمده أبو الأسود من النحاة السريانيين، ثم نفى الضير عن النحو العربى (1)، وقدر مجهود أبى الأسود فى صنيعه للغة والنحو، وأن استعانته بالنحاة السريانيين لا غضاضة فيه، وبرهن على ما قرره بأن أبا الأسود قد سكن العراق المغزو باللغة السريانية قبل الفتح العربى وبعده، والآهل بالعلماء السريان، وأن أبا الأسود كذلك تولى مناصب الولاية، وكان له فى العراق الزعامة الدينية واللغوية، وأن السريان من قبل أبى الأسود خافوا على كتابهم المقدس أن يمتد إليه اللحن، ففكروا فى وضع ضوابط، ولم تكن هذه الضوابط سوى طريقة النقط التى استعملها أبو الأسود فى ضبط شكل القرآن، وخلص من ذلك إلى بيان التشابه بين عمل أبى الأسود فى ضبط المصحف، وعمل السريان من قبل فى ضبط الكتاب المقدس، معتمدا على أن المقدمات متشابهة، والظروف متشابهة والنتائج متشابهة. ثم أخذ يوضح كيفية اتصال أبى الأسود باللغة السريانية وبعلمائها، فاستنتج أنه لا بد وأن يكون قد اتصل بالسريان وهم الفئة المثقفة الممارسة للنشاط الفكرى فى البيئة العراقية، إذ لا ينبغى مطلقا لعالم دينى لغوى، وحاكم إدارى كأبى الأسود أن يجهل وجود هذه الطبقة. وذكر أنه أدعى لأن يتعلم أبو الأسود اللغة السريانية، لكى يأخذ طريقة الشكل بالنقط عن السريان، ففي الترجمة غناء. على أنه عاد فقرر معرفة أبى الأسود للسريانية، وبدأ بالظن فى ذلك أولا، ثم ارتقى من الظن إلى الترجيح، وذلك حيث يقول: «على أننا نظن بل نرجح أن أبا الأسود كان يعرف اللغة السريانية وعلل ذلك باقامته الطويلة فى العراق، واهتمامه بالابحاث اللغوية والدينية، وأن الرسول وأصحابه حثوا على تعلم اللغات الاجنبية واستشهد بأن على بن أبى طالب كان ينطق فى أحاديثه أحيانا بألفاظ أجنبية (2).
وكلام الدكتور عون لا ينبغى أن يترك من غير مناقشة، ذلك لأن مثل هذه المباحث لا يؤخذ فيها بالظنون، ولا يعتمد فيها على الفروض، ولا تلقى فيها
__________
(1) أنا اتفق مع الدكتور عون فى نفى الضير عن النحو العربى، وعن واضعه أبي الأسود، ولقد أردت بمناقشته الآتية بعد حين تقرير الحقيقة ذاتها دون نظر إلى ما زعمه من ضير فى استعانة أبي الأسود بالسريان، بل أن أحدا لا ينكر الفائدة المحققة من تلاقح العقول، وترافد الآراء.
(2) كتاب اللغة والنحو ص 248وما بعدها.(1/440)
الأحكام من غير أدلة قويمة، ولا يرقى فيها من الظن إلى الترجيح بهذه السهولة وذلك اليسر:
فالدكتور عون لا يقدم دليلا يقينيا واحدا، بل دليله قائم على أن لا بد من اتصال أبى الاسود بالسريان، لأنهم الطبقة المستنيرة المثقفة وأنه لا داعى لتعلم أبى الأسود السريانية ففي الترجمة غناء، ثم عاد ورجح أن أبا الأسود كان يعرف السريانية بإقامته الطويلة فى العراق، واهتمامه بالبحوث اللغوية والدينية، وحث الرسول على تعلم اللغات الأجنبية. وهذه كلها أدلة ظنية، فالاقامة الطويلة بالعراق لا تنتج حتما معرفة السريانية، وقد نسى الدكتور عون أن الدولة الأموية كانت دولة عربية خالصة، وأن السريان لم يكن لهم من السلطان العلمى فى ظل هذه الدولة كما كان لهم فى دولة بنى العباس، وإذ ثبت ذلك فقد انهدم ما بنى الدكتور عليه من أمر. هذا شىء وشىء آخر: هل من اللازم الذى لا بد منه أن يتصل الولاة والرؤساء الدينيون فى كل عصر بالباحثين المعاصرين؟ وهل اتصل الشيوخ من رجال الدين فى عصرنا أو الحكام السياسيون بهؤلاء العلماء الأجانب المعاصرين باليهود الباحثين وهم القابضون على ناصية الاقتصاد والسياسة والاجتماع ومظاهر التثقيف؟ إلى أن كتب التراجم لم تتحدث عن أبى الأسود عالما بالسريانية، أو متصلا بها اتصالا علميا، فهذا الجاحظ العالم المتقصى المستطرد المستوعب يذكر عن أبى الأسود أنه معدود فى طبقات الناس وهو فى كلها مقدم مأثور عنه الفضل فى جميعها وكان معدودا فى التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان، والأمراء، والدهاة، والنحويين، والحاضرى الجواب، والشيعة، والبخلاء والصلع الأشراف، والبخر الأشراف (1)» ولم يذكر الجاحظ أن أبا الأسود معدود من المتكلمين باللغات من أنه استقصى كل شىء معدود فيه الأسود حتى عده من الصلع، والبخر الاشراف!!
ثم، هل اهتمام أبى الأسود بالبحوث اللغوية والدينية يستوجب اتصاله بالسريانية؟.
وصحيح أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حث على تعلم اللغات الأجنبية،
__________
(1) جاءت العبارة مروية عن الحافظ فى بغية الوعاة ص 274وهو محرفة عن الجاحظ. انظر الأغانى 11/ 102ط الساسى.(1/441)
ولكن حثه كان على طريق الندب المستحب، لا على طريق الإلزام الواجب، ولو كان الأمر ملزما لانكبّ المسلمون عليها سعيا وراء المدخر من الثواب، والدليل على أن الأمر لم يكن على سبيل الإلزام استشهاد الدكتور عون نفسه برجل واحد حسب، فى كلمة واحدة حسب!! إلى أن استشهاد الدكتور يعلى بن أبى طالب وأنه كان ينطق أحيانا بألفاظ أجنبية، لا ينهض دليلا على معرفة على باللغة اليونانية، ذلك لأن الدكتور عون يعتمد على رواية الثعالبى فى يتيمته، (1) ونص ما أورده الثعالبى: سأل على (عليه السلام) شريحا مسألة فأجاب بالصواب فقال له: «قالون» أى أصبت بالرومية (2).
ومع التسليم جدلا بأن هذه الرواية صحيحة، فهل معنى ذلك أن عليا يعرف اليونانية؟ فاعجب من كلمة واحدة تروى عن على تتخذ دليلا على معرفته عليه السلام بلغة اليونان؟ وكثير منا الآن ومن عامة الناس لا من خاصتهم المثقفين ينطق باللغات الأوربية كلمات الشكر والإهداء عند الأخذ والإعطاء، وكلمات التحية عند الوداع أو اللقاء فى الصباح وفى المساء. فهل معنى ذلك أن يعد أمثال هؤلاء فى الذين تجرى على ألسنتهم لغة الأوربيين؟ على أن الفارق كبير بين عصرنا وعصر أبى الأسود من حيث الاهتمام بتعلم اللغات، والمكانة الثقافية لهؤلاء الأعاجم علوا فى هذا العصر، وضعة فى الصدر الأول من الإسلام. فالقول بأن أبا الأسود أخذ طريقة النقط من السريانية تهويل لا يقوم على دليل كهذه التهاويل التى أحيطت بها اللغة السريانية منذ بدء الخليقة إلى نهاية المطاف فى القبور: فآدم علم الكتابة السريانية (3)، وسؤال القبر بالسريانية (4)
وعمل أبى الأسود فى شكل المصحف عن طريق النقط لا يحتاج إلى تفسيره بالاعتماد على السريان والاتصال بهم، فعمله النقط، والنقطة أول ما يتجه إليه الذهن فى مثل ذلك العمل إذ هى أبسط ما يخط فليس هناك ما يدعو إلى أن يتجه أبو الأسود إلى السريان ينقل عنهم، وينهج نهجهم، ولم لا يكون عمل أبى الأسود واتفاقه هو وما عمل السريان من توارد الخواطر، ووقع الحافر على
__________
(1) القسم الأول ص 455.
(2) يعلق الدكتور عون على قول الثعالبى أن كلمة قالون رومية بقوله: إن ذلك من قبيل الخلط عند القدماء فى تسمية ما هو يونانى بالرومى (اللغة والنحو ص 251).
(3) الفهرست 18.
(4) متن الخريدة.(1/442)
الحافر على ما فيه من بداهة وبدائية، وما عند أبى الأسود من حدة ذهنية؟ فالأصل أن أبا الأسود قام بهذا العمل ابتداء، وابتدعه بين المسلمين ابتداعا، ما لم بقم على غير ذلك دليل يعتمد عليه فى التأويل والتعليل والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فان أبا الأسود قد وضع علم النحو، واستخلفه ابن عباس على البصرة (1)، وظل بها يلقى تعاليمه إلى أن لقى ربه سنة (69هـ) (2) وقد أخذ عنه عنبسة الفيل ونصر بن عاصم الليثى (89هـ) ويحيى بن يعمر (128هـ) هم رأس المدرسة البصرية فى النحو، وتتظاهر الروايات على أن أول كوفى وضع كتابا فى النحو هو أبو جعفر الرواسى بعد نحو مائة عام من تأسيس المدرسة البصرية، ولذلك عد الرواسى رأس المدرسة الكوفية، ويتتابع تلاميذ كل من أبى الأسود الدؤلى وأبى جعفر الرؤاسى، على النحو الذى تذكره كتب الطبقات (3).
وكان لكل مدرسة طابع خاص فى تناول الدراسات النحوية، مما كان سببا فى اشتداد التنافس بين المدرستين، ويرجع الخلاف بينهما إلى أن قواعد البصرين عامة يندرج تحتها معظم الشواهد العربية، وقد أمكنهم ذلك باستقراء هذه الشواهد والأمثلة وأساليب العرب، ثم أصدروا أحكامهم (4) على الأعم الأغلب، وأما ما عدا ذلك من المسائل فأما أن يؤولوه حتى يوافق مذهبهم، وإما ألا يعتدوا به فلا يقيسوا عليه بل يحكموا عليه بالشذوذ، وهذه نزعة البصريين من قديم (5).
أما الكوفيون فكانوا يعتدون بالشواهد الفردية، وإن لم يرد غيرها فى كلام العرب ويقيسون عليها، فإذا سمعوا لفظا فى شعر أو نادرا فى كلام جعلوه بابا (6)، ولو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شىء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه (7):
اجتمع ثعلب والمبرد فى مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر فسألهما عن قوله (عز وجل):
{«إِذْ قََالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنََّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ}: كم فيه لغة؟» قال المبرد: «قلت» برآء على مثال كرماء وبراء على مثال كرام»، فقال ثعلب «وبراء أيها الأمير:» فقال: «ما تقول يا محمد:
فقلت: والقائل المبرد «أيها الأمير: سله من أين؟» قال: «من أين قلت!؟»
__________
(1) طبقات الزبيدى 17.
(2) نزهة الألباء ص 6.
(3) ضحى الإسلام 2/ 284.
(4) انظر الاقتراح ص 17.
(5) انظر طبقات الزبيدى 15، 44.
(6) الهمع 1/ 45.
(7) الاقتراح ص 84.(1/443)
قال والقائل ثعلب: حدثنى سلمة عن الفراء أنه سمع أعرابية تقول: «ألا فى السوة أنتن: تريد ألا فى السوءة فطرحت الهمزة، فأخذ المبرد يأتى بالحجة تلو الحجة، وبالدليل بعد الدليل، وكان آخر ما قال: لا يترك كتاب الله، واجماع العرب لقول أعرابية رعناء (1)!»، وفى هذه المحاجة دليل على منهج البصرين فى اعتدادهم بالأعم الأغلب يجرى على ألسنة العرب، ويتفشى لغتهم، كما هى دليل على أخذ الكوفيين بالشواهد الفردية.
وللكوفيين فى قياسهم على الشاذ سند من أشياخ البصريين ومتقدميهم، حدث على بن محمد بن سليمان الهاشمى عن أبيه قال: قلت لعيسى بن عمر يوما خبرنى عن هذا الذى وضعت أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال لا، قال: قلت: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تتكلم به، أتراه مخطئا؟ قال: لا (2).
* * * وقد كان نتيجة ذلك أن بدا نحو البصرين صار ما حازما يقل فيه التجويز على حين يكثر التجويز ظاهرا عند الكوفيين، فيه كثير من الترخص والاباحة، فيجوز عندهم أن يجمع العلم الذى فى آخره تاء التأنيث إذا سميت به رجلا جمع المذكر السالم (3)، كما يجوز تقديم خبر ما زال وأخواتها عليهن (4)، ويجوز تقديم معمول خبر ما الحجازية على نفسها (5) ويتعجب من السواد والبياض (6) ويجوز العطف على موضع أن قبل تمام الخبر (7) وهكذا وهكذا ويمتنع ذلك كله عند البصريين.
والكوفيون مع تجويزهم القليل يستحبون الكثير، ولذلك كان الفراء يقول: «لست أستحب ذلك لقلته (8)» يشير إلى الجمع بين صيغة الأفعال والباء فى قوله تعالى:
{«يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ»}.
ويظهر أن الكوفيين أرادوا وهم مؤدبو الخلفاء (9) وأولادهم أن ييسروا على هؤلاء فى الدراسات النحوية بتصويب ما يجرى على ألسنتهم من التعبيرات التى تخضع لقاعدة طردها الكوفيون، وقاسوا عليها، فيسروا وأسجحوا، واطرد عندهم
__________
(1) مجالس اللغويين والنحاة لوحه رقم 45نسخه مصورة عن شهيد على باستانبول.
(2) طبقات الزبيدى 41.
(3) الانصاف 1/ 26.
(4) الانصاف 1/ 99.
(5) الانصاف 1/ 111.
(6) المصدر السابق ص 95.
(7) الانصاف 1/ 119.
(8) معاني القرآن 19.
(9) كان الكسائى مؤدب الرشيد، وكان الفراء مؤدبا للأمين والمأمون.(1/444)
ما عده البصريون شاذا لا يقاس عليه، وكان طابعهم فى عمومه تجويز ما لم يجوزه مقابلوهم من البصريين (1).
قال الاستاذ دى بور: «جعل نحاة البصرة للقياس شأنا كبيرا فى الأحكام المتعلقة بالنحو، على حين أن نحاة الكوفة ترخصوا فى أمور كثيرة تشذ عن القياس، ولهذا سمى نحاة البصرة «أهل المنطق» تمييزا لهم عن نحاة الكوفة (2). وهاجم ابن درستويه وهو من أصحاب أبى العباس المبرد الكسائى إمام الكوفيين فى النحو فقال: «كان الكسائى يسمع الشاذ الذى لا يجوز إلا فى الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه (3).
* * * كان البصريون يتحرون أن تكون شواهدهم مسموعة من العرب الخلص، وساعدهم على ذلك قرب البادية منهم، وفيها المربد مجتمع الفصحاء، وفيها معلمون من الأعراب كأبى مالك عمرو بن كركرة (4) والوحشى أبى ثروان العكلى (5)، ومنها وافدون على البصريين كأبى البيداء الرياحى (6)، وأبى الجاموس ثور ابن يزيد (7) الذى كان يفد البصرة على آل سليمان بن على، وشبيل بن عرعرة الضبعى (8) وأبو عدنان عبد الرحمن بن عبد الأعلى.
أما الكوفيون فما كانوا يتحرون شيئا من ذلك، أثرا لبعد الكوفة عن هؤلاء الأعراب المتبدّين، وقد جاء فى كتاب التكملة لأبى على الفارسى: قال الفراء:
كان النحويون يقولون امرأة فاذا أدخلوا الألف واللام قالوا المرأة وهو وجهة الكلام، قال وقد سمعتها بالألف واللام الا مرأة. «وعلق على ذلك الفارسى بما يظهر مذهب البصريين فى الاعتماد على الكثرة والفصحاء قال: ولعل هذا الذى سمعها منه لم يكن فصيحا لأن قول الأكثر على خلافه (9). وقد أخذ الكسائى فيما فيما أخذ عن أعراب الحطمية النازلين بقطربل فلما ناظر
__________
(1) انظر الانصاف 1/ 128، 140، 160، 176مثلا و 2/ 272، 284، 290 343، 346، 439مثلا.
(2) تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص 38.
(3) بغية الوعاة ص 336.
(4) فهرست ابن النديم ص 66.
(5) المصدر السابق ص 69.
(6) المصدر السابق ص 36.
(7) الفهرست ص 67.
(8) المصدر السابق ص 68.
(9) التكملة 121.(1/445)
سيبويه استشهد أى الكسائى بلغتهم، فقال أبو محمد اليزيدى:
كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل
فكلهم يعمل فى نقص ما ... به يصاب الحق لا يأتلى
إن الكسائى وأصحابه ... يرقون فى النحو إلى أسفل (1)
وكان أبو زيد يقول: فيما يروى ياقوت: «قدم علينا الكسائى البصرة فلقى عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحوا كثيرا، ثم صار إلى بغداد فلقى أعراب الحطمية فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن. فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله (2).
وكان البصريون يعتزون بأنهم أخذوا اللغة عن حرشة الضباب، وأكلة اليرابيع على حين أخذها الكوفيون عن أهل السواد أصحاب الكواميخ، وأكلة الشواريز (3)
جمع شيراز وهو اللبن الرائب.
وقد أورد ابن جنى بابا فى كتابه الخصائص فى أن لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر (4).
* * * وقد شاعت المذاهب الفلسفية فى البصرة، وطغى منهج أصحاب الكلام فى بيئاتها الدراسية، على خلاف من الكوفة فى ذلك، ومن هنا كان فى نحو البصريين تعليل وفلسفة، وفى نحاتها قدرة على الجدل والقياس، وقف أعرابى على مجلس الأخفش، فسمع كلام أهله فى النحو، وما يدخل معه، فحار وعجب، وأطرق ووسوس، فقال الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب!؟ قال: «تتكلمون بكلامنا فى كلامنا بما ليس من كلامنا (5)»
__________
(1) بغية الوعاة للسيوطى ص 336.
(2) معجم الادباء: 13/ 182.
(3) انظر أخبار النحويين البصريين ترجمة الرياشى.
(4) الاقتراح للسيوطى ص 32.
(5) الامتاع 2/ 139ويظهر أن الاعرابي قد أصابه طائف من هذه الفلسفة فأخرج كلامه مخرج الفلاسفة (شلبى).(1/446)
وقد نشأ ابن المقفع بالبصرة (1)، وكان صديقا حميما للخليل بن أحمد، وكان فى الخليل بن أحمد النحوى البصرى ذكاء نادر يستطيع به أن يهضم الأبحاث المنطقية واللغوية التى ينقلها ابن المقفع من الفهلوية (2) وربما كان ذلك يمت بسبب إلى ما رووا عنه من أنه كان الغاية فى تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله (3).
وقد ظلت المدرسة البصرية تجرى على هذا السنن من الأخذ بالمنطق، واستخدام القياس، والتعليلات الفلسفية حتى وصلت فى ذلك إلى الحد الذى يبدو فيما دار بين المبرد البصرى، وثعلب النحوى فى مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر: سأل المبرد ثعلبا عن همزة بين بين أساكنة هى أم متحركة؟ قال ثعلب: «لا ساكنة ولا متحركة» يريد أن حركتها روم. فقال المبرد: قوله: «لا ساكنة» قد أقر أنها متحركة، وقوله. «لا متحركة» قد أقر أنها ساكنة فهى ساكنة لا ساكنة، ومتحركة لا متحركة (4)!! «وفى ذلك صورة من الجدل الفلسفى والأسلوب العقلى الذى شاع عند النحاة البصريين. وكان ثعلب ذا نقل عن الفراء والكسائى، فاذا سئل عن الحجة والحقيقة لم يأت بشيء (5). وانتقلت حدود المناطقة إلى النحويين، وهذا الزجاجى من مدرسة المبرد يحدد الاسم فيقول: الاسم فى كلام العرب ما كان فاعلا أو مفعولا، أو واقعا فى حيز الفاعل والمفعول به، هذا الحد داخل فى مقاييس النحو وأوضاعه وليس يخرج عنه اسم البتة ولا يدخل فيه ما ليس باسم، وإنما قلنا فى كلام العرب لأنا له نقصد وعليه نتكلم، ولأن المنطقيين وبعض النحويين قد حدوه حدا، خارجا عن أوضاع النحو فقالوا الاسم صوت موضوع دال باتفاق على معنى غير مقرون بزمان. وليس هذا من ألفاظ النحويين ولا أوضاعهم وإنما هو من كلام المنطقين وإن كان قد تعلق به جماعة من النحويين (6).
* * * وقد تبين لى أن الكوفيين يعتدون بالقراءات، ويبنون قواعدهم عليها، على
__________
(1) ضحى الإسلام: 1/ 204.
(2) تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص 39.
(3) نزهة الالباء ص 31.
(4) مجالس اللغويين والنحاة لوحة رقم 55نسخة مصورة عن شهيد على باستانبول.
(5) انباه الرواة: 1/ 144.
(6) الايضاح فى علل النحو للزجاجى ص 6ب.(1/447)
حين أن البصريين وقفوا منها موقفهم من سائر النصوص اللغوية، وأخضعوها لأصولهم وأقيستهم، فما وافق منها أصولهم ولو بالتأويل قبلوه، وما لم يوافق رفضوه، بل ربما حكموا على القراءة بالوهى، وعلى القارئ بالوهم (1).
وكان الفراء يقول «والكتاب أعرب وأقوى فى الحجة من الشعر (2)» «والاجتماع من قراءة القراء أحب إلى (3)» وربما اقتضى منهج هذا البحث العود إلى هذا الموضوع بالتفصيل، فأرجئه لأعود إليه بعد حين.
* * * وقد احتفظت المدرستان بوجودهما المنفصل حتى نهاية القرن الثالث أو وسط القرن الرابع وحينئذ أصبحتا مختلطتين فى المدرسة الجديدة: فى بغداد.
وقد توفر ابن قتيبة وهو نحوى بصرى بعد انسحابه من القضاء فى الدينور على التدريس ببغداد إلى أن مات سنة 276هـ وكان يميل إلى خلط تعاليمه بنظريات منقولة من الكوفيين (4).
ويعد المبرد البصرى (285هـ)، وثعلب الكوفى (291هـ) آخر ممثلين للمدرستين، وقد سكن هذان العالمان المتنافسان بغداد، كما اشتركا فى تأديب الشاعر الأمير ابن المعتز، وقد سمع الناس محاضرات كلا الأستاذين، وكانت اندماج تعاليم المدرستين فى الجيل التالى من النحويين الذين أسسوا مدرسة بغداد (5).
واحتفظت المدرسة البصرية بتعاليمها إلى أواسط القرن الرابع لأن ابن دريد الذى عاصر المبرد لمدة اثنين وستين عاما ظل حيا حتى 321هـ، وباستثناء هذا المعمر الذى كان البقية الباقية من مدرسة البصرة فان من خلف المبرد وثعلب يسمون بالبغداديين كأبى بكر بن السراج ومبرمان، لا لأنهم سكنوا وحاضروا فى بغداد، ولكنهم هناك لقنوا مذهبا جديدا مزيجا من تعاليم المدرستين القديمتين من تفاوت منهم فى النزوع إلى إحداهما دون الأخرى (6).
__________
(1) انظر مسألة 60من الانصاف.
(2) معاني القرآن ص 14ط (دار الكتب).
(3) معاني القرآن ورقة 194.
(4) الفهرست لابن النديم ص 115.
(5) مقدمة. ... 11.
(6) المصدر السابق. .. 61.(1/448)
وأرى أن هذا الذى يقول وما يذهب إليه بعض الباحثين من أن هناك مدرسة نحوية باسم مدرسة بغداد متميزة عن المدرستين البصرية والكوفية لا يتفق مع ما كان يراه الأقدمون الأولون من أصحاب التراجم والطبقات. ثم هو لا يتفق كذلك مع نصوص العلماء الأقدمين.
فابن النديم لا يسمى من خلطوا بين المذهبين بغداديين (1).
والزبيدى فى طبقاته يذكر فى كتابه النحاة واللغويين من البصريين والكوفيين والمصريين والقرويين (الإفريقيين) والأندلسيين ولا يزيد (2).
وأما نصوص العلماء الاقدمين فإن أبا على الفارسى حينا يسمى الكوفيين باسمهم هذا وحينا يطلق عليهم البغداديين، وقد ناقش البغداديين فى إجازتهم جمع طلحة بالواو والنون ومعروف أنهم الكوفيون هم الذين يجيزون ذلك، وقال: «ومن كلام أهل بغداد: الكسائى والفراء نحن جئناك به (3)»
وجاء فى تهذيب التهذيب: «لو لم يكن لأهل بغداد من علماء العربية إلا الكسائى والفراء لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس (4)»
وقال ابن جنى وقد رأى رأى الكوفيين مطلقا عليهم البغداديين ولا قرابة بينى وبين البصريين ولكنها بينى وبين الحق والحمد لله (أنظر المحتسب سورة آل عمران) «وإن يمسسكم قرح» (5).
بل ربما توسع العلماء فى زمن أبى على فأطلقوا لفظ العراقيين على الكسائى والقراء والأحمر (6).
فالقول بأن ابن السراج ومبرمان يمثلان المدرسة البغدادية كما يذهب إليه مردود، ويشهد على رده كذلك أن الزبيدى وهو معاصر لهما يجعلهما من البصريين (7) وكذلك يفعل ابن النديم (8).
وإذن فلم تكن هناك فيما أرى مدرسة بغدادية قائمة بنفسها لها تعاليمها، غاية ما فى الأمر أن رجالا خلطوا بين المدرستين البصرية والكوفية، فرأوا رأيا
__________
(1) انظر الفهرست 129115.
(2) انظر فهرست طبقات الزبيدى 357343.
(3) انظر الحجة: 1/ 92نسخة مراد ملا.
(4) انظر تهذيب التهذيب 11/ 212.
(5) وانظر الخصائص: 1/ 409.
(6) انظر تهذيب اللغة للأزهرى نسخة مصورة بمجمع اللغة العربية رقم 626لغة: 3.
(7) انظر طبقات الزبيدى 125122.
(8) انظر الفهرست: 9289.(1/449)
من هذه ورأيا من الأخرى وإن كانوا فى مذهبهم الأصيل يميلون إلى هذه أو يميلون إلى تلك فيكونون بصريين أو كوفيين حسب. فابن كيسان يحفظ المذهبين لأنه أخذ عن المبرد وثعلب (1)، وكان ميله إلى البصريين أكثر (2)، وكذلك كان ابن قتيبة (3).
وابن شقير شديد التعصب مع الكوفيين مع اعتقاده مذهب البصريين (4)
وأبو على نفسه أحد هؤلاء فعلى الرغم من نزعته التى تميل به إلى البصرية كان يرى رأى الكوفيين فى بعض المسائل النحوية، وقد أعطيت مذهبه فضل بيان فى بعض فصول هذا البحث فليراجع هناك.
* * * (ب) معالم «نشاط النحويين منذ عهد أبى الأسود حتى أبى على الفارسى»
منذ أن توفى الرسول (صلّى الله عليه وسلم)، وانتهى الأخذ عنه بوفاته، والنحويون الأولون الذين كانوا قراء نصبوا أنفسهم رقباء على لحون القراء، وتتابع النحاة بعد أبى الأسود يستمعون إلى القراء، ويرقبون القارئين، وينبهون إلى لحن اللاحنين، ومكن لهم من هذه الرقابة أن مجالها ذو شأن عظيم: ذلك هو القرآن الكريم، واللحن فيه أبعد أثرا، وأشد خطرا، وأبشع نكرا، نعم! بدأت الرقابة منذ أبى الأسود. وقد علمنا ما كان من الأمر عند ما سمع قارئا يقرأ: «إن الله برىء من المشركين ورسوله، بكسر اللام (5)، ودفع النحاة الأولين إلى هذه السيطرة» كذلك أن لكل منهم عملا قرآنيا مذكورا به، مشهورا عنه، إلى جانب جلوس كل منهم للاقراء يؤخذ عنه، ويعرض عليه: فأبو الأسود الدؤلى ينقط المصحف (6)، ونصر بن عاصم (ت 89هـ (7)) يسأله الحجاج أن يضع للحروف المتشابهة علامات، وينهض نصر بهذه المهمة، فيضع النقط أفرادا وأزواجا، ويخالف بين أماكنها بتوقيع بعضها فوق الحروف، وبعضها تحت الحروف (8)
ويروى أبو عمرو أن نصرا هو الذى خمس المصاحف وعشرها (9). ونصر هذا هو الذى حدث عنه خالد الحذاء، قال: «سألت نصر بن عاصم كيف تقرأ: «قل
__________
(1) حاشية الامير على المغنى 1/ 56وانظر نزهة الالباء 162.
(2) انظر طبقات الزبيدى 171.
(3) انظر الفهرست 115.
(4) الإيضاح للزجاجى: 20 (ا).
(5) نزهة الالباء 6.
(6) طبقات الزبيدى 13.
(7) نزهة الالباء 9.
(8) التصحيف والتحريف لأبى أحمد العسكرى 10.
(9) كتاب النقط 133.(1/450)
هو الله أحد الله الصمد» فلم ينون، فأخبرته أن عروة ينون فقال: «بئسما قال، وهو للبئس أهل، فأخبرت عبد الله بن أبى إسحاق بقول نصر بن عاصم فما زال يقرأ بها حتى مات (1). ولم يكن النحاة الأولون يردون القراءات المخالفة للعربية فحسب، بل كان اشتغالهم بالقراءة والاقراء داعيا إلى رد كل قراءة لم ترد عن الرسول وإن كانت جائزة فى العربية، وكان لهم فى هذا الباب نشاط مذكور كان الحجاج يلحن (2)، ويأخذ يحيى بن يعمر النحوى على الحجاج لحنه، ويحتفظ به فيما بينه وبين نفسه إذ تمنعه سطوة الحجاج أن يصرح بما أخلى، لكن الحجاج يسأله، فيرتفع به يحيى عن اللحن، ويقول: «الأمير أفصح من ذلك!! ثم يعزم عليه الحجاج فيقول:
«نعم:، وفى كتاب الله تعالى قرأت: {«قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ} {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ»} (3) فرفعت أحب وهو منصوب (4)، وعبارة الزبيدى فى طبقاته: «والوجه أن تقوأ بالنصب على خبر كان (5)» (فلئن صح أن هذا التوجيه بعبارته صدر عن يحيى، ولم يكن للرواة تزيد فيه إن ذلك دليل على وجود المصطلحات النحوية فى ذلك الوقت المبكر إذ توفى يحيى سنة 90هـ (6) وهو يجبه القائلين بأن النحو من وضع عبد الله بن أبى إسحاق المتوفى (117هـ)، وقد سبق يحيى عبد الله فى الدراسات النحوية (7)، فقد عد الزبيدى ابن أبى إسحاق فى الطبقة الثالثة (8)، على حين عد يحيى فى الطبقة الثانية (9).
وتلحين يحيى الحجاج من حيث الرواية، لأنه لم يرو إلا النصب (10) والرفع مخالف لاجماع القراء النقلة. وإلا فهو جائز فى علم العربية (11). على أن يضمر فى كان ضمير الشأن ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر وتكون الجملة فى موضع نصب على أنها خبر كان.
__________
(1) طبقات الزبيدى 21.
(2) البيان والتبيين: 2/ 174.
(3) سورة التوبة آية 24.
(4) نزهة الألباء 10وينظر تحرج الحجاج من اللحن (طبقات الزبيدى 22) وتعليل هذا التحرج وتحليله (سيبويه امام النحاة 5 «على النجدى ناصف»).
(5) طبقات الزبيدى 22.
(6) انظر طبقات القراء: 2/ 281.
(7) نزهة الألباء 13.
(8) طبقات الزبيدى 25.
(9) طبقات الزبيدى 22.
(10) النهر الماد من البحر: 5/ 22.
(11) البحر المحيط: 5/ 22.(1/451)
ويحيى بن يعمر يذكر بعمل قرآنى، روى البخارى فى تاريخه عن شيوخه:
أن أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر (1)، وقالوا: «وكان لابن سيرين مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر (2) كذلك روى أبو عمرو الدانى (3).
والمشتغلون بالإعراب يقولون لمحمد بن سليمان والى البصرة (ت 173هـ (4)) فى قراءته: {«إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ يُصَلُّونَ»} برفع الملائكة، فيقول: «خرجوا لها وجها، ولم يكن يدع الرفع (5)».
وموقف محمد بن سليمان هنا يخالف موقف الحجاج، فابن سليمان متمسك بما يقرأ، لا يتحرج منه، ويصر عليه، ولا يحيد عنه، ولا يسمع ما يقال فيه، وربما كان ذلك من ابن سليمان لأن قراءته لها صلة بما روى من الأثر، وذات وجه يعلمه من مذاهب القراء، على أنه كان بينه وبين أبى عمرو بن العلاء صداقة ظهرت فى زيارة أبى عمرو له سنة 154هـ (6)، وقد رويت قراءة الرفع فى هذه الآية عن أبى عمرو (7)، وفيه أن الذى روى هذه القراءة عن أبى عمرو: ابن عباس وعبد الوارث، ولم أجد فيمن روى عن أبى عمرو من اسمه: ابن عباس، ولعلها تحريف، وصحتها العباس (8).
وكان إلى جانب هذه الرقابة، جدل على التوجيه الإعرابى بين القراء النحاة أنفسهم، فقد كان عيسى بن عمر يقرأ: «هؤلاء بناتى هن أطهر لكم» بنصب أطهر، وينكرها أبو عمرو عليه، وكانا يقرءان: {«يََا جِبََالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ»} ويختلفان فى التأويل (9).
حتى إذا كان سيبويه رأينا قدرا صالحا من الروايات المختلفة للقراءات،
__________
(1) طبقات القراء: 2/ 381.
(2) طبقات الزبيدى: 22.
(3) كتاب النقط: 132 (وربما كان يحيى بن يعمر يقوم بنقط المصاحف لمن أراد من الناس، كما فعل لابن سيرين، وكما تدل عليه عبارة الزبيدى السابقة، وأما نقط نصر بن عاصم فربما كان خاصا بجهة رسمية يمثلها الحجاج).
(4) شذرات الذهب: 1/ 282.
(5) البيان والتبيين: 1/ 239.
(6) طبقات الزبيدى: 31.
(7) انظر البحر المحيط: 7/ 248.
(8) انظر طبقات القراء: 1/ 290.
(9) طبقات الزبيدى: 36.(1/452)
وتوجيه سيبويه وشيوخه النحاة من قبله لها، وقد تحدثت عن ذلك بالتفصيل فى مكان آخر لمناسبة أخرى (1).
ثم تجرى مناقشات حول القراءات بين الكسائى وحمزة (2)، وتؤلف كتب فى معانى القرآن يكون فيها للقراءات وتوجيها نصيب كمعانى القرآن للفراء، وللزجاج، وللنحاس. كما ألفت كتب للاحتجاج على النحو الذى بينت فى فصل آخر، ويكون من بين هؤلاء المشتركين فى النشاط النحوى من حيث الاحتجاج، والتحدث حول معانى القرآن أبو على الفارسى فى كتابه: الحجة
* * * وظاهرة أخرى يتجلى فيها نشاط النحويين، تلك هى مؤلفاتهم التى تركوها، ولهذه المؤلفات قيمة فى رصد التطور النحوى، والتعرف على المراحل التى سار فيها نشاط النحويين فى التأليف، ثم هى لها دلالة أخرى فيما تعطيه هذه الكتب مؤلفيها من شهرة وذيوع، وإنما شهرة العالم كما يقول أبو الطيب اللغوى بمصنفاته والرواية عنه (3).
ولا يسع الباحث أن ينكر ما كان لأبى الأسود الدؤلى من باكورة فى هذا النشاط، وما يؤثر عن أبى الأسود يعد بذرة تعهدها النحاة من بعده، ورعوها حق رعايتها حتى صار على يد إمام النحاة شجرة وارفة الظلال، ممتدة الفروع، غنية بالثمار.
هذا وأود أن أنبه إلى أن التعرف على نشاط النحويين التأليفى فى دقة أو ما يقرب منها أمر عسير، فقد طواه الزمن الغابر فيما طوى، ويكفى أن نتبين المعالم الكبرى لهذا النشاط:
ولعل أول ما عرف من نشاط فى هذا المجال هذه الأوراق الأربعة التى وجدها ابن النديم فى خزانة ابن أبى بعرة: إذ يقول ابن النديم «ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبى الأسود ما هذه حكايته: «وهى أربعة أوراق أحسبها من ورق الصين ترجمتها هذه فى كلام فى الفاعل، والمفعول من أبى الأسود (رحمه الله عليه) بخط يحيى
__________
(1) انظر ص 164158من هذا البحث.
(2) نزهة الألباء: 44.
(3) طبقات النحويين: 138.(1/453)
ابن يعمر وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علان النحوى، وتحته هذا خط النضر بن شميل (1)».
ويعقب أبو الأسود ولدا اسمه (عطاء) كان عالما بالنحو والعربية فيما يقول القفطى، وهو الذى اتفق بعد موت أبيه مع يحيى بن يعمر على بسط النحو، وتعيين أبوابه، وبعج مقاييسه، ولما استوفى هو ويحيى بن يعمر جزءا وفيرا من أبواب النحو نسب بعض الرواة اليهما أنهما أول من وضع هذا النوع (2).
وقد ورد فى كلام على بن محمد الهاشمى عن أبيه أنه سمى ما تركه أبو الأسود من الأوراق الأربع كتابا، حتى كانت عبارته كما رواها الزبيدى فى طبقاته: «وضع أى أبو الأسود باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه، فزاد فى ذلك الكتاب، رجل من بنى ليث أبوابا، ثم نظر فاذا كلام العرب ما لا يدخل فيه، فأقصر عنه (3)».
وإذن فقد تسلم تراث أبى الأسود ذلك الرجل الليثى، فمن هو؟ أيحيى بن يعمر هو؟ وهو أحد الآخذين عن أبى الأسود (4)، وقد كان عداده فى بنى ليث (5)
ابن كنانة (6)؟ ثم هو الذى كتب الأوراق التى وجدها ابن النديم (7)، أم نصر بن عاصم الليثى؟ لا شك فى أنه نصر بن عاصم الليثى لأمرين:
أولهما: نسبته صراحة إلى بنى ليث، أما يحيى بن يعمر فهو عدوانى منسوب إلى بنى ليث بالولاء، فقد كان كما يقول الزبيدى فى الطبقات نقلا عن أبى حاتم السجستانى حليفا لبنى ليث (8).
وآخرهما: أن ما أورده ياقوت فى معجمه عن نصر بن عاصم، ونقله السيوطى يرشح هذا الترجيح، فقد أوردا فى الحديث عن نصر أن له كتابا فى العربية (9).
ولم تذكر كتب التراجم فيما استقصيت أن ليحيى كتابا فى العربية.
وقد كان لكتاب نصر دلالة فى تاريخ النشاط النحوى، ذلك لأنه يعد محاولة طبعية تلت محاولة أبى الأسود فى ورقاته الأربع، ومحاولة عطاء بن أبى الأسود
__________
(1) الفهرست 61.
(2) إنباه الرواة: 2/ 381.
(3) طبقات الزبيدى: 15.
(4) الفهرست 62.
(5) طبقات الزبيدى: 22.
(6) الفهرست 62.
(7) انظر الفهرست 61.
(8) طبقات الزبيدى: 23.
(9) بغية الوعاة: 403، معجم الأدباء: 19/ 224.(1/454)
ويحيى بن يعمر، وسبقت محاولة عيسى بن عمر فى كتابيه الإكمال، والجامع، فنصر بن عاصم يزيد أبوابا على الفاعل والمفعول، ولكنه ينظر فيجد استقراءه ناقصا فيقصر (1)، ثم يكون عيسى بن عمر فيضع كتابيه الإكمال والجامع (2) ويريح بهما من النظر والقياس (3)، ويتلافى نقص نصر بن عاصم فى كتابه بأن يضع قواعده على الأكثر، ويسمى الأخرى لغات (4)، وعيسى بن عمر آخذ عن عبد الله بن أبى إسحاق الذى يعج النحو، ومد القياس فيما يقول ابن سلام (5).
وبعمل عيسى تتم المراحل التى تقتضيها سنة النشوء والارتقاء والتدرج الذى تدعو إليه طبيعة الأشياء، وتتلخص هذه المراحل فيما يأتى:
أولا أبو الأسود له ورقات (6) تمثل النشاط البدائى فى التأليف النحوى.
ثانيا ونصر بن عاصم يضع فى العربية كتابا (7)، ولكنه لا يستقصى فى الاستقراء (8).
ثالثا وعبد الله بن أبى إسحاق يبعج النحو، ويمد القياس (9)، ومعنى هذا أن استقراءه أكثر شمولا من استقراء الذين سبقوه
رابعا وعيسى بن عمر يضع قواعده على الأكثر من كلام العرب، يوحى اسم كتابه الاكمال بتدارك فائت، وتمام ناقص كما يوحى اسم كتابه «الجامع» بضم أشتات، واستيعاب شوارد (10)، فيكون بذلك أول من بلغ غايته فى كتاب النحو (11)، ويقدر المؤرخون عمله، ويبالغون فيما قام به من استقصاء فيقولون: أنه أراح من النظر والاستقراء (12).
وهذه المراحل كما ترى آخذ بعضها بحجز بعض، وكل حلقة امتداد للحلقة السابقة ومكملة يقصها، وزائدة عليها، وجميعها موصول السبب بعمل أبى الأسود، ولئن لم يأخذ عيسى بن عمر عن ابن الأسود إنه آخذ عمن أخذ عنه (13)، ثم إنه
__________
(1) طبقات الزبيدى: 15.
(2) الفهرست 63.
(3) طبقات الزبيدى: 37.
(4) طبقات الزبيدى: 15.
(5) مقدمة طبقات ابن سلام، طبقات الزبيدى 15.
(6) الفهرست 61.
(7) معجم الأدباء: 19/ 224والبغية 403.
(8) انظر طبقات الزبيدى: 15.
(9) طبقات الزبيدى: 25.
(10) سيبويه امام النحاة: 133.
(11) طبقات: 15.
(12) انظر طبقات الزبيدى: 37.
(13) انظر الفهرست 62.(1/455)
كان ذا صلة روحية به، ويغرم برواية الأحاديث عنه (1)، كما كان مولعا بترديد شعره كما يروى الأصمعى (2). فالمؤرخون يكادون يجمعون على أن لأبى الأسود فى ذلك النشاط السبق والتقدم (3)، ثم وصل ما أصّل أبو الأسود التالون له، الآخذون عنه «وكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول ومد من القياس، وفتق من المعانى، وأوضح من الدلائل، وبين من العلل (4).
ويؤخذ مما يذكر المؤرخون أن هذه الآثار التى تركها أبو الأسود فى ورقاته، ونصر ابن عاصم فى كتابه قد فقدت (5)، وذلك ما يشير إليه أيضا قول الخليل يذكر عيسى وكتابيه:
بطل النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال، وهذا جامع ... وهما للناس شمس وقمر (6)
وهما بابان صارا حكمة ... وأراحا من قياس ونظر (7)
والبيت الأول يدل على أن النحو كان له وجود متميز، وقد بطل كله بما أحدث عيسى، والمقصود ببطلان النحو ذهابه ذهابا لا يستطاع معه الظفر به، وأن ما سبقهما من مسائل نحوية ضاع فيما طواه التاريخ، وهذا المعنى يدل عليه الاستعمال اللغوى للكلمة (8)، واعتبر ذلك بقول الليث بن المظفر: «كنت أسير إلى الخليل بن أحمد، فقال لى يوما: «لو أن إنسانا قصد وألف حروف ألف وباء وتاء على ما أمثله لاستوعب فى ذلك جميع كلام العرب» قال الليث: «فجعلت أستفهم ويصف لى، ولا أقف على ما يصف، فاختلفت إليه فى هذا المعنى أياما، ثم اعتل، وحججت، فما زلت مشفقا عليه وخشيت أن يموت فى علته فيبطل ما كان يشرحه لى الخ (9)
ومهما يكن من أمر فإن الخليل على ما يبدو من البيتين قد انتفع
__________
(1) انظر طبقات الزبيدى: 17.
(2) انظر طبقات الزبيدى: 19.
(3) انظر طبقات الشعراء لابن سلام، والشعر والشعراء لابن قتيبة، مراتب النحويين البصريين للسيرافى والفهرست والبصائر: 1/ 181.
(4) طبقات الزبيدى 2.
(5) الفهرست 61.
(6) الفهرست 63.
(7) طبقات الزبيدى 37.
(8) القاموس مادة بطل.
(9) الفهرست 65.(1/456)
بكتابى عيسى بن عمر (ت 159هـ) (1) الذى أخذ الخليل (2) عنه، وإن كان هذان الكتابان قد فقدا كما يقول ابن النديم مذ المدة الطويلة: ولم يقع إلى أحد علمناه، ولا خبّر أحد أنه رآهما» (3).
وقد قصدت قصدا إلى الحديث عن تميّز النحو، واستكمال أدواته عند عيسى ابن عمر الثقفى الضرير مولى خالد بن الوليد (4)، ثم بطلان ما قبل ذلك منه، وتسلم الخليل تراث عيسى لأنتقل إلى الحديث عن الكتاب، كتاب سيبويه تلميذ الخليل وأنه لا يعد وثبة فى تاريخ النحو بل هو حلقة من تلك الحلقات التى بدأت على ما ذكرت على يد أبى الأسود، وإن كان النحو قد بلغ أشده واستوى فى الكتاب. ثم يقف النحو بعده عن النمو، ولكن يأخذ سبيله بعد النضج إلى الاحتراق، فينحدر فى دركات الضمور، وما أشبه الكتاب فى تاريخ النحو بسن الأربعين فى أعمار الناس، فهى قمة الفتاء، فى ناحية منها صعود نحو الكمال، وفى الأخرى هبوط نحو الاضمحلال، وهى بين هاتين القمة الشاهقة على كل حال.
ولو أردنا تقدير كتاب سيبويه من حيث الأصالة أو اتباعه لغيره من السابقين، لرأينا أنه ملىء بالنقول عن شيوخه: الخليل بن أحمد فى كثرة ظاهرة بلغت مراتها اثنتين وعشرين وخمسمائة، ثم يونس، وجملة المروى عنه مائتان، ثم أبو الخطاب الأخفش، وأبو عمرو بن العلاء فى جملة بين الأربعين والخمسين، ومن بعد هؤلاء عيسى بن عمر فى مرات تتجاوز العشرين، وأبو زيد الأنصارى، وهارون بن موسى، وعبد الله بن أبى إسحاق فى قلة نادرة فى كتابه الكبير (5). وهذه النقول الكثيرة تدفعنى إلى فهم عبارة ثعلب فهما لا أتفق فيه مع الأستاذ على النجدى ناصف (6)، هذه العبارة ذكرها صاحب الفهرست إذ يقول: «قرأت بخط أبى العباس ثعلب»:
اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا، منهم سيبويه، والأصول والمسائل للخليل، (7) فليس المقصود من هذا العدد إلا الإشارة إلى هذه النقول المتعددة فى كتاب سيبويه، وهذه النقول قد وثقها يونس بن حبيب فيما يذكره الزبيدى فى الطبقات (8)، وإذا كان الخليل قد انفرد بالأصول والمسائل كما يقول
__________
(1) خزانة الأدب: 1/ 114.
(2) أخبار النحويين للسيرافى: 31.
(3) الفهرست 63.
(4) خزانة الأدب 1/ 114ط 1347المطبعة السلفية.
(5) انظر كتاب سيبويه، امام النحاة على النجدى ناصف ص 9887.
(6) المصدر السابق: 128.
(7) الفهرست 67.
(8) انظر 49والأنبارى فى نزهة الألباء: 39.(1/457)
ثعلب، فما ذاك إلا لأن له نصيب الأسد من بين هؤلاء الذين نقل عنهم سيبويه من الشيوخ، وقد حدث نصر بن على الجهضمى قال: «لما أراد سيبويه أن يؤلف كتابه قال لأبى: «تعال نحى علم الخليل (1)»، وإذا كان سيبويه من هؤلاء الذين اجتمعوا على صنعة الكتاب فما ذاك أيضا إلا لهذه التعليقات أو التعقيبات التى يتبعها ما ينقل عن الشيوخ شارحا، ومقررا، ومعالنا بالرأى حاسما جريئا كما يقول الأستاذ على النجدى (2)، وإذا كانت هذه النقول قد بلغت فى جملتها 858 وكان الكتاب بجزأيه قد بلغ تسعمائة وعشرين صفحة فى طبعته المصرية، فان هؤلاء الشيوخ ولا سيما الخليل ويونس يكادون يطالعونك فى كل صفحة من صفحات الكتاب، وإليك مثالا يظهر هذا التعاقب فى موالاة:
من الجزء الأول
الصفحة المنقول عنهم من الشيوخ
302 - وزعم للخليل أنهم نصبوا المضاف
304 - وقال الخليل كأنهم لما أضافوه ردوه وقال الخليل وسألته عن يا زيد نفسه قول يونس والمعنى وقد زعم يونس أن أبا عمر كان يقوله يا زيد زيد الطويل
205 - أبو عمرو الخليل ثلاث مرات
306 - الخليل
307 - الخليل مرتين
309 - الخليل
310 - الخليل ثلاث مرات
311 - يونس الخليل مرتين
313 - عيسى بن عمر
314 - يونس مرتين، الخليل
315 - الخليل مرتين
317 - الخليل أربع مرات، ويونس مرة
__________
(1) طبقات الزبيدى: 78.
(2) انظر سيبويه امام النحاة: 182.(1/458)
318 - الخليل ويونس مرة
320 - كل من الخليل وأبى عمرو مرة (1)
الجزء الثانى
99 - الخليل مرتين أبو زيد مرة، وكذلك يونس
103 - الخليل ثلاث مرات، أو الخطاب مرة
104 - الخليل أربع مرات، ويونس مرة
107 - يونس ثلاث مرات، وكل من الخليل، وأبى عمرو مرة
110 - كل من أبى الخطاب، وأبى زيد مرة، وكل من الخليل، ويونس ثلاث مرات
113 - الخليل مرتين كل من أبى عمر، ويونس مرة
118 - كل من الخليل، ويونس مرتين
122 - يونس ثلاث مرات وكل من الخليل، وأبى عمرو مرة
126 - يونس ثلاث مرات والخليل مرتين، وأبو زيد مرة
128 - الخليل مرتين كل من يونس، وأبى الخطاب، وعيسى مرة (2)
ومثل هذه الموالاة الظاهرة تدفع إلى القول بأن سيبويه استعان بآخرين، على أن الأستاذ على النجدى أراد بتفسيره هذه العبارة أن يرفع الغمط الذى لحق سيبويه من ثعلب، ولعمرى لقد بلغ فيما أورد من مناقشة موفقة ما أراد (3)
وأنا بتفسيرى ألتقى مع الأستاذ فيما قصد، وأقرر معه كذلك أن سيبويه على الرغم من هذه النقول لم يشأ أن ينمحى وجوده، أو تخفى شخصيته فى الكتاب، فيكون مثله فيه كمثل النحلة الكاسبة الدءوب، تجمع رحيق الأزهار والثمار من المزارع والبساتين غير واعية لما تصنع، ولا مفضلة فيه إلا بالجمع والادخار (4)
__________
(1) ملخصة من جذاذات تفضل باطلاعى عليها الأستاذ على النجدى خاصة بمسودات بحثه فى سيبويه.
(2) ملخصة من جذاذات تفضل باعارتها اياى الأستاذ على النجدى خاصة بمسودات بحثه فى سيبويه امام النحاة.
(3) انظر سيبويه امام النحاة ص 130128.
(4) المصدر نفسه 180.(1/459)
ومنذ أن ألف الكتاب، يتخذه النحويون إماما، ويعدونه قرآنا (1)، ويعجبون به على اختلاف مذاهبهم: فالمازنى البصرى يستعظم أن يعمل أحد كتابا كبيرا بعد كتاب سيبويه (2)، والمبرد وهو بصرى أيضا يسميه البحر تعظيما (3)، والفراء الكوفى يكون فى ميراثه الكتاب وهى النسخة التى أهداها الجاحظ إلى محمد بن عبد الملك (4)، وقد كانت بخط الفراء، ومقابلة الكسائى (5).
وقد وجد تحت وسادة الفراء التى كان يجلس عليها فيما حكاه أحمد أبو جعفر النحاس (6)، فلا غرو إذن أن دارت دراساتهم حوله، وتركز نشاط النحويين فيه، يشرحونه ويعلقون عليه، ويمهدون له، ويرتبون مسائله (7)
ويكون لأبى على الفارسى (377هـ) نشاط فى هذا المجال، ويقفى قفو السابقين له من العلماء، كالمازنى (247هـ) والمبرد (285هـ) والزجاج (311هـ) والأخفش (316هـ) ويدير أبو على الفارسى حديثه فى مسائله غالبا حول عبارات الكتاب والاحتجاج به، والانتصار له على النحو الذى سأعرضه إن شاء الله (8)
وإن يكن هناك تقدم سجله النحويون بعد سيبويه فهو فى تحويل فتاوى سيبويه إلى قواعد وقوانين، ثم تلا ذلك الحديث عن العوامل فكانت كتب الأصول فى النحو. قالوا: «ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج (9)»، والتوسع فى فلسفة النحو، أو التعليل لمسائله، وذلك أثر من آثار اصطباغ الحياة العلمية بالصبغة الفلسفية وذيوع مناهج المتكلمين والمناطقة بين النحاة والباحثين، وقد أورد أستاذنا فى كتابه «سيبويه أمام النحاة» ما يجلى به الفرق بين المنهجين: منهج سيبويه ومنهج النحاة من بعده فى هذه التعليلات (10)
ومن هنا ألفت بعد سيبويه غالبا كتب تحمل أسماء العلل، والعامل، والقياس، والمقاييس النحوية الخ على النحو الذى بسطت فى موضع آخر من هذا
__________
(1) مراتب النحويين الورقة 106.
(2) الفهرست 77.
(3) بغية الوعاة: 366.
(4) تاريخ بغداد: 12/ 196.
(5) وفيات الأعيان: 3/ 133.
(6) طبقات الزبيدى: 73.
(7) انظر سيبويه امام النحاة 188186.
(8) انظر الكلام عن هذه المسائل فى موضعها من هذا البحث.
(9) نزهة الألباء: 169.
(10) انظر ص 166163.(1/460)
البحث (1). ويجرى أبو على الفارسى فى هذا المضمار إلى أبعد الآماد فيمزج نحوه بمسائل النطق وبحوثه وقضاياه، ويقضى فى هذه الفلسفات والتعليلات سبعين عاما (2)
كما يقول تلميذه ابن جنى، وهكذا يتحول النحو من القطرة إلى الفطنة (3)، وفى مقابسات أبى حيان وهو معاصر لأبى على الفارسى بحوث تعرض فيها لما بين النحو والمنطق من المناسبة (4) ولم صار الظرف المخصوص بالزمان أكثر من الظرف المخصوص بالمكان (5)، وفى الطبيعة وكيف هى عند أهل النحو واللغة (6). وبعد أن أورد أبو حيان ثلاث مقابسات متصلات بالنحو والمنطق قال: «وبهذا يتبين لك أن البحث عن المنطق قد يرمى بك إلى جانب النحو، والبحث من النحو يرمى بك إلى جانب المنطق، ولولا أن الكمال غير مستطاع لكان يجب أن يكون المنطقى نحويا والنحوى منطقيا (7)
ولا يعنينى فى هذا البحث الإشارة إلى أن هذه الموجة الفلسفية قد انحسرت على يد ابن مضاء القرطبى فى القرن السادس الهجرى (8)، لأن ذلك خارج عن نطاق العصر الذى عاش فيه أبو على الفارسى، والمهم تسجيل النشاط النحوى، ومعالمه الكبرى، وما تحمله هذه المعالم من دلائل حتى أبو على، لأمضى فى درسه على نحو من التفصيل الدقيق.
كذلك كان من نشاط النحويين تهذيب ألفاظ السابقين، وإزالة ما فيهما من الغموض والتعقيد (9) واختصار كتب الأقدمين تيسيرا على المتعلمين فكان هناك مختصر الجرمى، (10) ومختصر ابن شقير (11).
* * * وبجانب نشاط النحويين فى التأليف، كان نشاطهم فى التدريس، فى هذه الحلقات
__________
(1) انظر الفصل الخاص بذلك.
(2) الخصائص: 1/ 285.
(3) الامتاع: 2/ 139.
(4) المقابسات مقابسة: 13/ 161.
(5) المقابسة 23.
(6) المقابسة: 34/ 174.
(7) المقابسات 177.
(8) انظر كتاب الرد على النحاة 98.
(9) انظر الزجاجى فى مقدمة كتابه ايضاح علل النحو.
(10) انظر طبقات الزبيدى: 77.
(11) انظر نزهة الألباء: 169.(1/461)
التى كانوا يعقدونها منذ سعد الرابية (1) إلى يونس بن حبيب (2) ومن تلاهما من النحاة حتى الفارسى فى حلقاته التى كان يعقدها الدرس فى البصرة، وشيراز، وبغداد، وحلب، وغيرها من البلاد التى تنقل فيها وأملى مسائله المشهورة المنسوبة إلى هذه البلاد.
* * * وكان من مظاهر النشاط النحوى هذه المناظرات التى دارت بين النحاة فى وقت مبكر، حتى أن يزيد بن الحكم الذى عاش زمن عبد الملك بن مروان يهجو النحويين فيقول:
إذا اجتمعوا على ألف وواو ... وياء، هاج بينهم جدال (3)
ويروى قتال بدل جدال (4). وكان فى بغداد مجلس يعرف بمجلس النحويين (5)
ومن هنا ألف المؤلفون كتابا بامم المجلس. ويبدو أن التناظر كان فيصلا بين المتناظرين، وسبيلا إلى تعرف وجه الحق فيما عليه يختلفون. قال الزجاجى فى مقدمة كتابة إيضاح علل النحو» ومن سمت نفسه إلى تتبع ما أود عناه إياه، وسميناه فيه وفحصه والكشف عن حقائقه فحقيق عليه إن مر به ما ينكره أن يراجع فكره ويتبين قريحته ويحرك خاطره، ليقف على ما لعله قد انستر عنه! ولا يحكم من أول وهلة بخروج عن الحق، فإن هو فعل ذلك وتدبره، ولم يره ينقاد فى طريقة القياس مستمرا ورأى أنه لا حق إلا فى غيره كانت حلبة التناظر باجتماع ذوى الهمم والنظر والفحص والجدل معنا فيها فاصلة بيننا وبينه، حتى نصير معا بحق النظر إلى الصواب فنعتقده جميعا، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل، ولم يعر خلق من السهو والغلط، والكمال لله عز وجل، والنقص شامل للمخلوقين (6)
وقد دعا إلى هذه المناظرات أحيانا ما كان بين المتناظرين من اختلاف فى المذاهب النحوية، كما وقع بين عيسى بن عمر (7) والكسائى (8) وبين سيبويه، والكسائى
__________
(1) سيبويه امام النحاة 133وبغية الوعاة 253.
(2) الفهرست 63ونزهة الألباء 32.
(3) خزانة الأدب: 108.
(4) درة الغواص: 106.
(5) انظر معجم الأدباء: 19/ 123.
(6) مقدمة ايضاح علل النحو للزجاجى.
(7) انظر وفيات الأعيان: 3/ 145فى ترجمته عيسى بن عمر.
(8) طبقات الزبيدى: 38.(1/462)
فى المناظرة المشهورة (1) وبين المبرد، وثعلب، وبين سيبويه، والفراء (2)، وبين الكسائى، واليزيدى (3) بحضرة المهدى ثم بحضرة الرشيد (4)، وبين الجرمى، والفراء قالوا: وكان الجرمى يلقب بالنباح لكثرة مناظرته فى النحو ورفع صوته فيه (5)،
وقد أورد الزجاجى فى كتابه الإيضاح عن علل النحو مسائل جرت كما قال «بين النحويين ممن سلف فى مجالس اجتمعوا فيها ختمنا بها الكتاب».
كما دعا إلى هذه المناظرات أحيانا ما بين المتناظرين من اختلاف فى التعصب للعرب والانتصار لهم، أو التعصب عليهم والطعن فيهم، كالمناظرات التى كانت بين عبد الله بن أبى إسحاق، وأبى عمرو بن العلاء (6)، أو بين هذا الأخير وعيسى بن عمر (7)
أو بين ابن أبى إسحاق، وبكر بن حبيب (8). مع أن كل واحد من المتناظرين بصرى، يصطنع مذهب البصرين فيما يقول، ولكن هاج ما بين الفريقين شعوره نحو العرب، فقد كان كل من عبد الله بن أبى إسحاق، وعيسى بن عمر شعوبيا يطعن على العرب (9)، وكان أبو عمرو بن العلاء للعرب أشد الناس تسليما (10)، وقد تجلى ذلك فى موقف كل من عبد الله بن أبى إسحاق وأبى عمرو بن العلاء من الفرزدق على ما سأتناوله بالشرح والايضاح.
* * * ومنذ أواخر القرن الأول تقررت أصول نحوية نتيجة لاستقراء نصوص اللغة، فخضعت هذه النصوص وفى مقدمتها الأشعار جاهلية وإسلامية لرقابة النحاة، يظهرون ما وقع فيها من مخالفة لهذه الأصول (11)، وكان فى ذلك نشاط مأثور فى النقد الأدبى واللغوى معا (12).
ومكن للنحاة فى رقابتهم على الشعراء تحرج الناس خاصتهم وسوقتهم من اللحن الذى عدوه هجنة على الشريف، وجعلوا التحرز منه جمالا للوضيع (13)، حتى قال الخليل:
__________
(1) المصدر السابق: 72.
(2) المغنى: 1/ 74.
(3) معجم الأدباء: 13/ 178.
(4) أخبار أبى القاسم الزجاجى ورقة 32.
(5) نزهة الألباء: 103.
(6) طبقات الزبيدى 25، نزهة الألباء 12.
(7) طبقات الزبيدى: 38.
(8) طبقات الزبيدى: 42وانظر الاشباه والنظائر للسيوطى: 3/ 23.
(9) طبقات الزبيدى: 26.
(10) نزهة الالباء 12وطبقات الزبيدى 28.
(11) طبقات الزبيدى 32.
(12) تاريخ النقد للمرحوم طه إبراهيم: 51، 52.
(13) العقد الفريد: 2/ 478.(1/463)
وترى اللحن بالحسيب أخى الهيئ ... ة مثل الصدى على المشرفى
فاطلب النحو للحجاج وللشع ... ر مقيما والمسند المروى (1)
كما مكن لهم كذلك أن الدولة لا تزال تنزع إلى مجاراة العرب الخلّص، واصطناع أساليبهم فيما يقولون، وكانت يقظة من النحاة فى تعقب الشعراء، وكان التبرم من هؤلاء، ووقعت بين الفريقين العداوة والبغضاء (2).
ومثال تعقب النحاة للشعراء القدامى ما أخذه عيسى بن عمر الثقفى على النابغة الذبيانى من قوله:
فبت كأنى ساورتنى ضئيلة ... من الرقش فى أنيابها السم ناقع
والصواب يقال ناقعا بالنصب على الحال (3)
وتتبع النحاة شعر الفرزدق بخاصة، ووجدوا فى هذا التتبع دعوة وسرورا، ومكنهم من ذلك شخصية الفرزدق الصلبة، وطريقته فى نظم القريض، فقد كان يلغز بالأبيات ويأمر بإلقائها على ابن أبى إسحاق (4). فقد كان كما يقول ابن سلام «يداخل الكلام، وكان ذلك يعجب أصحاب النحو (5). وربما كان السبب فى إعجاب النحاة بشعر الفرزدق أنهم وجدوا فيه مجالا يمتحنون فيه قواعدهم التى استقروا عليها، ويديرون فيه أصولهم التى انتهوا إليها (6)، خطأ عنبسة الفرزدق ولحنه (7) فهجاه الفرزدق بقوله:
لقد كان فى معدان والفيل شاغل ... لعنبسة الراوى على القصائد (8)
كما خطأ عبد الله بن أبى إسحاق فى قوله من قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك:
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
على عمائمنا يلقى رواحلنا ... زواحف تزجى مخها رير
بقوله: أسأت، هو مخها رير، وكذلك قياس النحو فى هذا الموضع (9)
__________
(1) طبقات النحويين للزبيدى: 46.
(2) راجع سيبويه امام النحاة 51فى تعليل هذه العداوة.
(3) طبقات الزبيدى: 35.
(4) الخصائص: 1/ 374.
(5) طبقات فحول الشعراء: 308.
(6) فى تاريخ النقد للحاجرى: 118.
(7) أمالى السيد المرتضى: 2/ 26.
(8) نزهة الالباء 8وطبقات الزبيدى 24ورواية البيت فى أمالى المرتضى 2/ 27لقد كان فى معدان والفيل زاجر.
(9) طبقات الزبيدى 26.(1/464)
ولما سمع الفرزدق ينشد:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف
قال ابن أبى إسحاق، على أى شىء ترفع أو مجلف، قال: على ما يسوؤك وينوؤك (1)، وهكذا تتحرج العلائق بين الفرزدق الشاعر، وابن أبى إسحاق النحوى على ما تصوره هذه الاجابة، وما يشير إليه قول الفرزدق يهجو ابن أبى إسحاق:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا (2)
فيقول ابن أبى إسحاق: «وقد لحنت أيضا فى قولك: موالى مواليا، وكان ينبغى أن تقول مولى موال (3). ويقول الدكتور الحاجرى تعليقا على ذلك، ولم يلتفت ابن إسحاق إلى شىء من هذا الهجاء، كأنما هو لا يعيبه، وإنما همه من هذا الشعر هذا المأخذ النحوى الجديد يهاجمه به، وبشهره عليه، إذ كان ينبغى أن يقول: مولى موال لا مولى مواليا (4).
وأنا أخالف الدكتور الحاجرى فيما قرره من أن ابن أبى إسحاق لم يلتفت إلى هذا الهجاء، بل لقد التفت إليه، ورد عليه، بأوجع من الهجاء، وصوب إليه سهام التخطئة، ورماه باللحن الذى كانوا يتحرجون منه أشد الحرج، ويودون أن لو جرت ألسنتهم بالعربية الخالية منه، وقد خضع الفرزدق نفسه للنحاة فأصلح من شعره على الوجه الذى ارتضوه وإن يكن ذلك بعد إلحاح تارة مثل عدوله فى مدحه ليزيد إلى قوله: «على زواحف نزجيها محاسير (5)» أو التماس لهذا الإصلاح فى غيظ تارة أخرى كما رأوا أن الفرزدق لما أخذ عليه بيت فى شعره قال: «أين هذا الذى يجر خصيبه فى هذا المسجد!؟» يعنى ابن أبى إسحاق (6). ومهما يكن من أمر فخضوع الفرزدق دليل على سلطان النحو والنحاة وتحكمهم فى الشعر والشعراء من هذه الفترة فى تاريخ العربية (7).
وقد بقيت أثارة من سلطان النحاة على الشعراء فى العصر العباسى، فالخليل يعد الشعراء تبعا إن رضى عنهم نفقت بضاعتهم وإلا حل بها وبهم البوار: أورد
__________
(1) نزهة الالباء 13.
(2) الفهرست 62.
(3) نزهة الالباء 12.
(4) فى تاريخ النقد: 120.
(5) أخبار النحويين البصريين 27وطبقات الزبيدى 26.
(6) طبقات الزبيدى: 27.
(7) راجع تاريخ النقد الأدبي لطه الحاجرى: 121118.(1/465)
أبو الفرج فى الأغانى قال: «دار بين الخليل بن أحمد، ومحمد بن مناذر الشاعر البصرى كلام، فقال له الخليل. إنما أنتم معشر الشعراء تبع لى، وأنا سكان السفينة، إن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم، وإلا كسدتم (1)».
ويونس بن حبيب (183هـ) يؤخذ رأيه فى الشعراء اعتدادا به وتسليما فيقول:
«لا أومئ إلى رجل بعينه» ثم يقول عبارته المشهورة: «امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب (2)».
واتخذت رقابة النحاة فى العصر العباسى مظهرا جديدا هو إصدار أحكامهم على الشعراء المعاصرين لهم، أيحتج بشعرهم فتسلم لهم عربيتهم وتدون فى الكتب أشعارهم، وتجرى على ألسنة أهل العلم آثارهم، أم لا يحتج فتسقط مكانتهم ويتعرض النحاة بذلك إلى قوارص هجو الشعراء، ولاذع تعرضهم. روى أبو الفرج عن شيوخه قال: «كان الأخفش طعن على بشار فى قوله:
فالآن أقصر عن سمية باطلى ... وأشار بالوجلى على مشير
وفى قوله:
على الغزلى منى السلام فطالما ... لهوت بها فى ظل مخضرة الزهر
وفى قوله فى صفة سفينة:
تلاعب نينان البحور وربما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجرى
وقال: لم يسمع من الوجل، والغزل فعلى، ولم أسمع بنون ونينان، فبلغ ذلك بشارا فقال: «ويلى على القصارين: متى كانت الفصاحة فى بيوت القصارين!؟ دعونى وإياه «فبلغ ذلك الأخفش، فبكى وجزع، فقيل له: ما يبكيك؟» فقال:
«وما لى لا أبكى وقد وقعت فى لسان بشار الأعمى، فذهب أصحابه إلى بشار واستوهبوا منه عرضه، وسألوه ألا يهجوه، فقال: وهبته للؤم عرضه!» فكان الأخفش بعد ذلك يحتج بشعره ليبلغه فكف بشار عن ذكره بعد هذا.
وفى رواية أخرى أن سيبويه هو الذى عاب هذه الأحرف (3)، وقد تعرض سيبويه من أجل ذلك لهجاء بشار، ووقع فى لسانه، فتوقاه سيبويه بعد ذلك، وكان
__________
(1) الاغاني: 17/ 16ط ساسى.
(2) معاهد التنصيص: 1/ 69، مواسم الادب: 1/ 213.
(3) رسالة الغفران: 364.(1/466)
إذا سئل عن شىء أجاب عنه، ووجد له شاهدا من شعر بشار احتج به استكفافا لشره (1).
وأرى أن القصة سواء أكانت للأخفش أم سيبويه تدل على مكانة النحاة فلهم وإن عدموا ألسنة الشعراء، وما يجرى عليها من الهجاء سلطة يرفعون بها أهل القريض، فيحتجون بما يقولون، وينزلون بهم فلا يحتجون، وقد ظلت هذه النزعة حتى أبا على الفارسى إذ ورد أنه كان يحتج بشعر لأبى تمام (2).
ومن الإنصاف للنحاة أن أذكر أنهم ما كانوا يصدرون فى أحكامهم على شعر الشعراء من حيث الاحتجاج به، أو الاغضاء عنه عن هوى فى نفوسهم، أو خوفا من غضب الشعراء، واتقاء لمعرة ألسنتهم، كما تقولوا على سيبويه أنه استشهد بشعر بشار من أجل ذلك. وأنه استشهد فى باب الادغام بقوله: «وما كل مؤت نصحه، بلبيب (3)»، وأنه تلافاه واستشهد بشعره، ويرد هذا التقول الأستاذ على النجدى فى كتابه سيبويه (4)، بجملة من الأدلة فالبيت غير منسوب، ولن تهدأ نفس بشار إلا إذا ذكر اسمه فى الاستشهاد أولا، ثم لن يقصد سيبويه اغفال اسم بشار، إذ لا معنى لهذا ما دام قد قبل الاحتجاج بشعره ثانيا، وقد راجع الأستاذ بائيات بشار فى ديوانه فلم يعثر على هذا البيت فيها ثالثا، على أن أبا العلاء المعرى، وهو رجل صادق النظرة، عادل الحكومة رد ذلك التقول بقوله:
«ويجوز أن يكون استشهاده به على نحو ما يذكره المتذاكرون فى المجالس ومجامع القوم»، وأن هذا الشاهد فى «باب الإدغام» من الكتاب لم يسم قائله»، وأنه منسوب إلى أبى الأسود الدؤلى فى زعم ناس آخرين (5) فهو من أجل ذلك كما يقول الأستاذ النجدى: «ليس خالصا لبشار (6)» وفى ذلك ما ينصف سيبويه» وينفى تقول المتقولين عليه خاصة وعلى غيره من النحاة المتقدمين على وجه العموم * * *
__________
(1) الاغاني: 3/ 52ط ساسى.
(2) انظر شذرات الذهب: 3/ 89، ومجلة المجمع: 6/ 100وسأناقش ذلك بعد.
(3) رسالة الغفران: 365.
(4) انظر 148.
(5) رسالة الغفران: 365.
(6) سيبويه امام النحاة: 148.(1/467)
وقد كان للتعصب المذهبى فى العصر الأموى أثر فى النشاط النحوى، فابن أبى إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب (1)، وربما كان تتبع ابن أبى إسحاق للفرزدق يرجع فيما يرجع إلى هذه النزعة، وكان أبو عمرو بن العلاء أشد الناس تسليما للعرب (2)، فوقف من شعرائهم موقفا يقوم على تجويز ما ذهبوا إليه، وتوجيه ما قالوه بما يتفق أيضا وأساليب العربية، ولما اعترض ابن أبى إسحاق على الفرزدق فى رفع مجلف من قوله:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال الا مسحتا أو مجلف
قال أبو عمرو للفرزدق: أصبت» وهو جائز على المعنى أى أنه لم يبق سواه (3).
ومن أجل ذلك اكتوى ابن أبى إسحاق من الفرزدق بنار الهجاء، كما نضد الفرزدق لأبى عمرو عقود الثناء، ففيه يقول:
ما زلت أفتح أبوابا، وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار (4)
* * * وإذا انتهيت إلى ذلك يجمل بى أن ألخص المعالم الكبرى للنشاط النحوى، منذ نشأ النحو حتى أبى على الفارسى، وتتلخص هذه المعالم فيما يأتى:
(1) نشاط النحويين فى توقى اللحن القرآنى.
(2) توجيههم الإعرابى للقراءات الصحيحة.
(3) تآليفهم وتطور إنتاجهم منذ أبى الأسود حتى سيبويه.
(4) حلقاتهم المعقودة للدرس منذ سعد الرابية حتى عصور العربية الزاهية.
(5) اختصار كتب الأقدمين وبخاصة كتاب سيبويه
(6) كتابتهم فى أصول النحو.
(7) مناظراتهم ومجالسهم.
(8) نشاطهم فى النقد الأدبى، وتقويم مكانتهم فى ذلك المجال
ويتسلم أبو على الفارسى هذا التراث الضخم بمظاهر النشاط المختلفة فيه ثم يكون له مشاركة تمضى بهذا النشاط قدما كما يأتى البيان.
__________
(1) طبقات الزبيدى: 26.
(2) نزهة الالباء: 12.
(3) نزهة الالباء 13وانظر تاريخ النقد الادبي لطه إبراهيم: 51.
(4) طبقات الزبيدى: 28.(1/468)
الفصل الثانى عرض لكتب أبى على فى النحو
انتهيت فى الحديث عن آثار أبى على وإحصائها إلى ترتيب كتبه، وجاء ذلك الترتيب على النحو الآتى:
المسائل المشكلة والبغداديات فالإغفال فالعسكريات فالبصريات فالحلبيات فالإيضاح والتكملة فالشيرازيات فالشعر فأقسام الأخبار فالمنثورة.
ورأيت بروكلمان ينفرد بذكر «جواهر النحو» مؤلفا من مؤلفات أبى على وأشار إلى أنه فى مكتبة مشهد، فسعيت إلى الحصول على ذلك الكتاب وأعاننى الدكتور صلاح الدين المنجد مدير معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية وتفضل مشكورا فأرسل إلى مدير مكتبة مشهد كتابا برقم 81بتاريخ 25ديسمبر سنة 1955ولم يتلق معهد المخطوطات ردا بالنفى أو الإيجاب حتى اعداد هذه الرسالة للطبع
وعلى الرغم من أنى أعفيت نفسى من التقصير فى سبيل التعرف على ذلك الكتاب، فلا زلت أحس رغبة تدعونى فى الحاح إلى الظفر به، والاطلاع عليه، وتحقيق ما قال بروكلمان. وإن كنت أشك كثيرا فى نسبة ذلك الكتاب إلى أبى على، ذلك لأن اجماع الوراقين والمترجمين منذ ابن النديم حتى بروكلمان يعين على هذا الظن إلى أنى وجدت كتب النحاة ما اطلعت عليه منها لا ترد فيها إشارة إلى ذلك الكتاب بالنقل منه أو الاستعانة به، والرجوع إليه وسيظل الشك عندى حتى يبدو ما يحققه أو ينفيه
وآخذ فى عرض كتب أبى على النحوية بترتيبها الذى إليه انتهيت(1/469)
المشكلة والبغداديات
فى الأمانة العامة للجامعة العربية (معهد المخطوطات) نسخة من المسائل المشكلة مصورة على فلم رقم 860وعنونت بما يأتى:
«المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات (1)
وعاد ناسخها أحمد بن تميم بن هشام اللبلى فقرر ذلك فى آخر هذه النسخة حيث قال ما نصه: «آخر المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات (2)».
ومعنى ذلك أن المسائل المشكلة هى البغداديات، ولكن التحقيق والمقابلة بين بين النصوص تهدى إلى غير ذلك: يهدى إلى أن المسائل المشكلة شىء والبغداديات شىء آخر، وأن كلا منهما مستقلة عن الأخرى، وفيما يلى النصوص الكاشفة عن هذه الحقيقة:
(ا) قال أبو على فى الإغفال: «أما الأروية للأنثى من الوعول فقد شرحناه فى المسائل المشكلة (3)، وقد وردت المسألة فى النسخة المذكورة (4).
(ب) وقال فى الإغفال أيضا: «وأما قولهم حيوة (كذا) وحيوان فالواو عندنا منقلبة عن الياء، وقد ذكرنا ذلك مشروحا فى المسائل المشكلة (5)، وذكره حقا فى المسائل المشكلة (6).
ومعنى هذه النصوص أن المسائل المشكلة سابقة على الأغفال
ورأيت أبا على وهو بصدد تقرير قاعدة نحوية والاستشهاد عليها يقول فى هذه النسخة المعنونة بما سبق: «هذا فى أبيات كثيرة تركناها هنا مع استقصاء الحجة فى ذلك لذكرنا له مستقصى فى مسائل اصلاح الأغفال (7).
ومعنى ذلك أن الأغفال سابق على البغداديات.
فلو كانت البغداديات هى المشكلة فكيف تكون مسبوقة بالأغفال وسابقة عليها فى آن واحد؟! فالبغداديات قطعا غير المشكلة، وإذن يكون ترتيب الكتب الثلاثة فى الظهور على النحو الآتي: المشكلة أولا ثم الأغفال ثم البغداديات.
__________
(1) انظر لوحة رقم 1.
(2) انظر لوحة 53.
(3) الاغفال 57.
(4) انظر لوحة رقم 7.
(5) الاغفال 225.
(6) انظر لوحة 18.
(7) البغداديات لوحة رقم 27.(1/470)
هذا ما يستنتج من النصوص السابقة وهو ما أطمئن اليه، ولكن بجانب هذه النصوص نصوصا أخرى تشير إلى أن النسخة المصورة بالأمانة العامة للجامعة العربية ضمت المشكلة إلى البغداديات، وذلك يعتذر اعتذارا ما عن ذلك العنوان الموحد بينهما، ومن هذه النصوص:
(ا) ما جاء فى الخصائص لابن جنى حيث أورد طرفا من الضرورات وغريبها ووحشيها وعجيبها: ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
هل تعرف الدار ببيدا إنه ... دار لخود قد تعفت إنه
الأبيات ثم قال: وهذه الأبيات قد شرحها أبو على (رحمه الله) فى البغداديات فلا وجه لا عادة ذلك هنا، فإذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها (1).
وقد التمست ذلك من نسخة الأمانة العامة فوجدته (2)
(ب) ما أشار إليه البغدادى فى خزانته حيث أورد كلاما مأخوذا من كلام أبى على فى المسائل البغداديات (3).
وقد قابلت بين ما ورد فى الخزانة وما جاء فى المسائل المشكلة فوجدت أن لا خلاف (4).
ولا يوفق بين هذه النصوص جميعا إلا القول بأن المسائل المشكلة مختلطة بالبغداديات فى نسخة الأمانة العامة للجامعة العربية، وقد حاولت فصل كل منهما عن الأخرى فلم يستقم لى ذلك لعدم تتابع اللوحات فى كل ملاك اتخذته أساسا للتفريق بين هذه وتلك، ولأن طابع أبى على يكاد يكون واحدا فيهما، وهذا ما يدعونى إلى أن أتحدث عنهما معا غير مفرق بينهما.
ويبدو أن عدم الفصل بين المشكلة والبغداديات قال به بعض المترجمين، فالقفطى (5)، وابن خلكان (6)، والسيوطى (7)، وابن العماد الحنبلى (8)، وحاجى خليفة (9)
__________
(1) الخصائص 1/ 336.
(2) انظر لوحة 36.
(3) انظر الخزانة 4/ 226325.
(4) انظر اللوحتين رقم 928من المشكلة.
(5) انظر إنباه الرواة 1/ 274.
(6) وفيات الأعيان 1/ 363.
(7) انظر بغية الوعاة 217.
(8) انظر الشذرات 3/ 89.
(9) انظر كشف الظنون 2/ 424.(1/471)
وبروكلمان (1). كل أولئك اقتصروا على ذكر احداهما واستغنوا بذلك عن ذكر الأخرى فجميعهم ما عدا بروكلمان ذكر عند احصاء كتب أبى على البغداديات ولم يذكر المشكلة، أما بروكلمان فقد ذكر المشكلة ولم يذكر البغداديات
ولكن ياقوتا تنبه إلى خطأ التوحيد بين المشكلة والبغداديات بدليل أنه عند ما أحصى كتب أبى على ذكر المسائل البغدادية ثم عاد فذكر المسائل المشكلة (2)، ففرق بذلك بينهما ويبدو أن السيد مخرج إنباه الرواة نقل عن ياقوت حاشية فى احصاء كتب أبى على (3) مع أن القفطى كما سبق لم يفرق بينهما.
وبعد فقد جعل أبو على البغداديات والمشكلة فيما يقرب من ثمانين مسألة (الطابع العام فيها أنها مشكلة). ذكر منها لسيبويه نحوا من ثلاثين مسألة على غير ترتيب ونص فى صدر كل منها أنه معتمد فيها على الكتاب بقوله مثلا مسألة من الكتاب (4) أو ينقل قولا لسيبويه ويسنده إليه بقوله: ذكر سيبويه مثلا (5).
وفى هذه المسائل التى يوردها لسيبويه ينقل قول إمام النحاة، ويبسطه، ويعلق عليه، ويورد آراء الأئمة القدامى ممن سبقوا سيبويه أو لحقوه، ثم يرتضى رأيا ويدلل عليه.
ثم هناك ما يقرب من ثلاثين مسألة أخرى ليست من الكتاب، بعضها سئل عنها (6) وبعضها ذكر فيه آيات قرآنية أعرب لفظا مشكلا فيها (7) أو بيتا من الشعر أنشده ثم يتعرض لإعرابه (8) وبعضها تحدث فيها من كلمات صرفية وزنها (9)، واحتج لوزنها الذى رآه وذكر هنا وهناك أصولا تمت إلى الصنعة الإعرابية (10)، وآرائه النحوية (11).
ثم كانت هناك على قلة مسائل تدور حول أقوال لأبى بكر بن السراج (12)، وأبى إسحاق الزجاج (13) أو أبى العباس المبرد (14) أو الفراء (15)، وبعضها يدور حول أبيات أنشدها أبو زيد الأنصارى (16) وشرحها أبو على، وعلق عليها وبين المشكل فيها.
__________
(1) انظر تاريخ الأدب العربي 1/ 113، 114الطبعة القديمة والملحق المجلد الأول 175/ 176.
(2) انظر معجم الادباء 7/ 241240.
(3) إنباه الرواة 1/ 174.
(4) انظر مثلا لوحة رقم 10.
(5) انظر مثلا لوحة 14، 17، 18.
(6) لوحة 6، 19.
(7) لوحة 16، 49، 51.
(8) لوحة 38.
(9) 35، 51.
(10) لوحة 47، 49.
(11) لوحة 48.
(12) لوحة 51.
(13) لوحة 50.
(14) لوحة 33.
(15) لوحة 16.
(16) لوحة 37، 38.(1/472)
وتتلخص المسائل المشكلة أصولها وعددها فى الجدول الآتى:
مصدر المسألة العدد ملاحظات
سيبويه 33على غير ترتيب، وقد ورد منها أولا نحو سبع عشرة مسألة فى موالاة ثم فرق الباقى فى غضون المسائل الأخرى.
أبو زيد 6
أبو بكر 4
أبو الحسن 3على غير ترتيب
الفراء 2
المبرد 2
أبو إسحاق 2
أبو على 31
وفى خلال هذه المسائل ترد أقوال لسيبويه أو غيره من القراء والنحاة كأبى عمرو، (1) والخليل، (2) وأبى عثمان المازنى، (3) والكسائى (4)، فيعرض لهذه الأقوال، وينقدها، ويعلق عليها، ويثبتها مرتضيا أو لا يرتضيها فينفيها.
وهناك عبارات تدل على أن أبا على أملى هذه المسائل أو على الأقل ما يشير فيه إلى ذلك، فقد جاء فى المسألة (5) قوله ذكر سيبويه الأفعال الماضية والمستقبلة المختصة بالأمر دون المضارعة، وجواز الادغام فيما اجتمع فى أوله مثلان أو متقاربان اجتلاب همزة الوصل لسكون الأوائل للادغام الخ ثم قال: فأمليت فى ذلك وقد وردت هذه العبارة فى مسألة أخرى (6).
وكل من المشكلة والبغداديات لا تخضع فى ترتيبها لنظام معين إذا استثنيت ذلك الباب الذى عقده أبو على «لبيان وجوه ما (7)»، فقد تحدث عن استعمالاتها ووجوه تصرفها، تحدث عنها اسما، وتحدث عنها حرفا، وذكر أقسامها، وأفاض الحديث فى كل قسم، وألحق بها مسائل جعل عنوانها «مسائل من هذه الفصول» تحدث عن:
(ا) كيما فيما رواه أبو بكر عن ابن الجهم عن الفراء.
__________
(1) لوحة 1.
(2) لوحة 4، 50.
(3) لوحة 17.
(4) لوحة 19.
(5) لوحة 14.
(6) انظر لوحة 31.
(7) لوحة رقم 19.(1/473)
من طالبين لبعران لهم شردت ... كيما يحسون من بعرانهم خبرا (1)
(ب) و (ما) فى قول سيبويه فى الكتاب: هذا باب علم ما الكلم فى العربية (2)
(ح) وعن إجرائهم ذا مع ما بمنزلة الذى (3)
(ء) وقراءة من قرأ «وإن كل نفس لما جميع لدينا محضرون (4).» «وإن كل نفس لما عليها حافظ»
وهذه مسائل مرتبط بعضها ببعض، يتصل كل منها بحديثه عن (ما).
وقد أنشد لأبى زيد أبياتا أوردها فى مسائل خمسة (5) متتابعة فى الأربع الأخيرة منها، وتنفصل الثانية منها عن الأولى بمسألتين.
فى إحداهما:
يتحدث عن وجه الإعراب فى البيت:
أم كيف ينفع ما يعطى العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن (6)
وفى الأخرى يتحدث عن إعراب «ملعونين» فى قوله تعالى: {«وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لََا يُجََاوِرُونَكَ فِيهََا إِلََّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ»} (7)»
ثم تتعاقب بعد ذلك المسائل فى اختلاط بعضها لسيبويه، وبعضها ما أثاره هو، وبعضها لأبى إسحاق أو لأبي بكر.
وقد يتحدث عن المسألة تفاريق، يتعرض لها بالشرح فى موضع، ثم يعود إليها بعد ذلك فى موضع آخر: عقد مسألة عن قولهم واحد وهل هو اسم أو صفة (8)
ثم عاد إلى ذلك بعد مسائل (9)
وفيما عدا هذه المسائل التى يظهر فيها الترابط لا تجد رابطا يربط المسألة بسابقتها أو لاحقتها، فمثلا:
لا رابط بين المسألة التى يقول فيها: «قال سيبويه زعموا أن أبا عمرو قرأ يا صالح يتنا جعل الهمزة ياء (10) ولاحقتها: «اعلم أن بعض الكلم أثقل من بعض (11).
__________
(1) لوحة رقم 30.
(2) لوحة رقم 31.
(3) لوحة رقم 32.
(4) لوحة رقم 33.
(5) اللوحات 35، 36، 37.
(6) لوحة 36.
(7) سورة الأحزاب آية 60، 61.
(8) لوحة رقم 44.
(9) لوحة رقم 50.
(10) لوحة رقم 2.
(11) لوحة رقم 4.(1/474)
أو بين: ذكر سيبويه وجوه أن الخفيفة (2) وسابقتها: قالت العرب، أكرم بزيد (1) ولاحقتها، اختلف أهل العربية فى تأويل قول الله (عز وجل) لايلاف قريش (3)
وإذا كانت المسائل لا تخضع فى ترتيبها لنظام معين على النحو الذى قدمت، فإن هناك ملاكا عاما ينظمها، ويجمع بينها ذلك ما سمى به هذه المسائل من أنها مسائل مشكلة فالاشكال فى كل مسألة، حتى أنه ذكر ذلك صريحا بعد الفصل الذى عقده لما حيث يقول:
وهذه مسألة مشكلة (4).
والذى أخذ نفسه به أنه جوز ما جوز من الآراء، وأحال ما أحال، ودلل فى كل ذلك على ما قال:
وليست للبغداديات والمشكلة مقدمة أستطيع منها أن أتبين هذا الملاك العام، ولكنى وجدت خلال قراءتى لهذه المسائل ما يفهم منه الملاك الذى بنيت عليه. قال:
وقد خرج أبو العباس ومن قبله من النحويين لقول سيبويه: هذا باب علم ما الكلم فى العربية وجوها أرادوا بها دربة المتعلم فى الاستخراج، وتحميل الشيء وجوهه التى يحتملها وليس من حكم كتابنا هذا أن يذكر فيه مثل ذلك إلا أن بعض من يتعاطى العربية حكى لى بعض المتعلمين عنه فى ذلك تجويز وجوه لا جواز لها، ومنع ما لا يمتنع من الجواز فأمليت عليه ما هو مثبت هنا وهو الذى عليه وضع الكتاب (5).
وهذه العبارة تلقى ضوءا على بعض ما ينظر إليه فى البغداديات، وإن كانت لا تحصر كل ما له فيها من اتجاهات، فمفهوم العبارة: الإدلاء بالرأى فيما يجوزه غيره، ويراه ممتنعا، أو يمنعه ويراه جائزا، وذلك الاتجاه فيه توضيح للإشكال الذى التزمه فى إيراد المسائل على كل حال.
وأبو على فى هذه المسائل واضح الشخصية يورد المسألة عن سيبويه مثلا، ويقرها ويبسطها، ويذكر رأى السابقين فيها، ويقف هو مفندا أو مؤيدا، مبرهنا على الرأى الذى ارتضاه فى حالى تفنيده أو تعضيده يسوق الشواهد، ويناقش مناقشة قائمة على الحجة، متكئة على أصول العربية:
__________
(1) لوحة رقم 12.
(2) المصدر السابق.
(3) لوحة رقم 13.
(4) لوحة رقم 33.
(5) لوحة رقم 31.(1/475)
فند آراء للخليل (1) والمبرد مصرحا به (2) أو مشيرا إليه (3) كما فند آراء للفراء (4) وأبى عثمان المازنى وقد يكتفى فى تفنيده باللمحة الدالة (5) وقد يصرح تصريحا عنيفا (6). كما تعرض لأبى بكر مفندا (7) ولأبى إسحاق كذلك (8).
وعاضد سيبويه وأثنى عليه: يبسط قوله (9) ويفهم إشاراته (10)، وما يشير إلى إكبابه على (11) الكتاب ويعرف سننه فيه (12) ويقابل ما أنشد (13)، والبغداديات فى مجموعها قائمة على كتاب سيبويه.
كما أثنى على الخليل (14) والمبرد (15) وأبى بكر (16) وأبى إسحاق (17)
وأبى الحسن (18).
ومن هنا نراه شديد الاعتداد بسيبويه، ويتلوه من الشيوخ فى التوثيق أبو الحسن، فهو يوقره، وإن رأى غير الذى يراه أبو الحسن لا يهجمه، بل غاية ما يكون منه أن يقول مثلا: ولا أدرى ما صحة هذا (19)!؟
وهو أحيانا يصرح بأسماء الشيوخ وتلك السمة الغالبة عنده كما رأينا وحينا يشير من غير تصريح كأن يقول مثلا:
وقد كان الشيوخ من أهل اللغة (20) أو يقول: «وقد كان أحد شيوخنا ينكر الأضداد (21). أو يقول: قال أحد أهل النظر (22) وفى البغداديات ما يدل على اطلاع أبى على على كتب الشيوخ الذين سبقوه (23).
وله بعد ذلك أوليات وآراء ابتكرها ابتكارا يذكرها فى تواضع أحيانا (24)
أو ينشرها فى شىء أشبه بالفخر حينا كأن يقول: وقد رأينا نحن فى ذاك (25) قولا لم أعلم أحدا تقدمنا فيه (26)
__________
(1) لوحة 4.
(2) لوحة 02، 36.
(3) لوحة 15وانظر الهمع 2/ 88.
(4) لوحات 17، 18، 30، 16، 33.
(5) لوحة 18.
(6) لوحة 3.
(7) لوحة 47.
(8) لوحة 18.
(9) لوحة 14.
(10) لوحة 33.
(11) لوحة 10، 50.
(12) لوحة 43.
(13) لوحة 15.
(14) لوحة 28، 50.
(15) لوحة 23.
(16) لوحة 51، 30.
(17) لوحة 47.
(18) لوحة 19، 34.
(19) لوحة 19.
(20) لوحة 4.
(21) لوحة 46.
(22) لوحة 51.
(23) انظر اللوحات 36، 19، 46، 18.
(24) لوحة 11، 30.
(25) يشير إلى لما فى قوله تعالى: {«وَإِنْ كُلٌّ لَمََّا جَمِيعٌ لَدَيْنََا مُحْضَرُونَ»}.
(26) لوحة رقم 33.(1/476)
واصطلاحات أبى على فى البغداديات بصرية إلا إذا رد على خصومة الكوفيين فانه عند ذلك يستعمل الاصطلاحات الكوفية كاستعماله لفظ مردود (1) والقطع (2)
وفى البغداديات نظرات بلاغية: كوقوع الأمر موقع الخبر (3) وما يؤول إليه عاقبة الأمر (4).
كما نرى فى البغداديات أصولا لغوية ونحوية وإعرابية:
(ا) فالمظهرات إذا أقيمت مقام الفاعل لزم الكناية عنها وإضمارها (5)
(ب) وما صلح أن يكون فاعلا من الأسماء صلح أن يكون مبتدأ، وقد يكون مبتدأ ما لا يكون فاعلا نحوكم ومذ (6)
(ج) واختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو الوجه والقياس الذى يجب أن يكون عليه الألفاظ (7).
(د) والأسماء أوائل للأفعال (8). (هـ) وما فى الصلة لا يتقدم على الموصول (9).
(و) ولا يجوز عطف الظاهر المجرور على المضمر المجرور (10).
(ز) وإذا وجد السبيل إلى ترك الكلام على وجهه ونظمه كان أولى من تأويل غير ذلك (11).
(ح) وما كان مبنيا مع غيره على الفتح لا يرتفع (12).
(ط) والمثلان المتقاربان إذا اجتمعا خفف بأحد ثلاثة أشياء: بالادغام، أو الإبدال، أو الحذف (13).
(ى) المضاف إليه لا يعمل فى المضاف ولا فيما قبله (14).
وفى تضاعف البغداديات والمشكلة تدليل على ما يرى أبو على فى المسائل النحوية التى يتخالف فيها مع الكوفيين، وهى من أجل ذلك تعد بذرة لكتاب الانصاف لابن الأنبارى فى مسائل الخلاف (15)
هذا وقد استعان البغدادى فى خزانته بالبغداديات، فاستشهد بقدر صالح من كلام أبى على وكان ذلك فى كثرة ظاهرة فى الجزء الرابع، يلبه على الترتيب الجزءان الثالث والثانى، وكان ما جاء فى الجزء الأول من الاستعانة بالبغداديات قليلا حيث ورد فى مواضع ثلاث (16).
__________
(1) لوحة 18.
(2) لوحة 36.
(3) لوحة 11.
(4) لوحة 13.
(5) لوحة 46.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق.
(8) لوحة 47.
(9) لوحة 48.
(10) لوحة 49.
(11) لوحة 50.
(12) 19.
(13) 17.
(14) المصدر السابق.
(15) البغداديات 47والانصاف 1/.
(16) انظر اقليد الخزانة ص 101.(1/477)
هذا والمصورة التى أملكها منقولة عن فيلم محفوظ بمعهد إحياء المخطوطات العربية بالأمانة العامة للجامعة العربية، ورقم هذا الفيلم 860وقد صوره المعهد من مكتبة شهيد على بالآستانة ورقم المخطوط فيها 1/ 2516، وتاريخ النسخ سنة 677بخط مغربى، كتبه أحمد بن تميم بن هشام بن أحمد الليلى، وعدد أوراق البغداديات إحدى وخمسون ورقة بها خرم الورقة الثانية والأربعين.
وفى ظاهر النسخة فى اللوحة الأولى التى اعتمدت عليها تمليكات هذا نصها:
«من نعم الله على عبده الضعيف أحمد بن محمد الغنيمى الخزرجى الأنصارى بطريق الشراء الصحيح من الشيخ الفاضل أبو السعود الشهاوى لطف الله بنا وبه والمسلمين أجمعين.
وتحت هذا التمليك: «تم من الله بفضله به على العبد الفقير بشر بن زين الدين العليمى الشامى لطف الله به» وفى يمين هذا الكلام عبارة: «من كتب الفقير على عفى عنه» وتحت هذه العبارة (خاتمة) وفى أعلى اللوحة الثانية اسم الكتاب والمؤلف وسنة الوفاة وتحتها اسم (أحمد بن عبد الله بن مكى). وفى وسطها العبارة الآتية:
وفيه أيضا المسائل البصريات فى النحو، وفيه أيضا المسائل المشكلة فى أول المقتضب، وفيه أيضا المسائل العسكرية إملاء الشيخ أبى على الحسين بن أحمد بن عبد الغفار ومسائل من النحو منثورة لأبى على الفارسى أيضا.
وفى الزاوية اليمنى من أسفل هذا الكلام ختم منقوش فيه مما وقف الوزير الشهيد على باشا (رحمه الله تعالى) بشرط ألا تخرج من خزانته.
وفى آخر هذه النسخة ما نصه:
آخر المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات تصنيف الشيخ أبو على الحسن ابن أحمد بن عبد الغفار الفارسى (عفا الله عنه) علقها لنفسه الفقير إلى رحمة الله ربه أحمد بن تميم هشام الليلى فى مدة آخرها غرة جمادى الأولى من سنة خمس عشرة وستمائة بمحروسة بغداد فى رباط الشيخ محمود النعال الزاهد (رحمه الله ورضى عنه) والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم (1).
__________
(1) لوحة 53.(1/478)
الأغفال أو المسائل المصلحة على الزجاج
جاء فى الفهرست لابن النديم عند ذكره كتب أبى على، كتاب المسائل المصلحة يرويها عن الزجاج وتعرف بالأغفال ومعنى هذا أن كتاب المسائل المصلحة هو نفس كتاب الأغفال، لكن ياقوتا عند ما ذكر كتب أبى على قال، كتاب الأغفال وهو مسائل أصلحها على الزجاج، ثم عاد وذكر من كتبه «كتاب المسائل المصلحة من كتاب ابن السراج.
ومعنى كلام ياقوت أن الأغفال شىء غير المسائل المصلحة، وأن أبا على أصلح مسائل على الشيخين.
وما ورد فى معجم الأدباء يتخالف مع نصوص لأبى على أوردها فى كتبه، هذه النصوص تشير إلى أن المصلح عليه الزجاج لا ابن السراج، وأنه أودع المسائل المصلحة الأغفال، ومن هنا سمى ذلك الكتاب: الأغفال أو المسائل المصلحة من كتاب أبى إسحاق:
وفيما يلى بعض هذه النصوص. قال أبو على أحمد بن عبد الغفار الفارسى كتاب المسائل المصلحة من كتاب أبى إسحاق إبراهيم السرى فى إعراب القرآن ذكرناها لما اقتضت عندنا من الإيضاح منها للأغفال الواقع فيها (1).
ويقول فى موضع آخر: ومن ظاهر الأغفال فى هذا الفصل كذا وكذا (2)، وفى موضع ثالث. فهذا الذى ذكرناه اصلاح إحدى جهتى السهو (3).
ويقول فى البغداديات وهو بصدد الاستشهاد على قاعدة نحوية «هذا فى أبيات كثيرة تركناها هنا مع الحجة فى ذلك لذكرنا له مستقصى فى مسائل اصلاح الأغفال (4)» ففي هذه النصوص يرد اسما الكتاب كلاهما: المسائل المصلحة، والأغفال، مما يدل على أن هذه المسائل مصلحة على الزجاج أولا بدليل عبارة المقدمة، وأن الأغفال هو المسائل المصلحة ثانيا.
* * * ومما يتصل بتحقيق اسم الكتاب التنبيه على خطأ ما ورد فى كتاب «إنباه الرواة» إذ جاء فى تعداد كتب أبى على: كتاب الأغفال فيما أغفله الزجاجى من المعانى.
والزجاجى خطأ فلم يكتب الزجاجى فى معانى القرآن أولا، ثم أن المشهور أن الأغفال (5) فيما أغفله الزجاج من المعانى على ما انتهيت إليه من قريب (6).
__________
(1) الأغفال 2.
(2) الأغفال 335رقم 699.
(3) ص 173.
(4) البغداديات لوحة 27.
(5) انباء الرواة 1/ 274.
(6) راجع الفهرست 95.(1/479)
وكتاب الأغفال (المسائل المصلحة) مؤلف قبل ارتحال أبى على إلى حلب ذلك ما يدل عليه قوله فى الحلبيات: «زعم الجرمى أن أبا عمرو وعيسى وقرءوا بالنصب» أن هذين لساحران «وقد ذكرنا ذلك فى المسائل المصلحة من كتاب أبى إسحاق (1).
ويقول فى نص آخر: «وأما قولهم أستاذ وسابور فقد ذكرناهما فى المسائل المصلحة من كتاب أبى إسحاق (2). بل الأغفال مؤلف قبل البغداديات (3).
* * * وقد لحظت أن أبا على فى الأغفال يدعو بالرحمة لأبى إسحاق (4)، ومعنى ذلك أن الأغفال مؤلف بعد موت أبى إسحاق (316هـ (5)).
فهل هجم أبو على شيخه الزجاج ابتغاء السمعة، وابتغاء الظهور؟!
أما أبو حيان فيرجع ذلك إلى أن أبا على كان محبا للرد على الزجاج، وتخطئته ثم قال «لأنه كان مولعا بذلك، وللشنآن الجارى بينهما سبب ذكره الناس (6).
ولم أقف على ذلك السبب الذى ذكره الناس على الرغم من طول صحبتى لأبى على وتقصى ما هو متصل به، وإن كنت أميل إلى اعتبار أن الخصومة التى كانت بين المبرد (شيخ الزجاج) وسيبويه (الموقر عند أبى على) هى التى دفعت أبا على إلى مهاجمة المبرد، وتلميذه الوفى أبى إسحاق (7).
* * * ومهما يكن من أمر فإن أبا على بإصلاح مسائل الأغفال فى هذا الوقت المبكر من حياته، وبتعقبه الزجاج وهو من هو فى مكانته بين العلماء والشيوخ فى عصره جعل له شهرة سبقته إلى حلب حيث بلاط سيف الدولة، وإلى شيراز وفيها عضد الدولة الذى استدعاه لتأديب ابن أخيه خسرو.
__________
(1) الحلبيات 62.
(2) انظر الحلبيات 303رقم 266تيمور.
(3) انظر النص السابق المنقول من البغداديات.
(4) أنظر البغداديات لوحة رقم 27.
(5) أنظر مثلا ص 415نسخة 699تفسير.
(6) البحر المحيط 1/ 332331.
(7) ربما كان من أسباب مهاجمة أبي على للزجاج اختلافهما فى تقدير المعتزلة فالفارسى منهم، أما الزجاج فقد هاجمهم ورد عليهم قال: «وقد احتج قوم من أصحاب الوعيد بقوله:
{«وَلََا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلِيًّا وَلََا نَصِيراً»} فزعموا أن هذا يدل على أن من عمل السوء جزى به، وقد أعلم أن جل وعز أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء. فعامل السوء ما لم يكن كافرا مرجو له العفو والرحمة والنبى (صلى الله عليه) شافع لأمته يشفع فيهم».
(معاني القرآن للزجاج)(1/480)
ويشير أبو على فى مقدمة الأغفال إلى النهج الذى اتبعه فيه، فهو يقول:
«ونحن ننقل كلامه (أى كلام أبى إسحاق) فى كل مسألة من هذه المسائل بلفظه، وعلى جملته عن النسخة التى سمعناه منه فيها ثم نتبعه بما عندنا.
وكذلك فعل أبو على، فقد تعقب أبا القاسم فى ثمان وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، أورد فى كل سورة نص الزجاج ثم اتبع بما عنده.
أصلح فى سورة البقرة ستا وثلاثين مسألة، وفى آل عمران سبعا، وفى الأعراف ستا، وفى كل من الأنعام والكهف خمسا، وفى سورة (يس) أربعا، وأصلح ثلاثا فى كل من ست السور الآتية، النساء، والرعد، والحج، والمؤمنين والشعراء، والنجم.
وأصلح مسألتين فى كل من خمس السور الآتية: المائدة، الأنفال، يونس، طه، النور وأصلح مسألة فى كل من إحدى عشرة سورة هى: براءة، هود، يوسف، إبراهيم، النحل، بنو اسرائيل، كهيعص، الأنبياء، العنكبوت، الزمر، الجمعة.
* * * وأغلب هذه المسائل استند فيها الزجاج إلى أقوال للخليل وسيبويه، وفهمها على غير الوجه الذى فهمه أبو على، ومن هنا كان الطابع العام لهذه المسائل نحويا وصرفيا وإعرابيا، ولغويا، وكان منها القليل النادر يتعقب فيه أبو على من جهة التفسير، وإنك لتمضى فى كتاب الأغفال حتى ثلثه تقريبا فلا تطالعك إلا المسائل الآتية:
اسم الله وتصريفه (1). (أيا) اسم مضمر وليس بمظهر (2).
حروف (الم) موضوعة على الوقف عليهما دون الوصل بها والدليل على ذلك ما حكاه أبو إسحاق من أهل اللغة قالوا فى قراءة الحسن صاد القرآن بعملك فمثل ليس بالجيد (3).
الأصل فى يقيم يؤقيم (4)، القول فى أن لم جزم قوله يفعلوا من قول الله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (5)، أعراب إما فى قوله تعالى: {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} (6).
وهكذا حتى إذا كانت صفحة 231رأيته تعرض لتفسير القرآن الكريم «عند قوله تعالى» {«وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ»} (7)، ثم يعود بعد ذلك إلى مسائل فى النحو، والصرف، واللغة.
ومن هنا كان من حق الأغفال أن يوضع فى فهرس النحو لا فهرس التفسير ولكن مفهرسى دار الكتب نظروا إلى أن أبا على تعقب الزجاج فى معانى القرآن
__________
(1) الاغفال 2.
(2) الاغفال 37.
(3) الاغفال 48.
(4) الاغفال 55.
(5) الاغفال 60.
(6) الاغفال 67.
(7) الاغفال 231.(1/481)
وهو كتاب تفسير ولم يفطنوا إلى أنه فى تعقبه عنى عناية خاصة بمسائل النحو والصرف واللغة والإعراب.
* * * وأبو على يقف من شيخه أبى القاسم مواقف مختلفات: تراه حينا يهدم ما يقول أبو القاسم، وحينا يرميه بالغلط والنسيان (1)، ويصف قوله بالفساد (2)، وبأنه ليس بالجيد (3) وبذهابه عن قول سيبويه (4) أو أن الآية تحتمل تأويلين كل واحد منهما مما ذكره وذهب إليه (5).
وقليلا ما يتفق أبو على مع الزجاج فيما رآه، وعند ذلك يبسط أبو على الكلام ويذكر أوجها أخرى غير التى ذكر أبو إسحاق (6) أو يعلن استقامة ما قال الزجاج وعدم امتناعه (7)
وكتاب الاغفال يدل على تفهم أبى على للكتاب: كتاب سيبويه، وعكوفه عليه وتعمقه فى دراسته.
قال أبو إسحق: «قال سيبويه»: سألت الخليل عن هذا الاسم (الله) فقال الاه، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة، وقال مرة أخرى: الألف واللام لازمة» انتهى كلامه.
فانظر كيف يتعقبه أبو على قال: ما حكاه عن سيبويه عن الخليل سهو، ولم يحكه سيبويه عن الخليل فى هذا الاسم أنه الاه (كذا) ولا قال إنه سأله عنه لكن قال: «أسند إلى الخليل أن الألف واللام بدل من الهمزة فى حد النداء فى الباب المترجم بهذا باب ما ينصب على المدح والتعظيم أو الشتم، لأنه لا يكون وصفا للأول ولا عطفا عليه، وأول الفصل اعلم أنه لا يجوز لك أن تنادى اسما فيه الألف واللام البتة، إلا أنهم قالوا: يا الله اغفر لى، وهو فصل طويل فى هذا الباب إذا قرأته وقفت على ما قلنا (8).
وقد رجعت إلى هذا الباب فى الكتاب، النسخة الأميرية 3969هـ فوجدت ما نصه: «واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادى اسما فيه الألف واللام البتة إلا أنهم قالوا
__________
(1) الاغفال 401رقم 699.
(2) الاغفال 31رقم 875تفسير.
(3) الاغفال 48رقم 875تفسير.
(4) الاغفال 620رقم 699نفسه.
(5) 231رقم 699.
(6) الاغفال 151.
(7) الاغفال 415رقم 699تفسير.
(8) الإغفال 3رقم 694تفسير.(1/482)
يا الله اغفر لنا وذلك من قبل أنه اسم يلزمه الألف واللام لا يفارقانه وكثر فى كلامهم فصار كأن الألف واللام فيه بمنزلة الالف واللام التى من نفس الكلمة (1)
وهذا الكلام فى جملته يرجح ما ذهب إليه أبو على فى رده على أبى إسحاق من أن سيبويه لم يحك عن الخليل فى هذا الاسم (الله) أنه إله، ولا قال إنه سأله عنه» وإن كانت عبارة «أسند إلى الخليل» لم ترد فى النسخة المذكورة.
* * * ومن هذا القبيل ما قال أبو على:
الأعجمون جمع أعجمى، وليس جمع أعجم، وهذا قول سيبويه، وقد نص عليه وذهب أبو إسحاق عنه، قال سيبويه فى الباب المترجم هذا باب من الجمع بالواو والنون ويكسر الاسم سألت الخليل عن قولهم الأشعرون، فقال: إنما ألحقوا الواو والنون وفى بعض النسخ وحذفوا ياء الاضافة كما كسروا فقالوا الأشاعر والأشاعث والمسامعة، فكما كسروا مسمعا والأشعث حين أرادوا معنى بنى مسمع وبنى الأشعث ألحقوا الواو والنون وكذلك الأعجمون (2). فقد ثبت من نص سيبويه أن الأعجمين جمع أعجمى، وأن ياءى النسب محذوفتان حذفا فى الجمع، وأنه جمع على هذا كما كسر على الأشاعث ونحوه
ومما يدل على صحة هذا أنه لا يخلو من أن يكون جمع أعجم لأن أعجم صفة بالدلالة التى قدمنا، وما كان صفة من هذا القبيل لا يجمع بالواو والنون ألا ترى أنه لا يقال فى جمع أسود أسودون (3)؟
وأورد أبو على الزجاج: وروى عن الخليل فى علة النصب بلن قولان:
أحدهما أنها تنصب كما تنصب أن وليس ما بعدها بصفة لها، لأن لن يفعل نفى سيفعل فيقدم ما بعدها عليها نحو قولك زيدا لن أضرب، وقد روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل أنه قال: الأصل فى لن لا أن ولكن الحذف
__________
(1) الكتاب 1/ 309.
(2) ورد النص فى الكتاب 2/ 103وليس فيه: «وحذفوا ياء الاضافة» المطبعة الاميرية.
(3) الاغفال 621620رقم 699تفسير.(1/483)
وقع استخفافا وزعم سيبويه أن ذلك ليس بجيد، ولو كان كذلك لم يجز زيدا لن أضرب أورد أبو على ذلك ثم أصلحه بقوله:
«هذا الموضع فيه غلط فى الحكاية، وهو ما ذكره فى لن من أنه روى عن الخليل فيه قولان ولم يرو عنه إلا قول واحد وهو ما رواه عنه سيبويه.
قال سيبويه فى لن: أما الخليل فزعم أنها لا أن، ولكنهم حذفوا لكثرته فى كلامهم كما قال ويلمه، وكما قالوا يومئذ وجعلت بمنزلة حرف واحد كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد فانما هى هل ولا (1) فهذا ما روى عن الخليل فى لن ولم يرو عنه فيها غيره، ولم يرو عنه أنها تنصب كما تنصب أن، وما ذكره أيضا من قوله: روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل إنما حكى هو نفسه عن الخليل، وقد كتبت لفظ سيبويه عن الخليل قبل، والروايتان عن الخليل إنما هما فى إذا ليسا فى لن فتوهمهما أبو إسحاق فى لن (2).
فى هذه النصوص أكثر من دلالة:
(ا) فأبو على أولا يتفهم الكتاب تفهم واع.
(ب) وهو ثانيا يقابل بعض النسخ ببعض، ويعرف ما سطر فى هذه وما سطر فى تلك.
(ج) وهو ثالثا يرمى أبا إسحاق بذهابه عن نص سيبويه، كما يرميه بالخلط بين الروايات فى الكتاب.
(د) ثم هو رابعا يأتى بأدلة منطقية يرجح بها ما ذهب إليه سيبويه (3)
(هـ) وأخيرا يدل أبو على على دقته أمام نصوص سيبويه، ومطالبة القارئ أن يتثبت من هذه الدقة وذلك قوله مثلا: «وهو فصل طويل فى هذا الباب إذا قرأته وقفت منه على ما قلنا (4).
أو «وقد كتبت لفظ سيبويه عن الخليل والروايتان عن الخليل إنما هما فى إذا ليسا فى لن (5)».
وفى هذا كله ما يؤكد صحة قول أبى حبان فى أبى على: من أنه أشد تفردا بالكتاب، وأشد إكبابا عليه (6).
__________
(1) النص فى الكتاب النسخة الاميرية 1/ 407.
(2) الاغفال 220219رقم 699تفسير.
(3) انظر تدليله المنطقى على أن أعجمون جمع أعجمى.
(4) الاغفال 3رقم 699.
(5) انظر الاغفال 220والكتاب 1/ 410وما بعدها.
(6) الامتاع والمؤانسة 1/ 131.(1/484)
ومما يتصل بذلك رد أبى على هجوم المبرد، ودفعه عن سيبويه ما اعترض به عليه:
ذكر أبو العباس فى كتابه المترجم بالغلط هذه المسألة يشير إلى تصريف لفظ الله فقال: سيبويه: «إن تقديره فعال لأنه اله والألف واللام فى الله بدل من الهمزة فلذلك لزمتا الاسم مثل أناس والناس ثم قال: إنهم يقولون لهى أبوك فى معنى لله أبوك. فقال يقدمون اللام ويؤخرون العين، قال أبو العباس وهذا نقض ذلك لأنه قال أولا: أن الألف زائدة لأنها ألف فعال ثم ذكر ثانية أنها عين الفعل (1).
قال أبو على، وهذا الذى ذكره أبو العباس من أن هذا القول نقض مغالطة ليس كما ذكره، وإنما كان يكون نقضا لو قال فى حرف واحد من كلمة واحدة وتقدير واحد أنه زيادة، ثم قال فيها نفسها أنها أصل، فهذا لو قاله فى كلمة واحدة بهذه الصفة فكان لا محالة نقضا. كما أن قائلا لو قال: إن التاء فى ترتب زائدة، ثم قال إنها فى ترتب أصل، والكلمة لمعنى واحد من حروف بأعيانها هى فى الكلمة الأولى لكان فاسدا منتقضا، لأنه جعل حرفا واحدا من كلمة واحدة زائدة أصلا، وهاتان حالتان يتنافى اجتماعهما فى حرف واحد من كلمة واحدة فى تقدير واحد، فلا يستقيم لذلك أن يحكم بها عليه. فأما إذا قدر الكلمة مشتقة من أصلين مختلفين لم يمتنع أن يحكم بحرف فيها أنه أصل، ويحكم على ذلك الحرف أنه زائد لأن التقدير فيهما مختلف، وإن كان اللفظ بهما متفقا، ألا ترى أنك تقول مصير ومصران ومصارين ومصارين من صار يصير لتكون الياء من الأولى زائدة ومن الثانية أصلا فلا يمتنع اتفاقهما فى اللفظ من أن يحكم على هذا بالزيادة وعلى هذا بأنه أصل.
وبعد أن ذكر أبو على عدة أمثلة من هذا القبيل مما تتفق فيه الألفاظ وتختلف:
المعانى والتقدير مثل: ميل، وموألة، وأثنية، وأروى، وأربية، بعد أن ذكر ذلك قال:
فكذلك هذا الاسم الذى نقول لهى عند سيبويه تقديره مقلوبا من لاه، ولاه على هذا الألف فيه عين الفعل، وهى غير الألف التى فى الله إذا قدرته محذوفا من
__________
(1) الاغفال رقم 875/ 15.(1/485)
الهمزة التى هى فاء الفعل، فحكم بزيادة الألف من غير الموضع الذى حكم فيه بأنها زائدة، فاذا كان كذلك سلم قوله من النقض، ولم يكن فيه دخل،
وتبدو من هذا النص حرارة الدفاع عن سيبويه، والاحتفال فى الهجوم على المبرد وذلك ظاهر فى هذه الأمثلة المتتابعة التى يكشف أبو على فيها عن اتفاق الألفاظ واختلاف التقدير، كما هو ظاهر فى التدليل المنطقى الذى يقدم فيه نظائر وأقيسة تنتهى بنا إلى نتيجة هى سلامة قول سيبويه من النقض وخلوه من الدخل.
وقد رأيت أبا على فى الإغفال يوثق محمد بن المستنير المسمى قطربا، قال أبو على «وأما ما حكاه قطرب من أنه يقال فيه أسوار فهذا الضرب من الأسماء قليل جدا إلا أن الثقة إذا حكى شيئا لزم قبوله (1)
والذى أريد أن أرتبه على ذلك ما أراه من أن كتاب الإغفال يصدر عن نزعة التقدير التى وقرت فى صدر أبى على لأستاذه سيبويه، ومن أجل ذلك هاجم من هاجم كالمبرد والزجاج، وسالم من سالم كأبى زيد وقطرب، معتبرا فى هجومه ومسالمته ما يرى أنه الحق أولا، وما يبدو من موقف المهاجم أو المسالم نحو سيبويه ثانيا (2).
* * * وعبارة أبى على فى الاغفال ذات طابع متميز بما فيها من منطق وجدل، وبما يشيع فى أقطارها من استطراد، مما ألقى عليها غلالة من الإغماض والابهام وإليك ما يكشف عن ذلك:
قال أبو إسحاق (رحمه الله) فى قوله عز وجل: {«لَئِنْ جََاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهََا قُلْ إِنَّمَا الْآيََاتُ عِنْدَ اللََّهِ، وَمََا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهََا إِذََا جََاءَتْ لََا يُؤْمِنُونَ»} ويروى أن المؤمنين قالوا لو أنزل إليهم آية لعلهم كانوا يؤمنون فقال الله تعالى: {«قُلْ إِنَّمَا الْآيََاتُ عِنْدَ اللََّهِ، وَمََا يُشْعِرُكُمْ} أى وما يدريكم أى لستم تعلمون الغيب ولا ترون أنهم يؤمنون كما تقول للرجل إذا قال لك افعل بى كذا حتى أفعل كذا ما لا تعلم
__________
(1) الاغفال 563رقم 875تفسير.
(2) كان قطرب دءوبا حريصا على الأخذ عن سيبويه، حتى كان يباكره فى الأسحار وسيبويه هو الذى سماه قطرب ليل، والقطرب دويبة تدب ولا تفتر انظر الفهرست 78.(1/486)
أن يفعله لا محالة، ما يدريك ثم استأنف فقال انها إذا جاءت لا يؤمنون هذه القراءة. وقد قرئت أنها إذا جاءت، وزعم سيبويه عن الخليل أن معناها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، وهى قراءة أهل المدينة كقولهم ائت السوق أنك تشترى لنا سويقا أى لعلك
قال أبو على: اعلم أن ما فى قوله: وما يشعركم لا يكون نفيا، إنما يكون استفهاما والدليل على كونه استفهاما. أنه لا يخلو من أن يكون استفهاما أو نفيا، فلا يجوز أن يكون نفيا لفساده فى المعنى والإعراب، أما فساده فى الإعراب فلأنك إن جعلته نفيا بقى الفعل بلا فاعل، وبقاء الفعل بلا فاعل يجوز بلا خلاف فى هذا النحو.
فإن قلت: ما تنكر أن يكون نعتا «كذا والصواب نفيا» ويكون فاعل الفعل الذى هو يشعركم الكناية عن الاسم المقدم كأنه وما يشعركم الله.
قيل: هذا التقدير فاسد ألا ترى أن الله قد أعلم أنهم لا يؤمنون بقوله:
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا إلى قوله ما كانوا ليؤمنوا، فإذا أخبرنا بهذا كذا قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون، وإذا أعلمنا هذا لم يجز أن يتأول الآية على ما يعلم الله، لأنه تعالى قد أعلمنا بما تلوناه أنهم لا يؤمنون، فمن هنا أيضا يفسد فى المعنى أن يكون ما نافية، وإذا فسد أنها نافية ثبت أنه للاستفهام (1).
وفى هذا النص صورة من صور الجدل الذى يشيع فى كتاب الأغفال، يبدو ذلك فى الاعتراض الذى أورده ثم رده، وإنك لواجد هنا وهناك عبارات من هذا القبيل: مثلا.
فإن قال قائل قيل له أو
فإن قيل قيل أو
فإن قلت فالجواب (2)
__________
(1) الاغفال 417رقم 699تفسير.
(2) انظر ص 18وما بعدها وص 39وما بعدها، و 85وما بعدها، 198وما بعدها من النسخة رقم 699تفسير.(1/487)
كما يبدو المنطق فى ذلك السبر والتقسيم (القياس الاستثنائى الانفصالى)، وفى النص السابق ما يلقى ضوءا على طريقة أبى على فى تفسير القرآن بالقرآن، وتحكيم المعنى فيما يذهب إليه من أوجه الإعراب.
ويبدو الجدل كذلك فى هذه الأصول الجدلية مثل: أصل الدعوى وما فيه المنازعة لا تجعل أصلا وإنما يستشهد عليه بغيره (1).
ويشيع المنطق كذلك فى هذه الصور العقلية التى يوردها.
ماذا يكون العامل فى إذ إذا قال: أريد أن أكرمك فقال: إذن آتيك على اعتبار أن صدر هذا الحرف إنما هو إذ أهو فى كلام المتكلم من الفعل؟ أم ما يتعلق بإذ؟ أم شىء ثالث مضمر غير مذكور؟ فإن القسمة لا تجيز شيئا رابعا (2).
كما يبدو فى استعمال الألفاظ المنطقية: الدعوى والدلالة، والمدعى
قال: «فإن قال أبو إسحاق يدخلها أى إذن معنى الاستقبال إذا نصبت ويبطل منها إذا لم تنصب فإن هذه الدعوى تحتاج إلى دلالة، ولا يجد المدعى لها فصلا بينه وبين من يقلب هذا ويعكسه عليه (3)»
أما الاستطراد فهو ظاهرة شائعة فى الأغفال يسلمه التدليل على قضية إلى تدليل آخر على قضية أخرى وهكذا (4): وإن تعرض الزجاج مثلا للحديث عن لفظ ممال عقد أبو على كلاما فى الامالة يتناول أحكامها المختلفة، فقد قرر الزجاج أن الامالة فى كافر جيدة، فقال أبو على: أن باب الامالة يقتضى كلاما طويلا إذا ذكر على حد التقصى له، إلا أن ذلك لا يليق بهذا الموضع، وإذا كان كذلك ذكرنا جملة منها تسهل بها تفصيلاتها بعد أن نذكر ما حقيقتها، ثم نصلح موضع السهو من الفصل (5).
ومع هذه القيود التى رسمها للحديث من الامالة أورد طائفة من أحكامها وأسبابها وضروبها فى اثنتى عشرة ورقة!! مع أن مهمّه فى كتاب الأغفال ينتهى عند اصلاح ما سها فيه أبو إسحاق.
وهو إذ فر من الاستطراد إلى الاستطراد فى نصه السابق نراه يعترف به
__________
(1) الاغفال ص 435.
(2) ص 396395.
(3) أنظر ص 4337.
(4) ص 399المنسخة رقم 699.
(5) الاغفال 94نسخة رقم 699.(1/488)
صريحا، وذلك حين يقول: «لهذا شىء قد عرض فى المسألة ثم عدنا إليها (1)» أو يقول: لهذا شىء عرض فى هذه المسألة مما يتعلق بها ثم نعود إليها (2).
وعبارة أبى على محررة من الوجهة النحوية، تنكشف هذه الخصيصة بالرجوع إلى النصوص السابقة. ومع ذلك فقد رأيته يدخل قد على المضارع المنفى بلا فقال:
قد لا يسوغ (3) كما يلحق اللام فى جواب لو، ولولا المنفى بما (4)
* * * وفى الأغفال طائفة صالحة من الاحتجاج لما يراه أبو على فى مختلف المسائل النحوية والصرفية.
(ا) دلل على أن الامالة فى الألف من اسم الله تعالى جائزة (5)
(ب) وأن المحذوف من اللامين فى قولهم لا، أبوك هو الزائد (6)
(ج) وأن أيا اسم مضمر وليس بمظهر (7)
(د) وأن ما التى هى مع الفعل بمنزلة المصدر حرف ليست باسم (8)
(هـ) وأن رفع الأسماء بالمضارعة خطأ (9)
* * * وفى كتاب الأغفال كذلك كثير من الأصول النحوية واللغوية.
(ا) فالأعجمى إذا عرب لا يوجب تعريبه أن يكون موافقا لأبنية العرب (10)
(ب) ولا يجب أن يترك القليل إلى الكثير (كذا) والشائع إلى النادر (11)
(ح) المضمر لا يضاف لأن الإضافة للتخصيص والمضمر أشد المعارف تخصيصا (12)
(د) أكثر الأسماء المختصة الأعلام منقولة من أسماء الأجناس نحو زيد وأسد (13)
(هـ) الحذف لم يجيء فى شىء من الحروف إلا فى بعض ما كان مضاعفا نحو رب، وأن، وكأن ولهذا ذهب أهل النظر فى العربية إلى تغليب معنى الاسم على مذ لمكان الحذف، وتغليب معنى الحرف على منذ لتمامها (14)
__________
(1) الاغفال 485رقم 875تفسير.
(2) الاغفال 14رقم 875تفسير.
(3) الاغفال 100رقم 699تفسير.
(4) انظر النص الذى يرد فيه هجوم المبرد على سيبويه.
(5) الاغفال 29رقم 699.
(6) المصدر السابق 21.
(7) المصدر السابق 30.
(8) المصدر السابق 64.
(9) 442.
(10) المصدر السابق 58.
(11) 42.
(12) 32.
(13) 4.
(14) 13.(1/489)
(و) أن الزائد جاء لمعنى فهو أولى بأن يترك فلا يحذف (1)
(ز) القلب ضرب من التصريف ترد فيه الأشياء إلى أصولها (2)
(ح) الأصول لا تعقد بالشذوذ، وما يجيء نادرا من حرف أو حرفين (3)
(ط) إذا جاء الشيء على بابه فلا وجه لرده، ولا امتناع من دفعه، على أنه لو جاء مخالفا لبابه للزم أن نتبعه، ولم يجز لنا أن ندفعه إذا كان الغرض فيما نعمله وندربه من هذه القوانين إنما هو أن يوصل بها إلى النطق باللسان، ونسوى بين من لم يكن من أهل اللغة لنعلمه إياها، ونمسكه بها بأهل الفصاحة والبيان، فإذا ورد السمع فى نحو هذا بشيء وجب اتباعه، ولم يبق غرض مطلوب بعده (4).
وقد استغل أبو على هذه الأصول فيما ذهب إليه من مسائل الخلاف والاحتجاج لما يراه والرد على أبى القاسم الزجاج.
وبعد: فكتاب الأغفال صورة لهذا اللون من النشاط النحوى الذى بدأ جليا فى القرن الرابع الهجرى من تتبع النحاة بعضهم بعضا (5)، وهو كذلك يكشف عن ضلاعة أبى على فى النحو، وتبحره فيه، واعتماده فى ذلك على كتاب سيبويه، وخصائص العربية وفقهه لها. وقد ذكره ابن قاضى شهبه ووصفه بأنه كتاب نفيس (6).
ثم هو مرآة لنزعة أبى على من التطاول والشموخ على علماء عصره، وتعرضه لهم، واتجاهه إلى المصادر الأولى يتأثرها ويستقى علمه منها. وقد استعان البغدادى بالأغفال فى مواضع ثلاثة من خزانته (7).
وللكتاب بدار الكتب والخزانة التيمورية نسخة قديمة بخط مغربى برقم 52 تفسير، وأما الأخريان فواحدة برقم (875) تفسير والأخرى برقم (699) تفسير.
وقد كتبتا للعلامة أحمد تيمور، فهما تدلان على ما كان للرجل (رحمه الله) من عناية باللغة وكتبها بعامة، وبآثار أبى على بخاصة.
__________
(1) 21.
(2) 18.
(3) 485نسخة رقم 875.
(4) 46.
(5) رد ابن خالويه على أبى على فى الاغفال بكتاب سماه (الهاذور) ورد عليه أبو على فى كتابه (نقض الهاذور) انظر خزانة الادب 2/ 401وانظر الفلاكة والمفلوكين / 102.
(6) انظر طبقات النحاة والنحويين 295.
(7) انظر 1/ 352، 4/ 324، 341.(1/490)
العسكريات
والعسكريات منسوبة إلى عسكر مكرم، وكانت مولد بعض مشهورى العلماء والأدباء، كما كانت عظيمة المسجد والأسواق (1)، ولعل أبا على الفارسى زارها فيما زار من مدن البلاد الإسلامية، وكان من أثر هذه الزيارة مسائله العسكريات.
وقد اشتملت العسكريات على أبواب أربعة لا غير.
جعل الباب الأول منها «باب علم الكلم من العربية (2)».
وكان الثانى «ما ائتلف من هذه الألفاظ: الاسم، والفعل، والحرف (3)» وأتبعه الثالث «باب ما كان شاذا من كلامهم (4)»
ثم ختمت بباب «الإعراب والبناء (5)»
وهذه الأبواب جامعة تحدث فى الباب الاول عن ائتلاف الكلام من الاسم، والفعل، والحرف، ثم ذكر تعاريف أصحابه للاسم ودلل عليها، وانتقل إلى الفعل وأقسامه (6)، ثم تحدث عن الحروف.
وفى الباب الثانى: ذكر ائتلاف الاسم مع الاسم، والفعل مع الاسم، ودخول الحرف على كل منهما. وذكر أن الاسم والحرف لا يستقلان بالكلام، ثم شرح كيف استقل «يا زيد» مع أنه مؤلف منهما (7)، وتحدث عن استعمال هيهات مفتوحة ومكسورة، وانتقل منها إلى شتان، واعراب ذى من قولهم:
«وسرعان ذى اهالة» وتحدث عن «أف» واللغات فيها. ثم انتقل إلى الجزاء والقسم، وتحدث عن عدم الاستقلال فى الاسم والفعل فى حالى الجزاء والقسم وكذلك الاسم والاسم كذلك (فى حالى الجزاء والقسم).
واستطرد إلى بيان أن بعض الجمل يقوم مقام بعض، ثم ذكر رأى أبى الحسن فى قوله تعالى: {«يَحْلِفُونَ بِاللََّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ»} ورأى البغداديين، ودلل على ما يرى أبو الحسن (8).
__________
(1) انظر أراضى الخلافة الشرقية تأليف ليسترينج ط كمبردج 1905: 237236.
(2) لوحة 131.
(3) لوحة 132.
(4) لوحة 134.
(5) لوحة 138.
(6) لوحة 132.
(7) لوحة 133.
(8) لوحة 134.(1/491)
وفى الباب الذى عقده لمعرفة ما كان شاذا من كلامهم بيّن أنواع الشاذ واعتمد فى ذلك على ما ذكر أبو بكر (رحمه الله (1)) ثم أخذ يشرح كل من نوع ممثلا ومستشهدا بالشعراء، والقراءات، وموردا أقوال الأئمة السابقين مع الاستطراد مثل أبى العباس، وأبى عثمان، وأبى زيد، وأبى الحسن، وأبى إسحاق، وأبى بكر.
وتناول فى هذا الباب: باب ما كان شاذا من كلامهم وما يجيزه النحويون فى اضطرار الشعر. فمثل للضرورة غير المستحسنة، والضرورة القبيحة غير السهلة، وجعل من الضرورات التى لا تتجاوز فى الكلام ما يفعله الشاعر لاقامة الوزن من تحريف الاسم ووضعه موضعه لفظا على معناه، وإن لم يكن العلم المتعارف، وجعل من ذلك ما أنشده أبو الحسن:
«بنى رب الجواد فلا تقيلوا ... فما أنتم فيعذركم لفيل
قال أبو بكر، أراد ربيعة الفرس فلم يستقم الوزن له فعدل إلى رب الجواد
وحديث أبى على عن الضرورات حلقة من تلك السلسلة الممتدة منذ سيبويه (فى القرن الثانى (2)) حتى السيوطى (فى القرن العاشر (3)) ثم الألوسي فى كتابه الضرائر.
ولست هنا فى مجال الموازنة بين هذه الحلقات، ولكن الذى لا شك فيه أن أبا على امتاز بجديد انفرد به عن سيبويه أورده عند الحديث عن هذه الضرورات.
وفى باب الإعراب والبناء عرف كلا منهما، ثم تحدث عن حركات الإعراب الظاهرة والمنوية، وقسم الأسماء المتمكنة إلى منصرف، وغير منصرف، وذكر أسباب المنع من الصرف، ثم ذكر اعتراضات وردها، واعتمد فى ذلك على أصول قررها وخلص من ذلك إلى (مناقشة البغداديين فى إجازتهم جمع طلحة بالواو والنون) وبعد استطراد واعتراضات علل لعدم الجر فى الفعل، وتحدث عن إعراب المضارع لمشابهة الاسم، ودلل على ذلك.
وأنبه هنا إلى أن هذا مجرد عرض المسائل الكبرى فى العسكريات، أماما ذكره أبو على فى غضون هذه المسائل من اعتراضات، واستطرادات، وأدلة، واحتجاج
__________
(1) لوحة 134.
(2) انظر الكتاب 1/ 8.
(3) انظر الهمع 2/» 15815.(1/492)
وإكثار من الشواهد والأمثلة وتخريجها فى أسلوب معقد فذلك كثير.
وأبو على واضح الشخصية فى العسكريات، فهو لا يقتصر على نقله كلام الأئمة السابقين حسب:
(ا) بل يتبع ذلك بالاحتجاج والتدليل على ما إليه يذهبون: تراه يقول مثلا فى تعريف الفعل: «ومن أصحابنا من يقول فى وصفه أنه ما دل على حدث وزمان ثم يقول: ويدل على قولهم هذا إنا نجد الأفعال تتعدى إلى جميع أقسام الأزمنة بمعرفتها ونكرتها ومبنيها ومخصوصها كما نجدها تتعدى إلى جميع أقسام المصادر، فلولا أن فيه دلالة على جهة اللفظ ما كان ليتعدى إلى جميع ضروب الأمكنة فكما لم يتعد إلى جميع ما تتعدى الأفعال المتعدية إليه فاستواؤه والمصدر فى تعدى الفعل إليهما تعديا واحدا دلالة على ما ذكرنا من وقوع الدلالة عليه من اللفظ (1).
(ب) كما تظهر شخصية الشيخ كذلك فى الاعتراضات التى يوردها ثم يردها فى أسلوب جدلى فلسفى كالاعتراض الذى أورده على من وصف الفعل بأنه ما دل على حدث وزمان وذلك قوله: «وقد قيل لمن وصف الفعل بهذا الوصف: أرأيتم قولكم خلق الله الزمان هل يدل هذا الزمان على زمان؟ فإن قلتم: لا. فسد الوصف، وإن قلتم «يدل» فقد ثبتم زمانا قبل، وذلك ممتنع لما يجيبون به عن ذلك أن اللفظ فيه قد جرى عندهم مجرى الآن وما يتخاطبون به ويتعارفون وهذا النحو غير ضيق فى كلامهم ألا ترى قوله (عز وجل) {«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»}
وكذلك قوله:
أبلغ كليبا، وأبلغ عنك شاعرها ... أنى الأعز، وأنى زهرة اليمن
فأجاب جرير هذا بقوله:
ألم تكن فى وسوم قد وسمت بها ... من حاز موعظة يا زهرة اليمن
وكذلك قوله: {«وَأَرْسَلْنََاهُ إِلى ََ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} «انما هو عند كثير من أصحابنا أنهم جميع إذا رأيتم مثلهم قلتم فيه هذا الضرب من الكلام فكذلك قولهم:
خلق الله الزمان على هذا الحد الذى تجرى هذه الأمثلة فى كلامهم وما يتعارفونه الآن (2).
__________
(1) لوحة 131.
(2) نفس المصدر.(1/493)
وهكذا تتجلى ثقافة أبى على كما تتجلى شخصيته: يمزج المنطق، والفلسفة، ويدلل، ويستشهد بالقرآن والشعر ويطبق ذلك على سنة العرب فى كلامهم
(ج) كما تراه بعد ذلك يعرض أقوال النحاة، ويوازن بين رأى ورأى، كما فعل بين وصف سيبويه للفعل ووصف غيره له، وبرهن على أن وصف سيبويه وصف شامل لا يدخل عليه اعتراض (1)
(د) كما رأيته يزيد على سيبويه بما يعد شرحا لما قال: جاء فى الكتاب تعليق لعدم دخول الجر فى الأفعال، وذكر سيبويه شبهة وردها (2). وسيبويه هنا يمضى فى عرض كلامه هينا لا يتعمق، وكأنه يريد أن ينظم هذه المسألة عند عرضها فى سلك الحديث الجارى بين شخصين على طبيعة المتحدثين فى هوادة ولين.
أما أبو على فقد تعمق، وشعب، واستطرد، واحتج، وبرهن، واستغل مسائل المنطق فى حديثه (3) وقد ألم أبو على فى العسكريات بكثير من مسائل الخلاف بين النحاة وبرهن عليها، برهن على:
اأن الفعل مأخوذ من المصدر (4).
ب وأن الفعل ما دل على حدث وزمان (5).
ج وأن القياس أعمال الثانى من الفعلين (6).
د وأن الأصل فى المضارع أن يكون للحاضر (7).
هـ وأن المضارع معرب لمشابهة الاسم (8).
وو أنه لا جر فى الأفعال (9).
ز وأن اللام أضعف من العينات كما أن العينات أضعف من الفاءات (10).
وقد تعرض أبو على للقراءات فى العسكريات وجّه قراءة من قرأ: ومن وراء إسحاق يعقوب بالفتح، فذكر رأيين، وحكم على الأول أنه ليس بالسهل، وأن الآخر أيضا كذلك، وإن كان الأول أفحش!! (11)
__________
(1) نفس المصدر.
(2) انظر الكتاب 386.
(3) انظر لوحة 139.
(4) لوحة 131.
(5) لوحة 131.
(6) لوحة 133.
(7) لوحة 132.
(8) لوحة 140.
(9) لوحة 140.
(10) لوحة 141.
(11) لوحة 135وانظر موقف أبي على من القراءات التى تخالف مذهبه.(1/494)
وفى العسكريات قرر أبو على أصولا عامة تتصل.
اببناء الكلمة: كقوله: «ما لم يلزم من الحروف، وكان قلقا فى مكانه لا يعتدون به (1) «وقوله: «اللامات أضعف من العينات» (2).
ب وبالصناعة النحوية: مثل: موضع الضمير من المواضع التى ترد فيها الأشياء إلى أصولها (3) ومثل: «الحركات التى تجب بعوامل لا تكون حركات (4)
بناء، والمفردة فى الرتبة أسبق من المركبة (5)
ج وبالأسلوب. لا يوجد فى كلامهم قسم معلق غير متشبث بمقسم عليه (6)، وبعض الجمل قد تقوم مقام بعض (7).
ولئن كان أسلوب أبى على فى كتبه يبدو فيه الغموض إنه فى العسكريات أغمض، ذلك لأنه حشاء بمسائل المنطق، ومسائل الخلاف، وأبهمه كذلك خروجه من تدليل إلى تدليل، ومن اعتراض إلى آخر، تجد ذلك شائعا فى هذه المسائل وانظر مثلا صدر حديثه عن ائتلاف الكلام من الفعل والفعل، والاسم والفعل (8)
* * * وفى توثيق العسكريات قابلت بين نصوص وردت فى كتب المتأخرين، ونصوص وردت فى العسكريات مثال ذلك ما جاء فى الهمع (9).
قال الفارسى فى العسكريات: ومما يدل على إعرابهما (جمع المؤنث السالم فى حال النصب، وما لا ينصرف فى حال الجر) أن هذه الحركة وجبت بعامل، والحركات التى تجب بعوامل لا تكون حركات بناء: والنص فى العسكريات كما جاء فى الهمع (10)
والنسخة التى أملكها خاتمة ما كتب اللبلى أحمد بن تميم بن هشام من هذه المسائل، وهى تكبير لفلم مصور لنسخة مخطوطة مودعة مكتبة شهيد على برقم 16/ 25/ 4ورقم الفلم فى معهد إحياء المخطوطات بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية 860، وقد شغلت هذه النسخة اللوحات من 141130.
__________
(1) لوحة 138.
(2) لوحة 141.
(3) لوحة 132.
(4) لوحة 139.
(5) لوحة 131.
(6) لوحة 134.
(7) لوحة 134.
(8) لوحة 133.
(9) انظر 1/ 19.
(10) لوحة 139.(1/495)
ورأيت فى اللوحة الأولى فى الزاوية اليسرى من أعلى عنوان الكتاب ما نصه: نقله أحمد تميم اللبلى من خط ابن بلبل (1)، وقابله به، وكان فيه مواضع أصلح أكثرها، وبقى فيه أشياء تحتاج إلى تأمل
وتحت العنوان فى الزاوية اليسرى أيضا. «أحمد بن تميم بن هشام يفوض أمره إلى الله» وتحت ذلك عبارة: أحمد بن عبد الله بن مكى، وفى وسط اللوحة تقريبا خاتم كتب عليه بالثلث الواضح: مما وقف الوزير الشهيد على باشا (رحمه الله تعالى) بشرط أن لا (كذا) يخرج من خزانته».
وفى نهاية العسكريات: ما نصه: تمت المسائل العسكريات بحمد الله وعونه وكان الفراغ منها فى يوم السبت العاشر من شهر جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة على يدى العبد الضعيف المقر بذنبه الراجى عفو ربه أحمد بن تميم بن هشام اللبلى بمدينة السلام المحروسة على الأصل المنقول منه بخط ابن بلبل، وكان فيه إسقاط كلمات، وتصحيف مواضع أصلحت فى نسختى هذه بعضها وقت كتابتها، وعلّمت على الباقى إلى الفراغ إلى معاودة النظر فيها إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله (2).
وتجد أمثال هذه الكلمات الساقطة فى نفس اللوحة على يمين الكلام السابق (3)
وكان ما استعان فيه البغدادى فى خزانته بالعسكريات عشر مرات. مرة فى الجزء الثالث (4) ومرتين فى الأول (5) وثلاثا فى الرابع (6) وأربعا فى الثانى (7).
__________
(1) ابن بلبل هو محمد بن عثمان بن بلبل تلميذ أبى على، وهو الذى روى كتابه وأذاعه (انظر بغية الوعاة 72).
(2) لوحة 141.
(3) اللوحة متقسمة إلى قسمين.
(4) ص 46.
(5) 149.
(6) 827367.
(7) 55240125762وانظر اقليد الخزانة 101.(1/496)
البصريات
البصريات أشتات من المسائل أملاها أبو على فى جامع البصرة (1) بعضها فى الصرف، والآخر فى اللغة، والثالث فى النحو، وفيها يتكرر كثيرا الدعاء له بالتأبيد كأن يقال: «قال أبو على (أيده الله) (2)، وقد يكون هذا الدعاء من زيادة تلاميذه كالتعليقات التى كانوا يزيدونها من مثل: «قال الشيخ وقت القراءة عليه (3)»، قلت له: ما الدليل على أن من فى هذه الآى استفهام؟ (يشير إلى قوله تعالى: {«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذََابٌ يُخْزِيهِ»}، {«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عََاقِبَةُ الدََّارِ»} (4).
وبعض هذه المسائل ينص على أنها إجابات لأسئلة سئل عنها، وحينئذ تصدر المسألة بقوله: سألنا سائل (5)، أو سئلت عن: جاءنى إخوتك كلهم، واختصم أخواك كلاهما (6)
وهناك مسائل أخرى تأخذ الطابع الجدلى اعتراض ورده كقوله مثلا:
«فان قال قائل قيل له (7).
والبصريات لا تماسك فيها لأنها مسائل مقتطعة من موضوعات مختلفة (8).
وقد يبدو الارتباط بينها واهيا (9) كما فى هذه المسائل المتتابعة.
اقالوا فى صعق صعقى
ب مسألة لما كان حذف الياء من هذيل لتغيير واحد وهو النسبة وجب أن يحذف لتغييرين فى حنفى ونحوها
ج قد يقال فى حانية أنه نسبة إلى الحانوت، فان شئت قلت إنه إضافة على المعنى لا على اللفظ مثل قولهم حواء لصاحب الحية
د لا يحسن أن تقول فى قاض قاضوى كما قلت فى عم عموى
هـ قول الخليل: لو قلت تغلبى لقلت فى يشكر يشكرى وجلهم جلهمى
__________
(1) لوحة 45.
(2) انظر ورقات 56، 58، 59وغيرها من المسائل.
(3) انظر لوحة 56.
(4) انظر لوحة 69.
(5) انظر لوحات 72، 76، 77.
(6) لوحة 86.
(7) لوحة 76.
(8) انظر مثلا لوحة 55، 56.
(9) انظر لوحة 79.(1/497)
فهذه المسائل المتتابعة مرتبطة بالإضافة: النسب، ولكن أمثال ذلك قليل
وتكثر اللغويات فى المسائل البصرية حتى لتعد طابعا مميزا لها
وأكثر ما يكون أخذه فيها عن ثعلب، وثعلب راوية وحافظ، ولعل خصومة ثعلب للمبرد هى التى جعلت أبا على ينقل عن ثعلب، ويعتد به، وهو بالبصرة لتكون الخصومة أشد وأنكى.
وقد كانت هذه المسائل اللغوية مصدرا من المصادر التى اعتمد عليها ابن سيده فى كتابه المخصص (1).
وتدل البصريات على علم أبى على بمذاهب الكوفيين، وأنه درس لها، معلق عليها، وخبير بها (2)، كما هو دارس مذاهب البصريين وخبير بها، فهو يوازن بين هؤلاء وهؤلاء، ويعلق على مذاهبهم تعليق ناقد خبير، فهذه مثلا مسألة يتفق فيها البصريون والكوفيون على السواء (3) وهذه أخرى أحالها أهل البصرة، وأجازها الكسائى، والفراء (4)، وهذه ثالثة أجازها المبرد فى المقتضب، ولم يختلف الكسائى، والفراء فى أن ذلك لا يجوز (5).
وهناك مسائل كثيرة يرى البصريون فيها رأيا، ويرى الكوفيون غير ما يرى البصريون، ويدلل على صحة رأى هؤلاء، وفساد ما ذهب إليه الآخرون.
فما يقوله الكوفيون من أن كلا تثنيه فاسد (6)، وحتى تنصب الأفعال بعدها باضمار أن، وأن معها فى موضع جر بحتى (7).
وأبو على يهاجم الفراء فى غير موضع من المسائل البصرية: يصف إنشاده بالخطإ الفاحش (8)، وأن ما يستشهد به ليس بحجة (9)، ويقسو حتى يذكر أن ما قاله الفراء هذيان (10)!!
ولم أره يبلغ فى مهاجمته هذا المبلغ فى كتاب آخر من كتبه، فلعله كان مدفوعا بالجو البصرى الذى عاش فيه حين أملى هذه البصريات.
__________
(1) انظر المخصص 1/ 12، 13.
(2) انظر مثلا ص 64.
(3) لوحة 87.
(4) لوحة 65.
(5) لوحة 70.
(6) لوحة 86.
(7) لوحة 75وانظر المسألة فى الانصاف 1/ 83.
(8) لوحة 57.
(9) لوحة 63.
(10) لوحة 64.(1/498)
وهو كذلك يتعقب المبرد، ويفند آراءه، بما يدل على أنه استوعب كتاب المقتضب استيعاب متفهم مدقق، انظر إلى قوله: «قال أبو العباس فى حد الضمير من المقتضب»: النون فى فعلن ونحوه أصلها السكون، وحركت لالتقاء الساكنين.
قال أبو على (أيده الله): «وقد خالف فى هذا قولا لنفسه فى المقتضب فى أبواب الترخيم (1)، كما أنه يغلط المبرد فيما حكاه عن سيبويه (2)، ويصف اعتراضه على سيبويه بأنه ليس بشيء، وأن ما حكاه عن يونس إنما هو إلزام ليس هو قوله (3).
وموقف المبرد من سيبويه على هذا النحو جعل أبا على يهاجمه على الرغم من بصيرته فقد كان أبو على شديد الاعتداد بسيبويه، جيد التفهم لكلامه (4).
يعتل له (5)، حتى أنه ليقول: «والقول قول سيبويه (6).
ولأبى على عناية بمختصر الجرمى (7)، ولقن هذه العناية كثيرا من تلاميذه (8)، ومن هنا رأيت أبا على فى البصريات يتعقب الجرمى (9)، ويستشهد به (10)، ويروى ما قرأ عليه من كتابه، (11)، وينقل آراءه، ويروى ما أنشد (12)، ويفسد حينا قوله (13) ويدفع ما اعترض به عليه (14).
* * * والقارئ للبصريات يلحظ كثرة الشواهد (15)، ومعظمها من الشعر القديم:
جاهليه وإسلاميه، ويحرص أبو على فى روايتها على نسبتها إلى أصحابها، وكذلك يستروح القارئ نفحة الأدب فى الأخبار الأدبية (16)، وفى التفسيرات التى تتعلق بأقوال الشعراء (17). وهو حين يفسر الأبيات يفسرها تفسيرا قائما على الإعراب والصناعة النحوية (18).
__________
(1) انظر لوحة 67.
(2) لوحة 79.
(3) انظر لوحة 75.
(4) لوحة 74.
(5) لوحة 59.
(6) لوحة 60.
(7) انظر نزهة الألباء 101.
(8) انظر فى الفصل المعقود لتلاميذه ترجمة الربعى مثلا.
(9) لوحة 83.
(10) لوحة 84.
(11) لوحة 83.
(12) لوحة 59.
(13) لوحة 57.
(14) انظر دفاعه عن سيبويه فى إعراب الآية: أيعدكم انكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون (لوحة 74والآية فى الكتاب 1/ 467).
(15) لوحة 57.
(16) لوحة 62.
(17) لوحة 64.
(18) انظر مثلا لوحة 58، 64، 69ثم انظر لوحة 68فى شرح بيت للنمر بن تولب.(1/499)
وحرص أبى على على نسبة الشواهد إلى أصحابها نزعة بصرية، فالبصريون لا يثقون إلا بالشعر المنسوب إلى قائله وأحيانا يعرف أبو على بالشاعر، وينص على أنه جاهلى إسلامى.
وممن أنشد أبو على لهم، الرياشى، والكميت (1)، وأبو كبير، والعجاج، ولبيد (2)، وطرفة (3)، والفرزدق، والأخطل (4)، وكثير (5)، وحسان بن ثابت (6)، وامرؤ القيس (7)، والأسود بن يعفر (8)، وابن مقيل (9)، والراعى (10)، والنمر بن تولب (11)، والشنفرى (12)، والأعشى (13)، وعنترة (14). وما ينشده يرويه في الغالب عن ابن دريد (15)، وأبى الحسن على بن سليمان الأخفش (16)، وأبى زيد فى النوادر (17). وما ينشده ثعلب فى نوادر اللحيانى (18)، أو نوادر ابن الاعرابى (19)، وأبى عمرو (20)، وما يصحبه هو من الشواهد على ما يقول (21).
وربما كانت المسألة مجرد إنشاد شاهد من شواهد الكتاب، ونسبته إلى قائله ولا يزيد، وهى من هذه للناحية توثيق لهذه الشواهد، وتوثيق لنسبتها إلى قائليها كما وصلتنا.
قال: مسألة: أنشد أبو عمر بيت الكتاب: وجدنا الصالحين لهم جزاء (22).
وقال: هو لعبد العزيز بن زرارة الكلابى (22). ويبدو من تعبير الفارسى أن هذا البيت لم يكن منسوبا إلى الكلابى، فى نسخ الكتاب الأولى، وأن الذى نسبه أبو عمر الحرمى (23).
وترى فى البصريات قصيدة يزيد بن الحكم بن أبى العاصى الثقفى لأخيه من أبيه وأمه عبد ربه بن الحكم التى أولها:
تكاشرنى كرها كأنك ناصح ... وعينك تبدى أن صدرك لى دوى
وقد بلغت فى البصريات تسعة وعشرين بيتا على حين أن القالى أنشدها عن شيوخه فى سبعة عشر بيتا (24).
وفى البصريات تدليل على ما يذهب إليه أبو على من مسائل النحو.
(ا) فالفعل مع الفاعل يجرى مجرى الشيء الواحد (25).
__________
(1) لوحة 84.
(2) لوحة 78.
(3) لوحة 58.
(4) لوحة 70.
(5) لوحة 66.
(6) لوحة 62.
(7) لوحة 56.
(8) لوحة 89.
(9) لوحة 57.
(10) لوحة 78.
(11) لوحة 681.
(12) لوحة 57.
(13) لوحة 57.
(14) لوحة 55.
(15) انظر مثلا لوحة 57.
(16) لوحة 57.
(17) لوحة 74.
(18) لوحة 72.
(19) لوحة 61.
(20) لوحة 59.
(21) لوحة 68.
(22) لوحة 59.
(23) الشاهد منسوب إلى عبد العزيز الكلابى فى النسخة المطبوعة ببولاق 11316/ 146.
(24) انظر أمالي القالى 1/ 68.
(25) لوحة 65.(1/500)
(ب) وفاسد ما يحكيه بعضهم من أن قوما يجيزون ما أظننى لزيد قائما (1).
(ح) قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ}. من كسر إن، لم يجز أن ينصب امرأة بأحللنا (2). (ء) ما بعد جرف الاستثناء لا يعمل فيما قبله (3).
(هـ) نعوت المعارف حكمها أن تكون أعم منها (4).
وأحيانا يهدى أبو على إلى الأساليب العربية الصحيحة التى تتفق مع الصناعة النحوية، ويدلل على صحة جوازها، أو يحذر استعمالها مع الاحتجاج لما يقول: فلا يجوز:
(ا) مررت بزيد وجاءنى عمرو الظريفان (5). (ب) عسى زبد قد قام (6).
(ج) ما زيد قائما بل قاعدا (7).
ويجوز: ضربت زيدا ضربة وعمرا قتلتهما (8). وما أدرى أقام أو قعد تجرى بأو دون (9) أم.
وفى البصريات تظهر النزعة المنطقية والجدل، والتعليل الفلسفى (10). وكل ذلك قد اشتهر به رجال المدرسة البصرية.
واستعانة البغدادى بالبصريات بلغت فى الأجزاء الأربعة من الخزانة تسع عشرة مرة: خمس منها فى كل من الجزءين الأول والثالث، وست فى الجزء الرابع، وثلاث فى الجزء الثانى (11).
والمسائل البصريات ضمن مجموعة مسائله التى قام معهد إحياء المخطوطات العربية بتصويرها (12)، وتشغل من اللوحة الثالثة والخمسين إلى اللوحة الثامنة والثمانين من هذه المجموعة ويلاحظ:
(ا) أن بهذه النسخة نقصا (13)، فالكلام لا يرتبط بمعنى مفهوم بين الصفحة اليمنى واليسرى.
(ب) وأن فيها تكرارا (14). (ح) كما أن فيها متروكا بياضا (15)،
(د) كما أن فيها مطموسا (16). (هـ) وأحيانا يورد السؤال ولا يجيبه (17).
وانتقل بعد ذلك إلى نوع آخر من مسائل الشيخ:
__________
(1) لوحة 82.
(2) لوحة 81.
(3) لوحة 80.
(4) لوحة 78.
(5) لوحة 79.
(6) لوحة 75.
(7) لوحة 80.
(8) لوحة 76.
(9) لوحة 76.
(10) انظر اللوحات 57، 60، 65، 67، 73.
(11) انظر 101إقليد الخزانة.
(12) ف رقم 860.
(13) انظر لوحة 56، 58.
(14) انظر لوحة 57.
(15) لوحة 59و 61.
(16) انظر لوحة 82.
(17) انظر المسألة الأولى لوحة 85.(1/501)
الحلبيات
قدم أبو على حلب سنة 341 (1) هـ وعاصر فيها أميرها الحمدانى سيف الدولة، وكان أبو على أحد أولئك العلماء الذين داروا فى فلك ذلك الأمير العربى، وإن حفت إقامته فى بلاط سيف الدولة بالمكاره بسبب هذا التنافس الذى يكون بين العلماء المتعاصرين من ذوى الطبقة الواحدة.
* * * والجزء الباقى من الحلبيات يحوى ست عشرة مسألة أصلية، صدرت كل منها بكلمة «مسألة» أما أن اعتبرت ما تضمنته هذه المسائل الأصلية من مسائل أخرى فرعية تتصل بالتفسير واللغة والنحو والصرف والهجاء فإن مسائل الحلبيات تقرب من الستين.
* * * والحلبيات كأخواتها لا ترابط بين مسائلها فى الأعم الأغلب، هذه مسألة ذات طابع لغوى: قولهم للعبد رقبتك حر، ورأسك حر، وفرجك حر، وقولهم يدك حر (2)، بجانب أخرى صرفية وتلك: فى الداء والدواء ولغة ذلك وتصرفه وجمعه (3).
وقد يبدو الترابط بين بعض مسائل الحلبيات كالباب الذى عقده، لأبنية الأفعال (4) فقد تحدث عن الأبواب الآتية متتابعة.
(ا) باب أبنية الأفعال الثلاثية الصحيحة التى لا زيادة فيها (5).
(ب) تسكين عين فعل وفعل فعل تخفيفا، وكون عينه إذا كانت حرف حلق كان فيه أربع لغات (6).
(ح) باب أبنية الأفعال الثلاثية المعتلة التى لا زيادة فيها (7).
(د) باب ما كانت الياء فى أوله نحو (يمن وييمن، ويسر وييسر، وينع ويينع (8).)
(هـ) باب ما كانت الياء الواو فى ثانيه (9).
(و) باب ما كانت الواو والياء فى ثالثه: غزا ورمى (10).
(ز) باب التضعيف (11).
* * * __________
(1) ابن خلكان (وفيات الأعيان 1/ 361).
(2) الحلبيات 10.
(3) المصدر السابق 17.
(4) 87.
(5) 88.
(6) 91.
(7) 92.
(8) 94.
(9) 95.
(10) 96.
(11) 99.(1/502)
وبعض هذه المسائل معقود لسيف الدولة بخاصة، يذكر ذلك صريحا فى المسألة التى صدرها بقوله: «قرأ (أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة) عبد سيدنا الرقعة النافذة من حضرة سيدنا (1)»
وفى غضون هذه تقرأ لأبى على: «وقد دلك على ذلّلت يشير إلى أن أناسا ليس بجمع تكسير، وليس بجمع إنسان فى رقعة نفذت من قبل.
وإذن فقد كانت هناك كتب متبادلة فى مسائل علمية بين سيف الدولة وأبى على سجل بعضها أبو على فى الحلبيات.
وبجانب هذه الإشارات الصريحة أخرى أرجح أنها لسيف الدولة، وإن لم يذكر أبو على ذلك صدرت مسائل خمس بهذه العبارات:
(ا) وقفت (أعزك الله) على ما ذكرته من فصل محمد بين قولهم للعبد:
رقبتك حر، ورأسك حر، وفرجك حر، وبين قولهم يدك حر (2)
(ب) سألت (أعزك الله) عن إعراب قوله تعالى: {«إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقََاتِ وَأَقْرَضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً} (3).
(ح) ذكرت (أعزك الله) إشكال الباب المترجم بباب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور، وسأكتب من ذلك مما رويته ورأيته ما يكون معينا على معرفته بعون الله (4).
(د) سألت «أعزك الله» فقلت (5)
(هـ) ذكرت (أعزك الله) الأسكرجة، وهل لها اشتقاق؟ وهل الهمزة فيها أصل أم لا؟ وكيف تصغيرها؟ (6)
ولم أجد ما يعين المخاطب فى هذه المسائل على التحديد، وإن كنت أرجح أنها لسيف الدولة بقرينة ذلك الخطاب الصريح إليه، وأن الدعاء بالعزة تقليد يتوجه به إلى الرؤساء ممن هم من طبقة سيف الدولة من الأمراء، أقول هذا وان كان ذلك الترجيح لا يصل عندى الى درجة اليقين.
وبجانب هذه الإشارات أخرى تدل على أن هذه المسائل إجابات عن أسئلة وجهت اليه من عامة الناس أيضا من ذلك: سألنا سائل قديما (7)، وسأل سائل (8)
__________
(1) الحلبيات 113، 114.
(2) المسائل الحلبية ص 192تيمور رقم 266.
(3) المصدر السابق 102.
(4) نفس المصدر 130.
(5) نفس المصدر 270.
(6) نفس المصدر 283.
(7) 216.
(8) انظر 246، 247، 265، 266، 268.(1/503)
والنتيجة العامة لذلك كله أن أبا على مسئول مستفتى فى المبهمات النحوية، واللغوية، والإعرابية التى تعرض للناس خاصتهم وعامتهم.
ثم إن الحلبيات تلقى ضوءا على الصلة التى كانت بين سيف الدولة والعلماء فى عصره بعامة، وبينه وبين أبى على بخاصة، وهو أمر لم يتنبه له الباحثون ممن أفردوا سيف الدولة بجهد علمى خاص.
وأبو على فى الحلبيات يورد ما سأل أحمد بن موسى فى القراءات (1)، ويحكى عن محمد بن السرى (2) والتوزى (3) ويعقوب (4) وأبى زيد (5) والخليل (6)
وسيبويه (7) ويونس (8) وأبى عبد الرحمن صاحب الأخفش (9) وأبى عثمان (10)
ويذكر ابن حبيب (11) كما يذكر محمد بن يزيد ويشير الى أنه أطلع على كتابه «إعراب القرآن، ويرميه بالسهو (12).
ويحتج بشواهد الشعر التى نسب الكثير منها: نسب إلى الأعشى (13)، وابن هرمة (14)، وحميد بن ثور (15)، والحجاج (16)، وحسان بن ثابت (17)، وأوس (18)
وطرفة، (19) وعلى بن الغدير الغنوى، (20) وقيس بن الخطيم، (21) وابن مقبل، (22)
والكميت (23) وجرير، (24) والفرزدق، (25) وذى الرمة (26).
* * * ونسبة هذه الشواهد إلى قائليها مظهر من مظاهر أمانته العلمية، فإن شك رأيته يقول مثلا قال الحجاج أو رؤبة (27)، وقال أبو كبير أو غيره من الهذليين (28). ومن ذلك قول النابغة الجعدى أو غيره من القدماء (29).
* * * وأبو على ينشد ما أنشد أحمد بن يحيى (30)، وأبو الحسن (31)، والأصمعى (32)
ويروى ما ذكره بعض العرب، «أردت أن تذمّه فمدحته (33)
* * * __________
(1) الحلبيات 266، 360نحو تيمور.
(2) ص 2.
(3) ص 523.
(4) ص 3.
(5) ص 923.
(6) ص 26.
(7) ص 6.
(8) ص 38، 53.
(9) ص 3.
(10) ص 11.
(11) ص 93.
(12) ص 4.
(13) ص 82.
(14) ص 82.
(15) ص 99.
(16) ص 92.
(17) ص 5.
(18) ص 7.
(19) ص 9.
(20) ص 14.
(21) ص 17.
(22) ص 37، 40.
(23) ص 51.
(24) ص 51.
(25) ص 100، 30.
(26) ص 222.
(27) ص 6.
(28) ص 11.
(29) ص 117.
(30) ص 7، 22، 82.
(31) ص 16.
(32) ص 12.
(33) ص 96.(1/504)
ورأيت أبا على يحتج بالحديث الشريف فى مسائل (1) النحو، كما رأيته يحتج به كذلك فى مسائل (2) اللغة.
* * * وهو حين يستشهد بالحديث غالبا ما يورده موثقا بالاسناد المتصل، وأعانه على ذلك أنه محدث، وكأنه بذلك التوثيق يدعونا إلى الاطمئنان لمكانة الحديث فى الاحتجاج والاستشهاد.
* * * ويتعرض أبو على فى الحلبيات إلى شرح الألفاظ فلا يخرج عن طريقته التى عرفت عنه فى كتبه وبخاصة كتاب الحجة: ويعتمد فى تفسير اللفظ على محفوظه من القرآن والحديث، وما أنشده الأئمة، وما يرويه هو، وتتداعى عنده الألفاظ القرآنية ذوات المادة الواحدة، ففي شرحه للسبيل مثلا ذكر أن السبيل فى اللغة الطريق الذى هو ممر ومدرج، واستدل على ذلك بما أنشده سيبويه (3)، وقالوا للذين يسلكونه سبل، وقياس واحد، سابل، واستشهد بما قال العجاج أو رؤبة، وفسر ابن السبيل بمعنى صاحب، وبين أن كلا من (أخ، وأم، وأب) يستعمل بهذا المعنى، واستشهد على ذلك بما جاء فى القرآن، وبما أنشد أحمد بن يحيى، وذو الرمة، وسيبويه، وأوس، ثم قال: ومثل السبيل فى أنه المدرج والطريق قولهم: الصراط واستدل بقوله تعالى:
{«وَلََا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرََاطٍ تُوعِدُونَ»} ثم قرر أنه اتسع فى السبيل حتى قيل فى المعتقدات والآراء فى الديانات وغيرها واستشهد بالآى:
وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغىّ يتخذوه سبيلا، و {«قُلْ هََذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللََّهِ عَلى ََ بَصِيرَةٍ.»}
«وقال فى قوله تعالى: {«يَهْدِي بِهِ اللََّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوََانَهُ سُبُلَ السَّلََامِ»} أى طرق الجنة ودلل على ذلك
وقوله تعالى: {«سُبُلَ السَّلََامِ»} إما أن يراد به سبل دار السلام كما قال: {«لَهُمْ دََارُ السَّلََامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ»} أو سبل السلام أى طرق السلامة التى يسلم سالكها من أن يعذب أو يعاقب.
ويجوز أن يكون السلام اسم الله تعالى كما جاء سبيل وصراط الله فاذا كان على هذا الوجه بعد أن يكون المراد به الطريق الذى هو ممر، لأن هذا التقييد قد صار فيه كالأمارة للإيضاح، ويكون المعنى حينئذ كقوله تعالى: {«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً»}
ثم بين أنه كما يقال للغريب ابن السبيل فنسبوه إلى الطريق قالوا فيه: ابن أرض،
__________
(1) ص 42.
(2) ص 22، 12173.
(3) ص 6.(1/505)
لأن الطريق ضرب منها، واستشهد بما أنشده أبو زيد وبما روى عن طرفة، رأيت بنى غبراء لا ينكروننى (1).
وهكذا أعانه على التفسير اللغوى حافظة قوية واعية لآى القرآن الكريم وشواهد الشعر، مع قوة الاستحضار، وانثيال المعانى وتداعيها.
* * * وترى فى المثال السابق نزعة الاستطراد وإن كان يبدو خفيفا، وحينا يتعلق بما يعرض خلال حديثه عن المسألة مما هو متصل بها اتصالا بعيدا.
عقد مسألة فى رأى وما تصرف منه (2) ثم جره الاستطراد إلى الكلام فى أن أصل (لن) لا أن (3)، وجره الحديث إلى الكلام فى الإمالة (4) والكلام فى المجموع (5)، وذكر رأيه فى قوله: وتلك الغرانقة العلى (6) والكلام على قول الشاعر:
وتضحك منى شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلى أسيرا يمانيا (7)
وساق كلاما فى إسكان عين الفعل الماضى الثلاثى، (8) وآخر فى إلحاق الهاء بآخر فعل الأمر المعتل بعد حذف لامه (9)، وذكر الاختلاف فى كتابة آخر المقصور بالياء والألف (10).
* * * وفى الحلبيات قدر صالح من الصرفيات، والتوجيه الإعرابى، وقد رأيته يحكم نزعة الاعتزال عنده فى ذلك التوجيه ليتفق مع عقيدة المعتزلة وما يقولون:
قال: فأما ما روى من قوله: «ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» فإن قال قائل: ما تنكرون أن يكون ذلك من الرؤية التى هى إدراك الحاسة، لأنه تعدى إلى مفعول واحد، وتلك الأخرى تتعدى إلى مفعولين، فالقول أن هذه أيضا ليست التى هى إدراك البصر، وإنما جاز ألا يذكر المفعول الثانى الذى تقتضيه المعتدية إلى المفعولين، لأن الكلام قد طال بما هو بمعنى المفعول الثانى لو أظهر، ألا ترى أن قوله:
كما ترون القمر ليلة البدر انما هو تأكيد وتشديد للتيقن والتبعيد من اعتراض الشبه على العلم به تعالى، فاذا كان كذلك كان بمنزلة ذكر ما هو بمنزلة المفعول الثانى اذا جرى ذكره فى الصلات نحو علمت أنا زيد منطلق وأحسب الناس أن يتركوا، فكما سد ما جرى فى الصلتين مسد المفعول كذلك سد ما بعد المفعول الأول فى الحديث مسد المفعول.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون المعنى ترون علم ربكم كرؤية ليلة البدر، فالمبتدأ الذى دخل عليه الذى هو بمنزلة علمت المتعدية الى مفعولين علم ربكم كرؤية
__________
(1) انظر الحلبيات من 106.
(2) 23.
(3) 26.
(4) 28.
(5) 33.
(6) 57.
(7) 61.
(8) 64.
(9) 6665.
(10) 7268.(1/506)
ليلة البدر، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه، فيكون المعنى أنه قد شبه العلم بالقديم سبحانه فى الآخرة بما يحس حسا بينا لارتفاع الشبه العارضة فى دار البلوى والمحنة هناك وحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه من الكثرة بحيث لا يحتاج الى الإكثار فى الاحتجاج له لتقرره عند المبتدئين فكيف من جاوزهم (1).
وهكذا تدفع أبا على عقيدته إلى هذا التوجيه الإعرابى، فى هذا التأويل، ثم يبلغ فى ذلك الاحتجاج مداه بأن يقول: وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه من الكثرة وأن ذلك من الأوليات المقررة عند المبتدئين:
* * * وبجانب هذا التوجيه الإعرابى القائم على العقيدة تعليل يعتمد على الحس النفسى، وطبيعة الإنسان، وما يختلج فى صدره من عواطف:
قال: فأما النظر فى نحو قوله تعالى: {وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ»} فقال أبو الحسن الأخفش أنه كقول الرجل إنما أنظر إليك إذا كان ينيله شيئا فليس حقيقة النظر عندى فى الرؤية، وإن كان يجوز أن يقع عليها فى الاتساع لما كان تقليب العين نحو المبصر بدلالة قول ذى الرمة:
قيامى هل يجزى بكائى بمثله ... مرارا وأنفاسى إليك الزوافر
وأنى متى أشرف على الجانب الذى ... به أنت من بين الجوانب ناظر
فاقتضاؤه الجزاء على ذلك يدل على أنه ليس بأبصار، وأنه علاج بمنزلة البكاء والتنفس ونحو ذلك، واقتضى الجزاء عليه كما اقتضى عليها، ولو كانت رؤية لم يسغ ذلك فيها، لأن المحب لا يقتضى ممن يحبه على رؤيته له جزاء، بل الأمر بعكس ذلك. ألا ترى أن أبا العباس أنشد:
إذا كلمتنى وكحلت عينى ... بعينك فامنعى ما شئت منى
فان قلت. فقد اقتضى على زور طيفه الجزاء، وهذا ما يشتهيه المحب، ويريد، فما تنكر أن يقتضى على الرؤية، وإن كان يحبها، فان هذا لا يستقيم ويكون بمنزلة الرؤية لأن ذلك مما يهيج من شوق المحب. ألا ترى قوله «يا عبد مالك من شوق إيراق، فقول ذى الرمة.
«وإنى متى أشرف على الجانب الذى ... به أنت من بين الجوانب ناظر
مثل قوله:
على أننى فى كل سير أسيره ... وفى نظرى من نحو أرضك أصور
إنما هو للتلفت إلى الجهة التى هى فيها
__________
(1) 4342.(1/507)
وأخذ بعض المحدثين هذا فقال:
ما سرت ميلا، ولا جاوزت مرحلة ... إلا وذكرك بلوى دانيا عنقى
ويدل على ذلك قوله: أنشد عن المفضل:
وحمّلت منها على نأيها ... خيالا يوافى، ونيلا قليلا
ونظرة ذى شجن وامق ... إذا ما الركائب جاوزن ميلا
فالنظرة هنا لا تكون الرؤية إنما هو التلفت ألا ترى أنه لا يستقيم.
ورؤية ذى شجن وامق ... إذا ما الركائب جاوزن ميلا؟
لأن الركائب إذا جاوزن ميلا لم ير الذى جاوزن به ما هو على هذه المسافة (1)
وهكذا يدل هذا النص على مشاركة أبى على فى هذه الدراسة الأدبية، إلى جانب دلالته على استهدائه بالطبيعة الانسانية، ومنهجه فى شرح الأبيات: يتفهم الجو الذى أحاط بالشاعر، ويستعين به على التفسير والتوجيه.
* * * ومن مظاهر ثقافته الفقهية فى الحلبيات ما ذكره من استدلال أبى يوسف بقوله تعالى:
{«إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ»} على جواز الاجتهاد من النبى (صلى الله عليه وسلم)
* * * ويتعرض أبو على فى الحلبيات لرسم الحروف، فهو يدلل على أن الصواب فى كتابة رآه ورماه وما أشبه ذلك أن يكتب بالألف دون الياء (2) ويقول: إن الخط يجرى مجرى اللفظ لقيامه مقامه وكونه بمنزلته (3)، وأراه بذلك يهاجم رسم المصحف وما جرى عليه الكاتبون، ذكر حجتهم، ثم فندها، ودلل على ما يرى فى جدل ومنطق بذكر الاعتراضات وردها:
قال: ما كان من الواو على ثلاثة أحرف فلا اختلاف فى كتابته بالألف اسما كان أو فعلا وما كان من الياء فالكتاب وكثير من غيرهم يكتبونه بالياء وإن كان فى اللفظ ألفا كالمنقلب عن الواو، وقالوا إنما كتبناه بالياء لنفصل بذلك بين ما كان منقلبا من الواو فقيل لهم. أرأيتم إن كتبتم ما كان من الياء بالياء، وإن لم يكن فى اللفظ كذلك لتدلوا على أن الأصل فيها الياء، هلا كتبتم ما كان بالواو أيضا بالواو لتدلوا على أن الأصل الواو.
__________
(1) 4544.
(2) ص 72.
(3) ص 71.(1/508)
فان قالوا: «اتباعا الفصل فى أحد النوعين يعلم به أن الآخر على خلافه»
قيل لهم: فهلا أجريتم ذلك على عكس ما فعلتموه فرددتم ذوات الواو إلى الأصل دون ذوات الياء فكتبتموها بالواو، كما كتبتم ذوات الياء بالياء فلم يعلم فى ذلك فصل بين، فاذا كان الأمر على هذا فالقياس أن يعتبر فى ذلك اللفظ فيكتب على ما عليه اللفظ، ولا يعتبر الأصل المنقلب (1) عنه ثم ضرب أمثلة متعددة فى تقص واستيعاب وانتهى إلى أن القياس فى رمى ورأى أن يكتب بالألف دون الياء.
ويحتج أبو على لما يذهب إليه فى المسائل النحوية والصرفية واللغوية والإعرابية والهجائية.
وقد سبق أن عرضت لرأيه فى رسم اليائى من الأفعال الثلاثية بالألف وتدليله على ذلك.
ونجد تدليلا على المسائل النحوية فى الاحتجاج مثلا لأصل (لن) لا أن (2)، وكيف أعرب اثنا عشر من بين سائر الأعداد التى بين العشرة والعشرين (3).
ومثال الاحتجاج للمسائل الصرفية ما أورد من الكلام فى وزن آمين (4).
وشاهد ما احتج فيه للمسائل اللغوية حديثه عن تأويل أسماء كتاب الله: (ا) القرآن (5) (ب) الفرقان (6) (ج) الكتاب (7).
كما احتج لما يراه من التوجيه الاعرابى: تعرض لإعراب قوله تعالى:
{«إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقََاتِ وَأَقْرَضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضََاعَفُ لَهُمْ»}، ودلل على أنه لا يجوز أن يكون قوله: وأقرضوا الله معطوفا على الفعل المقدر فى الموصول الأول على أن يكون التقديران الذين صدقوا وأقرضوا الله (8) ورأى أن تجعل اعتراضا بين الصلة والموصول. ورجح ذلك واستشهد عليه (9).
وهناك ميزة تنفرد بها الحلبيات، تلك هى التعرض للكلمات الأعجمية، والبحث فيها من حيث ترجمتها، ووزنها، واشتقاقها وتصريفها.
__________
(1) 7268.
(2) 26.
(3) 247.
(4) 80وانظر من ص 283265.
(5) 227.
(6) 239.
(7) 242.
(8) 102.
(9) 104.(1/509)
أكان ذلك لأنه فى بيئة عربية خالصة بيئة سيف الدولة بحلب، فألقى عليه ما ألقى مما يتصل بفارسيته؟ إذ أن الذى أتاح لهذه الفارسيات أن تظهر فى الحلبيات سؤال وجه إليه من سيف الدولة عن «الاسكرجة» وهل لها اشتقاق؟ وهل الهمزة فيها أصل أم لا؟ وكيف تصغيرها؟
فأجاب أبو على السؤال. وجره الكلام على عادة الاستطراد عنده إلى الحديث عن الكلمات الأعجمية من أسماء الأشخاص، والبلدان والأشياء، وبين أنواع الأسماء الأعجمية المعربة، ما نقل منها معرفا، وما نقل منها منكورا (1): وتعرض لوزن كل من أرجان (2) وإيوان (3) وذكر سبب تسمية الأبلة بذلك، وكذلك سبب تسمية القدس بأورى شليم (4)، وتحدث عن تصغير باذنجان (5) وذكر الأترج والأسكفة. (6) والإبريق، والآجر، والإبريسم (7) وأرمينية (8) وأسك (9) وأرند (اسم نهر) (10) فجاء حديثه فى ذلك جامعا مقنعا بما يعد مرجعا، لأنه استقصى حتى ليعتذر من أنه ترك الحديث عن أستاذ، وأسوار، فنبه إلى أنه ذكرهما فى المسائل المصلحة من كتاب أبى إسحاق (11).
* * * ولا بد للباحث فى الحلبيات أن يتعرض بالدراسة لرسالة طويلة كتبها أبو على إلى سيف الدولة، ذلك لأنها تلقى ضوءا على جوانب مختلفات من حياة أبى على فى حلب:
كيف كانت علاقة أبى على بابن خالويه؟
وكيف كانت منزلة أبى على عند سيف الدولة؟
وكيف عاش أبو على هذه الحقبة التى قضاها فى حلب؟
والرسالة لا تجيب هذه الأسئلة فى صراحة، ولكنها تومئ إلى الإجابة إيماء، لتستنتج منها استنتاجا.
أما الأمر الصريح فى هذه الرسالة فهو الجدول العلمى، الذى كان يجرى فى بلاط سيف الدولة بين العلماء فى ذلك الحين، وما يتيح ذلك الجدل من تعليق على ما دار فى المجلس يرسل به سيف الدولة إلى هذا العالم أو ذاك، ويرد العالم عنه عادية الهجوم، وهكذا نتبادل الرسائل فى مختلف المسائل، وكان من بينها رسالة بعث بها أبو على
__________
(1) 283.
(2) 294.
(3) 296.
(4) 298.
(5) 306.
(6) 290.
(7) 294.
(8) 293.
(9) 290.
(10) 297.
(11) 303.(1/510)
إلى سيف الدولة جوابا عن كتاب ورد عليه منه، يرد فيه على ابن خالويه (1).
وفى الرسالة عناصر ثلاثة متميزة:
أولها: بيان مكانة أبى على من علماء عصره.
ثانيها: دفاع أبى على عن نفسه برد ما نسبه إليه ابن خالويه.
ثالثها: خلوصه بعد الدفاع إلى الهجوم على ابن خالويه بتفنيد آرائه، وبيان وجه الخطأ فيها.
* * * فما يشهد للعنصر الأول قول ابن خالويه: «لو بقى ابو على عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافى». وعلق أبو على فقال: أن ابن بهزاز السيرافى يقرأ عليه الصبيان ومعلموهم»، أفلا أصلح أن أقرأ على من يقرأ عليه الصبيان؟ هذا ما لا خفاء به. كيف وهو (يريد ابن خالويه) قد خلط فيما حكاه عنى، وأنى قلت:
«أن السيرافى قد قرأ على» ولم أقل هذا إنما قلت: «تعلم منى» أو «أخذ عنى» هو وغيره، ممن ينظر اليوم فى شىء من هذا العلم، وليس قول القائل: «تعلم منى» مثل «قرأ على»، لأنه قد يقرأ عليه من لا يتعلم منه، وقد يتعلم منه من لا يقرأ عليه، وتعلم ابن بهزاز منى فى أيام محمد بن السرى وبعده لا يخفى على من كان يعرفنى ويعرفه كعلى بن عيسى الوراق، ومحمد بن أحمد بن يونس، ومن كان يطلب هذا الشأن من بنى الأزرق الكتاب وغيرهم، وكذلك كثير من الفرس الذين كانوا يرونه يغشانى فى صف شونيز (2).
* * * وهذا كلام يكشف على كل حال عن علو مكانة السيرافى، فأبو على حين يدفع قولة ابن خالويه: «لو بقى عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافى» يعترف ضمنا بمكانة السيرافى، إذ أنه يهتم بتقرير صلاحيته للقراءة على السيرافى الذى يقرأ عليه الصبيان ومعلموهم، ولا يهم أبا على إلا أن يرتفع بنفسه فوق طبقة الصبيان المتعلمين
على أن أبا على يرقى بنفسه حتى ينص على أن السيرافى أخذ عنه أو تعلم منه، ويستشهد على ذلك بكثير ممن كانوا يعرفونه هو والسيرافى.
__________
(1) معجم الأدباء 7/ 257ولم يصرح فى الحلبيات أن المردود عليه ابن خالويه وان كان ذلك غنى عن التصريح.
(2) الحلبيات 5نحوش: 33ظهر.(1/511)
ويتعين من هذا النص كذلك دقة أبى على فى تفهم الألفاظ والتحديد الدقيق لدلالتها: فتعلم منى أو خذ عنى غير قرأ على، وكذلك قوله فيما بعد: وابن الخياط لالقاء له، غير وابن الخياط لا يعرف شيئا.
ويقابل هذه الدقة عند أبى على تخليط من ابن خالويه فيما يحكيه.
* * * وأما الحديث عن العنصر الثانى: وهو دفاع أبى على عن نفسه فقد صدره أبو على بقوله:
«وأما قوله يعنى خالويه «قد أخطأ البارحة فى أكثر ما قاله» فاعتراف بما أن استغفر الله منه كان حسنا، وكذلك حكم كل من خطأ مصيبا.
والمسائل التى تناولها هذا العنصر واضحة من النصوص الآتية:
(ا) فأما قوله: أنى قلت «ما قال أحد أن القوم يقع على الجن» فما أعلمنى قلت هذا، ولكنى قلت: «أن القوم يقع على الرجال دون النساء» ثم أخذ يدلل على ما رآه (1).
(ب) وما ذكره من أنى قلت: «أن أناسا ليس جمعا كما قال الفراء» فغلط فى الحكاية لأنى لم أقل: «أن أناسا ليس بجمع غلى الإطلاق الذى ذكره صاحب الرقعة، ولكنى قلت: «أنه ليس بجمع تكسير، وليس بجمع إنسان (2). ثم دلل فى استطراد طويل.
(ح) وأما ما ذكره من أنه سألنى عن الناس على قول سيبويه ما وزنه، وما الدليل على أن الأصل فيه الأناس، وأنى قلت كما يعتد (؟) خذ وكل فغلط فى الحكاية، ولم يكن جوابى عن مسألته عن الدليل على صحة المذهب، ولكن دللت على ذلك بنحو ما قد نفذ جوابى أمس الى حضرة سيدنا. ثم ذكر الدليل (3).
(د) وما ذكره من أنى شبهت الفعل بالاسم، والكلمة على حرفين بالثلاثى فكلام ساقط يدل على أن قائله ليس يعرف من التصريف شيئا، ومن عبارة أصحابه شيئا يغنى به (4).
وأبو على فى المسائل الثلاث الأولى يبرئ نفسه دون أن يتهجم، يذكر الدليل فى هوادة ولين، وكان فى المسألة الرابعة عنيفا حتى أوشك أن يكون من الشتامين، وهو فى كلتا الحالين قد بلغ من صاحبه ما يريد.
واقرأ مرة أخرى الدليل على هدوئه ولينه وبلوغه ما يريد:
__________
(1) الحلبيات 5نحوش: 33ظهر.
(2) 34ظهر.
(3) 36وجه.
(4) نفس المصدر.(1/512)
«وأما قوله: «قد أخطأ البارحة فى أكثر ما قاله «فاعتراف بما ان استغفر الله منه كان حسنا، وكذلك كل من خطأ مصيبا (1)».
ولعل قرب ابن خالويه من سيف الدولة جعل أبا على يلتزم ذلك الرد الهادئ، حتى إذا طفح منه الكيل واشتد، قابل تخليط ابن خالويه بما يجب أن يرد عليه.
هذا وسأسوق بعد نموذجا لمسألة من المسائل السابقة فى العنصر الثانى تكشف عن نزعة أبى على فى الرد على ابن خالويه.
* * * وقد علق أبو على فى العنصر الثالث وفيه يقف مهاجما بعد أن ثبتت قدمه مدافعا علق أبو على على أقوال ابن خالويه الآتية:
(ا) اختلف أهل النحو فى الناس على أربعة أوجه. وذكرها ثم علق أبو على على ما قال ابن خالويه (2).
(ب) وقوله اختلفوا فى الناس فقالوا: قد يكون لمعنى واحد قال الله تعالى {«الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ»} (3).
(ح) وأما قوله: والإنسان واحد وقد يكون جمعا قال الله تعالى: {«وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ} (4).
(د) ثم يختم أبو على الجواب بهذا التهكم الذى يبدو فى قوله:
«وليس فى الرقعة التى وصلت إلى عبد سيدنا شىء حكمه أن يتكلم عليه، وفى آخرها حرف لم يبعد فيه، وهو قوله: «وليس يعرف أحد ما يقول فكيف ينقضه؟
ومما يصدق هذا أن رقعة من ثلاث رقاع وردت حضرة سيدنا الأمير سيف الدولة (أطال الله بقاءه) فمما ذكره فيها قول الشاعر:
قالت: «ألا ليتما هذا الحمام لنا» ... وتعاطى تفسير الرفع، والنصب فى الحمام،
فقرأت، ومن رفع الحمام جعله خبر ليت، وهذا أطال الله بقاء سيدنا من العويص الذى لا يفهمه أحد، ولا يعرفه ولا ينقضه ولا يبرمه (5)»
* * * وهكذا لا ينتهى أبو على من الكتاب حتى يترك ابن خالويه وقد بدا فى تخاذله، واعترافه باغماض أبى على لأسلوبه، ولكن أبا على يعتز بذلك الإغماض، ويرده
__________
(1) ورقة 33.
(2) الحلبيات 5نحوش 36.
(3) المصدر السابق: 37.
(4) نفس المصدر 38.
(5) الحلبيات: 5نحوش 38.(1/513)
إلى تمرسه بالعويص وتعمقه فى العلم، والغوص على البعيد من أعماقه، وهو من أجل ذلك لا يلحقه نقص ولا إبرام.
* * * هذا عرض عام لتلك الرسالة، وأضرب مثلين بعد ذلك أحدهما للعنصر الثانى فى هذه الرسالة والآخر للثالث منها، إذ كنت ظربت مثلا للعنصر الأول فيها.
* * * مثال دفعه هجوم ابن خالويه:
فأما قوله: أنى قلت: «ما قال أحد أن القوم يقع على الجن فما أعلمنى قلت هذا، ولكنى قلت: «إن القوم يقع على الرجال دون النساء بدلالة قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} ثم قال ولا نساء من نساء، وبدلالة قول زهير:
«أقوم آل حصن أم نساء» وبدلالة أن القوم فعل من القيام، والرجال هم القوامون على النساء والصبيان كما جاء ذلك فى التنزيل، وليس للنساء قيام على الرجال فى هذا الوجه. فقال قائل فى المجلس: ولو قيل إن قوما يقع على النساء أيضا بدلالة قوله:
أنا أرسلنا نوحا إلى قومه» فقلت إن هذا لا يدل على أن قوم يقع على النساء، لأن النساء وقع عليهن هذا الاسم لاختلاطهن بالرجال، فأطلق عليهن ما يختص به الرجال من حيث يغلب المذكر على المؤنث فى هذا الموضوع، هذا ما ذكرته مما جرى فى قوم لا أذكر غيره، ولو قال قائل: إن قوما لا يقع على الجن لم يكن فيما أورد من القرآن دلالة على أن القوم يقع على الجن (1)، لأنه يمكن أن يكون المعنى: أنهم قالوا لزعمائهم ومن ينوب ويقوم عن سائرهم ما تقولون أنتم أيها الإنس لمن كان منكم هذا وإن لم يكونوا مستحقين لهذا الاسم فى الحقيقة، وهذا النحو فى اللغة غير ضيق. من ذلك قوله تعالى: {«إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعََامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ»}
ثم قال: {«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ،} ومعلوم أن من كانت هذه صفته لم يكن كريما عند الله فى الحقيقة لقوله: {«وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً»}، وقوله. {«وَمَنْ يُهِنِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ»} فاستحقاقه أن يسمى بالمهان ينافى أن يكون كريما، وإذا كان كذلك ثبت أن المعنى أنت العزيز الكريم عند نفسك، وأنت الذى يسمى بالعزيز الكريم ولست كذلك. وكذلك قوله تعالى: {«وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنََالُوا خَيْراً»} فسمى
__________
(1) يشير إلى الآية: يا قومنا أجيبوا داعى الله.(1/514)
ما كان يناله المشركون من المسلمين لو نالوه خيرا على حسب ما كان عند المشركين.
وإن لم يكن فى الحقيقة كذلك. وقد قال زهرة اليمن يعنى جريرا:
أبلغ كليبا، وأبلغ عنك شاعزها ... أنّى الأغر وانّى زهرة اليمن
فأجابه جرير:
ألم يكن فى وسوم قد وسمت بها ... من خاف موعظة يا زهرة اليمن
ومن ذلك قول النابغة الجعدى أو غيره من القدماء:
إذا أصبح الديك يدعو بعض أسرته ... إلى الصباح وهم قوم معازيل
فكما أجرى الأسرة والقوم على الدجاج وإن لم يكن مما يسمى فى كلامهم بقوم ولا أسرة، كذلك يجوز أن يقع اسم قوم على الجن لدعائهم إلى الإيمان، وإن كان اسم قوم لا يقع عليهم كما لا يقع على الدجاج إلا فى هذه المواضع المتسع فيها للتشبيه، وإذا كان ما ذكرته فى التأويل فى قول الجن بعضهم لبعض ممكنا لما أوردته من الدليل سقط ما أتى به صاحب الرقعة من الاستدلال بالآية (1)
* * * وهكذا قدم أبو على الدليل النقلى أولا فاستشهد بالقرآن الكريم والمروى من الشعر القديم، ثم مزح ذلك الدليل النقلى بالدليل الصرفى، واستعان على تفسير القرآن بالقرآن، وأعانه على ذلك حافظة قوية الاستحضار للآى التى تناسب المقام، ومذخور من اللغة والشعر، وكان أمينا فى الرواية، سالكا سبيل المناطقة فى التدليل الذى تسلمك مقدماته إلى نتائجه فى سلامة ويقين، وفى هوادة ولين.
مثال هجومه على ابن خالويه: وقوله ابن خالويه اختلف أهل النحو فى الناس على أربعة أوجه فقال قوم نوس، وقال آخرون نيس بالياء، واحتجوا بأن الكسائى قرأ قل أعوذ برب الناس بالامالة، وقال آخرون النسى بتأخير الياء، فقدمت اللام إلى موضع العين، فان تعديد هذا الوجه، وجعله وجها غير الذى تقدمه خطأ، لأن هذا نفس الذى ذكره وليس غيره، فلو جاز أن يعد المقلوب والمقلوب عنه وجهين فيقال أن المقلوب غير المقلوب عنه لجاز أن يعد المحذوف والمحذوف منه منه وجهين فيصير خمسة أوجه فهذا غلط فى العدد ودلالة على ضعف التمييز، وفيما قدمته من الدلالة على إن الهمزة فى أناس فاء الفعل ما يدل على أن الألف زائدة وفى كونها زائدة ما يبطل كونها منقلبة، وإذا لم تكن منقلبة سقط هذان القولان
__________
(1) الحلبيات 5نحوش: 34.(1/515)
اللذان ذكرهما فى قسمته، وفسد ما ذهب إليه من انقلاب الألف فى أناس عن الياء أو عن الواو، وإذا سقط ذلك لم يبق إلا قول واحد، وهو أن الكلمة فاؤها همزة وعينها نون ولامها سين والألف فيها زائدة
فأما من احتج منهم بأن العين ياء لقراءة من قرأ قل أعوذ برب الناس بامالة الألف، واحتجاجه بذلك دليل على ضعف بصره بالامالة (1) ثم تابع الدليل على أنه قد يمال من الألفات ما هو منقلب من الواوات
وأبو على فى هذا النص لا يدفع فرية افتراها ابن خالويه، وإنما يهجمه فى قول قاله، ومذهب رآه، متخذا العنف الذى يبدو فى تغليطه ووصفه بضعف التمييز، وضعف بصره بالامالة، أما المنطق فى هذا المثال، والبرهان الذى يشبه براهين المهندسين فواضح وغنى عن التبيين.
* * * وأود أن أشير إلى أن أبا على كان قويا برسوخ قدمه، وغزارة علمه، على حين كان خصمه قوى الجانب بسيف الدولة إذ كان مقربا عنده، ومع ذلك فلم يغن ابن خالويه الركن الشديد الذى آوى إليه.
* * * وقد أشرت إلى الخضوع الملحوظ فى تقديم هذه الرسالة من أبى على إلى سيف الدولة وربما اعتذر لأبى على أن تلك كانت عادة الناس فى التقريب إلى السلطان فى هذه الأزمان.
* * * وبعد: فهذه هى الحلبيات، وتلك شخصية أبى على الواضحة فيها: الواضحة بشواهده وتعقبه وأدلته وتأويله واحتجاجه وأسلوبه ولولا ما أحاط به من كيد ونكاية لانصرف إلى إنتاج أضخم وأدسم فى ظل سيف الدولة، ويشاء الله أن يدعوه عضد الدولة فيظفر العلم منه بالإيضاح، والتكملة، والشيرازيات.
وللحلبيات بمصر نسختان مخطوطتان إحداهما برقم 5نحوش من آثار الأستاذ الشنقيطى (رحمه الله) والأخرى برقم 266نحو بالخزانة التيمورية نسخت من نسخة الشنقيطى، وأم هاتين النسختين نسخة بالمدينة المنورة، وعناية هذين الرجلين بالحلبيات أثر من آثار عنايتهما بتراث أبى على (على الجميع رحمة الله)
__________
(1) الحلبيات: 5نحوش: 36، 37.(1/516)
الايضاح
يرد هذا الكتاب فى كتب التراجم حينا باسم الإيضاح فى النحو (1)، وحينا باسم العضدى (2)، وأورده ابن خلكان باسم الإيضاح والتكملة فى النحو (3). وفى الأمانة العامة للجامعة العربية: معهد إحياء المخطوطات: «الإيضاح العضدى (4)». والتسمية «بالعضدى» كاشفة عن الإيضاح، لأنه ألف لعضد الدولة وقدم إليه (5)، ولم يورد ابن النديم فى الفهرست هذا الكتاب، والذى أورده «كتاب شرح أبيات الإيضاح (6)» ولست أدرى لم أغفله ابن النديم مع أنه يذكر الكتب التى ألفت حتى سنة 377هـ (7)، وكتاب الايضاح مؤلف قطعا قبل هذا التاريخ لأنه مهدى إلى عضد الدولة الذى توفى سنة 372 (8) هـ. ولعل السبب فى أن ابن النديم لم يذكره أنه لم يطلع عليه (9)، فقد كان عضد الدولة محبا للاختصاص بقراءته دون كل أحد.
وقد ذكر أبو على فى صدر كتاب الايضاح أنه «جمع فى هذا الكتاب أبوابا من العربية متحريا جمعها على ما أمر به الأمير الجليل عضد الدولة، فان وافق اجتهادى ما رسم فذاك بعض نقيبته، وحسن تنبيهه وهدايته، وإن قصر إدراك عبده، عما حده، رجوت أن يسعنى صفحه، لعلمه بأن الخطأ بعد التحرى موضوع عن المخطى (10)».
ولم يبين أبو على ما ورد به أمر عضد الدولة، وما رسم له فى منهج هذا الكتاب، غير أن كتب التراجم والتاريخ تروى روايات متضاربة متدافعة عن موقف عضد الدولة من كتاب الإيضاح:
وأقدم هذا الكتب تحدثا فيما أعلم كتاب ذيل تجارب الأمم لأنى شجاع: فهو يروى ما حكى أبو طالب العبدى من تلاميذ أبى على (11) أن عضد
__________
(1) انظر مثلا نزهة الألباء 209، بغية الوعاة 216، الشذرات 3/ 79.
(2) إنباه الرواة 2/ 387.
(3) وفيات 3/ 362.
(4) ف 844.
(5) انظر تقديم كتاب الإيضاح: نحو 1120.
(6) انظر 95.
(7) انظر ص 58، 129.
(8) انظر ابن الأثير 9/ 7.
(9) ذيل تجارب الأمم 3/ 68.
(10) الايضاح 100نحو.
(11) انظر انباه الرواة 2/ 386.(1/517)
الدولة كان ضنينا بالإيضاح، محبا للاختصار بقراءته دون كل أحد، ويسوق العبدى على تقدير عضد الدولة للايضاح وضنه به فيقول: وذلك أن رجلا توصل إلى كتبه بخطه بحيلة فأمر عضد الدولة بقطع يده لنفاسة الكتاب فى نفسه، وحلاوته فى قلبه حتى سئل فى أمره فعفا عنه (1)». ويقول ابن قاضى شهبة الأسدي:
«إن أبا على لما وضع لعضد الدولة كتاب الايضاح حمله إليه واستحسنه (2)».
وأما الروايات الأخرى التى تدافع هذه الرواية فهى فيما يقوله صاحب نزهة الألباء: «أن أبا على عند ما صنف كتاب الايضاح لعضد الدولة وأتاه به قال له عضد الدولة: «هذا الذى صنفته يصلح للصبيان (3)». ويزيد ياقوت فى المعجم: «أن عضد الدولة استقصره وقال له: «ما زدت على ما أعرف شيئا، وإنما يصلح هذا للصبيان، فمضى أبو على وصنف التكملة وجمعها إليه، فلما وقف عليها عضد الدولة قال:
«غضب الشيخ، وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو (4)»، وينقل ذلك النص السيوطى فى بغيته (5).
والذى أراه فى هذه الروايات المتضاربة أن الرواة تزيدوا، وأسند وإلى عضد الدولة ما لم يكن منه، ولم يتحدث به.
حقيقة كان عضد الدولة أحد العلماء بالعربية (6) وكان ذا بصر بالنحو، يناقش أبا على فى مسائله (7)، وينقل عنه ابن هشام الخضراوى فى الافصاح (8)، ويرد ذكره فى كتب التراجم، وتذكر آراؤه بجانب آراء النحاة الأولين:
قال فى الارتشاف وقال الأخفش، وتبعه عضد الدولة، واستحسن أبو القاسم بن القاسم فى مسألة «ضربى زيدا قائما» تقديره ضربه قائما (9).
__________
(1) ذيل تجارب الأمم 3/ 68.
(2) طبقات النحاة واللغويين 295وما بعدها.
(3) نزهة الألباء: 210.
(4) 7/ 238.
(5) انظر 216.
(6) روضات الجنات: 220.
(7) انظر نزهة الألباء: 210.
(8) بغية الوعاة: 374.
(9) ارتشاف الضرب: 507مخطوطة دار الكتب 828نحو والنصف الثاني من طبقات النحاة لابن قاضى شهبة مخطوط بدار الكتب رقم 2146تاريخ ص 377.(1/518)
ولكن عضد الدولة على كل حال كان يوقر أبا على توقير التلميذ للشيخ» ويذكر أنه غلام أبى على فى النحو (1)، ويقول إذا افتخر بالعلم والمعلمين: «معلمى فى النحو أبو على الفارسى (2)». هذه واحدة، وثانية أن الربعى تلميذ أبى على يحكى بما يوحى أن عضد الدچولة كان ضنينا بالايضاح متفقا فى ذلك مع خير العبدى من قبل وأنه لم يخرج للناس إلا باذن ممن ألف له، قال الربعى:
كان أول من سمع الإيضاح ورواه إلى الناس بإذن ممن الف له أنا وأبو احمد الجلاب، رسم لنا اخذه عن ابى على، ثم خرج إلى الناس من بعد (3). فكيف يتفق ألا يرتضيه أولا ثم يضن به ثانيا:
وثالثة: هذا الذى تزيده المترجمون ممثلا فيما يرويه ياقوت، ويتابعه فيه السيوطى من أن الشيخ غضب فأتى بما لم يفهمه عضد الدولة، ولم يفهمه هو هذا قول بعيد عن طبيعة الصلة بين أبى على وعضد الدولة، بعيد أن يغضب أبو على من ولى نعمته (4) الذى كان يعد أمره حكما، وطاعته غنما، وإن كان هناك توجيه من عضد الدولة فما على الشيخ إلا أن يصدع بما يؤمر عن رضا وارتياح.
ثم بعيد بعد ذلك أن يعترف عضد الدولة بأنه لا يفهم ما يقول الشيخ، وأبعد منه أن يقول عن أبى على وهو مؤلف الكتاب. أنه لم يفهمه هو كذلك.
والأمر عندى بعد ذلك أن ما يرويه المترجمون يعبر عن نظرة الناس إلى الكتابين فى إجمال. فكتاب الإيضاح كتاب تعليمى وضع للمبتدئين، وكتاب التكملة يخالفه فى ذلك على النحو الذى سأعرضه له فى هذا الفصل بالبيان إن شاء الله.
وليس بضائر أبا على، ولا يغض من قدر الكتاب أنه وضع للمتعلمين، فمن قيل وضع كل من الجرمى (5)، وابن درستويه (6)، وابن السراج (7)، مختصرات فى النحو للمتعلمين، لعل أبا على نظر إلى شىء من هذه الكتب الثلاثة، فابن درستويه من أبناء جلدته فارسى فسوى، وابن السراج أستاذ له، وأما الجرمى فقد قدر أبو على عمله إذ يقول «قل من اشتغل بمختصر الجرمى إلا صارت له بالنحو صناعة (8).
__________
(1) المنتظم: 7/ 138.
(2) أخبار العلماء بأخبار الحكماء ط الخانجى سنة 1326هـ: 152.
(3) إنباه الرواة: 2/ 275.
(4) انظر مقدمة الحجة.
(5) طبقات اللغويين للزبيدى 77.
(6) المصدر السابق 127.
(7) نفس المصدر 122.
(8) نزهة الألباء 101.(1/519)
متى ألف الإيضاح:
تظهر صلة أبى على بعضد الدولة منذ أن استجلبه لبنى أخيه يؤدبهم (1). وكان أبو على حين استجلبه الديلمى عند ابن حمدان، وقد تركه عائدا إلى بغداد، ثم شيراز (2). وقد استظهرت فى فصل سابق أن أبا على رجع إلى شيراز حيث يتصل بعضد الدولة منذ 348هـ.
وإذن فالإيضاح مؤلف قطعا بعد هذا التاريخ، وفى هذه الفترة التى قضاها أبو على فى شيراز، والتى بلغت نحوا من عشرين عاما (3). ولا أملك من النصوص ما يعين على تقريب هذا المدى بين هذه السنين وإن كنت أميل إلى القول بأن الكتاب مؤلف فى صدر هذه المدة إذ كان كتابا تعليميا للمبتدئين، فمن المحتمل أن يكون أبو على ألفه لأبناء أخى عضد الدولة يرجعون إليه ويقرءون فيه، ثم أن طبيعة الأشياء تقضى أن يستفيد عضد الدولة من علم الفارسى فى صدر الصلة به لا بأخرة منها، وليس فى تقديم الكتاب ما يعين على الوصول إلى تاريخ تأليفه، ففي نسخة من نسخه يخاطب أبو على عضد الدولة بالملك الجليل (4)، وفى نسخة أخرى يخاطبه مع ذلك بالأمير الجليل (5)، ولو اقتصر على الأخرى منهما لرجحت أن يكون الكتاب ألف قبل سنة 356هـ وهى السنة التى بدأ فيها الصراع بين بختيار وعضد الدولة، وانتهى بتقريب الخليفة الطائع لعضد الدولة حتى عقد فى سنة 364هـ على ابنته (6)، ودخل عليها سنة 370وخوطب فى سنة 368بالملك (7).
مشتملات الإيضاح:
لخص أبو على أبواب كتاب الإيضاح فى صدر التكملة حيث ذكر التغيير الذى يلحق أواخر الكلم، وجعل قسما منه ذلك التغيير بالحركات والسكون أو الحروف، ويحدث باختلاف العوامل، وهذا الضرب هو الذى يسمى الإعراب، ويكون فى الأسماء المتمكنة، والأفعال المضارعة للأسماء ثم قال.
__________
(1) طبقات الزبيدى 130.
(2) المصدر السابق.
(3) 368348.
(4) مخطوطة 1120نحو.
(5) مخطوطة 1006نحو.
(6) النجوم الزاهرة: 4/ 135.
(7) انظر تاريخ المسلمين للشيخ جرجس بن العميد: 237، 238.(1/520)
«وقد ذكرت ذلك بأصنافه فى الجزء الأول من الكتاب الموسوم بكتاب الإيضاح (1)»
وأنت إذا نظرت إلى أبواب كتاب الإيضاح رأيتها تصدر عن فكرة أثر العوامل، فبعد أن ذكر مقدمات تعد مدخلا للكتاب من حيث الكلام وتأليفه، وحد الإعراب، وحد البناء، وتكلم عن التثنية والجمع بعد أن ذكر هذه المقدمات أدار الكلام على المعربات وبدأ بالمرفوعات من الأسماء فذكر فى ذلك: الابتداء وخبر المبتدأ، والفاعل، والفعل، والفعل المبنى للمفعول به، والأفعال التى لا تتصرف، ونعم وبئس، والتعجب. ثم انتقل إلى المنصوبات من الأسماء فذكر العوامل الداخلة على الابتداء وخبره، وتحدث عن إن أخواتها، وظننت وأخواتها، والأسماء التى أهملت عمل الفعل «أسماء الفاعلين، والمفعولين، والصفات المشبهة بها، والمصادر التى أعملت عمل الفعل، والأسماء التى سميت بها الأفعال»، ثم تحدث عن المفعول معه، وله، والحال، والتمييز، والاستثناء بالا، وغير وسوى وحاشى، وانتقل إلى النداء والترخيم والنفى بلا، وبعد أن وفى الكلام على منصوبات الأسماء انتقل إلى الكلام عن المجرورات فتحدث عن حتى، ومذ، ومنذ، وللقسم، والأسماء المجرورة بإضافة أسماء منها إليها، والإضافة التى ليست محضة.
ثم انتقل إلى التوابع: الصفة والعطف، والبدل. وهكذا ينتهى من إعراب الأسماء «مرفوعة، ومنصوبة، ومجرورة، وتابعة. «وعنده أن الرفع أقوى من النصب (2) وهذا أقوى من الجر ولذلك جعل الكلام فى مسائل النحو على هذا الترتيب.
ثم تحدث عما لا ينصرف، فيذكر أبوابه المختلفة، ثم يأخذ فى الحديث عن إعراب الأفعال مرفوعة، ومنصوبة، ومجزومة، ويعقد بابا للمجازاة، ويختم الكتاب بالحديث عن النون الثقيلة والخفيفة.
هذا هو الملاك العام الذى صدر عنه الشيخ أبو على فى ترتيب الإيضاح، نظر
__________
(1) انظر مخطوطة 1006ص 64.
(2) انظر الايضاح ص 12.(1/521)
إلى أثر العوامل من حيث الرفع، والنصب، والجر فى الأسماء أولا، ثم من حيث الرفع، والنصب، والجزم فى الأفعال ثانيا. وبين هذين يذكر التوابع (1).
ومن أجل هذه الفكرة التى صدر عنها أبو على تراه يتحدث عن حتى مرة فى حروف الجر (2) ومرة عند قوله «ومما ينتصب الفعل بعده» حتى «وذلك قولك» سرت حتى أدخلها (3). ونراه يتحدث عن أفعل التفضيل مرة فى باب التعجب، ومرة فى باب الإضافة التى ليست محضة (4)، وهكذا ينظر أبو على فى ترتيب الإيضاح إلى أثر العوامل نفسها، وهو بذلك يتخالف مع سيبويه الذى نظر فى ترتيب كتابه إلى العوامل كما انتهى إليه أستاذنا فى كتابه الموسوم بسيبويه أمام النحاة (5).
وقد وجدت أبا العباس المبرد فى كتابه المقتضب لا يخضع فى ترتيبه لفكرة بعينها فهو مثلا يورد باب التبيين والتمييز (6) مسبوقا بباب أما (7) وإما وقد ومنذ (8)
ومتبوعا بباب التثنية على استقصائها صحيحها ومعتلها (9)، وباب الإمالة (10)، وباب كم ثم باب (11) الأفعال التى تسمى أفعال المقاربة (12) وهأنتم أولاء ترون ألا ترابط بين هذه الأبواب، وكان ذلك منزع المبرد على وجه العموم فى ترتيب سائر الكتاب.
ولو وازنت بين نهج الخالفين فى ترتيب كتبهم، ونهج أبى على الفارسى فى ترتيب الإيضاح وجدت اتحادا فى الخطة فهم فى جملة الأمر ينظرون إلى أحوال الإعراب كما فعل أبو على الفارسى من قبل.
ذلك أمر الخالفين والسالفين فى ترتيب كتبهم متفقين مع أبى على أو مخالفين.
ولكن ما شأن المعاصرين لأبى على؟
__________
(1) يذكر أستاذنا عبد الحميد حسن فى كتابه القواعد النحوية أن كتاب الزمخشرى «المفصل» يجيء بعد كتاب سيبويه من حيث الكتب الشاملة فى النحو (انظر ص 253) ثم يعود فيقرر أن كتاب الايضاح والتكملة جاءت فيهما البحوث النحوية والصرفية فى ثناياها أو فى بعض فصولها (انظر ص 254) وها نحن أولاء نرى كتاب الايضاح لأبى على وهو قبل الزمخشرى يشتمل على هذه المسائل النحوية والصرفية اشتمالا جامعا.
(2) الايضاح 81.
(3) الايضاح 102.
(4) الايضاح 85.
(5) راجع الصفحات 179170.
(6) انظر كتاب المقتضب للمبرد المجلد الثالث من القسم الأول 23.
(7) ص 18.
(8) ص 21.
(9) ص 30.
(10) ص 34.
(11) ص 47.
(12) ص 57.(1/522)
أما تلاميذ أبى على فقد نهجوا نهجه، وحذوا حذوه (1)، وأما الشيوخ فاننا نعرف من كتبهم «الجمل» للزجاجى فهل كان متفقا مع أبى على، أو متخالفا فى ترتيب كتابه فجاء مضطربا تتداخل أبوابه بعضها فى بعض.
فبعد هذه المقدمات التى يذكرها النحاة عادة فى صدور كتبهم من أقسام الكلام والإعراب وعلاماته والتثنية والجمع نرى الزجاجى يتحدث عن بعض مرفوعات الأسماء ومنصوباتها فيذكر «باب الفاعل والمفعول به» ثم يعود فيذكر ما يتبع الاسم فى إعرابه، ثم يرجع إلى بعض منصوبات الأسماء فيتحدث عن أقسام الأفعال فى التعدى ويعقب ذلك حديثه عن طرف من مرفوعات الأسماء فى باب الابتداء والحروف التى ترفع الاسم وتنصب الخبر، والحروف التى تنصب الاسم وترفع الخبر، ويقحم بين هذه الأبواب بعد باب الابتداء باب اشتغال الفعل عن المفعول بضميره، وبعد أن يتحدث عن حروف الخفض والقسم وحروفه يعود إلى شىء من مرفوعات الأسماء ومنصوباتها: ليتحدث عنها فى: باب ما لم يسم فاعله، واسم الفاعل والأمثلة التى تعمل عمل اسم الفاعل، والصفة المشبهة باسم الفاعل. وباب التعجب، وما، ونعم وبئس، وحبذا، ثم يتحدث عن إضافة المصدر، والعدد، ومذ ومنذ، كما ينكص راجعا إلى بعض المنصوبات فى الأسماء فى باب النداء، والاستغاثة، والندبة. ثم يتحدث عن الحروف التى تنصب الأفعال المستقبلة، ثم يرجع إلى الحديث عن مرفوعات الأسماء ومنصوباتها فيعقد بابا لأفعال المقاربة، وبعد أن ينتهى منها يتحدث عن جوازم الأفعال، ويتركها عائدا إلى منصوبات الأسماء فى الاستثناء والنفى بلا والتمييز، ثم يتحدث عن التصغير وألف القطع وألف الوصل، والمخاطبة «والهجاء، وأحكام الهمز فى الخط، والمقصور والممدود والمذكر والمؤنث والأفعال المهموزة، وهى أبحاث بعضها صرفى وبعضها هجائى ولما انتهى منها عاد مرة أخرى إلى أسماء الفاعلين والمفعولين والحروف التى يرتفع ما بعدها بالابتداء وتسمى حروف الرفع وهى «إنما كأنما ليتما. الخ» ويكون من الأبواب الباقية باب الوقف، باب لو ولولا، باب أقسام المفعولين وهى خمسة، باب ماذا، مواضع أى، باب ماذا، مواضع أن المكسورة الخفيفة باب الصلات ثم يختم الكتاب بأبواب من التصريف
__________
(1) كابن جنى فى اللمع مثلا.(1/523)
مع العلم بأنه ألقى باب التصغير فى طريقه بعد باب الإعراب، بينه وبين ألف القطع وألف الوصل وقبل أبواب لو ولولا، وأقسام المفعولين الخمسة الخ
هذا ترتيب مضطرب مشوه متعثر كما ترى، لا يخضع لملاك عام، ولا يصدر عن نظرة خاصة، وذلك فعل أبى على فى ترتيب كتاب الإيضاح على النحو الذى بينت آنفا، فهل كان أبو على أول من ابتكر هذا الترتيب وسنه للمعاصرين له من تلاميذه، وللخالفين من النحاة بعده؟ يرجح فى نفسى ذلك. وابتكار أبى على هذا الترتيب يعد تجديدا فى التبويب له دلالته على ما يمتاز أبو على به من قدرة على التنظيم. وهذا الترتيب المبتكر يبدو لنا الآن شيئا لا خطر فيه لألفنا له فى كتب النحاة. ولكنه من غير شك كان قدوة للمؤلفين من النحاة الذين خالفوه، فساروا على نهجه ونظروا إليه مقتفين أثره، وتوارثوه فى كتبهم حتى هذا الزمان:
فالزمخشرى ينظر فى ترتيب كتابه المفصل إلى أبى على فى كتابه الإيضاح: جعل الزمخشرى كتابه مقسوما على أربعة أقسام:
الأول فى الأسماء والثانى فى الأفعال والثالث فى الحروف والرابع فى المشترك من أحوالها (1). وبعد أن عقد فصولا فى معنى الكلمة والكلام (2) وما يدخله لام التعريف من الأعلام (3) وأنواع الاسم المعرب (4)، تحدث عن وجوه الإعراب للاسم فذكر المرفوعات من مبتدأ وخبر (5) ثم تحدث عن المنصوبات (6)، ثم عن المجرورات (7)، ثم عن التوابع (8) ثم تحدث عن أصناف الاسم المبنى (9)، ثم عن شبه الفعل المعبر عنه بالأسماء المتصلة بالأفعال (10) وبعد أن انتهى من ذلك تحدث عن قسم الأفعال فذكر أقسامها وأصنافها (11).
ثم أورد القسم الثالث من الكتاب وهو قسم الحروف وبين أصنافها: من حروف العطف (12) وحروف النفى (13) وحروف التنبيه (14). الخ.
ثم ختم كتابه بالقسم الرابع وهو المشترك وجعل منه الإمالة (15) والوقف (16)
__________
(1) انظر المفصل ص 5الطبعة الأولى أمين الخانجى مطبعة التقدم 1353هـ.
(2) ص 6.
(3) 11.
(4) 15.
(5) انظر ص 3023.
(6) انظر ص 8235.
(7) 11082.
(8) 110.
(9) 124.
(10) 218.
(11) 283243.
(12) 203.
(13) 305.
(14) 307.
(15) 335.
(16) 338.(1/524)
والقسم (1) وتخفيف الهمزة (2) وزيادة الحروف (3) والإبدال (4) والاعتلال (5)
والادغام (6)، وقد تكفل بهذا القسم الأخير عند أبى على كتاب التكملة
* * * وقد جعل أبو على كتابه الايضاح فى أبواب قصار، فلم يشق على القارئ المبتدئ ولم يعنف به، وبصر المنتهى بالمهم فى إجمال، ومضى فى عرضه للقواعد النحوية هادئا متريثا واضحا، قوى العبارة، دون التواء أو تعقيد، يقرب بالتنظير، ويشرح فى توضيح، ويستشهد مؤيدا القاعدة بآيات من القرآن، وأبيات من الشعر، ويحذرك النطق بتعبيرات ويلقى إليك فى يسر بالتعليل، ويلقى إليك بقواعد جامعة، وأحكاما شاملة، وأسسا عامة تضم شتات التفصيلات، ويندرج تحتها كثير من الحالات، فلا يدع الباب إلا وأنت مقتنع به، متفهم له، واع لما يقول من غير عنت أو إرهاق، ولعله بذلك كله قصد أن يجعل من الإيضاح اسما يدل دلالة قوية على مسماه.
وفيما يلى بعض أمثلة للقواعد العامة التى يبدو أنها وضعت لتقرب على المتعلمين وهى غالبا ما تتصل بالصنعة الإعرابية والأسلوبية:
لا ينتصب فى خبر عسى غير أن مع صلتها (7).، «المخصوص بالمدح أو الذم لا يكون إلا من جنس المذكور بعد نعم وبئس (8)، «إذا اجتمع فى باب كان وأخواتها معرفة ونكرة فالذى يجعل اسم كان منهما المعرفة كما كان المبتدأ المعرفة والخبر النكرة (9)» «أفعال الحواس كلها متعدية (10)» «لا يكون للشرط جزاءان (11)». «الرفع فى الرتبة قبل النصب والجر، وذلك أن الرفع يستغنى عن النصب والجر (12)»، «الاستفهام لا يتقدم عليه ما كان خبره»، ومما يتصل بالقواعد العامة تلك الأمثلة التى صدرها فى كثير من كتابه: بقوله «لا يجوز»:
منها ما هو متصل بالصنعة الإعرابية، ومنها ما هو متصل بالنزعة النحوية، فمما يتصل بالصنعة الاعرابية: «لا يجوز» كانت زيدا الحمى تأخذ «إن رفعت الحمى
__________
(1) 344.
(2) 349.
(3) 57.
(4) 360.
(5) 374.
(6) 393.
(7) 39.
(8) 3130.
(9) 34.
(10) تقدم هذا النص.
(11) ص 22.
(12) ص 12.(1/525)
بكانت لفصلك بين كان وسمها بأجنبى منها وهو زيد الذى هو مفعول مفعولها، فان جعلت التأنيث فى كانت للقصة ورفعت الحمى بالابتداء وجعلت تأخذ خبر المبتدأ جازت المسألة لأن زيدا حينئذ مفعول مقدم ولم يفصل به بين الفاعل وفعله (1).
ولا يجوز علمى بزيد كان ذا مال لأن علمى يرتفع بالابتداء، وبزيد فى موضع نصب بالمصدر، وكان فى موضع خبر المبتدأ، فيجب من أجل ذلك أن يكون فى كان ضمير يعود إلى المبتدأ. وذلك الضمير هو علمى فى المعنى، وذا مال خبر كان فاستحالت المسألة من حيث لم يكن قولك ذا مال هو علمى. ولو قلت علمى بزيد كان يوم الجمعة كان مستقيما لأن يوم الجمعة يكون خبرا عن علمى لأنى أقول كان علمى بزيد يوم الجمعة، فيكون ظرف الزمان خبرا عن الحدث الذى هو علمى ولا أقول كان علمى ذا مال (2).
ولا يجوز أن تقول: «إن الذاهبة جاريته صاحبها لأنك لا تفيد بالخبر شيئا (3)».
ومما يتصل بالأحكام النحوية العامة قوله: لا يجوز «أعلم الله زيدا عمرا خالدا» لأن المفعول الثالث فى هذا الباب هو الثانى فى المعنى، وعمرو لا يكون خالدا (4).
كذلك لا يجوز «الذى إن تكرمنى أكرمك فله درهم» لأن الشرط قد استوفى جزاءه فى الصلة فلا يكون له جزاءان». «ولا يجوز ليت الذى يأتينى فله درهم، ولا لعل الذى فى الدار فمكرم (5).
وغير أبى على فى كتاب الايضاح يمر بلفظى «المبهم وغير المبهم» من الظروف من غير إيضاح، ولكنه عند ما يتعرض لذلك يتولاه بالشرح والبيان فيقول: معنى المهم ألا تكون له نهاية معروفة، ولا حدود محصورة كالجهات الست، فيجوز أن يتعدى الفعل الذى لا يتعدى إلى ما كان مبهما من الظروف وما كان من الأماكن فان الفعل الذى لا يتعدى لا يتعدى إليه، لا تقول قمت بغداد، ولا قعدت السوق، ولا قمت المسجد لأن هذه الأماكن مخصوصة كزيد وعمرو، وينفصل بعضها ببعض بصور وخلق، فهى فى ذلك كالأناسى ولحومهم من الجثث المخصوصة،
__________
(1) 36.
(2) الايضاح 20.
(3) الايضاح 3938.
(4) ص 55.
(5) الايضاح 22.(1/526)
فكما لا يتعدى الفعل الذى لا يتعدى إلى الأناسى، كذلك لا يتعدى إلى ما كان من الأماكن بمعناهم فى الاختصاص (1).
وهذا التوضيح والتنظير والإسهاب فى الشرح والبيان فى غنى عن التعليق.
ومن المهم أن أذكر أن أبا على تعرض لذلك فى المسائل المشكلة وشرحها على طريقته فى هذه المسائل من الإبهام والغموض واتخاذ سبيل المنطق فيما يأتى به من براهين (2).
ويبدو أن أبا على التزم الوضوح فى التعبير فى كتابه الايضاح، ولما كان المنطق بطبيعته يدعو إلى الإغماض، قلل أبو على فى الإيضاح من المنطق إيثارا للتيسير والتوضيح.
وفى كتاب الايضاح ظاهرة تدعو إلى التسجيل، فأبو على يمضى فيه هينا لينا حتى باب الاستثناء فيحتشد له، وبحشر مسائل المنطق فيه، ويسلك سبيل المناطقة فى عرض مسائله، ومرد ذلك فيما أرى أنه قد وقعت مناقشة بين عضد الدولة وأبى على الفارسى فى ناصب الاسم الواقع بعد إلا فى قول القائل خرج القوم إلا زيدا (3)، ويجيب الشيخ أبو على، ويعترض عضد الدولة، ويتعذر على الشيخ المضى معه إلى الغاية، ولا يجد بدا من الاعتذار إلى صاحبه فيقول: «هذا جواب ميدانى» لأنهما كانا يسيران معا فى ميدان شيراز، وإذا رجعت ذكرت لك العلة.
ومن هنا يعرض أبو على هذا الباب وفى ذهنه صورة هذا الحوار، والظروف التى أحاطت به.
استمع إلى بعض ما يقول فيه:
«ليس يخلو الاستثناء من أن يكون فى كلام موجب أو غير موجب، والاستثناء من الكلام الموجب نصب. مثال ذلك: «جاء القوم إلا زيدا»، و «خرج أصحابك إلا عبد الله»، و «انطلق الناس إلا إخوتك» فانتصاب الاسم إنما هو بما تقدم فى الجملة من الفعل، أو معنى الفعل بتوسط إلا كما أن الاسم الذى بعد الواو فى باب المفعول معه منتصب بتوسط الواو.
فان كان الكلام المذكور فيه إلا غير موجب فانه لا يخلو من أن يكون
__________
(1) ص 58.
(2) انظر المسائل المشكلة: 48.
(3) انظر نزهة الألباء: 206.(1/527)
تاما أو غير تام، فمثال غير التام: ما جاءنى إلا زيد» وهذا لا يكون فيه إلا الرفع، لأن الفعل مفرغ لما بعد إلا، فالعامل فيه ما قبل إلا
وهكذا يمضى أبو على فى هذا الباب من كتاب الإيضاح فيستعمل القياس، والتعليل والتنظير، والسبر والتقسيم (1)، وارجع إلى العبارة مرة أخرى والحظ قوله:
«ليس يخلو الاستثناء ثم التعليل لانتصاب الاسم، ثم تنظير ذلك بانتصاب الاسم بعد واو المعية، ولو قرأت بقية الباب لوجدت شواهد أخرى أضربت عن ذكرها إيثارا للاختصار.
وقد رأيته كذلك يلتزم المنطق للبرهنة على القضايا النحوية فى آخر من كتاب الإيضاح وكأنه التزمه فى هذا الجزء من الكتاب حيث يكون المتعلم قد استحصف واستعد لتقبل هذه البراهين المنطقية:
قال: قياس ما جاء من قوله لكيلا تأسوا أن تكون ناصبة بنفسها بدلالة أنها لا تخلو من أن تكون هى المناسبة بنفسها أو تكون بمنزلة اللام ينتصب الفعل بعدها بإضمار أن، فلا يجوز أن تكون فى هذه الآية بمنزلة اللام لدخول اللام عليها، ولا يدخل حرف جر على مثله، فإذا لم يجز ذلك ثبت انتصاب الفعل بعدها بنفسها (2).
وفى آخر الكتاب كذلك برهن على أن الفعل بعد حتى ينتصب باضمار أن كما ينتصب بعد اللام فى قولك ما كان زيد ليفعل بإضمار أن (3). ومما يؤكد عندى تعليل التزامه المنطق آخر الكتاب بما رأيت أنه تعرض لقضية: الفعل المضارع ينصب بعد حتى فى الصفحة العاشرة من الكتاب دون أن يعلل لها أو يسلك سبيل المناطقة فيها.
وأحيانا يسلك سبيل سيبويه فى إيراد الاعتراض ثم يتولى هو الجواب: قال:
سمعت يتعدى إلى مفعولين، ولا بد أن يكون الثانى منهما ما يسمع كقولك سمعت زيدا يقول، ولو قلت سمعت زيدا يضرب أخاك لم يجز، فان اقتصر على مفعول واحد وجب أن يكون مما يسمع فان قلت فقد جاء فى التنزيل: «هل يسمعونكم إذ تدعون» فاقتصر على مفعول واحد وليس مما يسمع فالقول أن المعنى هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كما جاء فى الأخرى إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم.
__________
(1) انظر الاقتراح.
(2) الايضاح 101.
(3) الايضاح 104.(1/528)
شواهد الإيضاح:
أولا: من القرآن الكريم: وأبو على يستحضر فى سرعة الآيات القرآنية التى تتصل بالمسائل النحوية التى يتحدث عنها، وقد ينفرد بشواهد من كتاب الله لم يجيء بها سيبويه فى الكتاب، مما يجعل ذلك ميزة له، ويكاد يلتزم الاستشهاد بهذه القرآنيات فإذا لم يجد شاهدا منها أشار إلى ذلك، ويغلب أن يقرن الأمثلة التى يأتى بها إلى نظائرها من القرآن الكريم، تجد ذلك واضحا فى صفحات متقاربة تنتظم أبوابا متلاحقة من الكتاب (1) وتراه حين لم يظفر بشاهد قرآنى لأعمال المصدر المقرون بالألف واللام يقول: «ولم أعلم شيئا من المصادر بالألف واللام معملا فى التنزيل (2)»، أورد ذلك بعد أن ذكر نحو ما جاء من ذلك فى الشعر.
ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخى الأجل
وما يأتى من الشواهد القرآنية يذكره:
(ا) مقايسا على مثال معروف.
(ب) مناقشا قضية يذكرها.
(ح) مطبقا على قاعدة يقررها.
(ء) محاجا الكوفيين فى مذهب نحوى.
(هـ) موجها لمسلك إعرابى.
(و) ذاكرا أوجه القراءة فى الآيات التى يستشهد بها.
وأسوق مثالا لكل نوع من هذه الأنواع يختصر الإشارة إلى جميعها فى تفصيل:
(أ) مقايسا على مثال معروف، قال: «وقد يحذف الرواجع من هذه الجمل إلى المبتدأ الأول، كقولهم: «المن منوان بدرهم» والتقدير «منوان منه بدرهم» لا بد من تقدير هذا فى النفس ليعود الضمير الذى فى منه إلى المبتدأ الذى هو المن (3). ومثل ذلك قوله عز وجل: {«وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذََلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»}
التقدير: «أن ذلك الصبر منه أى من الصابر، لأن ذلك ابتداء» وقوله (عز وجل) {«لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»} فى موضع الخبر، ولم يرجع إلى المبتدأ الذى هو لمن صبر وغفر ذكر من اللفظ وهذا النحو كثير، وقد جاءت هذه الجملة بأسرها محذوفة إذا كانت خبرا، فإذا جاز حذف الجملة كلها كان حذف شىء منها أسهل وذلك قوله (عز وجل):
__________
(1) انظر مثلا ص 47، 48، 49، 50، 52، 53، 54.
(2) ص 49.
(3) المثال موجود فى الكتاب.(1/529)
{«وَاللََّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلََاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللََّائِي لَمْ يَحِضْنَ»} والتقدير واللائى لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت الجملة التى هى خبر المبتدأ الثانى لدلالة ما تقدم عليه، كما يحذف المفرد لذلك فى نحو زيد منطلق وعمرو (1).
(ب) أو مناقشا قضية ذكرها: كقوله: «أما ما يتعدى إلى مفعول واحد فقد يكون علاجا وغير علاج» (2) فما كان علاجا فنحو ضربته، وقتلته، وأخذته، وكسرته. وأفعال الحواس الخمس كلها متعدية نحو رأيته وشممته وذقته إلا أن سمعته يتعدى إلى مفعولين، ولا بد أن يكون الثانى منهما ما يسمع كقولك سمعت زيدا يقول، ولو قلت: سمعت زيدا يقول يضرب أخاك لم يجز، فإن اقتصرت على مفعول واحد وجب أن يكون مما يسمع. فإن قلت فقد جاء فى التنزيل: {«هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ»} فاقتصر على مفعول واحد وليس مما يسمع، فالقول أن المعنى هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كما جاء فى الأخرى:
{«إِنْ تَدْعُوهُمْ لََا يَسْمَعُوا دُعََاءَكُمْ} [3].»
(ج) أو مطبقا على قاعدة يقررها.
(د) محاجا الكوفيين فى مذهب نحوى: فهم يجوزون تقدم مفعول أسماء الأفعال عليها، أما هو فلا يجوز ذلك، لأنها ليست كالأفعال فى القوة، قال:
«وقوله تعالى: {كِتََابَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ»} ليس على معنى عليكم كتاب الله، ولكن كتاب مصدر دل على الفعل الناصب له لما تقدم، وذلك أن قوله تعالى: {«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ»} فيه دلالة على أن ذلك مكتوب عليهم فانتصب كتاب الله بهذا الفعل الذى دل عليه ما تقدمه من الكلام، وعلى ذلك قول الشاعر:
ما أن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طى المحمل (4)
__________
(1) الايضاح 17017النسخة رقم 1120نحو.
(2) قال الامام عبد القاهر الجرجاني: العلاج ما كان من أفعال الجوارح نحو الذهاب والقيام والقعود والضرب والقتل والكسر وما أشبه ذلك مما يكون له كلفة على الجوارح وغير العلاج ما لم يكن من فعل الجوارح وكان أما فعلا من أفعال القلوب كالعلم والفهم أو خلقا فى الانسان كالكرم والظروف. (المقتصد: ورقة 175).
(3) الايضاح: 53.
(4) الايضاح: 51والبيت لأبى كبير الهذلى، والشاهد فيه نصب طى المحمل بإضمار فعل دل عليه قوله: ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق، لأن ذلك لانطواء كشحه،(1/530)
وقد أورد أبو البركات الأنبارى ذلك الدليل بما يكاد يكون بألفاظه (1).
(هـ) أو موجها لمسلك إعرابى: قال «إذا كان اسم الفاعل لما مضى لم يعمل عمل الفعل لو قلت: مررت برجل ضارب أبوه زيدا أمس لم يجز، وقد أجاز بعضهم ذلك واحتج بقوله تعالى: {«وَكَلْبُهُمْ بََاسِطٌ ذِرََاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ»} وقال لمن لم يجزه: إن هذه الآية لا دلالة فيها على إجازة ذلك، لأنها حكاية الحال (2).
(و) أو ذاكرا أوجه القراءة فى الآيات التى يستشهد بها كتوجيه القراءتين:
«وما هو على الغيب بظنين أو بضنين فى باب ظن (3).
* * * ثانيا: أما شواهد الشعر فى الإيضاح، فبعضها مما أورد سيبويه فى الكتاب كبيت الأعشى.
إن من لام فى بنى حسا ... ن ألمه، وأعصه فى الخطوب (4)
والبيت مذكور فى الكتاب (5).
فليت كفافا كان خيرك كله ... وشرك عنا ما ارتوى الماء مرتوى (6)
والبيت مما أنشده على بن سليمان الأخفش.
وبعضها مما نقله عن الرواة نحو:
أعياش! قد ذاق القيون مرارتى ... وأو قدت نارى فادن دونك فاصطلى (7)
فقد نقله عن أبى زيد.
وقد يورد الشاهد الشعرى لتفسير لغوى: كالذى أورد فى تفسير: هى منى معقد الإزار قال: فسر أبو عمر الجرمى الإزار هنا بالمرأة، فكأنه يريد أن قربه منه قرب المرأة، وأنشد:
__________
وضمر بطنه، فكأنه قال: طوى طيا مثل طى المحمل وصف رجلا بالضمر فشبهه فى طى كشحه وإرهاف خلقه بحمالة السيف وهى علاقته وزعم أنه اضجع نائما بتابطه عن الأرض ولم ينلها منه إلا منكبة وحرف ساقه. الكتاب: 1/ 180.
(1) انظر الانصاف: المسألة 27.
(2) الايضاح ص 44.
(3) ص 43.
(4) الايضاح 39.
(5) 1/ 439.
(6) المصدر السابق.
(7) الايضاح 50.(1/531)
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخ ثقة إزارى (1)
أو لإعلال صرفى: قال: «ليس فى الاسم اسم فى آخره حرف علة قبله ضمة، وإذا أدى قياس إلى ذلك رفض فأبدلت من الضمة كسرة فصار الآخر ياء مكسورا ما قبلها فإذا صار كذلك كان بمنزلة القاضى والداعى وذلك قولهم: حقو وأحق، وجرو وأجر، وقلنسوة وقلنس، وعرقوة وعرق قال الشاعر:
ليث هزبر مدل عند خيسته ... بالرقعتين له أجر وأعراس (2)
وهو ينسب الشواهد إلى قائليها حينا، ويتركها غفلا حينا. نسب إلى النابغة (3)، والأعشى، (4) وامرئ القيس، وعمر بن أبى ربيعة (5)، والشماخ (6)، والراعى، وبعض هذه الشواهد يستقل هو بإنشاده (7).
وقد رأيته يستدل بقول الرسول: «استدل بالحديث المروى:» كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه «على أن الجملة فى موضع نصب خبر كان (8).» ولا يرى بأسا أن يستدل بقول أبى تمام وهو من المحدثين.
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأمانى لم يزل مهزولا (9)
والبيت لأبى تمام، يذكر ابن خلكان أن أبا على استشهد به (وهو ممن لا يستشهد بشعرهم) لأن عضد الدولة كان يحب هذا البيت وينشده كثيرا (10).
ونقل ذلك التعليل مقرا له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين فى كتابه «القياس فى اللغة العربية (11)»، وتابعه الدكتور إبراهيم أنيس فى كتابه «من أسرار اللغة (12).»
وأرى أن هناك سببا غير ما يذكره صاحب الوفيات ومن لف لفه: ذلك أن البيت مسوق للتطبيق على قاعدة، لا للاستدلال به، أو استنتاج حكم منه.
ويؤيد ما ذهبت إليه من بيت أبى تمام قول الإمام عبد القاهر: «وأما البيت الذى أنشده فطريف الشأن، لأجل أنه من قصيدة أبى تمام التى أولها:»
يوم الفراق لقد خلقت طويلا ... لم تبق لى صبرا، ولا معقولا
__________
(1) الإيضاح 59.
(2) الإيضاح 928.
(3) 19.
(4) 39.
(5) 27.
(6) 21.
(7) انظر الايضاح 62.
(8) 34.
(9) المصدر السابق.
(10) وفيات الأعيان 1/ 362.
(11) 35.
(12) فصل القياس 21وما بعدها.(1/532)
وقبله قوله:
لو جار سلطان القنوع وحكمت ... فى الخلق ما كان القليل قليلا
والشيخ أبو على ليس ممن يحتج ببيت محدث فى الإعراب.
جاء فى العسكريات إن قلت: شتان ما بينهما فالقياس يمنعه. وبعد أن علل ذلك قال: وقد جاء فى الشعر شتان ما بين اليزيدين. إلا أن الأصمعى طعن فى فصاحة هذا الشاعر، وذهب إلى أنه غير محتج بقوله: ورأيت أبا عمر قد أنشد هذا البيت على وجه القبول له والاستشهاد به، وقد طعن الأصمعى على غير شاعر قد احتج بهم غيره كذى الرمة والكميت فيكون هذا أيضا مثلهم (1).
وإذا فأبو على كما قال الجرجانى لا يحتج بمحدث، وما يستنتجه المحدثون من احتجاجه ببيت أبى تمام لا يتفق مع منزع أبى على كما ترى. وإنما يحتج بأشعار المولدين فى المعانى فقط لأن ذلك شىء مشترك فأما حديث اللفظ فللعرب، وكان شيخا (2) (رحمه الله) يحمله أن يكون جرى فى المجلس هذا الخبر، فقال هو أو بعض الحاضرين، ومثل ذا بيت فلان تقريبا. فالحق ذلك بحاشية الكتاب، ثم وقع فى العمود فأما أن يكون دونه فبعيد. فإن قيل: إن هذا النحو لما كان مشهورا مستغنيا عن الحجة، وكان القصد فيه زيادة البيان بالتمثيل أورد هذا البيت فلم يمتنع.
وقد يقال: وإلى هذا ذهب فلان فى قوله به، ولا يقصد بذلك الاحتجاج وإنما يراد إيضاح قصده، وتقريب المسلك (3). ومن عجب أن يقرر علماؤنا من أعضاء المجمع أن البيت استشهد به لأن سيف الدولة كان يعجب به وينشده كثيرا (4). ولا علاقة لسيف الدولة بكتاب الإيضاح أولا، ثم إن هذه الدعوى مردودة كما رأيت ثانيا.
مصطلحات الإيضاح وأمثلته:
يظهر أن بعض المصطلحات النحوية حتى عصر أبى على لم يسم بالأسماء التى أطبقها النحاة عليه فى العصور المتأخرة. فالمركب المزجى مثلا لم يستعمله، ويعبر عنه الزجاج بقوله: «باب الاسمين الذين ضم أحدهما إلى الآخر فجعلا اسما واحدا (5)، ويدل عليه أبو على بقوله: «الاسمان اللذان يجعلان اسما واحدا (6)»، واسم
__________
(1) العسكريات لوحة 133.
(2) شيخ عبد القاهر هو أبو الحسن بن عبد الوارث بن أخت أبي على الفارسى (نزهة الألباء 226).
(3) المقتصد ورقة 74.
(4) انظر مجلة المجمع 6/ 100.
(5) سر النحو للزجاج 66.
(6) الإيضاح 99وكذلك فعل فى العسكريات لوحة 138.(1/533)
التفضيل يعبر عنه الزجاج بقوله: «هذا أفعل منك (1)، ويعبر عنه الفارسى بمثل ذلك أو قريب منه حيث قال: «مما يجرى مجرى التعجب قولهم: هذا أفضل من هذا» ولا يستعمل قولهم أفعل من هذا فيما لم يستعمل منه ما أفعله وأفعل به (2).
ومن الاصطلاحات التى تطالعنا فى كتاب الإيضاح غير ما ذكر قوله:
«الفعل الذى لا يتعدى» بدل أن يقول: الفعل اللازم (3)، ورأيت الفارسى يعبر عن الضمير بلفظ «الذكر» والراجع حينا (4)، وحينا يعبر عنه بلفظه (5).
ومن تعبيراته: «وما يتعدى إلى مفعول واحد يكون علاجا وغير علاج (6)، والحال منتقل، وغير منتقل، ويستعمل لفظ أولى العلم بدل العاقل، والمبنى إلى المفعول به بدل المبنى للمجهول.
وكان أبو على مجددا فى هذه الأمثلة التى يسوقها: حقيقة أنه ذكر زيدا، وعمرا وبكرا، وغير ذلك من الأمثلة التقليدية التى ظهرت فى كتب النحاة واشتهرت بها.
ولكن الشيء الجديد فيما أرى اصطناعه أمثلة تتصل بالحياة العامة فى عصره، سواء أكانت هذه الحياة دينية أم سياسية أم اجتماعية أم طبيعية وهو فى ذلك يكشف عن ناحية تعليمية تربوية، إذ يشتق أمثلة من البيئة حوله، وهو ما يتواصى به القائمون بمهنة التعليم، ويرشد إليه المربون فى هذه الأيام.
تجد فى كتاب الايضاح: «جرى الفرس، وغنم الجيش، يطيب الخبر» أمثلة ثلاثة متتابعة (7)، أرى أنه قصد إليها قصدا، فلها دلالتها فى تفسير طرف من حياة عضد الدولة وانشغاله بالحروب، والأمثلة أشبه بسلسلة متصلة الحلقات آخذ بعضها بحجز بعض، وكل واحدة تؤدى إلى الأخرى: فالفرس يجرى، والجيش يغنم، وحينئذ يطيب الخبر (8).
__________
(1) سر النحو 95.
(2) الايضاح 3332.
(3) الايضاح 52.
(4) الايضاح 17، 19، 21، 23.
(5) انظر مثلا من الايضاح 2520.
(6) انظر الايضاح 53، 8.
(7) الايضاح ص 25.
(8) لحظ الأقدمون تأثير البيئة فى الأمثلة النحوية التى يأتى بها النحاة متأثرين بها، قال أبو حاتم السجستانى فى كتابه القراءات حيث ذكر القراء والعلماء، كان فى المدينة على الجمل (انظر مراتب اللغويين لأبي الطيب اللغوى 160) كان يلقب بالجمل، وضع كتابا فى النحو لم يكن شيئا فذهب، وأظن الأخفش سعيد بن مسعدة وضع كتابه فى النحو من كتاب الجمل ولذلك قال «الزيت رطلان بدرهم» والزيت لا يذكر عندنا، لأنه ليس بادام أهل البصرة.(1/534)
ومن الأمثلة التى تنظر إلى ناحية من النواحى العامة:
(ا) الدينية: أبو يوسف أبو حنيفة (1) (ب) المذهبية: جالس الحسن أو ابن سيرين (2)
كم ترى الحرورية رجلا، (3) الحسن أو الحسين أفضل أو ابن الحنفية (4) (ج) الطبيعية والاجتماعية: جاء البرد والطيالسة (5) المال فى الكيس واللص فى الحبس (6).
وبجانب هذه الأمثلة أمثلة أخرى فرضية تجيزها الصنعة النحوية: كقوله:
«إذا استوفت الأفعال المتعدية مفعوليها فتعدت إلى أسمائهم تعدت بعد ذلك إلى المصادر، وأسماء الزمان، والمكان، والمفعول له، والحال: تقول: «ضربت زيدا يوم الجمعة أمام خالد تقويما له مجردا من ثيابه ضربا شديدا (7):»
أولا تجيزها الصنعة: قال: «لما كان خبر المبتدأ إذا كان مفردا هو المبتدأ فى المعنى أو منزلا منزلته لم يجز على بزيد كان ذا مال (8).
مذهب أبى على النحوى وظهوره فى الايضاح: وفى الايضاح ما يدل على نزعة أبى على البصرية، فهو لا يرى التعجب من السواد والبياض مباشرة (9)، والكوفيون يرونه (10) ويجوز فى باب كان أن تقدم الخبر على الاسم (11)، والابتداء وصف فى الاسم المبتدأ يرفع وصفة الاسم المبتدأ أن يكون معرى من العوامل الظاهرة (12)
ومسند إلى شىء، والكوفيين يخالفونه فى ذلك (13).
وهو أحيانا يسوق القضية الخلافية من غير احتجاج كما مر، وكما فى القضايا الآتية: يجوز الفصل بين كم وبين مميزها فى الكلام نحوكم فى الدار رجلا، ولا يجوز ذلك فى عشرين ونحوه إلا فى الشعر (14)، وقد أضمروا رب بعد الواو فى نحو قولهم:
وقاتم الأعمق، خاوى المخترق (15).
وحينا يسوق مسائل الخلاف محتجا لها احتجاجا هينا يسيرا من غير أن يملأها بقضايا عقلية، أو أقيسة منطقية، ومن المسائل التى برهن عليها على هذا النحو: إذا كان اسم الفاعل لما مضى لم يعمل عمل الفعل (16). عليك ودونك، بله زيدا أسماء وليست بحروف (17). لا يصح أن يقع الحال معرفة (18) لا يجوز أن يتقدم مفعول شىء
__________
(1) 19.
(2) 91.
(3) 71.
(4) 93.
(5) 61.
(6) 79.
(7) الايضاح 20.
(8) الايضاح 3332.
(9) الايضاح 95.
(10) الانصاف 95.
(11) الايضاح 34والانصاف مسألة 18.
(12) الايضاح 12.
(13) الانصاف مسألة 5/ 31والموفى فى النحو الكوفى 35.
(14) الايضاح 71.
(15) الايضاح والمسألة فى الانصاف 231.
(16) الايضاح 4.
(17) الايضاح 50.
(18) الايضاح 63.(1/535)
من أسماء الأفعال عليها (1)، وقد نقل أبو البركات الأنبارى حجاج أبى على هنا أو يكاد (2).
والشيوخ الذى ينقل عنهم أبو على فى كتاب الإيضاح:
سيبويه (3)، وأبو بكر السراج (4)، وأبو الحسن الأخفش على بن سليمان (5)، وأبو زيد (6)، والجرمى (7)، وأبو إسحاق الزجاج (8)، وأبو عثمان المازنى (9)، وهو ينتصر لسيبويه، قال: سيبويه لا يجوز التقديم فى نحو: تفقأ زيد شحما فلا تقول، شحما تفقأت، وأجاز غيره التقديم وأنشد.
أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب
قال أبو إسحاق: الرواية وما كان نفس بالفراق تطيب، ومن هذا الباب قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً}، وقررت به عينا، والمعنى طبن به أنفسا، وقررت به أعينا فوقع الواحد مع الجميع (10).
ورأيته يهاجم أبا العباس المبرد، قال: «ولا يجوز أن يكون حصرت دعاء» فى قوله تعالى: {«أَوْ جََاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (11)» قال عبد القاهر الجرجانى، وأما قوله أنه لا يجوز أن يكون حصرت دعاء فذلك قول: محمد بن يزيد وليس بسديد (12).
وقال فى باب ما لا ينصرف: «ومن زعم أن القياس فى دعد كان ألا يصرف دخل عليه فى قولهم هذا صرفهم نوح، ولوط، وهما أعجميان ومعرفتان، فإلزامهم الصرف لهما لخفتهما يقوى قول من صرف هندا ودعدا فى المعرفة».
قال الجرجانى: المقصود بقوله من زعم: أبو العباس لأنه قال فيما حكى عنه شيخنا (رحمه الله) أن الصرف فى نحو هند ودعد لضرورة الشعر، وليس ذلك بسديد لما ذكرنا من أن الخفة تقاوم أحد السببين، وكفى إلزاما بما ذكره الشيخ أبو على من أنهم صرفوا نوحا ولوطا مع وجود السببين العجمة والتصريف (13).
__________
(1) الإيضاح 51.
(2) الإنصاف مسألة 20.
(3) انظر مثلا 80، 94.
(4) ص 82.
(5) 39، 61، 99.
(6) 50، 94.
(7) 59.
(8) 64.
(9) 45.
(10) الايضاح 64.
(11) الايضاح 88.
(12) المقتصد ورقة 178.
(13) المقتصد 196ظهر.(1/536)
ذيوع الإيضاح:
كتاب الايضاح يعد نقطة تحول فى التأليف النحوى، وترتيب أبوابه على النمط الذى عرضته سابقا، ثم هو فى عبارته ونزعته التعليمية لا يجاريه إلا كتاب الجمل للزجاجى، وإن كان الإيضاح يمتاز عن الجمل بالتبويب المنظم الذى يخضع لفكرة خاصة خلا منها كتاب الجمل، ولهذا بعد صيته، وسارت شهرته فى الآفاق، ومكن له من ذلك ويسر له السبيل إليه أنه ألف لعضد الدولة، فلعل أبا على بحكم ذلك بذل غاية الجهد فى تجويده، وإيضاح مسائله وتقريب بعيده، فولع الناس به مدفوعين بهذين العاملين وكذلك كانوا: ضنّ عضد الدولة بكتاب الايضاح تقديرا له (1): ثم سمعه الربعى فى حياة أبى على، ورواه بإذن من عضد الدولة، وبتتبعى كتب التراجم استطعت الاهتداء إلى الطريق التى سار فيها كتاب الايضاح آخذا حظه من الذيوع فى العالم الاسلامى:
فهذا زيد بن على أبو القاسم ابن أخت أبى على يروى الايضاح عن خاله، ويخرج عن فارس إلى العراق، ثم يقصد الشام، ويستوطن حلب لاقراء النحو بها، ويملى شرح الايضاح (2) فيها، ويقصده هناك الشريف أبو البركات عمر بن إبراهيم الزيدى الكوفى النحوى، ويقرأ عليه كتاب الايضاح فى شهر رجب سنة 455هـ، ويروى الناس كتاب الايضاح عن الشريف أبى القاسم (كذا (3)) المدة الطويلة بالكوفة (4)، ويأخذ، عنه الجم الغير من الرواة والنحاة (5).
واشترك كذلك فى إذاعة الايضاح أبو الحسين الفارسى وكان كذلك ابن أخت أبى على، أقرأ النحو فى البلاد التى طوفها: فى الرى، وخراسان، ونيسابور، وغزنة، ومكة، وأسفراين، وجرجان، وممن قرأ عليه بجرجان عبد القاهر الجرجانى حتى لا يعرف له أستاذ سواء (6).
وإذن فقد اختص أبو على، وولدي أخته بغنم قراءة الايضاح وإقرائه فى الأقطار الإسلامية، وما أعظمه برا بالرجم، وما أعظم ما نالاه من الغنم:
قيمة الايضاح وأثره:
قال أبو شجاع: كتاب الايضاح فى النحو مع قلة حجمه يوفى على الكتب الكبار التى من جنسه فى قوة عبارة، وجودة صنعة (7).
__________
(1) ذيل تجارب الأمم 3/ 68.
(2) انظر مختصر ابن عساكر 6/ 25.
(3) وأظن أن كلمة (عن) ساقطة بين كلمتى: الشريف وأبي القاسم.
(4) إنباه الرواة 2/ 17.
(5) إنباه الرواة 2/ 325.
(6) بغية الوعاة 38.
(7) ذيل تجارب الأمم 3/ 68.(1/537)
ولا يجد ابن الأثير فى كتابه الكامل صفة يعرف بها أبا على الفارسى إلا أنه صاحب الايضاح (1)، وتبعه فى ذلك أبو الفداء فى تاريخه (2)، وابن قاضى شهبه فى طبقاته (3)، ونقل ذلك أحمد تيمور فى كتابه ضبط الأعلام (4). وقال ابن كثير:
أبو على صاحب المصنفات منها الإيضاح والتكملة (5)، ويظهر من ذلك كله مكانة كتاب الايضاح بين مؤلفات أبى على وعند الناس قال ابن خلدون بعد أن ذكر جهد الخليل بن أحمد وسيبويه فى النشاط النحوى: «ثم وضع أبو على الفارسى، وأبو القاسم الزجاج (كذا) كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الامام فى كتابه (6). ولست أشك فى أن ابن خلدون يريد كتاب الايضاح للفارسى، والجمل الكبيرة لأبى القاسم الزجاجى، فهما الكتابان اللذان تبدو فيهما النزعة التعليمية على النحو الذى فسرته من قبل. وقد كان كتاب الجمل للزجاجى كتاب المصريين وأهل المغرب، وأهل الحجاز، واليمن، والشام، إلى أن اشتغل الناس باللمع لابن جنى وهو منقول من كلام أستاذه والايضاح لأبى على الفارسى (7) ويبدو أن أبا شجاع فى نصه السابق قدر الايضاح لأمرين: منهجه فى صناعته، وأسلوبه فى عبارته، وهذا أبو الحسن على بن أحمد بن خلف النحوى ينشد بالأندلس فى كتاب الايضاح:
أضع الكرى لتحفظ «الإيضاح» ... وصل الغدو لفهمه برواح
هو بغية المتعلمين، ومن بغى ... حمل الكتاب يلجه بالمفتاح
لأبى على فى الكتاب إمامة ... شهد الرواة لها بفوز قداح
يقضى على أسراره بنوافذ ... من علمه بهرت قوى الأمداح
فيخاطب المتعلمين بلفظه ... ويحل مشكله بومضة واح
مضت العصور، وكل نحو ظلمة ... وأتى فكان النحو ضوء صباح
أوصى ذوى الإعراب أن يتذاكروا ... بحروفه فى الصحف والألواح
وإذا همو سمعوا النصيحة أنجحوا ... إن النصيحة غبها لنجاح
وتشير هذه الأبيات إلى أكثر من خصيصة فى بيان قيمة كتاب الإيضاح (8):
فهو تعليمى يعد وسيلة لتفهم كتاب سيبويه ومفتاحا له، ولأبى على فى رأى أبى الحسن على بن خلف من الخصائص ما يتيح له تقديم هذه الوسيلة، فهو
__________
(1) الكامل 9/ 19.
(2) 131.
(3) انظر 295.
(4) انظر 120.
(5) البداية والنهاية 11/ 752.
(6) مقدمة ابن خلدون 547.
(7) إنباه الرواة 2/ 161.
(8) إنباه الرواة 2/ 228.(1/538)
متفهم للكتاب، عارف بأسراره، إمام فيه يخاطب المتعلمين بلفظه، ويحل مشكلاته بوميض وحيه. وقد كان النحو مشكلات وظلمات، ثم بزغ ضوء الصباح بظهور كتاب الإيضاح. ومن هنا كان جديرا أن يوصى به المشتغلين بصناعة الإعراب، ليتذاكروه كما يتذاكرون القرآن فى الصحف والألواح.
ولم أر للإيضاح نسخة مطبوعة (1)، ولا لشرحه كذلك على الرغم من أنه كان مجال نشاط كبير لكثير من النحاة: شرحوه، كما شرحوا أبياته، واختصروه، ونظموه، واعترضوا عليه، ورد بعض منهم اعتراض المعترضين.
وقد أورد صاحب كشف الظنون من شراح الإيضاح نحوا من خمسة وعشرين شارحا عدا من شرح أبياته، أو اختصره، أو اعترض عليه (2).
ومن الشراح أندلسيون ومغاربة، ومنهم مصريون وعراقيون: فمن عنى به من الأندلسيين والمغاربة: ابن يسعون يوسف بن يسعى (ت فى حدود 540هـ)، وسمى كتابه «المصباح فى شرح ما عتم من شواهد الإيضاح» (3)، وعلى بن أحمد بن خلف الغرناطى المعروف بابن الباذش (ت 528هـ) (4)، ومحمد بن حكم بن محمد بن أحمد الجذامى السرقسطى (ت 538هـ) (5)، ومحمد بن أحمد أبو عبد الله الزهرى المولود بمالقة (ت 617هـ) يشرح الإيضاح فى خمسة عشر مجلدا (6)، وأبو عبد الله محمد بن يحيى الأنصارى المعروف بابن هشام الخضراوى (ت) بتونس (646هـ) ألف حول الإيضاح كتبا ثلاثة: فى تلخيصه، وشرح شواهده، والإفصاح بفوائده:
«الاقتراح فى تلخيص الإيضاح» و «غرر الإصباح فى شرح أبيات الإيضاح» و «الافصاح بفوائد الإيضاح (7)»، ولأبى العباس أحمد بن محمد المعروف بابن الحاج (ت 647هـ) شرح للإيضاح كذلك.
وهكذا نرى عناية المغاربة بالإيضاح، وربما كان من أسباب هذه العناية أنهم عدوا الإيضاح مفتاح الكتاب، وقد كانوا بتدارسه جد معنيين (8).
ومن المصريين الذين عنوا بالإيضاح أبو محمد عبد الله بن برى المصرى
__________
(1) ذكر بروكلمان أنه مطبوع بحيدرآباد (انظر المجلد الأول 113، 114والملحق 175، 176).
(2) كشف الظنون 1/ 178177.
(3) انظر بغية الوعاة 425وإقليد الخزانة 24.
(4) بغية الوعاة 327.
(5) بغية الوعاة 38.
(6) بغية الوعاة 11.
(7) بغية الوعاة 115.
(8) انظر سيبويه إمام النحاة لأستاذنا 187.(1/539)
(ت 582هـ) شرح شواهده، ومن العراقيين: الحسن بن أحمد بن عبد الله أبو على المقرئ الفقيه الحنبلى البغدادى المعروف بابن البنا (471هـ) (1) وأبو القاسم الدقاق (2)
وأبو طالب العبدى (406هـ) (3) وعلى بن عيسى الربعى (420هـ) وأبو القاسم العصبانى (440هـ) صنف حواشى الايضاح (4) وهبة الله بن الشجرى (542هـ) وابن الدهان (569هـ) شرحه فى ثلاثة وأربعين مجلدا (5) وأبو اليمن الكندى (613هـ) وأبو البقاء العكبرى (616هـ) والمظفرى، وابن الخباز، وأحمد بن الحسين (637هـ) (6)، كما شرح شواهد الإيضاح ابن السيرافى (385) (7).
وأنوه هنا بما كان للامام عبد القاهر الجرجانى (ت 471هـ) (8) من عناية فائقة بهذا الكتاب فقد كتب أولا شرحا مبسوطا فى نحو الثلاثين مجلدا وسماه المغنى، ثم لخصه فى مجلد، وسماه المقتصد، وله مختصر الإيضاح المسمى بالإيجاز» (9).
وفى الخزانة التيمورية النصف. الأول من المقتصد مخطوط برقم 384
وبعد: فحتى متى ظل الناس يشتغلون بكتاب الإيضاح؟
من أسماء النحاة الذين عنوا بكتاب الإيضاح، ومن تاريخ وفياتهم، أستطيع أن أجيب هذا السؤال: بدأت العناية بالإيضاح فى القرن الرابع الهجرى كما رأينا قبل، واطردت هذه العناية فى القرن الخامس، فكان هناك نحو خمسة شروح (10)، وكذلك كانت الحال فى القرن السادس، حتى إذا كان القرن السابع رأيت النحاة يعنون بنحو أبى على عناية فائقة: فأحمد بن تميم اللبلى المتوفى مطلع هذا القرن (615هـ) يكتب مسائل أبى على بخطه (11) ونرى القفطى يقول: «وقد سألت عالمين بهذا الشأن عن كتاب العبدى، وكتاب الجرجانى فى شرح الإيضاح، فسكتا مليا، وقال أحدهما:
«قد سمى الجرجانى المقتصد وهو كما سماه، فان فوائده مختصرة»، وقال الآخر:
«أحسن العبدى فى الكلام على العوامل، وقصر فيها الجرجانى، وأحسنا فى التصريف، وكلام الجرجانى أبلغ وأوسط» (12). وبدهى أن المسئولين كانا معاصرين القفطى،
__________
(1) روضات الجنات: 212.
(2) المصدر السابق: 221.
(3) إنباه الرواة: 2/ 387.
(4) نزهة الألباء: 231.
(5) كشف الظنون: 1/ 177.
(6) بغية الوعاة: 131.
(7) بغية الوعاة: 385.
(8) إنباه الرواة: 2/ 189.
(9) كشف الظنون: 1/ 211.
(10) انظر كشف الظنون: 1/ 178177.
(11) انظر العسكريات لوحة: 119.
(12) إنباه الرواة: 2/ 387.(1/540)
وإذ كان القفطى توفى سنة 646هـ (1)، فمعنى هذا أن الإيضاح وشروحه، ظل شغل الناس فى هذا الزمان.
ثم تتتابع بعد ذلك مظاهر العناية بالايضاح فى القرن السابع على النظم الآتى:
رقم: اسم النحوى: سنة الوفاة: ملاحظات
1: أبو البقاء العكبرى: 616هـ: شرح الإيضاح كما يشرح المفصل للزمخشرى (2)
2: أبو عبد الله محمد بن أحمد الزهرى: 617هـ: شرح الإيضاح
3: أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن: 619هـ: شرح الإيضاح
4: يوسف بن معزوز القيسى: 625هـ: شرح الإيضاح ورد على الزمخشرى فى مفصله (3)
5: أبو العباس أحمد بن على بن معقل الحمصى: 644هـ: نظم الإيضاح والتكملة (4)
6: ابن هشام الخضراوى: 646هـ: شرح الإيضاح
7: ابن الحاجب: 646هـ: شرح الإيضاح وشرح أيضا المفصل للزمخشرى (5)
8: أحمد بن محمد الإشبيلي المعروف بابن الحاج: 656هـ: شرح الإيضاح
9: أبو بكر بن يحيى المالقى: 657هـ: شرح الإيضاح
10: ابن عصفور: 669هـ: شرح الإيضاح (6)
11: ابن الضائع على بن محمد الكنانى: 680هـ: رد اعتراضات ابن الطراوة على الإيضاح
12: عبد الله بن أحمد بن أبى الربيع الأموى: 688هـ: شرح الإيضاح
13: أبو الطيب محمد بن إبراهيم البستى: 695هـ: قرأ شرح الإيضاح على أبى الربيع الأموى
__________
(1) انظر شذرات الذهب: 5/ 236.
(2) انظر كشف الظنون: 2/ 488.
(3) بغية الوعاة: 424.
(4) كشف الظنون: 1/ 178.
(5) كشف الظنون: 2/ 488.
(6) انظر خزانة الأدب: 3/ 40، 41، 4/ 211، 225.(1/541)
ومن هذا الجدول أستطيع أو أستنتج:
أولا: أن الناس ظلوا يشتغلون بكتاب الإيضاح حتى نهاية القرن السابع الهجرى.
ثانيا: أنهم ضموا إلى عنايتهم بكتاب الاتضاح عنايتهم بمفصل الزمخشرى (1).
ثالثا: يبدو أن ظهور ابن مالك (ت 672هـ) واشتغال الناس بألفيته ونحوه صرف الناس عن إيضاح الفارسى (2) فبدأت العناية بكتب ابن مالك حيث انتهى انصراف الناس عن الإيضاح، فآخر من شرح الإيضاح ابن أبى الربيع الأموى (ت 688هـ)، وقرأه عليه أبو الطيب البستى (ت 695هـ) ثم لا نجد بعد هذا التاريخ فى كتب التراجم من يعنى بالايضاح على حين تتوالى العناية بكتب ابن مالك حتى هذا الزمان.
هذا وقد استعان البغدادى فى خزانته بالإيضاح فى مواضع كثيرة تربو على استعانته بأى كتاب آخر من كتب أبى على (3).
نسخ الإيضاح وأماكنها:
جاء فى الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ذكر صاحب الرياض أنه رأى نسخة من الإيضاح فى الخزانة الوقفية بقسطنطينية قرئت على ابن الجواليقى (ت 528هـ) ونسخة أخرى كتابتها سنة 620هـ وفيها أيضا شرح الشيخ عبد القادر الجرجانى عليه، وذكر صاحب الذريعة أن الإيضاح بمكتبة ولى الدين أفندى، ومكتبة عاطف كما يظهر من فهارسها (4).
وورد فى تذكرة النوادر أن للإيضاح:
(1) عدة نسخ فى خزائن الآستانة أقدمها كتابة نسخة مسجد بايزيد كتبت سنة 505هـ.
(2) ونسخة أخرى فى خزانة أيا صوفية تحت رقم 4451.
(3) ونسختين منه فى الخزانة المصرية (5).
(4) ونسخة منه فى مكتبة إسكوريال تحت رقم 42كتبت سنة 605.
__________
(1) كما عنوا بالجمل للزجاجى.
(2) ولكنهم لم يصرفهم عن المفصل للزمخشرى لصاحب كشف الظنون يذكر أن آخر شرح للمفصل كتبه التبانى جلال الدين رسولا 973هـ.
(3) انظر إقليد الخزانة 23، 24لعبد العزيز اليمنى الرجكوتى ط لاهور سنة 1927.
(4) الذريعة 2/ 492.
(5) انظر الفهرست الجديد لدار الكتب 2/ 81.(1/542)
(5) ونسخة أخرى فى المكتبة المذكورة تحت رقم 194.
(6) نسخة أخرى فى خزانة بانكى بور تحت رقم 1522كتبت سنة 599 (1).
وقد أورد بروكلمان الأماكن التى بها كتاب الإيضاح، وأنها: مكتبة عاطف بالقسطنطينية رقم 2444، ومكتبة الفيضية رقم 1909ومكتبة شاه زاده رقم 323 ومكتبة السليمانية رقم 929وبايزيد 2903وراغب 1329وسليم آغا 1083 (2).
وقد ذكر العلامة أحمد تيمور فى حديثه عن نوادر المخطوطات (3). أن الإيضاح منه نسخة بالأسكوريال، وفيها أيضا شرح شواهده للقيسى، وفى السلطانية بالقاهرة شرحه لابن برى، وفى الفاتح بالآستانة شرح الإيضاح للعكبرى، وفى السلطانية بالقاهرة جزءان منه ناقصان، وفى بشير آغا بالآستانة شرحه لأبى طالب، وفى الكوبريلية شرحه لعبد القاهر الجرجانى ولعله الصغير المسمى بالمقتصد، ثم قال: «وفى خزانتنا النصف الأول منه. «وهو المخطوط برقم 384نحو.
هذا وقد عنى معهد إحياء المخطوطات بالأمانة العامة للجامعة العربية بالايضاح وشروحه فصورت على أفلام نسخا من مكتبة أحمد الثالث، وكوبريلى، والاسكوريال إلى جانب ما صورته دار الكتب (4).
التكملة:
فإذا ما انتهيت إلى التكملة وجدت أبا على يقول فى تقديمها:
«الحمد لله رب العالمين الذى جعل حمده فاتحة كتابه، وخاتمة دعوى أوليائه فى جنته، فقال تعالى: {«وَآخِرُ دَعْوََاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ»} وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى أنبيائه، والمرسلين، وعباده الصالحين، وإياه نسأل، وإليه نرغب فى إيزاع الشكر، وإلهام الحمد على ما منح الأنام، وشمل الخاص والعام من النعمة بالملك العادل «عضد الدولة» (أطال الله بقاءه، وأسبغ عليه نعماءه) كما أفاض فى البلاد عدله، وأوسع العباد فضله، وبث فيهم عرفه وطوله (5).
__________
(1) تذكرة النوادر 137علم النحو مطبعة دائرة المعارف العثمانية 1350هـ.
(2) انظر بروكلمان المجلد الأول 114113والملحق 175، 176.
(3) الهلال سنة 28/ 61.
(4) تجد تعريفا بهذه الأفلام فى فهرس المخطوطات المصورة 379وما بعدها.
(5) ص 64نحو 1006.(1/543)
وها نحن أولاء نلحظ أن التقديم خلا مما اشتمل عليه تقديم الإيضاح من ورود امر عضد الدولة، ورسمه بما رسم (1)، ونلحظ كذلك تعبيرات صرفية لعلها تشير إلى موضوع الكتاب وأبوابه، والحظ معى استعمال المصدر من أوزع، وألهم، ثم الحظ معى هذا القياس الذى يشير إلى ما التزمه أبو على فى التكملة من مسائل المنطق: فهو يدعو أن يطيل الله بقاءه، ويسبغ عليه نعماءه مقايسا ذلك بما أفاض فى البلاد من عدله، وأسبغ على العباد من فضله، ثم أراه يلمح بقوله: وإيزاع الشكر إلى آية: {«رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ».}
ويجعل أبو على موضوع التكملة الأبواب التى تشمل التغيير الذى يلحق أواخر الكلم من غير أن يختلف العامل، وهذا التغيير يكون بتحريك ساكن، أو إسكان متحرك، أو إبدال حرف من حرف، أو زيادة حرف أو نقصان حرف (2)
ويقرر أن هذا التغيير ليس باعراب لأنه غير حادث عن اختلاف العوامل. كما يجعل موضوعها كذلك فى التغيير الذى يلحق أنفس الكلم وذواتها، وذلك نحو التثنية والجمع الذى على حدها، والنسب، وإضافة الاسم المعتل إلى ياء المتكلم، وتخفيف الهمزة، والمقصور والممدود، والعدد، والتأنيث، والتذكير، وجمع التكسير، والتصغير، والإمالة، والمصادر، وما اشتق منها من أسماء الفاعلين، وغيرها، والتصريف، والإدغام. ثم وعد أن سيذكر ذلك بابا بابا، وقد وفى بما وعد أيما وفاء.
وهكذا ينتظم الإيضاح أبواب النحو جملة، كما ينتظم التكملة أبواب الصرف جملة كذلك. ويخطئ العاملى صاحب أعيان الشيعة فى استنتاجه حيث قال:
«من مؤلفات أبى على التكملة فى التصريف، هكذا فى بغية الوعاة، ومقتضى ما ذكر فى سبب تأليفه أنه تكملة للإيضاح فهو فى النحو وصرح فى الرياض بأنه فى النحو (3)
وفرق كبير بين عبارة الشيخ هنا فى التكملة، وعبارته هناك فى الإيضاح.
ويمكن بالنظر إلى كتاب التكملة أن يتبين لنا أسباب صعوبة عبارة هذا الكتاب.
__________
(1) الإيضاح نحو 1006: 1.
(2) ص 64.
(3) أعيان الشيعة 21/ 31.(1/544)
فأول الأسباب أن طبيعة موضوعات الصرف أصعب فى تفهمها من أبواب النحو، وثانيها أن أبا على التزم هنا الغموض فجاء ذلك ضغثا على إبالة.
اقرأ مثلا: «باب دخول التاء للفرق على اسمين غير وصفين فى التأنيث الحقيقى الذى لأنثاه مذكر (1).
أو: باب ما جاء على أربعة أحرف ملحقا أو على وزن الملحق من الثلاثة بالأربعة فكسر تكسير ما كان على أربعة أحرف (2).
وثالثا: أنه تقيد بأسباب المنطق، وقد تجلى ذلك فى أول ما ذكر من التكملة إذ يقول: «النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام للعرب»
وقد ترددت الاصطلاحات المنطقية فى كتابه التكملة «الاطراد، والاستمرار والقياس (3)، وباب الأسماء المفردة الواقعة على الأجناس التى تخص آحادها منها بإلحاق الهاء بها (4).
ثم رابعا: أنه يكثر من التفريع والتقسيم والاستطراد، اقرأ: باب الوقف على الاسم المعتل (5) تره يقول فيه: الاسم المعتل لا يخلو من أن يكون منونا أو غير منون، فالمنون كذا وكذا ثم ذكر حكم الوقف عليه، ومذاهب العرب فيه، والرأى الذى يرتضيه. وأما غير المنون. فكذا وكذا ثم ذكر حكم الوقف عليه، ومذاهب العرب فيه.
ثم ذكر ما يقال فى النداء واحتج (6) له وتحدث عن لهجة ناس من العرب يبدلون من الياء فى سعدى الجيم فيقولون سعدج واستشهد لها.
ثم انتقل إلى الوقف على الفعل المعتل، وذكر حكم المرفوع، وعلل له من أن الباب معقود للوقف على الاسم لا الفعل. ثم انتقل إلى المجزوم، وتحدث عن الوقف فى نحو فه وشه، ثم تحدث عن الوقف فى الفواصل والقوافى (7). ويكاد هذا التقسيم والتفريع يطالعك فى صدور أبواب متقاربة
هذا عرض سريع لاستطراداته (8) وتفريعاته، وتقسيمه، وذلك كان سببا فى أن نظر إليه النحاة بما نظروا وحكموا عليه بالتصعيب والغموض
__________
(1) 120.
(2) 153.
(3) 83.
(4) 137.
(5) 70.
(6) 71.
(7) ص 71.
(8) من أمثلة استطراداته: باب من الأسماء ما لا يعلم قصره ولا مده (93) وهو باب لغوى لا صرفى ولعله اختصر فيه كتابة المقصور والممدود الذى ذكره ياقوت.(1/545)
وشىء آخر هو: خامسا أنه يكثر من الجدل، ويعنى بالبرهنة على مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، فى براهين منطقة عقلية، ذكر مثلا وزن أشياء وبرهن على رأيه فيها، وذكر (1) أن أمثلة الأفعال مشتقة من المصادر كما أن أسماء الفاعلين والمفعولين مشتقة منها، وهذه برهنته على رأيه فاستمع إليها، قال:
«لو كانت المصادر مشتقة من الأفعال لجرت على سنن فى القياس، ولم تختلف كما لم تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين، فلما اختلفت المصادر اختلاف سائر الأجناس دل ذلك على أن الأفعال مشتقة منها، وأنها غير مشتقة من الأفعال (2)
وأيضا، فلو كانت المصادر مشتقة من الأفعال لدلت على ما فى الأفعال من الحدث والزمن وعلى معنى ثالث، كما دلت أسماء الفاعلين، والمفعولين على الحديث، وذات الفاعل، والمفعول به، وكذلك سائر المشتقات. فلما لم تكن المصادر كذلك علم أنها ليست مشتقة من الأفعال (3)
فأما اعتلالها باعتلال الأفعال فلا يدل على أنها مشتقة منها، كما أن اعتلال بعض أمثلة الفعل لبعض لا يدل على أن بعض الأفعال مشتق من بعض (4).
وأنت إذ تقرأ هذا الكلام تحس كأنك أمام برهان على نظرية من نظريات الهندسة، ولا بد أن تقرأه على مهل وتمعن لتدرك ما فيها من مقدمات وأدلة وحجاج
وقد رأينا خلو كتاب الإيضاح من هذه المحاجّة المنطقية الدقيقة، اللهم إلا ما ورد فى أخرة هذا الكتاب، وكأنه أراد بذلك أن يمهد لتمرس المتعلم بهذه البراهين، ليتقبلها مبثوثة فى التكملة هنا وهناك
وسادسا، أنه يستغل مسائل العروض فى التكملة، فيقول مثلا فى باب الابتداء بالكلم التى يلفظ بها، كل حرف من أول كلمة يبتدأ بها من اسم، أو فعل، أو حرف فهو متحرك، ولا يبدأ بحرف ساكن فى اللغة العربية، والدليل على أنهم لا يبتدئون بالساكن أنهم لم يخففوا الهمزة إذ كانت فى أول كلمة يبتدأ بها نحو: «أأن رأت رجلا أعشى أضرّ به» لأن فى تخفيفها تضعيفا للصوت، وتقريبا من الساكن فكما لم يبتدءوا بالساكن لم يبتدءوا بما قرب منه. وأمر آخر يدل على رفضهم الابتداء بالساكن، وهو أنهم لم يخرموا متفاعلن كما خرموا فعولن ونحوه، لأن متفاعلن يسكن ثانيه
__________
(1) 106.
(2) انظر الانصاف 146فقد كادت ألفاظ الفارسى تظهر فى تدليل الأنبارى.
(3) انظر الانصاف 147فقد أورد قريبا من هذا الكلام بحروفه.
(4) 162.(1/546)
فلو خرم لأدى ذلك إلى لزوم الابتداء بالساكن، وإذا رفضوا ما يؤدى إليه فإن يرفضوه نفسه أولى (1).
أرأيت هذه التعليلات المنطقية؟ ثم ما دخل العروض فى المسألة؟ وهل كان العربى الأول يعرف الخرم ومتفاعلن وفعول حتى يستدل به الفارسى فى هذه القضية التى تعرض للبرهان عليها؟
وكل هذه التعليلات بما فيها من المنطق والتفلسف والتعمل أيضا جعل الناس يستصعبون التكملة، كما أبعد التكملة أن تكون للمتعلمين المبتدئين، وهى على هذه الصورة يشق على كثير من المنتهين.
وكما بدت نزعة الفارسى وبصيرته فى هذه المسائل النحوية، كذلك بدت فى طريقة التدليل عليها على هذا النحو من الحجاج.
وبدت نزعته البصرية كذلك من أنه لا يأخذ بالشاذ ولا يقيس عليه:
أورد قول الفراء: «كان النحويون يقولون امرأة، فإذا أدخلوا الألف واللام قالوا المرأة، وهو وجهة الكلام. قال: وقد سمعتها بالألف واللام الامرأة».
ثم عقب عليه بقوله: «ولعل الذى سمعها منه لم يكن فصيحا، لأن قول الأكثر على خلافه (2).
كذلك بدت هذه النزعة مع الخليل ومن الغريب أن يكون ذلك قال:
«زعم الخليل أن ناسا من بكر بن وائل يقولون: ردن ومرن (3) إذا أخبروا وأرادوا: رددن ومررن، وهذا لا ينبغى أن يؤخذ به بشذوذه عن الاستعمال والقياس.
وأما الشذوذ عن الاستعمال فلقلة المستعملين له.
وأما الشذوذ عن القياس فلأنه إذا اجتمع أهل الحجاز على إظهار اردد، ونحوه مع تعاقب الحركات التى ذكرنا عليها فأن لا يدغم نحو رددن التى لا تصل إليه الحركة البتة لاتصاله بالضمير أولى (4).
وما كان ينبغى أن يهجم الخليل بما هجم، وينسب قوله إلى الزعم، فالخليل يروى ما يسمع، ولعلهما متفقان على شذوذ مثل هذا الإدغام.
__________
(1) 67.
(2) التكملة 121.
(3) لم أجد شيئا من ذلك فى الكتاب، وهو المصدر الذى أرجّح أن الفارسى رجع إليه واستمد منه ما نسب إلى الخليل.
(4) التكملة 66.(1/547)
وأود قبل أن أختم هذا الفصل أن أعقد دراسة مقارنة بين الزجاج فى «سر النحو» والفارسى فى «الإيضاح» ومدى صلة كل منهما بسيبويه فى الكتاب.
فالزجاج فى سر النحو لم يفترق كثيرا عن سيبويه فى الكتاب، فقد أورد سيبويه ما ينصرف وما لا ينصرف فى اثنين وثلاثين بابا وكذلك فعل الزجاج فى موالاة بين هذه الأبواب تشبه إلى حد كبير الموالاة التى اصطنعها سيبويه.
تتوالى مثلا الأبواب الآتية فى سر النحو:
ذكر الأسماء المبهمة (1)، والظروف المبهمة (2)، والانصراف فى أسماء الأحيان وغير الانصراف (3) والألقاب (4) وهى كذلك فى هذه الموالاة فى الكتاب (5).
أما أبو على فقد تحدث حديثا موجزا عما لا ينصرف فى الأبواب تشبهها اب التى لا تعرض على طلاب المدارس الآن، فهل كان أبو على أول من رتب هذا الترتيب ميسرا بذلك على المتعلمين فى إيجاز واستيعاب معا؟
إنه يتحدث فى باب ما لا ينصرف عن: ما كان على وزن الفعل، والصفة التى لا تنصرف، والتأنيث، وما كان فى آخره ألف ونون مضارعتان لألفى التأنيث والتعريف، والعدد، والجمع الذى لا ينصرف، والأسماء الأعجمية، والاسمين يجعلان اسما واحدا.
وهو بهذا التقعيد والاختصار الذى لا يخل يمتاز عن الزجاج الذى جرى على سنن سيبويه فى الكتاب من حيث ترتيب الأبواب والاطالة، ونقل الأمثلة الفرضية كأن يقول:
إذا سميت رجلا بالألف واللام من قولك الغلام (6).
إذا سميت رجلا باما (7)، وأما، والا، وأما، والا (8).
وقد عرضت قبل المميزات العامة لكتاب الايضاح، وأود هنا فى هذه الدراسة المقارنة أن أبين السمات المميزة للزجاج فى كتابه سر النحو والتى ينفرد بها عمن عداه فأول ما يلحظ من هذه السمات أن الزجاج أثرى، وتتجلى هذه السمة فى مظهرين.
االاستناد على رسم المصحف فى التعليل.
ب التنبيه على أن القراءة سنة.
فمثال المظهر الأول «قوله» تترى فيه لغتان بعض العرب لا ينونها، وبعضهم ينونها.
من لم ينون جعل ألفها للتأنيث، ومن نونها جعل ألفها تلحق الثلاثة بالأربعة وجائز إذا نونت ألف النصب كأنه قال: تتر بمعنى وتر أى أرسلناهم متواترين، وترا
__________
(1) 48.
(2) 54.
(3) 63.
(4) 65.
(5) 2/ 42، 44، 48، 49على التوالى.
(6) ورقة 80.
(7) 86.
(8) 87.(1/548)
وترا وترا، والقولان الأولان قول النحوين وبهما نقول إلا أن هذا القول الثالث يوجبه مذهب من القياس ويدفعه كونها فى المصحف بالياء، لأن ألف النصب لا تكون ياء، وإنما تكتب ألف التأنيث ياء لأنها إذا ثنيت أبدل من الألف ياء فقيل حبليان (1).
وهكذا يجعل رسم المصحف دافعا لما أوجبه القياس.
ومثال المظهر الآخر: قوله: «يجوز فى حيث الفتح تقول: حيث زيد قائم، فأما فى القراءة فلا يقرأ {«سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لََا يَعْلَمُونَ»} وإن كانت جائزة فى العربية، لأن القراءة سنة متبعة فمخالفتها بما يجوز فى الاعراب بدعة (2). وهذا هو مذهبه الذى أشرت اليه وعللته عند الكلام على طريقته فى الاحتجاج من كتابه المعانى.
وثانى السمات التى تبدو عند الزجاج: الاشتقاق، وقد بينت قبل ولع الزجاج به ومذهبه فيه (3) وهنا أشير إلى مثال يدل على هذه السمعة عنده.
قال: قال جميع البصريين فى اسم موسى وعيسى أنهما أعجميان، وهما معرفة تقول جاءنى موسى، وموسى آخر، وجاءنى عيسى، وعيسى آخر. فإن أردت موسى الحديد فهى مؤنثة، وهى تنصرف فى النكرة تقول هذه موسى حادة، وتقديرها مفعل تصلح أن تكون من شيئين يرجعان إلى شىء واحد، تصلح أن تكون من أسوت إذا أصلحت فكان أصلها مؤسس إلا أن الهمزة إذا سكنت وقبلها ضمة وخففت أبدلت واوا فألزمت هذه اللفظة تخفيف الهمزة
وقد قيل إنها من أوسيت أى حلقت، وذلك من هذا لأن معناه كله الإصلاح (4).
وهكذا ينتهز الزجاج الفجوة التى ينفذ منها إلى الحديث عن الاشتقاق الذى برع فيه، واشتهر به، وميزه عمن سواه. وانظر قوله فى آخر النص السابق «وذلك من هذا لأن معناه كله الإصلاح» تجده أعطاك نظرية فى الاشتقاق إذ يجعل لمعانى المادة اللغوية أصلا تعود إليه.
وثالث السمات التى تميز أبا القاسم الزجاج: دفاعه عن المبرد ورواية أقواله (5)، وذلك أثر من آثار الصحبة بين الرجلين. وقد تعرضت إلى ذلك عند الكلام على معانى القرآن للزجاج (6).
وهذه السمات الثلاث تبرز شخصية الزجاج فى كتابه سر النحو، وهو فى غيرها خافت الصوت لا يكاد شىء من شخصيته يبين، وبعد فسر النحو للزجاج مخطوط بدار الكتب رقم 149نحو وهو فى 99ورقة برواية النحوى المصرى أبى جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس عن الزجاج.
__________
(1) سر النحو ورقة 4.
(2) 58.
(3) انظر ص 965وما بعدها من هذا البحث.
(4) سر النحو 12.
(5) 57.
(6) انظر 5فى موضعه من هذا البحث.(1/549)
الشيرازيات
جعل أبو على الشيرازيات فى أربعين مسألة منها ما هو لغوى فى المسألتين الثانية عشرة والثالثة والعشرين. ومنها ما هو نحوى وعدده ثلاث عشرة مسألة (3، 4، 13، 14، 21، 22، 15، 16، 18، 30، 31، 37، 38) ومثل هذا العدد من المسائل: صرفى (1، 2، 6، 10، 15، 16، 24، 29، 31، 33، 36، 39، 40) وبعضها مسائل إعرابية، وقد بلغ عددها خمس مسائل (5، 11، 17، 18، 19) ومنها سبع مسائل تناول فيها أبياتا للشعراء من الجاهليين والإسلاميين والمولدين والمحدثين، أربع من هذه السبع للحطيئة (المسألة رقم 7) والأعشى (مسألة 8) وعدى بن زيد (مسألة 9) وأبى الصلت عبد الله بن أبى ربيعة والد أمية (المسألة 20) ثم مسألة تعرض فيها لبيتين أنشدهما أبو زيد (مسألة 27) وأما المسألتان الأخيرتان من هذه المسائل السبع فقد جعلا من نصيب المتنبى (المسألتان 34، 35).
والمسائل من كل صنف متتابعة فى القليل النادر، وهى فى الأعم الأغلب على غير ذلك، كانت الأولى والثانية صرفيتين، كما كانت الثالثة والرابعة نحويتين، تلتهما الخامسة وهى تتعلق بالإعراب، والسادسة وهى صرفية، ثم كانت السابعة والثامنة والتاسعة تناول فيها أبياتا للشعراء، ولم يعد إلى تناول هذه الأبيات وعقد المسائل خاصة بها إلا فى المسألة العشرين، فاصلا بين المسألتين التاسعة، والعشرين بمسائل مختلطة أمشاج من النحو والصرف والإعراب على غير ترتيب.
وفى الشيرازيات إشارات تاريخية تعين على معرفة ميلادها ولو على وجه التقريب، فان التحديد الدقيق غير ميسور، وخاصة إذا لم تكن هناك نصوص دالة كاشفة.
من هذه الإشارات التاريخية ما رأيته فى صدر المسألة الأولى من قوله: «بدأت بقراءة هذه المسائل على الشيخ أبى على الحسن بن أحمد بن عبد الغفار النحوى (أيده الله) فى شهر رمضان سنة 363هـ (1).
ومنها أيضا ما اختتمت به هذه المسألة حيث يقول: «هذه مسألة أملاها بشيراز فى المسجد بالربض» (2).
__________
(1) لوحة رقم 2.
(2) لوحة رقم 10.(1/550)
ومنها كذلك ما صدرت به المسألة الثانية: «قرأتها على الشيخ (أيده الله) فى جمادى الأولى سنة 364فى منزله، وهذه المسألة هى التى كتبها أبو على لعضد الدولة كما يصرح بذلك فى قوله: «كتبتها لمولانا الملك الجليل عضد الدولة (أطال الله بقاءه، وأدام سلطانه، وثبت ملكه) (1).
والظاهر أنه كتب المسألتين العشرين والسابعة والعشرين إلى عضد الدولة كذلك، فقد صدر كلا منهما بكلام فيه الدعاء بالتأييد، وذلك قوله فى المسألة العشرين (2).
«فهمت ما ذكرته (أيدك الله) من تفسير البيت الذى ورد الأمر بتفسيره وهو قوله:
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... فى رأس غمدان دارا منك محلالا
وفى هذا النص أكثر من دليل أنه لعضد الدولة.
(ا) الدعاء فى (أيدك الله).
(ب) وورود الأمر بتفسير البيت.
(ج) واختيار هذا البيت الذى يتصل بحياة عضد الدولة وما يرغبه من عيش الملوك فى الشرب الهنيء وارتفاق التاج.
كل هذه أدلة ترجح أن الآمر بتفسير البيت هو عضد الدولة.
ودعاء أبى على بالتأييد كذلك فى السابعة والعشرين يوحى بأنها مكتوبة إلى عضد الدولة وإن لم يصرح به.
وقد جاء فى آخر المسألة الثانية والثلاثين ما نصه: «وقد جاء الحذف فى كلامهم للاستغناء بما ذكر عن المحذوف كما رأى مولانا الملك (أدام الله تأييده) فى المسألة (3).
وإذن فقد ولدت الشيرازيات بعد اتصال أبى على بعضد الدولة وأرجح أن يكون ذلك حول سنة 360هـ.
إلى جانب هذه الإشارات التاريخية إشارات أخرى:
فهو يذكر فى صدر الثالثة أنه كتبها للأستاذ أبى نصر (رحمه الله) (4)، وكذلك فعل فى المسألة الرابعة والعشرين (5). ويذكر فى المسألة الثلاثين أن أبا نصر (رحمة الله عليه) سأل عنها (6).
__________
(1) لوحة 11.
(2) لوحة 71.
(3) لوحة 137.
(4) لوحة 14.
(5) لوحة 85.
(6) لوحة 125.(1/551)
فمن أبو نصر هذا الذى كتب إليه الشيخ أبو على واتصل به؟ ظننت أول الأمر أنه أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهرى فانه كان أديبا عاصر أبى على، وأخذ عنه (1).
ولكن هذا الظن انتفى بقول أبى على: كتبناها للأستاذ أبى نصر (رحمه الله) (2)، وتوفى الجوهرى سنة 392هـ فيما يذكر القفطى فى أحد قوليه (3)، ويجعل ياقوت الوفاة سنة 386هـ (4) ويفهم من الدعاء بالرحمة فى نص الشيرازيات أن أبا نصر توفى فى حياة أبى على، وإذن فليس إسماعيل بن حماد الجوهرى هو المعنى بأبى نصر.
وهناك من يكنى بأبى نصر ذكر خبره صاحب الصبح المنبئ (5)، وقد عاصر أبا على، ولكنه غير أبى نصر الذى ورد ذكره فى الشيرازيات ذلك لأن أبا نصر المذكور فى الصبح المنبئ اسمه عبد العزيز بن نباته السعدى، وقد صرح الشيخ أبو على باسم أبى نصر فى موضع آخر فذكر أنه أبو نصر محمد بن هبة الله (6)، فاذا استفتيت ابن الجزرى فى طبقات القراء وجدت أن محمد بن هبة الله هذا شيرازى (7)، والراجح أنه قد مات قبل أبى على وإن لم يذكر ابن الجزرى سنة الوفاة، وقد كان محمد بن هبة الله هذا محدثا (8).
والشخصية الثالثة التى اشتركت فى نصيب الشيرازيات: «أبو الحسن حمد».
قال الشيخ أبو على فى صدر المسألة الخامسة: كتبناها إلى الشيخ أبى الحسن حمد (9)، فمن ذلكم الشيخ؟
ذكر ابن الجزرى كثيرا ممن اكتنوا بهذه الكنية: «أبى الحسن» ولعله أبو الحسن الفسوى (10) ولعل فسويته قد ربطت بينه وبين أبى على كما ربطت شيرازية أبى نصر بينه وبين الشيخ كذلك.
كل هذه الإشارات تدل على أن هذه المسائل أملى بعضها، وكتب بعضها إجابة عن سؤال سائل فى حلقة الدرس، بالمسجد أو المنزل، وأن أولئك الذين كتب إليهم رادا على استفسارهم كانوا رءوس القوم بشيراز (كعضد الدولة) وأبى نصر
__________
(1) انظر نزهة الألباء 227، والأعلام: 1/ 105، وبغية الوعاة 195ومعجم الأدباء 6/ 151سلم الوصول 166.
(2) انظر لوحة 14شيرازيات.
(3) انظر انباه الرواة 1/ 196.
(4) انظر معجم الأدباء 6/ 151.
(5) انظر هامش شرح العكبرى للمتنبى 1/ 197.
(6) انظر الشيرازيات 85.
(7) طبقات القراء 2/ 274.
(8) انظر الاتقان 1/ 149.
(9) لوحة 22.
(10) طبقات القراء 2/ 266.(1/552)
محمد بن هبة الله. أو بفسا كأبى الحسن حمد. ثم جمعت هذه المسائل كما يفعل الناس فى هذا الزمان من جمع مقالات نشرت هنا وهناك وضمت فى كتاب.
ومن أجل ذلك يبدو فى هذه المسائل التأنى والتبسط والتقصى والتأنق أيضا ولم يكن جعله أولى هذه المسائل «فى تصريف قولهم أول» بعيدا عن غاية مقصودة بل كان ذلك شبيها بما يسميه البديعيون: «براعة استهلال».
والدليل على تأنى أبى على أنه يعرض للآراء المختلفة مفندا ومعضدا، مستدلا بالأصول اللغوية، ويتعرض للخصوم، ويمعن فى الجدال، ويشقق المقال، ويستكثر من الشواهد (1)، ويجمع الأشباه والنظائر، ويدلل على أوجه الإعراب (2) ويستطرد لأدنى مناسبة، ويعقد حديثه بمسائل المنطق (3)، وهذا شأنه دائما حين يريد الاستيفاء والاستيعاب فى تأن وإبطاء. ومن هنا جاءت هذه المسائل طويلة ممتدة، إذ كانت حافلة بهذه المظاهر السابقة جمعاء. وأود أن أعرض مسألة واحدة أى مسألة فتناول واحدة بالتحليل يختصر الخصائص المشتركة فى كل المسائل.
وإليك عرضا للمسألة الثالثة والثلاثين (4)، عقد أبو على هذه المسألة للحديث عن نسبتك درهما مكتوبا عليه: {«قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ»} فذكر أولا ما تحتمله القسمة من هذه النسبة: وهو «قلى، والا هى، ولا هى، وأحدى، وهوى، وقولى» وقرر أن هذا يجوز كله إلا قلى وهوى
ثم جوز قولى مستدلا بما ينطق به العرب ومقايسا عليه (5).
ثم ذكر اعتراضا ورده وذلك قوله: «فإن قيل» لم لا تبقى الضمير فى قل ولا تخلعه كما قلت كنتى
ثم انتقل إلى الحديث عن جواز «إلا هى» و «لا هى»، واستدل عليه بقراءة لابن مسعود، وما ذكر سيبويه على اعتبار أن قل ليست من السورة على قراءة ابن مسعود.
ثم دلل على «أحدى» إذا كانت قل ليست من السورة واستند فى تدليله على أصل إعرابى «هو» أن المستفاد من المبتدأ والخبر إنما هو الخبر» وقايس ذلك بما يكون فى الجملة الفعلية من أن المستفاد من الفاعل والفعل إنما هو الفعل وبما
__________
(1) لوحة 138.
(2) انظر لوحة 133، 134.
(3) لوحة 128وما بعدها.
(4) انظر اللوحة.
(5) اللوحة 139.(1/553)
يكون فى إضافتهم إلى تأبط شرا بقولهم «تأبطى» وانتهى من هذا القياس إلى الإضافة إلى الخبر الذى هو أحد من قولهم «الله أحد» فتقول أحدى
ثم دلل على جواز «أحدى» على اعتبار أن قل من السورة، إذ يكون ذلك على قياس من قال شرى فينسب إلى شرا من تأبط شرا.
ثم دلل على امتناع «هوى» من الجواز معتمدا على أصل نحوى، وذلك أن «هو» ضمير القصة والشأن لا يوصف، ولا يعطف عليه ولا يؤكد
ودلل على امتناع «قلى» بما تؤدى إليه الصناعة الصرفية وذلك إذ يقول: «وأما امتناع قلى فلأن اللام قد تحركت فينبغى أن ترجع الواو، ولأنها حذفت لالتقاء الساكنين زال التقاؤهما
وبين وجه امتناع النسب إلى صمدى وغيره مما فى السورة بأنا نقيس على ما سمعنا من كلام العرب، وهم قد اختاروا أن يضيفوا إلى صدور الجمل، فكذلك نقيس فلا تنسب إلى غيره مما فى السورة.
ثم استطرد من ذلك إلى بيان امتناع «إخلاصى» لأنك بذلك قد نسبت إلى ما لقبت به السورة، واللقب يوضع على الملقب به. وأنت إنما تنسب إلى الشيء لا إلى ما يدل عليه ولم تضطر إلى ذلك.
ثم استطرد أبعد من ذلك فبين السبب فى تلقيب السورة بالإخلاص.
ثم وازن بين الأوجه الأربعة الجائزة، فذكر أن المختار منها «قولى» إذا جعلته من السورة ولم تجعله على قراءة ابن مسعود. ودلل على وجه الاختيار فى ذلك
وبين أن الأوجه الأخرى غير ممتنعة ولا رديئة.
هذا مثال يوضح كيف يتناول أبو على المسائل فى الشيرازيات، وفيه كما ترون التوجيه، والتدليل، والتفنيد، والتعليل، والمنطق والتقسيم، والاستطراد، والقياس، واستغلال للأصول اللغوية والصرفية والإعرابية.
وظهور ذلك كله فى الشيرازيات صدى لهذه الحياة الطويلة المستقرة التى عاشها الشيخ فى شيراز، فقد استظهرت فى فصل سابق أنه مكث ما يقرب من عشرين عاما بها، فجاءت هذه المسائل مرآة لاستقراره، ومظهرا لثقافته فى العربية، وصدى لاطمئنانه فى الدرس والإملاء والكتابة والاجابة، على وجه العموم.(1/554)
وفى الشيرازيات.
(1) استهداء بالحس النفسى فى التعليل: أورد قول أبى دوار فى وصف ثور.
ويصيح أحيانا كما استمع المضل لصوت ناشد
ثم شرح المضل فقال: المضل الذى قد أضل بعيرا وغيره، والناشد الطالب لضالته، فهذا المضل شديد الاصغاء إلى صوت الناشد ليتأسى به فيتعزى، وعلى هذا قالوا «الثكلى تحب الثكلى، ومن ذلك قول الخنساء.
فلولا كثرة الباكين حول ... على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يبكون مثل أخى ولكن ... أعزى النفس عنه بالتأسى
وقال آخر:
وإن الألى بألطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وقد منح الله هذه النعمة أهل النار وسلبهم إياها فقال تعالى: {«وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذََابِ مُشْتَرِكُونَ»} فاشتراكهم فيما يعرضون عليه من العذاب لم يحدث لهم تعزيا ولا تسليا فيكون ذلك تخفيفا عنهم، وترويحا لهم ألا تراه قال: {«لََا يُقْضى ََ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلََا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذََابِهََا»} (1).
ولا أطيل باستقصاء دلائل هذا الاستهداء فيكفى المثال الذى ذكرت وأحيل إلى نظائره فى الشيرازيات (2). وقد رأينا أن هذه الظاهرة كانت بذرة نمت وترعرعت عند ابن جنى، وظهرت آثارها فى المحتسب (3).
(2) واستغلال العروض فى الاستدلال: قال: «وينبغى لمن لم ير منهوك الرجز ولا مشطوره ولا منهوك المنسرح كقوله «صبرا بنى عبد الدار»، «وويل أم سعد سعدا» شعرا ألا يعمل فيه أنشد كما لا تقول أنشدت سجعا، وهذا مذهب أبى الحسن الأخفش ومما احتج به لذلك أن النبى (عليه السلام) لا يجرى على لسانه الشعر، وقد قال الله: {«وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ وَمََا يَنْبَغِي لَهُ»}، قال وأنشد هذا البيت:
أتجعل نهبى ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
قال: فان احتج محتج بأن النبى (عليه السلام) قال: «الله مولانا ولا مولى لكم» فان هذا على الوقف ولو وصل لقال لا مولى لكمو. قال: وإنما يحسب
__________
(1) لوحة 1514.
(2) انظر لوحات 44، 52، 101.
(3) انظر الفصل الخاص بذلك.(1/555)
الشعر على الوصل لا على الوقف قال: «وكان الخليل يجيز هذا» ومن حجة الخليل عندى فى ذلك قول رؤبة: «وقلت شعرا من طرازى معلمه».
يعنى فيما أحسب أرجوزته التى أولها «قلت لزير لم تصله مريمه» ولم نعلم رؤبة قال القصيد وإنما جمع بينهما كما جمع بينهما غيره كأبى النجم (1).
وكذلك فعل فى تقدير المحذوف من قولهم «الله لأفعلن» (2).
(3) والاحتجاج بالحديث الشريف: قال: وإنما صار قولهم «عمرك الله» يدل على السؤال، وكذلك قعدك الله، لأن الكلمة تستعمل عند السؤال فى أكثر أمرها فمن ذلك ما جاء فى الحديث أن رجلا بايع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرأى منه مسامحة فقال له عمرك الله ممن أنت؟ فقال امرؤ من قريش، فلما صارت تستعمل عند السؤال كثيرا صار إذا قالها كأنه قال: ما أسألك إلا كذا وعلى هذا قول الشاعر:
عمرك الله أما تعرفنى؟ ... أنا حراث المنايا فى الفتن (3)
وعند كلامه على أن رزأ تتعدى إلى مفعولين استشهد بالشعر واستطرد قائلا وفى الحديث: «المؤمن مرزأ» ثم قرر أن تضعيف العين فى مرزأ إنما هو للتكثير يراد يرزأ مرة بعد مرة (4)، وانظر بعد ذلك استشهاده بالحديث: عليكم بالباءة فانه أغض للبصر (5).
(4) وتفسير القرآن بالقرآن: قال فى معرض تقرير القاعدة: إن ما قرب من مشارفة حال قد يوقع عليه لفظ الماضى «ومما يستقيم أن يكون على هذا التأويل قوله:» يرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت «لما كان السوق يتبع الإثارة بلا كبير مهلة أوقع عليه لفظ الماضى فكذلك قوله فأحيينا وفى الأخرى يزجى سحابا ثم يؤلف بينه فجاء على لفظ الاستقبال، والإزجاء السوق، وفى الأخرى لنحيى به بلدة ميتا فجاء على لفظ الاستقبال والحقيقة، وجاء فأحيينا على ما ذكرت.
وأمضى فى بيان الخصائص مشيرا إلى المصادر دون ذكر النصوص اختصارا.
(5) والاحتجاج بالقراءات (6) وما تقوله العرب (7).
__________
(1) الشيرازيات لوحة 1918.
(2) انظر لوحة 2726.
(3) لوحة 25.
(4) لوحة 85.
(5) لوحة 97وما بعدها.
(6) انظر لوحة 55.
(7) لوحة 31.(1/556)
(6) والتعرض بالتدليل على مذهبه فى مسائل الخلاف (1).
(7) والدليل على أنه راوية حافظ لأشعار العرب (2) وكثرة الاستشهاد وتدفقه (3)
(8) والاشارة إلى ثقافته الشرعية (4).
(9) وعلمه بالأخبار الأدبية (5).
(10) والكشف عن طريقة تناول الأبيات الشعرية بالدراسة.
ايشرح المعنى ويستعين بالمأثور من القرآن الكريم والمروى من الحديث والشعر.
ب ويوضح الألفاظ اللغوية ويستشهد لها.
ح ويعرب ما فيه إشكال أو غموض فى البيت (6).
(11) والدليل على علمه بآراء البغداديين والأئمة السابقين: بصريين وكوفيين النحويين واللغويين (7)، [1] ووقوفه من هؤلاء وهؤلاء موقف الفاحص لحججهم، المنصف لهم، والمرجح لآراء بعضهم على البعض الآخر مما يدل على شخصيته الواضحة القوية واستخدام لاصطلاحات الكوفيين (8).
(12) الحرص على نسبة الأبيات إلى قائليها (9).
(13) استخدام المنطق فى الاستدلال والجدال: استعمل التقسيم (10) وقال:
الدعوى إذا عريت من الدلالة، ودفعتها الأصول المقر بها المجمع عليها لم تصح ولم تثبت (11)، واستعمل الاستثناء الانفصالى (12).
(14) وارتباط التوجيه الإعرابى بالمعنى البلاغى. جاء فى الشيرازيات: قوله:
{«مِنْ شَرِّ الْوَسْوََاسِ الْخَنََّاسِ»} إذا جعل التقدير فيه من شر ذى الوسواس أو صاحب الوسواس فحذف المضاف فى اللفظ وأقيم المضاف إليه مقامه احتمل وجهين:
[1] أطلق الفارسى البغداديين على الكوفيين يدل على ذلك قوله:
وقال الفراء عن الكسائي: لا آتيك أبد الأبيد وأبد الآباد، وزاد غيره من البغداديين أبد الآبدين، وأبد الأبدية وأبد الله قال: وتأويل هذه الحروف أبد الدهر.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) لوحة 18.
(3) انظر اللوحات 53، 60، 61، 110، 138.
(4) لوحات 25، 26، 44، 81.
(5) لوحة 120.
(6) انظر لوحة 26، 99.
(7) انظر اللوحتين 57، 58.
(8) لوحة 139.
(9) انظر مثلا لوحة 46.
(10) لوحة 51.
(11) لوحة 52.
(12) لوحة 76ثم انظر اللوحتين 128، 139.(1/557)
أحدهما: أن يكون الفاعل بعد حذف المضاف على ما كان قبل الحذف، وعلى هذا قولهم صلى المسجد، يطؤهم الطريق، وسل القرية، المعنى فى ذلك بعد الحذف على ما كان قبل من أن الفاعل الأهل كأنه يطؤهم أهل الطريق، وصلى أهل المسجد، وسل أهل القرية.
والآخر: أن يجعل الاسم بعد حذف المضاف إذا كان غير عين بمنزلة العين وذلك إذا أريد به المبالغة وكثرة المعاناة للشيء والمحاولة له يدل على ذلك أنهم قالوا شعر شاعر، وموت مايت، ووتد واتد، فكما جعلوا المعنى الذى هو غير عين فى هذا النحو بمنزلة العين حيث جعلوه فاعلا كذلك جعلوا العين بمنزلة غير العين لاجتماعهما فى المبالغة وكثرة المعاناة قال ابن مقبل:
إذا مت عن ذكر القوافى فلن ترى ... لها شاعرا مثلى أطب وأشعرا
وأكثر بيتا شاعرا ضربت به ... بطون جبال الشعر حين تيسرا
فقال وأكثر بيتا شاعرا فجعل بيت الشعر شاعرا، وفى البيت دلالة أخرى على صحة هذا المعنى: وهو قوله: ضربت به بطون جبال الشعر، فلولا أنه عنده بمنزلة العين ما أضاف إليه ما يضاف إلى الأعيان (1).
(15) وفى الشيرازيات بعد ذلك طائفة صالحة من مسائل البلاغة: وقد استشهد الإمام عبد القاهر الجرجانى بالشيخ أبى على، ونقل نصا من الشيرازيات فى دلائل الإعجاز (2).
وتعليل هذه الاستعانة ميسور فالإمام الجرجانى تلمذ على أبى الحسين ابن أخت أبى على ولا يعرف له أستاذ سواه (3). وقد نشر أبو الحسين ما أخذه عن خاله أثناء طوافه بجرجان.
(16) ويبدو فى الشيرازيات الاستطراد، وأرى أن سبب هذا الاستطراد فى الشيرازيات بخاصة ما أتيح للشيخ من التأنى فى املائها أو جمعها، ثم ما كان عليه الشيخ من علم واسع غزير، وما طبع عليه من قوة الاستحضار، ووفرة الشواهد وظهور تداعى المعانى، فهو إن تحدث مثلا فى إعراب هنيئا من قوله: اشرب هنيئا البيت.
__________
(1) لوحة 5958.
(2) انظر دلائل الاعجاز ص 252وانظر لوحة 68، 105من الشيرازيات.
(3) انظر نزهة الألباء.(1/558)
استحضر قول كثير: هنيئا مريئا غير داء مخامر.
وقول الشاعر:
هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم ... وللعزب المسكين ما يتلمس
وما أنشده أبو اسحاق:
هنيئا للمدينة إذ أهلت ... بأهل الملك أبدأ ثم عادا (1)
والأمثلة على استطراده كثيرة (2).
(17) وفى الشيرازيات كثير من الأصول العامة فى النحو واللغة والمنطق اعتمد عليها أبو على فى الاحتجاج والدليل. وإليك طرفا من هذه الأصول تشير إلى ما شاع فى هذه المسائل منها.
(1) قد يجرون الشيء مجرى النظير (3).
(2) الدعوى إذا عريت من الدلالة، ودفعتها الأصول المقر بها، المجمع عليها لم تصح ولم تثبت (4).
(3) البدل إنما يكون بعض المبدل منه أو يكون هو هو (5).
(4) يحمل على معنى النفى دون لفظه (6).
(5) ليس فى الأسماء المتمكنة اسم على حرف واحد (7).
(6) الجمل لا يخبر عنها إنما يخبر عن المفردات (8).
والنسخة التى اعتمدت عليها تكبير للفلم رقم (932) بمعهد إحياء المخطوطات بالأمانة العامة للجامعة العربية، وهى صورة للنسخة المخطوطة المودعة مكتبة راغب بالآستانة رقم 1379وتاريخها القرن العاشر بخط نسخ حسن مشكول عن نسخة كتبت سنة 391، وعدد أوراقها 157ورقة، وعدد أسطر الصفحة ثمانية عشر سطرا.
وفى ظاهر هذه النسخة ما نصه: قرأ على أبو غالب أحمد بن سابور هذا الكتاب وكتب الحسن بن أحمد الفارسى.
والشيرازيات مقسمة إلى ثلاثة عشر جزءا، وعلى ظاهر كل جزء التوثيق السابق من أبى على لأبى غالب أحمد بن سابور.
__________
(1) انظر لوحة 7776.
(2) انظر مثلا اللوحة 74، 97969585وهى كما ترى صفحات متقاربة.
(3) لوحة 34.
(4) لوحة 52.
(5) لوحة 62.
(6) لوحة 69.
(7) لوحة 87.
(8) لوحة 141.(1/559)
وكل جزء من هذه الأجزاء لا يستقل بما فيه عما قبله وما بعده بل هى تترابط أحيانا. فآخر الجزء الثانى مثلا (فعل) وفاعله فى أول الجزء الثالث.
وآخر الجزء الثامن عبارة: ما أنشده أبو زيد. وفى أول الجزء التاسع: تعوجكم على وأستقيم.
وقد تستقل الأجزاء أحيانا كاستقلال السابع عن الجزءين قبله وبعده: السادس والثامن. واستقلال الحادى عشر كذلك.
هذا وتوجد نسخة من الشيرازيات عتيقة عادية عليها خط أبى على فى خزانة كتب الأمير على (رضى الله عنه) بنجف وأوراقها 299 (1).
ولم يستعن البغدادى بالشيرازيات كثيرا فجملة ما استعان بها مرتان: إحداهما فى الجزء الأول من الخزانة: 515والأخرى فى الجزء الثالث منها: 156 (2).
__________
(1) انظر هامش إقليد الخزانة 101.
(2) انظر إقليد الخزانة 101.(1/560)
من كتاب الشعر
ورد هذا الكتاب بأسماء مختلفة فى كتب التراجم، فالفهرست يذكره باسم «أبيات الإعراب» (1) وكذلك ذكره إرشاد الأريب (2) وبغية الوعاة (3)، أما بروكلمان فقد ذكره باسم «كتاب الشعر» أو العضدى (4).
وجاء فى الجزء الثالث من الحجة: «باسم شرح الأبيات المشكلة الإعراب من الشعر (5). ويبدو أن هذا هو الاسم الكامل للكتاب، فذكره بعض المترجمين مختصرا مرة باسم أبيات الإعراب، وأخرى باسم الشعر.
وقد أخرج جزءا من كتاب الشعر، واشتمل هذا الجزء على «باب فى تقسيم الكلم التى سميت بها الأفعال»، والقدر الذى ورد فيه يلقى ضوءا على منهج أبى على فى تناوله مسائل النحو كما جاء فى هذا الكتاب.
ففي هذا الجزء الذى وصل إلينا قدّم أبو على أولا جملة أبيات يشتمل كل بيت منها على اسم فعل، وكانت هذه الشواهد من شعر الأعشى، وابن كلثوم، والفرزدق، ومما أنشده أبو عبيدة، وأحمد بن يحيى، وعلى بن سليمان (الأخفش) وغيرهم: ثمانية شواهد نسب خمسة منها إلى قائليها ونص فى بيت على أن على بن سليمان هو الذى أنشده، وترك اثنين من غير نسب (6).
ثانيا: ثم تساءل عن هذه الكلمات: «أسماء الأفعال «: أأسماء هى أم أفعال؟
وحكم بأنها أسماء، ودلل على ذلك بأن الضمائر تتصل بها على حد اتصالها بغير الفعل، وضرب مثلا لذلك ب (ها) حيث اتصل الضمير بها فى هاؤما وهاؤم ولم يكن هاءا، وهاءوا كقولك اضربا واضربوا، ولكن كقولك أنتما وأنتم (7).
__________
(1) الفهرست 95.
(2) انظر معجم الأدباء: 7/ 242.
(3) انظر 217.
(4) انظر الجزء الاول 114113وملحق المجلد الاول 176175 (وقد عده كتابا آخر غير الايضاح) مع أنهم يطلقون العضدى أحيانا على الإيضاح.
(5) انظر الحجة 3/ 15نسخة البلدية.
(6) انظر ص 3.
(7) المصدر السابق.(1/561)
ثالثا: ثم أورد اعتراضا بأن الضمير قد يتصل بالفعل على حد ما اتصل بهاؤما وهاؤم، وذلك قولك قمتما وقمتم، تساءل: وهلا لم يدل اتصاله على هذا الوجه عندك أنه اسم إذ قد يتصل بالفعل على ما أريناك (1).
رابعا: وبعد أن رد ذلك الاعتراض أورد اعتراضا آخر بالسؤال الآتى:
هلا زعمت أنها أفعال، لأنه كما اتصل به الضمير على حد ما ذكرته مما يتصل بغير الأفعال فقد اتصل به أيضا على نحو ما يتصل بالفعل، لأن أبا عمر قد حكى أن منهم من يقول: هاءا وهاءوا فهذا مثل أضربا وأضربوا وهلا قلت: أنه يكون اسما تارة وفعلا أخرى؟!
ثم أجاب عن ذلك الاعتراض (2)،
خامسا: وخلص من ذلك إلى أن اتصال الضمير بقولهم هاء فى قول من قال هائيا لا يدل على أنه فعل محض إذ كان للشبه بغيره فى قولهم هات وهاتيا كما أن اتصال الضمير بليس على حد اتصاله بكان لم يجعله مثله وإن كان قد جعل فى الأعمال بمنزلته (3).
سادسا: ثم أسلمه ذلك إلى القضية الآتية والبرهان عليها: «كون ليس على أمثلة الماضى إنما هو شبه لفظى لا حقيقة تحته».
سابعا: ثم استطرد من البرهان على القضية السابقة إلى قضية أخرى: «هذه الأمثلة: أسماء الأفعال، إنما صيغت لتدل على ضروب الزمان، ولولا ذلك لأغنت ألفاظ الأحداث عنها (4)
ثامنا: وبعد أن برهن على القضية السابقة قرر القياس الآتى: تجريد كان وأخواتها للأزمنة، وخلعهم دلالة الحديث عنها كتجريدهم من بعض الكلم الخطاب، وخلعهم معنى الاسم عنه وذلك قولهم ذلك وأولئك، ودلل على هذه القضية (5).
وأسلمه ذلك إلى:
تاسعا: «الكون الذى هو مصدر المثال المستقل بفاعله فى الدلالة على الحدث
__________
(1) انظر ص 4.
(2) انظر ص 4.
(3) انظر ص 5.
(4) انظر ص 6.
(5) الصفحة السابقة.(1/562)
كالكون الذى هو مصدر المثال الذى لا يستقل به (1)، ثم عاد للتدليل على أن «ليس» ليست فعلا على الحقيقة كأخواتها ولذلك لا توصل بها «ما» التى تكون من الفعل فى تقدير المصدر كما وصلوها بأخواتها ألا ترى أنك لا تقول: «ما أحسن ما ليس زيد قائما (2)»، وخلص من هذه القضايا والتدليل عليها إلى إثبات أن ليس قيل فيه أنه فعل للشبه اللفظى.
عاشرا: وانتهى إلى النتيجة الآتية فى ذلك القياس: «كما كان هذا حكم ليس وأن اتصل به الضمير على هذا النحو الذى اتصل كذلك حكم هاء فى قول من قال:
هائيا وهاءوا (3).
ثم بدأ بذكر قضية جديدة، ليأخذ فى التدليل عليها تلك أن قولهم:
«هاؤما وهاؤم من نادر العربية وما لا نظير له».
وهكذا يفتح أبوابا المناقشة والاعتراض والرد فى خلال البراهين على القضية الواحدة.
وبعد أن ينتهى من الدليل الأول على أن أسماء الأفعال أسماء وليست أفعالا يأخذ فى عرض دليل ثان، وهو أن دراك ونزال وتراك لو كانت فعلا لوجب إذا نقلتها فسميت بها شيئا أن تعربها ولا تدعها على بنائها كما هو الشأن فى الأفعال لا يختلف العرب ولا النحويون فى ذلك وإن كان عيسى قد اختلف فى كيفية الإعراب (4).
ثم أخذ فى إيراد الاعتراضات وردها على نحو ما فعل فى الدليل الأول. من هذه الاعتراضات التى أجاب عنها وردها:
(ا) فإن قلت: فهلا قلت أن نحو «دراك» فعل لإعراب بنى تميم من ذلك فى التسمية ما لم يكن آخره راء؟
(ب) فإن قلت: فهلا استدللت بتنوين ما نون من هذا على أنه اسم نحو صه ومه لأن التنوين مما يختص الاسم كما أن دخول لام التعريف كذلك (5)
__________
(1) كان التامة والناقصة.
(2) انظر ص 7.
(3) انظر ص 8.
(4) انظر ص 9.
(5) انظر ص 10.(1/563)
وهكذا يمكن بيان الخطوط الرئيسية فى منهج أبى على كما جاء فى هذا الجزء من كتاب الشعر:
(ا) الاستكثار من الشواهد الشعرية وتقديمها بين يدى البحث، ولعل ذلك كان السبب فى تسمية الكتاب: «كتاب الشعر».
(ب) السبر والتقسيم (القياس الاستثنائى الانفصالى)، والبرهان المنطقى الذى هو أشبه ببراهين المهندسين. وأقدم ما يأتى توضيحا لذلك:
لا تخلو هذه الكلمات: أسماء الأفعال الواردة فى الأبيات: من أن تكون اسما أو فعلا، ولو كان شىء من ذلك فعلا لا تصل الضمير بما اتصل به منها على حد ما يتصل بالأفعال.
فلما اتصل به على حد اتصاله بغير الفعل ثبت أنه اسم وليس بفعل (1).
(ج) كثرة إيراد الاعتراضات وردها. وكثيرا ما يستعمل فى التدليل «القياس مع الفارق (2)».
(د) الأسلوب الجدلى الذى يستلزم من القارئ اليقظة فى تتبع القضايا والأدلة عليها، وإلا انفكت جهة الكلام فى ذهنه فلا يدرى أين هو من الموضوع حيث يخرج من قضية إلى أخرى ومن اعتراض إلى آخر فى استطراد وتفريع.
(هـ) استغلال العروض فى التدليل، فقد تعرض للتنوين فى القوافى فى خاتمة الحديث عن التنوين فى صه.
والجزء الذى وصل إلينا من كتاب الشعر مرآة لثقافة أبى على، وضلاعته فى مسائل النحو، وبراعته فى التدليل والجدال وتشقيق المقال.
هذا والجزء المذكور أخرجه) (وطبع فى) (سنة 1869 وفى قاعة الدراسات الشرقية بمكتبة جامعة القاهرة نسخة منه برقم 675لغة عربية.
وقد أشار إلى هذه النسخة بروكلمان (3).
__________
(1) الشعر 3.
(2) انظر ص 4.
(3) انظر المجلد الأول 114113والملحق 176175.(1/564)
أقسام الأخبار
من المخطوطات المصورة بمعهد إحياء المخطوطات بالأمانة العامة للجامعة العربية كتاب باسم «المجالس المذكورة للعلماء باللغة العربية» وقد نبه واضع الفهرس إلى أن المجالس المذكورة تليها المسائل الآتية:
(1) مسائل من كلام تاج الدين زيد بن الحسن الكندى من ورقة (130 142) فى المجموعة.
(2) مسائل من كلام ابن جنى من ورقة (149143) فى المجموعة.
(3) مسألة لأبى على الفارسى فى الأخبار أولها: الأخبار تنقسم إلى ثمانية أقسام من ورقة (171150) فى المجموعة (1).
دعانى هذا إلى الاطلاع على أفلام هذه المجالس، ثم تصوير ما هو خاص بابن جنى وشيخه أبى على، فرأيت ما يجب أن ينص على تصحيحه:
فمسألة الأخبار التى نص واضع الفهرس على أنها تشمل ورقة (171150) ليست كذلك، بل إن هذا الحيز فى هذه المجموعة يشتمل على المسائل الآتية:
أولا: مسألة الأخبار لأبى على وهى من ورقة (153151) فقط.
ثانيا: يلى المسألة السابقة أربع عشرة مسألة أخرى فى موضوعات سأتناولها بالعرض والتعليق من (170153).
ثالثا: ثم عقد فصل خاص نص على أنه من إملاء على بن عيسى الربعى من (172170).
رابعا: ثم ختمت هذه المسائل بمسألة من كلام أبى الفتح عثمان بن جنى ورقة (172).
ومن هنا كان ما نص عليه واضع الفهرس من أن مسألة الأخبار لأبى على الفارسى تشغل من ملحق كتاب المجالس المذكورة للعلماء الورقات من (171150) يخالف حقيقة الواقع وإنما يتضمن هذا الحيز كل المسائل المذكورة سابقا
بعد هذا التصحيح أعرض لمسألة الأخبار بما يبدو لى من ملاحظ: فأول
__________
(1) انظر فهرس المخطوطات المصورة 369، 372.(1/565)
ما يلحظ فى هذه المسألة ذلك التقسيم المنطقى الجامع للصور العقلية الممكنة: فالأخبار تنقسم على ثمانية أقسام الصحيح السليم، والقبيح النظم القريب من الفهم، والخطأ، والكذب المقرون بدليل الخلل فيه، والكذب العارى من الدليل على موضع عيبه، والمختل، والملغى المقلوب (1).
والكذب ينقسم خمسة أقسام: أحدهن تغيير الحاكى ما يسمع، وقوله ما لا يعلم نقلا ورواية، وقسم آخر يكون كذب فيه أى قال قولا يشبه الكذب والمتكلم به لا يقصد إلا الحق وقسم آخر يكون كذب فيه بمعنى أخطأ وقسم آخر يكون الكذب فيه بمعنى البطول: كذب الرجل بمعنى بطل عليه عمله وما رجى (كذا)، ومعنى آخر للكذب وهو الإغراء ومطالبة المخاطب بلزوم الشيء المذكور (2).
ونجد خلال ذلك التقسيم: الاصطلاحات المنطقية كالحد والقياس والدليل، والفساد والصحة
وهناك سمة أخرى تلك الاستقصاء والاستطراد فى الحديث.
وأخرى: التدليل على ما يقول بالقرآن الكريم (3) (وبالحديث الشريف (4)
والشعر (5) وكلام سيبويه، وما نطقت به العرب من مأثور كلامهم (6).
وكل هذه السمات نتيجتها أن ظهرت شخصية أبى على واضحة فى الاحتجاج والتعليق.
* * * ومسألة أقسام الأخبار فى مجموعها تأخذ طابع البحث اللغوى، ولا يأتى التعرض فيها إلى الصناعة النحوية إلا قليلا يجيء عند تخريج بعض الأساليب: كقوله فى شرح الإغراء من أقسام الكذب:
كقول العرب كذب عليك العسل، يريدون كل العسل، تلخيصه أخطأ تارك العسل ورافضه، فناب المضاف إليه عن المضاف. قال عمر بن الخطاب: «كذب عليكم الحج، وكذب عليكم العمرة، كذب عليكم الجهاد، ثلاثة أسفار كذبن عليكم
__________
(1) انظر لوحة 151.
(2) انظر لوحة 152، 153.
(3) لوحة 152.
(4) لوحة 152.
(5) لوحة 152.
(6) لوحة 153.(1/566)
معناه ألزموا الحج والعمرة والجهاد. والمغرا (كذا) به مرفوع بكذب لا يجوز نصبه، لأن كذب فعل لا بد له من فاعل، وخبر لا يخلو (كذا) من محدث عنه فالفعل والفاعل كلاهما تأويلهما الأمر والإغراء (1).
وكذلك فعل فى تخريج مثال الخبر المقلوب: تهيبتنى الفلاة، وبلغتنى الدار (2).
فإذا تركت المسألة الأولى مسألة أقسام الأخبار إلى المسألة التى تليها وجدت نمطا جديدا من العرض والأسلوب تختفى معهما ما عرف فى أبى على من طريقة عرضه للمسائل، ومما يجعلنى أميل إلى التوقف فى نسبة هذه المسائل إليه ويدعونى إلى ذلك ما يأتى:
(1) رواية أقوال النحاة فى المسألة الواحدة من غير تعليق: يروى أقوال النحويين فى الاعتلال للخفض: لم لم يدخل على الأفعال فقالوا فيه ستة أقوال (3)، وقال النحويون فى الاعتلال لخفة الإسم وثقل الفعل خمسة أقوال (4)، وفى إعراب «فرأيك فى ذلك موفق» عشرة أوجه، وإعراب هذا باب علم ما الكلم «فيه خمسون جوابا. وبعد أن ذكر الوجه الخمسون قيل:
«وقد تبلغ هذه الوجوه ستين، وتزيد على السبعين إذا استقصى التفريع فيها، والذى بين من الأصول فيه غنى عن ذكر ما أمسك عن إيضاحه، وإيثار الاختصار أولى إذا عرفت البغية، وحصلت الفائدة!! كأنه لم يعد الأوجه الخمسين إطالة واستقصاء، فآثر الاختصار وأولاه»!
ومن النادر أن تجد ما عرف عن أبى على من ترجيح رأى على رأى، والاعتراضات وردها غير شائعة فى هذه المسائل ونادرا ما تكون (5).
(2) عدم الحرص على نسبة أقوال النحويين إليهم، وأبو على كما عرفته حريص على أن ينسب إلى كل نحوى قوله. ومن هنا تطالعك أمثال هذه العبارات: «للنحويين فى المرفوع جوابان (6). وقال بعض النحويين (7)، وقال النحويون أو كلهم أو أكثرهم (8) وما هكذا عرف عن أبى على:
(3) موقف المسألة من الشيوخ الذين رأيت أبا على يهاجمهم فى كتبه التى اتصلت بها قراءة ودراسة ففي المسألة التى عقدت لتعليل ثبوت الهاه فى عدد المذكر
__________
(1) لوحة 153.
(2) انظر المصدر السابق.
(3) لوحة 155153.
(4) لوحة 157155.
(5) انظر لوحة 159155.
(6) لوحة 160.
(7) 164162.
(8) 163.(1/567)
من الثلاثة إلى العشرة، وحذفها من عدد المؤنث تعليلات ثلاثة: أحدهن: للفراء، والثانية لأبى حاتم السجستانى والثالثة لمحمد بن يزيد (1).
ترد أقوال هؤلاء الأئمة معترفا بها جميعا من غير تعليق على قول الفراء والمبرد بخاصة وهما الشيخان اللذان اعتدت من أبى على أن يتعقبهما فى أغلب ما رأيت صحيح أنه أورد قولا للمبرد واحتجاجا عليه، ثم لم يدفع هذا الاحتجاج (2)، وهذا معناه اقتناع من جامع هذه الآراء برأى من هاجم المبرد واحتج عليه فيما قال:
(4) ورود أقوال البصريين والكوفيين، ثم الانحياز الظاهر إلى رأى الكوفيين وهو أمر لم أعهده فى أبى على، وإليك نص يكشف عن ذلك: قال البصريون:
«الاسم لا يرفعه إلا ما قبله، لأن الرافع عامل، والمرفوع معمول فيه، ورتبة العامل التقدم على ما يعمل فيه إذا قال القائل: «قام زيد» فالجملة مقامها مقام النجار ومقام قام: الفأس، وزيد بمنزلة الخشبة التى تعمل وتؤثر فيها الفأس. فالضمة فى زيد عملها وأثرها قام كما يؤثر الفأس فى الخشبة الأثر الذى يشاهد ويرى.
قالوا: فمن رفع الاسم بما بعده أحال، لأن الأثر لا يسبق المؤثر كما لا يسبق كسر الخشبة الفأس الذى عمله أحدثها.
وقال بعض الكوفيين: إذا قال القائل قام زيد فمقام زيد مقام النجار ومقام اللسان مقام الفأس والضمة التى فى زيد عملها اللسان لعلة والعلة قام، والدليل على صحة هذا أن اللسان يخالط زيدا كما يخالط الفأس الخشبة، وتتبين عملها للضمة فى الذال بخروج الضمة من طرف اللسان معتمدا على الشفتين، وما يظهر لقام مخالطة لزيد يكون بها التأثير كما خالطت الفأس الخشبة وأثرت فيها وقالوا قولنا قام يرفع زيدا اختصار.
وتقريب على المتعلم، والذى توجبه الحقيقة أن المتكلم يرفع زيدا بلسانه لمعنى وعلة، فعلة الرفع قام والعلة لا ينكر تقدمها وتأخرها إذا كان العامل لا يزايله التقدم (3).
وإذا صرفنا النظر عن هذه العلل الفلسفية.
نرى أن قوله: «وتقريب على المتعلم، والذى توجبه الحقيقة» لا يكشف
__________
(1) لوحة 158.
(2) لوحة 157.
(3) لوحة 165.(1/568)
عن شخصية أبى على، وغاية ما تكشف عنه هذه القولة أن مقررها ينحاز إلى هذا لرأى الذى يراه الكوفيون تمسكا بالحق، وتقريبا على المتعلمين.
(5) خفوت الدفاع عن سيبويه فجامع هذه المسائل يورد أقوال خصوم سيبويه إيراد المسلم بها لا يناقش ولا يعقب ولا يفند وقد رأيت أبا على غير ذلك.
اقرأ مثلا: طعن البصريون والكوفيون على سيبويه فى قوله: «وإنما ذكرت لك ثمانية مجار لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل (وليس شىء منها إلا وهو يزول عنه (1))، وبين ما يبنى عليه الحرف بناء (لا يزول عنه) لغير شىء أحدث ذلك فيه من العوامل التى لكل عامل منها ضرب من اللفظ فى الحرف، وذلك الحرف يسمى حرف الأعراب (2)».
فقالوا: «موضع العيب من هذا أنه قال: لا فرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة ويبين ما يبين عليه الحرف والذى يدخله ضرب من هذه الأربعة هو دال زيد وضمة حيث فتمثيله على التقريب لا فرق بين دال زيد وضمة حيث وهذا خطأ فى الترتيب، لأن دال زيد لا تشبه ضمة حيث ولا يحتاج إلى ايقاع فرق بينهما إذ كانت لا تلتبس بها.
ورد هذا على سيبويه الكوفيون، والأخفش، والمازنى، ومحمد بن يزيد، واحتجوا على سيبويه بأنه فى أول كتابه وهو موضع التعليم والإبانة والكشف والإيضاح، فإذا أضمر فيه ما يشكل على العلماء وأهل الحذق حتى يتنازعوه، فيبطله بعضهم ويصوبه بعضهم كان ترتيبه فى هذا ترتيبا فاسدا إذ جعل أغمض المشكلات حيث ينبغى الكشف (3). اهـ.
وهكذا بلغ الحد بجامع هذه المسائل أن يصف ترتيب سيبويه بالفساد، ويقف أمام الاحتجاج على سيبويه موقف المسالم فلا يدفع الاعتراض.
وأبو على شديد التعصب لسيبويه، يدفع عنه الخصوم، ويرد عنه الهجوم، ويفهم الكتاب فلا يعتاص عليه منه شىء، فلا تخط يمينه أن فى الكتاب مشكلا حيث يجب الوضوح، بله أن يصف ترتيب سيبويه بالفساد!!
__________
(1) ما بين قوسين ساقط والتكملة من الكتاب 1/ 3.
(2) انظر النص فى الكتاب 1/ 3، وما بين القوسين لم يرد فى المسائل المذكورة.
(3) لوحة 166.(1/569)
صحيح أنه ورد قول لسيبويه ثم احتجاج عليه، ثم دفع هذا الاحتجاج: قال سيبويه: «لم يدخل الجزم على الأسماء لتمكنها ولحاق التنوين بها، فلم يدخلوا الجازم على الأسماء فيجمعوا عليه (1) (كذا) ذهاب التنوين والحركة».
ففسروا هذا الكلام بأن الجازم يسقط الحركة والتنوين إذا سقطت الحركة سقط معها فلا يجمع على الاسم سقوط هذين الشيئين منه.
فاحتج على سيبويه بأن العرب لما قالت لم يقم فلان أسقطوا بلم ضمة الميم ثم أسقطوا الواو من أجل سقوط الضمة حيث اجتمع ساكنان فهلا صلح هذا فى الاسم كما أمكن مثله فى الفعل؟
فاحتج أصحابه بأن هذا جاز فى الفعل لثقل الفعل ولم يمكن فى الاسم لخفة الاسم (2).
ولكن يبدو من تضاعيف الانتصار لسيبويه أن محرره ليس أبا على، والحظ قوله «ففسروا هذا الكلام» ثم قوله «احتج أصحابه» وعهدى بأبى على ينسب إليه تفسير كلام سيبويه، ويعد نفسه أول أصحابه فلا يقول: «احتج أصحابه» كما جاء فى النص السابق، وإنما ينسب أبو على إليه هو ما يحتج به لسيبويه يفعل ذلك فى صراحة وتخصيص دون إبهام أو إجمال.
(6) ما يفهم من العبارة التى ختمت بها هذه المسائل إذ نص فيها على أنها منقولة من خط ابن فاخر، وذكر أنه اختارها من جملة تعاليق شيخه ابن شيطا المقرئ.
وكونها مختارات من جملة تعاليق معناه أنها لا تنسب لشخص بعينه فضلا عن أن تنسب لأبى على. هذا وقد يبدو أسلوب أبى على وطريقته فى التناول خلال ما ورد من هذه المسائل من ذلك:
(ا) السير والتقسيم: المضاف إليه لا يخلوا (كذا) من أن يكون مملوكا للمضاف أو مالكا كقولهم سيد العرب وصاحب المال وعبد السيد (3).
(ب) المقايسة: جاء فى هذه المسائل: «ولو فتح المضموم وضم المفتوح لساغ ذلك فى القياس، وجاز، ولم يكن لحنا إلا لخلاف العرب فيما رسمت ورتبت، كما
__________
(1) صوابها عليها.
(2) لوحة 157.
(3) انظر لوحة 154.(1/570)
سموا الفقيه فقيها لفطنته. والنحوى نحويا لقصده نحو لغة العرب، واختلف اللغتان لاختلاف الشخصين الملقبين، ولو قيل للفقيه نحويا لقصده نحو حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) واتباعه ما فرض وسن، ودعى النجوى فقيها لما يفطن له من غامض النحو، ومستصعب علله لم يفسد ذلك بالقياس، لكن التعارف والاستعمال يحظرانه ويبطلانه فضم الفاعل وفتح المفعول للفرق بين معنى الاسمين لا غير (1)».
(ج) وفى النص السابق رأى يحرص عليه أبو على، وتردد فى كتبه المختلفة وهو تقديم السماع على القياس (2).
هذه نصوص تلقى ضوءا على شركة أبى على فى هذه المسائل، وإن كنت قد استظهرت أنها جمعاء لا تنسب إليه، وليس ببعيد أن يكون لأبى على ما فى هذه المسائل من نصوص تتحدث عن أسلوبه، استعان بها جامع هذه المسائل من غير أن ينسبها إلى أبى على كما لم ينسب إلى غيره من النحاة فى أغلب ما قال.
ولم يكن جامع هذه المسائل بعيد العهد عن أبى على، فهى مسائل منقولة من خط أبى الكرم المبارك بن فاخر بن محمد بن يعقوب النحوى وذكر أنه اختارها من جملة تعاليق شيخه أبى الفتح عبد الواحد بن الحسين بن أحمد بن عثمان بن شيطا المقرئ (رحمهما الله (3)).
وأبو الكرم ترجم له السيوطى فى البغية وذكر أنه عاش بين (431 500هـ (4)) وأما ابن شيطا فقد ولد فى أخريات حياة أبى على (ولد سنة 370هـ) وترجم له ابن الجزرى فى غاية النهاية (5).
وأخلص من ذلك إلى تلخيص الحقائق الآتية، بعضها متصل بالشكل، والآخر متصل بالموضوع:
(ا) إن الورقات من (173151) من مخطوطة المجالس المذكورة للعلماء لا تشتمل على مسألة الأخبار وأقسامها وحدها وإنما تشتمل بجانب ذلك
__________
(1) لوحة 161.
(2) انظر ص 225من هذا البحث.
(3) لوحة 170.
(4) انظر البغية ص 384.
(5) انظر 1/ 473.(1/571)
على مسائل أخر، ختمت بمسألتين: احداهما من إملاء الربعى، والأخرى منسوبة لابن جنى.
(ب) مسألة الأخبار صحيحة النسبة إلى أبى على لما يبدو فى أسلوبها من خصائص عرف بها الشيخ فى كتبه الأخرى.
(ج) بقية المسائل مجموعة من كلام النحاة وشخصية أبى على فيها غير واضحة.
(د) بعض ما ورد فى هذه المسائل من الآراء يرجح أنه لأبى على وإن لم ينسب إليه يدل على ذلك ما فى هذه الآراء من خصائص أسلوب الشيخ التى عرفت عنه.
هذا والمجالس المذكورة للعلماء باللغة العربية والتى ورد فى أعقابها مسألة الأخبار لأبى على مخطوطة بخط نسخ جميل، مضبوطة بالشكل، وإن كانت تحتوى على بعض أخطاء هجائية (أشرت إلى بعضها عند الاستشهاد بالنصوص) وهى مصورة بمعهد المخطوطات من مكتبة داماد إبراهيم 775/ 1 (1).
__________
(1) انظر المخطوطات المصورة ص 369.(1/572)
المسائل المنثورة
هى مسائل نحوية وصرفية جمعها فيما يبدو بعض تلاميذ أبى على بعد أن لقى ربه، يؤيد ذلك أنه يتردد فى مواضع مختلفات منها عبارة: قال أبو على (رحمه الله (1)) أو قال شيخنا أبو على (رضى الله عنه (2)) والدعاء بالرحمة أو الرضوان يؤخذ منه أن هذه المسائل جمعت بعد أن انتقل الشيخ إلى جوار ربه، جمعها أحد تلاميذه من كلامه، وذكر فيها آراء الشيخ فى مسائل نحوية وصرفية مختلفة.
ولا ترتبط طائفة من المسائل المنثورة بعضها ببعض (3)، وطائفة أخرى مسائل تتبع بابا معينا كمسائل وردت فى شرح الحال (4) والاستثناء (5) وأى (6) وأعراب الفعل (7) وأم (8) والنداء (9) والممنوع من الصرف (10) والتصغير (11).
ويلحظ أيضا فى ترتيب المسائل المنثورة أن الأجزاء الأولى منها تتصل بمسائل نحوية وأنها ختمت بمسائل فى التصريف.
ولعل هذا التماسك الإجمالى جاء نتيجة لمراجعة أبى على بعض هذه المسائل، وصنع من جمعها من تلاميذه فى بعضها الآخر.
وربما خطر بالبال أن ترتيب هذه المسائل على هذه الصورة يتنافى مع تسميتها بالمنثورة، وليس هناك فى حقيقة الرأى شىء من ذلك، بل إن تسميتها بالمنثورة يؤكد ذلك الترابط ولا ينفيه، ذلك أنها لا تنتسب إلى بلد بعينه إذ يبدو من اسمها أنها ألقيت هنا وهناك، ثم جمعت وروعى عند جمعها هذا الترابط الملحوظ.
أما البغداديات، والبصريات، والشيرازيات. فلا يبدو بين مسائلهن ما يبدو فى المسائل المنثورة من التواصل، لسبب قريب، هو أن هذه المسائل ألقيت فى هذه المدن: سوانح أفكار تخطر، وإجابات عن أسئلة توجه، وحلول لمشكلات تعرض، وتوضيحات لمبهمات تخفى إلى غير ذلك مما لا يكون معه فى الأعم الأغلب وشيجة ماسة، أو تواصل قريب (12).
ومن اليسير أن نتعرف فى المسائل المنثورة على رأى أبى على، ومدى توافقه مع من سبقوه من النحاة أو تخالفه، إذ يرد فى كثير من المسائل المنثورة آراء النحاة الأقدمين ثم رأى أبى على، واحتجاجه لما يقول، ومن هنا كان من السهل أيضا أن تتعرف على شخصية أبى على فى وضوح.
__________
(1) المنثورة لوحة 146143مثلا.
(2) المصدر السابق ولوحة 147.
(3) كالمسائل التى أوردها فى لوحة 152.
(4) لوحة 145.
(5) لوحة 148.
(6) لوحة 153.
(7) لوحة 156.
(8) لوحة 160.
(9) لوحة 162.
(10) لوحة 164.
(11) لوحة 168.
(12) انظر لوحة 166وما بعدها 168.(1/573)
«يطالعك تأييد ما أقول فى كثرة ظاهرة مثلا (1)»
والمسائل المنثورة قليلة الاستطراد، موجزة فى إلمام واشتمال، وكثيرا ما تكون فى اللوحة الواحدة ما يقرب من عشرين مسألة، ولكنها مع اختصارها جامعة فى غير املال.
وربما كان السبب فى هذه الظاهرة أنها مجموعة وليست مملاة فلم يظهر فيها الاستطراد.
وشىء لحظته كذلك فى المنثورة هو أنها عنيت بإعراب الآيات القرآنية، والشواهد الشعرية، والعبارات المألوفة التى تتصل بموضوع واحد مما يعد بذرة لمغنى ابن هشام:
فهو إن تكلم فى أن، وأنّ أورد أرد ما يأتى وتحدث عن أوجه الإعراب فيه:
(ا) تقول يوشك أن يذهب.
(ب) وقال الخليل أريد أن أفعل.
(ج) وأمرت أن أكون.
(د) أيغضب أن أذنا قتيبة جزتا.
(هـ) وتقول: كتبت إليه أن أفعل.
(و) وآخر ما أقول أن لا إله إلا الله.
(ز) وقوله سبحانه وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا (2).
وأن تكلم فى أنّ وإنّ أورد:
(ا) أول ما أقول أنى أحمد الله.
(ب) ليت أن زيدا منطلق.
(ج) قد قاله الناس حتى أنه يقوله وانطلقوا حتى أنه يقول ذلك.
(د) مررت به فإذا أنه يقول ذلك
(هـ) ما قدم علينا أمير إلا أنه مكرم لنا.
(و) وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق.
(ز) وقول كثير: ما أعطيانى ولا سألتهما * إلا وأنى لحاجزى كرمى.
(ح) وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا با الله (3).
وفى كل عبارة من هذه العبارات يورد إعراب أن والأوجه الجائزة فيها مع التدليل، وكذلك فعل عند تحدثه عن إعراب الفعل (4). وتطالعك التعبيرات الآتية مثلا فى المسائل المنثورة:
(ا) مسألة: قال البغداديون: أنها (يقصد أى) استفهام فى قوله: «ثم لننزعن من كل شيعة تشايعوا فقالوا أيهم أشد فجعلوها استفهاما «قال الشيخ: وهذا لا يجوز لأن (5)»
(ب) مسألة: إذا سميت رجلا الذى قلت: لذىّ كما ترى فتحذف الألف واللام، لأنها دخلت للصلة قال: وهذا يقوى مذهب شيخنا أبى على لأنه (6)»
__________
(1) لوحة 149وما حواليها و 161وما حواليها.
(2) لوحة 163.
(3) لوحة 164.
(4) لوحة 157.
(5) لوحة 153.
(6) لوحة 165.(1/574)
وقد رأيت أن هذه التعبيرات تشير إلى أن هذه الآراء لقنها أحد تلاميذ الشيخ وأتى بها مجموعة من المسائل المنثورة. على أن الأفشى من هذه المسائل غفل من تلك الإشارات، فهل كانت هذه المسائل للشيخ ابتداء؟ وإذا كان بعضها من جمع أحد
تلاميذه فمن ذلكم التلميذ؟ وهناك إشارات تدل على أنها لمن يكنى بأبى الطيب وتلك مثلا.
مسألة: قول الشاعر:
دعى ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيب نبئينى
فيقول قائل: «ما» ما معناها؟ و «ذا» ما معناها؟.
قال أبو الطيب: قال شيخنا أبو على معناها الخ (1). «وأخرى: أنشد أبو الطيب قال: أنشدنا أبو على لبعض العرب (2).
فمن أبو الطيب؟ استفتيت كتب التراجم فلم أعلم من يكنى بهذه الكنية ممن اتصلوا بأبى على إلا أبا الطيب اللغوى عبد الواحد بن على، وأبا الطيب المتنبى.
وأبا الطيب محمد بن طويس النصرى.
وكلا الرجلين الأولين توفى فى حياة أبى على، فأبو الطيب اللغوى توفى سنة 351هـ والمتنبى سنة 354، وقد استظهرت أن هذه المسائل كتبت بعد وفاة أبى على وذلك ينفى أن يكون أبو الطيب الذى يرد اسمه فيها أحد هذين الرجلين. ومن هنا أرجح أن يكون محمد بن طويس القصرى ويكنى أبا الطيب هو الذى يتردد اسمه فى المسائل المنثورة وقد كان تلميذا لأبى على. وكان الشيخ يتعشقه وأملى عليه القصريات (3).
وقد استعان الشيخ عبد القادر البغدادى فى خزانته بالمسائل المنثورة (4) مرة فى الجزء الأول (5)، ومثلها فى الرابع (6)، وثلاثا فى الثالث (7)، والباقى وهو عشر فى الجزء الثانى (8).
__________
(1) لوحة 162.
(2) لوحة 164، 167.
(3) انظر معجم الأدباء 18/ 206وبغية الوعاة 50.
(4) انظر إقليد الخزانة 102.
(5) 1/ 9.
(6) 4/ 455.
(7) 1273/ 2068.
(8) 1581511481451159391908887.(1/575)
أبو على والتصريف
فى مجلس ضم أبا جعفر البصير الموصلى وأبا بكر بن شقير وأبا على الفارسى قال أبو جعفر لأبى على: فى أى شىء تنظر يا فتى؟ قال: «فى التصريف فجعل يلقى عليه من المسائل على مذهب البصريين والكوفيين حتى ضجر فهرب أبو على منه إلى النوم وقال: «أريد النوم» فقال هربت يا فتى! فقال: نعم! هربت (1)! ويبدو أن ذلك كان فى أوائل عهد أبى على ولا يرضى أبو على عن موقفه هذا، ويدفعه ذلك إلى الجد فى التصريف، ويبلغ فيه مبلغا جعله يوما يقبل على أصحاب أبى بكر الخياط: أكبرهم سنا وأكبرهم عقلا وأوسعهم علما عند نفسه، فيسأله كيف تبنى من سفرجل مثل عنكبوت فيجيبه مسرعا: سفرروت، وتأخذ أبا على نشوة الطرب وهزة الغلبة فيقوم فى المسجد ويصفق بين الجماعة ويقول: سفرروت! سفرروت! ويخجل أبو بكر مما جرى، ويستحى من أبى على، ويدعو على أصحابه ألا يبارك الله فيهم، ولا يحسن جزاءهم (2)! وهذه الواقعة تمثل مرحلة أخرى من مراحل اشتغال أبى على بالتصريف، ولعلها تكشف عن نضج نظره فيه، وتمكنه منه.
وتعليل براعة أبى على فى التصريف ميسور، فما من شك فى أن تفرد أبى على بكتاب سيبويه، وشدة إكبابه عليه (3)، وعلمه العربية، واتصاله بأبى الحسن الأخفش وله مذاهب فى التصريف (4)، وروايته تصريف المازنى، واقرائه (5)، وقراءته تصريف الفراء (6) كل أولئكم كان من العوامل التى جعلت أبا على يبرع فى التصريف إلى ما ركب الله فيه من عقل حاضر، وحدة خاطر.
هذا وتجد الصرفيات كثيرا فى البغداديات (7) والمنثورة (8) وترى أبا على فى وزنه الكلمات وزنا صرفيا وبيان أصلها يائيا كان أو واويا يسلك السبل الآتية أو بعضا منها:
(ا) فهو يناظر الكلمة الموزونة بكلمة أخرى كما فى وزنه «فم (9)». أصله فوه كثوب وأثواب.
(ب) أو يرجع إلى اشتقاقها كما فى وزنه الأربية حيث قال: تكون أفعوله من
__________
(1) معجم الأدباء: 18/ 203وروضات الجنات: 221.
(2) انظر الخصائص: 4/ 594وما بعدها مخطوط بالخزانة التيمورية 274.
(3) الامتاع: 1/ 131.
(4) انظر الحجة 1/ 190ن مراد ملا.
(5) المنصف: 6.
(6) انظر خزانة الأدب: 2/ 259.
(7) انظر لوحة 5435.
(8) 168166من أبي على.
(9) انظر المخصص: 1/ 134.(1/576)
ربا يربو لارتفاعها على سائر أعضاء الإنسان أو لزيادتها عليه فى الخلقة وإن شئت كان فعلية من الأرب الذى هو بمعنى التوقر (1).
(ج) أو يحتكم إلى الأصول العربية العامة كما فى وزنه ثندؤة حيث قال: «أنها فعللة رباعية، ولا تكون فنعلة، لأن النون لا تزاد ثانية إلا بثبت، ولا تكون فعلؤة لعدم هذا البناء. وأما ثندوة بالفتح وترك الهمزة ففعلوة كترقوة وذلك لكثرة هذا البناء، وأن النون تزاد ثانية إلا بثبت، ولا يجوز همزها مع الفتح، لأنها تكون حينئذ فعلله أو فعلؤة وكلاهما بناء عدم ولا تكون ثندوة فعللة لذلك أيضا، وإن الواو لا تكون أصلا فى الأربعة (2).
وقد ألم ابن جنى بهذا الأصل الأخير فى كتابه مختصر التصريف (3).
(د) أو يعتد مع أصول العربية بما يقوله النظار من أهلها ولا سيما سيبويه وأبى الحسن: قال فى وزن إيّل: فعّل. فإن قال قائل: «وما أنكرت أن يكون إفعلا؟» قيل: «لأنهم يقولون: أيّل، فلو كان إيّل إفعلا لكان أيّل أفعلا وليس فى الكلام أفعل». فإن قلت: «فما أنكرت أن يكون أيل أفعلا ويكون من باب انفحل قيل له: «إن النظار من أهل العربية وغيرهم لا يجعلون ما فيه الإشكال أصلا، أو لا ترى أن أبا الحسن لما أثبت أن فى الكلام فعللا لم يحتج بجندب لأن جندبا قد يكون فنعلا وإنما احتج بجندب إذ ليس فيه ما يوهم الزيادة (4)».
ومثل ذلك وزنه لكلمة امع فى قولهم رجل إمّع وأنه فعّل واستشهد بما قال سيبويه فى إمر (5).
(هـ) أو يعتبر اللام بالفاء فى التصريف، وهذا ما لحظه ابن سيدة وتلكم عبارته التى أوردها فى المخصص بعد أن أورد كلام أبى على فى الأثفية (6).
وأنه يجوز أن يكون من الياء والواو يقال: «جاء يثفوه ويثفيه أى يتبعه وأن يكون من الواو أولى لقولهم جاء يثفه فى هذا المعنى، لأن الياء لا تحذف فى مثل هذا، ولا يلتفت إلى يئس لقلته وشذوذه «قال ابن سيدة» وهذا أقوى ما كان أبو على يروم به حقيقة التصريف أعنى أن يعتبر بإلغاء اللام (7).
(و) ويقابل عدم اعتداد أبى على بالقلة فى النص السابق اعتداده بالكثرة قال:
«همزة سواء منقلبة عن ياء لقولهم فى هذا المعنى سى، ولأن باب طويت أكثر
__________
(1) انظر المخصص: 2/ 8: وانظر وزنه لكلمتى: محجن المخصص: 6/ 74وعليه:
المخصص 2/ 162، 1335.
(2) المخصص 2/ 22وانظر مثلا 2/ 72.
(3) انظر ص 11.
(4) المخصص: 8/ 32.
(5) المخصص: 3/ 51.
(6) انظر الاغفال: 1715رقم 875تفسير.
(7) المخصص: 4/ 142وانظر 16/ 32.(1/577)
من باب القوة والحوة (1). والحمل على الأكثر وصى به أبو الحسن. قال فى مختصر التصريف الملوكى، الثبة الجماعة من الناس وغيرهم والظبة طرف السيف جميعا من الواو حملا على الأكثر بذلك وصى أبو الحسن (2).
(ز) وأحيانا يقلب الأمر على جميع وجوهه مستعملا طريقة السبر والتقسيم كحديثه فى أن الفاء من آوى همزة (3).
(ح) أو يستشهد بما روى، فقد قال: إن الدم محذوف اللام، ولامه ياء، بدليل قوله:
فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين (4)
وقد نقل هذا ابن جنى فى كتابه مختصر التصريف (5).
(ط) وبدهى أن إسناد الفعل إلى المخاطب والمتكلم يدل على أصله اليائى أو الواوى وهو أمر يعرفه المبتدءون.
هذه هى الطرق المختلفة التى يسلكها أبو على فى وزن الكلمات، ومعرفته أصلها اليائى أو الواوى، ولست أزعم أنى حصرت كل ما كان يسلكه أو على فى ذلك، ولكنى ضربت الأمثلة، ونوعت المسالك، ورجعت بعضها على الأصول التى نظر إليها أبو على بمقدار ما أعانتنى عليه النصوص المختلفة التى وردت إلى الشيخ فى كتبه المختلفة أو كتب من نقل عنه واعتمد عليه.
ورأيت ابن جنى يسلك سبيل شيخه فى التصريف، فيتحدث عن بعض الدلائل فى وزن الكلمات (6).
كما أورد فى كتابه مختصر التصريف الملوكى فصلا فى عقود وقوانين ينتفع بها فى التصريف (7).
هذا ومما يتصل بهذا الموضوع هذه المسائل الصرفية التى قصد بها التدريب ورياضة النفس، وامتحان فهم الطالب، كقولهم: «كيف تبنى من كذا مثل كذا» وقد برع أبو على فى هذا الباب، وصار له مذهب خاص فيه (8).
وكان ذلك من الموضوعات التى هاجمها بحق ابن مضاء (9).
__________
(1) المخصص: 15/ 151.
(2) مختصر التصريف 36وانظر قول ابن جنى: وليكن الحكم على الأكثر لا على الأقل وانظر ص 11.
(3) المخصص: 8/ 73وانظر 6/ 1221/ 321.
(4) المخصص: 6/ 92وانظر 3/ 4.
(5) انظر 3736.
(6) انظر مثلا ما يعلم به حال التاء والنون من اصالة أو زيادة فى سر صناعة الاعراب 186تحقيق الاستاذ مصطفى السقا وزملائه.
(7) انظر ص 41وما بعدها.
(8) انظر شرح الجار بردى على الشافية: 1/ 360.
(9) انظر الرد على النحاة: 161الطبعة الأولى 1947م.(1/578)
الباب السادس دراسات مقارنة بين أبى على وأعلام النحاة من معاصريه
كان لانقسام الدولة العباسية إلى دويلات أثره فى تعدد مواطن العلم والتنافس من الأمراء على اجتذاب العلماء كما سبق البيان، وودت كل دويلة لو استأثرت بقادة الفكر وأعلام الأدب، وكان أن تسابق هؤلاء وهؤلاء إلى حضرة أصحاب السلطان هنا وهناك، وحرص كل بحكم الطبيعة ودواعى العيش أن يكون صاحب الحظوة حيثما حل، مما أدى إلى التناقس فالتباغض والتحاسد، وقد تبلر هذا التنافس حول شخصية ملأت الدنيا وشغلت الناس، تلك هى المتنبى:، فكان هناك ما يشبه مذهبين أو مدرستين على حد تعبيرنا الحديث: مدرسة تتعصب للمتنبى، ولها رجالها وأنصارها، وأخرى تتعصب عليه، ولها رجالها وأنصارها كذلك وكان لهذا التعصب مظاهر وآثار سأتناولها بالبيان الذى يلقى الضوء على العلاقة بين الفارسى والبارزين من أهل العلم والأدب فى عصره، وهو ما يمت إلى هذا البحث بحبل متين.
فمن أولئك الذين كانوا يتعصبون للمتنبى؟ ومن الزارّون عليه؟ وأين من هؤلاء وهؤلاء أبو على الفارسى ومن لف لفه؟
تحدثنا كتب التراجم والتاريخ أن من المتعصبين للمتنبى: أبا على الفارسى، وابن جنى وعلى بن عيسى الربعى.
ويقابل هؤلاء ابن خالويه، وأبو فراس، وأبو سعيد السيرافى، وأبو حيان التوحيدى، وعلى بن عيسى الرمانى، والصاحب بن عباد وغيرهم، واجتمع هؤلاء وهؤلاء ببلاط الملوك حينئذ، فدبت الفتنة، وتحرك الشر، وكانوا شيعا وأحزابا يذوق بعضها بأس بعض، ورويت أحاديث تصور ما كان بين الطائفتين من مظاهر
التنافس وآثار الضغينة، كالذى كان بين المتنبى وابن خالويه فى مجلس سيف الدولة (1)، وما كان بين المتنبى وأبى فراس (2).(1/579)
ويقابل هؤلاء ابن خالويه، وأبو فراس، وأبو سعيد السيرافى، وأبو حيان التوحيدى، وعلى بن عيسى الرمانى، والصاحب بن عباد وغيرهم، واجتمع هؤلاء وهؤلاء ببلاط الملوك حينئذ، فدبت الفتنة، وتحرك الشر، وكانوا شيعا وأحزابا يذوق بعضها بأس بعض، ورويت أحاديث تصور ما كان بين الطائفتين من مظاهر
التنافس وآثار الضغينة، كالذى كان بين المتنبى وابن خالويه فى مجلس سيف الدولة (1)، وما كان بين المتنبى وأبى فراس (2).
* * * وكان أبو سعيد السيرافى يحط من شعر المتنبى، ويفضل عليه غيره من الشعراء، أورد ياقوت فى معجمه قال: «فضل أبو سعيد السيرافى قصيدة لشاعر فيها قصيدة لأبى الطيب المتنبى، فقال أبو الحسين محمد المغربى راوية المتنبى، وصاحب كتاب «الانتصار المنبئ عن فضائل المتنبى»: ومن جعل الحكم فى هذا إلى أبى سعيد إنما يحكم فى الشعر الشعراء لا المؤدبة، وبمثل هذا جرت سنة العرب فى القديم، كانت تضرب للنابغة خيمة من أدم بسوق عكاظ، وتأتى الشعراء من سائر الآفاق، فتعرض أشعارها عليه فيحكم لمن أجاد ولو كان أعلم الناس بالنحو أشعرهم لكان أبو على الفسوى أشعر الناس (3).
وتتمثل فى هذا النص الحقائق الآتية:
(1) أبو سعيد السيرافى يتعصب على المتنبى ويزرى بشعره.
(2) أبو الحسين المغربى راوية المتنبى يناصره، ويدافع عنه، ثم:
ايهاجم أبا سعيد السيرافى.
ب ويفضل عليه أبا على الفسوى نصير المتنبى وعارف فضله.
وهكذا تتبلّر الأهواء حول المتنبى أو تنصرف عنه متعصبة له، أو متزرية به.
وهذا ابن الدهان شارح كتاب اللمع لابن جنى يرى رأى الفارسى ويرجحه (4)
ويتعقب السيرافى ويفسد رأيه (5).
ولأبى حيان التوحيدى تلميذ السيرافى «الرد على ابن جنى فى شعر المتنبى، ذكره ياقوت فى معجمه، وابن عساكر فى عيون التواريخ (6).
* * * __________
(1) انظر الصبح المنبئ 44، 45والتبيان للعكبرى 2/ 75.
(2) انظر الصبح المنبئ 45.
(3) معجم الأدباء لياقوت 8/ 189188ط دار المأمون.
(4) انظر 1/ 15، 16، 37، 187.
(5) انظر شرح اللمع لابن الدهان 1/ 15.
(6) انظر النسخة المخطوطة بدار الكتب رقم 1497.(1/580)
وكل طائفة سواء أكانت متعصبة للمتنبى أم زارية عليه تحتفل بمن تكره المدرسة الأخرى، ولا يصفو رجالها لرجال هذه الطائفة: فالفارسى يعجب بالمتنبى (1)
ويهاجم ابن خالويه الرازي عليه (2)، ويؤلف الفارسى نقض الهاذور على ابن خالويه (3)، وفى تغليطه (4)، وتعقيبات ابن خالويه على الفارسى معروفة (5)، ومجالس الجدل وما جرى بينهما من كلام تعرض لها ابن الأنبارى (6)، ودون طرفا منها أبو على فى رسائله إلى سيف الدولة (7)، وابن خالويه يحتفل بأبى فراس خصم المتنبى (8)، فيتولى شرح ديوانه، وأبو حيان يضع من الفارسى فيذكره بالتخالع، كما يضع من المتنبى فيرد على ابن جنى فى شعر المتنبى وبرفع كلا من السيرافى (9) والرمانى (10)، والسيرافى ينتصر لابن خالويه على الفارسى (11)، والبديهى الشاعر يذم الرمانى (12)، وينتصر أبو حيان للرمانى فيتهم البديهى بأنه مفسول الشعر على حين كان البديهى مقدما عند الصاحب بن عباد (13). والصاحب على صلة من الود مع أبى على الفارسى (14)، والفارسى يعد نحوه هو النحو، ولا شىء منه عند الرمانى (15)، وكل من ابن جنى والربعى يحتفل بالمتنبى فيشرح ديوانه، وهكذا تطرد هذه الظاهرة التفافا نحو المتنبى، أو تفرقا عنه، إلا الصاحب بن عباد الذى ساءت العلاقة بينه وبين كل من المتنبى وخصمه أبى حيان معا فهو يكره المتنبى ويؤلف ضده ويكشف عن مساويه (16)، على حين أن أبا حيان يثلب الصاحب فيؤلف فيه وفى أبى الفضل بن العميد «مثالب الوزيرين (17)» كما رد على ابن جنى فى شعر المتنبى. ولكن الظروف هى التى سلخت الصاحب من المدرسة المتعصبة للمتنبى، أو قل: «إن كبرياء المتنبى وشموخه بأنفه
__________
(1) نزهة الألباء 201.
(2) الصبح المنبئ 45.
(3) خزانة الأدب 1/ 11.
(4) الفلاكة والمفلوكون 102.
(5) المزهر 2/ 227.
(6) نزهة الألباء 258.
(7) المسائل الحلبيات 33ظهر.
(8) الصبح المنبئ 45وما بعدها.
(9) معجم الادباء 8/ 152.
(10) الامتاع والمؤانسة 128.
(11) إنباه الرواة 1ترجمة الفارسى (ونص عبارة ابن مكتوم فى تلخيص أخبار النحويين واللغويين فى ترجمة ابن خالويه: كان ينتصر له أبو على الفارسى، وقد زيدت كلمة (أبو) بين الكلمتين له والضمير فيه يعود على السيرافى والفارسى وقد رجعت إلى إنباه الرواة وهو ما لخصه ابن مكتوم فوجدت العبارة صريحة فى أن السيرافى كان ينتصر لابن خالويه على الفارسى.
(12) البصائر والذخائر 141.
(13) يتيمة الدهر 3/ 38.
(14) معجم الادباء 7/ 249.
(15) نزهة الالباء 211.
(16) معجم الادباء 6/ 260.
(17) أبو حيان التوحيدى 190وما بعدها.(1/581)
على الصاحب هى التى خلقت من هذا الأخير عدوا للمتنبى، يذكر له سيئاته، ويطوى عنه حسناته» (1).
ولو جرى الأمر كما كان يهوى ابن عباد لانعقدت بينهما المودة كما تأكدت بين المتنبى وابن العميد الذى مدحه الشاعر باللسان العربى، والرأى الفلسفى واصطناعه ما يصطنع الفارسيون فى الأعياد.
ثم انتقل إلى تحقيق رأى أبى حيان فى كل من السيرافى والفارسى، ثم رأى الفارسى فى نحو كل من الرمانى (2) والزجاجى:
(ا) «مناقشة رأى أبى حيان فى كل من السيرافى وأبى على الفارسى».
رأينا كيف كان أبو حيان التوحيدى متعصبا لأبى سعيد، وربما كان من أسباب هذا التعصب أن أبا سعيد أستاذ لأبى حيان، وقد حفظ أبو حيان لهذه الأستاذية قدرها، فهو لا يذكر أبا سعيد إلا فى إجلال وإفاضة فى الثناء، كأن يقول مثلا:
«حدثنى أبو سعيد السيرافى: «وهمك من رجل، وناهيك من عالم، وشرعك من صدوق (3)
أو يقول عنه: «وهو اليوم عالم العالم، وشيخ الدنيا، ومقنع أهل الأرض (4)» أو هو «شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل (5)، ويروى عن أبى سليمان أنه قال عن جواب أسمعه إياه أبو حيان من كلام أبى سعيد: «هذا حسن مقبول، ويدل على أن ما سمعته من هذا الشيخ غيض من فيض، وشرارة من حريق» (6)، فأنت ترى أن أبا حيان يعلو بشيخه أبى سعيد حتى بفضله على جميع العلماء فى عصره، وأنه فى فضله منقطع النظير، وبدهى أن أبا على الفارسى المعاصر فى زمرة هؤلاء العلماء الذين يفضلهم السيرافى.
* * * وإلى جانب هذه الأستاذية سبب آخر يدفع أبا حيان إلى تفضيل أبى سعيد ذلك أن أبا سعيد: «أروى فى الحديث» (7)، والمحدثون كانوا يعدون أكبر العلماء شأنا، بل كانوا يعدون من أعظم رجال الإسلام» (8)، ومن هنا كان الاهتمام بسماع الحديث كبيرا حتى حكوا أن الحميدى المحدث المشهور كان أبوه
__________
(1) انظر الصبح المنبئ 180.
(2) ديوان المتنبى.
(3) المقايسات 52.
(4) المقايسات 75.
(5) معجم الادباء 8/ 152.
(6) المقايسات 176.
(7) الامتاع 1/ 32.
(8) الحضارة الاسلامية 1/ 316.(1/582)
يحمله صغيرا على كتفه إلى مجلس الحديث (1)
وكان السيرافى أشبه بالمحافظين، يروى ما يسمع، ويحفظ ما يروى على كثرة ما يروى وما يحفظ فى ثقة وأمانة (2)، وقد كان أبو حيان يناصر أصحاب الأثر والرواية، ويفضلهم على المتكلمين أصحاب الرأى والقياس (3)، وكان يرى رأى شيخه أبى سليمان المنطقى الذى قال: «إن الدين موضوع على القبول والتسليم، والمبالغة فى التعظيم، وليس فيه لم، ولا، وكيف، إلا بقدر ما يؤكد أصله، ويشد أزره، وينفى عارض السوء عنه، لأن ما زاد على هذا يوهن الأصل بالشك ويقدح فى القرع بالتهمة (4) «ذلك كله بعض ما قرب أبا سعيد إلى أبى حيان وأبعد الفارسى عنه، وقد لف لف أبى حيان الشيخ أبو منصور موهوب بن الخضر الجواليقي» فقلما كان ينبل عنده ممارس للصناعة النحوية، ولو طال فيها باعه، ما لم يتمكن من علم الرواية، وما تشتمل عليه ضروبها ولهذا كان مقدما لأبى سعيد السيرافى على أبى على الفارسى (رحمهما الله)، ويقول: «أبو سعيد أروى من أبى على، وأكثر تحققا بالرواية وأثرى منه فيها» (5).
والحق أن أبا على لم يكن خلو الوفاض من الرواية، بل كان له فيها سابقة، وربما ترك هذا تهيبا واستحياء، وقد كان يبلغ من ورع البعض أن يتهيب رواية الحديث (6). وقد بينت فى فصل سابق كيف كان أبو على محدثا. وقد روى عن الزجاج كتاب الابانة والتفهيم عن معنى بسم الله الرحمن الرحيم (7).
وقد ذكر أبو على مع أولئك الذين سمعوا، ورووا، وأخذ عنهم: فالخطيب البغدادى يذكر أن أبا على سمع على بن الحسين بن معدان (صاحب إسحاق بن راهويه) (8).
وقد روى عن أبى على التنوخى والجوهرى (9) وربما كان مظهر تورعه
__________
(1) المصدر السابق 1/ 303.
(2) ظهر الإسلام 1/ 243.
(3) أبو حيان التوحيدى 147.
(4) الإمتاع 3/ 187.
(5) معجم الأدباء 7/ 254.
(6) الحضارة الإسلامية 1/ 301.
(7) انظر المخطوطة رقم 67ش نحو ضمن مجموعة الصفحة الأخيرة من هذه المجموعة.
وفى الأمانة العامة للجامعة العربية (معهد إحياء المخطوطات) كتاب الخيل للأصمعى رواية أبى على الفارسى عن اليزيدى عن عبد الرحمن ابن أخى الاصمعى عن الاصمعى فى ورقة 47ف 786.
(8) تاريخ بغداد 7/ 275.
(9) لسان الميزان 2/ 195.(1/583)
أن المترجمين له يصفونه بالصدق فى نفسه (1)، وقد كان أبو على يقول: «قد سمعت الكثير فى أول الأمر، وكنت أستحى أن أقول: «اثبتوا اسمى» (2)، وجاء فى كتابه الحجة ما يدل على تحديثه قال: «حدثنا الكندى قال:» حدثنا المؤمل قال:
«حدثنا إسماعيل بن عليه عن أبى رجاء قال سمعت عكرمة يقول: «ولا تمنن تستكثر» قال: «لا تعط شيئا لتعطى أكثر منه (3).» وقال أبو على الفارسى فيما روى ابن جنى عنه: «أخطئ فى خمسين مسألة فيما به الرواية ويجعلها صاحب الروضات مائة (4)، ولا أخطئ فى واحدة من القياس (5)» ليس معناه أنه ضعيف فى الرواية أو اللغة، بل على العكس من ذلك هو دليل كما أفهم على تضلعه فيهما، ذلك أنه لا يستطيع أنه يقيس قياسا صحيحا إلا إذا كان واسع الدراية مما فيه الرواية، قال الشيخ أبو محمد بن الخشاب «وكثيرا ما تحصى السقطات على الحذاق من أهل الصناعة النحوية، لتقصيرهم فى هذا الباب باب الرواية فمنه يذهبون، من جهته يؤتون (6)» ولعل أبا على أراد بعبارته أن يبرهن على براعته فى القياس، وتمرسه به، وقد كان فى عصر يقدر فيه من يعرف خفى القياس، وصحيح البرهان، وسر الكلام، ويعدونه من خاصة الخاصة (7).
ثم انتقل إلى مناقشة جانب آخر من أسباب تفضيل أبى سعيد، وذلك علم أبى سعيد ويتجلى فى:
(ا) «شرحه الكتاب» (8) والحق أن تفسير أبى سعيد السيرافى للكتاب على هذه الصورة الجامعة من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته يعد مفخرة (9)، ولقد قال أبو حيان إن أصحابه حدثوه بأن أبا على اشترى شرح أبى سعيد فى الأهواز فى توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستين (10)، قال: وهذا حديث مشهور، وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من زعم أنه أراد النقض عليه، وإظهار الخطأ فيه (11) «، وليس بعيدا أن يحرص أبو على على شرح أبى سعيد،
__________
(1) المنتظم لابن الجوزى ج 5وفيات سنة 377هـ وانظر معجم الأدباء 7/ 253.
(2) معجم الأدباء 7/ 255.
(3) الحجة 3/ 30نسخه البلدية.
(4) انظر روضات الجنات 219.
(5) نزهة الألباء 210.
(6) معجم الأدباء 7/ 255.
(7) الامتاع 1/ 117.
(8) الإمتاع 1/ 131.
(9) انظر مثلا ج 2ج 1/ 131130128ص 6362.
(10) أى وثلاثمائة.
(11) الإمتاع 1/ 131.(1/584)
فيشتريه، فما ذلك بضائر أبا على، بل هو آية على حبه للعلم، ودليل على اتصاله بالنشاط الفكرى فى البحوث النحوية ولا سيما «الكتاب»، ولو عرفنا مقدار حب أبى على لسيبويه، وإجلاله له لم تستبعد حرصه على شراء تفسير أبى سعيد للكتاب، ولست بذاهب إلى ما ذهب إليه أصحاب أبى على من إبائهم الإقرار بواقعة الشراء، أو أنه اشتراه لينقض على أبى سعيد ويظهر الخطأ فى شرحه فلم يتعرض أبو على لشىء من ذلك فيما أعلم ولو كان لكبر أصحاب أبى على به وهللوا (1).
ولئن كان أبو سعيد قد شغل بشرح الكتاب إن أبا على شغل بالاحتجاج لكتاب الله وجاء كتاب الحجة دليلا على تفرد الفارسى بكتاب سيبويه، وشدة إكبابه عليه، كما يقول أبو حيان، وكانت الحجة شرحا للكتاب، واحتجاجا به، واعتمادا عليه، واستفادة بما فيه، وقياسا على أقوال سيبويه، كما بينت ذلك من قبل (2).
ولست أدرى لم أغفل أبو حيان كتاب الحجة، مع أن هذا الحديث الذى يرويه عن المفاضلة بين الرجلين كان فيما بين سنتى (375373) هـ وهى مدة وزارة ابن سعدان لصمصام الدولة البويهى بن عضد الدولة، (3) وقد ألف أبو على الفارسى كتاب الحجة لعضد الدولة كما ذكر ذلك فى المقدمة (4)، ومعنى ذلك أن كتاب الحجة مؤلف قطعا قبل سنة 373هـ، وهى السنة التى توفى فيها عضد الدولة (5)، وليس هناك من تفسير لإغفال أبى حيان ذكر كتاب الحجة إلا أنه أراد أن يطوى مفخرة عظمى من مفاخر أبى على وهو يتحدث موازنا بين الإمامين (الفارسى والسيرافى)، ويتحيز فى وضوح لأبى سعيد وإلا فكيف يقول: «ولأبى على أطراف من الكلام فى مسائل أجاد فيما ولم يأتل، ولكنه قعد على الكتاب على النظم المعروف» (6)، فيذكر مسائله، ويغفل الحجة؟
ولست أدرى! أكان للفارسى كتاب بشرح الكتاب؟ لم تتعرض كتب التراجم فيما أعلم لشىء من ذلك، كما تتعرض له فهارس الوراقين أمثال الفهرست
__________
(1) الإمتاع 1/ 132.
(2) وعلى سبيل المثال انظر الحجة 1/ 5351، 191136نسخة البلدية.
(3) الإمتاع والمؤانسة ح، ف المقدمة وذيل تجارب الأمم 85.
(4) انظر ص 1من كتاب الحجة.
(5) انظر شذرات الذهب 3/ 79.
(6) الإمتاع 1/ 131.(1/585)
لابن النديم، أو كشف الظنون، ولكنى وجدت فى حاشية الأمير على المغنى ما نصه:
«رد الشارح بأن أبا على الفارسى نص فى شرح كتاب سيبويه على أن الواو تأتى للإباحة قال: «كرجل أنكر على ولده مجالسة أهل الريب والزيغ فقال له: «دع مجالسة هؤلاء، وجالس الفقهاء والقراء وأهل الحديث أو قال: «جالس الفقهاء أو القراء أو أهل الحديث فذلك كله بمعنى» (1)
وأبو على بعد ذلك بصير بالكتاب، دقيق الفهم له، حل مشكلاته، وجلى غوامضه بالإيضاح.
(ب) كما يعتمد أبو حيان فى تفضيل السيرافى على أنه عالم فى كل فن: (2) فكان يقرأ عليه القرآن، والفقه، والشروط، والفرائض، والنحو، واللغة، والعروض، والقوافى، والحساب والهندسة والحديث، والأخيار، وهو فى كل هكذا إما فى الغاية، وإما فى الوسط» (3)، وعلى الرغم من اتفاق أبى سعيد والفارسى فى الشيوخ، فكلاهما قرأ القرآن على ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على أبى بكر بن السراج (4)، وأبى بكر مبرمان (5) وأن أبا سعيد كان متقدما فى عدة فنون كان الناس يشتغلون عليه بها (6)، ويظهر كذلك أن أبا على لم يبلغ مبلغ أبى سعيد فى ذلك، ولو كان لظهر أثره فيما خلف من تراث علمى، فمؤلفاته تدل على تأثره بالمنطق، كما تدل على أن له قدما راسخة فى النحو والعروض كما بينت ذلك عند الكلام على ثقافته، ثم هو قد قرئ عليه القرآن، كما قرئ على أبى سعيد، وورد اسمه فى طبقات القراء، وقد روى القراءة عنه عرضا عبد الملك بن النهران (7)
إلا أن الإنصاف يدعونى إلى تقرير أنه تخلف عن أبى سعيد فى الشعر، فقد كان أبو على يغبط الشعراء على قول الشعر ولا يواتيه الطبع (8)، على حين أن لأبى سعيد هبة فيه (9). كما يبدو أن أبا على تخلف كذلك عن أبى سعيد فى الفقه والقرائن، ومشاركة أبى على فى هذا ضئيلة نادرة (10) ويظهر أن اشتغال أبى سعيد بالقضاء
__________
(1) حاشية الأمير على المغنى 1/ 67.
(2) انظر إنباه الرواة 2/ 228أبيات أبى الحسن الاندلسى.
(3) الإمتاع 1/ 133.
(4) وفيات الأعيان 1/ 360.
(5) نزهة الألباء 206.
(6) وفيات الأعيان 1/ 360.
(7) طبقات القراء 1/ 207.
(8) شذرات الذهب 3/ 89.
(9) وفيات الأعيان 1/ 361.
(10) انظر الكلمة الخاصة بذلك فى الفصل الخاص: بأبى على والشعر.(1/586)
مكنه من الافتاء (1)، وجعله مقدما على أبى على. ومن قول الزبيدى فى الطبقات:
كان أبو سعيد ينتحل العلم بالمجسطى وإقليدس، والمنطق (2): وأستنتج أنه لم يكن فى الدرجة العالية فى هذه العلوم، نعم، وكما قال أبو حيان: «وهو فى كل هذا يشير إلى فروع العلم المختلفة التى عددها إما فى الغاية وإما فى الوسط (3). وإذ كان أبو حيان متعصبا لأبى سعيد، فلا شك فى أن بعبارته هذه تزيدا، ولعله كان فى بعض فروع العلم دون الوسط. فكلمة «ينتحل» فى عبارة الزبيدى توحى بما كان عليه أبو سعيد من قرب الغور، وقلة التعمق، فى هذه العلوم، وربما انتحل ذلك استكمالا لآلة المنافسة والجدل بينه وبين رئيس المنطقيين فى عصره أبى بشر متى بن يونس (4). ولكن ذلك على كل حال ليس بغاضّ من قدر الرجل أبى سعيد، أو منتقص حقه من التقدير والتوثيق.
أما أن الفارسى لم يتجاوز فى اللغة كتب أبى زيد، وأطرافا مما لغيره فصحيح، ويظهر ذلك من استعانة أبى على بأبى زيد فى كثرة (5)، واستشهاده بما ورد فى نوادره وتوثيقه له فى تحمس واعتزاز (6). ويبدو أن أبا على تخلف كذلك فى هذا المضمار، فهو وإن كانت له شخصية لغوية لم يرتفع إلى الدرجة التى يعد بها بين اللغويين، وهذا الزبيدى يذكر السيرافى بين اللغويين، على حين لا يعد الفارسى منهم (7).
ويبدو أن شغل الفارسى كان بالكتاب يدرسه قال العبدى: وعهدى بنفسى حاضرا مجلس هذا الشيخ يعنى أبا على وهناك من يقرأ كتاب سيبويه دون غيره من المتوسطات ثلاثون رجلا وأكثر، ما فيهم إلا من يطلق عليه اسم العامل ثم ما يحسنونه من اللغة والشعر غير مذكور، ومجلس الشيخ أبى سعيد الحسن ابن عبد الله السيرافى وعدد أهل المجلس ومن معنا السبق للقراءة يزيدون على المائة (8).» ويفهم من هذا النص أيضا أن السيرافى أعلى مكانة من أبى على إذ كان مجلسه أكثر ازدحاما والطلبة عليه أشد إقبالا (9).
__________
(1) شذرات الذهب 3/ 65.
(2) طبقات الزبيدى 130.
(3) الإمتاع 1/ 133.
(4) الفهرست 368.
(5) انظر مثلا الحجة 1/ 54، 57، 203نسخة البلدية.
(6) انظر مثلا الحجة 1/ 271، 1/ 305نسخة البلدية.
(7) طبقات اللغويين والنحاة 202.
(8) إنباه الرواة 2/ 388387.
(9) وانظر الحلبيات 5نحوش 33ظهر.(1/587)
وقد كان هناك مجال ظهر فيه فضل أبى سعيد، ذلك ما كان بينه وبين متى بن يونس من المناظرة المشهورة، وسبب شهرتها أنها كانت بين علمين: أحدهما نحوى، والآخر رئيس المناطقة فى عصره: هو أبو بشر متى بن يونس (1)، ثم كانت فى مجلس وزير يهتم بمجالسة العلماء والمشاركة فى فنونهم هو ابن الفرات (2)، ثم كانت كذلك على ملأ من الناس الأعلام، وفيهم الخالدى وابن الأخشاد
وقدامة بن جعفر، والزهرى وعلى بن عيسى الجراح، وابن يحيى العلوى، وزاد من أهميتها وذيوع فضل صاحب الفلج فيها أن حضرها رسول ابن طغج من مصر، والمرزبانى صاحب آل سامان (3).
وموضوع المناظرة التى وقعت بين السيرافى ومتى ما كان يقوله متى: «لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، فاطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه (4)».
وقد رغب ابن الفرات إلى مجالسيه فى مناظرة متى، فتزامروا، وتغامزوا، واعتذر السيرافى من تغامزهم وتزامرهم، فقال الوزير: «أنت لها يا أبا سعيد! فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع إلى الجماعة بفضلك».
وهكذا هاج ابن الفرات أبا سعيد، وأغراه بمحاجة أبى بشر، وبان منذ اللحظة الأولى تحيز ابن الفرات للسيرافى، وتعصبه له على متى بن يونس، وواجه السيرافى متى قائلا: «حدثنى عن المنطق ما تعنى به». وعرف متى المنطق تعريفا مضمونه أنه «ما يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه»، وخطأه أبو سعيد زاعما أن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف، والإعراب المعروف عند المتكلمين بالعربية» (5).
وقد اشتغل أبو سعيد ضعف «متى» فى العربية، فأصلاه نارا حامية،
__________
(1) الفهرست 368.
(2) الإمتاع 1/ 108.
(3) المصدر السابق.
(4) الإمتاع 1/ 108، وياقوت 8/ 190والمقابسات 68.
(5) الإمتاع 1/ 111.(1/588)
فأبو سعيد يجول به فى ميادين النحو جولات يضيق بها صدره. ويتعصب متى ليونان، وأنهم أصحاب عناية بالحكمة، وينكر أبو سعيد ما لهم من فضل، ويقرر أن العلم مبثوث فى العالم، والصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض، ويسأله عن حرف واحد دائر فى كلام العرب هو الواو، ومعانيه متميزة عند أهل العقل (1) ويدعوه أن يستخرج معانيه من ناحية منطق ارسطاطاليس الذى يدل به، ويباهى بتفخيمه: فيبهت متى، ويقرر أنه لا حاجة بالمنطق إليه، وبالنحوى حاجة شديدة إلى المنطق (2)، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ (3)، ويندفع السيرافى مبرهنا على أن النحوى كالمنطقى ينظر فى المعنى كما ينظر فى اللفظ (4)
وضرب أبو سعيد مثلا بالكندى وتعلقه بالمنطق، وما جره عليه ذلك التعلق من شرور تشمت العدو، وتغم الصديق».
وهكذا يجتمع على «متى» ضعفه فى النحو، وتعصب ابن الفرات عليه، ذلك التعصب البادى فى كثير من عباراته، ورباطة جأش أبى سعيد، وتصرف لسانه، وفيض بنانه، وانثيال خواطره، وتلجلج مناظره، وتسجيل المجلس ذلك فى الواحه ومحابره، فيتقوض الجمع وقد حاك السيرافى طرازا لا يبليه الزمان، ولا يتطرق إليه الحدثان.
وحق على أبى على الفارسى وقد حدث بما كان أن يكتم الحسد لنظيره أبى سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور».
ذلكم موقف من المواقف التى رفعت ذكر أبى سعيد السيرافى، وإن كانت الفرصة لم تتح لأبى على الفارسى أن يحضر هذا المجلس، ولعله لو حضر لكان له فيه مجال، ولقال وهو الجدل وصال فى ذلك الميدان، ولكنها الأقدار تؤاتى بعضا وتعرض عن بعض، ولله فى خلقه شئون!
هذا وقد فضل أبو سعيد على أبى على بما اشتهر عنه من خلق كريم، فأبو سعيد زاهد متأله، متحرج (5)، يأكل من كسب نفسه، جميل الطريقة حسن الأخلاق (6)، يصوم الدهر، ويصلى فى جماعة (7)، وربما كان لتوليه منصب القضاء ببغداد،
__________
(1) الإمتاع 1/ 112.
(2) الإمتاع 1/ 114.
(3) المقابسات 74.
(4) الإمتاع 1/ 118.
(5) الإمتاع 2/ 177.
(6) نزهة الألباء 206ووفيات الأعيان 360.
(7) الإمتاع 1/ 132.(1/589)
والإفتاء فى جامع الرصافة خمسين سنة (1)، أثر فى ذلك كله، أما فيما يتعلق بأبى على الفارسى فلم يتناقل المترجمون ما ذكره أبو حيان من أنه كان يشرب ويتخالع، ويفارق هدى أهل العلم، وطريقة الربانيين، وعادة المتنسكين، ولا تعيننا النصوص الصريحة على تأييد ذلك، اللهم إلا ما ذكره ياقوت فى معجم الأدباء مما يدل على عدم الوفاء، (2) وقد ناقشت هذه الرواية فى الفصل المعقود لأخلاقه.
وبعد: فانا مع ابن حيان فى تفضيل أبى سعيد السيرافى على أبى على الفارسى لما له من خلق كريم، ولما اختص به من شرح الكتاب، ولأنه ارتفع فى هذه الدنيا بعلمه، فلم يعرف أنه اتصل بملك يعلى ذكره، وينشر فى الآفاق خبره كأبى على الفارسى وقد جعل ابن جنى الاتصال بالملوك مشغلة عن العلم والتفكير فيه (3)، فالسيرافى أشبه بالرجل العصامى الذى يبنى مجده معتمدا على جده.
ولكنى لا أهبط بأبى على إلى الدرك الذى أنزله به أبو حيان، فأبو حيان ينظر إليه بعين متعصبة عليه، معصوبة عن فضله، وإذا كان لأبى سعيد شرح الكتاب وكانت له إلى جانبه مشاركة جيدة فى الفقه والفرائض والإفتاء والقضاء ونظم القريض، وعده معاصره الزبيدى بين اللغويين، كما ظفر بالفلج على متى بن يونس رئيس المنطقيين، إذا كان لأبى سعيد ذلك فإن أبا على له الحجة، وهو كتاب جامع لفروع شتى من العربية. والثقافة الإسلامية، ومن أجله طلب أبو العلاء المعرى فى رسالة الغفران من أولئك الذين امترسوا بأبى على يوم القيامة ألا يعنتوه، فإنه يمت بكتابه فى القرآن المعروف (بكتاب الحجة) (4)، وناهيك بها إشارة ترفع الشيخ درجات، وتحط عنه ما لحق به من أو زار وهنات، وقد كتب الله على نفسه «إن الحسنات يذهبن السيئات».
__________
(1) ياقوت 8/ 150.
(2) معجم الأدباء 7/ 255.
(3) الخصائص 1/ 286.
(4) رسالة الغفران 154.(1/590)
(ب) أبو على الفارسى وعلى بن عيسى الرمانى
كان أبو على الفارسى يضع نفسه بحق بين المجتهدين، ويرتفع بها عن المعاصرين له من شيوخه العلماء وممن هم فى طبقته، واشتركوا معه فى الأخذ من أساتذته، ومن هنا يتعقب الزجاج فى الأغفال وابن السراج فى الاحتجاج كما يتتبع أبا على الجبائى فى التفسير كما يتعرض للرمانى والزجاجى، وقد أفردت حديثا عن الإغفال، ووازنت بينه وبين ابن السراج فى الاحتجاج، وهنا أحقق قولته فى نحو الرمانى ثم الزجاجى (1).
تنص كتب التراجم على أن أبا على الفارسى قال «لو كان النحو ما يقوله الرمانى لم يكن معنا منه شىء ولو كان النحو ما نقوله لم يكن معه منه شىء (2)، والباحثون يفسرون قول الفارسى على أنه تصوير لمنهج الرمانى فى تناوله المسائل النحوية، وأنه كان يمزج نحوه بالمنطق، وتناقل الباحثون ذلك التفسير يتخذونه دليلا على شيوع الفلسفة فى النحو، وذيوع قضايا المنطق فيه، ويستشهدون بهذه العبارة مؤيدين رأى الفارسى فى نحو الرمانى، وما اتسم به منهجه من النزعة المنطقية والفلسفية (3) (4)، وقد انتقل ذلك التفسير إلى الباحثين الغربيين فهذا فى كتابه الأدب العربى يحدثنا أن الرمانى كان مغرما بالمسائل النحوية العويصة حتى قال فيه أبو على الفارسى إن كان النحو (5) الخ
والعبارة وما تدل عليه فى حاجة إلى تحقيق وتعليق يقومان على ما ترك الرمانى من أثر فى علم النحو، لا على ما ترويه كتب التراجم، ويتوارثه الباحثون، فكثيرا ما تتسم هذه الكتب بنزعات مذهبية، أو تتلون بألوان حزبية، تغطى الحقيقة فتخفيها، وتزبل معالمها أمام الدارسين.
وقد وردت العبارة فى نزهة الألباء بعد قول الأنبارى وهو يترجم للرمانى، وكان يمزج كلامه بالمنطق ثم أعقب ذلك بقوله «حتى قال أبو على الفارسى.»
إن كان النحو ما يقوله أبو الحسن ومن هنا دلت العبارة معقبة قول ابن الأنبارى وكان يمزج كلامه بالمنطق دلت؟؟؟ ن الرمانى كان يفلسف نحوه ومنطقه، حقيقة
__________
(1) معجم الأدباء 7/ 241.
(2) نزهة الألباء.
(3) المقابسات هامش ص 57.
(4) مالك بن أنس ترجمة محررة 140.
(5) محاضرات فى البلاغة والنقد ص 13.(1/591)