دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عرض ونقض
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
(لست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمّته وآخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أُشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنّها على الرأس والعين، ولأضربنّ الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق..)(1).
مقدمة
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون } (2)(3).
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } (4).
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (5) (6).
أما بعد:
فسيكون الحديث في هذه المقدمة شاملاً للأمور التالية:
أهمية البحث والدواعي لاختياره.
خطة البحث ومنهجي في أبواب البحث.
جمع المادة العلمية.
__________
(1) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب - القسم الخامس (الرسائل الشخصية) ص 252.
(3) آل عمران: آية 102.
(4) النساء : آية 1.
(5) الأحزاب : آية 71.
(6) هذه الخطبة المسماة بـ (خطبة الحاجة) انظر رسالة الشيخ ناصر الدين الألباني بعنوان (خطبة الحاجة).(1/1)
أما عن أهمية هذا البحث، فأثناء مدة الاطلاع والبحث عن اختيار موضوع مناسب لتقديمه إلى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، للحصول على درجة الماجستير، لاحظتُ - من خلال تتبع بعض فهارس المكتبات العربية والإصدارات الثقافية عموماً - كثرة المؤلفات والرسائل ضد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1) رحمه الله وما تضمنته تلك المؤلفات والرسائل من الأكاذيب والشبهات على هذه الدعوة السلفية التي جددها هذا الشيخ الإمام، ثم علمت - من بعض الثقات - بانتشار هذه المؤلفات في كثير من بلاد المسلمين، وما يحصل لها من القبول والرواج عند فئات كثيرة من المسلمين، خاصة في زماننا هذا الذي نشطت في الصد عن سبيل الله طوائف المبتدعة وأهل الأهواء من صوفيّة ورافضة وأشعرية ونحوهم، وناهضت كل من يدعو إلى عقيدة السّلف الصالح، وناصبته العداء.
ولما عرضتُ هذا الموضوع على بعض أهل العلم وجدت منهم تشجيعاً كبيراً دفعني إلى اختياره والإعداد له، مع قناعتي التامة - ابتداءً - بسعة الموضوع وأهميته، وقصر باع كاتب هذه السطور وضعفه..
__________
(1) ألفت كتب كثيرة في بيان ترجمة وسيرة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115هـ - 1206هـ) منها :
- (روضة الأفكار) لابن غنام.
- (عنوان المجد) لابن بشر.
- (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) لمسعود الندوي.
- (الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره) لعبد الله العثيمين.
- (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) لصالح العبود.
- (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) لأحمد حجر آل بوطامي. وغيرها.(1/2)
ويمكن إيجاز أهمية هذا الموضوع بما يلي:
(1) ... كثرة المؤلفات والرسائل التي صنفت ضد دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب السلفية وما حوته من المفتريات التي ألصقت بهذه الدعوة، وما تضمنته من الشبهات المثارة حولها، فلقد سوّد خصوم هذه الدعوة السَّلفيَّة كمية هائلة من الكتب والمؤلفات، ضد دعوة الشيخ وأنصارها - سواء المطبوع منها أو المخطوط -، وأفردوها بالتصنيف والتأليف، وإن كانت هذه المؤلفات - في الحقيقة - مثل الزبد الذي يذهب جفاء …
إلا أننا في عصر قد فشى فيه الجهل، واستحكم عليه التقليد الأعمى فظهرت لأجل ذلك البدعيات، وعمت الشركيات بمختلف أنواعها، مما جعل لمثل تلك المؤلفات قبولاً وانتشاراً عند طوائف من المسلمين.(1/3)
كما أن هناك مراجع وكتب في مختلف العلوم، ولا تخلو منها مكتبة - غالباً -، قد تضمنت شيئاً من الطعن وإثارة الشبهات على هذه الدعوة السَّلفيَّة ومجددها وأنصارها، كما هو ظاهر مثلاً فيما كتبه ابن عابدين في حاشيته(1) والصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين (2)، والرحلة الحجازية لمحمد لبيب البتنوني (3) ومرآة الجزيرة العربية لأيوب صبري باشا (4)، وتاريخ الدولة العثمانية لمحمد فريد بك (5) وتاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة(6) والفكر الإسلامي في تطوره لمحمد البهي (7) ، وغيرها.
__________
(1) زعم ابن عابدين أن الوهابيين خوارج … انظر حاشيته على (الدر المختار) ط2، مكتبة الحلبي. مصر 1386, 4 / 262.
(2) شنع الصاوي على الوهابيين ورماهم بأنهم خوارج … انظر حاشيته على تفسير (الجلالين) دار إحياء التراث، بيروت، 3 / 7 30، 308.
(3) وصف البتنوني - في رحلته - الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه أخذ يذيع عقيدة جديدة بين المسلمين، وغلى فيها … انظر (الرحلة الحجازية) ط3، مكتبة المعارف، الطائف، ص87.
(4) انظر مغالطات صاحب (مرآة جزيرة العرب) ترجمة د. أحمد متولي والمرسي، ط1، دار الرياض، بالرياض، 1403هـ ص 140، 141.
(5) تضمن كلام صاحب (تاريخ الدولة العثمانية) الكثير من المغالطات، انظر الكتاب، تحقيق إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، 1401هـ ص 404 - 406.
(6) ادعى أبو زهرة جملة من المفتريات ضد هذه الدعوة السلفية … انظر كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) دار الفكر العربي، ص 208 - 211 وتلقف تلك المفتريات محمد الطاهر النيفر وسطرها في كتابه (أهم الفرق الإسلامية). الشركة التونسية - تونس، 1974 م ص 101 - 104.
(7) لقد كتب د. محمد البهي فصلاً عن محمد بن عبد الوهاب في كتابه (الفكر الإسلامي في تطوره)، ط1 دار الفكر، 1971 م ص 75 - 90.
وقد تحامل فيه - عفا الله عنه - على الوهابية، ووصفهم بما ليس فيهم فرد عليه الدكتور محمد خليل هراس بكتاب سماه (الحركة الوهابية) حيث كشف الحق في ذلك، وأزال ذلك الباطل الذي تلقفه البهي أو فهمه عن الوهابية.(1/4)
بل إن بعض الموسوعات العربية، قد تضمنت بعض المعلومات الخاطئة عن هذه الدعوة السلفية (1).
(2) ... مع كثرة المؤلفات المناوئة وانتشارها في هذا الزمان، لا نجد في المقابل كثرة وانتشاراً للكتب والرسائل التي سطّرها أئمة هذه الدعوة السلفية، في الرد على اعتراضات المناوئين في هذا الزمان - أيضاً - بل عن الكثير من كتب أئمة الدعوة مما سبق طبعه، أصبح الآن عزيز المنال نادر الوجود، وأذكر منها على سبيل المثال: كتاب (تأسيس التقديس في الرد على داود ابن جرجيس) (2) للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله (3) وكتاب (منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس)(4) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله(5)
__________
(1) ر على سبيل المثال :
- محمد فريد وجدي (دائرة معارف القرن العشرين)، ط3، دار المعرفة، بيروت 1971م، 10/ 869، 870، (مادة وهابية).
- محمد شفيق غربال (الموسوعة العربية الميسرة)، دار نهضة لبنان، بيروت، 1401هـ ، ص 1968م (مادة وهابية).
(2) طبع مرة واحدة، دار إحياء الكتب العربية مصر 1344هـ.
(3) ولد الشيخ أبو بطين في روضة سدير سنة 1194هـ، وتوفي في شقراء سنة 1282هـ، وتولى القضاء في كثير من المناطق، وله عده مؤلفات، وقد أثنى عليه كثير من معاصريه، وأطلق عليه لقب مفتي الديار النجدية.
انظر : عبد الله بن عبد الرحمن البسام، (علماء نجد خلال ستة قرون)، ط1، دار اليمامة الرياض، 1394هـ، ص 235.
(4) طبع مرتين الأولى : في مدينة بمباي بالهند 1309هـ والثانية : في القاهرة، مطبعة أنصار السنة المحمدية 1366هـ.
(5) ولد الشيخ عبد اللطيف في الدرعية سنة 1225هـ، وتعلم بها، ثم غادرها إلى مصر أثناء سقوط الدرعية، ودرس على مشائخ مصر، ثم عاد إلى الرياض وكان له دروس وتلاميذ، وله مصنفات ورسائل كثيرة، وكان يقرض الشعر. توفي سنة 1293هـ.
... انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 93، (علماء نجد) 1/63.(1/5)
وكذلك كتب الشيخ سليمان بن سمحان (1) – في غالبها – قد طبعت منذ زمن ليس بالقليل، ولم يعد طبعها مع أن الحاجة قائمة إليها (2).
في حين أن كتب الخصوم الذين قصد أئمة الدعوة الرد على مفترياتهم وشبهاتهم، قد تكرر إعادة طبعها ونشرها حتى عم ضررها واستفحل دائها. وقد يقول قائل: إن هذه الكتب التي ألفها بعض أئمة الدعوة في الرد على المخالفين إنما هي مجرد كتب مؤقتة بأحداث انقضت وأزمان مضت، فليست سوى ردود على أشخاص معينين قد أفضوا إلى ما قدموا، فلا حاجة إليها الآن في هذا العصر.
فنقول جواباً على ذلك إن هؤلاء حين ألفّوا تلك الكتب وأجابوا عن اعتراضات الخصوم، لم يكن قصدهم من ذلك إلا الرد على ما تعلق به الخصوم من مفتريات وشبهات أثاروها ضد الدعوة السلفية، فهذه الردود التي ألفها أئمة الدعوة السلفية، فهذه الردود التي ألفها أئمة الدعوة السلفية وأنصارها، هي مؤلفات مناسبة وملائمة للرد - والجواب على تلك الشبهات والاعتراضات، وإن اختلف الزمان أو المكان، مادام أن فكرة الشبهة والاعتراض ومضمونها لا يختلف.
__________
(1) ولد الشيخ سليمان في إحدى قرى أبها سنة 1266هـ، وانتقل إلى الرياض وتعلم بها، واشتهر بكثرة مؤلفاته وردوده، له ديوان من الشعر، توفي في الرياض سنة 1349هـ.
انظر: (مشاهير علماء نجد) ص 290، (علماء نجد) 1/ 279.
(2) مما يثلج الصدر أن نشير إلى أن بعض كتب أئمة الدعوة قد أعيد طبعها من جديد مثل كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاّق)، وكتاب (القول الفصل النفيس)، و (مصباح الظلام)، وغيرها، ولكنها بحاجة إلى الدراسة الجادة والتحقيق العلمي الذي يكشف عن مناسبة تأليفها وبيان أهميتها وقيمتها.(1/6)
وسنلاحظ - كما سيأتي مفصلاً في أبواب البحث - أن دعاوى الخصوم واعتراضاتهم ضد دعوة الشيخ الإمام في زمنه، يتلقفها من بعدهم، ثم الذين يلونهم، وهكذا إلى زمننا هذا، فهذه الدعاوى المثارة ضد الدعوة السلفية - الآن - لا تتجاوز غالباً ما أثاره أسلافهم زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كما أن أولئك الأسلاف تلقفوا كثيراً من شبهاتهم عن أسلافهم السابقين ممن ناهض دعوة السلف الصالح، وعادى مجدديها مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، ومن قبلهم من أئمة السلف، فإن جذور هذا الصراع قديمة. ممتدة عبر قرون عديدة. ولعل هذا البحث – المتواضع – يظهر لأجيال الموحدين بعضاً من الجوانب المشرقة من خلال ما كتبه أسلافهم - القريبون -، ويكشف الجهود المكثفة التي بذلها أجدادهم في نصرة الدعوة السلفية، ويستشعر أن هذه الجهود مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالجهود السابقة لعلماء السلف، وامتداد لها، مثل جهود الإمام أحمد بن حنبل، والإمام البخاري، وابن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن تيمية، وابن القيم، - رحمهم الله جميعاً - وهكذا، فيكون ذلك عوناً لتلك الأجيال للسير على منهاج السلف والإقتداء بهم.
(3) ... الحرص على بيان عقيدة السلف الصالح، ورد الاعتراضات والشبهات المثارة ضدها، فإن مما يجلي عقيدة السلف الصالح ويوضحها هو الرد والدحض لما يلصقه الخصوم بهذه العقيدة والجواب عن شبهاتهم ودعاويهم.
وليس الرد والجواب على الاعتراضات الموجهة إلى دعوة الشيخ الإمام - في الغالب - إلا رد وجواب عن الاعتراضات على عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بلا أدنى شك هي عين الدعوة لعقيدة السلف الصالح.(1/7)
فأحببت في هذا البحث أن أشارك في خدمة عقيدة الفرقة الناجية، وأن أسعى على قدر جهدي – وهو جهد مقل – في نصرة عقيدة السلف الصالح والذبّ عنها (1).
(2) خطة البحث ومنهجي في أبواب البحث:
تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة.
وتتضمن المقدمة ما يلي:
1- أهمية البحث والدواعي لاختياره.
2- خطة البحث ومنهجي في أبواب البحث.
3- جمع المادة العلمية.
وأما التمهيد فقد شمل هذين الأمرين:
الأول: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض آثارها.
الثاني: دراسة استقرائية مجملة لمؤلفات المناوئين مع موقف علماء الدعوة من هذه المؤلفات المناوئة.
وأما الباب الأول فعنوانه:
مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الرد عليها
ويتكون من ثلاث فصول:
الفصل الأول : الافتراء على الشيخ بادعاء النبوة وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثاني : الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم.
الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء.
وأما عنوان الباب الثاني فهو:
الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ
مع بيان الحق في ذلك
ويتكون من ثلاثة فصول:
الفصل الأول: التكفير والقتال وفيه سبعة مباحث.
المبحث الأول: مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير مع الرد والدحض لها.
__________
(1) تحدث بعض الكتّاب عن دعاوى المناوئين للدعوة السلفية فكتب كل من : الشيخ محمد الرفاعي، ود. عبد الرحمن عميرة، وعبد الكريم الخطيب، ومحمد يوسف، بحثاً بعنوان (الشبهات التي أثيرت ضد دعوة الشيخ)..، ولكنها بحوث مختصرة، تفتقد لبيان الاعتراض وتوثيق مصدره، كما تفتقد لعمق الرد وقوة مناقشة الدعوى، فموضوع دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب موضوع واسع عميق، ولا يكفي عنه البحث القصير، وأرجو أن يحقق هذا البحث - وإن كان صاحبه قليل البضاعة من العلم - شيئاً من التكامل الذي أقصده وبالله التوفيق.(1/8)
المبحث الثاني: فرية أن الوهابيين خوارج وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض لها.
المبحث الثالث: شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس منها. عرض ثم رد.
المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة. عرض ثم رد.
المبحث الخامس: شبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة. عرض ثم رد.
المبحث السادس: شبهة تنزيل آيات في المشركين على المسلمين. عرض ثم رد.
المبحث السابع: شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة. عرض ثم رد.
الفصل الثاني: تحريم التوسل.
الفصل الثالث: منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الباب الثالث فعنوانه:
فيما اعترض عليه من
قضايا الدعوة مع المناقشة لها
ويتكون من ثلاثة فصول:
الفصل الأول: هدم الأبنية على القبور والنهي عن شد الرحال لزيارتها.
الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
الفصل الثالث: إنكار دعاء الموتى.
وآخر البحث خاتمة تتضمن نتائج البحث.
وأما عن المنهج الذي اخترته في كتابة أبواب البحث، فكان على النحو الآتي :
(1) إيراد الدعوى أو الاعتراض من خلال ما كتبة الخصوم - أنفسهم - في مؤلفاتهم، وهذا في الغالب، وأحياناً قليلة أذكر دعاوى المناوئين من خلال ما نقله أئمة الدعوة عنهم أثناء الرد عليهم، حين لا أعثر على تلك المؤلفات المناوئة.
(2) يكون هذا الإيراد لتلك الدعاوى مرتباً - غالباً على حسب الترتيب الزمني لوفيات أولئك المناوئين، ولم ألتزم بذلك مطلقاً، نظراً لأن بعض المناوئين لم أعثر له على ترجمة، وربما كان العثور على ترجمته ومعرفة تاريخ وفاته، بعد كتابة أبواب الرسالة.(1/9)
(3) اقتصرت - في الغالب - عند إيراد دعاوى المناوئين على ما كتبه علماء الطوائف والفرق الإسلامية، وكان باللغة العربية فلم أذكر مطاعن ودعاوى المستشرقين على هذه الدعوة السلفية، شعوراً مني بأن الرد على أولئك العلماء آكد وأهم من الرد على المستشرقين في مثل هذا البحث، خاصة وأن أكثر اعتراضات أهل الاستشراق مبنية على معلومات تاريخية خاطئة عن حياة مجدد هذه الدعوة، وعن تاريخ الدعوة (1)، وأعرضت عن الكتب المؤلفة - ضد هذه الدعوة - باللغات الأخرى غير العربية، مثل الإنجليزية، والأوردية ونحوهما، نظراً للحاجة إلى ترجمتها، والوقت لا يسمح بذلك.
__________
(1) انظر ما يؤيد في كتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) لمسعود الندوي، ترجمة: عبد العليم البستوي، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود، 1404هـ ص 163 - 185، ص 195 - 209.
وانظر كتاب (بحوث وتعليقات في تاريخ السعودية) للعثيمين ص 115 - 126.
وانظر المغالطات التاريخية المتعددة في كتاب (مصر في القرن التاسع عشر) لادوارجوان، تعريب محمد مسعود، ط1، القاهرة، 1340هـ ص 436 - 444.(1/10)
(4) بعد إيراد الدعوى، يأتي الجواب عليها من قبل أئمة الدعوة وأنصارها، فأذكر أقوالهم من خلال مؤلفاتهم مراعياً الترتيب الزمني لوفياتهم، مع الاهتمام بشمولية الجواب والرد على تلك الدعاوى، وكذلك الحرص على ذكر أقوال أنصار هذه الدعوة خارج موطنها، فنذكر – مثلاً – ردود الشيخ محمد بن ناصر الحازمي اليمني (1)، وردود السهسواني الهندي (2)، وكذلك ردود محمود الألوسي العراقي (3)، حتى يتضح جلَّياً عالمية هذه الدعوة واتساع آثارها.
__________
(1) الحازمي في بلدة ضمد، وأخذ عن علمائها، كان محققاً في كثير من العلوم، لاسيما علم الحديث، مات سنة 1283هـ. انظر : محمد بن محمد بن يحيى بن زبارة، (نيل الوطر من تراجم علماء اليمن في القرن الثاني عشر)، المطبعة السلفية القاهرة، 1350هـ، 2 / 322.
(2) ... هو محمد بشير بن محمد السهسواني، عالم بالحديث والفقه، ولد في لكهنوء بالهند سنة 1250هـ، وتوفي في دلهي سنة 1326هـ، له عدة مؤلفات .
انظر : مقدمة كتابه (صيانة الإنسان)، وخيري الدين الزركلي، الأعلام، ط6، دار العلم بيروت، 1984 م، 5 / 36.
(3) هو محمود شكري الألوسي، عالم بالشرع والتاريخ والأدب، ولد في رصافة بغداد سنة 1273هـ، وتوفي في بغداد سنة 1342هـ له 52 مؤلفاً، انظر : كتاب تلميذه محمد بهجت الأثري (أعلام العراق) ص36 – 241، ومقدمة محقق كتاب (المسك الأذفر) للألوسي، الأعلام 7 / 172، 173.(1/11)
(5) اقتصرت في الجواب عن دعاوى المناوئين على ما كتبه أئمة الدعوة وأنصارها، دون أن أسوق أقوال علماء السلف السابقين لتلك الدعوة التي تؤيد ما كتبوه، وإن كان سياق أقوالهم يعطي القارئ – بلا شك – تصورا ً صادقاً بأن هذه الدعوة امتداد لدعوة أولئك السلف السابقين لها، ولكن اقتصرت على كتابات أئمة الدعوة حتى لا يتسع الموضوع اتساعاً لا يمكن حده، وحتى لا يخرج عما قصدته من إبراز وإظهار جهود أئمة هذه الدعوة دون من سبقهم. ومع ذلك فلا تخلو بعض مباحث هذا البحث من إيراد أقوال السلف السابقين، مما يؤكد أصالة هذه الدعوة وأنها امتداد للطائفة المنصورة.
(6) جعلت لكل باب من الأبواب الثلاثة لهذا البحث، أسلوباً يلائم موضوع الباب، ويوضح مضمونه، وقد أشرت إلى ذلك في مقدمة كل باب.
وعلى كلًّ فإنني بهذا المنهج الذي ارتضيته في كتابة أبواب البحث، حاولت قدر الاستطاعة الالتزام به، والسير على ضوئه، مع اعترافي بالتقصير فيما التزمته وقصدته، وحسبي أني بذلت جهدي والله يغفر لي.
(3) جمع المادة العلمية:
لما تمت الموافقة على تسجيل هذا الموضوع، شرعت في جمع المصادر والمراجع، وتتبعها، وحرصت على الحصول على ما كتبه الخصوم ضد هذه الدعوة وكذلك ما صنفه أئمة الدعوة وأنصارها في الرد والجواب عن دعاوى الخصوم.
فابتدأت بقسم المخطوطات والمجموعات الخاصة بجامعة الملك سعود، فصوّرت مجموعة مهمة من المؤلفات – منها المخطوط ومنها المطبوع بعضها ضد هذه الدعوة السلفية وبعضها في الدفاع عنها.
كما حصلت من المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود على مجموعة مصورات لبعض المجلات والصحف التي تحوي مقالات ترتبط بهذا البحث.
وحصلت من قسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود على صورة مخطوط (فصل الخطاب) للقباني، والذي يعتبر من أقدم المؤلفات ضد دعوة الشيخ الإمام، كما صورت بعض الدوريات المهمة.(1/12)
كما تم لي - ولله الحمد والمنة - الحصول على صور لبعض المصادر الخطية الهامة من المكتبة السعودية، وكذلك يسر الله لي تصوير بعض كتب المناوئين من إدارة مراقبة المطبوعات بدار الإفتاء.
وصورت من قسم الوثائق بدارة الملك عبد العزيز مخطوطاً قديماً ضد الدعوة السلفية (1)، وكذلك رسالة خطية أخرى ضد هذه الدعوة أيضاً.
وحصلت على بعض الأعداد المصورة من جريدة أم القرى عن طريق مكتبة معهد الإدارة.
ولقد أهداني الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سحمان القاضي في محكمة التمييز بالرياض، بعض مؤلفات عمه الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله، ومن ضمنها صورة مخطوط لم يسبق طبعه وهو (الحجج الواضحة الإسلامية)(2)، فجزاه الله كل خير.
ولقد تكرم بعض المشايخ والأساتذة بمساعدتي وإعارتي أو إهدائي بعض الكتب المهمة التي تتصل بهذا الموضوع، فجزاهم الله خيراً، وبارك الله فيهم.
وعثرت على صورة خطيّة لأبيات في الرد على الوهابية مع شرحها لمجهول، وذلك من مكتبة أرامكو بالظهران، كما صورت كتاب (النفخة على النفحة) من المكتبة الصالحية بعنيزة (3).
وأرسلت إلى الأستاذ الشهم صبحي البدري السامرائي في العراق، أطلب منه تصوير مجموعة من الكتب التي ألفها بعض علماء الشيعة ضد الدعوة السلفية، فأرسل إليّ مجموعة مما طلبت فجزاه الله خيراً.
كما طلبت من معهد المخطوطات بالكويت تصوير بعض المراجع الخطية مما كتب ضد الدعوة السلفية، فأجابوا وأرسلوا ما طلبت (4)
__________
(1) وهو مخطوط (إزهاق الباطل في رد شبه الفرق الوهابية) لمحمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني.
(2) وقد أفادني الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سحمان في شهر ذي القعدة سنة 1406هـ أن هذا الكتاب هو آخر مؤلفات الشيخ سليمان بن سحمان - الذي هو عم والد الشيخ عبد الرحمن.
(3) لم أعثر على هذا الكتاب في كبرى مكتبات الرياض العامة.
(4) و هي :
- رسالة في الرد على الوهابية لعبد الله بن حسين بلفقيه العلوي.
- رسالة في الرد على الخوارج ومن نحا نحوهم للمؤلف السابق.
- المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية لإسماعيل التميمي التونسي.
- مسائل وأجوبة وردود على الخوارج لمحمد بن سليمان الكردي.(1/13)
وطلبت عن طريق الجامعة السلفية في مدينة بنارس بالهند بعضاً من الكتب ضد دعوة الشيخ الإمام، فأرسلوا ثلاثة كتب ولكنها باللغة الأردية.
وأرسلت إلى حسين بن حلمي أيشيق صاحب مكتبة الحقيقة في استانبول بتركيا وهو عدوّ لدود للدعوة السلفية - أطلب بعض مطبوعات مكتبته والتي يوزعها مجاناً وهي تحوي الطعن في الشيخ الإمام ودعوته، فأرسل إليّ مجموعة من الكتب - مجاناً - استفدت من أحدها في هذا البحث (1) .
وطلبت من مكتبة الدولة في برلين بألمانيا بعض صور المخطوطات الهامة التي ألفت ضد الدعوة السلفية فأرسلوا إليّ ثلاث صور خطية منها (2).
وكذا أرسلت إلى مكتبة الجامعة الملكية في توبنجن بألمانيا صورة من مخطوط نادر لأحد الأعداء المعاصرين للشيخ الإمام (3) وذلك لما بعثت إليهم بالرغبة في الحصول عليها.
وقد بعثت برسائل أخرى إلى مكتبات متنوعة، ولكن بعضها اعتذر بعدم وجود ما طلبت مثل المتحف البريطاني، وطلبت عن طريق أحد الأساتذة (4) في القاهرة الحصول على صور من مخطوطات متعددة توجد في دار الكتب المصرية (خزانة تيمور) - بناء على المعلومات المدونة في فهارسها فأخبرني بعدم وجودها، وبعض الجهات العلمية أردت منها ما يخدمني في هذا البحث ولكن دون جواب.
__________
(1) وهو كتاب الإيمان والإسلام لخالد النقشبندي البغدادي. وفيه مقدمة طويلة لحسين أيشيق.
(2) و هي :
-المشكاة المضيئة في الرد على الوهابية لابن السويدي.
- رسالة ابن عفالق لعثمان بن معمر.
-جواب ابن عفالق على رد ابن معمر.
(3) وهو كتاب (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين) لمحمد بن عفالق.
(4) وهو الأستاذ الكريم الدكتور أحمد فهد الشوابكة.(1/14)
إن من العوائق التي واجهتني أثناء جمع المادة العلمية وتحصيلها هو التأخر الكثير لوصول بعض المراجع الأساسية لهذا البحث، وكنت أطلبها عن طريق المراسلة لبعض المكتبات العلمية، حتى أني مكثت أكثر من سبعة أشهر في انتظار وصول صورتي مخطوطتين من بلاد المغرب، مع أن ابتداء هذه المدة المذكورة من حين الموافقة على تصوير وإرسال تلك المخطوطتين.
كما أن تعدد الاعتراضات وكثرة الدعاوى وتنوع الشبهات ضد دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، كان ذلك عقبة أخرى حاولت اجتيازها بالتركيز على الاعتراضات الأساسية والدعاوى الهامة في مجال العقيدة دون الاعتراضات الأخرى.
وعقبة ثالثة وهو التداخل الكبير، والترابط الكثير بين فصول أبواب الرسالة وسيتضح ذلك أثناء الدخول في فصول البحث فلقد واجهتني أثناء جمع المادة العلمية وأثناء الكتابة، فبذلت جهدي في ترتيب المعلومات وتنظيمها، ولكن كان هناك تلازم واتصال بين بعض معلومات الفصل مما لا يمكن تقسيمه وانفصاله، فألجأ عندئذٍ إلى الإحالة أحياناً، أو أذكر هذه المعلومات بإيجاز في موضع، ثم أوردها بإسهاب في موضع آخر، أو العكس.
وفي ختام هذه المقدمة، أحمد الله حمداً كثيراً كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، على ما منّ به عليّ من الإعانة والتيسير في كتابة هذا البحث، وأرجو منه سبحانه وتعالى أن يجعل هذا البحث باباً إلى تحصيل العلم النافع الذي يرضيه عز وجل وأن يوفقني فيه إلى تحقيق الصواب والسداد.
وكتبه
عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
الرياض - ص.ب: 17999- الرمز البريدي: (11494)(1/15)
تمهيد
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض آثارها
إن ما كتبه الشيخ من المصنفات والرسائل يؤكد يقيناً بأن الشيخ لا يدعو إلا لعقيدة السَّلف الصالح في جميع أبواب الاعتقاد، وليست مصنفاته ورسائله فحسب هي الجواب على هذا فقط، بل إن سيرة الشيخ الإمام وأفعاله وسلوكه جواب آخر، يؤكد بلا أدنى ريب اهتمام الشيخ وحرصه الشديد على تمام التأسي والاقتداء بالسلف الصالح.
كما أن ما كتبه أتباعه - من بعده - وأنصار دعوته السلفية يؤكد أيضا ما اتصف به الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب من تمسك والتزام بمنهج أهل السنّة والجماعة، ويظهر حال وشأن أولئك الأتباع وما كانوا عليه من عضًّ بالنواجذ على عقيدة الفرقة الناجية سواء في أقوالهم أو أفعالهم.
وقد شهد الكثير من العلماء من مختلف البلاد والبقاع، وفي أزمان متفاوتة، بل ومن ديانات متنوعة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى الإسلام كما كان عليه أو ظهوره من صفاء ونقاء ووضوح، بعيداً عن لوثات الفلسفة وأدران الشرك، وخرافات التصوّف، ومحدثات البدع.
وحيث أن مثل هذا الموضوع قد أخذ نصيباً وافراً من الكتابة والتصنيف (1) فلا حاجة للإطالة فيه، بل نقتصر على إيراد بعض النقول الموجزة التي توضح حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ففي إحدى رسائل الشيخ يجيب عن سؤال أهل القصيم لما سألوه عن معتقده فكان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) ر على سبيل المثال ما يلي:
- محمود مهدي الاستانبولي، (الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب)، 1400هـ.
- أمين سعيد (سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب) ط1، شركة التوزيع العربية، بيروت ص 191 - 215.
- أحمد بن حجر آل بوطامي، (الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، مطبعة الحكومة ، مكة المكرمة، ص77 - 120.(1/16)
(أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه ،ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً، فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } (1) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله وسط بين المرجئة والوعيدية (2). وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج.
وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأومن بأن الله فعَّال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
__________
(1) الصافات الآيات 181، 182.
(2) الوعيدية هم الخوارج والمعتزلة.(1/17)
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لربَّ العالمين حفاة عراة غرلاً، تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه أولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم.
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا كما قال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (1) وقال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2) وقال تعالى: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } (3) وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } (4).
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
__________
(1) الأنبياء: آية 28.
(2) البقرة : آية 255.
(3) النجم : آية 26.
(4) المدثر : آية 48.(1/18)
وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوَّته، وأن أفضل أمتَّه أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم، وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملاً بقوله تعالى: { والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } (1) وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنّة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام براً كان أو فاجراً، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماضٍ منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.
__________
(1) الحشر : آية 10.(1/19)
وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية المطهرة (1) .
فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل) (2).
وفي رسالته لعبد الرحمن بن عبد الله السويدي (3) أحد علماء العراق يذكر الشيخ الإمام رحمه الله حقيقة دعوته، ومن ذلك قوله:
(أخبرك أني ولله الحمد متبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنّة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بيَّنت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشتراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنَّة والجماعة)(4).
ونورد بعضاً من العبارات التي سطّرها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في بيان دعوة جده الشيخ الإمام، منها قوله:
__________
(1) يظهر من هذه الرسالة تأثر الشيخ محمد بشيخ الإسلام ابن تيمية فهذه الرسالة قريبة بلفظها ومعناها من العقيدة الواسطية لابن تيمية.
(2) محمد بن عبد الوهاب، مؤلفات الشيخ الإمام (الرسائل الشخصية) تصحيح الفوزان والعليقي، الرياض 5 / 8 – 11.
(3) انظر : ترجمته في (المسك الأذفر) ص 131.
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ (الرسائل الشخصية) : 5 / 36.(1/20)
(أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله لا شريك له، ولا يشركوا به شيئاً وهذا لا يرتاب فيه مسلم إنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه) (1).
ويقول الشيخ عبد اللطيف في موضوع آخر – حاكياً ما يدعو إليه الشيخ الإمام:
(ثم إن شيخنا رحمه الله كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادي لها، وهذا من سنن الهدى، ومعالم الدين كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنَّة، ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه، وقد تتبع العلماء مصنفاته رحمه الله من أهل زمانه وغيرهم فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب.
وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنَّة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام فهو حنبلي المذهب لا يوجد له قول مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة ……) (2).
ويبين الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (3) في رسالته التي بعثها إلى أهل الحجاز وعسير واليمن معتقدهم وما يدعون إليه فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)، ط1، مطبعة المنار، مصر 1344هـ، 3/367.
(2) المرجع السابق 3 / 372، 373.
(3) الشيخ محمد في الرياض سنه 1282هـ، وتوفي بها سنه 1367هـ، تولى القضاء، ورحل إلى عسير داعياً إلى الله، وله مكتبة عظيمة.
انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 146، (علماء نجد) 3 / 849.(1/21)
(اعلموا أن الذي نعتقده وندين الله به، وندعو الناس إليه ونجاهدهم عليه هو دين الإسلام الذي أوجبه الله على عباده وهو حقّه عليهم الذي خلقهم لأجله، فإن الله خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به في عبادته أحداً من المخلوقين لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما … ونأمر بهدم القباب ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره، ونأمر بإقام الصلاة جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف أو تكاسل عن حضورها وترك الحضور في المسجد ونلزم ببقية شرائع الإسلام كالزكاة والصوم والحج للقادر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وننهى عن الربا والزنا وشرب الخمر، والتتن، وعن لبس الحرير للرجال، وننهى عن عقوق الوالدين، وعن قطيعة الأرحام.
وبالجملة فإنا نأمر بما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وننهى عما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحلل إلا ما حلل الله، فهذا الذي ندعو إليه، ومن كان قصده الحق ومراده الخير والدخول فيه التزم ما ذكرنا وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا وعليه ما علينا) (1) .
وقد جاء هذا المعتقد موجزاً بعبارة جامعة، كما قال أحدهم:
(أن كل ما ثبت في الشريعة الإسلامية مما جاء عن الله ورسوله فهو مذهبنا، ومعتقدنا وديانتنا، سواء ذكرناه وصرحنا به أو لم نذكره، ولم نعالن به، وكل ما نفته الشريعة الإسلامية فهو الذي ننفيه ونرفضه، لذلك فعلى كل من تروى له رواية عنا فليعرضها على كتاب الله وسنة رسوله فإن وافقتها فليعلم وليوقن بأنها رأينا ومذهبنا، وإن خالفتها فليوقن أننا نخالفها..) (2).
__________
(1) عبد الرحمن بن قاسم (جمع)، (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) ط2، المكتب الإسلامي، بيروت 1385هـ، 1 / 290، 291 باختصار.
(2) جريدة أم القرى، ع 130، مقال (البيان الفصل هذا آخر ما عندنا).(1/22)
وبهذا يعلم أن الشيخ الإمام وأتباعه - من بعده - يدعون إلى التمسك بمنهج السلف الصالح، سواء كان ذلك في العقائد، أو السلوك والشرائع، ويتحرون الوسائل والأسباب التي تحقق ذلك، ويفعلونها، ويحرصون كل الحرص على تنفيذ أوامر هذا الدين، والابتعاد عن نواهيه، وهم بذلك مقتدون ومتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
وأما الإشارة إلى آثار هذه الدعوة، فإنه لما كانت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب هي دعوة لتجديد ما اندرس من عقيدة السلف الصالح، لذا حظيت تلك الدعوة بالقبول لها والتأثر بها من قبل كثير من علماء المسلمين والحركات الإصلاحية والكثير من عامة المسلمين، وذلك لما تتميز به عقيدة السلف الصالح التي دعا إليها الشيخ الإمام من ميزات وخصائص تجوب الاعتقاد بها والميل إليها من والوضوح والصفاء واليقين والثبات والآثار الفعلية الإيجابية والنتائج المحمودة الملموسة في واقع الحياة الدنيا، والنعيم السرمدي الأبدي في الحياة الآخرة.
لقد عمت الدعوة وآثارها المباركة بلاد نجد، ثم امتدت إلى الحجاز، ثم سائر بلاد الجزيرة العربية، بل تجاوزت تلك البلاد … فكان لها اتباع وأنصار في مختلف الأمصار، كالشام ومصر والعراق وبلاد المغرب، والهند، والكثير من الأقطار.
ولا تزال - إلى وقتنا الحاضر - آثارها ونتائجها علمية كانت أو عملية ناطقة بذلك، وشاهدة بصدق هذه الدعوة ووضوحها وسلامة منهجها، وستبقى هذه الدعوة - إن شاء الله - منصورة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد أفاض الباحثون في الحديث عن أثر دعوة الشيخ الإمام على بلاد المسلمين وعلمائهم، وأثرها على الدعوات والحركات الإصلاحية، وألفت من أجل ذلك الرسائل والمصنفات في بيان آثارها وأصداءها، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره (1)
__________
(1) انظر على سبيل المثال :
- عقيدة الشيخ محمد عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي للعبود 2 / 608 - 928.
- الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الدعوة للسكاكر، ص 209 - 260.
- انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة، لمحمد جمعه ص 63 - 238.
- بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (غالب الجزء الثاني).(1/23)
ولكن من المناسب أن نورد بعض الأعلام الذين تأثروا بدعوة الشيخ الإمام، ممن لم يذكرهم هؤلاء الكتّاب ضمن من تأثروا بهذه الدعوة، وذلك على حسب اطلاعنا.
فيذكر المحامي عباس العزاوي من تأثر بدعوة الشيخ في العراق فيقول:
(وكان الأستاذ عبد العزيز بك بن عبد الله بك الشاوي (1) ذهب إلى نجد للحج والمفاوضة مع آل سعود، فاقتنع بمذهبهم وحمله إلى العراق فصار داعيتهم، اقتنع بعد تجربة سنوات، فلم يكتف بالمظاهر والظواهر، وإنما خالط القوم حتى بلغ من المعرفة الصحيحة مبلغها، فاختار أن يكون عقيدته)(2).
كما يذكر العزاوي من العلماء الذين تأثروا بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ علي السويدي (3) ووصفه العزاوي بأنه (عالم دعا إلى اتباع الحديث، وهذا عين مذهب السلف) (4) .
بل ذكر بعضهم أن الشيخ علي السويدي دعا والي بغداد سليمان باشا الصغير إلى الإلتزام بهذه الدعوة (5).
__________
(1) لم أعثر على ترجمته.
(2)عباس العزاوي، ذكرى أبي الثناء الألوسي، شركة التجارة والطباعة، بغداد 1377هـ ص 37.
(3) هو علي بن محمد سعيد السويدي، محدث، مؤرخ، نسابة، أديب، ولد في بغداد، وتوفي بدمشق سنه 1237هـ، له عدة تصانيف من أشهرها (العقد الثمين في بيان مسائل الدين).
انظر : (المسك الأذفر) ص 140، (معجم المؤلفين) 7 / 200.
(4) العزاوي (ذكرى أبي الثناء) ص 37، 38 باختصار.
(5) انظر - خليل مردم بك، (أعيان القرن الثالث عشر) ط2، مؤسسة الرسالة بيروت 1977 م، ص 165.(1/24)
وممن تأثر بهذه الدعوة السلفية الشيخ أحمد بن محمد الكتلاني (1) فألف رسالة بعنوان (الصيّب الهطال في كشف شبه ابن كمال) (2) حيث دافع عن دعوة الشيخ، ورّد الافتراءات والشبهات المثارة ضد هذه الدعوة، وساق الأدلة والبراهين الواضحة التي تؤكد وتقرر أن دعوة الشيخ الإمام هي دعوة لمذهب أهل السنّة والجماعة.
كما تأثر بهذه الدعوة، الشيخ محمد بن ناصر الشريف التهامي اليمني، أحد تلاميذ الإمام محمد بن علي الشوكاني حتى أنه ألفّ كتاباً في الردَّ على دعاوى داود بن جرجيس (3) التي رمى بها دعوة الشيخ، وجعل داود تلك الدعاوى الكاذبة في كتاب سماه (صلح الإخوان) (4) فأجابه التهامي بكتاب سماه (إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان) (5) فنَّد فيه دعاوى ابن جرجيس، وأظهر صدق الشيخ الإمام، ودافع عن عقيدة السلف، وسنورد بعض ردوده في ثنايا أبواب هذه الرسالة.
__________
(1) لم أعثر له على ترجمة، وقد سألت الشيخ عبد الله الخليفي إمام الحرم المكي في شهر ذي القعدة 1406هـ - لأنه قام بتصحيح كتاب (الصيب الهطال) للكتلاني - عن ترجمته، فلم أحصل منه على جواب.
(2) مما يجدر ذكره أن هذا الكتاب طبع سنة 1385هـ عن طريق المكتب الإسلامي في بيروت ضمن مجموعة كتب، وجعل عنوان هذا الكتاب (جواب الجماعة) وذكر الناشر أن مؤلفه مجهول. والله أعلم.
(3) هو داود بن سليمان البغدادي النقشبندي، ولد وتوفي في بغداد (1231 - 1299هـ)، انتقل إلى نجد ودرس عند الشيخ أبي بطين وله كتب ضد الدعوة السلفية.
انظر : ذيل المسك الأذفر ص 459، الأعلام 2/332.
(4) وعنوان الكتاب كاملاً : (صلح الإخوان) من أهل الإيمان وبيان الدين القيّم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم.
وهو كتاب مطبوع سنة 1306هـ في مطبعة نخبة الأخبار، بمبي (الهند).
(5) وبعضهم يسمي هذا الكتاب : (فتح المنان في ترجيح الراجح وتزييف الزائف من صلح الإخوان). وتوجد لهذا الكتاب نسخة خطية بجامعة الملك سعود.(1/25)
وتأثر بهذه الدعوة الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين الهندي (1) ودافع عنها، ورد على خصومها، فردَّ على دحلان وأبطل دعاويه بكتاب سماه (الحق المبين في الردَّ على اللهابية المبتدعين).
وتأثر الأستاذ صالح بن دخيل الجار الله (2) بهذه الدعوى فسعى إلى نشرها والرد على خصومها، وقد كتب مقالاً مفصلاً في مجلة المقتطف، بيّن حقيقة دعوة الشيخ، ورد على مقالة القس زويمر(3) التي كتبها عن الوهابية، ووضح الأستاذ صالح ما في مقالة زويمر من الاضطراب والتضليل، فكان مما كتبه رحمه الله:
__________
(1) لم أعثر له على ترجمة، ويبدو أنه كان معاصراً للشيخ ابن سحمان، كما هو ظاهر في مقدمة كتاب (البيان المجدي) لابن سحمان.
(2) لم أعثر له على ترجمة بهذا الاسم، وإنما ذكره البسام في (علماء نجد) 1 / 282، 296 باسم جار الله الدخيل - وهو عم سليمان بن صالح الدخيل الآتي ذكره وكان جار الله الدخيل وكيلاً لإمارة ابن رشيد في بغداد، ويبدو أن الاسم الصحيح هو ما ذكرناه بدليل في خاتمة كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) ط1، 1319هـ : (تم طبع الكتاب … على نفقة الشيخ صالح بن دخيل الجار الله)، ص 220.
(3) انظر ملخص مقالته : مجلة المقتطف، مجلد 27، ص 295.(1/26)
(واضطرب الناس في الوهابية اضطراباً شديداً لعدم تحقيق أحوالهم، فالناس فيهم ما بين قادح ومادح، فمنهم من جعلهم كالروافض والخوارج والبابية. والحق أنهم متبعون للسنة لا غالون ولا جافون، حتى أني اجتمعت بكثير من مثل هؤلاء بالشام ومصر والعراق سنة 1318هـ وبينت مأخذهم ومعتقدهم ومذاهبهم فأذعنوا لذلك، ووافقوا عليه وقالوا أنه الحق، وطلبوا كتاباً يطبع من تأليفهم يزيل ما لبس على كثير منهم، فإن بعض السّياح يجهل حقيقة حالهم. ولا عبرة ببعض العوام الجهال فطبعت في أواخر رجب سنة 1319هـ كتاب (توضيح توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) فانتشر في الآفاق وتلقاه أهل الإنصاف بالقبول والوفاق لأنه كتاب وحيد في فنه يحتاج إليه المبتدي ولا يستغني عنه المنتهي، وحقيق أن تشد إليه الرواحل وتقطع دون الوصول إليه المنازل …) (1) .
وألف الشيخ سليمان بن صالح الدخيل (2) رسالة بعنوان (حقيقة المذهب الوهابي) (3) يقول د. محسن غياض عجيل عن هذه الرسالة:
(وهي رسالة صغيرة في بيان حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والدفاع عنها، وردّ ما لفقه خصومها عنها، وقد أوقف الأستاذ الدخيل كثيراً من وقته وجهده ليشرح للعراقيين خاصة وللناس عامة حقيقية تلك الدعوة وما تهدف إليه)(4).
__________
(1) المصدر السابق ص 893.
(2) الشيخ سليمان بن صالح الدخيل، ولد في بريدة سنه 1290هـ له مؤلفات كثيرة في التاريخ، ومارس الصحافة وأصدر بعض الصحف، توفي في بغداد فقيراً سنة 1364هـ.
(3) طبعت في بغداد سنة 1332هـ -، وهو أول موضوع كتبه الشيخ سليمان الدخيل عن نجد في مجلة لغة العرب. انظر : كتابة عجيل – السابق ذكره، ص21.
(4) د. محسن العجيل، الصحفي المؤرخ النجدي سليمان بن صالح الدخيل ط1، مركز دراسات الخليج، البصرة، 1982م، ص 21.(1/27)
ودافع الشيخ محمود شويل(1) عن دعوة الشيخ الإمام، فردّ على أحد خصوم هذه الدعوة وهو المدعو محمد البكري أبو حراز السوداني حيث ألفّ هذا الجاهل رسالة سماها (الوهابية المهزومة)، وكان رد الشيخ محمود شويل بعنوان (القول السديد في قمع الحرازي العنيد) وقد كشف شويل عن ضلالات الحرازي وأبان الحق بأدلته، وقرر بمختلف البراهين صحة هذه الدعوة، كما ردّ على شبهات الخصم وفندها.
وهذه أمثلة معدودة لبعض الأشخاص الذين تأثروا بهذه الدعوة السلفية وكان لهم جهود فعالة في نصرة هذه الدعوة.
ومما يجدر التنبيه عليه هاهنا أن نشير إلى ما ذكره الدكتور صالح العبود حول ما يقال من تأثر بعض الحركات والدعوات الإصلاحية والشخصيات الإسلامية بدعوة الشيخ الإمام مثل الحركة السنوسية في ليبيا، والحركة المهدوية في السودان ونحوهما، ومثل الأفغاني ومحمد عبده إقبال وغيرهم.
يقول الدكتور العبود عن دعوى تأثر تلك الحركات والشخصيات بدعوة الشيخ الإمام:
(كل ذلك يحتاج إلى دقة وتحقيق ودليل يثبت أن هذه الدعوات والحركات تأثرت بعقيدة الشيخ وحركته ودعوته وقيام أنصاره.
والحقيقة أن هذه الدعوات والحركات النابعة من أهلها، وهم بأنفسهم لا يذكرون أنهم من أتباع الشيخ ولا أنهم تتلمذوا عليه أو قرأوا كتبه ومؤلفاته وأرادوا تطبيقها) (2).
__________
(1) محمود شويل المدني، ولد وتوفي بالمدينة (1302 - 1372هـ) درّس في الحرمين وسافر إلى بلدان عديدة له مؤلفات انظر الأعلام 7 / 174.
(2) د. صالح العبود (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) 2 / 918 - 920 باختصار.(1/28)
ويسوق العبود أمثلة في إثبات ما ذكره، فيورد الأدلة على اختلاف الحركة السنوسية (1) والثورة المهدوية عما دعا إليه الشيخ الإمام، وغيرهما من الحركات والثورات.
ومن هذه الأمثلة التي ذكرها العبود موضحاً عدم تأثر بعض الشخصيات الإسلامية بدعوة الشيخ رحمه الله ما أورده الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد التي ألفها فهو لم يورد توحيد العبادة الذي هو أول واجب على كل مكلف، يقول العبود – عقب ذلك -:
(وقد استدرك عليه تلميذه محمد رشيد رضا فقال: فات الأستاذ أن يصرح بتوحيد العبادة وهو أن يعبد الله وحده ولا يعبد غيره بدعاء ولا بغير ذلك مما يتقرب به المشركون إلى ما عبدوه معه من الصالحين والأصنام. وهذا التوحيد هو الذي كان أول ما يدعو إليه كل رسول قومه بقوله: { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .
وقال شيخنا محمد خليل هراس: (وقد غلط الشيخ عبده في اعتباره توحيد الربوبية والانفراد بالخلق هو الغاية العظمى محمد بعثة الرسل …
ولعل فضيلة الشيخ عبده في هذا كان متأثراً بالأشعرية الذين جعلوا الانفراد بالخلق هو أخص خصائص الإلهية، واهتموا في كتبهم بإقامة البراهين على هذا النوع من التوحيد دون أن يشيروا إلى توحيد الإلهية …) (2).
__________
(1) المصدر السابق 2 / 920، 921 ويبدو أن الشيخ العبود خلط بين صاحب الحركة السنوسية المشهورة، وبين السنوسي صاحب العقيدة المعروفة بـ (أم البراهين)، فالأول هو محمد بن علي السنوسي (ت 1202هـ والآخر هو محمد بن يوسف السنوسي (ت 895هـ) حيث ظن العبود أنهما شخص واحد.
(2) المصدر السابق 2 / 924، 925 باختصار.(1/29)
ويبدو أن أحد الدوافع التي جعلت أولئك الكتّاب يدّعون تأثر مثل تلك الحركات والشخصيات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو لوجود أحد أوجه التشابه بين دعوة الشيخ وبين تلك الدعوات، ثم يحاولوا عندئذ التوصل إلى إثبات هذا التأثر، فبمجرد أنهم عثروا على صفة جزئية تكون موجودة ومشتركة في كل من دعوة الشيخ وتلك الحركات حتى يحكموا بهذا التأثر، دون النظرة الشاملة لمنهج تلك الدعوات ومدى تأثره، حينئذ دعوة الشيخ الإمام رحمه الله.
فمثلا دعوة الأستاذ محمد عبده هاجمت التصوف، مثلما هاجمته – من قبل دعوة الشيخ رحمه الله ولكن شتان بين منهج كل منهما في ذلك الهجوم يقول د. محمد محمد حسين مشيراً إلى الخلط بين المنهجين:
(حتى خلطوا بهم كل من دعا بهذه الدعوة (أي مهاجمة التصوف) واعتبروه منهم غافلين عن أن التصوف يمكن أن التصوف يمكن أن يهاجم من منطلقين مختلفين من منطلق سلفي يهاجم الابتداع، ومن منطلق علماني ينكر الغيبيات ويخضعها للتفكير الحر، ومن هذا المنطق خلطوا بين الأفغاني ومحمد عبده وبين محمد بن عبد الوهاب) (1).
دراسة استقرائية مجملة
لمؤلفات المناوئين مع موقف علماء الدعوة
من هذه المؤلفات المناوئة
يلاحظ الباحث - من خلال اطلاع سريع على تاريخ الدعوة – أن هذه الدعوة واجهتها معارضة قوية ضارية، وكانت إما معارضة سياسية من جهة الأمراء والحكام، وإما معارضة علمية من جهة العلماء و (المطاوعة)، بل كان هناك ما يشبه التعاضد والتكاتف بين المعارضتين السياسية والعلمية، كما يبدو في المعارضة الشديدة الطويلة الأمد من دهان بن دواس (2)
__________
(1) محمد محمد حسين (دعوة الإمام بين التأييد والمعارضة). (مع بحوث أسبوع الشيخ)، الرياض 1400هـ ص5 باختصار.
(2) هو دهام بن دواس بن عبد الله، عرف بالطغيان والظلم والجبروت، وقد استكبر وتصدى لعداوة هذه الدعوة السلفية سبعاً وعشرين سنة (1160 – 1187هـ) ثم هرب إلى الإحساء، وتوفي بها.
انظر : ترجمته – كما جاءت في تعليق الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ على كتاب (لمع الشهاب)، ص 34.(1/30)
أمير الرياض ضد هذه الدعوة السلفية، ومعه الخصم العنيد والعدو اللدود لهذه الدعوة، هو سليمان بن سحيم (1) مطوع الرياض.
ويبدو هذا التعاضد أيضاً، في معارضة سليمان بن عريعر(2) أمير الإحساء لعثمان بن معمر(3) أمير العيينة حين آزر الشيخ الإمام في بداية دعوته، وتهديده بقطع معونته الاقتصادية، فقد عزز هذه المعارضة، ما فعله محمد بن عفالق(4)
__________
(1) هو سليمان بن أحمد بن سحيم العنزي، وهو خصم شديد العداوة للدعوة السلفية، وبذل وسائل عديدة في التشنيع بها وتحريض العلماء في الرد عليها، ولد سنة 1130هـ وتوفي في الزبير سنة 1181هـ.
(2) هو سليمان بن محمد بن عريعر، وكان رئيس بني خالد، وامتد سلطانه إلى كثير من البلاد المجاورة للإحساء، ومدة سلطنته سبع عشرة سنة توفي سنة 1266هـ في الخرج من أرض نجد.
انظر : (تحفة المستفيد) ص 124، (لمع الشهاب) ص 167.
(3) هو عثمان بن حمد بن معمر، تولى إمارة العيينة سنة 1142هـ، وقد نصر دعوة الشيخ في أول الأمر، ثم تخلى عنه، قتل سنة 1163هـ.
انظر : عنوان المجد 1/22-39.
(4) هو محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي، ولد وتوفي في الإحساء (1100 - 1164هـ) له مؤلفات في الفقه والفلك، كما أن له مؤلفات ضد الدعوة السلفية - سيأتي بيانها - لم يذكرها ابن حميد في السحب ولا البسام، ولا صاحب (تحفة المستفيد).
انظر : (السحب الوابلة) ص719 وهو مقال في مجلة العرب بتحقيق حمد الجاسر، س12، ج9، 10، ص 641 - 836، (تحفة المستفيد) ص 396، (علماء نجد) 3/ 818.(1/31)
أحد علماء الإحساء، حيث كتب رسالة لابن معمر، ثم تلاها برسالة أخرى(1) يحرضه ضد هذه الدعوة، ويشككه فيها، ويورد الشبهات والدعاوى التي يحاول ابن عفالق بواستطها إقناع ابن معمر بالتخلي عن هذه الدعوة، والتخلص من صاحبها، وقد نجحت مساعيهم في ذلك، وتخلى ابن معمر عن الشيخ الإمام، فغادر العيينة متوجهاً إلى الدرعية -كما هو معلوم -.
لقد تعددت أوجه هذه المعارضة، وتنوعت سبل المناهضة والعداء، واستنفد الخصوم الكثير من الوسائل والطرق من أجل محاربة هذه الدعوة والقضاء عليها.
وما كتابة المؤلفات والرسائل ضد هذه الدعوة السلفية ومجددها إلا أسلوب من أساليب إعاقة هذه الدعوة والطعن فيها.
وحين نحاول الكشف عن أبعاد هذه المعارضة ومدى حجمها، فإننا نبين - بإيجاز - حال المعارضة في بلاد نجد أثناء ظهور دعوة الشيخ الإمام (2)، وما نتج عن تلك المعارضة المحلية من انتشار واتساع في مكائدها ومطاعنها إلى مختلف البلاد والأمصار.
يصور ابن غنام (3) - المؤرخ الأول لهذه الدعوة - شدة المعارضة وصلابتها، فلما أورد ما فعله الشيخ ومعه ابن معمر في العيينة من هدم القباب وقطع الأشجار التي يتبرك بها، ذكر موقف المعارضين فقال رحمه الله:
__________
(1) وهما رسالتان خطيتان حصلت على صورة منهما عن طريق مكتبة الدولة في برلين بألمانيا.
(2) كتب الأستاذ محمد النويصر رسالة ماجستير بعنوان المعارضة المحلية في نجد لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، منذ ظهورها حتى سقوط الدرعية 1234هـ (غير منشور)، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود.
(3) هو حسين بن أبي بكر ابن غنام، ولد في المبرز بالإحساء، وانتقل إلى الدرعية ودرّس بها، وله مؤلفان : (العقد الثمين), و(تاريخ نجد)، وله قصائد شعرية في الدفاع عن الدعوة السلفية، توفي سنة 1225هـ في الدرعية.
انظر (مشاهير علماء نجد) ص 185.(1/32)
(فأخذوا في رده والإنكار عليه وأتوا بأعظم الأسباب، وزجوا الخلق في لجة الضلال والارتياب وضجوا على كلمة الحق بالتكذيب والإكذاب.
وأشر الناس والعلماء إنكاراً عليه، وأعظم تشنيعاً وسعياً بالشر إليه سليمان بن سحيم وأبوه محمد، فقد اهتم في ذلك وأنجد وجد في التحريش عليه والتحريض، وأرسل بذلك إلى الإحساء والحرمين والبصرة، فلم ينل من مراده سوى الخزي والعار والحسرة، ولقد كاد وشنع وعادى وحشر علماء السوء ونادى وكذب عليه وبهت وزور، فقاموا معه فوراً بالإنكار، وأفتوا للحكام والسلاطين بأن القائم بدعوة التوحيد خارجي.
وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع النبوي وتبديله وتجهيله وسطروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله (1).
ويذكر الدكتور عبد الله العثيمين عدداً - تقريباً - لأولئك الخصوم في نجد آنذاك، وتنوع مواقفهم فيقول:
(واضح من رسائل الشيخ (الشخصية) أن دعوته لقيت معارضة شديدة من قبل بعض علماء نجد، فالمتتبع لها يلاحظ أن أكثر من عشرين عالماً أو طالب علم وقفوا ضدها في وقت من الأوقات، ويأتي في مقدمة هؤلاء المعارضين عبد الله المويس (2)
__________
(1) روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد وغزوات ذوي الإسلام ط1، المكتبة الأهلية بالرياض، ص31 باختصار.
(2) هو عبد الله بن عيسى الشهير بالمويس، ولد في حرمة بنجد، وطلب العلم في الشام وكان خصماً شديداً للدعوة السلفية، توفي بحرمة سنة 1175هـ.
انظر : (السحب الوابلة) ص 692 (علماء نجد) 2 / 604(1/33)
من حرمة، وسليمان بن سحيم من الرياض، ويستفاد من هذه الرسائل أن معارضي الشيخ من النجديين كانوا مختلفي المواقف، فمنهم من عارضه واستمر في معارضته مثل المويس، ومنهم من كان يعترف في بداية الأمر بأن ما جاء به الشيخ أو بعضه حق، لكنه غيّر موقفه مع مرور الزمن مثل ابن سحيم، ومنهم – أيضاً – من كان متأرجحاً في تأييده ومعارضته مثل عبد الله بن عيسى (1). (2)
ويتحدث العثيمين عن أبرز أوجه كيد المعارضة النجدية، فيقول:
(تبين الرسائل (الشخصية للشيخ الإمام) أن نشاط المعارضة النجدية كان مختلف الجوانب، وفي مقدمة أوجه ذلك النشاط الكتابة ضدها والمتأمل في هذه الرسائل يرى كثرة تلك الكتابة، وإن كان من المتوقع أن أغلبها لم يكن طويل المحتوى.
الوجه الثاني من أوجه نشاط المعارضة النجدية: مجادلة ابن إسماعيل جماعة الشيخ في ثرمداء، ومجادلة سليمان بن سحيم لابن صالح في مجلس الشيوخ في الرياض.
الوجه الثالث: الاتصالات بالعلماء وذوي النفوذ خارج نجد وتحريضهم ضد الشيخ ودعوته، مثل إرسال بن سحيم كتاباً إلى العلماء خارج نجد وشكواه له عند أهل الحرمين، وقد ركب المويس وخواص أصحابه إلى أهل الكواز وقبة رجب يخبرونهم بإنكار الشيخ لما هم عليه، ويستثيرونهم ضده، كما ركب المويس مع ابن ربيعة وابن إسماعيل(3)
__________
(1) لم أعثر على ترجمة، وإنما الذي يعرف من الرسائل الشخصية للشيخ الإمام، أن عبد الله بن عيسى هو قاضي الدرعية ومطوعها، وأنه كان عالماً كبيراً، بدليل قول الشيخ (أن عبد الله بن عيسى ما نعرف في علماء نجد ولا غيره أجل منه) 5/187، وكان الشيخ الإمام قد بعث إليه عدة رسائل.
انظر : مجموعة الشيخ 5 / 240، 276، 280، 304، 314.
(2) الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ضمن بحوث أسبوع الشيخ)، مركز البحوث بجامعة الإمام 1403هـ / 108، 109.
(3) ابن إسماعيل وابن ربيعة وابن عبيد – كما هو الظاهر من هذا النص من خصوم الشيخ، وممن وقفوا ضد هذه الدعوة.
انظر توضيح ذلك : مجموعة الشيخ 5 / 20، 26، 27، 167، 205، 300.(1/34)
إلى أهل قبة أبي طالب وأغروهم بعدم اتباع الشيخ.
وواضح أن الاتحاد إلى الاستنجاد بالخارج يعكس إدراك المعارضين النجديين لضعفهم أمام دعوة الشيخ وفشلهم في إيقافها.
الوجه الرابع من وجوه نشاط المعارضين المحليين: ترويج الكتب التي ألفها علماء غير نجديين ضد الدعوة بين الناس، كما روج المويس وابن عبيد كتاب القباني البصري (1)، وكما روج المويس وابن إسماعيل كتاب ابن عفالق(2)(3).
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً وبياناً لبعض مكائد الخصوم وتكالبهم ضد هذه الدعوة السلفية بمختلف السبل، فإننا نورد بعض النقول المختارة من الرسائل الشخصية للشيخ الإمام، والتي تكشف عن ضخامة الكيد والعداء من قبل بعض علماء نجد ومطاوعتهم ضد هذه الدعوة الصادقة، كما تكشف عن حجم المعاناة ومقدار المشقات التي تجشمها الشيخ في سبيل دعوته.
ففي رسالته لأهل القصيم يشير الشيخ إلى كيد سليمان بن سحيم فيقول:
(وبلغني أن رسالة ابن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أموراً لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي)(4).
ويورد الشيخ في رسالته لابن عباد(5) مطوع ثرمداء بعضاً من مناهضة الخصوم – في نجد – ضد الدعوة السلفية فيقول:
__________
(1) سيأتي الحديث عن هذين الكتابين.
(2) المرجع السابق.
(3) الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ضمن بحوث أسبوع الشيخ) 1/111 – 113.
(4) مؤلفات الشيخ 5/11.
(5) هو محمد بن عباد الدوسري، ولد في البير إحدى قرى المحمل، ثم انتقل إلى حوطة سدير، وقرأ على علمائها، وصار قاضياً في ثرمداء، وتوفي بها سنة 1175هـ.
انظر : (علماء نجد) 3/812.(1/35)
(وكذلك أحمد بن يحيى(1) راعي رغبة عداوته لتوحيد الألوهية والاستهزاء بأهل العارض لما عرفوه، وإن كان يقر به أحياناً عداوة ظاهرة … وكذلك ابن إسماعيل أنه نقض ما أبرمت في التوحيد، وتعرف أن عنده الكتاب الذي صنفه رجل من أهل البصرة(2) كله من أوله إلى آخره في إنكار توحيد الألوهية، وأتاكم به ولد محمد بن سليمان(3) راعي وثيثيه، وقرأه عندكم وجادل به جماعتنا، وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه مثل ابن سحيم وابن عبيد يحتجون به علينا ويدعون الناس إليه..
وكذلك ما أتاهم كتاب ابن عفالق الذي أرسله المويس لابن إسماعيل، وقدم به عليكم العام (4)، وقرأه على جماعتكم يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية..) (5).
وفي رسالة لابن عيد أحد مطاوعة ثرمداء، ويقول الشيخ بعبارة مؤثرة:
(فلما أظهرت تصديق الرسول فيما جاء به سبوني غاية المسبة وزعموا أني أكفر أهل الإسلام وأستحل أموالهم)(6).
ويصف الشيخ عداوة الخصوم وفتنتهم في رسالته للسويدي، فيقول رحمه الله:
(ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس وكبرت الفتنة وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله..) (7).
ويهاجم الشيخ الإمام بعض خصومه الألداء كابن سحيم، ويصفه بما يناسب حاله وواقعه فقال رحمه الله:
(لكن البهيم (سليمان بن سحيم) لا يفهم معنى العبادة) (8).
ثم يقول: (فيا سبحان الله ما من عقولهم تفهم أن هذا الرجل من البقر، التي لا تميز بين التين والعنب) (9).
__________
(1) هما من خصوم دعوة الشيخ – كما هو الظاهر من هذا النص وغيره – ولم أعثر لهما على ترجمة.
(2) يعني به : أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني.
(3) هما من خصوم دعوة الشيخ – كما هو الظاهر من هذا النص وغيره – ولم أعثر لهما على ترجمة.
(4) يعني : العام الماضي.
(5) مؤلفات الشيخ 5 / 20 باختصار يسير.
(6) مجموعة مؤلفات الشيخ 5 / 26.
(7) المرجع السابق 5 / 36 ،37.
(8) المرجع السابق 5 / 90، 91.
(9) المرجع السابق 5 / 90، 91.(1/36)
ويذكر الشيخ في رسالته لعبد الرحمن بن ربيعة (1) مطوع ثادق بعضاً من أفاعيل المعارضين في صد الناس عن هذه الدعوة فقال الشيخ رحمه الله:
(فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى عندنا في إنكار هذا الدين والبراء منه، وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه، فإن استقمت على التوحيد وتبينت فيه، ودعوت الناس إليه، وجاهرت بعداوة هؤلاء خصوصاً ابن يحيى؛ لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفراً، وصبرت على الأذى في ذلك فأنت أخونا وحبيبنا) (2).
ويورد الشيخ في رسالته لأحمد بن إبراهيم(3) مطوع مرات نصاً مهماً يتضمن بعض مطاعن الخصوم من نجد وغيره، وشيئاً من شبهاتهم، وما كانوا عليه من حرص على عداوة الدعوة السلفية، يقول رحمه الله:
(وقد صرحوا - أي علماء الحرمين - أن من أقر بالتوحيد كفر، وحل ماله ودمه، وقتل في الحل والحرم. ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى: { لهم ما يشاؤون عند ربهم } ، فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء، فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في وشيقر ولسيف العتيقي (4) يرسلونها إليك.
__________
(1) لم أعثر له على ترجمة.
(2) المرجع السابق 5/ 167.
(3) لم أعثر له على ترجمة .
(4) هو سيف بن أحمد العتيقي، ولد في حرمة بسدير، وانتقل إلى الإحساء وتوفي بها سنة 1189هـ، وقد جمع الردود التي بها على الشيخ الإمام، فبلغت سفراً ضخماً وهي التي يقصدها الشيخ الإمام هاهنا.
انظر: (السحب الوابلة) ص671، (علماء نجد) 1/327.(1/37)
وجاءنا بعض المجلد الذي صنفه القباني، واستكتبوه أهل الحسا، وأهل نجد، وفيه نقل الإجماع على تحسين قبة الكواز وأمثالها، وعبادتها وعبادة سية طالب، ويقول في تصنيفه إلا ابن تيمية وابن القيم وعشرة أنا عاشرهم فالجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة … وأيضاً مكاتب أهل الحسا موجودة، فأما ابن عبد اللطيف(1) وابن عفالق وابن مطلق (2) فحشوا بالزبيل أعني سبابة التوحيد واستحلال دم من صدق به أو أنكر الشرك)(3)،(4).
ومع شدة هذه الخصومة وضراوتها، وشناعة هذا العناد، واستمراره إلا أن الشيخ رحمه الله قد كان حريصاً على هداية أولئك الخصوم، فيبذل الأسباب والوسائل لتحقيق ما يؤدي إلى استقامتهم والتزامهم بمتابعة الحق المؤيد بالدليل، ويظهر اللين والتلطف معهم، كما هو واضح في رسالته لشيخه عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف أحد علماء الإحساء، حيث يخاطبه فيقول:
(فإني أحبك وقد دعوت لك في صلاتي، وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقاً لدين الله) (5).
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الإحساني، وهو أحد شيوخ الشيخ الإمام في الإحساء، وقد راسله الشيخ ودعاه إلى الحق، ولكنه أعرض وألف رسالة ضد الشيخ : انظر (الدرر السنية) 9/216.
(2) لم أعثر له على ترجمة.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/205، 206 باختصار.
(4) اعتنى الشيخ الإمام بمراسلة مطاوعة بلدان نجد، كما هو بيّن جلي في تلك النصوص التي نقلناها، وغيرها، وكان يورد في رسائله كثيراً من الحجج المقنعة في إثبات صدق دعوته، وقد أشار الشيخ في إحدى رسائله إلى مدى أثر المطاوعة في بعض بلدان نجد فقال :
(إذا كان أهل الوشم وأهل سدير وغيرهم يقطعون أن كل مطوع في قرية لو ينقاد شيخها ما منهم أحد يتوقف) ( مجموعة الرسائل 5 / 207.
(5) الدرر السنية 1/ 32.(1/38)
وهذا الشيخ المخاطب قد ألفّ رسالة في الرد على الشيخ الإمام، سماها (سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد)(1).
ويخاطب الشيخ عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى فيقول:
(فإن كان إني أدع لك في سجودي، وأنت وأبوك أجل الناس إليّ وأحبهم عندي …) (2).
ومع ذلك فقد عانى الشيخ الإمام من الشيخ عبد الوهاب وأبيه معاناة شديدة، وأصابه منها همّ وغمّ كما هو مذكور في بعض رسائله (3).
ويصف الشيخُ الإمام محمد بن فيروز (4) - أثناء رسالته لأحمد بن إبراهيم مطوع مرات – فيقول رحمه الله:
(ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة وينتحل كلام الشيخ (ابن تيمية)وابن القيم خاصة...)(5).
ولكن هذا الخصم - محمد بن فيروز - قد بلغت محاربته ومناهضته لهذه الدعوة حداً لا يوصف، لذا مدحه أحد خصوم هذه الدعوة وهو الحداد (6) حيث قال مادحاً لابن فيروز:
(ولله در الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز الحنبلي لما قام مجتهداً ابتغاء مرضاة الله في إطفاء بدعة هذا الخبيث، كلما رأى وجهاً لبعض أهل المذاهب الأربعة، تبع ذلك الوجه إذا كان مخالفاً لما يعلمه أو يقوله ابن عبد الوهاب البدعي)(7).
__________
(1) انظر (مصباح الأنام) للحداد ص3.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/280.
(3) انظر مجموعة مؤلفات الشيخ 5/280، 314، 315.
(4) هو محمد بن عبد الله بن فيروز، من أهل نجد أصلاً، ولد في الإحساء سنة 1142هـ، مهر في عدة فنون، وله كثير من الشيوخ والتلاميذ، توفي في البصرة سنة 1216هـ.
انظر : (السحب الوابلة) ص721، (علماء نجد) 3/882.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/206.
(6) هو علوي بن أحمد بن الحسن الحداد، من أهل حضرموت، له عدة مؤلفات، توفي سنة 1232هـ.
(7) مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام)، المطبعة العامرة، مصر، 1325هـ، ص 60.(1/39)
وبلغ من كيد ابن فيروز أنه – كما قال ابن حميد (1) في السحب الوابلة (2) - (كاتب السلطان عبد الحميد خان يستنجده على قتال البغاة الخارجين بنجد) (3).
ويصل بابن فيروز الإسفاف وشناعة السباب وبذاءة اللسان لدرجة أنه كتب تقريظاً لرسالة تلميذه عبد الله بن داود(4) – أحد أفراخ ابن فيروز وواحد من خصوم الدعوة السلفية -، وتضمن تقريظه ما ذكره مسعود الندوي (5) – رحمه الله – حيث قال:
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن حميد ولد في عنيزة سنة 1232هـ، وكان إمام المقام الحنبلي في مكة، وقد برع في عدة علوم، إلا أنه كان خصماً ضد هذه الدعوة السلفية، توفي في مكة سنة1295هـ.
انظر ترجمته : في مجلة العرب ج9، 10، س12، ص642، (علماء نجد) 3 / 862.
(2) هو كتاب (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) ولا يزال في حكم المخطوط وقد ذكر مؤلفه تراجم الحنابلة من حيث وقف ابن رجب في (ذيل طبقات الحنابلة) سنة 751هـ وقد أعرض عن تراجم أئمة الدعوة – غالباً – بل طعن فيهم كما سيأتي موضحاً –.
انظر : مجلة العرب – الجزء السابق ذكره – ص 648.
(7) مجلة العرب ج9، 10، س12، ص 723.
(3) هو عبد الله بن داود الزبيري، ولد في الزبير، ورحل إلى الإحساء وتعلم بها، له مؤلفات، منها كتاب ضد هذه الدعوة السلفية بعنوان : (الصواعق والرعود)، توفي سنة 1225هـ.
انظر : (السحب الوابلة) ص 687، (علماء نجد) 2/539.
(4) مسعود الندوي (1328هـ - 1373هـ)، باحث إسلامي، وداعية كبير إلى الإسلام واللغة العربية، له عدة كتب.
انظر : (الأعلام) 7/221.
(5) محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه)، ترجمة عبد العليم البستوي، من مطبوعات جامعة الإمام، 1404هـ، ص 170، 171.(1/40)
(وفي بداية هذا التقريظ، يبصر القارئ للعبارة التالية، ولعلة يذوب حياء لمجرد رؤيتها، ولكن نقل الكفر ليس بكفر فاضغط على قلبك واقرأ: (.. بل لعل الشيخ - يعني عبد الوهاب - غفل عن مواقعة أمه – يعني محمد بن عبد الوهاب - فسبقه الشيطان إليها فكان أبا لهذا المارد … الخ إنا لله وإنا إليه راجعون – وهل يستطيع كبار المقذعين أن ينحطوا إلى هذا المستوى من الإقذاع) (1).
من خلال ما سبق يتضح – إجمالاً – شدة كيد الخصوم وقوة المعارضة في بلاد نجد وتنوع أساليبها، وتعدد وسائلها، وذلك أثناء ظهور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
وهذا البيان الموجز لموقف الخصوم من العلماء والمطاوعة في نجد أثناء ظهور دعوة الشيخ، هو بمثابة الذي يعطي صورة تقريبية لسلعة المعارضة عموماً وقوة نفوذها في مختلف البلاد.
وناسب - عقب ذلك - أن نذكر بعض ما سطره وكتبه الخصوم من الرسائل والمؤلفات ضد هذه الدعوة، مع مراعاة التدريب الزماني - حسب وفيات أولئك العلماء -، وكذلك مع مراعاة الترتيب المكاني - حسب القرب من موطن هذه الدعوة -، وكل ذلك قدر المستطاع، وقد نشير لبعض أسماء الخصوم ممن عادى هذه الدعوة، ولكن لم يصل إلينا شيئاً مما كتبوه، نظراً لما لهم من أثر في غيرهم بتأليف ما يعارض الدعوة، أو لاتصال جهودهم وارتباطها بمن ألفّ وصنّف ضد هذه الدعوة.
فممن عارض دعوة الشيخ الإمام وناصبها العداء في بلاد نجد أثناء ظهور الدعوة، عبد الله بن أحمد بن سحيم (2).
__________
(1) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن سحيم، ولد في المجمعة، وقرأ على علماء سدير، وصار قاضياً على بلدان سدير، وقد كتب له الشيخ الإمام رسالتين مجيباً فيهما على شبهاتي المويس وسليمان بن سحيم.
انظر : (علماء نجد) 2 / 512، (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/ 62، 130.
(2) علماء نجد) 2 / 512.(1/41)
(ت 1175هـ)، وهو من بيت آل سحيم الذي يضم أكثرمن خصم حارب الدعوة السلفية، ولكن المذكور - كما يقول البسام - (أخف عشيرته معاداة ومجابهة للدعوة السلفية) (1).
ومن أشد خصوم هذه الدعوة وأكثرهم عناداً ومناهضة، عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175هـ)، ومعاداته وخصومته ظاهرة جلية - من خلال رسائل الشيخ والتي أشرنا إلى بعض منها.
يقول ابن حميد في (السحب الوابلة) (وكان ممن أنكر على ابن عبد الوهاب وعلى أتباعه في ابتداء دعوتهم) (2).
وقد جاهر عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عدوان(3) (ت 1179هـ) بالعداوة للشيخ، (فألف رسالة في نحو ثمانية كراسات من القطع الصغير رد بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب) (4).
ويبدو أن هذه الرسالة في الوقف (5)، وكان مربد بن أحمد الوهيبي التميمي (6)
__________
(1) ص 692.
(3) ولد ابن عدوان في قرية أثيثية بالوشم، قرأ في عدة علوم، وله نظم، وبعض الرسائل توفي بعد رجوعه من المدينة عند واد يقال له العظيم.
(4) البسام، (علماء نجد) 2 / 474 وقد طلبت هذه الرسالة ممن يملكها فوعدني بها، ومازلت أكرر الطلب وهو يكرر الوعد، ولكن دون جدوى.
(5) لأن حمد الجاسر فيما يبدو فهم أن رسالة الوقف غير الرسالة التي رد بها ابن عدوان على الشيخ الإمام..، مع أن ظاهر عبارة ابن حميد في (السحب الوابلة) يدل على أنهما رسالة واحدة، يقول ابن حميد (منها رسالة في الوقف رد على مبتدع العارض) ولم يذكر ابن حميد غير هذا الرد، كما يبدو أن البسام ذكر الرسالة على أنها رد، ولم يبين أنها في الوقف، والله أعلم. انظر : (السحب الوابلة) ص 682.
(6) نشأ مربد بن أحمد في حريملاء، ثم طلب العلم في دمشق، وصار قاضي حريملاء، قتل سنة 1171هـ في بلدة رغبة.
انظر : (علماء نجد) 3 / 947.(1/42)
من أهل حريملاء من أعداء الدعوة، وبلغ من عداوته وتضليله أن ذهب إلى صنعاء في اليمن، فشوه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مما جعل الصنعاني - على رأي البسام - ينقض مدحه بقصيدة أخرى على وزنها (1).
__________
(1) يذكر البسام في (علماء نجد) 3 / 948، أن الصنعاني رجع عن مدحه، بخلاف بعض من المحققين، ويؤكد خصوم الشيخ أن الصنعاني قد رجع عن مدحه، ونقض قصيدته الأولى، بقصيدة أخرى شرحها حفيده يوسف بن إبراهيم الأمير، بعنوان (محو الحوبة في شرح أبيات التوبة) – انظر : (لفحات الوجد) ق17، و(كشف النقاب) ص 75 – ولقد ألف الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله كتاباً سماه (تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين) دافع فيه عن الإمامين ابن عبد الوهاب والصنعاني، وأكد ابن سحمان بعدة أدلة أن القصيدة التي نقض بها المدح – أولاً – إنما هي موضوعة ومكذوبة على الصنعاني لأنها تخالف ما كان عليه الصنعاني من اتباع السنّة وذم البدع وأهلها، كما هو ظاهر في كتبه، وقد رد ابن سحمان على القصيدة وعلى شرحها، نثراً ونظماً ولقد تضمن شرحه الأبيات كلاماً يخالف مخالفة صريحة لما قرره الصنعاني في كتبه مثل (تطهير الاعتقاد). فمن ذلك أن تلك القصيدة وشرحها قد تضمنتا الزعم بأن دعاء الموتى والاستغاثة بهم كفر عملي، والإمام الصنعاني قد عرف عنه أن الاستغاثة بالموتى ودعائهم من الكفر الاعتقادي المخرج عن دين الإسلام. انظر : (تبرئة الشيخين) ط1، مطبعة المنار مصر، 1343هـ، ص 182 – 195. ومما يؤكد ما ذكره ابن سحمان، أن القصيدة المزعومة قد شرحها يوسف بن إبراهيم الأمير، وهو حفيد الصنعاني، وقد عرف عن هذا الحفيد المناهضة والبغض للدعوة السلفية، فلا يبعد أن يكون هو صاحب القصيدة، خاصة وأن هذا الحفيد يقرظ الشعر. انظر: (لفحات الوجد) ق 18، ق 29، وانظر: المقال في التعريف بـ (لفحات الوجد) بمجلة العرب س 17، ج 9، 10، ص 744.(1/43)
ومن أشد هؤلاء الخصوم عداوة وكيداً، وأعظمهم إفكاً وتضليلاً، سليمان بن سحيم (ت 1181هـ)، فإن عداوته ظاهرة وواضحة كما في الرسائل الشخصية للشيخ الإمام أثناء الرد على مفترياته (1).
ولقد كانت رسالته المملوءة بالأكاذيب والشبهات ضد الدعوة السلفية، من أشد الوسائل تشويهاً للدعوة، وأشنعها تحريفاً وتزويراً لمبادئ هذه الدعوة ولأتباعها، حيث أن هذا الخصم قد بعث بتلك الرسالة إلى سائر علماء الأقطار والأمصار يستحثهم ويحرضهم ضد مجدد هذه الدعوة، ولقد كان لها آثارها وأصداءها السيئة ضد الدعوة ومجددها.
وكتب صالح بن عبد الله الصائغ (2) (ت 1183هـ) قصيدة يرد بها على الأمير الصنعاني لما مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثنى خيراً على دعوته.
ومطلع رد الصائغ:
سلام من الرحمن أحلى من الشهد ... ... وأطيب عرفاً من شذا المسك والورد
إلى معشر الإخوان أهل محبتي ... ... وأهل ودادي نعم ذلك من ود
وبعد فقد جاءت إلينا رسالة ... ... بها قول زور خارج من لدن زيدي (3)
ومن المناوئين لهذه الدعوة سيف بن أحمد العتيقي (ت 1189هـ) ويتجلى عدائه بأنه جمع الردود التي رد بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكانت سفراً ضخماً، ولكن - كما قال البسام - (إن هذا المجموع لا يعرف له وجود إلا بالذكر، وعند التصارع فإن البقاء للصالح من الأعمال والأقوال)(4).
__________
(1) انظر عبد الله العثيمين، بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة السعودية ط1، الرياض، 1404هـ (موقف سليمان بن سحيم من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 91 - 113).
(2) ولد الصائغ في عنيزة، ونشأ بها وصار قاضياً لها، له عدة تلاميذ ومؤلفات، توفي في عنيزة.
... انظر : (السحب الوابلة) ص 673، (علماء نجد) 2 / 364.
(3) علماء نجد) 2 / 364، ثم قال البسام بعد إيراد الأبيات الثلاثة السابقة : (وتقع في نحو اثني عشر بيتاً تركت بقيتها عمداً).
(4) البسام، (علماء نجد) 1/ 327.(1/44)
وسعى سليمان بن عبد الوهاب (1) (ت 1208هـ) - شقيق الشيخ الإمام - في معاداة الدعوة وتعددت أساليب خصومته ومناوئته … فقد ألف رسالة سماها (فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب) (2) كان من آثارها نكوص أهل حريملاء عن اتباع الدعوة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزت آثار الكتاب إلى العيينة، فارتاب وشك بعض من يدعي العلم - في العيينة - من صدق هذه الدعوة وصحتها (3).
يقول العثيمين عن ذلك:
__________
(1) ولد الشيخ سليمان في العيينة وتولى قضاء حريملاء، وأقام في سدير، وتوفي بالدرعية.
انظر : (علماء نجد) 1 / 302.
(2) ولعل هذا العنوان هو الاسم الصحيح لرد الشيخ سليمان على أخيه الشيخ الإمام، ويدل على ذلك ما ذكره ابن حميد في (السحب الوابلة) ص 699، والبسام في (علماء نجد) 1 / 304، وإليه يميل العثيمين في كتابه (الشيخ ابن عبد الوهاب) ص61، 101، وكذا الشبل في تحقيقه لكتاب (الأخبار النجدية) للفاخري ص 126. ولقد لاحظت أن هذا الكتاب له أسماء أخرى منها :
-الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، وقد طبع الكتاب بهذا الاسم في الهند 1306هـ، ثم مصر، وتركيا.
-حجة فصل الخطاب من كتاب رب الأرباب وحديث رسول الملك الوهاب وكلام أولي الألباب في إبطال مذهب محمد بن عبد الوهاب. نسخة خطية في مكتبة الأحقاف بحضرموت.
-الرد على من كفر المسلمين بسبب النذر لغير الله نسخة خطية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد ومما يجدر ذكره هاهنا أني لاحظت أن مخطوط (المشكاة المضيئة) في الرد على الوهابية المنسوب لابن السويدي إنما هو نسخة مكررة حرفياً من كتاب الشيخ سليمان بن عبد الوهاب …، اللهم إلا أن كتاب هذا السويدي يزيد عن كتاب الشيخ سليمان بوجود بعض السباب والألفاظ النابية.
انظر - مثلاً - : ق2، ق3، ق25.
(3) انظر : مجموعة الشيخ 1 / 281، ابن غنام 2 / 225.(1/45)
(لم يقتصر نشاط سليمان على بلدته – حريملاء – وإنما بذل جهداً لإقناع أهل العيينة بالخروج على الدعوة ودولتها، وكانت وسيلته في ذلك أن أرسل إليهم كتاباً ضمنه آراء تناقض آراء أخيه محمد في مسائل العقيدة..) (1).
ويظهر أن سليمان يخالف أخاه في مسألة الذبح والنذر لغير الله ونحوها فيعتبرهما سليمان من الشرك الأصغر، ويورد الأدلة لكلامه فيدعي أن ابن تيمية وابن القيم على ذلك الرأي الذي يقوله – كما سيأتي موضحاً في موضعه(2)
__________
(1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 61.
(2) حول مسألة هل رجع الشيخ سليمان عن ضلالاته وانضم إلى هذه الدعوة أم بقي مصراً على ذلك العداء ؟ يؤكد البسام – في (علماء نجد) 1 / 305 – بكثير من الأدلة عدم صحة رجوع الشيخ سليمان، وقد تعقب الأستاذ محمد السكاكر أدلة البسام بالمناقشة والرد كما في رسالته – لنيل الماجستير – (الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الدعوة) ص 126.
وليس المقام هاهنا مقام تفصيل ومقارنة بين أدله الطرفين، وإنما الذي يهمنا أن نذَّكر – ابتداء – بما قاله صلى الله عليه وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم. والأنبياء ثم الصحابة ومن بعدهم من سادات الموحدين، قد وجدوا في آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم العداوة الشديدة والخصومة الظاهرة لدعوة الحق والصواب فلا عجب أن يوجد ذلك فيمن بعدهم كما هو حال الشيخ سليمان – على من يقول بعدم توبته.. – مع أخيه محمد وأمر آخر وهو أن هناك أدلة – لم يذكرها البسام ولا السكاكر – كأنها ترجح عدم رجوع الشيخ سليمان..
منها ما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن :
(وممن أورد هذه الشبهة (عدم طروء الشرك في هذه الأمة) عليه – أي محمد بن عبد الوهاب عبد الله المويس راعي حرمة، وابن إسماعيل في الوشم، وسليمان بن عبد الوهاب في العارض) (مجموعة الرسائل والمسائل) النجدية) 3 / 53.
ويقول أيضاً بعد أن ساق بعض الردود على شبهات ابن منصور :
(وقد اكتفيت بما ذكره شيخنا في رده على سليمان بن عبد الوهاب الذي صدره بحديث عمرو ابن عبسة) (الدرر السنية) 9 / 201.
ولم ترد إشارة إلى توبته، بل يترحم عليه في هذين النصين.
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في كتابه (منهاج التأسيس). (قال (داود) النقل الرابع والعشرون ذكر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في رده على أخيه محمد بن عبد الوهاب …) ص 190.
وأثناء رد الشيخ عبد اللطيف على هذا النقل، لم يذكر شيئاً مما يدل على رجوع الشيخ سليمان ويبدو أن الشيخ عبد اللطيف لم يعلم برجوع الشيخ سليمان إلا أثناء تسويده لكتابه (مصباح الظلام)، بدليل أنه وصف سليمان بقصور العلم وقلة التحصيل، ثم قال بعد ذلك مباشرة -.. (وقد وقفت على رسالة تدل على رجوعه أثناء تسويد الكتاب) ص104، 105، وكتاب (مصباح الظلام) ألفه بعد تأليف (منهاج التأسيس) – وإن لم يتم المنهاج – كما دل على ذلك ما جاء في ص 335، 336، من المصباح. فيبعد أن يظل أمر رجوعه خفياً على المجدد الثاني الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وكذا ابنه الشيخ العالم عبد اللطيف، ثم لا يعلم الشيخ عبد اللطيف برجوع سليمان إلا أخيراً، والله أعلم، ورحمته أوسع.(1/46)
وناهض محمد بن فيروز (ت 1216هـ) دعوة الشيخ الإمام أشنع مناهضة وأشدها، وكاد لها بمختلف أنواع الكيد والمكر، ومن جملة كيده أنه ألف كتاباً في الرد على هذه الدعوة بعنوان (الرسالة المرضية في الرد على الوهابية)(1).
ما ذكرناه - سابقاً - أمثلة معدودة لما كتب ضد الشيخ ودعوته في بلاد نجد، وقبل سقوط الدرعية سنة 1234هـ.
أما عن بلاد الإحساء فقد ألف عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف - وهو أحد شيوخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في الإحساء - رسالة بعنوان (سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد) (2).
كما ألفّ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق (ت 1164هـ) رسالة وجهها إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان عنوانها (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين) (3)، وقد تضمنت هذه الرسالة أسئلة تعجيزية تهكمية، وبأسلوب يحمل طابع التحدي والغرور، وقد قصد بها ابن عفالق الطعن والتوهين في محمد بن عبد الوهاب، والنيل منه والاستخفاف به - كما هو ظاهر في هذه الرسالة -، كما أن هذه الأسئلة - من خلال الاطلاع عليها - ليست وكذا الجواب عليها من أصول العلم وواجباته، بل أقرب ما تكون إلى فضول العلم وترفه.
ومن هذه الأسئلة - المترفة - التي وجهها ابن عفالق إلى الشيخ لكي يجيب عليها، قول ابن عفالق:
__________
(1) ط. بمباوي 1307هـ انظر : العثيمين (الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره) ص 146.
(2) سبق ذكره.
(3) وهي رسالة مخطوطة، في مكتبة الجامعة الملكية في تبونجن بألمانيا، وقد حصلت على صورة منها.(1/47)
(وبعد فأسألك عن قوله تعالى: { والعاديات … } إلى آخر السورة هي من قصار المفصل كم فيها من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية، وكم فيها من مجاز مرسل ومجاز مركب، واستعارة تحقيقية، واستعارة وثاقية واستعارة عنادية واستعارة عامية واستعارة خاصية واستعارة أصلية واستعارة تبعية واستعارة مطلقة واستعارة مجردة واستعارة مرشحة وموضع الترشيح والتجريد فيها وموضع الاستعارة بالكناية والاستعارة التخيلية وما فيها من التشبيه الملفوف والمفروق والمفرد والمركب والتشبيه المجمل والمفصل. إلى آخر هذه الأسئلة)(1).
كما ألفّ ابن عفالق رسالة وجهها إلى عثمان بن معمر أمير العيينة(2) يشككه في دعوة الشيخ، ويطعن فيها حتى يتخلى عثمان عن نصرتها(3) – في بادئ الأمر -، وادعى ابن عفالق أن ابن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم في مسائل التوحيد(4)، وقد كتب ابن معمر رداً على رسالة ابن عفالق يذكر موافقته لدعوة الشيخ، مما جعل ابن عفالق يكتب جواباً عن رسالة ابن معمر(5) وقد شنّع في هذا الجواب على الشيخ الإمام وابن معمر، ورماهما بتكفير المسلمين وتضليلهم(6)، ويظهر من هذه الرسالة إلحاح ابن عفالق في إقناع ابن معمر بترك نصرة الشيخ (7).
__________
(1) تهكم المقلدين)، ق5.
(2) يوجد جواب بن عفالق على رد بن معمر مخطوطة في مكتبة الدولة في برلين بألمانيا، وقد حصلت على صورة منه.
(3) انظر من تلك الرسالة : ق 39، 40، 49، 52.
(4) انظر من تلك الرسالة : ق42، 44، 50، 52.
(5) يوجد جواب ابن عفالق على رد ابن معمر مخطوطاً في مكتبة الدولة في برلين بألمانيا وقد حصلت على صورة منه.
(6) انظر : ق57، 59، 63.
(7) مثلاً يقول ابن عفالق مخاطباً ابن معمر (وأرسلت لك ما فيه الكفاية) ق 63.(1/48)
وفي المدينة كتب محمد بن سليمان الكردي(1) (ت 1194هـ) أسئلة وأجوبة ضد الدعوة السلفية، حيث تضمنت مخالفة ومعارضة لما قرره وأكده أئمة الدعوة السلفية قديماً وحديثاً (2).
كما كتب الكردي تقريظاً لرسالة سليمان بن عبد الوهاب، مؤيداً له في ذلك، ومادحاً لرسالة سليمان ضد الدعوة السلفية، ومما حواه ذلك التقريظ هذه العبارة – التي يخاطب بها الشيخ الإمام:
(يا ابن عبد الوهاب سلام على من اتبع الهدى فإني أنصحك لله تعالى أن تكف لسانك عن المسلمين) (3).
وفي العراق كتب أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني(4)
__________
(1) محمد بن سليمان الكردي، ولد بدمشق سنة 1127هـ، ونشأ في المدينة، وتولى إفتاء الشافعية فيها، وله عدة مؤلفات، توفي بالمدينة. انظر (الأعلام) 6 / 152.
(2) عنوانها : (مسائل وأجوبة وردود على الخوارج)، صورة خطية عن معهد المخطوطات، وطبعت ضمن فتاواه في مصر 1357هـ.
(3) الحداد، (مصباح الأنام)، ص81.
(4) لم أعثر له على ترجمة، ويظهر أن كتابه كان له رواج عند خصوم الدعوة المعاصرين للشيخ كما جاء مدوناً في الرسائل الشخصية للشيخ.
انظر : (مجموعة الشيخ) 5 / 20، 206.(1/49)
(كان حيّا سنة 1157هـ) مجلداً ضخماً سمي بـ (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب) (1) يزيد عن مائتين ورقة، وهذا الكتاب جواب على رسالة ابن سحيم التي بعثها إلى علماء الأمصار تحريضاً لهم على الشيخ وتشويهاً للدعوة السلفية، ويظهر من هذا الكتاب شدة إلحاح ابن سحيم على أولئك العلماء من أجل مناهضة الشيخ الإمام ودعوته، حيث أنه تكرر منه الطلب مرة ثانية – كما يذكر القباني(2) – فكتب القباني هذا المجلد(3).
__________
(1) توجد منه صورة خطية في قسم المخطوطات بجامعة الإمام.
(2) انظر : (فصل الخطاب) ق124.
(3) مما يجدر ذكره هاهنا حول الاسم الصحيح لهذا الكتاب أن القباني أشار في مقدمة هذا الكتاب ق3، 4 ، أن ابن عبد الوهاب أرسل رسالة إليهم يدعوهم لعبادة الله وحده.. فألف القباني كتاباً في الرد على هذه الرسالة، سماه (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب)، فلما قدمت رسالة ابن سحيم وتكرره طلبه سنة 1157هـ، كتب عندئذ – القباني – كتاباً آخر هو اختصار للكتاب السابق وزيادة – كما قاله القباني – ، ومما يؤيد أن الكتاب الذي هو جواب على رسالة ابن سحيم مغاير للكتاب الأول (فصل الخطاب)، أن القباني – يكرر كثيراً (وذكرنا في فصل الخطاب..) انظر : ق31، 34، 48، 50، 53، 138، 166 ويؤكد ذلك ما ذكره الأستاذ عباس العزاوي في كتابه (ذكرى أبي الثناء الألوسي) أن الشيخ الإمام أرسل رسالة إلى البصرة في منتصف سنة 1155هـ، يدعوهم فيها، فأجابه القباني في كتابه (فصل الخطاب) راداً عليه بما وقع من ردود على شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر : ص34.
كما أن الشيخ الإمام أورد عبارة للقباني في تحسين بناء القباب على القبور، وإجماع العلماء على تجويزه – على حد زعمه -، انظر : (مجموعة الشيخ) 5 / 206. وهذه العبارة ليست موجودة – حسب اطلاعي – في الكتاب الآخر الذي هو جواب على رسالة ابن سحيم.(1/50)
وألف عبد الله بن داود الزبيري (ت 1225هـ) كتاباً في مناهضة هذه الدعوة سماه (الصواعق والرعود في الرد على ابن سعود) (1) .
يقول البسام في ترجمته للمذكور أنه (قد شرب من مشائخه (وأعظمهم محمد بن فيروز) عداوة للدعوة السلفية في نجد وزعيمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – لذا فإنه من أشد الجادين في مجابهتها ومعارضتها، وقد صنف في الرد عليه كتاباً سماه (الصواعق والرعود في الرد على ابن سعود)، إلا أن الله قد أبقى هذه الدعوة الطيبة في نمو وتقديم وتوسع في المشارق والمغارب وذهبت رعوده وبروقه خلباً فالحمد لله على المعتقد الحسن) (2).
ومن خلال الاطلاع على بعض كتب الخصوم، يظهر أن كتاب الصواعق والرعود له أهمية وعناية عند الخصوم، ويحظى مؤلفه بالمدح والتقدير لديهم.
فقد مدح محمد بن محمد القادري (3) هذا الكتاب وبالغ في الإطراء، والتبجيل لمؤلفه، فقال:
(وهو كتاب مخزون بالعجائب، ومشحون بالغرائب، عظيم النفع، جليل الشأن، واضح البرهان، لا نعرف كتاباً في هذا النمط أشرف منه وأعظم، ولا أنفس منه وأتم، من شأنه أن يكتب سطوره بالنور على خدود الحور … ومن أراد أن يعرف دسائس الشيطان التي ألقاها إلى ابن سعود، فعليه بمطالعة (الصواعق والرعود)، فإنه كتاب غريب في صنعه عجيب، وكان التصدي لإبطالها فرض كفاية على علماء المسلمين، لئلا يغتر بها عوام المؤمنين، ويصير الوزر عليهم أجمعين، فجزا الله حضرة الشيخ عبد الله بن داود حيث أبطلها في (الصواعق والرعود) أحسن الجزاء حيث رفع الوزر عنه وعنهم في دار الجزاء (4).
__________
(1) يوجد مخطوطاً في المكتبة الشرقية ببتنة في الهند رقم 1238، ويذكر الحداد في (مصباحه) ص 79 : أن عبد الله بن داود استفاد من رد القباني.
(2) علماء نجد) 2 / 539.
(3) لم أعثر له على ترجمة.
(4) رسالة صغيرة (بدون عنوان) في الرد على الوهابية، توجد في قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود – 7 ورقات، ق2.(1/51)
ومدح حسن بن عمر الشطي(1) الصواعق ومؤلفها فقال:
(وقد ألف العلامة المحقق والفهامة المدقق الشيخ عبد الله بن داود كتاباً مشهوراً مسمى بـ (الصواعق والرعود في الرد على ابن مسعود) فقد أطال في ابتداء أمره وسيرته وسيرة من بعده من خلفه، وقد انتشر هذا الكتاب واطلع عليه الفحول وأحسنوا الثناءات على مؤلفه …)(2).
وذكر علوي الحداد الصواعق ومؤلفه، فمدحه بقوله:
(وقد سمعت بكتاب مبسوط في عشرين كراساً سماه (الصواعق والرعود رداً على الشقي عبد العزيز بن سعود)، وقد قرظ عليه أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والإحساء وغيرهم، تأييداً لكلام مؤلفه وثناء منهم عليه، وقد أجادوا وبينوا) (3).
ويقول الحداد: (ومن أراد أن تقر عينه فعليه به أي بكتاب الصواعق والرعود للشيخ العلامة والبحر الفهامة عفيف الدين عبد الله بن داود الزبيري، فما أظنك تجد مثله …) (4)
ووصف ابن حميد هذا الكتاب بأنه (مجلد حافل أجاد فيه) (5)
__________
(1) هو حسن بن عمر بن معروف الشطي، من علماء دمشق، ولد بها سنة 1205هـ، له عدة مؤلفات، وله عدة تلاميذ توفي سنة 1274هـ. انظر (النعت الأكمل) ص 367.
(2) انظر تذييله على رسالة إثبات الصفات ق71، وكذا تذييله على رسالة مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد ق 39.
(3)(مصباح الأنام) ص3.
(4) المصدر السابق ص4.
(5)(السحب الوابلة) ص 687.(1/52)
وأما هذا الاهتمام والمدح الكبيرين لكتاب الصواعق ومؤلفه، فقد حرصت كثيراً على الحصول والاطلاع عليه، وبذلت جهدي في سبيل ذلك ولكن دون جدوى (1).
وفي اليمن كتب عبد الله بن عيسى الكوكباني (2) (ت 1224هـ) كتاباً في الطعن على دعوة الشيخ رحمه الله سماه (السيف الهندي في إبانة طريق الشيخ النجدي) (3) وقد حوت هذه الرسالة الكثير من المغالطات التاريخية حول تاريخ هذه الدعوة (4).
وفي حضرموت ألفّ علوي بن أحمد الحداد (ت 1232هـ) كتابين في مناهضة الشيخ ودعوته، فصنف كتاب بعنوان (السيف الباتر لعنق المنكر على الأكابر (5) ثم تبعه بآخر عنوانه (مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام).
__________
(1) علمت من خلال كتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) …. لمسعود الندوي أن هذا الكتاب يوجد مخطوطاً في مكتبة بتنة، الشرقية بالهند رقم 1238، فأرسلت في طلبه من تلك المكتبات بأكثر من خطاب، فجاء الرد متأخراً بالموافقة على ذلك وبشرط عسير، وهو إرسال كمية (ضخمة) من الكتب المطبوعة مثل (شذرات الذهب) لابن العمار، و(تاريخ بغداد) للخطيب، و(تهذيب التهذيب) لابن حجر وغيرها، ثم حاولت مرة ثانية وثالثة موضحاً صعوبة تحقيق هذا الطلب، أو على الأقل التنازل عن بعضه، فجاء الرد مؤكداً على الطلب السابق، فزهدت – عندئذٍ – في الحصول عليه.
(2) ولد الكوكباني سنة 1175هـ، وتعلم بحصن كوكبان، برز في عدة علوم، وعرف بالأدب وقرظ الشعر له عدة مؤلفات. انظر : (نيل الأوطار) 2 / 92.
(3) انظر : (لفحات الوجد من فعلات أهل نجد) ق 3.
(4) من هذه المغالطات التي ذكرها ابن عيسى ونقلها عنه صاحب اللفحات أن محمد بن عبد الوهاب المقدسي، وكان مبتدأ أمره خروج الشيخ ونزوله على الشيخ عبد العزيز النجدي، الذي لا يعرف حلالاً ولا حراماً ، ق 4، 5.
(5) علوي الحداد، (مصباح الأنام)، ص2.(1/53)
والكتاب الأخير يتكون من سبعة عشر فصلاً، وفي كل هذه الفصول رد على الدعوة السلفية، وتقرير ما يخالفها، فسوّد الحداد (مصباحه) بتقرير جواز الاستغاثة بالأموات والغلو في الأولياء، وتأكيد جواز البناء على القبور وتشييد المشاهد والمزارات لقبور الصالحين..
يقول الحداد في (مصباحه) مهوَّلاً شأن إخوانه من أدعياء العلم ممن أنكر الدعوة السلفية:
(ثم رأيت جواباً للعلماء الأكابر من المذاهب الأربعة لا يحصون بعدّ من أهل الحرمين الشريفين والإحساء والبصرة وبغداد وحلب واليمن وبلدان الإسلام نثراً ونظماً أتى إليّ بمجموع رجل من آل ابن عبد الرزاق الحنابلة الذين في الزبارة والبحرين فيه رد علماء كثيرين..) (1).
وكتب المدعو محمد بن محمد القادري رسالة قصيرة في الطعن على الشيخ والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود(2) (ت 1218هـ)، وذلك لما بلغت - هذا القادري - رسالة الأمير عبد العزيز التي توضح معتقدهم وتبين ما هم عليه، وقد كتب هذا الرد الذي هو أقرب إلى السباب والشتام سنه 1211هـ.. في مدينة حلب (3).
__________
(1) المصدر السابق ص 2، ص79.
وقد ذكر الحداد : منهم. أحمد المصري الإحسائي وعطاء المكي له رسالة بعنوان (الصارم الهندي في عنق النجدي) وألف المنعمي قصيدة في الرد على ابن عبد الوهاب.
انظر (مصباح الأنام) ص 2، 6.
(2) هو الإمام الذي تولى قيادة الدولة السعودية الأولى بعد وفاة والده، وقد امتدت وتوسعت الدولة في عهده …، واشتهر رحمه الله بالعدل والتقوى والإحسان إلى الرعية، مات مقتولا ًوهو يصلي على يد رافضي.
انظر : (عنوان المجد) 1/167.
(3) انظر : ق7 من هذه الرسالة.(1/54)
وألف عمر المحجوب (1) (ت 1222هـ) من علماء تونس رسالة في الرد على الوهابية (2)، لما بلغته رسالة الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، وهذه الرسالة – كأختها السابقة – غالباً مجرد طعن وتجريح على الدعوة السلفية، وبأسلوب مسجوع متكلف.
ومن بلاد المغرب كتب محمد بن عبد المجيد بن عبد السلام بن كيران الفاسي(3) (ت 1227هـ) أحد علماء فاس بالمغرب، رسالة بعنوان (الرد على بعض المبتدعين من الطائفة الوهابية) (4) (ت 1229هـ)، وكان سبب تأليف كتابه هو وصول رسالتين من الأمير سعود بن عبد العزيز (5) (ت 1229هـ) إلى تلك البلاد فكتب المذكور هذا الرد على تلك الرسالتين، مقلداً أسلافه الأوائل ممن طعن وأنكر هذه الدعوة الصادقة الحقّة.
وخلف أولئك الخصوم أثناء مدة الدولة السعودية الثانية (1235هـ – 1309هـ) أفراخهم ممن تلقف من شيوخه كره الدعوة والكيد لها، وأشربوا بغض الشيخ الإمام وأتباعه.
فظهر في بلاد نجد محمد بن علي بن سلوم (6)
__________
(1) هو عمر بن القسام بن محجوب التونسي انظر (معجم المؤلفين) 7 / 304.
(2) طبعت في تونس سنة 1327هـ، وانظر مناسبة تأليف هذه الرسالة من كتاب (إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) لأحمد بن أبي الضياف 3 / 63، 64.
(3) من فقهاء فاس، مالكي المذهب، له تصانيف. انظر : (الأعلام) 6/178.
(4) طبعت في مصر سنة 1327هـ.
(5) ولد الإمام سعود في الدرعية سنة 1165هـ، وعرف عهده بكثرة الغزوات، وقد تلقى العلم من الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان للإمام سعود مجالس علم وذكر. انظر (عنوان المجد) 1 / 225.
(6) هو الفرضي، ولد في العطار بسدير سنة 1161هـ ورحل إلى الإحساء، له عدة مؤلفات، وألغاز في الفقه والفرائض، وتوفي في بلدة سوق الشيوخ.
انظر (السحب الوابلة) ص 827، (علماء نجد) 3 / 909.(1/55)
(ت 1246هـ)، وهو ممن شرق بهذه الدعوة (1)، وقد ترك نجداً، إلى الإحساء، ثم انتقل إلى البصرة مع شيخه محمد بن فيروز والذي هو خصم عنيد لهذه الدعوة كما تقدم.
ومنهم عثمان بن سند البصري (2) (ت 1250هـ)، وعداوته ظاهرة في كتابه المسمى (مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود) (3)، وقد اختصره أمين بن حسن الحلواني المدني (4) (ت 1316هـ)، ومن مفتريات عثمان بن سند أنه يزعم أن أتباع هذه الدعوة يكفرون عموم المسلمين الذين على الكرة الأرضية (5).
__________
(1) يبدو أن البسام يميل إلى أن ابن سلوم ليس من خصوم هذه الدعوة.. وكأنه لم يطلع على ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف في إثبات تلك العداوة.
انظر : (الدرر السنية) 9 / 215، 217، 335.
(2) ولد عثمان في حريملاء سنة 1182هـ ، ورحل إلى الزبير، له عدة مؤلفات كما أن له قصائد شعرية توفي في بغداد.
انظر : (روضة الناظرين) 2 / 73، ولكنه لم يشر إلى تلك العداوة !.
(3) هو مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد، ر قم 5840.
(4) انظر : ترجمته في (الأعلام) 2 / 15، (معجم المؤلفين) 3 / 6.
(5) انظر : مختصر كتاب (مطالع السعود) لثمان بن سند اختصره أمين بن حسن طبعة محب الدين الخطيب، ص 80.
يذكر كاظم الدجيلي – في مجلة لغة العرب س 3، ع4، ص180 – أثناء ترجمة عثمان بن سند بأنه لم يرجع للوهابية لأنه طعن فيهم في هذا الكتاب (مطالع السعود) وقد صنفه في السنة الأخيرة من حياته.(1/56)
ومن أشد الخصوم – في بلاد نجد آنذاك – عداوة وكيداً لهذه الدعوة السلفية وأنصارها عثمان بن منصور(1) (ت 1282هـ)، وأن رسائل الشيخ عبد الرحمن بن حسن(2) والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن وغيرهم من علماء الدعوة ممن عاصر عثمان بن منصور، كل ذلك يؤكد شدة تلك العداوة والمناهضة لهذه الدعوة السلفية.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعض مؤلفات ابن منصور:
(أما بعد فإنا قد وجدنا في كتب عثمان بن منصور بخطوطه أموراً تتضمن الطعن على المسلمين، وتضليل إمامهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فيما دعا إليه من التوحيد، وإظهار ما يعتقده في أهل هذه الدعوة من أنهم خوارج تنزل الأحاديث التي وردت في الخوارج عليهم) (3).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن أحد كتب ابن منصور:
(وقد رأيت كتابه الذي سماه (جلاء الغمة)، ورأيت حشوه من مسبة دين الله، والصد عن سبيله، والكذب على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه، وأئمة الهدى ما لم نر مثله للمويس وابن فيروز والقباني وأمثالهم ممن تجرد لعداوة الدين ومسبة مشائخ المسلمين) (4).
__________
(1) هو عثمان بن عبد العزيز بن منصور الناصري، ولد في أول القرن الثالث عشر في بلدة الفرعة بسدير، وطلب العلم في العراق، له مؤلفات منها (شرح كتاب التوحيد) للشيخ الإمام وتولى القضاء وتوفي في حوطة سدير. انظر: (علماء نجد) 3 / 6693.
(2) الشيخ عبد الرحمن بن حسن، هو المجدد الثاني و لد في الدرعية سنة 1193هـ درس على كبار علماء نجد وولي القضاء، وبعد سقوط الدرعية، نقل إلى مصر، ودرس على علمائها، ثم عاد إلى نجد حين طلبه تركي بن عبد الله، له عدة مؤلفات، توفي في الرياض.
انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 78، (علماء نجد) 1 / 56.
(3) الدرر السنية) 9 / 194.
(4) المصدر السابق 9 / 351.(1/57)
وأما كتبه التي ألفها ضد هذه الدعوة ومجددها فهي: جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة (1)، وغسل الدرن عما ركبه هذا الرجل من المحن، وتبصرة أولي الألباب (2).
وله كتاب رابع بعنوان (منهج المعارج لأخبار الخوارج)(3)
__________
(1) انظر : عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، (مصباح الظلام) ط3، دار الهداية، الرياض، ص16.
(2) المصدر السابق ص 30.
(3) وهو محفوظ في دار الكتب المصرية، وقد حصلت على صورة منه عن طريق د. عبد الله الشبل، وهذا المخطوط يصل إلى 186 ورقة تضمن أخبار الخوارج وتاريخهم، ولكنه في المقدمة ق6 ذكر كلاماً يطابق كلامه في كتابه جلاء الغمة – كما نقله الشيخ عبد اللطيف في كتابه (مصباح الظلام) ص 66، ومضمونه الطعن على هذه الدعوة وأتباعها ورميهم بتكفير المسلمين الذين يعمرون المساجد والمدارس …، ولذا ألحقنا هذا الكتاب ضمن المؤلفات المعادية للدعوة خاصة وأن الشيخ عبد الرحمن بن حسن قد لام عثمان بن منصور حين ألف في الخوارج، فكان مما قاله الشيخ عبد الرحمن :
(ومن الأمور الظاهرة البينة أنك تكتب في الخوارج وتذكر كلام شيخ الإسلام فيهم، والواقع في كثير من الأمة أعظم من مقالة الخوارج، عبادة الأوثان وتزيين عبادتها وإنكار التوحيد. والخوارج ما عندنا أحد منهم حتى في الأمصار، ما فيها طائفة تقول بقول الخوارج إلا الإباضية في أقصى عمان، ووقعوا في ما هو أكبر من رأي الخوارج، وهي عبادة الأوثان، ولا وجدنا لخطك وتسمية بالخوارج، وتسمية بالمعارج إلا أن هذه الدعوة الإسلامية التي هي دعوة الرسل إذا كفروا من أنكرها. قلت : يكفرون المسلمين لأنهم يقولون لا إله إلا الله (الدرر السنية) 9 / 231. وانظر حال ابن منصور وتلقيه عن مشايخه ابن سلوم. وابن سند، وابن جديد (عداوة الشيخ الإمام وبغض دعوته من خلال ما كتبة الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف في (الدرر السنية) 9 / 187، 195، 202، 210، 217، 333، 334.
ومن الإنصاف مع الشيخ عثمان بن منصور أن أسجل ما أخبرني به الشيخ أحمد بن عبد الله بن حميد في شهر ذي الحجة 1405هـ والده الشيخ العلامة عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – أنه ذكر – وبطريق موثق – رجوع الشيخ عثمان بن منصور عن ضلالاته.
كما أني اطلعت على رسالة قصيرة لابن منصور بعنوان (الرد الدامغ على الزعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية زائغ) وهي رد على شيخه عثمان بن سند البصري، وهذه الرسالة موجودة بقسم المخطوطات بجامعة الإمام / رقم 2137 (1- 3ب).(1/58)
، كما أنه كتب قصيدة يمدح داود بن جرجيس أحد المناوئين للدعوة، ويحثه على مناهضة أئمة الدعوة السلفية ويسميهم عثمان بالخوارج (1).
وممن كتب ضد الدعوة السلفية – آنذاك – محمد بن عبد الله بن حميد (ت 1295هـ)، وتمثلت هذه الكتابة في إعراضه في كتابه (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) عن إيراد تراجم علماء الدعوة إلا ما ندر مثل ترجمته لشيخه الشيخ عبد الله أبو بطين رحمه الله، وذكره العلماء الذين ناهضوا الدعوة السلفية، وقد شنع ابن حميد في تراجم الخصوم على أهل الحق بالباطل، ومدح الخصوم على ردودهم، كما أنه يطلق بعض الأوصاف الشنيعة على الشيخ الإمام رحمه الله – كما هو واضح أثناء ترجمته لعبد الوهاب بن سليمان والد الشيخ الإمام (2).
وكتب ابن حميد – أيضاً – رسالة تضمنت الدفاع عن أبيات بردة البوصيري، والرد على الشيخ أبي بطين لما أجاب بما هو الحق عن أبيات البردة الشركية (3).
وفي الحجاز تولى أحمد بن زيني دحلان (4) (ت 1304هـ) – وكان مفتي الشافعية في مكة – بث الأكاذيب والمفتريات ضد الدعوة السلفية ومجددها، ولقد كان لتلك الأكاذيب التي تقوّلها على الدعوة وأنصارها، انتشار بين الناس، خاصة عند الحجاج القادمين من سائر أقطار المسلمين.
فمن كتبه (5)
__________
(1) انظر : (الدرر السنية) 9 / 348، 349.
(2) انظر : (السحب الوابلة) ص 698، 699.
(3) انظر : (مجموعة التوحيد) ط آل ثاني، المكتب الإسلامي دمشق، 1381هـ، ص 435، 436.
(4) ولد دحلان بمكة سنه 1232هـ، وتولى فيها الإفتاء والتدريس، له عدة مؤلفات في التاريخ والعقيدة والنحو..، مات في المدينة. يقول عنه محمد رشيد رضا : إن دحلان غير محدث ولا مؤرخ ولا متكلم وإنما هو مقلد للمقلدين ونقال من كتب المتأخرين.
انظر ترجمته : (الأعلام) 1 / 129، (معجم المؤلفين) 1 / 29، مجلة المنار م7، ص 393
(5) يقول فوزان السابق في (البيان والإشهار) :
(قد قال بعض الفضلاء من علماء مكة : تصانيف دحلان كالميتة لا يأكلها إلا المضطر. وقد رد عليه كثير من علماء الهند والعراق ونجد وغيرهم ففضحوه وبينوا ضلاله. وقد سمعت غير واحد ممن يوثق بهم من أهل العلم يقولون : أن دحلان هذا رافضي لكنه أخفى مذهبه وتسمى بتقليد أحد الأئمة الأربعة ستراً لمقاصده الخبيثة، ولنيل المناصب التي يأكل منها. ومن أدل الدليل على رفضه الخبيث، تأليفه لكتاب (أسنى المطالب في نجاة أبي طالب) الذي ردّ فيه بهواه نصوص الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة) ص 45.(1/59)
التي ألفها ضد الدعوة السلفية رسالته المسماة (الدرر السنية في الرد على الوهابية) وقد طبعت عدة مرات، وهي موجودة ضمن كتابة (خلاصة الكلام) في أمراء البلد الحرام، كما أنها موجودة ضمن كتابه (الفتوحات الإسلامية).
ولقد كان لوجود دحلان في مكة أثر قوي في رواج مفترياته وشبهاته، لذا يقول محمد منظور النعماني (1) – مبيناً مدى انتشار تلك المطاعين بعد سقوط الدرعية 1234هـ.
(صادرت أرض الحجاز مركز دعاية ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعته بعدما أقصت الوهابيين قوات محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك على إيعاز من الحكومة العثمانية.. وأضحت تنتشر في الحجاز – فيما يتصل بالشيخ – أمور مستهجنة إن سمعها مسلم فإنه لا يكره شخصه فحسب.. بل يعتبره أكفر الكافرين في العالم كله.
وبما أن الحرمين الشريفين هما مركز المسلمين الروحي والديني ومهد الدعوة الإسلامية ومنتجع الحجيج من المسلمين في العالم كله، يختلف إليها المسلمون ولا سيما في مناسبة الموسم فساعد كل ذلك على انتشار كل ما يحاك فيهما ضد الوهابيين أو يدور حولهم في المحافل والنوادي أو يقال ويكتب في المؤلفات ساعده على انتشار في طول العالم وعرضه (2).
ولما ردّ بعض علماء الدعوة على شيخ الكذب دحلان – كما يصفه البعض، ودحلان جدير بهذا الوصف -، كتب محمد سعيد بابصيل (3) – من مكة – (وكان حيّاً سنة 1293هـ) رسالة بعنوان (القول المجدي) (4) مدافعاً عن دحلان ومعترضاً على أولئك الأئمة.
__________
(1) ولد محمد منظور النعماني عام 1323هـ في إحدى قرى الهند، حارب البدع والخرافات، له عدة مؤلفات نافعة، لا يزال حياً.
انظر : مقدمة كتابه (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ص 7.
(2) دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الفرقان، الهند، 1400هـ ص 26، 27.
(3) هو محمد بن سعيد محمد بابصيل، له مؤلفات. انظر (معجم المؤلفين) 10 / 36.
(4) انظر : مقدمة كتاب (البيان المجدي) لابن سحمان.(1/60)
وفي اليمن كتب محسن بن عبد الكريم بن إسحاق الحسني (1) من صنعاء (ت 1266هـ) كتاباً ضد الدعوة وأنصارها، سماه (لفحات الوجد من فعلات أهل نجد) (2) وهو عبارة عن أبيات شعرية كتبها ضد الوهابية ثم شرحها في هذا الكتاب، وهو ينقل كثيراً عن أسلافه ممن عادى الدعوة السلفية الوهابية، فقد تلقف كثيراً مما كتبه الكوكباني صاحب (السيف الهندي في إبانة طريق الشيخ النجدي) كما تلقف ما كتبه يوسف بن إبراهيم الأمير (3) - وهو حفيد الصنعاني الأمير – من وصف الوهابيين بالخوارج (4)، وقد جعل في آخر الرسالة بعض المسائل الفقهية التي يعارض فيها أئمة الدعوة (5).
وكتب عبد الله بن حسين بلفقيه العلوي(6)
__________
(1) ولد سنة 1191هـ في صنعاء وتعلم بها، له عدة مؤلفات، كما أن له نظم. انظر : (البدر الطالع) 2 / 78 و(نيل الوطر) 2 / 201.
(2) وتوجد من هذا الكتاب نسختان خطيتان في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء وقد حصلت على صورة خطية – من مكتبة أرامكو بالظهران – تحت عنوان (شرح أبيات في الرد على الوهابية) لمؤلف مجهول، ولما قرأت مقالة الأستاذ عبد الله محمد الحبشي في التعريف بكتاب (لفحات الوجد)، لاحظت التطابق التام بين النصوص التي يوردها الحبشي من هذ1 الكتاب ، وبين نصوص ذلك المخطوط الأخر، كما يظهر التشابه الحرفي بين مقدمة كلا الكتابين، وخاتمتها، وكذا المعلومات التاريخية والأعلام والأماكن إلى آخره مما جعلني أكاد أجزم بأن نسخة أرامكو هي مجرد نسخة مكررة من كتاب لفحات الوجد.
انظر : مقال الحبشي في التعريف بهذا الكتاب، مجلة العرب، 17، ح9، 10، ص 744.
(3) انظر : ترجمة في (نيل الوطر) 2/414.
(4) انظر ق 32 – 44، 46 – 62، 75 – 79.
(5) انظر : ق80 – 98.
(6) ولد بلفقيه في تريم بحضرموت سنة 1198هـ وتوفي بها، له عدة مؤلفات.
انظر : (الأعلام) 4/80.(1/61)
(ت 1266هـ) من حضرموت رسالة في الرد على الوهابية (1)، وتتميّز هذه الرسالة بخلوها من الألفاظ النابية والكلمات التجريحية – والتي جرت عادة الخصوم أن يسطروها في كتبهم. وهذه الرسالة تدور حول تقرير أن الشرك في الدعاء لغير الله ليس بأكبر .. وقد تكلّف المؤلف الكثير من الأدلة والمناقشات من أجل تقرير دعواه (2).
وعرف حسن بن عمر الشطي (ت 1274هـ) من الشام بعدائه وبغضه للدعوة السلفية كما هو صريح كتابته التي سطرها تذييلاً على رسالتي (إثبات الصفات)(3) ورسالة (مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد) (4)، فقد رمى صاحب الدعوة بادعاء النبوة، والتمثيل في صفات الله، كما ألصق به فرية تكفير المسلمين، وغيرها من الأكاذيب والدعاوى الباطلة(5)، مع أنه قد كتب هذا التذييل - القبيح - بعد اطلاعه وقراءته لرسائل أئمة الدعوة.
__________
(1) حصلت على صورة خطية منها عن طريق معهد المخطوطات بالكويت الذي صورها من مكتبة الأحقاف في تريم بحضرموت.
(2) وله رسالة خطية في (الرد على الخوارج ومن نحا نحوهم) حيث ذكر نفس المسائل الفقهية التي ذكرها محسن بن عبد الكريم صاحب اللفحات، وخالف فيها أتباع الدعوة مثل مسألة المسبحة ووجوب الصلاة في المسجد، ومسألة التبغ (التنباك) وغيرها.
(3) سيأتي التعريف بتلك الرسالتين، والتحقيق في مؤلفهما.
(4) المرجع السابق.
(5) انظر : تذييله على رسالة في (مشاجرة بين أهل مكة ونجد) ق39، 40، وانظر : تذييله على رسالة في (إثبات الصفات)، ق70، 71.(1/62)
وفي بلاد العراق وجد الكثير من الخصوم ممن ناهض هذه الدعوة، وكتب المؤلفات ضدها، نذكر منها: علي نقي اللكنهوري(1) (ت 1289هـ) حيث ألفّ رسالة سماها (كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب)(2) وقد حوى الكتاب الكثير من المطاعن والشبهات على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما ضم الكثير من المعلومات الخاطئة فيما يتعلق بتاريخ الدعوة السلفية وأعمالها.
ومن هؤلاء الخصوم داود بن سليمان بن جرجيس البغدادي (ت 1299هـ)، وكانت خصومته شديدة جداً، وعداوته ظاهرة ومستفحلة حيث أن المذكور قدم نجداً، وتلقى شيئاً من العلوم الشرعية عن طريق بعض مشايخ نجد(3)، ثم ما لبث أن أظهر العداوة، وطعن في رسائل أئمة الدعوة فزعم أنها تخالف ما قرره السلف الأوائل كابن تيمية وابن القيم وغيرهما(4)، لذا فقد تأثر به بعض أدعياء العلم(5)، كما مدحه ابن منصور - كما تقدم -.
وتظهر عداوته في كتابه المسمى: (صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين في تبرئة ابن تيمية وابن القيم) (6) حيث ضم كتابه نقولاً متعددة لابن تيمية وابن القيّم حرّفها وغلط في فهمها متعمداً هذا التحريف والتلبيس ليقرر بها جواز الاستغاثة بالموتى ودعاءهم.
__________
(1) اللكنهوري فقيه إمامي، من أهل كربلاء، له مؤلفات، انظر : (الأعلام) 5 / 30.
(2) طبع في النجف بالعراق، سنة 1345هـ.
(3) انظر (تأسيس التقديس) لابن بطين ص2، 3.
(4) انظر بيان ذلك والرد عليه من خلال كتاب (منهاج التأسيس) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. و (تتمة المنهاج) للألوسي.
(5) انظر : رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن لأهل عنيزة معاتباً لهم على إكرام داود بن جرجيس. (الدرر السنية) 9 / 329.
(6) طبع في الهند (بمباي) سنة 1306هـ.(1/63)
وله كتاب آخر سماه (المنحة الوهبية في رد الوهابية) (1) أكد فيه أن للموتى حياة في قبورهم مثلما كان لهم حياة الدنيا، وأن لهم شعور وإحساس كالأحياء، ويقرر ذلك بمختلف الدعاوى، والأقاويل، ليتوصل من هذا التقرير إلى تجويز الاستغاثة بهم ودعاءهم كالأحياء تماماً.
وله رسالة ثالثة في الرد على العلامة محمود الآلوسي في مسألة التوسل(2).
وألف محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني(3) (ت 1303هـ) كتاباً سماه:
(إزهاق الباطل في رد شبه الفرق الوهابية)(4)، ولا يزال مخطوطاً - ولله الحمد - وهو يزيد عن مائة ورقة، وغالب موضوعات الكتاب تدور حول تجويز الاستغاثة بالموتى وطلب الحاجات منها، وإباحة طلب الشفاعة من الأموات والحث على الغلو في المشاهد والقبور …
وكتب جعفر النجفي(5) (ت 1303هـ) مؤلفات بعنوان (منهج الرشاد لمن أراد السداد)(6)، وكان سبب تألفيه هو اطلاعه على كتاب من عبد العزيز بن سعود – كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه -، فصنف هذا الكتاب، مقلداً أسلافه في تجويز الاستغاثة بالأموات وسؤالهم المدد، وطلب الشفاعة منهم، ونحو ذلك فكل ذلك جائز مادام أن فاعله يعتقد أن الله هو الفاعل المختار - على حد زعم النجفي وأسلافه -.
__________
(1) طبع أكثر من طبعة. منها طبعة بمباي 1305هـ، وطبعة استانبول سنة 1403هـ.
(2) طبعت مع كتابه (صلح الإخوان) .
(3) هو إمامي من كاظمة بالعراق، له عدة كتب، انظر : (الأعلام) 6/258.
(4) حصلت على صورة منه عن طريق دارة الملك عبد العزيز.
(5) هو جعفر بن الحسين، إمامي، دفن بالنجف له عدة مؤلفات انظر : (الأعلام) 2 / 124.
(6) طبع في النجف بالعراق سنة 1342هـ.(1/64)
وفي تونس صنّف المدعو أبو الفداء إسماعيل التميمي(1) (ت 1248) مجلداً سماه (المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية) (2)وهو مخطوط تصل أوراقه إلى تسعين ورقة.
وكتب أحمد سعيد السرهندي النقشبندي(3) (ت 1277هـ) رسالة بعنوان (الحق المبين في الرد على الوهابيين).
ومع بداية الدولة السعودية الثالثة (1319هـ) ظهر خصوم جدد بعد زوال أسلافهم، نذكر بعضاً منهم مع مؤلفاتهم – حسب ترتيب وفياتهم – وبإيجاز:
فكتب إبراهيم السمنودي(4) في مصر (ت بعد 1326هـ) مصنفاً في مجلدين بعنوان (سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية) (5).
وألف المدعو مختار أحمد باشا المؤيد(6) من الشام (ت 1340هـ) رسالة سماها (جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام) (7).
وكتب مصطفى بن أحمد بن حسن الشطي(8) من الشام (ت 1348هـ) رسالة بعنوان (النقول الشرعية في الرد على الوهابية) (9).
__________
(1) فقيه مالكي، من دعاة الحكومة العثمانية، له رسائل وفتاوى، انظر : (الأعلام) 1 / 326، (معجم المؤلفين) 2 / 623.
(2) حصلت على صورة خطية منه عن طريق معهد المخطوطات بالكويت، وانظر مناسبة تأليف هذا الكتاب من تاريخ ابن أبي الضياف 3 / 64.
(3) أحمد سعيد صوفي، ولد سنة 1213هـ، انظر : (معجم المؤلفين) 1 / 232.
(4) إبراهيم بن عثمان السمنودي الأزهري له مؤلفات، انظر : (الأعلام) 1/50 و (معجم المؤلفين) 1/57.
(5) طبع في مصر سنة 1319هـ.
(6) ولد مختار في دمشق سنة 1237هـ، وتوفي بها زار المدينة ومصر، له مؤلفات. انظر : الأعلام 7 / 191.
(7) طبع في دمشق 1330هـ.
(8) ولد سنة 1272هـ، حنبلي صوفي، ولي التدريس والقضاء. انظر : (النعت الأكمل) (ومع الزيادات) ص 413.
(9) طبعت ضمن رسائل ضد الدعوة السلفية، في مصر أكثر من طبعة.(1/65)
أما يوسف النبهاني(1) من بيروت (ت 1350هـ) فله كتاب بعنوان (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) (2) تضمن الطعن في الوهابيين وابن تيمية وغيرهم، لأنهم منعوا الاستغاثة بالموتى.
ونظم القصيدة المسماة (الرائية الصغرى) (3) في الافتراء على الوهابيين.
وكتب جميل صدقي الزهاوي(4) أحد شعراء العراق (ت 1354هـ) كتاباً سماه (الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق) (5) فالشاعر الزهاوي ينكر على الوهابيين تحريمهم الاستغاثة بالأموات وتحريم الغلو فيهم.
وفي الشام - أيضاَ - كتب محمد عطاء الكسم (6) (ت 1357هـ) رسالة بعنوان (الأقوال المرضية في الرد على الوهابية) (7).
وأما يوسف الدجوي(8)(9)
__________
(1) يوسف بن إسماعيل النبهاني عمل في القضاء والصحافة له عدة كتب، كما أن له نظم، يقول عنه محمد رشيد رضا : كتبه مملوءة بالروايات الموضوعة والمنكرة وكان يروج كتبه لكي يمهد بذلك السبيل ادعاء المهدية لنفسه، انظر : (الأعلام) 8 / 218، (المنار) م13، ج10، ص 797.
(2) طبع في مطبعة الحلبي بمصر.
(3) طبعت عدة مرات.
(4) ولد الزهاوي سنة 1279هـ في بغداد، وتوفي بها، تقلب في عدة مناصب له عدة كتب ومقاولات. يقول محمد رشيد رضا عنه : سمعت من كثير من الذين عرفوا الزهاوي في الأستانة أنه ملحد لا يدين بدين وقد تهجم الزهاوي على الشريعة الإسلامية وطعن فيها..
انظر : (الأعلام) 2 / 137، (المنار) م13، ج11 ص 841، أم القرى ع 103.
(5) طبع في مصر سنة 1323هـ، وطبع أخيراً في استانبول بتركيا.
(6) فقيه حنفي، ولد بدمشق وتوفي بها، كان مفتياً لسوريا، وله مؤلفات.
انظر : (معجم المؤلفين) 10 / 293.
(7) طبعت في المطبعة العمومية بمصر سنة 1901 م.
(8) من علماء الأزهر، ولد في إحدى قرى مصر سنة 1287هـ، له عدة كتب.
انظر: (الأعلام) 8/216.(1/66)
من مصر (ت 1365هـ) فقد حشى مجلة نور الإسلام بمقالات متعددة(1)(2) يطعن فيها بعقيدة السلف الصالح التي دعا إليها أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأما محسن الأمين العاملي (3) أحد شيعة العراق (ت 1371هـ) فله كتاب بعنوان (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب) (4) كما أن لأحمد بن داود بن جرجيس (5) (ت 1367هـ) من العراق رسالة بعنوان (المواهب الرحمانية في الرد على الوهابية).
وطعن محمد جميل الشطي(6) (ت 1379هـ) من الشام في الوهابية في كتابه:
(الوسيط بين الإفراط والتفريط) وكتب حسن الطباطبائي (7) من العراق (ت 1380هـ) مصنفاً سماه (البراهين الجلية في تشكيكات الوهابية) (8) دافع فيه عن الإمامية وطعن في الوهابية وعقائدهم.
__________
(1) فقيه حنفي، ولد بدمشق وتوفي بها، كان مفتياً لسوريا، وله مؤلفات.
انظر : (معجم المؤلفين) 10 / 293.
(2) انظر: مجلة نور الإسلام م 1 ص 588 – 591، م 2 ص 29 – 37، ص 114 – 131، 282 – 890، م 4 ص 255 – 260، م 5 ص 519 – 527.
(3) من مجتهدي الإمامية، ولد في إحدى قرى العراق سنة 1282هـ، وتوفي بدمشق له عدة مؤلفات انظر : (الأعلام) 5/287.
(4) طبع بدمشق سنة 1346هـ، وأعاد ابنه طبعه - مع زيادات - سنة 1962 م.
(5) متصوف، عمل مدرساً، ووزيراً، واشتغل بالوعظ له رسائل.
انظر (الأعلام) 1 / 123.
(6) ولد بدمشق سنة 1300هـ له مؤلفات في الأدب والتاريخ اشتغل بالقضاء والإفتاء.
انظر : (النعت الأكمل) ص 431.
(7) لم أعثر على ترجمة، وكان معاصراً للشيخ ابن سحمان (ت 1349هـ) حيث ردّ عليه بكتاب – لا يزال مخطوطاً – سماه (الحجج الواضحة الإسلامية).
(8) طبعت عدة مرات.(1/67)
ومن الكتابات المعاصرة التي ناهضت الدعوة السلفية ما كتبه حسن بن حسن خزبك (1)، فله رسالة بعنوان (المقالات الوفية في الرد على الوهابية) (2). وصنف مصطفى الكريمي (3) رسالة (السنيين في الرد على المبتدعين الوهابيين) (4).
وألفّ عبد القادر الأسكندراني (5) من دمشق الشام رسالة بعنوان (النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية)(6).
ثم جاء المدعو محمد توفيق سوقيه من الشام(7) فكتب ما أسماه (تبيين الحق والصواب بالرد على أتباع ابن عبد الوهاب) (8).
وكتب محمد بن أحمد نور (9) من السودان رسالة في الطعن على عقائد الوهابيين (10)، كما كتب الشيعي المعاصر محمد جواد مغنية رسالة بعنوان (هذه هي الوهابية)(11)، وجمع محمد الطاهر يوسف بعض الأقوال الكاذبة والنقول المتردية في كتاب سماه (قوة الدفاع والهجوم) رداً على الدعوة السلفية وكذلك مالك بن داود (12) من بلا د مالي ألف كتاباً سقيماً بعنوان فضفاض (الحقائق الإسلامية في الرد على المزاعم الوهابية) (13).
__________
(1) لم أعثر له على ترجمة، وقد قرظ كتابه يوسف الدجوي (ت 1365هـ).
(2) طبعت ضمن رسائل ضد الدعوة السلفية أكثر من طبعة.
(3) لم أعثر على ترجمة لمؤلفها.
(4) طبعت هذه الرسالة في مصر.
(5) لم أعثر له على ترجمة، وكان معاصراً للشيخ محمد بن علي بن تركي (ت 1380هـ) حيث رد عليه.
(6) انظر : (النفخة على النفحة) ص 2، 3.
(7) لم أعثر له على ترجمة.
(8) طبعت في دمشق ،وقد نقد محمد رشيد رضا هذين الكتابيين – الأخيرين في مجلة المنار م24، ح4، ص 320.
(9) لم أعثر له على ترجمة.
(10) انظر الرد على هذا الكتاب : تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور للشيخ صالح بن أحمد.
(11) طبعت عام 1964م.
(12) مدير مدرسة بأحد مدن مالي، انظر خاتمة كتابه المذكور.
(13) طبع لأول مرة سنة 1403هـ في تركيا.(1/68)
ومن أشد الخصوم المعاصرين - الآن - عداوة ومحاربة للدعوة السلفية حسين حلمي بن سعيد ايشيق (1) من استانبول بتركيا، وهو صاحب مكتبة تقوم بطبع ونشر الكتب المناوئة للدعوة السلفية التي جددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويوزعها إلى سائر الأقطار وبالمجان، وهذه الكتب إما باللغة العربية، أو الفارسية، أو الإنجليزية وغيرها من اللغات، فكثيراً من كتب المناوئين أعاد طباعتها عدة مرات وإرسالها إلى مختلف البلاد، كما أنه له كتب باللغة التركية، وبعضها مترجم إلى العربية تحوي الطعن والتجريح في الدعوة السلفية.
ومما يجدر التنبيه عليه أن كتبه ومطبوعات مكتبته لها رواج وانتشار في بلاد المسلمين، وهذا ظاهر من خلال الخطابات من بعض الأفراد والمؤسسات التعليمية التي تبدي مشاعرها وشكرها العميق لهذه الكتب المهداة إليهم، والاعتراف بخطر الوهابية ووجوب محاربتها وهذه الرسائل تكون مدونة في آخر الكتب التي يقوم بطبعها.
وليس المراد من إيراد تلك المؤلفات المناوئة (2) هو الحصر وإنما قصدت من ذلك توضيح وبيان هذه الحملة الشرسة ضد الدعوة السلفية، ومدى الكثرة الهائلة لتلك المؤلفات، وسعة انتشارها ورواجها، ليكون ذلك دافعاً من أجل أن يتيقظ حملة عقيدة السلف، فيحرصوا على مجابهة تلك المؤلفات ويبذلوا جهودهم في نصرة معتقدهم الصحيح.
__________
(1) ولد حسين حلمي ايشيق سنة 1905م، التحق بالدراسة العسكرية واشتغل بالسياسة، والتزم بالطريقة النقشبندية يمتلك صحيفة يومية وله نشرات دورية، ويمتلك مكتبة الحقيقة في استانبول، يحرص على طبع الكتب – وبمختلف اللغات – التي تناهض الدعوة السلفية الوهابية، له شطحات وانحرافات متعددة. عن دراسة كتبها الشيخ: إسماعيل بن عتيق حول هذا الرجل وشيء من فكره (غير منشورة) .
(2) لمعرفة مؤلفات مناوئة أخرى :
انظر : فهرست المطبوعات العراقية (1856 – 1972) 1 / 168 – 173.
انظر: فهرست الخزانة التيمورية 4 / 3 – 140.(1/69)
وأما عن موقف علماء الدعوة من تلك المؤلفات المناوئة فهم – رحمهم الله جميعاً – مع انشغالهم بالغزو والجهاد في سبيل الله، وتوليهم القضاء والفتيا وتعليم الناس، مع ذلك الانشغال فقد دافعوا عن الدعوة السلفية فكتبوا المؤلفات المتعددة في دحض أكاذيب الخصوم، والجواب عن شبهاتهم ومناظرتهم ومناقشتهم – وسنورد طرفاً من تلك المؤلفات فيما يلي:
كان الشيخ الإمام من أوائل الذين كتبوا الردود ضد تلك المؤلفات المناوئة فقد كتب جواباً مفصلاً شافياً في الرد على رسالة أخيه سليمان (1)، كما أن الرسائل الشخصية للشيخ قد تضمنت مختلف الردود، وأنواع الأجوبة على دعاوى المناوئين ورسائلهم.
وكتب الشيخ أحمد بن مانع (2) (ت 1186هـ) وهو أحد تلاميذ الشيخ الإمام رسالة رد بها على عبد الله المويس أحد خصوم الدعوة، وكان المويس يثبط الناس عن صلاة الجماعة ويهوّن أمرها، فكتب الشيخ أحمد بن مانع هذا الرد موضحاً وجوب صلاة الجماعة بالأدلة، ومدافعاً عن الشيخ ودعوته بالبراهين الواضحة الدامغة (3).
كما كتب محمد بن غيهب ومحمد بن عيدان (4) – وهما من تلاميذ الشيخ الإمام – إلى المويس رسالة ينصحانه ويدعوانه إلى اتباع العقيدة السلفية (5). وكتب كل من الشيخ محمد بن علي بن غريب (6)
__________
(1) سمي هذا الجواب فيما بعد بـ (مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد) ،وقد أورد ابن غنام هذه الرسالة بدون هذا العنوان، كما أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن نقل من هذه الرسالة ولم يذكرها بهذا الاسم كما جاء في (الدرر السنية) 9 / 201.
(2) أحمد بن مانع بن إبراهيم التميمي، من بلدة أشقير، توفي في الدرعية سنة 1186هـ.
انظر : (علماء نجد) 1 / 182.
(3) انظر : (علماء نجد) 1 / 182، 183.
(4) لم أعثر لهما على ترجمة.
(5) انظر (علماء نجد) 2 / 605، 606.
(6) أحد تلاميذ الشيخ الإمام وقد تزوج بنت الشيخ وتلاميذه من كبار علماء نجد، توفي مقتولاً 1209هـ.
انظر : (علماء نجد) 3 / 915.(1/70)
(ت 1209هـ)، والشيخ حمد بن معمر (1) (ت 1225هـ)، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (2) (ت 1242هـ) كتاباً نفيساً بعنوان (التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق) (3)
__________
(1) من كبار علماء نجد، تعلم في الدرعية، ثم درّس بها، بعثه الإمام عبد العزيز الأول سنة 1211هـ إلى مكة ليناظر علمائها، وقد ظهر عليهم وأذعنوا لحجته وعينه سعود الكبير رئيساً لقضاة مكة، توفي بمكة.
انظر : (علماء نجد) : 1 / 239، (مشاهير علماء نجد) ص 202.
(2) ولد في الدرعية سنة 1165هـ، برز في عدة علوم، له رسائل مفيدة، وعرف بالشجاعة، وأبناؤه علماء، توفي في مصر حين نقل إليها.
انظر (مشاهير علماء نجد) ص 48، (علماء نجد) 1 / 48.
(3) الذي دفعني إلى نسبة هذا الكتاب إلى هؤلاء العلماء الثلاثة هو أني عثرت على تعليق خطي كتبه الشيخ سليمان الصنيع رحمه الله على نسخته، ذكر أن هؤلاء هم مؤلفوا الكتاب، ونقل ذلك عن الشيخ محمد بن عبد اللطيف وابن مانع فليس الكتاب من تأليف الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ويؤيد ما ذكره الصنيع الأمور التالية :
أن البسام في (علماء نجد) 3 / 916 نفى نسبة الكتاب للشيخ سليمان وأثبته لابن غريب المذكور
جاء في ترجمة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في (الدرر السنية) 12 / 44 : (وله مشاركة في كتاب التوضيح). كما ذكر القاضي في (روضة السنين) 1 / 323 أن من مؤلفات الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق).
وذكر الشيخ فوزان السابق في كتابه (البيان والإشهار) ص 54 أن كتاب (توحيد الخلاق في أجوبة العراق) من مؤلفات حمد بن ناصر بن معمر. وبهذا يعلم أن (كتاب التوضيح) قد اشترك فيه هؤلاء الثلاثة الأعلام، ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ الصنيع ذكر محمد بن علي بن غريب باسم أحمد بن محمد بن غريب، ولم أعثر على ترجمة بهذا الاسم، فلعله خطأ أو تصحيف من الشيخ الصنيع. وفي تعليق الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ على كتاب (عنوان المجد) ذكر – رحمه الله – أن الشيخ محمد بن علي غريب من المخالفين للدعوة (انظر (عنوان المجد) 1/ 133)، وربما كان هذا الحكم ناشئا عن التأثر بمخطوطة (السحب الوابلة) لأن ابن حميد زعم أن ابن غريب كان موافقاً لدعوة الشيخ الإمام في الظاهر، ومخالفاً لهم في البطن، ولا يستغرب الكذب من ابن حميد خاصة وأنه كذب بنفس الأسلوب، وفي نفس الصفحة (انظر : السحب الوابلة) 700، 701) على الشيخ عبد العزيز بن محمد – سبط الشيخ الإمام – فزعم أنه لم تدخل الدعوة في قلبه، بل إن ابن حميد قد افترى أشد وأشنع – مما نقلناه عنه – على الشيخ الإمام. مع الإشارة إلى أن ابن حميد ذكر ابن غريب باسم (عبد الله بن غريب) والمذكور في (عنوان المجد) 1 / 133، أنه محمد بن غريب (وهو الذي صححه صاحب مشاهير علماء نجد) ص 212، وهو الذي أثبته ابن بسام في كتابه (علماء نجد) 3 / 915 والله أعلم.(1/71)
وقد طبع كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق) (1) وهو ردّ على عبد الله الراوي(2) – من العراق – فإنه لما بلغت رسائل الشيخ الإمام – في أواخر القرن الثاني عشر – الوزير سليمان باشا الكبير، كتب عبد الله الراوي رداً عليها... (3) فكان (كتاب التوضيح) جواباً عن ذلك الرد.
ودافع حسين بن غنام الإحسائي (ت 1225هـ) مؤرخ نجد عن شيخه محمد بن عبد الوهاب، وكتب قصيدة في الرد على محمد بن فيروز (4).
وقد تضمنت رسائل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر ردوداً كثيرة وأجوبة نافعة ضد مؤلفات المناوئين ورسائلهم، منها: (النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين)(5) وكذلك رسالة (الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنَّة والكتاب) (6) وغيرهما.
وكتب الشيخ عبد العزيز بن حمد(7) (ت 1240هـ) سبط الشيخ الإمام جواباً بيناً عن الرسالة المسماة (المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية) (8).
__________
(1) طبع الكتاب في مصر سنة 1319هـ بالمطبعة الشرقية، وأعيدت طباعته أخيرا في الرياض سنة 1404هـ.
(2) لم أعثر له على ترجمة.
(3) انظر : ذكرى أبي الألوسي ص 34، 35.
(4) وتبلغ أبياتها ستة وسبعين بيتاً.
انظر : (تاريخ ابن غنام)، ط أبا بطين 2 / 190 – 192.
(5) وقد طبعت ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 592، وكذا (الدرر السنية) 9 / 3 كما طبعت مستقلة، وهي عبارة عن أجوبة على أسئلة محمد بن أحمد الحفظي اليمني.
(6) وقد طبعت عدة مرات، وهي في الحقيقة إجابة عن أسئلة علماء مكة الذين ناظرهم الشيخ حمد بن معمر سنة 1211هـ.
(7) سبط الشيخ الإمام، تولى قضاء الدرعية، وبعد سقوطها، وتولى القضاء في عنيزة، ثم في سوق الشيوخ في العراق، وتوفي بها.
(8) وقد طبعت ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 564، وسميت بـ (الأجوبة السنية على الأسئلة الحفظية). انظر : (مجموعة الرسائل) 4 / 584.(1/72)
وسطر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كتاباً مهماً في رد دعاوى الشيعة بعنوان (جواب أهل السنّة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية) (1) وهذا الكتاب رد على بعض علماء الزيدية فيما اعترض به على دعوة التوحيد.
وكتب أحمد بن محمد الكتلاني مؤلفاً نافعاً دافع فيه عن عقيدة الشيخ الإمام، وردّ دعاوى الخصوم وأكاذيبهم، وسمى الكتاب بـ (الصيب الهطال في كشف شبه ابن كمال) (2).
وأما الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين (ت 1282هـ) مفتي الديار النجدية – آنذاك – فله كتاب نفيس ردّ فيه على دعاوى داود العراقي، واسم الكتاب (تأسيس التقديس في الرد على داود بن جرجيس)، وهو كتاب طويل وقد سبق هذا الكتاب رد موجز سماه بعض تلاميذ الشيخ أبو بطين (الانتصار)(3).
وكتب الشيخ محمد بن ناصر الشريف التهامي اليمني (ت 1283هـ) رداً مفحماً وجواباً مقنعاً عن دعاوى ابن جرجيس، واسم كتابه: (إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان).
وأما الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1285هـ) فمن أشهر ردوده، رده على داود، وهو الكتاب المسمى بـ (القول الفصل النفيس في الرد على داود بن جرجيس)(4)
__________
(1) وقد طبعت هذه الرسالة ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 47، ثم طبعت مستقلة.
(2) سبق الحديث عن الكتاب ومؤلفه.
(3) انظر كتاب (تأسيس التقديس) : ص 3، ص63.
(4) تعددت هذا الكتاب منها :
(الرد النفيس على شبهات ابن جرجيس).
(تأسيس التقديس في الرد على داود بن جرجيس).
(كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس).
انظر : مجلة الدارة س5، ع4، ص 91، 92، مقال (آثار الشيخ عبد الرحمن بن حسن) لأحمد الحكمي. ويبدو – والله أعلم – أن للتلاميذ والأتباع دور في إنشاء تلك الأسماء فيلاحظ أن بعض أئمة الدعوة يكتب رداً أو جواباً بلا عنوان مختار، فيأتي من بعده ويتخذ له عنواناً يناسب محتوى ذلك الكتاب، وهذا أمر ظاهر في رسائل أئمة الدعوة، فمثلاً جواب الشيخ الإمام على أخيه سليمان سمي بـ (مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد)، والرد الموجز الذي كتبه أبو بطين جواباً على شبهات داود بن جرجيس، سماه بعض تلاميذ أبو بطين بـ (الانتصار) كما ذكر ذلك في مقدمة كتابة (تأسيس التقديس).
كما أن الشيخ عبد اللطيف حين كتب الرد المختصر على ابن جرجيس، لو يذكره باسم المطبوع الآن (دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ) أو (تحفة الطالب الطالب والجليس في الرد على ابن جرجيس)، يقول (الشيخ عبد اللطيف في (منهاج التأسيس) – وهو الرد المطول على داود : -
(وقد كتبنا فيما تقدم من الرد المختصر …) ص237، ثم ذكر كلاماً مطابقاً لما ذكره في (دلائل الرسوخ) - الرد المختصر – ص 93.
كما أن جوابه على شبهات الصحاف سمي بـ (الإتحاف في الرد على الصحاف).(1/73)
وله رسائل متعددة وكثيرة في الرد على عثمان بن منصور، وله رسالة بعنوان (المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال)(1) وهي رد على مفتريات رجل من أهل الخرج، وله رد على ابن حميد صاحب (السحب الوابلة) بعنوان (بيان المحجة في الرد على اللجة) (2)، حيث أن ابن حميد دافع عن الأبيات الشركية في بردة البوصيري، ورد على جواب شيخه الشيخ أبي بطين رحمه الله لما أجاب بما هو حق عن تلك الأبيات، ومن ثم كتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن هذا الجواب النافع.
وقد ردّ الشيخ عبد الرحمن بن حسن بقصيدة شعرية على قصيدة ابن منصور التي مدح فيها داود وحثه على مناهضة أئمة الدعوة (3).
كما كتب - أيضاً - الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع (4) (ت 1287هـ) قصيدة راداً على ابن منصور، ومنتصراً للعقيدة السلفية (5).
وقد تعددت مؤلفات الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ت 1292هـ) في الرد على مفتريات الخصوم وشبهاتهم، فكتب رداً مختصراً على داود سمي بـ (دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ)(6)، ثم أتبعه برد مطول بعنوان (منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس) (7).
__________
(1) طبع ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 289 - وطبع مستقبلاً
(2) اللجة : لقب لابن حميد انظر : (مجموعة التوحيد) ط آل ثاني، ص435.
(3) انظر : (علماء نجد) 3 / 696.
(4) ولد في شقراء وطلب العلم في الرياض ولاه الإمام فيصل قضاء القطيف له رسائل وقصائد توفي بالإحساء.
انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 239، (علماء نجد) 2 / 419.
(5) انظر (علماء نجد) 3 / 697.
(6) طبع - أولاً - سنه 1305هـ، ثم طبع ضمن (الدرر السنية) 9 / 287.
(7) طبع مرتين : الأولى في الهند والأخرى في مصر.(1/74)
وأما ردوده على ابن منصور، فقد كتب رحمه الله كتاباً قيماً بعنوان (مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام) (1)، وكتب الشيخ عبد اللطيف رسائل أخرى متعددة في بيان تلبيس ابن منصور ورد كيده (2).
كما أن له قصيدة يرد بها على قصيدة ابن منصور التي يمدحه بها داود العراقي (3) وللشيخ عبد اللطيف قصيدة تبلغ ثلاثة وتسعين بيتاً في الرد على البولاقي المصري الذي كتب قصيدة عارض فيها منظومة الأمير الصنعاني في مدحه للشيخ محمد (4).
وقد زخرت رسائل الشيخ عبد اللطيف بالحجج الدامغة والردود النافعة على دعاوى المناوئين ومؤلفاتهم.
ونظم الشيخ عبد العزيز بن حسن الفضلي(5) (ت 1299هـ) قصيدة يرد بها على ابن منصور لما مدح شيخه داود العراقي (6).
وكتب الشيخ صالح بن محمد الشتري(7) كتاباً مفيداً في الرد على دحلان واسمه (تأييد الملك المنان في نقض ضلالات دحلان) (8).
__________
(1) طبع ثلاثة مرات : في الهند ثم مصر، وأخيراً في الرياض.
(2) انظر : الدروس السنية (الجزء التاسع (مختصرات الردود).
(3) انظر (الدرر السنية) 9 / 349.
(4) انظر : (الدرر السنية) 9 / 374
(5) ولد في بلدة ملهم، عرف بسرعة البت في القضاء له مراسلات علمية مع بعض العلماء. انظر (مشاهير علماء نجد) ص 242، (علماء نجد) 2/438.
(6) انظر : (علماء نجد) 3 / 6 97.
(7) لم أعثر له على ترجمة، وهو من تلاميذ الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وبينهما مراسلات علمية.
(8) وهو لا يزال مخطوطاً في المكتبة السعودية.(1/75)
وكذلك الشيخ حمد بن عتيق (1) (ت 1301هـ) نظم قصيدة في الرد على ابن منصور (2) وللشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن (3) (ت 1319هـ) رد على أمين بن حنش البغدادي (4).
وألف العالم الهندي محمد بشير السهسواني (ت 1326هـ) كتابه القيم في الرد على أباطيل دحلان، وسماه (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان)(5).
وأما الشيخ حسين بن حسن بن حسين بن علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب (6) (ت 1329هـ) فقد أنشأ قصيدة رائية تبلغ سبعين بيتاً في الرد على أمين بن حنش، (7) كما أن له قصيدة تصل إلى مائتي بيت في الرد على النبهاني.
وسطر الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن(8) (ت 1329هـ) قصيدة تبلغ أبياتها أربعة وتسعين بيتاً في الرد على أمين بن حنش البغدادي(9).
__________
(1) ولد الشيخ حمد في الزلفى سنة 1227هـ وطلب العلم في الرياض، تولى القضاء في عدة بلدان، له عدة مؤلفات، توفي في الأفلاج. انظر : (علماء نجد) 1/228 (مشاهير علماء نجد) ص 244.
(2) انظر (علماء نجد) 3 / 697.
(3) ولد بالرياض سنة 1276هـ، وتعلم بها، ثم طلب العلم في الهند له رسائل. توفي بالرياض. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 122، (علماء نجد) 10 / 205.
(4) انظر : (الدرر السنية) 9 / 406.
(5) طبع الكتاب في عهد المؤلف منسوباً إلى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السندي، ثم طبع - بعده - منسوباً إليه عدة طبعات.
(6) ولد بالرياض سنة 1284هـ، وتعلم بها، له مؤلفات كما أن له شعر، نزح إلى عمان، وسكن في جزيرة زعاب وتوفي بها. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص127، علماء نجد 1/219.
(7) ، (10) انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 127، 128.
(8) ولد بالرياض سنة 1280هـ، وتعلم بها، له فتاوى وتلاميذ. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 125، (علماء نجد) 1 / 126.
(9) انظر : (علماء نجد) 1/ 127.(1/76)
وكتب الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى(1) (ت 1329هـ) ردوداً كثيرة على المخالفين للعقيدة السلفية التي جددها الشيخ الإمام، منها كتاب بعنوان (الرد على شبهات المستعينين بغير الله)(2)، وكتاب (الرد على ما جاء في خلاصة الكلام من الطعن على الوهابية والافتراء لدحلان)(3)، كما أن له قصيدة رد بها قصيدة ابن منصور في مدحه لابن جرجيس(4) ونظم الشيخ علي بن سليمان اليوسف(5) (ت 1337هـ) قصيدة رد بها على النبهاني في رائيته التي افترى فيها على الوهابيين(6).
__________
(1) ولد بشقراء سنة 1253هـ، وطلب العلم في الرياض ومارس التجارة، له مؤلفات من أهمها شرح نونية ابن القيم، وله تلاميذ وتولى القضاء. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 260 (علماء نجد) 1/155.
(2) ذكر ابن عيسى في مقدمة هذا الكتاب أنه رد على كتاب (أنموذج الحقائق) ولم يذكر مؤلفه، وصاحب كتاب (مشاهير علماء نجد) والبسام يذكران أن هذا الكتاب – الرد على شبهات المستعينين بغير الله – رد على ابن جرجيس وقد طبع الكتاب أكثر من مرة.
(3) يذكر صاحب (مشاهير علماء نجد) أن هذا الكتاب مخطوط، ولم أعثر عليه وقد ذكر البسام أن لابن عيسى كتاب (تهديم المباني في الرد على النبهاني).
(4) انظر : (علماء نجد) 3 / 697. وللشيخ ابن عيسى ردّ طويل بعنوان (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) طبع مع مجموعة كتب 1329هـ، بمصر.
(5) نشأ في بغداد، وتعلم بها، وهو شاعر جيد، انظر : (علماء نجد) 3 / 716.
(6) انظر : (علماء نجد) 3 / 718.(1/77)
وكتب علامة العراق محمود شكرى الألوسي (ت 1342هـ) سفراً نفيساً في الرد على يوسف النبهاني بعنوان (غاية الأماني في الرد على النبهاني)(1)، كما أتم رحمه الله كتاب (منهاج التأسيس) للشيخ عبد اللطيف، حيث أن الشيخ عبد اللطيف مات قبل أن يتمه(2)، فأكمله الألوسي بعنوان (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان)(3).
ونظم الألوسي قصيدة في الرد على قصيدة النبهاني، حيث أن النبهاني لما اطلع على غاية الأماني، نظم قصيدة طويلة ركيكة سبّ فيها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيره من المصلحين فردّ عليه محمود بقصيدة سماها (الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى)(4).
كما أن الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى(5) (ت 1343هـ) نظم قصيدة في نحو مئتي بيت في الرد على رائية النبهاني(6).
أما الشيخ سليمان بن سحمان (ت 1349هـ) فهو صاحب القلم السيال في الرد على مؤلفات الخصوم ورسائلهم، وقد تعددت مؤلفاته وكثرت – ولله الحمد – فمما كتبه في الرد على الخصوم ما يلي:
__________
(1) طبع لأول مرة منسوباً إلى (أبي المعالي الشافعي السلامي) ثم طبع ذلك منسوباً إلى الألوسي عدة مرات.
(2) حيث اشتغل الشيخ عبد اللطيف بالرد على ابن منصور، فألفّ رحمه الله (مصباح الظلام)، انظر المقدمة التي كتبها الشيخ ابن مانع لرسالة (دلائل الرسوخ) ص 9.
(3) طبع مع (المنهاج) في مصر سنة 1366هـ.
(4) انظر : مقدمة كتاب (المسك الأذفر) ص27، (مشاهير علماء نجد) ص 477.
(5) ولد ببلدة أشقير سنة 1270هـ، قام رحلات متعددة، له عناية فائقة بكتابة التاريخ، توفي في عنيزة انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 285، (علماء نجد) 1 / 117.
(6) انظر : (علماء نجد) 1/ 124.(1/78)
(الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد) و (كشف غياهب الظلام عن جلاء الأوهام) – في الرد على مختار أحمد المؤيد -، و (الصواعق المرسلة الشهابية في الرد على الشبه الشامية) – في الرد على محمد عطا الكسم -، و(الضياء الشارق في رد شبهات المارق) – يعني جميل الزهاوي العراقي -، و(تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين) – في الدفاع عن الشيخ الإمام والأمير الصنعاني -، و (البيان المجدي لشناعة القول المجدي) – في الرد على بابصيل المكي – وغيرها (1).
ومن آخر كتبه التي ألفها – رحمه الله – هو كتاب (الحجج الواضحة الإسلامية في رد شبهات الرافضة والإمامية) – وهو مخطوط.
وأما عن ردوده عبر القصائد الشعرية فهي كثيرة جداً، فقد نظم رحمه الله ديواناً بعنوان: (عقود الجواهر المنضدة الحسان)، وغالبه ردود على أئمة الضلال الذين ناهضوا الدعوة السلفية، مثل: دحلان، والزهاوي، وشرف، والنبهاني والعجلي وغيرهم (2) .
ومن أشهر قصائدة رائيته التي ردّ بها على رائية النبهاني، وقد بلغت أربعمائة بيت (3) .
وكتب عبد الكريم بن فخر الدين رداً شافياً على دحلان، بعنوان (الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين).
ونظم الشيخ ناصر بن سعود الشويمي(4) (ت 1350هـ) قصيدة تزيد عن أربعين بيتاً في الرد على أمين بن حنش البغدادي الذي انتصر للشرك وأهله، في قصيدة نظمها (5).
__________
(1) غالب كتب الشيخ ابن سحمان طبع في الهند أولاً، ثم أعيدت طباعته مرة أخرى.
(2) انظر : ديوانه الطبعة الهندية، لأن الطبعة التي بعدها محرفة وناقصة.
(3) وله أيضاً رحمه الله كتب وردود أخرى. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 292.
(4) ولد في شقراء عام 1285هـ وتعلم بها، وطلب العلم في الرياض ثم صنعاء اليمن، ثم جلس للتدريس في شقراء، وتوفي بها انظر : (علماء نجد) 3 / 961.
(5) انظر : (علماء نجد) 3 / 964.(1/79)
وكذلك الشيخ محمد رشيد رضا(1) من مصر (ت 1354هـ) دافع عن الدعوة السلفية في مجلته الشهيرة (المنار)، وحرص على نشر كتب أئمة الدعوة وطبعها، وكان من آثار دفاعه عن تلك الدعوة، ما كتبه في رسالته (السنّة والشيعة أو الوهابية والرافضة)(2) حيث رد على الرافضة أعداء السلف الصالح قديماً وحديثاً.
وأما الشيخ محمد بن عثمان الشاوي(3) (ت 1354هـ) فله رسالة في الرد على أحد خصوم الدعوة، بعنوان: (القول الأسد في الرد على الخصم الألد)(4) كم أن له قصائد في الرد على الهجائيين للدعوة السلفية.
وقد قام الشيخ عبد الظاهر أبو السمح(5) (ت 1370هـ) بالدفاع عن عقيدة السلف الصالح التي جددها الشيخ الإمام، فكان من دفاعه أنه ألفّ رسالة في الرد على المخالفين لتلك العقيدة، وعنوان رسالته (الرسالة المكيّة في الرد على الرسالة الرملية) (6).
وكتب الشيخ محمود شويل (ت 1372هـ) رسالة نفيسة في الرد على أحد خصوم الدعوة السلفية، وكشف اللثام عن وجه الحق، وأزال تلك الاعتراضات واسم كتابه (القول السديد في قمع الحرازي العنيد)(7).
__________
(1) ولد في الشام سنة 1282هـ، وتعلم بها، مارس الصحافة وزار عدة بلدان، وعمل في السياسة، له عدة مؤلفات، توفي بالقاهرة، انظر : (الأعلام) 6 / 126.
(2) طبع في مطبعة المنار بمصر سنة 1347هـ.
(3) ولد في البكيرية سنة 1313هـ وتعلم بها، ثم طلب العلم في الرياض، وتولى القضاء والتدريس له تلاميذ، توفي في شقراء. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 337، (علماء نجد) 3 / 797
(4) وهي مخطوطة في قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود، وهي رد على من سمى نفسه بـ (فتى البطحاء)
(5) ولد سنة 1300هـ وكان إماما في الأسكندرية واستقدمه الملك عبد العزيز إلى مكة وولاه الإمامة والخطابة في الحرم المكي، توفي في القاهرة. انظر (الأعلام) 4 / 11.
(6) طبع في مطبعة المنار بمصر سنة 1349هـ.
(7) طبع في مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1372هـ.(1/80)
وأما الشيخ مسعود الندوي (ت 1373هـ) فقد ردّ على دعاوى الخصوم وفندها في كتابة المفيد (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه)(1).
وألفّ الشيخ فوزان بن سابق السابق(2) (ت 1373هـ) كتاباً في الرد على مختار أحمد المؤيد وعنوان الرد (البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار)(3)، وصنف الشيخ محمد بن علي بن تركي(4) (ت 1308هـ) رسالة لطيفة في الدفاع عن هذه والرد على الأسكندراني(5).. وعنوان رسالة الشيخ ابن تركي (النفخة على النفحة والمنحة) (6).
كما أن الشيخ محمد بهجت البيطار(7) كتب رسالة موجزة في الرد على الأسكندراني وعنوان رده (نظرة في النفحة الزكية) (8).
__________
(1) ترجمه إلى العربية عبد العليم البستوي، وطبعته جامعة الإمام سنة 1404هـ
(2) ولد في بريدة عام 1275هـ وتعلم بها، وطلب العلم في الرياض والهند، ومارس التجارة، وصارت له مشاركة في السياسة، توفي في القاهرة. انظر : (علماء نجد) 3 / 759.
(3) طبع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1372هـ.
(4) ولد في عنيزة سنة 1301هـ وزار عدة بلدان، وطلب العلم ومارس التجارة وتولى القضاء، توفي في المدينة انظر: (علماء نجد) 3 / 904، (مشاهير علماء نجد) ص402.
(5) وسمى ابن تركي نفسه – أثناء الرد - بـ (ناصر الدين الحجازي) انظر : (علماء نجد) 3 / 906.
(6) طبعت في دمشق سنة 1340هـ.
(7) ولد البيطار سنة 1311هـ وتتلمذ على كبار علماء الشام، وجلس للتدريس، وتولى الخطابة، وعمل في الحجاز، له مؤلفات. انظر : (تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع) لمحمود سعيد ممدوح، ص 126.
(8) وسمى محمد بهجت البيطار نفسه – أثناء الرد – بـ (أبي اليسار الدمشقي). انظر : (علماء نجد) 3 / 906، وطبعت في دمشق سنة 1340هـ، مع الرسالة السابقة – لابن تركي.(1/81)
وكتب أحد علماء نجد رداً على جريدة القبلة الهاشمية (1)، لما أوردت بعض الأكاذيب ضد الدعوة السلفية الوهابية.
ونظم الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم السويح (2) قصيدة في الرد على النبهاني (3)، كما أن الشيخ صالح بن أحمد كتب رداً على محمد بن أحمد نور – أحد المناوئين للدعوة السلفية في السودان – وعنوان رده (تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور بالقرآن والحديث) (4).
وقد كتب عبد الله بن علي القصيمي(5) كتباً قوية وأجوبة دامغة في الرد على مؤلفات الخصوم للدعوة السلفية ورسائلهم، ومن أقوى كتبه وأشهرها: (الصراع بين الإسلام والوثنية)(6) في الرد على محسن الأمين العاملي صاحب (كشف الارتياب)، وله كتاب قوي آخر بعنوان (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية)(14)، وهو رد على يوسف الدجوي في مسائل التوسل.
__________
(1) انظر : الرد في (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 830 له. وهناك رد آخر على هذه الجريدة أورد بعضه محمد رشيد رضا في (المنار)، واعتذر عن نشر الباقى لشدة الأسلوب. انظر (المنار) م 21، ح9، ص 496.
(2) لم أعثر له على ترجمة.
(3) توجد مخطوطة في قسم الوثائق بدارة الملك عبد العزيز.
(4) طبع في المطبعة السلفية بمصر.
(5) مما يجدر التنبيه على أن القصيمي قد ألفّ كتاب في نصرة الدعوة السلفية ثم ارتد واختار طريق الضلالة والإلحاد وألف كتباً في ذلك وقد تصدى له علماء فردوا عليه مثل ابن يابس والسويح وغيرهما، وسنورد في – هذا البحث – بعض ردود القصيمي، ونستفيد منها متذكرين ما ورد في الحديث (إن الله عز وجل ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وفي رواية : (بأقوام لا خلاق لهم) – انظر (سلسلة الأحاديث الصحيحة) 4 / 205 – خاصة ونحن لا نعلم بما سيختم الله حياة هذا الرجل، نسأل الله تعالى الثبات على دينه.
(6) يتكون هذا الكتاب من مجلدين ثم ظهر له جزء ثالث – فيما بعد -، طبع مرتين الثانية سنة 1402هـ، (14) طبع في مطبعة المنار بمصر سنة 1350هـ.(1/82)
وله كتاب ثالث بعنوان (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)(1)، تضمن ردوداً ظاهرة وأجوبة ناصعة في رد دعاوى المناوئين. وكتب القصيمي مؤلفاً رابعاً في بيان حقيقة الدعوة الوهابية بعنوان (الثورة الوهابية)(2) .
وألف الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي عدة كتب في الدفاع عن هذه الدعوة ومجددها كما هو ظاهر في كتابه (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) وكتابه الآخر (نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين)، وكتابه الثالث (تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصل الضلال والكفران)(3).
وكتب الشيخ محمد منظور النعماني (4) من علماء الهند رسالة نافعة في الرد على الدعاوى الكاذبة ضد الدعوة السلفية، بعنوان (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) (5).
وبهذه المؤلفات وغيرها من الوسائل والأساليب التي تنافح عن عقيدة السلف الصالح وتذّب عنها، يتحقق وعد الله على الدوام، حيث يظهر الحق ويندحر الباطل، الذي مهما انتفش وانتفخ بكثرة مؤلفاته وأتباعه فهو كالزبد يذهب جفاء.
يقول تعالى: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } (6).
ولعل فيما ذكرناه من ردود أئمة الدعوة وأنصارها ما يلفت الباحث - ابتداء - إلى هذا التراث الهائل، فيكون إيراد تلك المؤلفات دافعاً لكل منصف أن يطلع عليها وينظر فيها، وسيدرك - بكل تأكيد - ما تحمله هذه الكتب من الحجج الدامغة والبراهين الساطعة الناصعة، والتي تعكس سعة علم أولئك الأئمة وعمق فهمهم وقوة أدلتهم ووضوح منهجهم.
ومما يستلزم ذكره هاهنا - بعد أن سردنا هذه الكتب الكثيرة سواء المناوئة أو المدافعة - أن نجيب على سؤال هام وهو:
__________
(1) طبع في مطبعة التضامن بمصر سنة 1934 م.
(2) طبع في مطبعة الرحمانية بمصر سنة 1354هـ.
(3) وهذه الكتب الثلاثة مطبوعة متداولة.
(4) انظر : ترجمته في مقدمة كتابه (دعايات مكثفة)
(5) طبع في لكهنوء بالهند.
(6) الصافات: آية 171 – 173.(1/83)
ما هي الدوافع والأسباب التي أدت إلى العداء والمناهضة للدعوة السلفية، حتى صنفت المؤلفات والرسائل والكتب ضد هذه الدعوة وبكميات هائلة، ومن مختلف البلاد والأقطار، وعلى مر السنين والأعوام.
من خلال الاطلاع على بعض المراجع التي أشارت إلى تلك الأسباب ومن خلال مطالعة وتتبع كتب الخصوم، فإن يمكن إيجاز أبرز هذه الدوافع والأسباب بما يلي:
لعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى تشنيع الخصوم في مؤلفاتهم أثناء ظهور الدعوة السلفية، هو ما كان عليه أولئك الخصوم وكثير من المنتسبين إلى الإسلام من الضلال والغي عن الصراط المستقيم، لقد بلغ الكثير من المسلمين قبيل ظهور دعوة الشيخ الإمام أحط الدركات في الضلال وفساد الاعتقاد، حيث عمَّ الجهل وطغى، فعبد غالب المسلمين ربهم بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، فظهرت البدع والشركيات بمختلف أنواعها، وصارت هذه الأمور الشركية والمحدثات البدعية من العوائد والمألوفات التي هرم عليها الكبير وشب عليها الصغير، فانعكست الموازين وانقلبت الحقائق، وأصبح الحق باطلاً، والباطل حقاً..
ويوضح ابن غنام الحالة السيئة التي وصل إليها المسلمون في مختلف البلاد، وما كانوا عليه من فساد الاعتقاد واستفحال الكفر والابتداع، فيقول رحمه الله:
(كان غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس، متلطخين بوضر الأنجاس، حتى قد انهمكوا في الشرك بعد حلول السنّة المطهرة بالأرماس، وإطفاء نور الهدى بالانطماس …
فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، وخلعوا ربقة التوحيد والدين فجدوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث... أحدثوا من الكفر والفجور والإشراك بعبادة أهل القبور وصرف الدعاء لهم والنذور) (1).
ويصوّر ابن غنام ضلال بلدان نجد تفصيلاً، فكان مما قاله في ذلك:
__________
(1) روضة الأفكار) 1 / 5، 6 باختصار.(1/84)
(وكان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مسيم، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، وقد مضوا قبل بدوّ نور الصواب يأتون من الشرك بالعجاب وينسلون إليه من كل باب، ويكثر ذلك منهم عند قبر زيد بن الخطاب فيدعونه لتفريج الكرب بفصيح الخطاب ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } وكان ذلك في الجبيلة مشهوداً وبقضاء الحوائج مذكوراً) (1).
ويحكي الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن حال عصر الشيخ الإمام فيقول:
(كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملَّة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنَّة والقرآن، وشب الصغير لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدرسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدُّوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون، قد أغشتهم العوائد والمألوفات وحبستهم الشهوات والإيرادات عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات والآيات البينات..) (2).
__________
(1) المرجع السابق 1 / 7.
وانظر : ما كتبه الشيخ ابن غنام حول المظاهر الشركية والبدعية في كل من بلاد مكة والطائف وجدة ونجران واليمن والشام والعراق، ومصر، 1 / 8 – 12.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل) 3 / 381، 382.(1/85)
فلما أظهر الله هذه الدعوة السلفية على يد المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب استنكرها الرعاع وأدعياء العلم والعوام، لأنها خالفت عوائدهم الشركية ومألوفاتهم البدعية، فلما دعاهم الشيخ إلى وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة وأنه لا يدعى ولا يستغاث إلا بالله وحده، فلا يستغاث بالأولياء أو الأنبياء، استنكر أولئك الجهال هذا الحق، وزعموا أن ذلك انتقاص للأنبياء والأولياء، فخالفوا الحق مع ظهوره وبيان أدلته ووضوح براهينه.
وهناك سبب ثان لهذا التحامل والمعاداة للدعوة السلفية وهو ما ألصق بهذه الدعوة ومجددها وأنصارها من التهم الباطلة والأكاذيب والمفتريات، فقد أصاب هذه الدعوة منذ بدء ظهورها حملة مكثفة شنيعة عمَّت البلاد والعباد، فلقد ألصق بعض أدعياء العلم في هذه الدعوة السلفية ما ليس منها، فزعموا أنها مذهب خامس، وأنهم خوارج يستحلون دماء وأموال المسلمين، وأن صاحبها يدعي النبوة وينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلى آخر تلك المفتريات.
وهذا ظاهر في رسالة ابن سحيم - وهو أحد الخصوم المعاصرين للشيخ - حيث بعث بها إلى سائر علماء الأمصار، يستحثهم ويحرضهم ضد الشيخ وهو في هذه الرسالة العدوانية قد حشد فيها الكثير من المفتريات والأكاذيب ضد الشيخ الإمام.
وأما أثناء مدة الدولة السعودية الثانية، فتبرز آثار مؤلفات دحلان والذي كان مفتياً للشافعية في مكة، فقد عمَّت وطمَّت أكاذيبه ومفترياته ضد هذه الدعوة بين الكثير من حجاج بيت الله الحرام، ثم أذاعها أولئك الحجاج في سائر البلاد.
يقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في ذلك:(1/86)
(سمع الحجاج الوافدون إلى مكة من أشراف الحجاز، وبعض علماء مكة والمدينة التقديس التام من العوام والانقياد الكامل لأقوالهم ضد الشيخ وأتباعه الشيء الكثير من كون أتباع الشيخ لا يحترمون الأولياء والصالحين ويهدمون قبابهم … فلهذا أخذ جمهور الناس في سائر الأقطار فكرة سيئة عن الشيخ وأتباعه (1).
وفي عصرنا الحاضر، يظهر التحامل الشنيع وبث المعلومات الكاذبة عن الدعوة السلفية في كثير من جهود المبتدعة، ومن أبرزها جهود المدعو حسين حلمي ايشيق من استانبول بتركيا، والذي يقوم بتأليف الكتب ضد الدعوة السلفية ونشر المطبوعات والرسائل ضدها، وتوزيعها على سائر بلاد المسلمين، وهذه الرسائل تحوي بين طياتها الكثير من المعلومات المحرفة والأكاذيب المفتراه، فيصدقها الكثير من السذج والبسطاء.
كما أن هذا التجني والكذب على الدعوة السلفية وأئمتها يظهر في بعض الكتب التي ألفت في تاريخ هذه الدعوة وسيرة مجددها، كما هو واضح في كتاب (لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب)، والذي يعتمد عليه الكثير من المؤلفين ممن صنف في تاريخ وسيرة الشيخ محمد، بل أن بعض هذه الكتب يفتعل أحداثاً ويطنب في سردها وسياقها من أجل الافتراء ضد الدعوة والتنفير منها، وهي ليس لها أدنى رصيد من الواقع (2).
ومما يؤسف أن الكثير يتلقف هذا الإفك والبهتان عن أولئك المفترين الوضاعين، دون أدنى تثبت أو تحري في النقل، بل عمدته في ذلك هو مجرد التقليد الأعمى.
__________
(1) (سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، ص 53، وانظر (دعايات مكثفة ضد الشيخ) ص 26، 27.
(2) انظر على سبيل المثال : مخطوط (هذا تاريخ في شأن الوزير محمد علي باشا) لخليل بن أحمد الرجبي - ويوجد هذا المخطوط في دار الكتب المصرية - فقد افتعل هذا المؤلف أكاذيب متعددة ضد هذه الدعوة.(1/87)
ومما يجدر ذكره - هاهنا - هو أن بعض الخصوم قد استغل ما وقع فيه شرذمة من الأعراب وفي زمن يسير - ممن تابع هذه الدعوة - من التشدد والجفاء، فحكموا - بغياً وعدواناً - على جميع أتباع هذه الدعوة وعلى مر الأزمان بهذا الحكم الجائر، فرموهم أيضاً بالتشدد والجفاء.
ولقد قلدهم في تلك الدعوى بعض الكتّاب، فوصفوا هذه الدعوة السلفية بالتشدد والجفاء والتطرف، وجعلوا ذلك سبباً في عدم قبولها وكثرة أعدائها.
وقد رد الشيخ حمود التويجري على أحد المعاصرين حين رمى أتباع هذه الدعوة بالتشدد، فكان من ردّه أنه قال:
(التشدد الذي أشار إليه إنما وقع في بعض الأعراب في زمن يسير، فأما الحاضرة وكثير من البادية فكانوا على الطريقة السلفية، ولم يكن فيهم تشدد كما يزعمه بعض الناس. فإطلاق التشدد على العموم متعقب على من ادعاه كما لا يخفى من له أدنى معرفة بحال أهل نجد) (1).
وسبب ثالث أدى إلى كثرة تلك المؤلفات المناوئة للدعوة السلفية، وهو النزاعات السياسية والحروب التي قامت بين أتباع هذه الدعوة وبين الأتراك من جهة، وبين أتباع هذه الدعوة والأشراف من جهة أخرى.
وقد أشار بعض الباحثين إلى هذا العامل الخطير وما ترتب عليه من تلك المطاعن والمفتريات والشبهات.
يقول محب الدين الخطيب - رحمه الله - مشيراً إلى ذلك:
__________
(1)(إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة)، ط1 مؤسسة النور بالرياض، ص 154.(1/88)
(كان الأستاذ الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه يستعيذ بالله من السياسة ومن كل ما يتصرف منها، لأنها إذا احتاجت إلى قلب الحقائق وإظهار الشيء بخلاف ما هو عليه اتخذت لذلك جميع الأسباب، واستعانت على ذلك بمن لهم منافع شخصية من وراء إعانتها، فتنجح إلى حين في تعمية الحق على كثير من الخلق. ومن هذا القبيل ما كان يطرق آذان الناس في مصر والشام والعراق وسائر بلاد الشرق الأدنى في المائة السنة الماضية من تسمية الدعوة التي دعا بها الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله باسم (الوهابية) اتهاماً بأنه مذهب جديد …) (1).
ويتحدث محمد عبد الله ماضي عن العوامل التي أدت إلى التشنيع على الوهابية.. فيذكر العامل السياسي فيقول:
(عامل سياسي يرجع إلى الخلاف الذي قام بين آل سعود الوهابيين وبين الدولة العثمانية التي كانت الجزيرة العربية جزءاً من أملاكها وقت أن شرع الوهابيون يستقلون بالحكم فيها في القرن الماضى. ذلك الخلاف الذي سبب الحرب النجدية المصرية بين محمد علي والوهابيين، والذي صحبه وترتب عليه كثير من الدعايات ضد الوهابيين خصوم الدولة السياسيين وإظهارهم بمظهر المعتدي على الدين الخارج على تعاليمه حتى تسهل مقاومتهم وتيسير القضاء عليهم.
وكذلك الخلاف السياسي بين آل سعود والوهابيين وبين أشراف مكة ثم بينهم وبين زعماء نجد المحليين …)(2).
ويوضح الشيخ محمد رشيد رضا آثار العداء السياسي مع بداية الدولة السعودية الثالثة، وما فعله الأشراف ضد الدعوة السلفية، فكان مما قاله:
(كانت جريدة القبلة - لسان الملك حسين آنذاك - تكيل التهم والأكاذيب على هذه الدعوة السلفية.
__________
(1) مجلة الزهراء، 1354هـ (صفر)، ص 84، 85.
وقد أشار إلى ذلك مسعود الندوي في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) ص 147.
(2) نهضات الحديثة في جزيرة العرب)، ط2، دار إحياء الكتب العربية 1372هـ، ص 59.(1/89)
وقد أصدر الملك حسين عدة منشورات في جريدة القبلة سنة 1336هـ، وسنة 1337هـ، رمى الوهابيين بالكفر، وقذفهم بتكفير أهل السنة، والطعن في الرسول ... وقام بعض أهل دمشق وبيروت يتقربون إلى الأشراف بطبع الرسائل في تكفيرهم ورميهم بالأكاذيب، ثم سرى ذلك إلى مصر، وظهر له أثر في بعض الجرائد (1).
(إن سبب قذف الوهابية بالابتداع والكفر سياسي محض كان لتنفير المسلمين منهم لاستيلائهم على الحجاز، وخوف الترك أن يقيموا دولة عربية، ولذلك كان الناس يهيجون عليهم تبعاً لسخط الدولة، ويسكتون عنهم إذا سكنت ريح السياسة).
وهناك سبب رابع أدى إلى تراكم تلك المؤلفات المعادية للدعوة السلفية وهو دفاع هؤلاء الخصوم - وبالأخص الصوفيّة والرافضة - عن معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة.
فإنه لما غلب على حال كثير من المسلمين ظهور الشركيات وانتشار البدعيات، واستفحال الخرافات، والغلو في الأموات والاستغاثة بهم، وظهور تشييد المشاهد وإقامة المزارات على القبور، وزخرفتها وتزيينها وصرف الأموال الطائلة عليها … فلما غلب ذلك على حال عامة المسلمين، فإن هؤلاء المتصوفة والرافضة وجدوا في هذا الواقع الآسن مرتعاً خصباً لبثَّ سمومهم العقديّة.
فلما بدت أنوار هذه الدعوة تكشف غياهب الظلام، وتزيل أدران الشرك ونجاساته، وتدعو الناس إلى تحقيق التوحيد بصفائه ونقائه، أدرك الخصوم أن ظهور هذه الدعوة السلفية نذير بزوال عقائدهم الباطلة، فحشد أولئك الخصوم قواهم وانبروا في التشنيع بهذه الدعوة وأنصارها، وهم أثناء تشنيعهم يذكرون معتقدهم الصوفي أو الرافضي - وغيرهما - ويزينونه للناس ويزعمون أنه الحق (2).
__________
(1) ، (5) المنار، م24، ج 8 ص 584 = بتصرف.
(2) من خلال استقراء كتب الخصوم لاحظت أن غالبهم إما صوفية أو رافضة، فالمتصوفة يجاهرون بذلك وينافحون عن تصوفهم ويدافعون عن أرباب التصوف وكذلك الرافضة يفعلون.(1/90)
فنجد هؤلاء الصوفيّة أثناء ردّهم على الدعوة السلفيّة، يتبجحون بصوفيتهم ويفتخرون بانتسابهم إلى الطرق الصوفيّة كالنقشبندية أو القادرية أو التيجانية... ويدافع عن التصوّف وأدعيائه.
والرافضة أثناء مناهضتهم الدعوة السلفية يدافعون – بكل ما عرف عنهم من كذب وقلب للحقائق – عن معتقدهم، ونوضح ذلك بما حدث منهم لما كتب علماء المدينة سنة 1344هـ الفتوى حول حكم البناء على القبور واتخاذها مساجد وأجابوا بالحق الذي تعضده الأدلة، فلما ظهرت هذه الفتوى، وتم العمل بموجبها، وأزيلت القبب والأبنية على القبور، عندئذ قام علماء الرافضة وضجوا، وسودوا الصحائف والأوراق في الطعن على هذه الفتوى، والنعي للمسلمين على زوال تلك القباب والمزارات فمن هذه الكتب التي سطرت – آنذاك – رسالة في رد الوهابية للأوردبادي، ورسالة في نقض فتاوى الوهابيّة لمحمد حسين، والرد على فتاوى الوهابيين لحسن صدر الدين الكاظمي، وغيرها من الكتب والرسائل التي ألفها أئمة الرافضة، والذين عهد عنهم عمارة المشاهد والقباب، دون المساجد التي أمر الله أن تعمر بطاعته (1).
__________
(1) انظر : أم القرى ع104، مقال (حول هدم القبور للشيخ عبد الله البليهد).(1/91)
هذه بعض الأسباب الظاهرة لشدة عداوة الخصوم للدعوة الوهابية(1) وكثرة المؤلفات المناوئة لهذه الدعوة الصادقة الحقة.
__________
(1) بالنسبة إلى كلمة (الوهابية) فإن الكثير من الخصوم أطلقوا هذا اللقب على أتباع الدعوة السلفية، ويريدون بذلك توهيم الناس أن الوهابية مذهب جديد أو مستقل عن سائر المذاهب الإسلامية، لذا فإن بعض الباحثين يتحاشون من هذا اللقب. (انظر : تعقيب الشيخ صالح الفوزان على كتاب (محمد بن عبد الوهاب) لعبد الكريم الخطيب (مجلة كلية أصول الدين) ع1، ص68، حيث خطأ الفوزان إطلاق اسم الوهابية على دعوة الشيخ من ناحية اللفظ ومن ناحية المعنى، وانظر :ما كتبه الشيخ عبد الله الجبرين حول هذا الإطلاق في مجلة البحوث الإسلامية (ع9، ص129). ولكن فيما بعد - كما هو ظاهر في السنوات الأخيرة - نجد علماء الدعوة وأنصارها لا يتحاشون استعمال كلمة (الوهابية) (انظر : رسالة (الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية) لابن سحمان، و(أثر الدعوة الوهابية) لمحمد حامد الفقي، و(الوهابيون والحجاز) لمحمد رشيد رضا و (الثورية الوهابية والفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم) للقصيمي و (حقيقة المذهب الوهابي) لسليمان الدخيل.
يقول أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه عن محمد بن عبد الوهاب :
(ومن معاملة الله لهم - أي خصوم الدعوة - بنقيض قصدهم هو أنهم قصدوا بلقب الوهابية ذمهم، وأنهم مبتدعة، ولا يحبون الرسول كما زعموا الآن لقباً لكل من يدعو إلى الكتاب والسنّة، وإلى الأخذ بالدليل، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ومحاربة البدع والخرافات والتمسك بمذهب السلف) ص 51.
ويقول مسعود الندوي في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) : (وعلى كل حال فنظرا إلى تلك المحاولات التي بذلت لإظهار الوهابية في صورة مذهب مستقل وطائفة ضالة هذا الاسم منتقد أشد الانتقاد ولكن بغض النظر عن هذه الأكذوبة والافتراء فلا أرى حرجاً في هذه التسمية) ص 165.
وانظر : ما كتبه عبد الله العثيمين في كتابه (محمد بن عبد الوهاب) ص 101 - 104.(1/92)
الباب الأول : مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الدحض لها
سيكون المنهج الذي اخترته في كتابة أبواب هذا الفصل، هو أن يبتديء كل فصل بتمهيد يتضمن معتقد الشيخ الإمام، ومعتقد أتباعه من بعده في المسألة التي افتري عليه فيها، ثم أذكر الفرية كما جاءت مدونة في كتب الخصوم، ثم أتبعها بالرد والدحض من خلال ما كتبه أئمة الدعوة السلفية في مؤلفاتهم ورسائلهم، ولا يُكتفى بذلك بل نورد معتقد الخصوم في تلك المسائل التي افتروا وكذبوا فيها، حتى يظهر للمنصف ما كان عليه الخصوم لهذه الدعوة السلفية من ضلال وانحراف في تلك المسائل، فلا يقتصر على الرد والدحض لمفتريات الخصوم، بل نتبعه بما يكشف عن عقائدهم الفاسدة.
الفصل الأول : الافتراء على الشيخ بادعاء النبوة،وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم.
يظهر من عنوان هذه الفرية أنها تتكون من شقين، الشق الأول: فرية ادعاء النبوة، والشق الثاني: فرية انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا فإننا سنتحدث عن كل شق منهما على حدة، فنورد أقوال الخصوم من مصادرهم، وكتبهم، ثم نتبعها بالدحض والرد.
فنشرع في الحديث عن الشق الأول من هذا الافتراء، وهي فرية أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة، وقبل أن نذكر هذه الفرية، يجدر بنا أن نقف وقفة يسيرة لمعرفة اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه - من بعده - في عقيدة ختم النبوة.
لقد أوضح الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله معتقده في مسألة ختم النبوة في مواضع من مؤلفاته، منها ما ورد في رسالته لأهل القصيم لما سألوه عن عقيدته فقال - بكل وضوح -:
(وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته)(1).
ويقول أيضا في هذه المسألة :
__________
(1)(مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/10.(1/93)
(وأول الرسل نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم)(1) ويذكر الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسين في إحدى رسائله معتقد الشيخ الإمام في هذا المقام، فيقول:
... (ويعتقد - أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب - أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود..) (2).
ويوضح صاحب كتاب جواب الجماعة معتقد الشيخ في هذه المسألة:
... (ويؤمن - أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب) بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته) (3).
يتضح جلياً مما سبق ذكره اعتقاد الشيخ في مسألة ختم النبوة، كما أن أتباع الشيخ - من بعده - تحدثوا عن هذه المسألة في كتبهم ورسائلهم، ونورد منها هذه النماذج التالية:
يقول الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود في إحدى رسائله:
(ونؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأفضلهم) (4).
ويقول صاحب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) في تلك المسألة:
(وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالنص والإجماع) (5).
ويقول الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي (1) (ت 1285هـ) - أشهر شعراء الدعوة السلفية - هذه الأبيات التالية حول ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم:
ثم جميع الأنبياء والرسل ... ... بينهم تفاوت في الفضل
لكنهم قد ختموا بالأفضل ... ... منهم نبيناً خاتم الرسل
فلا نبي بعده كلاَّ، ولا ... ... مبشرا أو منذراً أو مرسلا
__________
(1) المصدر السابق 1/155، 195، 3/8.
(2) الدرر السنية) 1/262.
(3) ص 198.
(4) رسالة الإمام عبد العزيز الأول، ط3، مؤسسة النور، الرياض، ص12.
(5) ص80.(1/94)
فما لشرع دينه من ناسخ ... ... وما لعقد حكمه من فاسخ(1)
ويمتدح الشاعر أحمد بن مشرف المصطفى صلى الله عليه وسلم - في قصيدة أخرى - ويذكر مسألة ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول:
هو خير الخلق طرّاً (2)وبه ... ... للنبيين جرى ختم وفتح
فبه قد بدئوا واختتموا ... ... فهو كالمسك له في الختم نفح(3)
وقد أورد الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالته التي بعثها إلى أهالي الحجاز وجنوب الجزيرة العربية، اعتقاد أئمة الدعوة السلفية في نجد، فكان مما قاله - رحمه الله - في مسألة ختم النبوة:
(ونؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين)(4).
ويقول صاحب جواب الجماعة في هذه المسألة:
ثم ختم النبوة والرسالة بصفوة النبيين والمرسلين وصفوته من الخلق أجمعين {ما كان محمداً أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} (5)، (6).
وبهذه النقول المتعددة تكون مسألة ختم النبوة عند الشيخ وأتباعه قد اتضحت وبانت، فالنبوة قد ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا نبي بعده، والوحي قد انقطع، فهذه العقيدة مسلَّم بها لا يشوبها أدنى شكًّ أو ريب، وما سبق من نقول تأكيد بأن هذه المسألة ليست محلاً للنقاش والجدال عند أئمة الدعوة السلفية، ومادام هذا هو موقف الشيخ من مسألة ختم النبوة، فإنه من المناسب بيان موقف الشيخ ممن اعتدى وتجرأ على هذا الختم وزعم أنه نبي يوحى إليه.
يتحدث الشيخ عن أهل الرَّدَّة - بعد وفاة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم - فيقول:
__________
(1) ولد ابن مشرف في الإحساء وتعلم بها، له ديوان شعر مطبوع، تولى القضاء في الإحساء في آخر أيام الإمام فيصل بن تركي. انظر (تحفة المستفيد) 2/401، (عقد الدرر) ص 54.
(2) طرا: أي جميعاً، انظر: (مختار الصحاح) للرازي ص389
(3) المرجع السابق ص 44.
(4) الدرر السنية) 1/289.
(5) الأحزاب : آية 40.
(6) ص167.(1/95)
(قتال أهل الردة: وصورة الردة أن العرب افترقت في ردتها فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبياً لما مات، وفرقة قالت نؤمن بالله ولا نصلي، وطائفة أقروا بالإسلام وصلّوا، ولكن منعوا الزكاة، وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكن صدقوا مسيلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه معه في النبوة، وقوم من أهل اليمن صدقوا الأسود العنسي في ادعائه النبوة وقوم صدقوا طليحة الأسدي، ولم يشك أحدٌ من الصحابة في كفر من ذكرنا، ووجوب قتالهم، إلا مانع الزكاة …) (1).
ويقول في موضع آخر:
(ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان رضي الله عنه على تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم) (2).
وقد أطال رحمه الله في بيان أخبار المرتدين(3)، فذكر قصة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وما أظهره من صلاح.. ثم زعمه في آخر أمره أنه يوحى إليه.
وقال الشيخ بعد هذه القصة:
(وأجمع العلماء كلّهم على كفر المختار - مع إقامته شعائر الإسلام - لما جنى على النبوة) (4).
بل إن الشيخ رحمه الله يصرح بأكثر من ذلك بعبارة موجزة، فيقول في ذكر الحقوق الواجبة على كل مسلم:
(وأعظمها حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأفرضه شهادتك له أنه رسول الله وأنه خاتم النبيين، وتعلم أنك لو ترفع أحداً من الصحابة في منزلة النبوة صرت كافراً) (5).
__________
(1) موعة مؤلفات الشيخ) 3/37، 38. وانظر : (مؤلفات الشيخ) 3/42، 43
(2) المرجع السابق 1/308.
(3) انظر: المرجع السابق 3/257 - 288.
(4) المرجع السابق 3/45.
(5) الدرر السنية) 1/98، 99(1/96)
مما سبق بيانه ندرك أن الشيخ رحمه الله يقرر ويؤكد بأن دعوى النبوة - بعد ختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم - كفر وانسلاخ عن دين الإسلام، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشخص الذي يرفع أحداً إلى منزلة النبوة يصير كافراً، حتى ولو كان هذا - الذي رفع منزلته - صحابياً.
ومع كل ما سبق فإننا نرى بعض خصوم هذه الدعوة السلفية يسطرون فرية ادعاء النبوة للشيخ، ويسودون الصحائف بهذا البهتان.
ومن أوائل الذين ألصقوا بالشيخ هذه الفرية، محمد بن عبد الرحمن بن عفالق حيث يقول في رسالته التي ألفها رداً على عثمان بن معمر أمير العيينة آنذاك، حيث يطعن ابن عفالق في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيقول:
(كما ادعا نزيله مسيلمة - أي النبوة - بلسان مقاله، وابن عبد الوهاب حاله) (1).
ويقول ابن عفالق في موضع آخر من هذه الرسالة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه ادعا الرسالة (2)، وفي رسالة أخرى ألّفها رداً على جواب ابن معمر، يقول فيها مخاطباً ابن معمر:
(والله لقد ادعا النبوة بلسان حاله لا بلسان مقاله، بل زاد على دعوى النبوة، وأقمتموه مقام الرسول، وأخذتم بأوامره ونواهيه (3).
ويقول ابن عفالق متهكماً بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومخاطباً ابن معمر: (وأما من قال أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وادعى النبوة، وأرسل رسله إلى سائر الأمصار) (4) .
ويسوق صاحب كتاب (فصل الخطاب) أحمد بن علي القباني نفس الفرية بقوله عن الشيخ أنه متنبي نواحي اليمامة (5).
وفي موضع آخر يقول مخاطباً الشيخ محمد بن عبد الوهاب وساخراً به:
(هل أخذته من بقايا صحف مسيلمة الكذّاب عندكم في نواحي اليمامة) (6).
ويتهكم به مرة أخرى فيقول:
__________
(1) ق 44.
(2) انظر: ق49.
(3) ق59.
(4) ق64.
(5) انظر : ق 36.
(6) ق57.(1/97)
(أترى أن كل هؤلاء العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ضلّوا وأضلّوا من نحو ستمائة سنة إلى أن بعث الله متنبي العيينة داعياً إلى دين الإسلام) (1).
كما أن من أوائل الذين تولوا كبر فرية ادعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب النبوة، المدعو علوي الحداد في كتابه (مصباح الأنام) حيث يقول:
(وكان يضمر دعوى النبوة، وتظهر عليه قرائنها بلسان الحال، لا بلسان المقال، لئلا تنفر عنه الناس، ويشهد بذلك ما ذكره العلماء من أن عبد الوهاب(2) كان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذّاب وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأضرابهم)(3).
ويقول رابعهم حسن بن عمر الشطي في تعليقه على رسالة في إثبات الصفات للحازمي: (فإنه - أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كانت لوائح دعوى النبوة تظهر عليه)(4).
ثم جاء أحمد بن زيني دحلان فأشاع هذه الفرية وسطرها في كتبه(5)، وتلقفها من بعده خصوم آخرون كالعاملي(6) وجميل صدقي الزهاوي(7)، ومختار أحمد باشا المؤيد(8)، وعبد القادر الأسكندراني(9)، وغيرهم.
ثم يأتي السمنودي في كتابه (سعادة الدارين)، فيحاول (تلطيف) هذه الفرية وتخفيفها ظنَّا منه أن ذلك أدعى لقبولها وأيسر في التمويه على سواد الناس، فيقول:
__________
(1) ق167، ويزيد القباني – بعد ذلك – شناعة فيقول : (فقبح الله العيينة وأهلها)، ويقول – ق232 -: (وإن زعمتم هذه النبوة لهذا الخارجي) .
(2) هكذا جاء في الكتاب:) عبد الوهاب) !!
(3) ص4.
(4) ق71
(5) انظر: خلاصة الكلام ص 239، (الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص47، ولم يذكرها في كتابه (الفتوحات الإسلامية).
(6) انظر : كتابه (كشف الارتياب عن اتباع ابن عبد الوهاب)ص3.
(7) انظر : كتابه (الفجر الصادق) ص17.
(8) انظر: كتابه (جلاء الأوهام) ص5.
(9) انظر: الرد عليه، (النفخة على النفحة) لناصر الدين الحجازي ص6.(1/98)
(فكان محمد بن عبد الوهاب المذكور بينهم - أي بين أتباعه - كالنبي في أمته لا يتركون شيئاً مما يقول، ولا يفعلون شيئاً إلا بأمره) (1) .
ولكن يجئ خصم آخر - وهو محمد وفيق سوقية - يرفض ذلك التخفيف، ويسعى بزيادة البهتان على أسلافه فيقول:
(وأوحت له نفسه دعوى النبوة، كسلفه مسيلمة الكذَّاب، ولكن كان الضعف يخفيها، ولو وجد قبولاً تاماً من أتباعه النجديين لأظهرها، ودعا الناس إليها، أو لو كان يجد من يمده بالقوة لحمل جميع الأمة لإظهار ما كان يكنه في صدره، نعوذ بالله من الغواية بعد الهداية) (2).
ويقول نفس الكاتب أيضا:
)ولما كان - أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب - مولعاً بمطالعة أخبار أسلافه الذين ادعوا النبوة، مثل مسيلمة الكذَّاب والأسود العنسي، وسجاح، وطليحة الأسدي، قام بنشر دعوته الإصلاحية للتوصل لدعوى النبوة افتراء) (3). ...
ونلاحظ أن بعض الخصوم سطَّر هذه الفرية عبر أبيات شعرية كما فعل المدعو عبد الرحمن بن عمر الإحسائي (4) حيث يقول طاعناً في الشيخ الإمام وأتباعه:
وفي ذاك دعوى للنبوة ظاهر ... ... فيا فرية حطت وأوهت عن المرقا
ونحن الأولى بالدين قاموا ومهدوا ... ... وما شعروا أن قد به فتقوا فتقا
فيا ويحهم من أين جاءهم الهدى ... ... أوحي أتاهم وهو قد أحكم الغلقا (5)
ويقول يوسف النبهاني في رائيته الصغرى - ناعقاً بهذه الفرية -:
أولئك وهابية ضل سعيهم ... ... فظنوا الردى خيراً وظنوا الهدى رشدا
ضعاف النهى أعراب نجد جدودهم ... ... وقد أورثوهم عنهم الزور والوزرا
__________
(1) 1/36.
(2) تبيين الحق والصواب) ، ص6.
(3) تبيين الحق والصواب)، ص6
(4) لم أعثر له على ترجمة، ولكن يبدو - والله أعلم - أنه عم الشيخ أبي بكر بن محمد بن عمر الملا، وأحد شيوخه، وأبو بكر توفي سنة 1270هـ.
انظر) تحفة المستفيد 2/399هـ.
(5) الحداد، (مصباح الأنام) ص53.(1/99)
مسيلمة الجد الكبير وعرسه ... ... سجاح لكل منهم الجدة الكبرى
فقد ورثوا الكذّاب إذا كان يدعي ... ... بأن له شطراً وللمصطفى شطرا (1)
ما سبق نقله بعض النماذج لمزاعم الخصوم ومفترياتهم مأخوذة من كتبهم ومصادرهم، ولعل ما نقلناه عن الشيخ الإمام رحمه الله في اعتقاده في مسألة ختم النبوة، وكذلك اعتقاد أتباعه - من بعده - في هذه المسألة، وموقف الشيخ الإمام من أدعياء النبوة، إن هذا يعتبر بحد ذاته من أعظم وأبلغ الحجج في دحض ورد تلك الفرية الكاذبة الخاطئة، ومع ذلك فسنورد بعض الردود في قمع هذه الفرية، من باب الزيادة في إسقاطها وتهافتها.
ويقول الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد) راداً على علوي في فريته بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مدعي للنبوة، (والجواب أن يقال لهذا الملحد المفتري: هذا من أبطل الباطل وأمحل المحال وبطلانه من وجوه:
الوجه الأول: أنه زعم أنه يضمر دعوى النبوة، وهذا أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله، فكيف ساغ له أن يدعي علم ما في القلوب مما لا يطلع عليه إلا علام الغيوب.
__________
(1) ص27.(1/100)
أيدعي علم الغيب أو أنه يوحى إليه ومن ادعى ذلك فهو كافر ثم ما هذه القرائن التي يزعم هذا الدجال المفتري أنها تظهر عليه بلسان الحال، فهلا ذكر قرينة واحدة من ذلك فإنا لا نعلم إلا دعوة الحق إلى إخلاص العبادة لله وحده، وأن يكون الدين كلّه لله، ثم كيف ساغ له دعوى أن الشيخ يضمر في قلبه دعوى النبوة وهي كذب ظاهر وينفيه بدعواه الباطلة لما قال الشيخ في المشركين عباد القبور: إنهم يعظمون مشاهد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومشاهد الأولياء تعظيماً بليغاً حتى يطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى، وهذا أمر معلوم مشهور عنهم واعتقادهم في الأنبياء والأولياء لا ينكره إلا مكابر في الحسيات مباهت في الضروريات، فقول هذا الملحد فمن أين اطلع عليه واعتقد فيهم على سبيل القطع، حتى بنى عليه تكفيرهم إلى آخره.
فيقال: اطلع عليه بأفعالهم الظاهرة التي لا تصدر إلا عن اعتقاد القلب فيمن يدعونه، ويستغيثون به، ويلجئون إليه في مهماتهم وملماتهم حالاً ومقالاً، بخلاف ما زعمت أنت وأصحابك المفترون من أن الشيخ يضمر دعوى النبوة وهو أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله، مع أنها دعوى كاذبة خاطئة، وبيتم على ذلك تكفيره وتكفير من اتبعه على دين الله ورسوله، واستحلال دمائهم وأموالهم من غير ذكر قرينة حال أو مقال إلا بدعوى مجردة عن الدليل)(1).
__________
(1) ص12(1/101)
من خلال نقل هذا النص للشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله يظهر جلياً قوة الحجة التي أدلى بها الشيخ في مواجهة تلك الفرية، ولم يكتف بذلك رحمه الله، بل وضح تناقض الخصم وتضاربه حين ذكر أن الشيخ الإمام رحمه الله يقرر أن المشركين عباد القبور يعظمون المشاهد والأضرحة، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، فأنكر هذا الخصم محتجاً بأنه لا يطلع على اعتقادهم في تلك المشاهد والأضرحة، مع أن الشيخ الإمام قرر ذلك بقرائن وأدلة تثبت ما يقول، وهذا المفتري زعم أن الشيخ ادعى النبوة، ولم يذكر أي قرينه تدل على دعواه. ثم ذكر ابن سحمان وجهاً آخر للرد على هذه الفرية، فقال:
(إن الشيخ قد ذكر في كتاب التوحيد ما رواه البرقاني في صحيحه قوله في الحديث (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (1)..) إلى أخر الحديث.
وقال (2) في المسائل المستنبطة من هذا الباب، الثامنة: العجب العجاب خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه أنه من هذه الأمة وأن الرسول حق وأن القرآن حق.
__________
(1) ذه الرواية عند أحمد وأبي داود وابن ماجه، والحاكم وأبي نعيم في (الحلية) و (الدلائل) بسند صحيح (على شرط مسلم).
عن كتاب) النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد)، لجاسم الدوسري، ط1، دار الخلفاء، الكويت، 1404هـ، ص129.
(2) أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب.(1/102)
وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، فكيف يضمر مع هذا دعوى النبوة، وكيف يزعم هذا ويرمي به الشيخ رجل يؤمن بالله واليوم الآخر وبهذا تعلم أن هذا من تزوير من شرق بهذا الدين من أعداء الله ورسوله تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة.
وقوله: ويشهد لذلك ما ذكره العلماء من أن ابن عبد الوهاب كان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأضرابهم.
والجواب أن يقال: وهذا أيضاً من الكذب والفجور وقول الزور بل كان رحمه الله مولعاً بكتب الحديث والتفسير كما قال رحمه الله في بعض أجوبته: ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلَّها لدينا تفسير محمد بن جرير الطبري ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البيضاوي، والبغوي، والخازن، والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروحه كالقسطلاني والعسقلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير، ونحوهم من كتب الحديث، خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون فروعاً وأصولاً وقواعد وسيراً وصرفاً ونحواً وجميع علم الأمة) (1).
يقول ابن سحمان في كتابه (الضياء الشارق في الرد على شهبات الماذق المارق)، مكذباً هذه الفرية التي تلقفها الزهاوي وسوّد بها كتابه المسمى (الفجر الصادق).
(وأما قوله: وكان محمد هذا باديء بدأته:
__________
(1) الأسنة الحداد)، ص12، 13.(1/103)
فالجواب أن نقول: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً فإن هذا معلوم كذبه بالاضطرار لا يمتري فيه من له أدنى معرفة بمقادير الأئمة الأخيار، ومن طالع كتب الشيخ ومصنفاته ورسائله، وتأمل حال نشأته ودعوته إلى الله تبيّن له أن هذا من الكذب والافتراء وأنه من وضع أعداء الله ورسوله الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب الفساد، يريدون ليطفئون نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (1).
ولا يكتفي الشيخ ابن سحمان – رحمه الله – في دحض هذه الفرية بما كتبه آنفا فقط، بل يشنع على هذه الفرية بقصائد شعرية متعددة.
فيقول رحمه الله في ديوانه، وفي قصيدة له يذكر مفتريات أحمد دحلان على الشيخ الإمام:
... وما قال فيما يدعيه ويفتري ... ... عليه من البهتان للأعين الرمّد
... كدعواه أن الشيخ يزعم أنه ... ... نبي ولكن كان يخشى فلم يبد
ثم يورد الرد عليه فيقول:
فويحك كم هذا التجاوز والهذا ... ... وكم ذا التجري والتجاوز للحد
فجوزيت من مولاك شر جزائه ... ... وحلّ عليك الخزي في القرب والبعد
أتقفو بلا علم أكاذيب مفتر ... ... وأوضاع أفاك حسود وذي حق (2)
ويقول ابن سحمان في قمع هجاء الملا أبي بكر عبد الرحمن بن عمر الإحسائي:
وأعظم من هذا ضلالاً وفرية ... ... ... مقالته الشنعاء بما أظهر الحقا
بأن قال دعواه النبوة ظاهراً ... ... ... وذا فرية منهم على أنه الأتقى
نعم قام بالتوحيد والدين الهدى ... ... ... ونرجو له الزلفى فيرقى إلى المرقى (3)
__________
(1) ص25، وقد ذكر ابن سحمان قريباً من هذا الجواب في كتابه (كشف غياهب الظلام) ص 98 – 100.
(2) ان ابن سحمان (عقود الجواهر المنضدة الحسان) ط1، المطبعة المصطفوية بالهند، سنه 1337هـ، ص 23، 24.
(3) المرجع السابق ص 144.(1/104)
ويشنع ابن سحمان على مفتريات النبهاني في رائيته الصغرى، فيسطر قصيدة طويلة سماها (الداهية الكبرى)(1) وكان مما قاله:
... وقد ورثوا مجداً أصيلاً مؤثلا ... ... ... لأهل الهدى منهم فنالوا الفخرا
... مسيلمة الكذاب ليس بجدهم ... ... وليس له نسل يقرر أو يدرا
... ولا لسجاح ويل أمك فاتئد ... ... ... فما الفشر غلا ما هذوت به نشرا (2)
ويأتي رد الشيخ ناصر الدين الحجازي(3) على هذه الفرية بأسلوب آخر، وذلك في رسالته (النفخة على النفحة)، حيث يزعم عبد القادر الأسكندراني - كأسلافه - أن الشيخ الإمام قد ادعى النبوة، فكان جواب الشيخ ناصر الدين الحجازي على هذا الإفك: (أقول (من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة)، ولكن أقول كأن صاحب الرسالة ذهل عن قاعدة: إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل، فإن كنت مقلداً لدحلان في نقلك، أليس لك ما تميز به بين الغث والسمين، فتعلم أنه ما نقل عن هؤلاء القوم إلا فكاهات تضحك الثكلى، ويهزأ بها الطفل الصغير فكيف يقبلها عقل رجل بلغ من الذكاء أن أرجع أمة من الجهل إلى العمل بالكتاب والسنّة.
وأما قولك وكان يضمر دعوى النبوة إلا أنه لم يتمكن من إظهارها فهذه دعوى كشف واطلاع على ما في القلوب، فهي بين أمرين إما تصريح بالكذب وإما مشاركة لله تعالى في قوله (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)(4).
فاختر أى الشقين شئت، وإن كنت مدعياً فعليك الدليل من كتبه التي طبعت في الهند وفي مصر وسارت في الأقطار (5).
__________
(1) بلغت هذه القصيدة أربعمائة بيت.
(2) المرجع السابق ص 53.
(3) سبق الإشارة إلى أن ناصر الدين الحجازي هو اسم أطلقه الشيخ محمد بن علي بن تركي على نفسه عند تأليفه لهذا الرد.
(4) سورة غافر: آية 19.
(5) ص7 ،8 باختصار.(1/105)
ومما أورده الشيخ فوزان السابق في كتابه (البيان والإشهار) في دحض فرية ادعاء النبوة للشيخ رحمه الله، ننقل هذه السطور رداً على من بهت الشيخ بادعاء النبوة في نفسه.
(إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد اشتهر مذهبه ودعوته التي يدعو الناس إليها في مصنفاته المطولة ورسائله المختصرة، فلم يترك لمعارضيه شبهة إلا كشفها، ولا طريقاً توصل إلى الله وإلى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بينّها وأوضحها. فأي شيء يخفيه في نفسه بعد ذلك أيها الضالون ؟ فلو كان لهذه الفرية أدنى قيمة لأوردت من كلام الشيخ رحمه الله ما يكفي ويشفي في ردها. ولكنها فرية تمثل الزور والفجور، فلا تستحق رداً أكثر من احتقار صاحبها وكشف عورته وليس أبلغ من رد هذا الملحد(1) على نفسه فاسمع إذاً ما يعوله بعد دعواه على الشيخ الكتمان. قال المعترض: فلما مات أبوه في نحو سنة 1143هـ ابتداء ابتدأ لإظهار مذهبه حتى سنة 1151هـ فأشهر أمره وأظهر دعوته وعقيدته في نجد وأطرافها) (2).
فالشيخ فوزان رحمه الله يقرر تفاهة هذه الفرية وحقارتها، بحيث لا يلتفت إليها ولا تستحق الاهتمام أو الرد، ثم يشير إلى عوار هذه الفرية ويكشف تناقض مفتريها وتضاربه، فيقول رحمه الله:
(فنقول لهذا الملحد: إذاً فليس فيه كتمان، كما افتريته على الشيخ، فقد أبطلت دعواك بإقرارك بنفسك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى واشتهر به من الدعوة إلى كتاب الله تعالى واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين، فقد ظهر واشتهر أمره، فلا ينكره إلا معاند مثلك أيها المفتري الذي أكذب نفسه بنفسه فالحمد لله على ظهور الحق وخذلان الباطل وأهله)(3).
__________
(1) وهو مختار أحمد باشا المؤيد، صاحب كتاب (جلاء الأوهام).
(2) 7.
(3) ص 57.(1/106)
ويشير د. عبد الرحمن عميرة في بحثه (الشبهات التي أثيرت على دعوة الشيخ..) إلى دحض ذلك الافتراء، فكان مما قال:
(والمتفحص لهذه الادعاءات والمفتريات يرى اتفاقها جميعاً على أن ادعاء النبوة عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان إضماراً في داخله ولم يصرح به لأحد مطلقاً.
هذا هو المفهوم من كلامهم ولا يمكن أن يفهم غير ذلك ونقول إذا كان كذلك، وأن الشيخ أضمر النبوة في نفسه، ولم يتمكن - كما يقول الأدعياء - من إظهارها، فمن أطلعهم على هذا الشيء المضمر …؟
هل أوحى الله إليهم بما في سرائر العباد؟ فإن قالوا نعم، فهم الأدعياء حقاً، وتكون قولتهم هذه امتداد لما قاله مسيلمة وسجاح وكل المردة أتباع الشيطان. وإذا لم تكن هذه أتراهم اطلعوا على الغيب وقرأوا ما في اللوح المحفوظ كما كان يدعي بعضهم.
فإن كان هذا هو حالهم. خرجوا عن ملّة الإسلام وألحقوا بإخوانهم في الجاهلية من الكهان وأدعياء البهتان لأن الغيب لا يعلمه إلا الله.
... قال تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ً } (1) (2).
... من خلال ما أوردناه من براهين متعددة، وردود متنوعة (3)، في دحض فرية ادعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب النبوة، نأتي على ختام هذا المبحث متذكرين قوله عزَّ وجلَّ { سبحانك هذا بهتان عظيم } (4).
... وننتقل إلى الشق الأخر من هذه الفرية، وهو اتهام الشيخ واتباعه بانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم..، وسنورد - كما فعلنا في الشق الأول من هذه الفرية - مقدمة موجزة لبيان اعتقاد الشيخ واعتقاد أتباعه في المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ رحمه الله عن بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) سورة الجن : آية 26.
(2) بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب 2/55، 56.
(3) وانظر أيضاً : ما كتبه عجيل النشمي في الرد على زعم الخصوم بأن الشيخ ادعى النبوة، (من حلقات ترتيب أوراق سقوط الخلافة) مجلة المجتمع، ع 500.
(4) سورة النور : آية 16.(1/107)
(ولما أراد الله سبحانه إظهار توحيده وإكمال دينه وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى بعث محمداً خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، ومازال في كل جيل مشهوراً، وفي توراة موسى وإنجيل عيسى مذكوراً، إلى أن أخرج تلك الدرة بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فترة من الرسل وهداه إلى أقوم السبل، فكان له صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصره..)(1).
ويتحدث الشيخ الإمام عن معنى شهادة أن محمداً رسول الله فيقول:
(ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع) (2).
فلا يتحقق معنى شهادة أن محمداً رسول الله إلا بتمام الاتباع وكمال الاقتداء، بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول الشيخ مشيراً إلى بعض خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وأدم فمن دونه تحت لوائه). (3)
كما يذكر الشيخ بأنه صلى الله عليه وسلم (أقرب الخلائق منزلة) (4) وأنه (سيد المرسلين) (5) وفي قصة سبب نزول سورة { تبت } ، يذكر الشيخ (ما فيها من فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق الذي لا يقدر غيره أن يقوله) (6).
ويقول الشيخ ضمن كلامه عن سورة النور: (الأمر بطاعته (سبحانه) وطاعة رسوله وأن الهدى في طاعته، كما قال تعالى: { وإن تطيعوه تهتدوا } (7) (8).
كما يعرّف الشيخ الصراط المستقيم عند تفسيره لسورة الفاتحة، فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) 4/28
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 1/190، وانظر : ملحق المصنفات ( مجموعة مؤلفات الشيخ) ص82 .
(3) المرجع السابق 5/113 بتصرف يسير .
(4) المرجع السابق 4/339.
(5) المرجع السابق 4/335.
(6) المرجع السابق 4/381.
(7) سورة النور: آية 54.
(8) مجموعة مؤلفات الشيخ) 4/279.(1/108)
(والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو { صراط الذين أنعمت عليهم } ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائما في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم…)(1).
ويبين الشيخ في تفسير سورة الحجرات أنه (لابد من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرمته)(2).
ومن المناسب أن ننقل ما سطره الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن جده الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة، فيقول الشيخ عبد اللطيف:
(وقد قرر رحمه الله على شهادة أن محمداً رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصر والمتابعة والطاعة وتقديم سنّته صلى الله عليه وسلم على كل سنّة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين وفروعه، باطنه وظاهره، كليه وجزئيه، ما ظهر به فضله وتأكد علمه ونبله) (3).
وحيث أنه من الواجب متابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب يذكر بذلك فيقول:
__________
(1) المصدر السابق 4/17.
(2) صدر السابق 4/349.
وانظر أيضاً ما كتبه الشيخ في رسالته (فضل الإسلام) - والموجودة في (مجموعة مؤلفات الشيخ)- باب حقوق المصطفى وباب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنّة والترغيب في ذلك 1/260 - 262.
(3) هاج التأسيس)، ص41، ونقل هذا النص الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن.
انظر : الدرر السنية، 1/264.(1/109)
(وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات، والأقوال والأفعال. قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (1)الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قبل، وما خالف رد على فاعله كائناً من كان..)(2).
وفي جواب للشيخين حسين(3) (ت 1224هـ) وعبد الله ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب حول معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا:
(وتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله هو أن يطاع فيما أمر، وينتهي عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه ويترك، فعلى أقواله تعرض الأقوال والأفعال، فما وافق قوله فهو المقبول وما خالفه فهو المردود..)(4) .
ويقول صاحب (التوضيح عن توحيد الخلاق) عن منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة آل عمران : آية 31.
(2) الدرر السنية) 1/235، 236.
(3) الشيخ حسين بالدرعية وتعلّم بها، وكان يؤم المصلين بجامع الدرعية، وتولى القضاء.
انظر (مشاهير علماء نجد) ص 43، (علماء نجد) 1/220.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) 4/542.(1/110)
(.. وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين، وحسرة على الكافرين، أرسله بالهدى ودين الحق، الذي هو التوحيد بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكوراً فأمده بملائكته المقربين، وأيده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين، الفارق بين الهدى والضلال فشرح له صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وفرض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، وسد الطرق كلها إليه وإلى جنته، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأعماله وأقواله توزن الأخلاق والأعمال والأقوال. فلم يزل صلى الله عليه وسلم مشمراً في ذات الله، لا يرده عنه راد صادعاً بأمره لا يصده عنه صاد، إلى أن بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد.
فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد شتاتها وامتلأت به الدنيا نوراً وابتهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلما أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة على عباه المؤمنين استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغرَّاء، فصلى الله وسلم وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه..)(1) .
ويبيّن الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن وجوب التعظيم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: (فقد علمت كلام الصادق المصدوق فلا يكون قول الغير في نفسك أعظم من كلام نبيك)(2).
ويقول الشيخ صالح بن محمد الشثري في رسالته (تأييد الملك المنان) مجملاً حقوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) ص 21 ، 22 وانظر : ص 40.
(2) درر السنية) 1/269(1/111)
(وأما حقوق النبي صلى الله عليه وسلم فهي واجبة على كل مسلم في كل زمان ومكان، فإن الله أوجب الإيمان به، ومحبته وطاعته، وموالاته ونصرته واتباعه، وأمر بالصلاة والسلام عليه في كل مكان، وسؤال الله له الوسيلة عند كل أذان، وبذكر فضائله ومناقبه وما يعرف به قدرة نعمة الله ببعثته على أهل الأرض، وأن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأنه لا يؤمن العبد حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين بل حتى يكون أحب إليه من نفسه إلى غير ذلك من حقوق…)(1).
ويقول الشيخ السهسواني حول تعظيم المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(فنحن معاشر أهل الحديث نعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تعظيم جاء في الكتاب والسنة الثابتة سواء كان ذلك التعظيم فعلياً أو قولياً أو اعتقادياً، والوارد في الكتاب العزيز والسنَّة المطهرة من ذلك الباب في غاية الكثرة.
وأما أهل البدع فمعظم تعظيمهم تعظيم محدث كشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والفرح بليلة ولادته، وقراءة المولد، والقيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم، وما ضاهاها، وأما التعظيمات الثابتة فهم عنها بمراحل …)(2).
ثم يقول محمد رشيد رضا معلقاً: (من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم أقلهم غلواً فيه، ولاسيما أصحابه رضي الله عنهم، ومن يليهم في خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشدهم غلواً في القول وابتداعاً في العمل، وترى ذلك في شعر الفريقين)(3).
__________
(1) ق7.
(2) نة الإنسان عن وسوسة دحلان،) ط5، مطابع نجد الرياض، 1395، ص 244 باختصار.
انظر ما كتبه السهسواني في شأن فضل الرسول صلى الله عليه وسلم ص237 - 243.
(3) صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان) ، ط 5، مطابع نجد، الرياض، 1395هـ، ص 244 باختصار.
وانظر : ما كتبه السهسواني في شأن فضل الرسول صلى الله عليه وسلم ص 237 - 243.(1/112)
وحول وجوب إجلال السنة النبوية، يذكر الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته لأهالي جنوب غرب الجزيرة، معتقداً أئمة الدعوة السلفية في نجد، فكان مما قاله:
(وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائناً من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم؛ لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد) (1).
ويقول ابن سحمان - حول مقام النبي صلى الله عليه وسلم - شعراً :
ونشهد أن المصطفى سيد الورى ... ... ... محمد المعصوم أكمل مرشد
وأفضل من يدعو إلى الدين والهدى ... ... ... رسول من الله العظيم الممجد
إلى كل خلق الله طراً وإنه ... ... ... يطاع فلا يعصى بغير تردد(2)
وجاء في (البيان المفيد) ما يلي :
(ونعتقد أن أفضل المخلوقين وأكملهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد وصفه الله بالعبودية في أشرف المقامات، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) (3) وورد: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) (4)...(5).
(ويقول الشيخ عبد الله بن سليمان البليهد(6) (ت 1359هـ):
__________
(1) الدرر السنية) 1/289، 290.
(2) الدرر السنية) 1/295.
(3) لم أعثر عليه بهذا اللفظ، ولكن هناك أحاديث أخرى صحيحة بمعناه.
(4) رواه البخاري.
(5) البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد)، ط 2، مطابع دار الثقافة 1398هـ، ص 9.
(6) ولد في قرية القرعاء بالقصيم سنة 1284هـ، وتنقل إلى عدة بلدان في سبيل طلب العلم، وتولى القضاء في أكثر من بلد، وصار رئيس القضاء في مكة، له مؤلفات وعدة تلاميذ، مات في الطائف.
... انظر (علماء نجد) 2/542، (مشاهير علماء نجد) ص 344.(1/113)
(فحق النبي صلى الله عليه وسلم المقدمة على محبة النفس والولد والوالد والأهل والمال وتصديقه وطاعته(1).
هذه النقول السابقة، ما هي إلا إشارات سريعة تعطي بياناً مجملاً لمعتقد الشيخ – رحمه الله -، ومعتقد أتباعه من بعده في حقوق نبينا صلى الله عليه وسلم، فما قصدوا – رحمهم الله – من دعوتهم الإصلاحية إلا التأسي بالمصطفى والاتباع ومحاربة الضلال والابتداع.
وأما افتراء الخصوم على الشيخ وأتباعه، بأنهم ينتقصون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد من خلال المصادر التي بين أيدينا، أنها تشير إلى أن سليمان بن سحيم هو من أوائل – إن لم يكن أولهم – المفترين لهذا البهتان، فقد قام سليمان بن سحيم بقذف الشيخ بهذا الإفك، ولم يقتصر على ذلك بل تجاوزه إلى نشر هذا الإفك في سائر البلدان والأمصار، يحرض علماء تلك البلاد على الشيخ، ويشنع عليه ويكيل إليه الأكاذيب والتلفيقات.
يقول ابن سحيم كذباً على الشيخ في انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كتب رسالة إلى علماء الأمصار عند ظهور دعوة الشيخ آنذاك(2)، فكان مما قاله:
__________
(1) خطاب الشيخ ابن بليهد في الاجتماع الذي عقده بين علماء نجد وعلماء مكة ص 21.
(2) أي ظهور دعوة الشيخ في بلدة العيينة، حيث أن رسالة ابن سحيم كانت متقدمة بدليل أن جواب القباني كان سنة 1157هـ، وتضمن الطعن في أهل العيينة الذين ناصروا الشيخ في باديء الأمر، كما أن نفس هذا العام – سنة 1157هـ - هو انتقال الشيخ الإمام من العيينة إلى الدرعية – وقد ذكر بعض الباحثين أن الشيخ انتقل إلى الدرعية سنة 1158هـ.
... انظر : كتاب (محمد بن عبد الوهاب) للعثيمين ص 54، (مشاهير علماء نجد) ص 26.(1/114)
(ومنها أنه أحرق (دلائل الخيرات) (1) لأجل قول سيدنا ومولانا، وأحرق أيضاً (روض الرياحين) (2)، وقال هذا روض الشياطين.. ومنها أنه صح عنه أنه يقول لو أقدر على حجرة الرسول هدمتها.. ومنها أنه قال الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها، هي بدعة وضلالة تهوي بصاحبها في النار..) (3).
وحين أرسل ابن سحيم هذه الرسالة إلى العراق.. كان ممن أجابه أحمد بن علي القباني في مجلد ضخم، فكان مما قاله القباني – معلقاً على كلام ابن سحيم السابق - :
(أقول فعله – أي الشيخ – هذا جرأة منه على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تعظيمه، وإكرام مقامه، وعدم مبالاة بالدين، إذ أقدم على إحراق كتاب موضوع في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وفي كيفية الصلاة عليه…)(4).
... ويقول في موضوع آخر من كتابه:
... (فظهر لك أن قول هذا المخذول - أي الشيخ - لو أقدر على هدم حجرة الرسول هدمتها قول من لم يتبع سبيل المؤمنين، في تعظيم حرمات سيد المرسلين، بل إنما ذلك قول من اتبع واقتدى بإبليس اللعين ومن تنقيص مقام حبيب رب العالمين) (5). ...
ثم جاء ثالثهم علوي الحداد، فزاد عليهم إفكاً وبهتاناً وذلك في كتابه (مصباح الأنام) فزعم أن الشيخ:
__________
(1) ألف (دلائل الخيرات) محمد بن سليمان بن عبد الرحمن المغربي، الشاذلي طريقة (ت 854).
(2) ألف (روض الرياحين) عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي (ت 768هـ).
(3) حسين بن غنام (روضة الأفكار) 1/112، 113.
(4) فصل الخطاب)، ق32.
(5) المصدر السابق ق 163.(1/115)
(كان ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بعبارات مختلفة، منها قوله: إنه طارش بمعنى أن غاية أمره أنه كالطارش الذي يرسل إلى أناس في أمر فيبلغهم ثم ينصرف، وكان بعضهم يقول عصايا خير من محمد، لأنها ينتفع بها بقتل الحيَّة ونحوها، ومحمد قد مات، ولم يبق فيه نفع أصلاً، وإنما هو الطارش ومضى، وبهذا يكفر عند المذاهب الأربعة، ومن ذلك أنه كان يكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويتأذى من سماعها وينهى عن الجهر بها على المنابر، ويؤذي من يفعله، ومنع من الإتيان بها على المنابر ليلة الجمعة ولذلك أحرق (دلائل الخيرات) وغيره من كتب الصلاة على النبي من تستر بدعوى أن ذلك بدعة) (1).
ويقول الحداد في موضع آخر من كتابه:
((وكان يقول) أن الربابة في بيت الخاطئة أقل إثماً ممن يناجي ويذكر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنابر) (2).
وساق أحمد بن زيني دحلان في كتابه (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام) (3)، وفي كتابه (الدرر السنية في الرد على الوهابية) (4) قريباً مما ذكره صاحب (مصباح الأنام).
ونقل صاحب (جلاء الأوهام) ما افتراه دحلان، وزاد في بهتانه حيث قال:
(قولهم حيث أن محمداً بلّغ القرآن ومات، فعند نزول آخر آية من القرآن انتهت رسالة محمد، وسقطت عنه حقوق الرسالة. وهذا معنى تسميته (طارشاً)، ومعناه عندهم (مرسل جاء برسالة فبلغها وذهب) فلا علاقة للناس فيه، والالتفات إليه شرك) (5).
ويكذب مرة أخرى فيقول: (قولهم – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه – أن الله أرسل محمداً وأنزل عليه القرآن ليبلغه للناس، وما أذن له أن يشرع للناس أشياء من عنده، فالدين كله في القرآن، وكل ما جاء به الحديث ويسميه المسلمون سنّة واجبة فهو باطل، ولا يجوز التعبد والعمل به)(6).
__________
(1) ص4.
(2) ص67.
(3) ص230.
(4) ص44.
(5) مختار أحمد المؤيد، (جلاء الأوهام) ص6 – 8 -
(6) المصدر السابق نفس الصفحة.(1/116)
واستحدث محسن الأمين العاملي للفرية وجهاً آخر – عدا ما نقله عن صاحب (خلاصة الكلام) فذكر أن اعتقاد (الوهابيين) في ضريح المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه صنم من الأصنام، ووثن من الأوثان بل هو الصنم الأكبر والوثن الأعظم) (1).
وتلقف صاحب (سعادة الدارين) ما افتراه علوي الحداد (2)، وكذا يوسف النبهاني تلقف كلام دحلان، وسوّد به صحائف كتابه الذي أسماه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) (3).
وأنشد أحدهم شعراً في هذه الفرية فقال :
يا محرقاً روض الرياحين الذي ... ... يحكي حكاي الصالحين الزهد
يا مفتيا بخراب قبة أحمد ... ... كنز العلوم الهاشمي السيد (4)
وقدم حسن خزبك هذه الفرية بأسلوب آخر، وذلك في كتابه (المقالات الوفية) فقال عن الشيخ:
(وكذا تنقيصه الرسل والأنبياء وهدم قببهم … ومنعه من قراءة خبر مولد النبي صلى الله عليه وسلم وضرب رقاب من يناجي في المنارة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) (5).
ثم جاء محمد نجيب سوقية، فسطّر هذه الفرية بأسلوب يتظاهر فيه بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال:
(ومما تقشعر منه الجلود ما سمعت عن بعضهم أنهم يقولون محمد كالعصا لا يضر ولا ينفع بل العصا اليوم أنفع من محمد بعد موته …) (6).
ثم قال: (إن هذه الفرية تعرضت لسخط الله بإيذائهم لحبيب الله صلى الله عليه وسلم) (7)، وعقد المدعو، محمد الطاهر يوسف فصلاً في كتابه (قوة الدفاع والهجوم)، وهذا الفصل مملوء بالأكاذيب على الشيخ وأتباعه، حيث جعل عنوانه: (بيان استخفاف الفرقة المعتزلة من السنّة النبوية لقدر نبينا وسيدنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم) (8).
__________
(1) انظر : (كتاب كشف الارتياب) ص 139.
(2) انظر : إبراهيم السمنودي، (سعادة الدارين) 1 / 44 ، 53
(3) انظر : (شواهد الحق) ص41.
(4) منظومة في الطعن على الشيخ الإمام، المكتبة السعودية، ق2.
(5) ص 188.
(6) تبين الحق والصواب) ص 29.
(7) المصدر السابق ص 30.
(8) ص 18.(1/117)
ثم عقد فصلا ً آخر قال فيه عن اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
(ومما يدل على استنقاصهم واستخفافهم لقدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذه اللفظة المجردة عن الأدب والحياء وهي (محمد لا يعلم الغيب)) (1).
ويزعم صاحب كتاب (إسلامي فرقي) عن الشيخ كذباً وزوراً أن الشيخ يعلن أن تعظيم الرسول شرك (2).
ونختم هذا الإفك المبين بما ذكره الشيخ محمد منظور النعماني في كتابه (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب).
(وقد سمعت وقتئذٍ أكذوبة عجيبة: أن رجلاً يحمل اسم عبد الوهاب النجدي وكان يتزعم الطائفة الوهابية، كان قد بلغ من عدوانه للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ورد المدينة المنورة يتظاهر بالصلاح والتقوى … وسكن بيتاً على الكراء من أجل أن يتخذ في داخل الأرض سرباً من بيته إلى روضة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتمكن من العبث بالجثة المطهرة – نعوذ بالله من ذلك – إلا أنه لم يستطع تحقيق أمنيته حيث تراءى النبي في المنام للملك الذي كان يحكم الحجاز آنذاك، وقال له في المنام: إن رجلاً من نجد خبيثاً رقيعاً يتخذ النفق في الأرض من أجل الغرض الخبيث، فبحث الملك عن الرجل عبد الوهاب النجدي، وقبض عليه فعلاً وضرب عنقه.
ولا أزال أذكر أن الناس كانوا يتناقلون هذه الأكذوبة كحقيقة تاريخية معلومة مقررة، ولذلك فلم أشك فيها قط، لأني لم أجد أحداً يرفضها أو يشك فيها) (3).
ويقول حافظ وهبة في كتابه (جزيرة العرب):
(ولقد سمعت في نجد أن حكام نجد الشمالية أثناء خصومتهم مع آل سعود كانوا يكتبون إلى الأتراك أن آل سعود اتخذوا راية شعارها: لا إله إلا الله محدّ رسول الله (بحذف ميم محمد (أي لا أحد رسول الله وهذا كله تنفيراً للأتراك من خصومهم، وهم يعلمون حق العلم أن هذا كذب) (4).
__________
(1) ص 19.
(2) انظر : كتاب (إسلامي فرقي) (أردو)
(3) ص15، 16.
(4) نقلاً عن كتاب (النهضات الحديثة في جزيرة العرب)، ص 60.(1/118)
وقد بلغت هذه الفرية - أعني فرية انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم - الإمام الشيخ، فكان جوابه عما افتراه عليه ابن سحيم بما يلي:
(سبحانك هذا بهتان عظيم، ولكنه قبل من بهت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، تشابهت قلوبهم، وبهتوه أنه يزعم أن الملائكة، وعيسى وعزير في النار، فأنزل الله في ذلك { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } (1)…) (2).
ويقول الشيخ - رحمه الله - في تكذيب هذا الافتراء:
(وما ذكره المشركون عليّ أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم … فكل هذا كذب وبهتان، افتراه عليّ الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان وأولاد إدريس) (3). (4).
ويقول - أيضاً - في رسالة بعثها إلى عبد الرحمن السويدي أحد علماء العراق، مجيباً عن افتراء ابن سحيم - الذي أرسله إلى سائر البلدان ومنها العراق -.
__________
(1) سورة الأنبياء : آية 101.
(2)(مجموعة مؤلفات الشيخ)، 5 / 64، وانظر : 5 / 12.
(3) هذه بعض أسماء رجال كان بعض النجديين يغلون فيهم. انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/134، وانظر: بحث الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب للعثيمين ضمن بحوث أسبوع الشيخ 1/101.
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ، 5 / 52.(1/119)
(يا عجبا كيف يدخل هذا في عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون ؟، وكذلك قولهم إنه يقول لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها (أي من البهتان)، وأما (دلائل الخيرات) (1) فله سبب، وذلك أني أشرت إلى من قبل نصيحتي من إخواني، أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله، ويظنّ أن القراءة فيه أجلّ من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظٍ كان فهذا من البهتان)(2).
ومما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ذاكراً هذه المفتريات ثم معقباً عليها بالدحض والرد، حين دخل مكة في محرم سنة 1218هـ (وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق بأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه { فاعلم أنه لا إله إلا الله } (3) مع كون الآية مدنية … وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم … فلا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً كان جوابنا في كل مسألة من ذلك سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى.
ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك.
__________
(1) انظر : جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن (دلائل الخيرات)، (مجموعة الرسائل والمسائل) 2/38.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 5 / 37.
(3) سورة محمد آية 19.(1/120)
والذي نعتقده أن مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب وأنه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد من ذلك الزيارة … فلا بأس، ومن أنفق أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه – عليه الصلاة والسلام – الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همَّه وغمَّه كما جاء الحديث عنه …..) (1).
ويقول الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود موضحاً وجوب تعظيم المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(وأما قولك أن ناساً من أصحابنا ينقمون عليكم في تعظيم النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فنقول بل الله سبحانه افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلو فيه وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك …) (2).
ومما سطره قلم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في كتابه (تأسيس التقديس في كشف تلبيس بن جرجيس) في الرد على داود حيث زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أبو بطين رحمه الله:
__________
(1) الدرر السنية) 1/ 127، 128.
(2) المصدر السابق 1/150.(1/121)
(وسلفه - أي داود - في ذلك عبّاد المسيح لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته، قالوا تنقص المسيح عليه السلام، ونحن إنما نهينا عن الغلو فيه صلى الله عليه وسلم الذي حذر منه بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)(1)، وقوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) (2)، وقوله (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد)(3) وقوله للذي قال: ما شاء الله وشئت، (أجعلتنى لله نداً (4) (5).
ويتعجب علامة العراق محمود شكري الألوسي من هذا الافتراء، فيقول:
(وأعجب من هذا تقوّل هذا العراقي من المبتدعة والغلاة على أهل الحق القاصرين الألوهية على خالق الخلق، إنهم ينتقصون الرسول والنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وينسبون إلى جنابه ما لا يليق بأعتابه ….. سبحانه إله الخلق ما أحلمه، وما أجل سلطانه وأعظمه) (6).
وكتب أحد علماء نجد (7) رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة (8) حين زعمت الجريدة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يقولون: إن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم، فاستعظم شناعة هذا الافتراء وقبحه، ثم أعقبه بالتكذيب لهذه الفرية، ثم بيان مقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما له من حقوق وواجبات، فكان مما قاله - جواباً على ذلك الكذب -:
__________
(1) رواه البخاري - وتقدم ذكره -.
(2) لم أعثر عليه بهذا اللفظ، وهناك أحاديث أخرى صحيحة بمعناه.
(3) رواه أبو داود بسند صحيح.
(4) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجة.
(5) ص3، وله كلام قريب من هذا في الدرر السنية 9 / 275.
(6) محمود شكري الألوسي (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس)، ط أنصار السنّة المحمدية، مصر 1366هـ، ص 455.
(7) لم يذكر اسمه (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية).
(8) وكانت هذه الجريدة لسان الشريف الحسين بن علي ضد الدعوة الوهابية.(1/122)
(الله أكبر على هؤلاء الملاحدة الذين ينفرون الناس عن الدخول في دين الله، ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون، فمن نسب هذا إلينا وافتراه علينا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وفضحه على رؤوس الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
ويا سبحان الله كيف يتصور وقوع هذا عاقل أو جاهل أو مجنون ؟ ولا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي الله ومسئول عن ذلك، بل لا يقوله إلا من هو أضل من حمار أهله، نعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.
بل نشهد الله وملائكته وجميع خلقه أنا نشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعاملين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه للإيمان منادياً وإلى دار السلام داعياً، وللخليقة هادياً.. أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره وتوقيره والقيام بحقَّه، وسدَّ إلى الجنَّة جميع الطرق فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب، لما فتح يفتحها لأحد إلا من طريقه، فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب، لما فُتح لهم حتى يكونوا خلفه من الداخلين، وعلى منهاجه وطريقه من السالكين، إذا تحققت ما قدمته لك فكيف يصح مع هذا أن نقول أن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) (1).
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/ 833.(1/123)
ويقول ابن سحمان في كتابه (كشف غياهب الظلام) في معرض الرد على هذا البهتان:
(وأما قوله: ولا يتحاشون من الطعن بالرسول عليه الصلاة والسلام بكل بذاءة. فالجواب أن نقول سبحانك هذا بهتان عظيم، ومن افترى علينا هذا ونسبه إلينا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وفضحه على رؤوس الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) (1).
(وأما قوله: أن محمداً بلغ القرآن ومات … وانتهت رسالته … الخ فالجواب: أن نقول هذا كله كذب وافتراء على الشيخ ما تكلم بهذا، ولا قاله ولا نقله أحد يعتد بنقله، بل هذا من الموضوعات الملفقة، وصريح الإفك والزندقة، وهذه رسائل الشيخ ومصنفاته موجودة، وليس فيها شيء من الترهات والأقاويل الباطلة والتلفيقات، إن هي إلا أوضاع وضعتموها من أنفسكم لتموهوا بها على أعين الناس، وتنفروا بها عن الدخول في دين الله ورسوله بغياً وعدواناً) (2).
ويقول ابن سحمان في كتابه (الأسنة الحداد) دحضاً لهذا الافتراء:
(والجواب أن يقال الله أكبر على هؤلاء الملاحدة الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجاً، فإن هذه الأكاذيب مما لا يمتري كل عاقل أنها كذب) (3).
ويقول في قصيدة نظمها رداً على دحلان:
ودعواك في مزبور مينك (4) أمره ... ... ... بقتل امريء صلّى على خير من يهدي
عليه صلاة الله ما هبّت الصبا ... ... ... وما انبعث ورق الحمائم بالغرد
فذا ظاهر البطلان يعلم رده ... ... ... على أنه زور من القول في النقد
فمهلاً عداء الدين ليس يشينه ... ... ملفق مزبور من المين لا يجدي
فلن يضع أعداء الأعداء ما الله رافع ... ... ... ولن يرفع الأعداء من كان بالضد (5)
__________
(1) ص 113.
(2) ص114.
(3) ص16.
(4) المين : الكذب. انظر (مختار الصحاح) ص641.
(5) ديوان ابن سحمان) ص53.(1/124)
ويقول ابن سحمان في قصيدة أخرى داحضاً تلك الفرية وراداً على أحمد باشا مؤيد العظمى (1) :
فليس اتباع المصطفى يا ذوي الردى ... ... يكون معاداة وبغضاً لذوي المجد
ولكنه عين الكمال لأنه ... ... على وفق ما قد قال في كل ما يبدي
وتعظيم أمر المصطفى باتباعه ... ... وترك الذي يأباه من كل ما يرى
فيأتي الذي يرضاه من كل مطلب ... ... ويجتنب النهي الذي كان لا يجدي(2)
ويقول أيضاً في قصيدة ثالثة يمتدح المصطفى صلى الله عليه وسلم ويرد على ما ذكره محمد عطا الكسم في كتابه (الأقوال المرضية) (3)، ويورد ابن سحمان - رحمه الله - بعض خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان مما قال:
لعمري لقد أعطاه ربي فضائلاً ... ... ... وخص بها الرحمن فضلاً محمداً
فأعطى لواء الحمد والكوثر الذي ... ... ... حباه إله العرش حقاً وأصعداً
وقد خصه المولى بما لم نحط به ... ... ... ونحصيه علماً أو حساباً محدداً
فدع عنك ما قال الغلاة وأوردوا ... ... ... بذلك أخباراً ودراً منضداً
فأخبارهم موضوعة ونظامهم ... ... ... لعمر إلهي باطل واهي السدا (4)
ويقول الشيخ محمد بن عثمان الشاوي - رحمه الله - في مؤلفه (القول الأسد في الرد على الخصم الألد) أثناء الرد على خصوم الدعوة السلفية، ذاكراً هذه الفرية والجواب عليها فكان مما كتبه:
__________
(1) هو صاحب كتاب (جلاء الأوهام)، والذي رد عليه ابن سحمان في (كشف غياهب الظلام) ورد عليه الشيخ فوزان السابق بكتاب (البيان والإشهار).
(2) ديوان ابن سحمان ص 60.
(3) وهي رسالة تضمنت الغلو في المصطفى صلى الله عليه وسلم وتجويز التوسل بالذوات، والغلو في الأموات.
(4) ديوان ابن سحمان ص64.(1/125)
(وقد رموهم بعظائم يعلم الله تعالى أنها لم تصدر منهم، ونسبتهم إلى تنقص الرسول وعد م الصلاة عليه، وما ذاك إلا أنهم لم يغلوا امتثالاً لقوله (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) (1)، وإلا فهم بحمد الله أعظم الناس محبة للرسول ومتابعة له، ورعاية لحقه، وهو أجل في عيونهم من أن يخالفوا سنته أو يخالفوا أقواله بمجرد العوائد الباطلة، أو الأقيسة الفاسدة بخلاف كثير من هؤلاء الذين جمعوا بين الإفراط والتفريط، فأفرطوا بالغلو فيه وإطرائه، حتى رفعوه من منزلة العبودية إلى منزلة الإلهية والربوبية، وفرطوا في اتباعه، فنبذوا سنّته وراء ظهورهم، ولم يعبأوا بأقواله، وخالفوا نصوصه الصريحة الصحيحة بغير مسوغ ولم يكتفوا بذلك حتى جعلوا يعيبون على من جدّ واجتهد في اتباعه، لما ألفوه من العوائد الباطلة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما حقه هو تعزيره وتوقيره واتباع ما جاء به، واقتفاء أثره، وتصديقه وتقديم محبته على الأهل والمال، وأما العبادة فهي له وحده لا يشركه فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل)(2).
وقد ساق الشيخ فوزان السابق – رحمه الله – فرية مختار ثم أعقبها بالرد نذكر من ذلك قوله:
(قال الملحد: واعلم يا أخي أن للوهابيين وإخوانهم أعداء الله ورسوله مطاعن كثيرة بالرسول صلى الله عليه وسلم، كلها من المكفرات، وإن كانت بحد ذاتها من المضحكات، تجل عقول الصبيان عن التمسك بها) أ.هـ
__________
(1) رواه البخاري – وتقدم -.
(2) ق7.(1/126)
أقول على زعم هذا المفتري بأننا أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، سبحانك هذا بهتان عظيم..، فزعم أننا أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بغير برهان من الله تعالى، وما حمله على ما رمانا به من الافتراء علينا إلا أننا قد جردنا اتباعنا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحققنا ما جاء بهما قولا ً وعملاً مقتفين أثر السلف الصالح …) (1).
... ومما ذكره فوزان السابق أيضاً عن تلك الفرية أنه قال:
(وهذا كله زور وبهتان، بل ظلم وعدوان يراد به الصد عن سبيل الله والبغي على عباده المؤمنين الداعين إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الملحد لم يسند شيئاً مما نسبه إلى الوهابيين، وادعاه عليهم إلى الثقات ولم ينقله عن كتب العلماء الذين يعتمد عليهم، بل كله بهت لا يتصور …) (2).
ومما قاله فوزان السابق - أيضاً - رداً على فرية المدعو مختار بزعمه أن الوهابيين يحرمون الصلاة على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ويكفرون من فعل هذا، فقال رحمه الله:
(والجواب أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم) لا يصدقه عاقل، ولا يسيغه من في قلبه وزن ذرة من إيمان، فهو اختراع شيطان رجيم، نبرأ إلى الله تعالى منه، ومن مخترعه الأثيم، ونؤمن بالله وكتبه ورسله، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله أجمعين، وسيد ولد آدم وأن الله تعالى صلى عليه وملائكته، وأمر عباده بالصلاة والتسليم، وأن من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
__________
(1) البيان والإشارة لكشف زيغ الملحد الحاج مختار، ط1 مطبعة السنة المحمدية، 1372هـ، ص 292، 293 باختصار.
(2) المصدر السابق ص 80.(1/127)
اللهم صلّ وسلّم عليه بعدد من صلى وسلّم عليه، وبعدد من غفل عن الصلاة والتسليم عليه إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم على سيد المرسلين وإمام الحنفاء الموحدين، صلاة دائمة إلى يوم الدين، وإن رغم أنف الحاج مختار العظمى الكذّاب الأثيم، والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل) (1).
ويرد الشيخ محمود شوبل على محمد البكري أبي حراز حين زعم هذا الحرازي أن الوهابيين ينهون عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فكان ردّه أنه قال:
(ولا ندري أين وجد الحرازي الكذوب أن الشيخ محمد أو أولاده منعوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه كتبهم طافحة مليئة بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر إلا مقروناً بالصلاة والتسليم كلما ذكر، بأبي هو وأمي، والناس أجمعين.
وقد قدمنا أن الشيخ محمد رحمه الله مقلد مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والصلاة على النبي في الصلاة ركن من أركان الصلاة تبطل الصلاة بتركها، فإنا لله وإنا إليه راجعون) (2).
ويقول مسعود الندوي – مستغرباً ذلك الافتراء – في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه):
(إن الزمان لغريب، وإن نوادره لعجيبة فالرجل الذي يقوم ويقعد وينام تحت ظل ظليل من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنها هي غطاءه وفراشه يتهم بإنكار الحديث) (3).
ويقول صاحب كتاب (النفخة على النفحة) رداً على تلك الفرية:
(وأما المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا تظن أن أحداً من المسلمين على كرة الأرض يهم بتنقيصه، أو يبغضه. وفي مذهب الحنابلة أن شاتم الرسول يقتل تاب أو لم يتب) (4).
__________
(1) المصدر السابق ص 271.
(2) القول السديد في قمح الحرازي العنيد) مطبعة السنة المحمدية، القاهرة سنة 1372هـ، ص 15.
(3) ص 173.
(4) ناصر الدين الحجازي، (النفخة على النفحة) مطبعة الترقي، دمشق 1340هـ، ص 27، 28.(1/128)
ويقول الشيخ صالح بن أحمد في كتابة (تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور)، راداً على كذبه بأن الوهابيين انتقصوا نبي الرحمة، فكان مما قال الشيخ صالح بن أحمد:
(فمن يساوي الأحرار برسول رب العالمين، صاحب المقام المحمود القائل (أنا سيد ولد آدم) (1) فضلاً عن العبيد، ولا شك أن قوله (أنا سيد ولد آدم) يشمل الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، إن هذا لبهتان عظيم، قاتل الله المفترين وما أظن قائل هذا القول يبقى له حظ في الإسلام، لأنه حقّر سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فلو ساواه بخيار أمته لكان محقراً له، فكيف إذا ساواه بالعبيد، ولا غرابة أن هذا دأب أعداء الأنبياء والرسل ومتبعيهم من قديم، ينسبون إليهم كل مستقبح من قول أو فعل) (2).
ويقول عبد الله بن علي القصيمي في كتابه (الصراع بين الإسلام والوثنية) داحضاً فرية الرافضة في الكذب على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها تنتقص الأنبياء والرسل، - كما زعم ذلك العاملي في كتابه (كشف الارتياب) – مع أنه من المعلوم أن الرافضة من أكذب الناس حديثاً، فلا غرابة أن يبهتوا الشيخ بهذه الفرية، يقول القصيمي:
(والجواب أن يقال: ما صدق الرافضي، ولا أنصف، حيث زعم أن هذا الذي ذكره هو اعتقاد الوهابيين في النبي والأنبياء، وقاتل الله الكذّابين وقاتل هذه الفرقة، فما يوجد على الأرض أكذب منها، ولا من يستحل الكذب والظلم والزور مثلها …
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
(2) ص 9، 10.(1/129)
واعتقاد الوهابيين في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه يجب على كل مسلم أن يعظمهم التعظيم المشروع كله أحياءً وأمواتاً، وأن يحبهم الحب الصادق العاقل أكثر من حبه لنفسه ولأهله وللناس أجمعين، وأن يعلم أنه لا نجاة له في أخراه وفي أولاه أيضاً إلا بطاعتهم واتباعهم والأخذ بهديهم واقتفاء آثارها أحياءً وأمواتاً، وأن يعلم أنهم هم وحدهم دون البشر – جميعاً – وساطات البلاغ المبين بين الله وبين عباده، وأن يعلم أنهم هم دون غيرهم المعصومون اللذين افترض الله على البشر أن يطيعوهم وأن يصدقوهم في كل ما قالوا وما أخبروا، وفي كل ما نهوا وأمروا…)(1).
ثم يرد عليهم في موضع آخر من نفس الكتاب:
(وأما زعمه أنهم يمنعون تعظيمه عليه الصلاة والسلام، وأنهم يرونه كفراً وعبادةً للأصنام، فمن الأكاذيب التي سيسود لها وجه مفتريها عند الله يوم تبلى السرائر، بل هم لا يشكون أن تعظيمه التعظيم المشروع هو أصل الإيمان والإسلام ولا يشكون أن من لم يعظمه صلى الله عليه وسلم هذا التعظيم فليس بمسلم ولا مؤمن) (2).
ويقول في موضع ثالث منه.
(أما ما ذكره عن (خلاصة الكلام) تأليف شيخ الكذب دحلان من أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يقول إن العصا خير من الرسول، وأن ذلك كان يقول في حضرة الشيخ فيسمعه ويرضاه، فهذا كله وأمثاله من أرذل الأكذوبات وأرخصها، وأننا نتحدى هذا الرافضي وإخوانه، ونطلب إليهم جميعاً أن يسندوا شيئاً من هذه الأقوال عن أحد الوهابيين، لا نطالبهم أن يسندوه عن الشيخ محمد، ولا عن عالم من علمائهم، فالمسألة أسمى من أن نطلب إليهم ذلك، بل أننا نطالبهم أن يسندوه عن جاهل من جهلائهم، وإلا فالكذب يقدر عليه أقل الناس عقلاً وعلماً وفهماً، وإذا استعان الخصم على خصمه بالكذب والاختلاق فقد لجأ إلى ركن غير وثيق، وأخذ بسبب مقطوع، وباع نفسه وعلمه في سوق الكاسب فيها خاسراً) (3).
__________
(1) 2/56.
(2) 2/61.
(3) 2/666، 667.(1/130)
ويقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي موضحاً حرص الشيخ الإمام وأتباعه على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به:
(والشيخ محمد رحمه الله ألفّ (مختصر السيرة)، وقد طبع عدة مرات، وانتشر في سائر الأقطار، فلو لم يكن محباً للرسول لما ألف سيرة له، ومن لا يحب الرسول لا يكون مسلماً بل يكون يهودياً أو نصرانياً.. والشيخ وأتباعه يحثون الناس على التمسك بسنّة الرسول الصحيحة، ويشددون النكير على من يخالف سنّة الرسول ويعدونه مبتدعاً، أما هذا دليل على كمال حبهم وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن المنحرفين يرون حب الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءة الأناشيد والأشعار والاستغاثات … فمن عمل بهذا فهو محب للرسول، وإن ارتكب الموبقات وتلطخ بقاذورات المبتدعات ومن لا فلا) (1).
ويذكر عبد الرحمن عميرة الدافع إلى افتراء هذه الكذبة، ثم يعقبها بالدحض:
(إن الحاقدين والضالين عن طريق الحق يعلمون مدى حب الأمة الإسلامية لرسولها - صلى الله عليه وسلم -، فأرادوا بتلك الفرية الجديدة أن يوغروا قلوب المسلمين، وأن ينفروا الأتباع من السير في دعوة التوحيد، فاختلقوا هذا الضلال المبين الذي لا يقوم عليه إلا من كان أسود القلب ضال البصيرة، يبغي محاربة الله ورسوله والصد عن سبيله.
ثم يقول: الرجل الذي جاء يدعو المسلمين بالعودة إلى القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تقولوا عليه بأنه يكره الصلاة على الرسول الكريم، إنه الإفك بعينه والادعاء الذي لا يقف على قدمين. الرجل الذي يلتزم بكل ما أمر به القرآن، يقولون عليه يكره الصلاة على النبي.. !
__________
(1) نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين، مكتبة ابن تيمية، الكويت، ص67، 68.(1/131)
أنَسِي هؤلاء أن الصلاة.. على الرسول صلى الله عليه وسلم هي أمر من الله قبل أن تكون من الرسول، إن الله سبحانه وتعالى يقول: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } (1).
أما الذي يكرهه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونهى عنه فهو الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الآذان، وعلى المنابر يوم الجمعة فهو بدعة محدثة) (2).
ونؤكد في خاتمة هذه الردود المختلفة والحجج الدامغة في دحض هذه الفرية الكاذبة الخاطئة، أنه بمجرد إلقاء نظرة - ولو كانت عابرة - على مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب أتباعه ورسائلهم سيتضح - يقيناً - مدى شناعة هذا الافتراء، وعظم ذلك البهتان، كما ندرك ما كان عليه الشيخ الإمام وكذا أتباعه - من بعده - ومن سار على نهجه من الحرص التام على تعظيم وإجلال المصطفى صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر (3).
__________
(1) سورة الأحزاب : آية 56.
(2) الشبهات التي أثيرت على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ضمن بحوث أسبوع الشيخ) 2 / 68.
(3) مما يحسن ذكره ها هنا - أن نورد بعض ما كتبه محمد بهجة البيطار (في جريدة أم القرى ع 293، 22 صفر سنة 1349) حيث يقول :
(كنت مرة في زيارة الأستاذ الكريم السيد حمد السنوسي الكبير في دار الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الشهير، وكان في زيارة حضرته طائفة من أهل العلم فجري ذكر إخواننا النجديين بينهم، فأخذ بعضهم يعزو إليهم أشهر مفتريات خصومهم عليهم، ولما ذكرت لهم نبذة من عقائدهم الصحيحة المنشورة في مجموعة الهدية السنية الشهيرة، ومنها قولهم والذى نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية فوق حياة الشهداء إلى آخر ما ذكرت، تعجبوا، وقال لي واحد من أهل العلم : يا فلان هذه عقيدة أهل السنة والجماعة فغلبني الضحك، وقلت لقد كلّت الألسنة والأقلام وهي تذيع بأنهم من صميم أهل السنّة والجماعة وأن ليس بيننا وبين معرفة ما هم عليه إلا مطالعة كتبهم أو مخالطة بعضهم).(1/132)
فإن بان من خلال تلك البراهين بعضاً من حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ووجوب متابعته وتعظيمه وتوقيره، كما سطّره علماء الدعوة وأنصارها، فإنه من المناسب أن ننقل شيئاً من أقوال الخصوم في وصف وحق المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يكتمل هذا المبحث، ويقارن - إن كان ثمت مقارنة - بين أقوال أئمة الدعوة واعتقادهم نحو نبينا صلى الله عليه وسلم، وبين اعتقاد هؤلاء القوم.
وسنورد بعضاً من أقاويل الخصوم في هذا الشأن، مع الإشارة - أحيانا- إلى الرد عليها:
يقول صاحب كتاب (إزهاق الباطل):
(إن محمداً وأهل بيته أنوار مقدسة خلق الله الخلق لأجلهم) (1).
(ويحكي القباني بعض المطاعن - الكاذبة - ضد الشيخ الإمام فكان مما تقوّله:
(وتنقيص جناب من خلق لأجله الأكوان) (2).
ويذكر عبد الله القصيمي شيئاً من غلو الرافضة في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما نقله محسن العاملي - صاحب كتاب (كشف الارتياب) عن أحد شيوخهم إبراهيم بن يحيى الشيعي الاثنى عشري في امتداح المصطفى فقال:
ساد الورى بفضائل وفواضل ... ... ... وأقلها إيجاد هذا العالم(3)
ويقول أبو بطين رحمه الله في كتابه (تأسيس التقديس):
(ومن غلوهم ما قاله داود العراقي: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله صلى الله عليه وسلم).
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب ابن داود الهمداني، (إزهاق الباطل) : صورة خطية من دارة الملك عبد العزيز ق 37.
(2) أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب) صورة خطية من قسم المخطوطات بجامعة الإمام، ق 223.
(3) الصراع بين الإسلام والوثنية) 2/15.(1/133)
ثم أجاب الشيخ أبو بطين على ذلك قوله: (وهذا حديث لا يصح والله سبحانه قد أعلمنا بالحكمة في خلق هذه المخلوقات كقوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1)، وقوله عزَّ وجلَّ: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}(2). فأخبر سبحانه بالحكمة في خلق هذه الأشياء، وأنه إنما خلقها للحكم التي ذكرها لا لأجل أحد من عباده … ولو صح لم يكن فيه حجة ولا شبهة يستأنس بها لما ادعاه، مع أنه صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على ربه، وأقربهم إليه وسيلة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ولكن نهى عن الغلو فيه فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله …) (3) (4).
ويقرر علوي الحداد كلاماً حول جسد المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول:
(إن الجسد الشريف لا يخلو منه زمان ولا مكان، ولا محل إمكان، ولا عرش ولا كرسي، ولا غير ذلك من المخلوقات، وإن امتلاء الكون به صلى الله عليه وسلم كامتلاء الكون الأسفل، وكامتلاء قبره به، فتجده مقيماً طائفاً حوالي البيت قائماً بين الملأ الأعلى بين يدي ربه، لأداء الخدمة، ألا ترى إلى الرائين له يقظاً ومناماً يرونه في وقت واحد في أمكنة بعيدة) (5).
ويجيب ابن سحمان عن ذلك الكلام السابق بقوله:
__________
(1) سورة الذاريات : آية 56.
(2) سورة الملك : آية 2.
(3) رواه البخاري - وتقدم -.
(4) تأسيس التقديس) ص6، 7.
(5) مصباح الظلام) ، ص 29.(1/134)
(واعلم أيها الواقف على ما حرره هذا الملحد وأضرابه من المشركين، أنهم قد تنقصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التنقص، وهضموه أعظم الهضم، فإنهم قد تنقصوه من حيث ظنهم أنهم قد عظموه، فإنهم بهذا الغلو والإفراط حيث زعموا أنه لا يخلو منه زمان ومكان ولا محل …. الخ، فما صانه أعداء الله عن الحشوش والقاذورات، ولا عن بطون الحيوانات من الكلاب والخنازير، ولا من جميع المخلوقات الطيب منها والمستخبثات، ثم أن قولهم قد امتلأ العرش والكرسي أمر مستحيل في الفطر والمعقولات كما هو مستحيل في المنقولات. فأين يكون رب العرش والسموات ؟ فهو من أمحل المحال وأضل الضلال) (1).
ويورد محمد عطا الكسم وصفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم :
(هو قطب الأقطاب، فهو ممد لجميع الناس أولاً وآخراً، فهو ممد كل نبي وولي سابق على ظهوره حال كونه بالغيب، وممد أيضاً لكل ولي لاحق، فيوصله بذلك إلى مرتبة كماله في حال كونه موجوداً في عالم الشهادة) (2).
وينقل حسن خزبك هذه الأبيات مقرراً لها:
فاكشف له كربة أودت بهجته ... ... ... يا خير من كشفت عنا به الكرب
فما دعوناك في تفريج شدتنا ... ... ... إلا لأنك في تفريجها سبب
وأنت باب العطاء والجود يا أملي ... ... ... بك الإله على طول المدى يهب (3) ...
ويقول القصيمي رداً على فرية الرافضة … ومقرراً تناقضهم وتضاربهم في ذلك:
__________
(1) الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد) ط2، مطابع الرياض، 1376هـ ، ص 80.
(2) الأقوال المرضية في الرد على الوهابية) ط1 المطبعة العمومية مصر 1901 م، ص18.
(3) المقالات الوفية في الرد على الوهابية) (مع مجموعة كتب) ط2، مكتبة التهذيب، مصر، ص222.(1/135)
(ولكن الاعتقاد الباطل الموبق هو اعتقاد الشيعة في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفي الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك أنهم قد ذهبوا إلى أن الأنبياء ليسوا وحدهم المخصوصين بالعصمة من الخطأ والزلل، وليسوا وحدهم المخصوصين بالوحي، وبنزول الملائكة، بل قد زعموا أن الأئمة معصومون من ذلك، ومن أكثر من مثل الأنبياء والرسل، فإنهم يوحى إليهم كما يوحى إليهم.
وقالوا أنه لولا علي وجهاده، لما اخضر للإسلام عود، وهذا من شر الهجاء لرسول الله ولصحابته وللمسلمين) (1).
وبهذا يظهر بعض تناقض الرافضة وتضارب أقوالهم، فمرة يبلغ بهم الغلو إلى أن يزعموا بأن محمداً خلق لأجله الكون، بل إن إيجاد الكون أقل فضائله - كما مرّ ذكره -، ثم يصل بهم الجفاء في حقه حتى أشركوا معه أئمتهم في العصمة، بل يزيدون على ذلك ويجعلون منزلة أئمتهم فوق منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبالإجمال يتضح ما عليه هؤلاء الأدعياء - صوفيّة أو رافضة أو غيرهما - من الغلو في محمد صلى الله عليه وسلم، ورفعه فوق منزلته، مخالفين بذلك هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومتبعين بهذا اللغو الشنيع غير سبيل المؤمنين(2).
__________
(1) الصراع بين الوثنية والإسلام)، 2 / 58، 59 باختصار.
(2) انظر : بعض ما كتبه أئمة الدعوة في الرد على الغلو في المصطفى صلى الله عليه وسلم، مما ورد في بردة البوصيري وغيرها.
- ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (مجموعة الرسائل والمسائل) 2/33.
- ما كتبه أبو بطين في (مجموعة الرسائل والمسائل) 2/237.
- ما كتبه الشيخ صالح الشثري في (تأييد الملك المنان) ق18.
- ما كتبه محمود شكري الألوسي في (غاية الأماني) 2/350.
وغيرها كثير.(1/136)
الفصل الثاني : الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم (1)
لقد رمى الخصوم هذه الدعوة السلفية، ورموا أتباعها وأنصارها بفرية التجسيم والتشبيه، وما نقموا منهم إلا أنهم وصفوا الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وسنورد - كما فعلنا في الفصل الأول - بياناً كافياً يوضح معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في باب أسماء الله وصفاته، ويوضح - أيضاً - معتقد أتباعه وأنصار دعوته في هذا الباب.
وسندرك من خلال عرض سريع أن الشيخ رحمه الله، وأتباعه - من بعده - قد اعتنوا بمسألة الأسماء والصفات، وأعطوها حقها من الإيضاح والبيان.
فمع ما كانوا عليه من الانشغال والحرص التام في تقرير توحيد العبادة وبيان ما يناقصه، والاهتمام به قبل كل شيء، لأنه أول واجب على المكلف ومفتاح دعوة الرسل.
__________
(1) أوردنا عنوان هذا الفصل هكذا : الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم، جرياً على مقالة الخصوم حين زعموا بأن الشيخ مشبه مجسم، بمعنى أنهم يريدون بالتشبيه وبالتجسيم : التكييف والتمثيل. وإلا فإنه من المعلوم عند أهل السنة والجماعة أن لفظ التجسيم من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتها في الكتاب ولا السنة، فمثل لفظ (الجسم) لا يطلق حتى ينظر في مقصود قائله، فإن كان مقصوده معنى صحيحاً، قيل لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص الشرعية دون الألفاظ المجملة، وإن كان مقصوده معنى فاسداً - مثل أن يراد بلفظ الجسم أي البدن كما زعم الخصوم أن الشيخ مشبه مجسم بهذا المعنى الذي يقصدوه - رد على قائله.
وعلى كل فعنوان هذه الفرية يدل ابتداء على جهل الخصوم، وإعراضهم عن الألفاظ الشرعية الدينية، وتمسكهم بالألفاظ المجملة الموهمة.(1/137)
إلا إن هذا لم يشغلهم عن بيان توحيد الأسماء والصفات (1) - كما قرره علماء السلف، خاصة بعدما انتشرت هذه الدعوة الإصلاحية خارج بلاد نجد، حيث إن بلاد نجد لم تكن ظاهرة فيها الانحرافات في باب الأسماء والصفات، كما كانت الانحرافات ظاهرة ومشاهدة في باب العبادة والألوهية.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - عن حال أهل نجد في مسألة الأسماء والصفات:
(ونحن بحمد الله قد خلت ديارنا من المبتدعة أهل هذه المقالات)(2) لكن لما انتشرت الدعوة خارج بلاد نجد، احتاج الأمر إلى زيادة بيان في مبحث الأسماء والصفات، لما كان عليه غالب بلاد المسلمين من كثرة الانحراف في باب الأسماء والصفات.
كما أن هذا البيان المفصل - نوعاً ما - سيكون بمثابة الرد - ابتداء - والحجة الدامغة لفرية الخصوم الآتي ذكرها بعد هذا البيان.
وسنورد مفتريات الخصوم - كما جاءت مدونة في كتبهم أو من نقلها عنهم -، ثم نتبعها بالرد والدحض.
ونسوق في خاتمة هذا الفصل - وبإيجاز - بعض ما سطره خصوم أئمة الدعوة في بيان معتقدهم في الأسماء والصفات.
يقرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عقيدته في باب الأسماء والصفات فيقول - بكل وضوح:-
__________
(1) من المعلوم - أيضاً - أن إثبات التوحيد العلمي الخبري يستلزم إثبات توحيد الألوهية.
(2) الدرر السنية 9/164.(1/138)
(ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه، لأنه تعالى لا سمّي له ولا كفؤ له، ولا ندَّ له ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً، فنزّه سبحانه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل. فقال: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } (1).
وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود وأنه تكلّم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد رسول الله) (2).
ويقول أيضا - رحمه الله - في بيان توحيد الأسماء والصفات :
(و { قل هو الله أحد } متضمنة لما يجب إثباته له تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال صمديته وغناه وأحديته، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل، فتضمنت إثبات كل كمال، ونفي كل نقص، ونفي إثبات شبيه له، أو مثيل في كماله، ونفي مطلق الشريك…) (3).
ويثني الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - على جده الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ثناءً حسناً، لما كان عليه من سلامة المعتقد، وتمام الاتباع للسلف الصالح في باب الأسماء والصفات، فيقول الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) سورة الصافات 180 - 182.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 5 / 8.
(3) المرجع السابق 4/35، 36.(1/139)
(ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون، وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها، محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين، وقواعده المهمة التي أصلها الأصيل وأسها الأكبر الجليل معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن يوصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا تحريف ومن غير تكييف ولا تمثيل) (1).
وقد أورد صاحب (جواب الجماعة) معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في باب الأسماء والصفات فقال:
(وكان رحمه الله يعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة …، فيؤمن بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفي عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يلحد في أسمائه، وآياته، ولا يكيف، ولا يمثل صفاته بصفات خلقه …) (2).
فظهر جلياً – مما سبق ذكره – ما كان يعتقده الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في باب الأسماء والصفات، وأنه – رحمه الله – يدين الله بما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
أما عن معتقد أتباعه – من بعده – في هذا الباب، فنبتديء بما قاله الشيخ عبد الله ابن محمد بن عبد الوهاب في بيان معتقدهم، حين دخلوا مكة المكرمة سنة 1218هـ، يقول رحمه الله:
(.. مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم، خلافا لمن قال طريقة الخلف أعلم، وهي أنا نقرُّ آيات الصفات وأحاديثها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى..) (3).
__________
(1) مجموعة الرسائل) 3 / 156، 157.
(2) جواب الجماعة ص. 194.
(3) الدرر السنية 1 / 126.(1/140)
ويورد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معتقدهم في باب الأسماء والصفات – بجواب أوسع من الجواب السابق – فيقول جواباً عن اعتقادهم في آيات الصفات:
(الذي نعتقده والذي ندين الله به، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة، وأصحابهم رضي الله عنهم أجمعين، وهو الإيمان بذلك والإقرار به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل..، ممن سبيلهم في الاعتقاد: الإيمان بصفات الله تعالى، وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين بل أمروها (1) كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها صادق لا شك في صدقه، فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها(2) فسكتوا عما لم يعلموه، وأخذ ذلك الأخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضاً بحسن الاتباع، والوقوف حيث وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها والعدول عن طريقهم، وبيّنوا لنا سبيلهم ومذاهبهم، وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف..)(3).
ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – مبيّناً ظهور توحيد الأسماء والصفات، ووضوحه عن طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول:
__________
(1) في نسخة الكتاب : أقروها.
(2) أي لم يعلموا كيفية الصفات الإلهية.
(3) مجموعة الرسائل 1/48.(1/141)
(ومن المحال في العقل والدين، أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس، فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، إلى سبيله بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله تعالى بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال هذا وغيره – أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميّز ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول..)(1).
ونختم كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب موجزاً مذهب السلف الصالح فيقول في كتابه (جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والقدرية):
(مذهب السلف رحمة الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وعلى هذا مضى السلف كلّهم، ولو ذهبنا نذكر ما أطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرج بنا عن المقصود في هذا الجواب)(2).
__________
(1) المصدر السابق 1 / 52.
(2) المصدر السابق 4/101.(1/142)
وسئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ حمد بن ناصر بن معمر – رحمهم الله – عن آيات الصفات الواردة في الكتاب كقوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } (1) وكذلك قوله: { ولتصنع على عيني } (2) وقوله: { أسمع وأرى } (3) وقوله: { بل يداه مبسوطتان } (4) وقوله: { لما خلقت بيدي } (5) وقوله: { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } (6) وقوله: { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } (7) وغير ذلك في القرآن. ومن السنّة قوله صلى الله عليه وسلم: (قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن) (8) وكذلك النفس، وقوله: (إن ربكم ليضحك)(9)، وقوله: (حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط) (10) وغير ذلك مما لا يحصره هذا القرطاس. على ما تحملون هذه الآيات وهذه الأحاديث في الصفات ؟
فكان من جوابهم أن قالوا:
__________
(1) سورة طه : آية 5.
(2) سورة طه : آية 39.
(3) سورة طه : آية 46.
(4) سورة المائدة : آية 64.
(5) سورة ص : آية 75.
(6) سورة الفجر : آية 22.
(7) سورة الزمر : آية 67.
(8) رواه الترمذي وقال : حديث حسن.
(9) أخرجه البخاري ومسلم بمعناه، ولفظهما : يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة.
(10) رواه البخاري ومسلم.(1/143)
(الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها: ما قال الله ورسوله، وما جمع عليه سلف الأمة وأئمتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اتبعهم بإحسان، وهو الإقرار بذلك، والإيمان من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام مالك لما سئل عن قوله { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فأطرق الإمام مالك، وعلته الرحضاء - يعني العرق -، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، وقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج، ومن أوّل الاستواء بالاستيلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله، وهذا الجواب من مالك في الاستواء شاف كاف. في جميع الصفات مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيرها فيقال في النزول النزول معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة.. إلى أخر جوابهم رحمهم الله) (1).
__________
(1) الدرر السنية 3/185.(1/144)
وللشيخ حمد بن ناصر بن معمر رسالة نفيسة تضمنت بياناً شافياً وكافياً لعقيدة السلف الصالح في الأسماء والصفات (1)
__________
(1)بمناسبة ورود هذه الرسالة للشيخ حمد بن ناصر بن معمر، فقد لاحظت أن بعض الكتّاب يخلطون فينسبون بعض مؤلفات الشيخ حمد بن ناصر بن معمر النجدي إلى الشيخ محمد بن ناصر الحازمي اليمني، مع أن الأول توفي سنة 1225هـ، بينما الآخر توفي سنة 1283هـ، ومن هذا اللبس أن صديق بن حسن القنوجي ذكر في كتابه (أبجد العلوم) (3/200) أن للشيخ محمد بن ناصر الحازمي رسالة في المشاجرة مع أهل مكة، وأخرى في إثبات الصفات، وقد أورد الزركلي في الأعلام (7/122) هاتين الرسالتين (رسالة في إثبات الصفات، ورسالة في مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد) ونسبهما إلى الحازمي، وذكر أنهما موجودتان في خزانة الرباط (30ك) فحرصت - عندئذٍ - في الحصول عليهما، فلما حصلت عليهما - من المكتبة الكتابية بخزانة الرباط - لاحظت أن رسالة في إثبات الصفات هي بعينها رسالة الشيخ حمد بن معمر في الصفات، وهي موجودة في (الدرر السنية) (3/207 - 262)، ولكنها غير موجودة في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) خاصة وأنه يذكر قوله : (شيخنا محمد بن عبد الوهاب) ومن المعلوم أن الشيخ حمد بن معمر من تلاميذ الشيخ الإمام، ووجدت هذا المخطوط قد طبع - قديماً - في الهند منسوباً إلى الحازمي، ووجدت منه نسخة للشيخ سليمان الصنيع - وهي موجودة في مكتبة جامعة الملك مسعود - وقد صحح الصنيع ذلك، فنسبها إلى ابن معمر بدلاً من الحازمي - كما أن هذه الرسالة وجدتها مخطوطة في مكتبة الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد بعنوان معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونسب تأليفها إلى الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأما الرسالة الأخرى، وهي رسالة المشاجرة - كما سميت ،- فإنها نفس رسالة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، المسماة بـ الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب) وهي مناظرة الشيخ حمد مع علماء مكة سنة 1211هـ، فقد وهم عمر كحالة في (معجم المؤلفين) : (12 / 72) حين نسب رسالة الفواكه العذاب إلى الحازمي، والله أعلم.(1/145)
وحشد النصوص والبراهين الدالة على صحة عقيدة السلف الصالح، نقتصر على إيراد هذا النص من هذه الرسالة:
(فشيخنا (1) رحمه الله وأتباعه، يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتجاوزون القرآن والحديث، لأنهم متبعون لا مبتدعون، ولا يكيفون، ولا يشبهون، ولا يعطلون، بل يثبتون جميع ما نطق به الكتاب من الصفات، وما وردت به السنة مما رواه الثقات، يعتقدون أنها صفات حقيقية منزهة عن التشبيه والتعطيل، كما أنه سبحانه له ذات حقيقية منزهه عن التشبيه والتعطيل، فالقول عندهم في الصفات كالقول في الذات، فكما أن ذاته حقيقية لا تشبه الذوات، فصفاته صفات حقيقية لا تشبه الصفات، وهذا هو اعتقاد سلف الأمة وأئمة الدين، وهو مخالف لاعتقاد المشبهين، واعتقاد المبطلين، فهو كالخارج، من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين) (2).
ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله، في تقرير توحيد الأسماء والصفات - من خلال سورة الإخلاص:
(فسورة {قل هو الله أحد} فيها توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصمدية، ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل، ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول مجامع التوحيد العلمي والاعتقادي الذي يباين صاحبه فرق الضلال والشرك) (3).
ويذكر صاحب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) بيان توسط أهل السنة والجماعة بين الفرق فيقول:
__________
(1) أي محمد بن عبد الوهاب.
(2) الدرر السينة 3/235، وانظر : الدرر السنية 3/208.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل 2/64.(1/146)
(فأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسمائه وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى شبهوه بالمعدوم وبالأموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوق، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف..) (1).
ويبين الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - أهمية الإيمان بأسماء الله وصفاته، فيقول في كتابه (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد) عند شرحه لباب (من جحد شيئاً من الأسماء والصفات):
(لما كان تحقيق التوحيد، بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله، والإيمان بأسمائه وصفاته، نبّه المصنف - أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله صاحب كتاب (التوحيد - على وجوب الإيمان بذلك) (2).
ونظرا لخطورة إنكار شيء من صفات الله - عز وجل -، فإن الشيخ سليمان رحمه الله يقوله في شرحه لقوله تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } (3).
(فيه دليل على أن من أنكر شيئاً من الصفات فهو من الهالكين، لأن الواجب على العبد الإيمان بذلك سواء فهمه أم لم يفهمه، وسواء قبله عقله أو أنكره، فهذا هو الواجب على العبد في كل ما صحَّ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم) (4).
ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن معتقدهم في باب الأسماء والصفات، وأنه معتقد أهل السنّة والجماعة، فيقول في كتابه (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) عند شرحه باب قول الله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (5):
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق ص66 = بتصريف يسير.
(2) تيسير العزيز الحميد في شرحه كتاب التوحيد ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1397هـ، ص 574.
(3) سورة الرعد : آية 30.
(4) تيسير العزيز الحميد ص582.
(5) سورة الأعراف : آية 180.(1/147)
(قلت: والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة متقدمهم ومتأخرهم، إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلالة الله إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل كما قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1)، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ومثاله، فكما أن يجب العلم بأن لله ذاتاً حقيقية لا تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقية لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } (2) (3).
ويشير الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى منشأ ضلال المعطلة في مسألة الصفات، فيقول في شرحه لباب (من جحد شيئاً من الأسماء والصفات):
(فإن الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصّلوه من عند أنفسهم، فقالوا هذه الصفات هي صفات الأجسام، فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً. هذا منشأ ضلال عقولهم، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات، والمعدومات، فشبهوا أولاً، وعطلوا ثانياً، وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدوم، فتركوا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته …) (4).
__________
(1) سورة الشورى : آية 11.
(2) سورة النساء : آية 115.
(3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، تحقيق محمد الفقي، ط8، مطابع القصيم بالرياض، 1386هـ، ص 449.
(4) المرجع السابق، ص 402.(1/148)
وحين ختم الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد بقوله: باب ما جاء في قول الله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } (1)، ثم ساق أحاديث هذا الباب (2).
كان مما سطره قلم الشيخ عبد الرحمن بن حسن شرحاً لهذا الباب أنه قال:
(وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته، وعظم مخلوقاته، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات لله على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل..
__________
(1) سورة الزمر : آية 67.
(2) من هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول : أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } .
انظر : بقية الأحاديث في كتاب التوحيد (مجموعة مؤلفات الشيخ) 10 / 148 - 150.(1/149)
وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها، أن ظاهرها غير مراد، وأنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان حقاً بلّغه أمينه أمَّته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلّغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين) (1).
ومما كتبه الشيخ اسحاق بن عبد الرحمن في مبحث أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته نختار هذه الخلاصة:
(.. والحاصل أنه ما من اسم يسمى الله به، إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد، وأنه سبحانه منزه عن كل ما يلزم من حدوثه أو نقصه، فكما أن علمنا وقدرتنا وإرادتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها من الصفات أعراض تدل على حدوثنا، امتنع أو يوصف الله سبحانه بمثلها، فنعوذ بالله من تأويل يفضي إلى تعطيل، ومن تكييف يفضي إلى تمثيل..) (2).
ويورد الشيخ أحمد بن مشرف توحيد الأسماء والصفات بعد توحيد الربوبية وذلك في قصيدته جوهرة التوحيد، فيقول رحمه الله:
والثاني أن يوحد الله على ... ... ... أسمائه وفي صفاته العلى
وكل ما به تعالى وصفا ... ... ... لنفسه على لسان المصطفى
فإن وصفه به جل لزم ... ... ... والحكم في أسمائه كذا التزم (3)
__________
(1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 511، 512 = باختصار يسير، وانظر : ما كتبه في تعريف توحيد الأسماء والصفات في مجموعة الرسائل والمسائل 2/91.
(2) الدرر السنية 3 / 357.
(3) ديوان ابن مشرف ص2.(1/150)
ويدافع الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في كتابه النفيس (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي)، عن معتقد السلف الصالح في هذا الباب، ويرد على من رماهم بالتشبيه، فكان مما قاله:
(حاشا السلف من اعتقاد التشبيه، أو أنهم يسكنون عن ظهور البدع ولكنهم لكمال علمهم، وقوة إيمانهم لم يفهموا ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله تشبيهاً، وأما المعطلة فإنهم فهموا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله التشبيه والتجسيم، ثم شرعوا في رد الكتاب والسنة بالتأويلات المستنكرة والتحريفات المزورة، فأخطأوا خطأين؛ لأنهم شبهوا، أولاً، ثم عطلوا ثانياً، وأما السلف الصالح، ومن معهم من الخلف الناجح فمسلكهم مسلك بين مسلكين، وهدى بين ضلالتين، أثبتوا بغير تشبيه وتمثيل، ونزهوا بغير تحريف ولا تعطيل، وأنكروا مذهب الجهمية والمعتزلة، وردوا على من قابلهم من المجسمة والممثلة …) (1).
وفي رسالة (تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات) (2) لأحد علماء نجد، يذكر معتقدهم في أسماء الله وصفاته فيقول:
__________
(1)( تنبيه التنبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) (طبع من مجموعة كتب)، مطبعة كردستان مصر، 1329هـ - ص 241.
(2) توجد هذه الرسالة مخطوطة - ولكنها ناقصة - في قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود، رقم 1356، ومنسوبة إلى محمد بن محسن العطاس (كان حيّاً سنة 1305هـ).(1/151)
(اعلم أن إيماننا بما ثبت في نعوته تعالى كإيماننا بذاته المقدسة، إذا الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري ونميّز ذاته المقدسة عن الأشباه، من غير أن نعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته نؤمن بها ونعقل وجودها ونعلمها في الجملة، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ونقول كما قال السلف الصالح: آمنا بالله على مراد الله، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فالاستواء معلوم من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وكل ما وصف الله به نفسه وجب الإيمان به، كما يجب الإيمان بذاته والكيف مجهول فيهما لاستحالة تصوره لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1) ومن ليس له مثل لا يمكن التصور في ذاته وصفاته لا شرعاً ولا عقلاً..) (2).
ويجمل علامة العراق محمود شكري الألوسي عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسألة الأسماء والصفات فيقول الألوسي في (تاريخ نجد):
(قد عرف واشتهر واستفاض من تقرير الشيخ، ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحَّت به الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله بالقبول والتسليم يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها، كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل..) (3).
وقد تضمن (البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد) ما نصَّه:
__________
(1) سورة الشورى : آية 11.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/681.
(3) تاريخ نجد، تحقيق محمد بهجة الأثري، ط السلفية القاهرة، 1343هـ، ص 77.(1/152)
(أما بعد فإنا نعتقد أن الله واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته..، فله الأسماء الحسنى والصفات العليا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسله، وبلا تكييف، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، وأن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته على عرشه علا على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون …)(1).
ويقول الشيخ عبد الله بن سليمان بن بليهد في خطابه، موضحاً توحيد الأسماء والصفات، ومبيناً أوجه الاتفاق وأوجه الخلاف في هذا التوحيد عند أصحاب المقالات من الفرق الإسلامية:
(توحيد الأسماء والصفات وهو إثبات ما وصف الرب تعالى وسمَّى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى إثباتاً يليق بجلاله وعظمته، ويختص به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وجميع أصحاب المقالات من الفرق الإسلامية متفقون على إثبات هذه المقدمة وهي أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وإنما اختلفوا فيما هو كمال وما هو نقص أو يلزم منه النقص فمنهم من ظنَّ أن وصف الباري تعالى بما وصف به نفسه يلزم منه التجسيم والتشبيه، فنفى ما أثبته الله تعالى لنفسه، وعطلَّ أسماءه وصفاته، وألحد فيها، ومنهم من أثبت ذلك وغلا في الإثبات حتى شبه صفات الباري تعالى بصفات خلقه، وهدى الله أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية إلى القول بما دلَّ عليه الكتاب والسنة ومضى عليه سلف الأمة من إثبات جميع ما وصف به تعالى نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وإمرارها كما جاءت وهذا هو طريق النجاة..) (2).
__________
(1) ص6.
(2) خطاب ابن بليهد أثناء الاجتماع بين علماء مكة ونجد، ص14.(1/153)
ويقول القصيمي في كتابه (الثورة الوهابية) أثناء حديثه عن معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (إيمانه بما تواترت عليه الكتب المقدسة، ولا سيما القرآن من أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش استواءً يليق به لا كما يستوي المخلوق.. وقد نازعه مخالفوه قائلين أن ذلك يقتضي التجسيم وتشبيه الله بخلقه، فرد عليهم قائلا: أن جميع الكتب السماوية مصرحة بذلك تصريحاً لا يقبل الجدل. والله أعلم حيث يصف نفسه، وأعلم بما يجوز في حقه وما لا يجوز، وقائلاً: إن المسلمين قائلون بذلك قبل ظهور هؤلاء المخالفين بلا نزاع بينهم …) (1).
وأخيراً ندرك – من خلال النصوص السابقة – طريق النجاة الذي سلكه أئمة هذه الدعوة السلفية، تأسياً واقتداء بالرعيل الأول، من وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوزون القرآن والحديث في ذلك.
ونلاحظ – كما سيأتي – أن مزاعم خصوم هذه الدعوة السلفية التي تكذب على إمام هذه الدعوة الإصلاحية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتبهته بأنه مجسم ومشبه في الصفات، نلاحظ أن من مبررات الخصوم في القذف بهذا البهتان هو أن الشيخ رحمه الله وكذا أتباعه من بعده يثبتون جميع الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، ويمرونها – كما جاءت – على ظاهرها دون تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، ويفوضون العلم بالكيفية إلى الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) ورة الوهابية، ط1، مطبعة الرحمانية مصر، 1354هـ، ص 12.(1/154)
فجعل الخصوم هذا الإثبات مبرراً في رمي الشيخ بالتشبيه والتجسيم، لذا يأتي مع هذه الفرية غالباً بيان لبعض الصفات التي يثبتها الشيخ لله عز وجل – وهو كما تقدم لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.. مثل صفة الاستواء والعلو، والنزول، ونحوها ويسوق الخصوم هذا الإثبات زعماً منهم أنه تجسيم وتشبيه، ولا يكتفون بذلك، بل يختلقون زيادة في الإفك والبهتان، فيزعمون أن الشيخ يثبت لله الجلوس والجنب واللسان بل يكذبون عليه – أشنع من قبل -، ويبهتونه بأنه يقول إن الله جسم كالحيوان.. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومن أوائل الذين ذكروا هذه الفرية، أحد علماء الزيدية حين كتب رسالة يرد على رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فقال هذا الزيدي مخاطباً الشيخ عبد الله:
(وأنت أيضا قد ناقضت كلامك بكلامك، حيث قلت: وذلك مثل وصف نفسه تبارك وتعالى بأنه فوق السموات مستوٍ على عرشه، فقد فسرت كتاب الله وأثبت لله صفة، وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم، وليست الفوقية مذكورة في قوله: { الرحمن على العرش استوى } ) (1).
ويشنع علوي الحداد على الشيخ الإمام، فيقول الحداد:
(ومن أعظم بدع النجدي عقده الدروس في التجسيم للباري تعالى الله عن قول الجاحدين والكافرين علواً كبيراً)(2).
ويقول – أيضا – عن الشيخ: (.. ومع ذلك أظهر التجسيم والحركة والانتقال) (3).
ويذكر أحد دجالي بلاد المغرب (4) هذه الفرية.. فكان من دجله أنه قال في كتابه المسمى (المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية):
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/101.
(2) مصباح الأنام، ص 13.
(3) المرجع السابق ص 23.
(4) وهو المدعو : أبو الفداء إسماعيل التميمي.(1/155)
(ويحكي عنهم - أي الوهابية - أنهم اتبعوه - أي ابن تيمية - في القول بالتجسيم، وحملوا على ذلك ظواهر القرآن الكريم تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. وكانوا أجدر باللحوق بأهل الأصنام لأنهم إذا اعتقدوا أن معبودهم جسم لم يعبدوا الله ولا عرفوا منه إلا الاسم..) (1).
وأما المدعو علي نقي اللكنهوري، فقد رمى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالأكاذيب والمفتريات، ولكنه أعرض عن هذه الفرية فقال: (ونطوي كشحاً عما يعزي إليهم من التجسيم) (2).
ويورد شيخ الكذب أحمد بن زيني دحلان هذه الفرية، أثناء سرده الأكاذيب على الشيخ، فقال دحلان:
(وإظهار التجسيم للباري تبارك وتعالى، وعقده الدروس لذلك..) (3).
وتلقف أحمد مختار باشا المؤيد هذا الإفك فقال:
(ومن مذهبهم: القول بالتجسيم للباري جل وعلا، وقرروه في دروسهم) (4).
ويستنكر النبهاني في قصيدته (الرائية الصغرى) إثبات الوهابيين لصفة العلو لله سبحانه وتعالى، فكانوا أحق بالوقوع في الشرك؛ لأن هذا تجسيم على حدَّ زعمه، فقال:
وهم باعتقاد الشرك أولى بقصرهم ... ... ... على جهة للعلو خالقنا قصرا
هو الله رب الكل جل جلاله ... ... ... فما جهة بالله من جهة أحرى
تأمل تجد هذي العوالم كلها ... ... ... بنسبة وسع الله كالذرة الصغرى
فحينئذ أين الجهات التي بها ... ... ... على الله من حمق بهم حكموا الفكر (5)
ويأتي المدعو (جميل صدقي الزهاوي) بهذه الفرية، ويستطرد في الإفك والبهتان فيقول:
__________
(1) المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية)، معهد المخطوطات، الكويت، ق 9.
(2) كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب، ط النجف، العراق، 1345هـ، ص 80.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 56.
(4) نقلاً عن (البيان والإشهار في كشف زيغ الملحد مختار) ص 103.
(5) الرائية الصغرى، ط4، ص 28.
وقد ألف النبهاني رسالة في نفي الجهة - يرد فيها على ابن تيمية.(1/156)
(لقد خبطت (الوهابية) كل الخبط في تنزيهه تعالى، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على أصبع والأرض على أصبع، والشجر على أصبع، ثم أثبتت له تعالى الجهة، فقالت هو فوق السموات ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسيّة، وينزل إلى السماء الدنيا ويصعد..)(1).
ويقول الزهاوي أيضاً:
(لقد اعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى ثبت على عرشه وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقين، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية.. لقد جعلت الوهابية معبودها جسماً كالحيوان جالساً على عرشه ينزل ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقين، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقية يتنزه عنه المعبود الحق..) (2).
وقد شنع يوسف الدجوي على أتباع الدعوة في إثباتهم لصفة العلو لله سبحانه، ويقول عبد الله بن علي القصيمي:
(مما ينقمه (الدجوي) من الوهابيين، ويكفرهم من جرائه مسألة (علو الله على خلقه) وقد كتب في ذلك مقالات كثيرة في مجلة نور الإسلام، وفي مجلة الإسلام، وفي بعض الجرائد اليومية..)(3).
__________
(1) الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق)، مكتبة المليجي مصر، سنة 1323هـ، ص28.
(2) المرجع السابق ص 118.
(3) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)، ط1، مطبعة التضامن من مصر، 1934 م، ص118. وانظر : بعض مقالات الدجوي في مجلة نور الإسلام –م2، ص 282 – 289، ص131 – 638 مقال تنزيه الله عن المكان والجهة.(1/157)
ويورد (شرف)(1) في معرض تهجمه على الوهابية (المجسمة) على حد تعبيره هذا القول حاكياً حال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(.. وأنه مؤول فيها الاستواء بالاستقرار قاتله الله، والله تعالى خال عن الجهات الست)(2).
ويذكر الأسكندراني في نفحته تلك الفرية فيقول:
(ومما تمذهبت به الوهابية في العقيدة إثبات اليد والوجه والجهة للباري وجعله جسماً يصعد وينزل)(3).
وقد أطال محسن الأمين العاملي هذه الفرية، وسوّد الصحائف بتلك الكذبة، فنورد بعضاً من إفكه حيث يقول:
(لقد خرق بنفسه - أي ابن عبد الوهاب - ستور التوحيد، وأنه تكلم في حضرة الله تعالى عما يقول علواً كبيراً تكاد السموات يتفطرن منها، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا، وهي أنه يحمل آيات الصفات على ظاهرها فيقول أن الله جالس على العرش حقيقة وأن له يداً ورجلاً وساقاً وجنباً وعيناً ووجهاً ولساناً ونفساً وغيرها حقيقة، وأنه يتكلم بحرف وصوت، وذلك عين التجسيم الذي أطبق المسلمون على كونه كفراً..)(4).
وبعد أن يسوق بعض الأقوال في معتقد الوهابيين في الصفات، يعقبه بقوله:
(وهذه الأقوال مما تأباه الشريعة الإسلامية والملَّة المصطفوية لملازمتها التجسيم، وأن المجسمة قد أطبق المسلمون على كفرهم فإنه ينافي التوحيد …)(5).
ويقول هذا الأفاك الأثيم:
__________
(1) وهو المدعو شرف اليماني نزيل البحرين، زمن تأليف ابن سحمان الرد عليه حيث تهجم على الدعوة السلفية، وانتصر لإخوانه المفترين مثل دحلان وبابصيل. انظر : مقدمة رسالة (تأييد مذهب السلف) لابن سحمان ص2، 3.
(2) نقلاً عن : (تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعي باليماني شرف)، ط2، المطبعة المصطفوية الهند، سنة 1323هـ، ص3.
(3) نقلا ًعن : (النفحة على النفخة)، ص35.
(4) كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب)، ط1، مطبعة ابن زيدون، دمشق، 1346هـ، ص8.
(5) المرجع السابق، ص12.(1/158)
(لقد أثبتوا لله جهة الفوق، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء، والقرب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من دون تأويل. وهو تجسيم صريح..) (1).
ونختم هذه الفرية بما أورده محمد جواد مغنية في كتابه (هذه هي الوهابية) حين قال:
(يجمد الوهابيون على ظاهر نصوص الكتاب والسنة في صفات الله سبحانه، ولم يجيزوا تفسير الظواهر وتأويلها بغير ما دلَّت عليه الصورة الحرفية، بل يعتبرون التأويل كفراً؛ لأنه كذب على الله ورسوله، ويرون تنزيه الله بإثبات اليد له والرجل والكف والأصابع والنفس والوجه والعين والسمع والجلوس.. وما إلى ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه، أو جاءت على لسان نبيه من غير زيادة ولا نقصان، ولا تأويل بما يخالف ظاهرها) (2).
وبهذا يتضح من مزاعم الخصوم، أنهم يلصقون فرية التشبيه والتجسيم بالشيخ الإمام وأنصار دعوته، بحجة أن هؤلاء الوهابيين يأخذون بظواهر النصوص في آيات الصفات وأحاديثها.
إذا انتقلنا إلى مقام الدحض والرد، لفرية التجسيم والتشبيه، فإن من أبلغ الردود وأقواها، ما أوردناه من النقول المتعددة التي تصرح بإثبات الصفات لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل ولا تكييف.
وقد أظهر علماء الدعوة الحجج الدامغة والبراهين الساطعة في دحض هذه الفرية الكاذبة الخاطئة.
فيقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرد على (الزيدي) الذي زعم – كما سبق ذكر قوله – أن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم، فكان مما قاله الشيخ عبد الله – رحمه الله –رداً عليه:
__________
(1) المرجع السابق، ص 129، وانظر : المرجع السابق أيضاً : ص136، 138.
(2) هذه هي الوهابية) 1964م، ص92.(1/159)
(قوله: وقد أردت أن تنزه ربك بما يلزم منه التجسيم كذب ظاهر؛ لأنا قد بينا أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله حق وصدق وصواب، ولازم الحق حق بلا ريب، ولا نسلم أن ذلك يلزم منه التجسيم، بل جميع أهل السنة المثبتة للصفات ينازعون في ذلك، ويقولون لمن قال لهم ذلك لا يلزم منه التجسيم، كما لا يلزم من إثبات الذات لله تعالى، والحياة والإرادة والكلام تجسيم وتكييف عند المنازع، ومعلوم أن المخلوق له ذات ويوصف بالحياة والقدرة والإرادة والكلام، ومع هذا لا يلزم من إثبات ذلك لله تعالى إثبات للتجسيم والتكييف تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
(ومعلوم أن هذه الصفات في حق المخلوق إما جواهر، وإما أعراض. وأما في حقه تبارك وتعالى، فلا يعلمها إلا هو بلا تفسير ولا تكييف)(1)
ويقول الشيخ عبد الله - أيضاً -:
(وقوله وأثبت لله صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم كذب ظاهر؛ لأن إثبات الفوقية لا يلزم منه ذلك عند من قال به، والله سبحانه وتعالى أعلم من خلقه بما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ولكن هذا شأن أهل البدع الضلال، يردون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله بهذه الأمور القبيحة…)(2).
ويقول الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي، أحد شعراء هذه الدعوة، رداً على فرية التشبيه، ودحضا لهؤلاء المعطلة الذين عطلَّوا صفات الله..، فيقول ابن مشرف في قصيدة (الشهب المرميّة على المعَّلة والجهمية):
نفيتم صفات الله فالله أكمل ... ... ... ... وسبحانه عما يقول المعطل
زعمتم بأن الله ليس بمستو ... ... ... على عرشه والاستوا ليس يجهل
فقد جاء في الأخبار في غير موضع ... ... ... بلفظ استوى لا غير متؤول
وقد جاء في إثباته عن نبينا ... ... ... من الخبر المأثور ما ليس يشكل(3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل (جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية) 4/118.
(2) المرجع السابق، 4/101.
(3) ديوان ابن مشرف، ص17.(1/160)
... ويُفصَّل الشيخ سليمان بن سحمان – أثناء رده على فرية التجسيم – المراد من إطلاق لفظ (الجسم) على الله سبحانه وتعالى، ويبيّن ما يجوز من هذه المعاني، وما لا يجوز فيقول رحمه الله:
... (الجواب أن نقول أعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي، فمن أطلقه نفياً وإثباتاً، سئل عما أراد به، فإن قال أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا للهواء جسم لغة.. فهذا المعنى منفي عن الله سبحانه عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر المفردة، فهذا منفي عن الله سبحانه قطعاً، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم، ويسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً.
وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسيّة، فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى بأصبعه رافعاً لها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مستشهداً له لا للقبلة..) (1). ...
- إلى أن قال رحمه الله -:
(وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى، وجناية على ألفاظ الوحي، أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك مركباً مؤلفاً مشبهاً بغيره، وتسميتكم هذه الصفات تجسيماً وتركيباً وتشبيهاً، فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة، ووضعتم لصفاته ألفاظاً منكم بدأت وإليه تعود، وأما خطاؤكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر.
__________
(1) كشف غياهب الظلام، ص 131-134 باختصار، وانظر: (الضياء الشارق) ص 78 – 132، وانظر (الأسنة الحداد) ص 172، 173.(1/161)
وأشد ما جادل به أعداء الرسول من التنفير عنه هو سوء التعبير عما جاء به وضرب الأمثال القبيحة له، والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة. ألقوها في مسامع المفترين المخدوعين توصلت إلى قلوبهم فنفرت عنه..)(1).
وللشيخ سليمان بن سحمان قصيدة شعرية في الرد على المدعو (شرف اليماني) حين رمى هذه الدعوة السلفية بالتجسيم فكان مما قاله:
فلم نؤول كما قد قاله عمها(2) ... ... ونتبع الجهم فيما قال وانصرفا
ولم نجسّم كما قالوا بزعمهم ... ... بل نثبت الفوق والأوصاف والشرفا
إن المجسمة الضلاّل ليس لهم ... ... ... في غيهم من دليل يوجب النصفا
والله ما قال منا واحد أبداً ... ... بأنه كان مجسماً إنّ ذا لجفا
بل نثبت الذات والأوصاف كاملة ... ... ... كما به الله والمعصوم قد وصفا
ولم نشبه كأهل الزيغ حين بغوا ... ... ... واستبدلوا بضياء الحق ما انغسقا(3)
ويبين الشيخ فوزان السابق في كتابه (البيان والإشهار) تدليس المدعو أحمد باشا مختار المؤيد، وتلبيسه الحقائق حين رمى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بفرية التجسيم، فقال الشيخ فوزان:
__________
(1) كشف غياهب الظلام)، ص 134 باختصار.
(2) العمه هو التحير والتردد، انظر : (مختار الصحاح) للرازي ص 456.
(3) ديوان ابن سحمان) ص130، وانظر : رسالة ابن سحمان (تأييد مذهب السلف)، ص 6.
... وانظر : في ديوانه بعض ردوده على تلك الفرية: رده على النبهاني ص 94، رده على الزهاوي ص 152، 281، رده على العجلي ص 261، وغيرها.(1/162)
(أقول: أجمل هذا الملحد فريته، فلم يذكر وجه هذا التجسيم الذي قرره الوهابيون في دروسهم مفصلاً كما زعمه، وقصده في هذا التدليس، إخفاء مذهبه الباطل فهو جهمي معطل، ويعني بالتجسيم إثبات صفات الباري جل وعلا، كما هي واردة في الكتاب والسنة، وكما عليه سلف الأمة من الإيمان بالله وبما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.. فمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في صفات الله تعالى مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن تبعهم..)(1).
ومما كتبه محمد رشيد رضا في دحض كذب الرافضي العاملي، لما رمى الشيخ محمد بن عبد الوهاب – وكذا ابن تيمية من قبل – بفرية التشبيه والتجسيم، فقال محمد رشيد رضا:
(إن ما ذكره من العقائد التي زعم أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأمثالهم أباحوا بها حمى التوحيد، وهتكوا ستوره بإثباتهم لله تعالى صفة العلو والاستواء على العرش.. إلخ، وإنما أثبتوا بها كسائر أهل السنة ما أثبته الله تعالى في كتابه المعصوم وفي سنة خاتم أنبيائه المعصوم المبيّنة له.
فهم يثبتون تلك النصوص بمعانيها الحقيقية بدون تأويل، ولكن مع إثبات التنزيه فهم متبعون في ذلك لسلف الأمة الصالح غير مبتدعين له، وإنما ابتدع التأويل الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الروافض بشبهة تنزيه الله تعالى عن التجسيم والتشبيه.
وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرهما من لوازم الأجسام، فبهذه الشبهة عطلوا أكثر صفات الله حتى صارت عندهم في حكم العدم.
__________
(1) ص 103.(1/163)
والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص، وبما يجب الإيمان به، وأشد منهم تنزيها للرب - إلى أن قال-: والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (1) وأن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب سبحانه ووصفه بما وصف به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك، وعدم التحكم في التفرقة بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام) (2).
ثم يكذّب محمد رضا دعوى هذا الرافضي، حيث يقول:
(زعم الرافضي العاملي أن ابن تيمية أول من أثبت ما ذكره من صفات الله تعالى بدون تأويل وتبعه بعض تلاميذه، ثم الوهابية، وأنهم خالفوا في ذلك جميع المسلمين، وهذا كذب وافتراء، وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى الرفض الذي من أصوله تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل، وجعله عز وجل كالعدم تعالى الله عما يقول المبتدعون علواً كبيراً. فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة..)(3).
ويقول ناصر الدين الحجازي في (النفخة) راداً على بهتان الأسكندراني حين جعل إثبات الوهابية للصفات تجسيماً:
(الوهابية لم يثبتوا ذلك وإنما أثبته الله تعالى لنفسه، غاية الأمر أن الوهابية كغيرهم من السلف، يؤمنون بذلك، ويكلون علمه إلى الله تعالى من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، وبذلك نطقت كتب عقائدهم.
__________
(1) سورة الشورى : آية 11.
(2) السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة، مطبعة المنار، مصر 1347هـ، ص 74، 75.
(3) المرجع السابق ص 83.(1/164)
ولقد كانت المعتزلة ترمي أهل السنة بأنهم مجسمة وذلك مسطور في كتبهم، وصاحبنا سلك هذا المسلك، فإذا كان المؤلف ينكر إثبات تلك الصفات لله تعالى، فلينكر على من أثبتها، وأما الجسمية فمحال أن يعتقدها مسلم (1)، ومن ادعاها لأمة مسلمة فعليه أن يبرهن عليها بنقل من كتبهم لا بمجرد الإفك والافتراء) (2).
ويهاجم عبد الله بن علي القصيمي أهل الرفض من أمثال العاملي وغيره، لأنهم أكذب الناس حديثاً فلا يعول على نقلهم، ويذكر القصيمي ما عليه الرافضة من التشبيه والتجسيم، حيث أنهم من أفراخ اليهود.
يقول القصيمي في كتابه (الصراع بين الإسلام والوثنية) في الرد على العاملي بعد أن ساق كلامه:
(يقال إن الذين أباحوا حمى التوحيد وهتكوه ونسفوه، وأضفوا إلى الله ما لا يليق بقدسه وجلاله وكماله من التشبيه والتمثيل، تمثيل الله بخلقه لم يوجد في طائفة من الطوائف المنحرفة مثلما وجدا في طائفة الرافضة.
ولا خلاف بين علماء الملل والنحل أن التشبيه أول ما دخل على الطوائف الدائنة للإسلام إنما دخل عليها من شطر الرافضة، وجانب شيوخها القدامى.
ولا خلاف أيضاً أن التشبيه كان أصلاً ووضعاً في طوائف الشيعة وشيوخها ووضعة مذهبها وبناة نحلتها… حيث أن واضع مذهب الشيعة هو رجل يهودي وهو عبد الله بن سبأ، واليهود هم أهل التشبيه والتنقص لله جلَّ وعلا…)(3).
ثم يقول القصيمي:
__________
(1) النفخة على النفحة ص 35.
(2) يقصد الحجازي بالجسمية - ها هنا - أي البدن أو المركب من الجواهر المفردة وغيرها من المعاني الباطلة التي من المحال أن يعتقدها موحدَّ.
(3) الصراع بين الإسلام والوثنية) 1/515.(1/165)
(وأما دعواه أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وتلاميذه وأهل السنَّة من أهل نجد يقولون أن الله جسم، وأنه في جهة، وأنه يشبه أحداً من خلقه في صفة من صفاته ونعت من نعوته، فهذه دعوى يتقلدها ويبوء بإثمها هو ومن افتجرها له وقلده فيها، ممن تعبدوا الله بالأكاذيب والاختلاق على رجال السنة والحديث تغريراً وتنفيراً وخداعاً مزرياً، ولو لم تكن كتب ابن تيمية وتلاميذه الأبرار وأهل السنة من أهل نجد مطبوعة منشورة في أنحاء العالم، معروفة للخاصة والعامة، لقلنا كذب على غائب مجهول، قد يروج، وقد ينفق، وقد يحسب من الحقائق الصادقة، وقد يكون كذلك، وقد يخادع الكاذب نفسه ويغش علمه ويظلم دينه، أما الكذب على معلوم حاضر فلا يجرؤ عليه إلا أناس قليلون استهانوا بالحق والخلق.. فهذه كتب النجديين موجودة في كل مكان، قد طبع الشيء الكثير منها، وهذه مقالاتهم وآراؤهم في هذه المطالب المتنازع فيها بينهم، وبين هؤلاء الخلوف المخالفين، وهذه أقاويلهم في الله، وفي صفاته، مثل الاستواء على العرش، ومثل كلامه، ونزوله إلى سماء الدنيا، وسائر صفاته تعالى، هل يستطيع أحد من الناس أن يجد فيها أنهم زادوا على النصوص الصحيحة من الآيات والأحاديث الثابتة، أو أنهم قالوا على الله قولاً لم يكن في كتاب الله ولا في سنة نبيه..) (1).
إن هؤلاء الأدعياء ممن رموا هذه الدعوة الإصلاحية بفرية التجسيم والتشبيه، أنهم لم يفقهوا من الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلا صفات البشر، ولم يفقهوا من صفات الله إلا ما فقهوه من خصائص وصفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم – المنحرفة – بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله – كالاستواء والعلو، والكلام، ونحوها -، وشبهوه بالناقصات، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
__________
(1) المصدر السابق 1/526.(1/166)
فهؤلاء جمعوا بين التشبيه بالمخلوق أولاً، ثم التعطيل ثانياً، ثم التشبيه بالناقصات، ولم يكتفوا بذلك الضلال، بل قذفوا – كذباً وزوراً – أئمة هذه الدعوة السلفية بالتجسيم والتشبيه، حين وصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم(1).
ونختم هذا الفصل بذكر مثالين – فقط – لما كتبه الخصوم في مسألة الصفات، ليتضح – جلياً – ضلال القوم وفساد عقائدهم في ذلك.
__________
(1) لزيادة البيان والإيضاح لجهود أئمة الدعوة وأنصارها في تقرير عقيدة أسماء الله سبحانه وصفاته والرد على المخالفين، انظر على سبيل المثال :
(جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية) (في مجموعة الرسائل والمسائل 4/92 – 164) للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
(بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد المحمود) (ضمن مجموعة الرسائل 4/320 – 364) للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.
(البراهين الإسلامية) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ق3، 4.
(مجموعة الرسائل والمسائل) – رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، 3/99، 116، 118، 121، 221، 238.
(قصيدة الشهب المرمية على المعطلة والجهمية) لأحمد بن مشرف.
(كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس) لابن سحمان.
(تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة) لابن سحمان.
رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صديق حسن خان تنبيهاً على أخطاء وقعت في تفسيره في مسألة الصفات.
(الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، (مبحث علو الله على خلقه والرد على الدجوي ودحض مفترياته ثم البراهين على علو الله على خلقه ص 118 – 166) وغيرها كثير ولله الحمد.(1/167)
والمثال الأول: هو ما كتبه أحد علماء الشيعة، وهو المدعو محمد بن عبد الوهاب ابن داود الهمداني، في رسالته (إزهاق الباطل) (1) حيث ذكر معتقدهم بكل زهو وعجب، على أنه هو المعتقد الحق في ذلك فقال:
(واعلم أنا لما نظرنا بعين البصيرة.. في المذاهب، وجدنا أحقها بالاتباع والانقياد، وأخلصها من شوايب الفساد، وأعظمها تنزيها لله ولرسوله، ولأوليائه الأمجاد مذهب الشيعة، لأنهم اعتقدوا أن الله سبحانه هو المخصوص بالأزلية والقدم، وأن كل ما سواه محدث، وأنه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا في مكان، وإلا كان محدثاً، وأنه تعالى غير مرئي، ولا مدرك بشيء من الحواس).
ففي النصَّ السابق، إنكار لبعض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث أنكر علوه سبحانه، وأنكر رؤيته سبحانه، كما أن هذا النص تضمن وصف الله تعالى بألفاظ مبتدعة مستحدثة، مع الإعراض عن الألفاظ الشرعية الدينية..
والمثال الثاني: ما ذكره أحد أدعياء التصوف وهو النبهاني في كتابه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) حيث يقول:
(قد ظهر لنا معاشر أهل السنة من السلف والخلف من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ظهوراً جلياً ليس معه أدنى شك وارتياب أن الصواب الصراح والحق الأبلج الوضاح هو تنزيه الله عن جميع الجهات العلويات والسفليات، لأنها من أوصاف الحادثات..)(2).
ويقول النبهاني – أيضاً – منكراً صفة العلو:
__________
(1) إزهاق الباطل في رد شبه الفرق الوهابية) نسخة خطية مصورة بدارة الملك عبد العزيز، الرياض، ق36. ويليها رسالة – وللمؤلف نفسه – بعنوان : (الغنية في إبطال الرؤية)!.
(2) يوسف بن إسماعيل النبهاني، (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) مكتبة الحلبي، مصر ص 169.(1/168)
(وأما ما ورد مما يفيد ظاهره أن الله تعالى في جهة العلو وجهة الفوق، وفي السماء، فهذا يجب تأويله قطعاً لأن كمال الله تعالى الثابت المحقق من كل الوجوه عقلاً ونقلاً يقتضي أن لا تحصره تعالى جهة العلو ولا غيرها من الجهات) (1).
ومما قاله النبهاني - شعراً:
(سبحانه من إله ليس يحمله
لو استقر على عرش لكان به
لكن عليه استوى لا كيف نعلمه
جاء المجيء له سعياً وهرولة
والعلو والفوق أيضا والنزول أتى
وقد تعجب من أشياء قد وردت
وهكذا كل لفظ موهم شبها
عرش بل العرش محمول له وبه
للعرش حاجة محتاج لمركبه
للاستواء أو القهر المراد به
والحب والقرب منه مع تقربه
والضحك مع غضب ويل لمغضبه
كما يليق به معنى تعجبه
فوّضه لله أو أوَّل بلا شبه) (2)
لقد تضمنت تلك النصوص المتردية تعطيلاً لصفات الخالق عز وجل مثل العلو والاستواء والنزول وغيرها، وكما تضمنت تحريفاً للنصوص الثابتة عن مواضعها، مع الافتراء على السلف الصالح، والزعم بأن التعطيل هو مذهبهم، والله المستعان.
الفصل الثالث : فرية إنكار كرامات الأولياء
نتحدث - في هذا الفصل - عما أورده بعض المناوئين لهذه الدعوة السلفية من إفك مبين وكذب عظيم، حيث بهتوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كعادتهم - وافتروا عليها بأنها تنكر كرامات الأولياء.
وسنورد - كما فعلنا في الفصلين السابقين - تمهيداً يتضمن بعض النصوص التي اخترناها من كلام أئمة الدعوة وأنصارها، والتي تبين وضوح موقفهم من كرامات الأولياء..، وأنهم يثبتونها ويقرون بها..، كما كان يثبتها ويقررها إخوانهم من قبلهم من أهل القرون المفضلة ومن تبعهم..
وعقب هذا التمهيد ننقل افتراء الخصوم في ذلك - كما جاء مدوناً في كتبهم - ونعرض لما تضمنته تلك النقول من عناصر وأفكار..
__________
(1) المرجع السابق ص 171.
(2) المرجع السابق ص 179.(1/169)
ثم نتبع - تلك الفرية - بالدحض والرد، مما كتبه أئمة الدعوة وأنصارها، وبما سطروه من أدلة ساطعة وحجج دامغة لتلك الفرية الكاذبة الخاطئة.
يقرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - إثباته لكرامات الأولياء، فيقول بكل صراحة ووضوح :
(وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله) (1).
ويقول أيضاً:
(وقوله: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } (2) إلى آخره. هذا وحي إلهام، ففيه إثبات كرامات الأولياء) (3).
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الواجب في حق أولياء الله الصالحين فيقول: (.. الواجب عليهم حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين) (4).
ويؤكد أتباع الدعوة - من بعد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - هذا الاعتقاد ويقررونه.
فنجد أن الإمام عبد العزيز الأول يشير إلى حقوق أولياء الله، مع بيان الفرق بين الولي الحق، وبين مدعي الولاية - كذباً وزوراً - فقال رحمه الله:
(وكذلك حق أوليائه محبتهم والترضي عنهم والإيمان بكراماتهم، لا دعاؤهم، ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه إلا الله تعالى، أو ليدفعوا عنهم سوءاً لا يقدر على دفعه إلا هو عز وجل، فإن ذلك عبادة مختصة بجلاله تعالى وتقدس.
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/10، 11، وحكى هذا القول - عن الشيخ الإمام - صاحب كتاب جواب الجماعة ص 199.
(2) سورة القصص : آية 7.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 4 / 282.
(4) المرجع السابق 1/169.(1/170)
هذا إذا تحققت الولاية أو رجيت لشخص معين كظهور اتباع سنة وعمل بتقوى في جميع أحواله، وإلا فقد صار الولي في هذا الزمان من أطال سبحته، ووسع كمه، وأسبل إزاره، ومد يده للتقبيل، وليس شكلاً مخصوصاً وجمع الطبول والبيارق، وأكل أموال عباد الله ظلماً وادعاءاً، ورغب عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأحكام شرعه)(1).
وبين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بعضاً من حقوق الأولياء.. لكن دون الغلو فيهم فيقول رحمه الله:
(ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات بل يطلب من أحدهم الدعاء في حالة حياته، بل ومن كل مسلم) (2).
وينص الشيخ عبد العزيز الحصين على ما قرره أسلافه فيقول – بياناً لحق الأولياء -:
وحق أوليائه محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان بكرامتهم، لا عبادتهم ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه إلا الله تبارك وتعالى ويدفعوا عنهم سوءاً لا يقدر على دفعه أو رفعه إلا الله، لأنه عبادة مختصة بجلاله سبحانه..) (3).
وقد سئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن كرامات الأولياء، فأجاب على ذلك فكان مما قاله:
(مسئلة: كرامات الأولياء حق، فهل تنتهي إلى إحياء الموتى وغيرها من المعجزات ؟.
(الجواب: كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة، والولي أعطي الكرامة ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه، إلا إذا كان داعياً لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم بريئاً من كل بدعة وانحراف عن شريعته صلى الله عليه وسلم، فببركة اتباعه يؤيده الله تعالى بملائكته وبروح منه..) (4).
__________
(1) رسالة الإمام عبد العزيز الأول، ص12.
(2) الدرر السنية) 1/128.
(3) المرجع السابق 2/81.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/83، 84 بتصرف.(1/171)
ويشير محمود شكري الألوسي – رحمه الله – إلى وجوب الإيمان بكرامات الأولياء، فيقول:
(وأما الجواب عن مسألة الكرامات فيقال: إن كرامات الأولياء حق لا شبهة فيه، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، ولشيخ الإسلام قدّس الله روحه كتاب جليل في ذلك سماه الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن)(1).
ويوضح الشيخ سليمان بن سحمان معتقدهم في كرامات الأولياء، فيقول في كتابه (الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد):
(واعلم أننا لا ننكر الكرامات التي تحصل لأولياء الله، إذا صدرت على القانون المرضي والميزان الشرعي، فإن أولياء الله هم المتقون المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر به، وينتهون عمّا نهى وزجر.. فيؤيدهم الله بملائكته وروح منه ،ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين..)(2).
ويقول ابن سحمان في قصيدته (عقود الجواهر واللئالي في معارضة بدء الأمالي)، حيث تحدث عن كرامات الأولياء، وبيّن أن خوارق العادات إما أن تكون أحوالا شيطانية، أو كرامات فقال رحمه الله:
وكل كرامة ثبتت بحق
نوال من كريم حيث كانوا
وليس لهم نوال أو حباء
وإن الخرق للعادات فاعلم
فنوع من شياطين غواه
ونوع وهو ما قد كان يجري
من الرحمن تكرمة وفضلا
ولكن ليس يوجب أن سيدعى
فما في العقل ما يقضي بهذا
فحق للوليّ بلا اختلال
بطاعة ربهم أهل انفعال
لمن يدعوهمو من كل عال
على نوعين واضحة المثال
لمن والاهمو من ذي الخيال
لأهل الخير من أهل الكمال
لشخص ذي تقى سامي المعالي
ويرجى أو يخاف بكل حال
ولا في الشرع يا أهل الوبال (3)
ونختم هذه النقول النفيسة بما أورده الشيخ عبد الله بن بلهيد – رحمه الله – في خطابه الذي ألقاه أثناء الاجتماع بين علماء نجد وعلماء مكة المكرمة، فقال – ذاكرا حقوق أولياء الله -:
__________
(1) فتح البيان تتمة منهاج التأسيس، ص 413.
(2) ص180.
(3) ديوان ابن سحمان) ص 155.(1/172)
(وكذلك أولياء الله تجب محبتهم، والإقرار بفضائلهم على اختلاف مراتبهم، وما يجريه الله على أيديهم من الكرامات، وخوارق العادات، ولا ينكر كرامات الأولياء إلى أهل الله، لكن يجب أن يفرق بين أولياء الله وغيرهم فإن أولياء الله هم المتقون العاملون لله بطاعته، كما قال تعالى في وصفهم { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون..) (1)
فمن كان مؤمناً تقيا كان لله ولياً ليس إلا..) (2)
من خلال هذه النقول نلاحظ أنها متفقة على إثبات كرامات الأولياء، والإقرار بها، ومتفقة على وجوب محبتهم والاعتراف بفضائلهم ومناقبهم. كما أنها توضح أن الولي لله – حقاً – هو من كان مؤمناً متبعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فليست الولاية مجرد لبس زيّ مخصوص، وإسبال الإزار، وإطالة السبحة، ومد اليد للتقبيل، مع ترك اتباع السنة النبوية..
وهذه النقول تؤكد النهي عن الغلو في الأولياء، فلا يجوز صرف شيء مما يستحقه الله تعالى لهم، فحق الأولياء هو المحبة والتقدير وإثبات الكرامات لهم فلا جفاء في حقهم وليس من حقهم أن تصرف بعض أنواع العبادة – التي يجب أن تكون لله وحده – لهم، فلا غلو في قدرهم
فاختار أئمة الدعوة –بهذا المسلك – دين الله الذي هو وسط بين طرفي في الغلو والجفاء.
ننتقل – بعد ذلك التمهيد – إلى ما افتراه المناوئون وسودوا به الصحائف من قذف الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بفرية إنكار كرامات الأولياء، وسنورد أقوالهم – كما جاءت مسطورة في كتبهم -، ثم نعرض لهذه النقول بنظرة سريعة فيما احتوته من قضايا وأفكار.
يزعم علوي الحداد في مصباحه أن إنكار كرامات الأولياء من جملة هذيان الشيخ ابن عبد الوهاب، فيقول الحداد:
(ومن جملة هذيانه أيضاً إنكاره كرامات الأولياء وما خصهم الله به من الخصوصيات والأسرار والبركات) (3).
__________
(1) سورة يونس : آية 62.
(2) ص21.
(3) مصباح الأنام)، ص 18.(1/173)
ويقول علوي الحداد أيضاً - حين ذكر ما أسماه بضلالات النجدي -:
(وأنه يرى أن الأموات لا نفع منهم للحي وأنه لا كرامة لهم.. وأن من مات انقطعت كرامته، حتى أدخل على العوام الشبه، والنزاع منه في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر، وأيضاً إذا أقر بكرامات الأحياء، فهم أجمعوا بل وأخبروا بوقائع بينهم وبين الأموات، فتكذيبه في حق الأموات تعدي لتكذيبه للأحياء فهو مكذبها معاً..) (1).
ويدعي عمر المحجوب في رسالته - رداً على الشيخ محمد بن عبد الوهاب - هذه الفرية فيقول:
(كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء وعدم نفع الدعاء وكلها عقائد عن السنة زائغة وعن الطريق المستقيم رائغة) (2).
ويتلقف اللكنهوري هذه الفرية، فيزعم في أحد أبواب كتابه المسمى (كشف النقاب):
(الباب الثالث: عقيدته في الأولياء والصالحين كان منكراً لكرامتهم وزيارتهم وقد بينه هو وأتباعه ببينات طويلة لا طائل تحتها، ونحن ننقل بعض عباراته في هذا المقام ليكون الناظر على بصيرة من نفثات لسانه) (3).
ومما كتبه بن سليمان بن جرجيس عن الغلو في الأولياء، قوله:
(ولما كان يحصل من التوسل والتشفع بالأنبياء والأولياء إنما هو من طريق الكرامة مع كونهم متسببين في دار برزخهم فالولي ما دام لم يصل إلى الآخرة، وهي ما بعد القيامة فهو بدار دنيا، فتكون كراماته موجودة) (4).
__________
(1) المرجع السابق، ص 23 ثم أورد الحداد نقولاً وآثاراً على وقوع الكرامات بعد الموت ص 23 - 29.
(2) رسالة في الرد على الوهابية ط1، المطبعة التونسية، تونس 1327هـ، ص7.
(3) ص 41 ولم يبين هذا الكذّاب فريته بالبينات الطويلة التي زعمها، حتى ولا القصيرة.
(4) المنحة الوهبية في رد الوهابية مكتبة الحقيقة استانبول، 1403هـ، ص 32، 33، بتصرف يسير.(1/174)
ويتوصل إبراهيم السمنودي في كتابه (سعادة الدارين) إلى فهم أعوج، وقصد سيء حين جعل ما ذكره أئمة الدعوة من انقطاع عمل الميت وعدم قدرته، إلى أنهم يقصدون بذلك إنكار كرامات الأولياء، فقال:
(وأما قول المنكرين للتوسل أن الميت لا يقدر على شيء أصلا ً إلى آخره مازعموه فيقصدون به إنكار كرامات الأولياء، وما ثبت في تصرفهم كالأنبياء والشهداء بعد موتهم لعدم الكرامة فيما بينهم، وذلك أدل دليل على أنهم بدعة كالمعتزلة المنكرين لها)(1).
ويقول حسن الشطي في رسالته (النقول الشرعية):
(وكرامات الأولياء حق، وأنكر الإمام أحمد من أنكرها وضلله، والحاصل أن علماء الحنابلة كغيرهم من أهل السنّة يجمعون على إثباتها حتى طائفة النجدية الوهابية مع غلوهم يثبتونها للأولياء، إلا أن البعض منهم يخصها بالأحياء، ولم يثبت لهم دليل التخصيص أبداً) (2).
ثم ذكر الشطي كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في مسألة كرامات الأولياء، فكان مما نقله - هذا المفتري المحرف - ما نصه:
__________
(1) سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية، إدارة جريدة الإسلام، مصر 1319هـ، 1 / 228.
(2) النقول الشرعية في الرد على الوهابية (ضمن مجموعة كتب)، ط2، مكتبة التهذيب، القاهرة، ص 104.(1/175)
(ولا ننكر كرامات الأو لياء، ونعترف لهم بالفضل وأنهم على هدى من ربهم. مهما ساروا على الطريقة المرضية، والقوانين الشرعية، أحياءً وأمواتاً، إلا إنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادة) ا.هـ كلامه بحروفه (1).
- ثم قال الشطي:
(فانظر إلى عبارة إمامهم المذكورة لا تجدها مخالفة لما عليه الجمهور من إثبات الحياة والكرامة للشهداء والأولياء والصالحين بعد وفاتهم كحال حياتهم … فكيف يسوغ الآن من هذه الطائفة أو من غيرهم بتخصيص الكرامة في حال الحياة وبنوا عليها تخصيص التوسل والطلب في حال الحياة فقط حتى من إمامهم المذكور، فما هو إلا من غلوهم وعنادهم وغلبة جهلهم …) (2).
ويأتي أفّاك أثيم، فيزيد على سابقيه بالكذب والبهتان وهو المدعو عثمان بن يحيى العلوي (3) حيت يقول:
(وكذا كفَّر - أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب - من اعتقد كرامات الأولياء) (4).
(وأنه أنكر كرامات الأولياء).
__________
(1) هكذا يزعم المحرف : انتهى كلامه بحروفه وكان من اللائق أن يقول : انتهى كلامه بعد تحريفه، فيلاحظ من نقل هذا الأفاك الأثيم، أنه ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، فقد حرف كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فلم يقل الشيخ عبد الله - كما زعم المفترى - (ولا ننكر كرامات الأولياء …أحياءً وأمواتاً..) بل قال رحمه الله - كما نقلنا قوله من قبل - (ولا ننكر كرامات الأولياء، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات) (انظر : الدرر السنية) : 1 / 128). ويريد الشطي بذلك التحريف تجويز الاستغاثة بالموتى … فانظر إلى شناعة هذا التبديل ونجاسة ذلك التغيير ولم يقف هذا الشطي عند هذا القدر بل تجاوزه إلى رميهم بالتناقص والعناد، حتى يتحقق له ما ينبغي من الغلو والاستغاثة بالأموات.
(2) النقول الشرعية في الرد على الوهابية) ص 104، 105.
(3) لم أعثر له على ترجمة .
(4)(فصل الخطاب في بيان الصواب)، ص42.(1/176)
ويتبع العلوي من الإمعان في الإفك والزيادة في الإثم والبهت، ما زعمه المدعو محمد بن توفيق سوقية في رسالته (تبيين الحق والصواب) فيقول:
(وإما إ نكارهم لكرامات الأولياء الثابتة بالكتاب والسنة، فأمر لا يخفى على أدنى ممارس لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والكرامة لا تقع إلا على يد من بالغ في الاتباع للشريعة حتى بلغ الغاية، فأنى تراها الوهابية مع انحرافهم عن الجادة)(1).
ويكذب سوقية مرة أخرى فيقول:
(ولا عبرة بإنكار الوهابية للكرامات حيث لا يعدون في العير، ولا في النفير، ولا ينظر لكلامهم البتة بعد ما ثبتت الكرامات..) (2).
ويستمر في كذبه – كعادته – فيقول:
(ولما كانت الوهابية لا إمام لها في كل شيء تقوله وتدين به سوى اختراع دين جديد حباً في الظهور قالت بإنكار الكرامات.. (3).
ويقول حسن خزبك في (مقالاته):
(ومن قال بأن كرامات الأولياء لا تكون إلا في حياتهم فقط، وتزول بعد الموت فقوله غير معتد به، لأن الكرامة أمر خارق للعادة.. يظهرها الله على يد رجل صالح متمسك بدينه الحق..)(4).
ومن أواخر هؤلاء المفترين الكذّابين ممن افترى على هذه الدعوة السلفية فرية إنكار كرامات الأولياء، ما كتبه المدعو مالك بن داود في كتابه (الحقائق الإسلامية):
(من أعظم خطئهم بعد تكفير المسلمين، إنكارهم على أولياء الله وكراماتهم مع أنهم يصدقون بالاختراعات العصرية.
ثم يقول: فهناك جماعة غير قليلة من الوهابيين ينكرون على أولياء الله وكراماتهم، ويرفضون حصول الكرامات والخوارق لهم.. ولهم في ذلك أقوال أعتذر عن حكايتها مراعاة للأدب ولعدم مناسبتها لحضرة أولياء الله تعالى..) (5).
__________
(1) ص 22.
(2) المرجع السابق ص 25.
(3) المرجع السابق ص 26.
(4) المقالات الوفية في الرد على الوهابية) ص 206.
(5) مالك بن داود، (الحقائق الإسلامية في الرد على المزاعم الوهابية)، ط1، مكتبة الحقيقة، استانبول، 1403هـ ص 25.(1/177)
ويجدر بنا عقب هذا النقل لمفتريات خصوم الدعوة السلفية في مسألة كرامات الأولياء - أن نلقي نظرة عابرة.. لما تضمنته تلك النقول من أفكار نوجزها بما يلي:
(1) ... يظهر تناقض الخصوم واضطرابهم في كذبهم، وافترائهم، حين زعموا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - وكذا أتباعه وأنصاره ينكرون كرامات الأولياء، فمرة يزعمون أن هذا الإنكار لكرامات الأولياء إنما هو بالنسبة للأموات، كما هو واضح فيما كتبه علوي الحداد.
مع أن بعض الخصوم أقر واعترف بإثبات أئمة الدعوة لكرامات الأولياء، ومن ذلك ما كتبه محمد بن عبد المجيد بن كيران الفاسي في رسالته (الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية) حيث يقول:
... (وهذا المبتدع (1) مصرح في رسالته الكبرى بإثبات الكرامات، حيث قال الواجب عليك الإقرار بكراماتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال) (2).
ويورد محمد جواد مغنية اعترافه بإقرار أئمة الدعوة السلفية بكرامات الأولياء، ولكنه يورده مستنكراً عليهم هذا الإقرار، لأن الكرامة عنده هي الصدق والإخلاص(3)، يقول مغنية:
(ويعتقد الوهابية بكرامات الأولياء، وأن الله يجري على أيديهم خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات…) (4).
__________
(1) يعني به الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود حيث إن الإمام سعود أرسل رسالتين إلى أمير المغرب – آنذاك -، فعرضها ذلك الأمير علي بن عبد المجيد بن كيران، فكتب الأخير رداً على تلك الرسالتين، بعنوان (الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية) انظر : مقدمة كتابه المذكور ص3.
(2) محمد بن عبد المجيد بن كيران الفاسي، (الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية،) ط1، مطبعة التقدم، مصر، 1327، ص19.
(3) انظر : كتاب (هذه هي الوهابية) ص 106.
(4) المرجع السابق ص 105.(1/178)
(2) ... يتبين مما سبق نقله -، أن هؤلاء الخصوم لا يرون أيّ فرق بين إثبات الكرامات للأحياء، بين إثباتها للأموات، فليس هناك دليل يخص الكرامة بالأحياء دون الأموات.
(3) ... نلاحظ ضلال الخصوم في تعريفهم الكرامة وبيان حدّها، فهم يظنون أن الكرامة فعل الولي، مع أن الكرامة في الحقيقة هي فعل الله لا فعل للولي فليس له قدرة عليها ولا تأثير.
(4) ... نجد هؤلاء الخصوم قد جعلوا كثيراً من الشركيات ومحدثات الأمور ضمن إثبات كرامات الأولياء، فأجازوا الاستغاثة بالأولياء – فيما لا يقدر عليه إلا الله -، ودعاؤهم بحجة أن هذا – الشرك – ضمن إثباتهم كرامات الأولياء، ومن باب محبتهم وتقديرهم. ومن أنكر هذه الشركيات فهو منكر للكرامات، ومما يدل على أن الكثير من الشركيات قد صارت ديناً وأمراً مشروعاً، لأنها ضمن الإقرار بكرامات الأولياء، ما نجده مسطوراً في كتب هؤلاء الخصوم، ونذكر على ذلك مثالين:
الأول: ما قاله القباني في (فصل الخطاب): (وإغاثة الأولياء كرامة لهم) (1).
الثاني: ما كتبه الزهاوي في فجره: (المراد بالاستغاثة بالأنبياء، والصالحين، والتوسل بهم هو أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله تعالى هو الفاعل كرامة لهم..) (2).
وتبدو هذه الأمور الأربعة ظاهرة جلية، حين نعرض لها بالرد والدحض بما كتبه أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في هذا المقام.
سنورد - في مقام الرد والدحض لفرية إنكار كرامات الأولياء - ما ذكره بعض أئمة الدعوة في رد هذه الفرية ودحضها.
ثم نشير إلى ما قالوه من عدم الاغترار بخوارق العادات عموماً، وضرورة التفريق بين الولي – حقاً – وبين مدعي الولاية – كذباً وزوراً -.
وعقب ذلك نشير إلى ما قرره علماء الدعوة في بيان حد الكرامة وتعريفها.
ثم نورد بعض الردود على ما وقع فيه الخصوم من الغلو في الأولياء وصرف شيء مما يستحقه الله إليهم.
__________
(1) ق42.
(2) ص53.(1/179)
(وقد ردّ الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - على من اتهمه بانتقاص الصالحين فكان مما قاله:
(مما ذكره المشركون عليّ أني أتكلم في الصالحين أو أنهى عن محبتهم فكل هذا كذب وبهتان افتراه عليّ الشياطين)(1).
ويقول - أيضاً - في هذا المقام:
(وأما الصالحون فهم على صلاحهم رضي الله عنهم، ولكن نقول ليس لهم شيء من الدعوة قال الله: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (2) (3).
ويكذّب الشيخ سليمان بن سحمان هذه الدعوى فيقول:
(والجواب أن يقال أن هذه الدعوى دعوى كاذبة خاطئة، فإن الشيخ رحمه الله لا ينكر كرامات الأولياء بل يثبتها ولا ينكر إلا خوارق الشيطان، فإن أولياء الرحمن لهم علامات يعرفون بها، فمن علامات أولياء الله محبة الله، ومحبة رسوله والتزام ما أمر الله به ورسوله، وتقديم ما دلّ عليه الكتاب والسنة على ما يخطر ببال أحدهم أنه كرامة …)(4).
ويقول ابن سحمان في دحض ما أورده الحداد من الحكايات في كرامات الأولياء بعد الممات:
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ 5 / 52 باختصار.
(2) سورة الجن : آية 18.
(3) مجموعات مؤلفات الشيخ 5 / 101. وانظر : (الدرر السنية) 1 /65، ومما يحسن ذكره - هاهنا - أن نسوق ما حكاه الشيخ أبو بطين في كتابه (تأسيس التقديس) ص 85، وهو أن رجلاً من أهل مكة ينسب إلى علم قال لرجل عامي من أهل نجد : أنتم ما للأولياء عنكم قدر والله يقول في الشهداء أنهم { أحياء عند ربهم يرزقون } ، قال له العامي : هل قال يرزقون يعني بفتح الياء أو قال يُرزقون يعني بالضم، فإن كان يعني بالفتح فأنا أطلب منهم، وإن كان يعني بالضم فأنا أطلب من الذي يرزقهم، فقال المكي : حجاجكم كثيرة وسكت.
(4) الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد ص 128(1/180)
(ذكر الملحد أحاديث وأخبار وحكايات في كرامات الأنبياء والأولياء منها ما هو صحيح مؤول وباطل مقول ؟، ومنها ما هو خرافات ومنامات وخزعبلات وحكايات لا يثبت بها حكم شرعي، ولا يدل ما صح منها من الكرامة على أنهم يدعون من دون الله أو يستغاث بهم في الشدائد والمهمات، أو يطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات …) (1).
ويدحض ناصر الدين الحجازي تلك الفرية بهذا الأسلوب فيقول:
(.. ثم أن كرامات الأولياء ما سمعنا من أحد إنكارها، وإذا كان ثم إنكار فإنما هو على أشياء مكذوبة لا تطابق عقلاً ولا نقلاً، وكيف ينكرها قوم يتلون كتاب الله وسنة رسوله، لكن صاحبنا أخذ يلتقط أشياء من أفواه العامة، ويسوّد به صحيفته، ومثل هذا يكون الكلام معه ضائعاً، فلا يلتفت إليه وإن أطال مهما أطال، ونحن نكلفه أن يثبت مدعاه بالنقل من كتاب موثوق به، فإن وجد شيئاً من ذلك فنحن نشاركه في الرد على المنكر، لكن على طبق الشرع وصحة النقل..) (2).
وحيث أن الإقرار سيد الأدلة، وقد أوردنا – في مقدمة هذا الفصل – من النقول عن أئمة الدعوة السلفية، وعلى رأسهم مجددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب مما يؤكد ويقرر إثباتها لكرامات الأولياء، فلسنا بحاجة إلى زيادة – عما سبق ذكره - ردود على تلك الفرية الساقطة.
ولكن مع أن هؤلاء الأئمة – رحمهم الله تعالى – يثبتون كرامات الأولياء، إلا إنهم لا ينخدعون بكل ما هو خارق للعادة، فإن خوارق العادات كما تحصل لأولياء الرحمن، فربما تقع بعض خوارق العادات لأولياء الشيطان من السحرة والدجالين والمشعوذين، فعلامة ولي الرحمن أنه مؤمن تقي متبع لسّنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالقصد طلب الاستقامة – لا طلب الكرامة.
لذا يقول الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب – أثناء ذكره لفوائد قصة آدم مع إبليس -:
__________
(1) المرجع السابق، ص 179.
(2) النفخة على النفحة) ص50.(1/181)
(ومنها أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بخوارق العادة، إذا لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فإن اللعين أنظره الله، ولم يكن ذلك إلا إهانة له وشقاء له، وحكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير، فينبغي للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها، ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة) (1).
ويبين الشيخ - أيضاً - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيقول:
(بيان الله سبحانه لأولياء الله، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران وهي قوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (2) الآية، وآية في سورة المائدة وهي قوله: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } (3) الآية، وآية في سورة يونس، وهي قوله: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } (4).
ثم صار عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لابد فيهم من ترك اتباع الرسل، ومن تبعهم فليس منهم) (5).
ويبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من صفات أهل الجاهلية أنهم يعتقدون في خوارق السحرة أنها من كرامات الأولياء الصالحين، يقول رحمه الله:
(العشرون: اعتقادهم في مخاريق السحرة … وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين ونسبته إلى الأنبياء كما نسبوه لسليمان عليه السلام) (6).
ويورد الشيخ عبد الظاهر أبو السمح - رحمه الله - جهل عبّاد القبور حين اعتقدوا أن الكرامات هي مجرد الخوارق فقط، فأقحموا أفعال السحرة والدجالين ضمن الكرامات، يقول أبو السمح في (الرسالة المكية):
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ 4 / 95.
(2) سورة آل عمران : آية 31.
(3) سورة المائدة : آية 54.
(4) سورة يونس : آية 62.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ 1 / 395.
(6) مجموعة مؤلفات الشيخ 1/ 340.(1/182)
(ومن جهل عباد القبور أنهم يعتقدون أن الكرامات هي الخوارق فقط لا أكثر ولا أقل. فهم يعتقدون كرامة كل من أظهر شيئاً خارقاً في نظرهم، وإن كان من السحرة والمشعوذين، ويعدونه ولياً، وإن لم يصم) (1).
وكما أن هناك فرقاً بين الولي الحق، وبين مدعي الولاية - كما أشرنا إلى ذلك -، فهناك - أيضاً - فرق بين حال الأولياء في حياتهم وبين حالهم بعد مماتهم، وليس كما يزعم هؤلاء الخصوم بأن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة.
لذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - في الرد على داود بن جرجيس حين زعم أن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة، فقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وهذا يبطله ما ذكره الله تعالى بقوله: { وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } (2) فلم يجعلهم الله سواء بل فرق بين الأحياء والأموات، وشبّه بهم من لم ينتفع بسماع الهدى) (3).
وعقب ذلك، نورد ما قرره بعض علماء الدعوة في حدَّ الكرامة وتعريفها وسيتضح خطأ وضلال الخصوم في فهمهم لمعنى الكرامة، وترتب على ضلالهم في معناه، الكثير من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة - كما ستظهر بوضوح حين نتحدث عما أورده بعض علماء الدعوة من الردود فيما وقع فيه الخصوم من الغلو في الأولياء - يقول الشيخ محمد بن ناصر التهامي - رحمه الله -:
(الكرامات فعل الله يكرم بها من يشاء من عباده، كما أنه سخر بعض العباد لبعض، وليس إلى المعتقد شيء من الكرامات بل هي إلى الله..)(4).
__________
(1)(الرسالة المكية في الرد على الرسالة الرملية)، ط1، مطبعة المنار، مصر، 1349هـ، ص 25.
(2) القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس)، ط2، دار الهداية الرياض، 1405هـ، ص36.
(3) إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان) مخطوط بجماعة الملك سعود، ق 20.
(4) له ترجمة في (معجم المؤلفين) 5 / 24.(1/183)
ويقول الشيخ صنع الله الحنفي الحلبي(1) في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفاً في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة.
(الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم …)(2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بيان معنى الكرامة:
(الكرامة أمر يجعله الله للعبد لا صنع للبشر فيه. فالذي أوجد الكرامة لمن شاء من عباده هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فإن الكرامة إنما تقع لبعض الموحدين المخلصين بسبب توحيدهم وإخلاصهم لله تعالى)(3).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في (البراهين الإسلامية):
(والمعروف في حد الكرامة أنها خرق الله العادة لوليه من غير تحد..) (4).
ثم يوضح ذلك فيقول: (ولا يخفى أن الملحدين وعبّاد القبور القائلين بالتصرف يموهون على الناس بأن تصرف الأولياء كرامة، وأن من نفاه فقد نفا الكرامة … وأهل الحق لا ينكرون الكرامة التي جاء بها القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون } (5)، وقوله: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } (6).. الآية.
فيثبتون خرق العادة للأولياء في بعض الأحيان، لكن ليس في هذا دليل على أنهم يتصرفون ولا تلازم بين التصرف والكرامة؛ لأن الكرامة خرق الله العادة لوليه، من غير فعل من ذاك الولي …) (7).
ويورد علامة العراق محمود شكري الآلوسي تعريف الكرامة، فيقول رحمه الله:
__________
(1) نقلاً عن : (الانتصار لحزب الله الموحدين)، ط3، مكتبة الصحابة، الكويت، ص45.
(2) سورة فاطر: آية 22.
(3) القول الفصل النفيس)، ص 52.
(4) البراهين الإسلامية في رد الشبه الفارسية)، مخطوط بالمكتبة السعودية، ق 24.
(5) سورة يونس : آية 62.
(6) سورة الأحقاف : آية 13.
(7) البراهين الإسلامية) ق42.(1/184)
(كل من يذكر تعريف الكرامة وحدها يقول: هي خرق الله العادة لوليه لحكمة ومصلحة تعود عليه أو على غيره، وعلى هذا التعريف لا فعل للولي فيها، ولا إرادة، فلا تكون سبباً يقتضي دعاء من قامت به أو فعلت له، ومن أي وجه دلّت الكرامة على هذا ؟) (1).
ويؤكد الشيخ عبد الظاهر أبو السمح أن الكرامة من فعل الله، فيقول:
(الكرامات لا يملكها أحد لنفسه بل الله يكرم من يشاء من عباده بالإيمان والتقوى { ومن يهن الله فما له من مكرم } (2) …) (3).
فالكرامة - إذن - هي فعل الله، وهي خرق الله العادة لوليه، فلا فعل للولي فيها، بل هي فعل الله تعالى، وقد لا يكون طالباً لها، وإنما قصده وغايته الاستقامة والاتباع للسنة النبوية، لأن الكرامة قد تقع للمفضول دون الفاضل، لذا كانت الكرامة في عهد التابعين أكثر منها في عهد الصحابة، كما أن الكرامة قد تحصل لضعفاء الإيمان لزيادة إيمانهم(4).
لذا قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (ليست الكرامة من لوازم المنزلة وعلو الدرجة، مشى قوم فوق البحار، ومات عطشاً من هو أفضل منهم وأقوى إيماناً) (5).
لقد ترتب على خطأ وضلال هؤلاء المناوئين في تحديد وتعريف الكرامة، أنهم أقحموا - ضمن معنى الكرامة - الكثير من الكفريات والمحدثات، فجعلوا دعاء الأموات والاستغاثة بهم واتخاذ قبور الأولياء أعياداً والتوسل بالموتى والتشفع بهم، كل ذلك جعلوه ضمن كرامات الأولياء وزعموا أن ذلك هو من محبة الصالحين وتقديرهم.
ورحم الله محمود شكري الآلوسي حيث يقول:
__________
(1)(فتح المنان تتمة منهاج التأسيس) ص 413.
(2) سورة الحج : آية 18.
(3) الرسالة المكية)، ص 25.
(4) انظر : تفصيل ذلك في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) لابن تيمية.
(5) دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ)، ص 52، 53.(1/185)
(من الأمور التي يجب التنبيه عليها: أن من مكايد الغلاة التي كادوا بها العوام أنهم يقولون أن الاستغاثة بالأموات وندائهم في المهمات … هو من علامات محبتهم، ومن أنكر ذلك وأبى ما هنالك، فهو من المبغضين للصالحين، والمنكرين لكرامات الأولياء والصديقين، كبرت كلمة تخرج من أفواهم، فإن من أنكر تلك البدع والضلالات هم المحبون لهم، والمحافظون على هديهم وطريقتهم..) (1).
ولقد قام علماء الدعوة وأنصارها بالرد والدحض لهذا الغلو، وسنورد بعضاً من أقوالهم.
فيقول صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفاً في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة:
هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاً في حياتهم، وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليّات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور. قال (الحلبي) وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة.
إلى أن قال: فأما قولهم أن للأولياء تصرفاً في حياتهم وبعد الممات، فيرده قول الله تعالى: { أإله مع الله ؟ ألا له الخلق والأمر له ملك السموات والأرض } … فهو سبحانه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه. والكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً وإحياءً وإماتةً وخلقاً.
__________
(1) غاية الأماني في الرد على النبهاني) 1 / 37.(1/186)
إلى أن قال وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جلَّ ذكره: { إنك ميت وإنهم ميتون } (1).. وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) (2) الحديث فهذا يدل على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان، فليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره بحركة، وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياء لا قصد لهم فيه ولا قدرة … الخ) (3).
ويدحض الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن غلو داود بن جرجيس في الأولياء حيث زعم داود (أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر، واستدل بقوله تعالى { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } (4) وأن المفسرين - ومنهم البغوي، قالوا: رأى يعقوب عاضاً على أنملته يقول إياك وإياها، فلم يفعل، فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الشام، فهذا نوع من الكرامة وهي سبب، والقدرة لله) (5) ا.هـ كلام داود.
فقال الشيخ عبد اللطيف في (دلائل الرسوخ) رداً عليه:
(يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين، وندائهم بالحوائج في الغيبة وبعد الممات؛ لأن هذا كرامة، والكرامة يدعى صاحبها وينادى ……
والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية وهي أصل الدين وقاعدته لا يعتريها نسخ ولا تخصيص.
وهو سبحانه المختص بالخلق والرزق اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، فكيف يعارض هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة.
__________
(1) سورة الزمر : آية 30.
(2) رواه مسلم.
(3) نقلاً عن : كتاب (الانتصار) لأبي بطين ص43 – 45 باختصار.
(4) سورة يوسف : آية 24.
(5) انظر : (دلائل الرسوخ) ص 48، 49.(1/187)
هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك بإجماع أهل العلم، والمقدمات كاذبتان؛ لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير.
كما أن أكثر المفسرين على غير هذا، فمنهم من قال إن همّ يوسف من جنس الخطرات، والواردات التي لا تستقر، وليست بعزم فتركها..) (1).
ويذكر الحازمي شيئاً من هذا الغلو والابتداع عند هؤلاء الخصوم، ويجعلونه ضمن معنى الكرامة:
(وليس معنى كرامة الولي أن يبنى قبره، ويتصل بالمسجد، ويعتني به أكثر من المسجد، ويبخر وينقش جداره، وتعلق فيه الألواح المنقوشة والقناديل.. فهذه الأمور لا تسمى كرامة ولا يكرم الله عبداً بمحرم، وهذه محرمات وإضاعة مال، وتقرب إلى الله باقتراف كبائر …) (2).
ويورد عبد الظاهر أبو السمح صورة من صور ضلال من غلى في القبور، فيقول في (الرسالة المكية).
(ومن خبل عبّاد القبور، إنك إذا ذكرت الله وحده وقلت: ادعوه وحده، ولا تلتفتوا إلى سواه، اشمأزت قلوبهم، وغضبوا غضباً شديداً، وعدوا ذلك تنقصاً لأوليائهم الذين لم تثبت ولايتهم ولا بنصف دليل، ولا شبه خبر صحيح، وقالوا: ينكر الكرامات، في حين أنهم بدعاء غير الله ينتقصون ربهم، وبالتفاتهم عنه سبحانه يقعون في عارٍ كبير وظلمٍ عظيم لو فطنوا) (3).
ويقول - في موضع آخر -: (فلو فرضنا أن عدم سؤال الأولياء يستلزم عدم كرامتهم، وهو في الحقيقة لا يستلزم، فإن عدم سؤال الله يستلزم ظن السوء به جل وعلا حقيقة لا فرضاً …) (4).
وإذا نظرنا إلى كتب هؤلاء الخصوم، وما تضمنته من الغلو في الأولياء وصرف بعض أنواع العبادة - التي يجب صرفها لله وحده - لهم تحت ستار محبة الأولياء والإيمان بكرامتهم، فإنا نجد فيها من الطامات والدواهي ما لا يعد، ولا يحصى …
__________
(1)( دلائل الرسوخ) ص 49 - 53 باختصار.
(2)(إيقاظ الوسنان) ق17.
(3)(الرسالة المكية) ص25.
(4)(المرجع السابق ) ص 39.(1/188)
ونذكر أمثلة معدودة من غلوهم في الأولياء من أحد هذه الكتب، وهو كتاب(مصباح الأنام) لعلوي بن أحمد الحداد، يقول الحداد:
(قال السيد الجليل محمد بن زين بن سميط في كتابه (غاية القصد والمراد من مناقب السيد الحبيب القطب عبد الله الحداد). في الباب الرابع في ذكر الحكايات والوقائع من كراماته. حيث ذكر أن أحدهم قال: لم تأت لي زيارة النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وأنا بمكة، فرأيت النبي في المنام، فقال لي: يا عبد الله لم لا تزورنا أما علمت أن من زار السيد عبد الله الحداد تقضى له سبعون حجة، فما بالك بزيارتنا.
وذكر أن رجلاً من أهل الخطوة وصل من بلد المغرب في سبعة أيام إلى تريم لزيارة السيد عبد الله الحداد، وأمر شيخه بالمغرب لما استشاره للحج فقال له: اخرج لزيارة القطب عبد الله الحداد بالمشرق خير لك من كذا وكذا حجة، قال: فخرجت لزيارة سيد عبد الله) (1).
(وقال السكران باعلوي: في مقبرة تريم ألوف من الأولياء المتصوفون بعد موتهم كحياتهم.
ويقول السيد يوسف بن عابد الفاسي أن بعد أجداده كثر في الاعتقاد فيه قبائل المغرب، فلما دفنه أولاده من حيث لا تعلم للناس، صار كل يطلب دفنه عنده لاعتقاد كل فيه منهم، ففعل كل منهم قبراً أو قبة، وادعى كل أنه عنده، فاجتمعوا على التبيين والتحقيق ومن ظهر عنده يسلمون له ذلك، فبحثوا في كل المشاهد، فوجدوه في كلها، وذلك بمحضر عظيم، وخلائق لا يحصى لهم عدد) (2).
__________
(1) مصباح الأنام ص 46.
(2) المرجع السابق ص 51.(1/189)
يظهر من هذه الأمثلة المحدودة ما كان عليه خصوم الدعوة السلفية من الغلو الشديد في الصالحين، والاعتقاد الفاسد حين زعموا أن زيارة أضرحة بعض الأولياء أفضل من حج بيت الله الحرام أضعافاً مضاعفة، وأما ما أورده الحداد من قصة ذلك الولي الذي وجد جسده بعد موته في عدة مشاهد وقباب، فهذه من كيد الشيطان لهم وتلبيسه عليهم، فلا عجب أن يتمثل بعض الشياطين على هيئة ذلك الولي الميت، فيظنّ عبّاد القبور أن هذه كرامة لذلك الولي - بعد موته - وتصرفاً له بعد موته، حين وجدوا جثته في عدة قباب وقبور، فيعتقدون فيه ويشركونه في العبادة، وعندئذٍ يتحقق مراد الشيطان (1).
قال الله تعالى:
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً. إن يدعون من دونه إلا إناثاً، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً. لعنه الله. وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً. ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكنّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } (2).
__________
(1) انظر : ما كتبه ابن تيمية حول هذه المسألة (الفتاوى) 1/ 168، 360.
(2) سورة النساء : آيات 116 - 119.(1/190)
الباب الثاني : الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ مع بيان الحق في ذلك
يظهر من خلال عنوان هذا الباب أن الحديث سيكون متجهاً إلى الشبهات (1)
التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، فإذا كان الباب الأول تضمن الحديث عن أكاذيب ومفتريات ضد هذه الدعوة السلفية، وسيتضمن الباب الثالث - كما سيأتي - ما اعترض على دعوة الشيخ مما هو حق وصدق في حدّ ذاته.
فإن هذا الباب هو وسط بين هذين البابين، فهو بين الكذب الصريح في المفتريات، وبين الصدق والصواب في بعض الاعتراضات، فهو باب يتضمن الشبهات مما يحمل طابع الالتباس والإيهام فيحتاج إلى تفصيل وبيان حتى يزول هذا الالتباس، وينكشف ذلك الإيهام.
الفصل الأول :التكفير والقتال - عرض ثم رد وبيان
إن من أشد الشبهات التي أثيرت على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - شبهة: التكفير والقتال، وحتى يأخذ هذا الفصل حقّه بشيء من الاستيفاء، فإنه من المناسب أن نورد هذه الشبهة بنوع من الإطناب والتفصيل - كما جاءت مسطورة في كتاب المناوئين لهذه الدعوة السلفية - ثم نتبعها بالرد والبيان.
وهناك دوافع وأسباب كثيرة لزيادة العناية بهذا الفصل، والاهتمام به - أكثر من غيره من فصول هذه الرسالة-، نذكر من هذه الأسباب ما يلي:
أولاً: إن مسألة التكفير والقتال من أهم المسائل وأكثرها خطورة في أبواب العقائد، فلابد من إعطاء تصور تام، وفهم شامل لهذه المسألة؛ لأن التصور الناقص والفهم القاصر لهذه المسألة يؤدي إلى الوقوع في طرفي نقيض، فإما غلو في التكفير كحال الخوارج، أو تمييع وتذويب لمسألة التكفير كما هو حال المرجئة ،كما تظهر أهمية هذه المسألة، لما يترتب عليها من النتائج والآثار الخطيرة في كلا الدارين: الدنيا والآخرة كاستباحة الدماء، وحل الأموال، وغيرها - مما جاء مفصلاً في كتب الفقه، في باب حكم المرتد _.
ثانياً: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وكذا أتباعه من بعده وأنصار دعوته، قد اعتنوا بهذه المسألة عناية فائقة، ووضحوا ما أشكل فيها وبيَّنوها، وفصَّلوها تفصيلاً شافياً كافياً.
__________
(1) عرّف الفيروز آبادي الشبهة بأنها الالتباس، وكذا الرازي في مختار الصحاح). (انظر : (ترتيب القاموس المحيط) للزاوي 2/670، و (مختار الصحاح)، ص328).
وقال الفيومي في (المصباح المنير) ص 358: (والشبهة في العقيدة المأخذ الملّبس، سميت شبهة لأنها تشبه الحق).(1/191)
(كان الشيخ يحذر من نواقص الإيمان ومبطلاته، ويبينها، ويبعدها عن المسلمين، ويبعد المسلمين عنها، بكل ما استطاع.
... ولقد اهتم بذلك أيما اهتمام، حتى كاد أن يستأثر هذا الجانب بكل همته كما كاد أن يستأثر بالواقع في بداية الإصلاح؛ لأن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في هذه الناحية، وكيد الشيطان يتركز في هذا الجانب) .
ثالثاً: ... احتاجت مسألة التكفير والقتال هذا الاهتمام، نظراً لكثرة من رمى هذه الدعوة السلفية بشبهة (التكفير والقتال)، فما أكثر من أثار هذه الشبهة على دعوة الشيخ، وسيتضح ذلك جلياً عند نقل أقوال المناوئين في ذلك.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى أن بعض العلماء المحققين ممن عرف عنهم سلامة المعتقد، قد تأثروا بتلك الشبهة وصدقوا تلك الدعوى - بكل ما فيها من حق أو باطل .
كما هو واضح من حال الإمام محمد بن علي الشوكاني، حيث يقول الشوكاني عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه :
(ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلاً تحت دولة صاحب نجد، وممتثلاً لأوامره خارج عن الإسلام) (1)
__________
(1) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 2/5.
ويقول عبد العليم البستوي - أثناء ترجمته لكتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم)، ص 177 - معلقاً على عبارة الشوكاني - التي سبق إيرادها - (لقد كتب الإمام الشوكاني البدر الطالع أيام كانت الحروب قائمة على قدم وساق بين الأمير عبد العزيز بن سعود والشريف غالب).
ومن الإنصاف للإمام الشوكاني - رحمه الله - أن نذكر أنه قد وصف هذه الدعوة بأوصاف صادقة، وذلك قبل الكلام الذي نقلناه، ويبدو أنه حين نقل شيئاً من أحوال هذه الدعوة، أنه غير متوثق ومتأكد من تلك الأقوال، لذا نجده يقول : (وتبلغنا عنه أخبار الله أعلم بصحتها)، كما أنه أثنى خيراً على ما تضمنته رسالة الإمام عبد العزيز بن سعود، ووصف ما فيها أنه اعتقاد حسن يوافق الكتاب والسنة، ولا ننسى قصيدته المؤثرة في رثاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.(1/192)
كما أن الشيخ محمد بن ناصر الحازمي قد تأثر بتلك الدعاوى.. فذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثنى عليه خيراً، ومدحه بحسن الاتباع …، ولكن أنكر عليه خصلتان , الأولى: تكفير أهل الأرض بمجرد تلفيقات لا دليل عليها..، والأخرى: التجاري في سفك الدم المعصوم بلا حجة ولا برهان.(1)
وكذا الشيخ محمد صديق حسن، صدّق هذه الشبهات، فأعلن في كتابه. (ترجمان الوهابية) براءة أهل الحديث من الوهابيين، لأن الوهابيين - كما يذكر محمد صديق حسن - يعرفون بإراقة الدماء، وينص محمد صديق - عفا الله عنه - أن مصدره في هذه المعلومات هي كتب العلماء المسيحيين !. (2)
__________
(1) انظر : (أبجد العلوم، 3/194، وقد ذكر صديق حسن خان في كتابه) الحطة في ذكر الصحاح الستة)، ص151 قولاً للحازمي من كتابه (فتح المنان)، أثنى فيه على الشيخ الإمام ثناءً حسناً، ولم يورد شيئاً من المآخذ، ويبدو أن الحازمي قد تغير موقفه، حين تبين له الصواب، فبعد أن كان يتهم الشيخ بالتكفير والقتال، نجده يدافع عنه أصدق دفاع وأقواه في كتابه - المخطوط - (إيقاظ الوسنان).
(2) انظر : كتاب (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) للنعماني ص103، ص104 ولتحقيق موقف محمد صديق حسن من دعوة الشيخ الإمام يراجع ما كتبه عبد العليم البستوي أثناء ترجمته لكتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) لمسعود الندوي ص175 - 177.
ويظهر أن مقام الشيخ محمد صديق حسن عند أئمة الدعوة الوهابية كان مقاماً رفيعاً بدليل أن ابن سحمان أنشد قصيدة في الدفاع عن محمد صديق حسن وكتابه (الدين الخالص) كما يظهر الثناء الحسن والتقدير الكبير في الرسالة التي بعثها الشيخ حمد بن عتيق إلى محمد صديق حسن مبدياً بعض الملاحظات على تفسيره (فتح البيان).(1/193)
وممن تأثر وصدّق هذه الدعاوى، الشيخ أنور شاه كشميري، فزعم - عفا الله عنه - أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - يتسارع إلى الحكم بالتكفير (1).
رابعاً: إن هذه المسألة تميزّت عن غيرها، أن الكثير من المخالفين من عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - يوافقونه فيما دعا إليه من بيان التوحيد وتقريره، والنهي عن الشرك والتحذير منه، وسد ذرائعه، دون أن يوافقوه في مسألة التكفير والقتال.
ومما يدل على ذلك ما قاله الشيخ بنفسه رحمه الله حاكياً حال خصومه: (وإذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، أن التوحيد الذي أظهره هذا الرجل هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك، وهو صادق في إنكاره، ولكن لو يسلم من التكفير والقتال كان على حق … هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد)(2).
ويقول الشيخ - في موضع آخر - مبيناً وجه مخالفة خصومه:
(فلما أشتهر عنى هؤلاء الأربع (3)، صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان، في التوحيد، وفي نفس الشرك، وردوا على التكفير والقتال) (4).
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لإخوانه تلك الشبهة والجواب عليها:
__________
(1) انظر : بحث (الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ الإمام).. لمحمد يوسف ضمن بحوث أسبوع الشيخ 2/259، وكتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم)، ص 182، وكتاب (دعايات مكثفة ضد الشيخ) ص 135 - 146.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/26.
(3) هذه الأربع بإيجاز.
- بيان التوحيد.
- بيان الشرك
- تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه ونفر الناس عنه.
- الأمر بقتال هؤلاء المبغضين للتوحيد.
انظر : توضيح هذه الأمور الأربعة في مجموعة (مؤلفات الشيخ) 5/24، 25.
(4) المرجع السابق 5 / 25.(1/194)
(ولكنهم يجادلونكم اليوم، بشبهة واحدة، فاصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون كل هذا حق، نشهد أنه دين الله ورسوله، إلا التكفير والقتال، والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا، إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله، كيف لا يكفر من أنكره (1)، وقتل من أمر به (3) وحسبهم … إلى آخر جوابه رحمه الله) (2).
فهذه بعض الدوافع التي أدت إلى التوسع والإطالة - نوعاً ما - في هذا الفصل، ونظراً لطول هذا الفصل وتعدد قضاياه، فقد قسمته إلى سبعة مباحث على الترتيب الآتي:
المبحث الأول ... : مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير مع الرد والدحض لها.
المبحث الثاني ... : فرية أن الوهابيين خوارج، وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض.
المبحث الثالث ... : شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس منها عرض ثم رد.
المبحث الرابع ... : شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة - عرض ثم رد.
المبحث الخامس : شبهة عدم طروء الشرط على هذه الأمة - عرض ثم رد.
المبحث السادس : شبهة تنزيل آيات في المشركين على المسلمين - عرض ثم رد.
المبحث السابع : شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة - عرض ثم رد.
المبحث الأول
مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير - مع الرد والدحض لها.
إن كتب ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذا رسائل ومؤلفات أئمة وعلماء الدعوة، وأنصارها، قد بينت مسألة التكفير والقتال، وأعطت المسألة حقها من البيان الوافي، والتفصيل التام.
ومع كل هذا البيان والتفصيل، نجد أن هؤلاء الخصوم يفترون على دعوة الشيخ، الكذب والبهتان، ويختلقون من عند أنفسهم الإفك وإلصاق التهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون، فليس عندهم نقل صحيح، ولا يملكون دعوى بدليل.
__________
(1) ، (3) أي التوحيد.
(2) ط (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/272.(1/195)
لقد بينت هذه الدعوة السلفية، في باديء الأمر، عقيدة التوحيد، وقرر علماؤها عقيدة التوحيد بأقوى الأدلة وأوضح البراهين، وألفوا في بيان التوحيد وتقريره، الكثير من الكتب والرسائل.
لقد اهتم علماء الدعوة بتقرير التوحيد أولاً؛ لأنه أول واجب على المكلف، - كما هو معلوم -؛ ولأن من تصور حقيقة التوحيد تصوراً تاماً، فإنه لزاماً أن يتصور حقيقة ما يناقض التوحيد..
ويوضح هذا ما كتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في (منهاج التأسيس):
(أعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما الخفا بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك، وحصول التصور التام لهما، لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم، وعدم معرفة الحدود، والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمَّه، ومثال ذلك أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان، والجهل بالحقيقتين، أو أحدهما أوقع كثيراً من الناس في الشرك، وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها، وإن ساعد الجهل وقصور العلم عوائد مألوفة، استحكمت البليَّة وتمكنت الرزيَّة..)(1).
ولم يقصر علماء الدعوة جهدهم على تقرير عقيدة التوحيد فحسب، بل تجاوزوا ذلك.. إلى أن حذروا من الشرك.. فذكروا نواقض الإسلام، وأوردوا أنواع الشرك والكفر وأقسامه، تحذيراً للأمة وكشفاً للغمة، كما سدّوا وسائل الشرك وذرائعه، فرحمهم الله جميعاً.
وإن نظرة سريعة إلى آثارها العلمية ومواقفهم العملية - في هذا المجال - لتعطي الجواب الوافي، والبيان الشافي لمسألة التكفير والقتال ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
__________
(1)(منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس)، ص 5، ص6.(1/196)
وسنورد الآن مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير والقتال – كما جاءت مدونة في مؤلفاتهم أو منقولة عنهم من غيرهم.
ثم نأتي بالردَّ والدحض، وذلك من خلال ما كتبه بعض أئمة هذه الدعوة السلفية.
من أوائل الكذّابين، ممن تولوا كبر هذا البهتان، ابن عفالق فقد افترى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورماه بتكفير المسلمين، فقال ابن عفالق عن هذا الإمام المجدد في جوابه على رد ابن معمر:
(وهذا الرجل كفَّر الأمة، بل والله وكذّب الرسل، وحكم عليهم وعلى أممهم بالشرك). (1)
ويقول ابن عفالق – مخاطباً عثمان ابن معمر:
(فجعلتم تكفير العترة النبوية، وسبّهم، ولعنهم، أصلاً من أصول دينكم)(2).
ويستمر ابن عفالق – في إفكه – منفراً ابن معمر عن الانتصار لهذه الدعوة السلفية، فيصف ابن عفالق الشيخ الإمام بأنه:
(حلف يميناً بالله فاجرة أن اليهود والمشركين أحسن حالاً من هذه الأمة)(3).
ويخاطب ابن عفالق الشيخ الإمام في رسالة سمّاها (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين)، ويصفه بأنه قد ضلل وشتم هذه الأمة، وحكم عليها بالزيغ – حتى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم -، فقال الأفاك الأثيم:
(وقفت على القواعد التي بنيت عليها مذهبك.. فوجدتك قد ارتقيت فيها مرتقاً صعباً … شتمت فيه الأئمة، وسببت به أعلام الأمة، وهدمت به قواعد الملَّة المحمدية، وثلبت به جميع الأئمة المحمدية، حتى ارتقيت فيه إلى الجزم بزيغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الأربعة..) (4).
وينعق القباني بفرية التكفير والقتال، فيزعم أن الشيخ:
(كفّر هذه الأمة بأسرها، وكفّر كل من لم يقل بضلالتها وكفرها..) (5).
__________
(1) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر ق 58.
(2) المرجع السابق ق 63.
(3) المرجع السابق ق 65، 66.
(4) تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين)، ق1.
(5) فصل الخطاب في رد ضلالات بن عبد الوهاب، ق36.(1/197)
ويتهكم – القباني – بالشيخ المجدد وأتباعه، ويصور حالهم يوم القيامة فيقول مستهزئاً:
(.. وجاء كل واحد من الأنبياء والمرسلون ومعه الألوف من أمته، وجاء النبي الكريم وليس معه من أمته إلا النفر اليسير من أهل العيينة(1)، وأما الباقون فكلهم مخلدون في النار مع الكفار، مع ما لهم من كثرة الطاعات وأنواع العبادات) (2).
ويقول ابن سحيم – الخصم العنيد – في رسالته التي بعثها إلى علماء الأمصار محرضاً على الشيخ الإمام، ومنفراً عن دعوته، فيذكر تلك الفرية:
(ومنها أنه ثبت أنه يقول: الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء) (3).
ثم يزيد ابن سحيم في إفكه وكذبه وهو يقول:
(ومن أعظمها أنه من لم يوافقه في كل ما قاله، ويشهد أن ذلك حق، يقطع بكفره، ومن وافقه، ونحى نحوه، وصدّقه في كلَّ ما قال، قال: أنت موحَّد، ولو كان فاسقاً محضاً أو ما شاء..) (4).
ويخاطب المدعو محمد بن محمد القادري الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود – لما بلغته رسالة هذا الإمام -، فكان من خطابه هذا الإفك:
(فإنك لو تدبرت فيه بعين بصيرتك واعتبرت بها، لما كنت تحكم على الأمة المحمدية بالشرك الأكبر، من غير برهان، وليس هذا إلا شقاوة وخسران وحرمان) (5).
ويذكر - هذا القادري - بعد اطلاعه على رسالة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ما نصه - في وصف الإمام عبد العزيز (بأنه حكم على عوام المؤمنين والعلماء العاملين من أمة سيد الأنبياء والمرسلين بالشرك الأكبر..)(6).
ويخترع (الحداد) لفرية التكفير والقتال أوجهاً جديدة، فكان من إفكه – على الشيخ الإمام – ما نصّه:
__________
(1) ألف القباني كتابه في الرد على الشيخ الإمام سنة 1157هـ أي أثناء وجود الشيخ في العيينة – كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
(2) فصل الخطاب)، ق 104.
(3) فصل الخطاب في رد ضلالات بن عبد الوهاب)، ق165.
(4) المرجع السابق ق 168.
(5) رسالة في الرد على الوهابية ق 4.
(6) المرجع السابق ق 3.(1/198)
(إذا أراد رجل أن يدخل في دينه، يقول له اشهد على نفسك أنك كنت كافراً، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على العالم الفلاني والفلاني أنهم كفّار وهكذا، فإن شهد بذلك قبله، وإلا قتله..)(1).
ويخاطب الحداد الشيخ الإمام بهذا الكذب، فيقول:
(أيها النجدي كيف لا ترضى بالأحياء أن تجعلهم مشركين حتى تعديت أيها النجدي على أموات المسلمين من سنين عديدة تقول ضالين مضلين، حتى عينت أناساً من أكابر العلماء المحققين وأئمة مقتدى بهم صالحين..)(2).
ثم يدعو - هذا الحداد - إلى الشرك عن طريق الاستغاثة بالأموات، لمجرد مخالفة هذا النجدي، فيقول:
(وينبغي اليوم في هذا الوقت من الحوادث التي حدثت في الثلم في الدين باعتقاد العامة قول البدعي أن الاستغاثةشرك، فالعالم والمقتدى به ينبغي له أن يظهر الاستغاثة(3) ليقتدى به …)(4).
ويزعم حسن بن عمر الشطي في تذييله الذي كتبه في نهاية (رسالة إثبات الصفات) هذا الإفك، حيث يذكر من صفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
(تكفير المسلمين واعتقاده حل دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم) (5).
ويورد الشطي في تذييله - الآخر - الذي كتبه في خاتمة (رسالة في مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد) أن هذه الرسالة - كما يزعم - (مدارها على تكفير المسلمين وحل دمائهم وأموالهم) (6).
ومن أكاذيب الرافضي عبد الرؤوف على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كذبه بأن الشيخ سفك دماء آلاف المسلمين، يقول عبد الرؤوف:
__________
(1) مصباح الأنام ص5.
(2) المرجع السابق، ص 22.
(3) يقصد بالاستغاثة - ها هنا - أي الاستغاثة بالأموات. انظر : ما بعد هذا النص السابق وكذلك ص 61.
(4) مصباح الأنام)، ص 60.
(5) ق 164.
(6) ق 49.(1/199)
(فكيف حال رجل قتل آلاف من المسلمين القائلة لا إله إلا الله محمد رسول الله المتصدقين الصائمين الحاجين بيت الله الحرام، بل قتل الذريَّة والنسوان من غير بغي منهم، ولا عدوان زعماً منه أنه من أهل التوحيد فقط، والمسلمون كلهم مرتدون) (1).
ويكشف اللكنهوري عن إفكه حين افترى على الشيخ الإمام أنه يكفّر المسلمين ويستبيح دماءهم، فكان من إفكه ما نصّه:
(اعلم أن عقيدته هو أن جميع المسلمين سوى أهل نحلته كفّار مشركون، يحل أموالهم ودمائهم، ويجوز اتخاذهم عبيداً، ويستدل على ذلك بتلفيقات ما أنزل الله بها من سلطان) (2).
ورمى عثمان بن منصور الشيخ الإمام بهذا الفرية، فكان من إفكه أنه قال: (قد ابتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب، بمن خرج عليهم، وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة، إلا من وافقه على قوله، لما وجد من يعينه على ذلك..) (3).
ويصف عثمان الشيخ الإمام بكذب بحت فيقول:
(ولكن هذا الرجل جعل طاعته ركناً سادساً للأركان الخمسة …) (4).
ويتحدث شيخ الكذب دحلان عن فرية التكفير والقتال للمسلمين..، فمن أكاذيبه ومفترياته - ما ننقله بنصّه حيث يقول:
(فلا يعتقدون موحداً إلا من تبعهم فيما يقولون، فصار الموحدون على زعمهم أقل من كل قليل.
وقال له أخوه سليمان يوماً: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب فقال: خمسة، فقال: أنت جعلتها ستة، السادس من لم يتبعك فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس للإسلام (5).
ومن كذب دحلان قوله:
__________
(1) فصل الخطاب في نقض مقالة ابن عبد الوهاب، ق33.
(2) كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب)، ص52.
(3) نقلاً عن كتاب (مصباح الظلام)، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ص 16.
(4) المرجع السابق ص 101.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص 42، 43.(1/200)
(وكانوا يصرحون بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة، وأول من صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب، فتبعوه على ذلك، وإذا دخل إنسان في دينه، وكان قد حج حجة الإسلام قبل ذلك، يقولون له حج ثانياً فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك، فلا تسقط عنك الحج) (1).
ويزيد دحلان في قبح كذبه، وشناعة إفكه، حيث يقول:
(وكان يقول لهم: إني أدعوكم إلى الدين، وجميع ما هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق، ومن قتل مشركاً فله الجنة، فتابعوه، وصارت نفوسهم بهذا القول مطمئنة..) (2) .
ويسود الزهاوي - كعادته في مؤلفاته - الصحائف بأكاذيبه، وأباطيله فيرمي الشيخ الإمام بفرية تكفير المسلمين وقتالهم، يقول الزهاوي:
(ثم إنه صنف لابن سعود رسالة سماها (كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات)(3) كفّر فيها جميع المسلمين، وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة) (4).
ويكذب الزهاوي - مرة أخرى - حيث يقول:
(فمما تمذهبت به الفرقة المارقة الوهابية من الأباطيل: تكفيرهم لكل من خالفهم من المسلمين)(5).
ويكذب الزهاوي - ثالثة - فيقول:
(لو سأل سائل عما تمذهبت به الوهابية ما هو وعن غايته ما هي، فقلنا في جواب كلا السؤالين هو تكفير كافة المسلمين، لكان جواباً على اختصاره تعريفاً كافياً لمذهبها)(6).
ويورد أحد كذابي الرافضة فرية تكفير المسلمين وحل دمائهم، فيقول - بأسلوب المخادع :-
__________
(1) المرجع السابق، ص 50.
(2) المرجع السابق ص 46.
(3) ويظهر جلياً إفك الزهاوي وكذبه حين اتخذ هذا العنوان - كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات - ومن المعلوم أن رسالة الشيخ مشهورة ومعلومة بهذا العنوان فقط كشف الشبهات دون هذه الزيادة.
(4) الفجر الصادق)، ص19.
(5) المرجع السابق ص27.
(6) المرجع السابق ص64.(1/201)
(أراد الله أن يجعلهم فيما بينهم إخواناً وعلى العدو أعواناً.. فنقض ابن عبد الوهاب تلك القاعدة الأساسية، وعكس الآية، فصار يكفر المسلمين، ويضرب بعضهم ببعض، وما انجلت تلك الفترة إلا وهم بأيدي الأعداء ينقضون دعائم الدين.. الخ) (1).
ويدعي المبتدع أحمد رضا خان هذه الفرية، فيقول – حاكياً حال الشيخ الإمام ـ: (الذي يسعده أن يكفر أجداده ومشائخه، وهو لا يكتفي بهذا، بل يكفر سائر المسلمين ومن بينهم الأئمة والمشائخ … إن ابن عبد الوهاب قد أعلن عقب ظهور دينه الجديد أن الأمة الإسلامية منذ ستمائة سنة تتخبط في ظلام الشرك، وقد ردد الوهابيون قول زعيمهم فيما بعد) (2).
ثم يأتي محمد بن نجيب سوقية، فيسبق أقرانه إلى حضيض الكذب وقاع الإفك حيث يقول:
(إن مذهبهم تكفير الأموات، ورمي الأحياء بالشرك من الموحدين.. ولقائل أن يقول ممن عرفت إسناد الكفر والشرك لعامة الموحدين من طرف الوهابية، فالجواب أن ذلك مصرح في رسائلهم وكتبهم …). (3)
ومن أفراخ الخصوم في زماننا الحاضر، نورد أقوال ثلاثة منهم، ممن بهت الشيخ الإمام – رحمه الله وكذا أتباعه – من بعده - وأنصار دعوته بفرية تكفير المسلمين واستحلال دمائهم..
يذكر الشيعي محمد جواد مغنية تلك الفرية مقتدياً بأسلافه – الرافضة – في الكذب والبهتان، فيقول:
(وليس من شك أنهم يريدون بالموحدين الوهابية أنفسهم، وبالمشركين جميع المسلمين بدون استثناء). (4)
ويورد حسين بن حلمي ايشيق تلك الفرية، فيقول في تعليقه على كتاب (الإيمان والإسلام) لخالد البغدادي، أثناء كذبه على الوهابيين:
(ولا يحسبون غير أنفسهم مسلمين، ويكفرون ما عداهم، ويقولون أن أموالهم وأنفسهم مباحة للوهابيين) (5).
__________
(1) محمد حسين، (نقض فتاوى الوهابية) ص 24.
(2) أعز النكات بجواب سؤال أركات (باللغة الأوردية).
(3) تبيين الحق والصواب)، ص 8، باختصار.
(4) هذه هي الوهابية)، ص 111 بتصرف.
(5) ص31.(1/202)
ويورد ثالثهم وهو المدعو مالك بن داود - أحد أدعياء التصوف - في كتابه الذي سماه (الحقائق الإسلامية) هذه الفرية، فكان من بهتانه:
(وبعض العلماء يسمون الدعوة الوهابية بـ (الدعوة الدموية)). (1)
ويزعم أن الوهابيين (مصممون على أن من لم يكن وهابياً فهو مشرك، يجب هجرانه ولا يجوز التعامل معه فيما يخص الدين، أو الدنيا). (2)
ويكذب عليهم حين يقول:
(الغاية التي يسعون إلى تحقيقها هي إثبات السنية لهم خاصة، وتكفير جماعة المسلمين من غيرهم). (3)
وبعد أن أوردنا بعض هذا الغث والركام لهؤلاء الخصوم، حين قذفوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بتكفير المسلمين، ننتقل إلى سياق بعض ردود علماء هذه الدعوة السلفية على تلك الفرية، وبيانهم للحقيقة - كما هي -، وسيتضح - يقيناً - تهافت هذه الفرية وينكشف زيفها، وإن كثر قائلوها، فلا تعجبك كثرة الخبيث، فالزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
لقد بلغت هذه الفرية الخاطئة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، فتعددت ردوده وأجوبته عليها، ولأن فرية تكفير المسلمين واستباحة دمائهم قد شاعت وذاعت في غالب بلاد المسلمين، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، فقد حرص الشيخ - رحمه الله - على تأكيد هذه الردود, وإعلان براءته مما ألحق به..، فأرسل هذه الردود إلى مختلف البلاد.
__________
(1) ص16.
(2) ص20.
(3) ص21.
لزيادة معرفة مفتريات الخصوم في اتهام الشيخ بفرية التكفير انظر إلى :
(حاشية ابن عابدين) 4/260.
(حاشية الصاوي على الجلالين) 3/307، 308.
(كشف الارتياب) للعاملي ص 114.
(البراهين الجلية) للموسوي ص71.
(المعتقد المنتقد) ص 217.
(المقالات الوفية) لخزبك ص185، 188.
(رسالة في الرد على الوهابية) للمحجوب ص 4، 5.
(تاريخ المذاهب الإسلامية)، 1 / 236 وغيرها.(1/203)
فعلى النطاق المحلي في منطقة نجد، نلاحظ أن الشيخ قد بعث رسالة لأهل الرياض ومنفوحه، ينفي تلك الفرية، يقول الشيخ الإمام رحمه الله:
(وقولكم إننا نكفر المسلمين، كيف تفعلون كذا، كيف تفعلون كذا. فإنا لم نكفر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين). (1)
ويبعث رسالة لمحمد بن عيد أحد مطاوعة ثرمداء، يقول فيها:
(وأما ما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن، والموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله). (2)
وفي رسالته لأهل القصيم، يشير رحمه الله إلى مفتريات الخصم العنيد ابن سحيم ويبريء نفسه من فرية تكفير المسلمين وقتلهم، يقول الشيخ الإمام:
(والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أموراً لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي، فمنها قوله: أني أقول أن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وأني أكفر من توسل بالصالحين، وأني أكفر البوصيري، وأني أكفر من حلف بغير الله.. جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم. (3)
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بطلان تلك الفرية، ويدحضها فيقول - في رسالته لحمد التويجري -:
(وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعد ما تبيّن له الحجة على بطلان الشرك…).(4)
ويؤكد الشيخ الإمام - مرة أخرى - بطلان تلك الدعوى، وأنها دعوى كذب وبهتان، فيقول جواباً على سؤال الشريف.. (5)
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ، 5 / 189.
(2) المرجع السابق 5/25.
(3) المرجع السابق 5/11، 12 وذكر ذلك – أيضاً – في رسالته لعبد الله بن سحيم مطوع المجمعة 5/62.
(4) المرجع السابق 5/60.
(5) لم يذكر اسم هذا الشريف.(1/204)
(وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: أنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله..). (1)
ويبعث الشيخ رسالة لأحد علماء المدينة لدحض فرية تكفير الناس عموما، يقول الشيخ:
(فإن قال قائلهم أنهم يكفرون بالعموم فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفّر أهل التوحيد). (2)
ويكتب الشيخ الإمام إلى إسماعيل الجراعي صاحب اليمن تكذيباً لهذه الفرية قال الشيخ:
(وأما القول بأنّا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم).(3)
ولما أرسل أحد علماء العراق وهو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي كتاباً للشيخ الإمام يسأله عما يقوله الناس فيه … من تكفير الناس إلا من تبعه … فأجابه الشيخ بجواب ذكر فيه كيد الأعداء ثم أعقبه برد فرية الخصوم:
(وأجبلوا علينا بخيل الشيطان ورجله، منها: إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه، ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من تبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون..) (4).
وينفي الشيخ حسين بن غنام فرية تكفير المسلمين عن الشيخ الإمام، ويؤكد أن الخصوم هم الذين كفّروا الشيخ واستحلوا دمه، يقول رحمه الله - في وصف الشيخ -:
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 3/11.
(2) المرجع السابق 5/48.
(3) المرجع السابق 5/100.
(4) المرجع السابق 5/36.(1/205)
(إنه رحمه الله لما تظاهر ذلك الأمر والشأن، في تلك الأوقات والأزمان، والناس قد أشربت منهم القلوب بمحبة المعاصي والذنوب، وتولعوا بما كانوا عليه من العصيان، وقبائح الأهواء على كل إنسان، لم يسرع لها لسان، ولم يصمم منه لب أو جنان على تكفير هؤلاء العربان، بل توقف تورعاً عن الإقدام في ذلك الميدان، حتى نهض عليه جميع العدوان، وصاحوا وباحوا بتكفيره وجماعته في جميع البلدان، ولم يثبتوا فيما جاءوا به من الإفك والبهتان، بل كان لهم على شنيع ذلك المقال إقدام وإسراع وإقبال، ولم يأمر رحمه الله بسفك دم ولا قتال على أكثر الأهواء والضلال).(1)
ويفند الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب تلك الفرية، فيقول:
(وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأننا نكفر الناس على الإطلاق، أهل زماننا، ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن فيه، ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله … فلا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً، كان جوابنا في كل مسألة من ذلك (سبحانك هذا بهتان عظيم)، فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا، فقد كذب وافترى، ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا علم قطعياً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كقتل المسلم بغير حق، والزنا، والربا وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك، أنه لا يخرج بفعله ذلك من دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحداً بجميع أنواع العبادة). (2)
__________
(1) روضة الأفكار، 1/33.
(2) الهدية السنية) ص 40.(1/206)
ويدل على براءتهم - أيضاً – من تلك الفرية ما يقوله الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – في موضع آخر:
(إن صاحب البردة وغيره ممن يوجد الشرك في كلامه والغلو في الدين، وماتوا لا يحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان من اعتقد هذا على الظاهر فهو مشرك كافر، وأما القائل فيرد أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي التعرض للأموات، لأنه لا يعلم هل تاب أم لا..). (1)
ولما سئل الشيخ عبد العزيز بن حمد سبط الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن تلك الفرية، كان جوابه رحمه الله – بعد أن ساق السؤال _:
(وأما السؤال الثاني وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم ويتسم بسمة دولتكم، وهل داره دار كفر وحرب على العموم الخ.
فنقول وبالله التوفيق: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم كما يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ولم نكفر أحداً دان بالإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده فقد كذب وافترى). (2)
ومن الحجج الدامغة التي سطرها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وأزهق بها فرية عثمان بن منصور حين قذف الشيخ الإمام بتكفير المسلمين وقتلهم، يقول الشيخ عبد اللطيف في (مصباح الظلام) دحضاً لذلك:
(هذه العبارة تدل على تهور في الكذب، ووقاحة تامة، وفي الحديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت). (3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 1/47.
(2) المرجع السابق 4/574.
(3) رواه البخاري.(1/207)
وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع الأمة من المبعث النبوي إلى قيام الساعة إلا من وافقه على قوله الذي اختص به، وهل يتصور هذا عاقل عرف حال الشيخ وما جاء به ودعا إليه، بل أهل البدع كالقدرية والجهمية والرافضة والخوارج لا يكفرون جميع من خالفهم، بل لهم أقوال وتفاصيل يعرفها أهل العلم، والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة، ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب – أعني ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العمل والعبادات – مجمع عليه المسلمين لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم وعدل عن مناهجهم). (1)
كما يوضح الشيخ عبد اللطيف تورع جده – الشيخ الإمام – عن التكفير فيقول: (والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور، أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها). (2)
ويورد الشيخ عبد اللطيف – في إحدى رسائله – معتقد الشيخ الإمام في مسألة التكفير فيقول:
(فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية) (3).
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف أن من عرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أدرك براءته من تلك الفرية الكاذبة فيقول – رحمه الله -:
__________
(1) ص21، وانظر : ص22.
(2) منهاج التأسيس)، ص 65، 66.
(3) مجموعة الرسائل) 3/5.(1/208)
(كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يعلم أنه من أعظم الناس إجلالاً للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهياً عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم، بل هو ممن يدينون بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم، والشيخ رحمه الله لم يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأجمعت الأمة على كفره كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين)(1).
وتضمنت مناظرة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن لداود بن جرجيس، تفنيداً لفرية تكفير الناس فيقول الشيخ عبد اللطيف:
(وأما القول بأنا نكفر الناس عموماً ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، سبحانك هذا بهتان عظيم)(2).
ويدحض الشيخ صالح بن محمد الشتري كذبهم، فيقول:
(وأما ما ادعاه أعداءه المعاصرون له أنه كفر بالعموم، أو يكفر بالذنوب أو يقاتل من لا يستحق قتلاً، أو يستحل دمه وماله، فالجواب أن نقول سبحانك هذا بهتان عظيم، ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب تبرأ فيهن مما نسب إليه أعداؤه وأن مذهبه مذهب السلف الصالح..) (3).
ويجمل السهسواني الجواب على مفتريات شيخ الكذب دحلان في اتهام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب فيقول:
(هذا كله افتراء بلا ريب على الشيخ، يعرفه من له رائحة من الإيمان والعلم والعقل).(4)
ويقول أيضاً - بعد ذكر مفتريات أخرى لدحلان في قذف الشيخ الإمام بتكفير الناس -:
__________
(1) المرجع السابق 3/449.
(2) تاريخ نجد، للألوسي ص52.
لا أدري عن هذه المناظرة بينهما، هل وقعت مناظرة فعلية بين الشيخ عبد اللطيف وبين داود، أم أن الشيخ الآلوسي كتب وألف هذه المناظرة بناءً على إطلاعه على ما كتبه كلا الرجلين.
(3) تأييد الملك المنان) ق 54.
(4) صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان)، ص 485.(1/209)
(الجواب على هذه الأقوال كلها أنها على طولها وكثرتها كاذبة خبيثة فلا تعجبك كثرة الخبيث). (1)
وينفي السهسواني مزاعم دحلان التي رمى بها دعوة الشيخ في مسألة التكفير..، فيقول:
(أن الشيخ وأتباعه لم يكفروا أحداً من المسلمين، ولم يعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالفهم هم مشركون، ولم يستبيحوا قتل أهل السنة وسبي نسائهم … ولقد لقيت غير واحد من أهل العلم من اتباع الشيخ، وطالعت كثيراً من كتبهم، فما وجدت لهذه الأمور أصلاً وأثراً، بل كل هذا بهتان وافتراء).(2)
ومما قاله محمد رشيد رضا معلقاً - على الكلام السابق -:
(بل في هذه الكتب خلاف ما ذكر وضده، ففيها أنهم لا يكفرون إلا من أتى بما هو كفر بإجماع المسلمين) (3).
ويورد الشيخ سليمان بن سحمان الدفاع عن الشيخ الإمام، ويبرأه من هذا البهتان فيقول رحمه الله – حاكياً حال الشيخ:
(فإنه رحمه الله كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.. فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأجمع على تكفيره الأمة، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم.. ويؤمن بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول، ومن نسب إليه خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم …). (4)
وكتب أحمد الكتلاني في (الصيب الهطال) – دفاعا عن الشيخ في هذا المقام – قريباً مما كتبه ابن سحمان (5).
وأجاب أحد علماء نجد على تلك الفرية، حيث تلقفها صاحب جريدة القبلة وزعم أن الوهابيين يلزمون الناس بتكفير آباءهم وأجدادهم.
فكان جواب هذا العالم:
__________
(1) المرجع السابق ص 486.
(2) المرجع السابق ص 518.
(3) المرجع السابق ص 518.
(4) الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد، ص 56، 57.
(5) انظر : الصيب الهطال في الرد على شبه ابن كمال، ص 55، 56.(1/210)
(وهذا من نمط ما قبله من الكذب والبهتان، والذي نقوله في ذلك أن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة إليه، فالذي يحكم عليه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك، فظاهره أنه مات على الكفر فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى فإن كانت قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله. وأما من لا نعلم حاله في حال حياته، ولا ندري ما مات عليه، فإنا لا نحكم بكفره، وأمره إلى الله فمن نسب إلينا غير هذا فقد كذب علينا وافترى وحسبنا الله ونعم الوكيل)(1).
ويكذّب الشيخ محمد بن عثمان الشاوي هذا البهتان، فيقول في رسالته (القول الأسد):
(فإنا لم نكفر بالعموم، ولا نكفر إلا من قام الدليل القاطع على كفره، بصرفه حق الله لغيره، ودعائه، والتجاءه إلى ما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلا عن غيره …).(2)
ويهاجم القصيمي في كتابه (الصراع) خصوم الشيخ - من الرافضة - مؤكداً براءة الشيخ من فرية التكفير، وأن هؤلاء الرافضة أحق وأجدر بهذا الوصف فيقول:
(إن من عجائب الأيام وفكاهاتها المضحكة قوماً، المبكية قوماً آخرين، أن تذهب الشيعة تتهم أهل السنة من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بإكفار المسلمين وإحلال دمائهم وأموالهم، في حين أن الشيعة تعلن على رؤوس الملأ ومسامع العالمين إكفار خيار الأمة، وإكفار كبراء الصحابة، ومن تولاهم من فرق المسلمين، والذي يكفر خيار الصحابة كالصديق وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم .. كيف لا يمنعه الحياء من أن يتهم أحدا بإكفار المسلمين..). (3)
__________
(1)(مجموع الرسائل والمسائل) 4/835.
(2)(القول الأسد في الرد على الخصم الألد) ق 5.
(3)(الصراع بين الإسلام والوثنية) 1/348 باختصار.(1/211)
من خلال هذه النقول المتعددة تظهر براءة الشيخ الإمام، وكذا أتباعه وأنصار دعوته من مفتريات وأكاذيب الخصوم في مسألة التكفير، ومن طالع كتبهم وقرأ رسائلهم تبين له صحة معتقدهم وسلامة فهمهم لمسألة التكفير، وإن اعتقادهم فيها هو عين اعتقاد السلف الصالح.
المبحث الثاني : فرية أن الوهابيين خوارج،وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض لها
هذا المبحث يرتبط - كثيراً - بالمبحث السابق، ففي المبحث السابق تحدثنا عن فرية تكفير الوهابية للمسلمين، وفي هذا المبحث نتحدث عن فرية أن الوهابيين خوارج، فهناك تداخل بين المبحثين، وذلك لأن الخوارج قد عرف عنهم التكفير لأصحاب المعاصي من المسلمين، فجعل الخصوم الوهابيين كالخوارج في هذه المسألة، ولهذا فلن نتحدث عن هذا الجانب تفصيلاً ففي المبحث السابق كفاية وغنية عن التكرار، وإنما سنتحدث عن فرية الخصوم في رميهم للوهابيين بهذا الوصف - أي الخوارج -، وذمهم والطعن فيهم لأنهم خوارج سيماهم التحليق (1)، ولأن بلادهم ومحل ظهورهم هو نجد التي هي قرن الشيطان.. بلاد مسيلمة الكذّاب.. إلى آخر تلك الدعاوى الباطلة، ثم نتبعها بالرد والدحض.
لقد تعددت مزاعم الخصوم بهذه الفرية الخاطئة، وتنوعت أباطيلهم، فمرة يتهمون الشيخ بأنه من الخوارج، وأن سيماهم التحليق.. ومرة يطعنون في الشيخ الإمام وفي دعوته بحجة أن موطنه نجد اليمامة، ونجد هي قرن الشيطان كما في الحديث، وهي موطن الزلازل والفتن، وثالثة يزعمون أنه من نسل ذي الخويصرة التميمي.. إلى آخر هذه الترهات والأباطيل.
ونلاحظ أن بن عفالق من أوائل المفترون في ذلك، حيث ينعى على الوهابيين بأن موطنهم هو نجد -قرن الشيطان - وأنهم من بقايا فتنة مسيلمة الكذاب، يقول ابن عفالق في رسالته لابن معمر:
__________
(1) أي علامتهم حلق شعر الرأس.
انظر : (صحيح مسلم)، (شرح النووي)، المطبعة المصرية 7/167.(1/212)
(وفي فضل أهل الشام واليمن والحرمين وفارس ما يعرفه من له أدنى معرفة بالأحاديث وأما أنتم يا أهل اليمامة ففي الحديث الصحيح عندكم يطلع قرن الشيطان، وأنتم لا تزالون في شر من كذّابكم إلى يوم القيامة. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). (1)
ويقول: (فبماذا يجاوبون من هذه حالته ودعواه، أيدينون بالرجعة ويقولون هذا مسيلمة قد ظهر بوادي حنيفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المشهور أنهم لا يزالون في فتنة من كذّابهم إلى يوم القيامة..). (2)
ويذكر سليمان بن عبد الوهاب الدليل على بطلان دعوة أخيه الشيخ الإمام، وهو أن موطنه بلاد المشرق، بلاد مسيلمة الكذّاب، فيقول:
(ومما يدل على بطلان مذهبكم ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأس الكفر نحو المشرق) …. فلو علم أن بلاد المشرق خصوصاً نجد بلاد مسيلمة أنها تصير دار الإيمان، وأن الطائفة المنصورة تكون بها.. وأن الحرمين الشريفين واليمن تكون بلاد كفر تعبد فيها الأوثان، وتجب الهجرة منها، لأخبر بذلك، ولدعى لأهل المشرق خصوصاً نجد، ولدعى على الحرمين واليمن وتبرأ منهم، إذ لم يكن إلا ضد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم عمَّ المشرق، وخصَّ نجد بأن منها يطلع قرن الشيطان). (3)
ويسوق (الحداد) بعض تلك الفرية، فيزعم أن الشيخ الإمام هو قرن الشيطان يقول الحداد في كتابه (مصباح الأنام):
__________
(1) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 49.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق 56.
(3) فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب)، ص 44، 45 باختصار، وهو مطبوع بعنوان (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)، - كما تقدم.(1/213)
(وقد استنبط العلماء من مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم (يطلع منها - أي نجد - قرن الشيطان) من معجزاته، لأنه أتى بالياء للاستقبال؛ لأن مسيلمة لعنه الله، في حياته عليه السلام طلع، وادعى النبوة، وهلك في خلافة الصديق..، ولم يطلع قرن الشيطان إلا بعد الألف والمائة والخمسين، وهو محمد بن عبد الوهاب رأس هذه البدعة وأسّها).(1)
ويورد (الحداد) بعضاً من علامات الخوارج، ليدعي - زوراً - وجودها عند الوهابيين فيقول كاذباً:
(وأهم من ذلك كله ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة المبينة لعلامات الخوارج، مما يبين أن ابن عبد الوهاب وأتباعه منهم، ككونهم من نجد، وكونهم من المشرق، ومعلوم أن نجدا شرقي المدينة، وكون سيماهم التحليق، مع كونهم من المشرق). (2)
ويقول الحداد:
(قال السيد العلامة المنعمي في مطلع قصيدة له في الرد على النجدي لما قتل عدة لم يحلقوا رؤوسهم قال:
أفي حلق رأسي بالسكاكين والحد ... ... ... ... حديث صحيح بالأسانيد عن جدي) (3)
ويأتي أفاك آخر، وهو المدعو عبد الرؤوف، حيث ساق حديث (اللهم بارك لنا في شامنا)، وما ورد في شأن الخوارج من الأحاديث.. ثم قال:
(المراد به أصحاب ابن عبد الوهاب فإن شعارهم تحليق شعر رؤوسهم أجمع، وعدم اتخاذ القنازع كما هو الأعراب قديماً وحديثاً، وإذا دخل الرجل في دينهم، أول ما يأمرونه به حلق شعر رأسه أجمع، وبهذا تعرف الوهابية عن سائر الأعراب كما هو معروف، فالحديث نص على رد الوهابية) (4).
ويدعي الصاوي - كذباً وتلفيقاً - أن علماء الدعوة وأتباعها خوارج (وأنهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون..). (5)
__________
(1) ص7.
(2) ص5 باختصار.
(3) ص6.
(4) فصل الخطاب ق 15.
(5) حاشية الصاوي على الجلالين 3/307، 308.
زعم الصاوي هذا الإفك عند تفسيره لقوله تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا.. } (سورة فاطر آية 8)، فذكر القول بأنها نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة، ويستحلون بذلك بدماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد في نظائرهم وهم فرقة يقال لهم الوهابية.. إلى آخر هذا الافتراء.
وانظر : إلى الرد الذي كتبه أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه (تنزيه السنة والقرآن). فقد بين ضلال الصاوي وانحرافه وزيفه ص 150 - 157.(1/214)
ويؤكد ابن عابدين – في حاشيته – هذا الإفك، فيزعم أن أتباع الشيخ الإمام يدخلون في مسمى الخوارج.(1)
ويفتري محسن بن عبد الكريم على أتباع هذه الدعوة السلفية بأنهم خوارج، ويصفهم بأنهم مارقة…(2)، ويتحدث عن فرية التحليق، فيقول:
(والتحليق الذي صار شعارهم فلا يقبلون من أحد الدخول فيما هم فيه حتى يحلق رأسه، حتى قال المولى عبد الله بن عيسى في كتابه (السيف الهندي): إنه بلغني أنه حلق ناس من أهل تهامة رؤوسهم على ضوء السراج نحو ستمائة رجل في ليلة واحدة فكيف بالنهار..). (3)
ويقذع الرافضي اللكنهوري في السب والشتم، فيجعل الخوارج هم سلف الوهابيين، فكان من إفكه أنه قال:
(وإن لهم أسوة في من سلف من الخوارج الحرورية، لعنهم الله، حيث كفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وجميع المسلمين من أصحابه وأنصاره بتلفيقات تشبهها أقوال هؤلاء الوهابية واستحلوا بذلك دماءهم وأموالهم.
ولو تأملت بصائب النظر في تاريخهم لوجدت الوهابية ممن يحذو حذوهم في العقائد.. ثم إنك لو أمعنت النظر لوجدت شيوخ أولئك الخوارج من أهل نجد) (4).
ويزعم عثمان بن منصور أن نجد اليمامة هي قرن الشيطان، فيقول: (وقد امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الدعاء لها لما دعا للشام ولليمن والمدينة، لما علم بعلم الله ما يحدث فيها ومنها، وقال فيها (أولئك منها الزلازل والفتن، ومنها ما يظهر قرن الشيطان). (5)
ويورد شيخ الكذب والبهتان أحمد دحلان، اتهامه لأنصار هذه الدعوة السلفية بفرية التحليق فيقول:
__________
(1) انظر : (حاشية ابن عابدين) 4 / 262.
(2) انظر (لفحات الوجد عند فعلات أهل نجد)، ق 76. فقد زعم صاحب اللفحات أن الوهابيين خوارج، وذكر علامات الخوارج كما أوردها يوسف بن إبراهيم الأمير 32 – 44.
(3) المرجع السابق ق 45.
(4) كشف النقاب عن عقائد بن عبد الوهاب)، ص 77، 78.
(5) نقلاً عن (مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام)، ص 234.(1/215)
(وكانوا يأمرون من اتبعهم أن يحلق رأسه، ولا يتركونه يفارق مجلسهم إذا تبعهم، حتى يحلقوا رأسه، ولم يقع مثل ذلك قط من أحد من الفرق الضالة التي مضت قبلهم، فالحديث صريح فيهم، وكان السيد عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد يقول: لا يحتاج أن يؤلف أحد تأليفاً للرد على ابن بعد الوهاب، بل يكفي من الرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم. (سيماهم التحليق) فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم). (1)
ويتهم الرافضي محمد حسن الموسوي الوهابيين بأنهم على نهج الخوارج. ثم يقول كاذباً (أن الوهابية أصحاب الزلازل والفتن بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم). (2)
ويدعي النبهاني أن نجد اليمامة هي قرن الشيطان، وأنها من بلاد المشرق التي ذمها الرسول صلى الله عليه وسلم يقول النبهاني في رائيته الصغرى:
أشار رسول الله للشرق ذمّه ... ... وهم أهله لا غرو أن أطلع الشرا
به يطلع الشيطان ينطح قرنه ... ... رؤوس الهدى والله يكسره كسرا) (3)
وقد حشد الدجوي في مجلته (الأزهر) إحدى عشرة صفة من صفات الخوارج، وحملها - ظلماً وبغياً - على أنصار وأتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.(4)
كما زعم الأفاك الأثيم، والكذاب اللئيم الرافضي (العاملي) أن الوهابيين يشبهون الخوارج من ثلاث عشرة جهة.(5)
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 54.
(2) البراهين الجلية، ص 71.
(3) الرائية الصغرى، ص 27.
(4) انظر : (مجلة الأزهر)، م5، ص329.
وانظر : الرد مفصلاً في كتاب الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ص 112.
(5) انظر : كتابه كشف الارتياب، ص 114 - 126.
ومما يحسن ذكره - ها هنا - رداً على العاملي أن نسوق ما كتبه القصيمي حيث قال :
(ومن العجب الذي لا ينقضي أن يزعم العاملي بأن الوهابية يشبهون الخوارج في الجمود والغباوة وقد ألف جماعة من الشيعة - قديماً - رسالة سموها (الشيعة والمنار) وكان أحد مؤلفيها هذا الرجل - أي العاملي - وقد جاء بهذه الرسالة أن كربلاء أفضل من مكة لوجود آل النبي فيها، وفي الرسالة أيضاً أن زيارة آل البيت أفضل من الحج، فمن أغبى من هؤلاء وأجمد ؟ (عن كتاب) الصراع بين الإسلام والوثنية) 1/378.(1/216)
ويورد العاملي الأحاديث التي في ذم المشرق، وذم نجد، ليحملها على نجد اليمامة (1). ثم يدافع عن موطنه - العراق -، فيقول نافياً أن تكون العراق هي نجد قرن الشيطان-.
(وما يحكي عن بعض الوهابيين من أن المراد من نجد هو العراق؛ لأنها أعلى من الحجاز والنجد في اللغة ما أشرق من الأرض، معلوم الفساد، فإن نجداً حيثما يطلق بلا قيد يراد به بلادهم التي لا تسمى عرفاً إلا بهذا الاسم قديماً وحديثاً..) (2).
ويأتي العاملي بزور آخر، حيث يدعي أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من عشيرة ذي الخويصرة التميمي، وذلك لأن كلاهما من بني تميم، يقول العاملي:
(ومن الأخبار المرجح ورودها في الوهابية قوله صلى الله عليه وسلم في ذي الخويصرة التميمي أن من ضئضيء هذا قوماً يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم.. فيكون المراد من ضئضئه أي من أصله وعشيرته، لا من نسله وعقبه؛ لأن عشيرة الرجل هي أصله ومعدنه، وذو الخويصرة وابن عبد الوهاب من أصل واحد، من عشيرة واحدة فكلاهما تميمي.(3)
ويدعي الزهاوي أن من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إخباره عن هؤلاء الخوارج، يقصد أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -. (4)
ويزعم أحمد بن محمد الغماري أن دعوة الشيخ الإمام هي قرن الشيطان، فيقول: (ولما طلع قرن الشيطان بنجد في أواخر القرن الحادي عشر، وانتشرت فتنته، كانوا يحملون الأحاديث عليه وعلى أصحابه). (5)
ويردد أبو زهرة تلك الفرية - دون تورع أو تثبت - فيقول عن أتباع هذه الدعوة بأنهم:
(كانوا يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفرون مرتكب الذنب)(6).
__________
(1) انظر : (كشف الارتياب)، ص 119، 120.
(2) المرجع السابق، ص 120.
(3) المرجع السابق، ص 123.
(4) انظر : (الفجر الصادق) ص 20.
(5) نقلاً عن (إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة) للشيخ حمود التويجري ص 132.
(6) تاريخ المذاهب الإسلامية 1/236.(1/217)
كما أن الشيعي محمد جواد مغنية يزعم أن الوهابية لا تختلف عن الخوارج في مسألة التكفير …. (1).
إن هذا الركام - من تلك الأكاذيب - الذي افتراه خصوم الدعوة السلفية ما يلبث أن يتلاشى ويزول، فيكون كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وذلك عندما نسوق ما سطّره بعض أتباع هذه الدعوة السلفية من الحجج الواضحة والأدلة الدامغة في دحض ذلك البهتان.
لقد كذب الخصوم على الشيخ الإمام حين زعموا أنه يكفّر المسلمين بالذنوب فإن الشيخ قد أوضح في هذه المسألة، فقال في رسالته لأهل القصيم:
(ولا أكفّر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه عن دائرة الإسلام) (2).
ومع أن الإمام الشوكاني - رحمه الله - في باديء الأمر لم تبلغه معلومات موثقة عن هذه الدعوة السلفية، إلا أنه لم يصدق تلك الدعاوى الكاذبة، فقال:
(وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحاً) (3).
(سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر - رحمه الله -، فقال السائل: إنكم تكفرون بالمعاصي.
فأجاب: ليس هذا قولنا، بل هذا قول الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ولم نكفّر أحداً بعمل المعاصي، بل نكفّر من فعل المكفرات كالشرك بالله بأن يعبد معه غيره، فيدعوا غير الله، أو يذبح له، أو ينذر له، أو يخافه، أو يرجوه، أو يتوكل عليه، فإن هذه الأمور كلها عبادة لله بنص القرآن … إلى آخر جوابه رحمه الله)(4).
ويفند الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فرية (التحليق) فيقول:
__________
(1) انظر : (هذه هي الوهابية) ص 70.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/11.
(3) البدر الطالع 2/6.
(4) الدرر السنية 8 / 204.(1/218)
(وأما البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتداً، والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل إن الحلق مسنون فضلاً عن أن يكون واجباً، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام.
ونحن لم نأمر أحداً من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله) (1).
ويوضح الشيخ عبد العزيز بن حمد - سبط الشيخ الإمام - في جواب له، بعضاً من أحكام حلق شعر الرأس، ويذكر السبب في حلقه عندهم في بلاد نجد، فقال رحمه الله:
(فالذي تدل على الأحاديث، النهي عن حلق بعض وترك بعض، فإما تركه كله فلا بأس به، إذا أكرمه الإنسان كما دلت عليه السنة النبوية. وأما حديث كليب (2) فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار حلقه سنة، وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهياً عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا، فنهى عن ذلك نهي تنزيه لا نهي تحريم سداً للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون فصار في عدم الحلق تشبهاً بهم).(3)
__________
(1) المرجع السابق 8 / 175.
(2) لعله يقصد الحديث الذي أخرجه أبو داود، عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده : أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : قد أسلمت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ألق عنك شعر الكفر)، وقال عبد القادر الأرناؤوط عن هذا الحديث : وإسناده ضعيف، انظر : (جامع الأصول في أحاديث الرسول)، لابن الأثير، تحقيق : عبد القادر الأرناؤوط، نشر مكتبة الحلواني، سوريا، 1391هـ، 7/338، 339.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل 4/578.(1/219)
ويؤكد الشيخ عبد الرحمن بن حسن في رد شافي - على من احتج بحديث نجد قرن الشيطان - أن الذم والمدح يقع على الحال لا على المحل، كما يذكر المراد بنجد قرن الشيطان، فقال رحمه الله:
(.. الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في يمننا. اللهم بارك لنا في شامنا) الحديث.. قيل إنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه: ذكر المشرق , والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى على العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ، كخروج الخوارج بها، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة … وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال، وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده.
وعلى كل حال فالذم إنما يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون الحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل. وقد تقع المداولة فيها، فإن الله يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وبالعكس) (1).
ثم قال رحمه الله: (فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة …، وما ضرَّ المدينة سكنى اليهود بها، وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقل الإسلام , ما ذمت مكة بتكذيب أهلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة عدواتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه..).(2)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 4/264.
(2) المرجع السابق 4/265.(1/220)
ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الرد على عثمان بن منصور، الذي وصف أهل هذه الدعوة بأنهم خوارج، ونزل الأحاديث التي وردت في شأن الخوارج عليهم - في رده - أن أهل هذه الدعوة من أبعد الناس عن مشابهة الخوارج، يقول:
(وأما أهل هذه الدعوة الإسلامية التي أظهرها الله بنجد، وانتشرت واعترف بصحتها كثير من العلماء والعقلاء، وأدحض الله حجة من نازعهم بالشهادة، فهم بحمد الله، يدعون إلى ما بعث الله به رسله من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له..) (1).
كما يبيّن الشيخ عبد الرحمن بن حسن - في موضع آخر - أن رأي أهل هذه الدعوة في الخوارج هو رأي الصحابة رضي الله عنهم. (2)
ويقرر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المراد بالمشرق ونجد الذي ورد ذمه في الحديث فقال:
__________
(1) الدرر السنية 9/195.
وانظر جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن لما سئل عن الخوارج: (الدرر السنية) 8/204، 205.
(2) انظر : (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) 9/210.(1/221)
(إن المراد بالمشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله هو العراق؛ لأنه يحاذي المدينة من جهة الشرق، يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث: وأشار إلى العراق)، قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة، كان نجده بادية الشام ونواحيها فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها، وقال الداوودي: أن نجداً من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في مسلم عن ابن عمر قال: يا أهل العراق ما أسئلكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أن الفتنة تجيء من هاهنا، وأومأ بيده إلى المشرق، فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر المراد بالإشارة الحسيّة، وقد جاء صريحاً في (المعجم الكبير) للطبراني النص على أنها العراق. وقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال كل هذا يعين المراد..)(1).
ويشير الشيخ عبد اللطيف إلى فضل بني تميم فيقول:
__________
(1) منهاج التأسيس والتقديس في الرد على ابن جرجيس)، ص 62.
ولا يعني ذلك ذم علماء العراق.. لما ورد من أحاديث في شأن بلادهم، يقول الشيخ عبد اللطيف في (مصباح الظلام) ص 236 :
(ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها، وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة أهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق).
وانظر : (رسالة أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان)، ص43.(1/222)
(وقد جاء في فضل أهل نجد كتميم، ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أحب تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لما جاءت صدقاتهم هذه صدقات قومي، وقوله في الجارية التميمية: اعتقها فإنها من ولد إسماعيل، وقوله: هم أشد أمتي على الدجال.. هذا في المناقب الخاصة، وأما العامة للعرب، فلا شك في عمومها لأهل نجد؛ لأنهم من صميم العرب، وما ورد في تفضيل القبائل والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن في الدلالة على فضل الساكن والقاطن.
ومعلوم أن رؤساء عبّاد القبور الداعين إلى دعائهم وعبادتها لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال، وقد تصدى رجال من تميم، وأهل نجد للرد على دجاجلة عبّاد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، إن قلنا إن (ال) في الدجال للجنس لا للعهد، وإن قلنا أنها للعهد كما هو الظاهر، فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده، ورد باطله فتأمله فإنه نفيس جداً). (1)
ويجيب الشيخ عبد اللطيف على من عاب الشيخ الإمام بدار مسيلمة، فيقول:
(ولا يعيب شيخنا بدار مسيلمة إلا من عاب أئمة الهدى ومصابيح الدجى بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين، وطرد هذا القول جرأة على النبيين وأكابر المؤمنين، وهذا المعترض (2) كعنز السوء يبحث عن حتفه بظلفه ولا يدري.
__________
(1) المرجع السابق ص61.
انظر : توضيح الشيخ عبد اللطيف حال الخوارج ثم حال عبّاد القبور – وكثير منهم خصوم للدعوة السلفية – وبيان حال الشيخ الإمام … ثم قال :
(ليعلم الواقف على ما تقرره حقيقة المذاهب وحاصل العقائد فيما وقعت فيه الخصومة) : (تاريخ نجد)، للآلوسي ص 79-87.
(2) أي عثمان بن منصور.(1/223)
وقد قال بعض الأزهريين(1): مسيلمة الكذّاب من خير نجدكم. فقلت وفرعون اللعين رأس مصركم، فبهت، وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون). (2)
ويرد الشيخ عبد اللطيف على ابن منصور حين طعن في نجد اليمامة؛ لأنها - على حد زعمه - بلد نجدة الحروري والقرمطي، فيقول رحمه الله:
(ثم كون الحروري والقرمطي من هذه البلاد، كلام كذب وزور على عادته، فإن نجدة ابتلي ببدعته ومروقه بالعراق، وبها استقر وهي وطنه، وأيضا فقد ثبت أنه تاب لما ناظره ابن عباس. والقرمطي بلاده القطيف والخط، وليس من حدود اليمامة، بل ولا من حدود نجد. ثم لو فرض أنه من نجد، ومن اليمامة ومن بلدة الشيخ أي ضرر في ذلك ؟
وهل عاب الله ورسوله أحداً من المسلمين أو غيرهم ببلده ووطنه، وكونه فارسياً أو زنجياً أو مصرياً من بلاد فرعون، ومحل كفره وسلطته ؟ وعكرمة بن أبي جهل من أفاضل الصحابة، وأبوه فرعون هذه الأمة)(3).
وقد تتبع الشيخ السهسواني في (صيانة الإنسان) الروايات في شأن نجد قرن الشيطان، وساق أقوال العلماء في ذلك، ومرادهم بنجد هاهنا(4)، ثم قال:
(ولا يخفى عليك أن لفظاً من ألفاظ هذا الحديث، لا يقتضي أن كل من يولد في المشرق يكون مصداقاً لهذا الحديث..
ومجرد وقوع الفتنة لا يستلزم ذم كل من يسكنه، بدليل ما رواه الشيخان عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: هل ترون ما أرى ؟ قالوا: لا قال: فإني لأرى الفتن تقع من خلال بيتكم كوقع المطر). (5)
وذكر المؤلف أحاديث أخرى، ثم قال:
__________
(1) من المعلوم أن الشيخ عبد اللطيف تلقى بعض العلوم من علماء مصر أثناء مغادرته مع أبيه للدرعية بعد سقوطها منفياً إلى مصر.
(2) مصباح الظلام ص237.
(3) المرجع السابق ص 295.
(4) انظر : (صيانة الإنسان) ص496 - 499.
(5) المرجع السابق ص 499.(1/224)
(وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالة على وقوع الفتن في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزماً لذم ساكنيه لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد، على أن مكة والمدينة كانتا في زمن موضع الشرك والكفر، وأي فتنة أكبر منهما، بل وما من بلدٍ أو قريةٍ إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة، فكيف يجتريء مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا؟ وإنما مناط ذم شخص معين كونه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع). (1)
كما ساق السهسواني الروايات التي تثبت أن العراق هو المراد في أحاديث الفتن في نجد، وأنه المشرق بالنسبة للمدينة المنورة. (2)
ويقول السهسواني عن دعوى التحليق:
(وهذا كذب صريح وبهتان قبيح). (3)
ويقول علامة العراق محمود شكري الآلوسي عن بلده العراق - والتي هي في الحقيقة نجد قرن الشيطان ـ:
(ولا بدع فبلاد العراق معدن كل محنة وبليّة، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري وتواتر النقل به … إنما نبغوا وظهروا بالبصرة، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في الإمام علي، وسائر الأئمة ومسبّة أكابر الصحابة..، كل هذا معروف مستفيض). (4)
ويعلن الشيخ ابن سحمان براءتهم من الخوارج، فينشد هذه الأبيات:
ونبرأ من دين الخوارج إذ غلوا ... ... ... بتكفيرهم بالذنب كل موحد
__________
(1) المرجع السابق ص 500.
(2) انظر : المرجع السابق ص 514.
(3) المرجع السابق ص 529
وانظر : في المرجع السابق ما ذكره المؤلف من ثناء المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهل نجد وبني تميم ص 521 - 523.
(4) غاية الأماني في الرد على النبهاني 2/148 باختصار.
وانظر : (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس)، ص 527.(1/225)
وظنوه ديناً من سفاهة رأيهم ... ... وتشديدهم في الدين أي تشدد
ومن كل دين خالف الحق والهدى ... ... ... وليس على نهج النبي محمد (1)
ويرد ابن سحمان إفك الحداد حين وصف أهل نجد بأنهم من ذرية مسيلمة الكذّاب، ويؤكد أن العراق موطن الفتن؛ لأنها مشرق المدينة وليست اليمامة، يقول ابن سحمان:
(.. وآباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم كانوا على جاهلية، وشرك، وعبادة للأصنام والأحجار وغيرها. ولا يتوجه عيب أحد منهم بأسلافه وقد يخرج الله من أصلاب المشركين، والكفّار من هو خواص أوليائه وأصفيائه …). (2)
ويقول: (قد كان بلد الشيخ اليمامة، ولم تكن اليمامة مشرق المدينة، بل مشرق المدينة العراق ونواحيه، فاليمامة، ليست مشرق المدينة، ولا هي وسط المشرق بين المدينة والعراق، بل اليمامة شرق مكة المشرفة..). (3)
ويبيّن عبد الكريم بن فخر الدين الهندي تحريف دحلان، ويرد عليه، ثم يذكر جواباً على دعوى التحليق، فيقول - حين ذكر دحلان أن نجد جزيرة العرب هي قرن الشيطان ـ:
(انظر كيف صنيعه وتحريفه كلام الرسول وتضييعه، مع أن شرّاح الحديث يذكرون في ذيله قتل عثمان رضي الله عنه، وواقعة الجمل وصفين، وظهور الخوارج.. ونحو ذلك، ولم يعينوا مورده كما عين، مع أن حدوث الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج عن الموارد المذكورة فيما هنالك). (4)
ويقول عبد الكريم أيضاً:
__________
(1) الهدية السنية ص 116.
(2) الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد ص 87.
(3) المرجع السابق ص 97.
(4) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين ص 44.(1/226)
(وأما ما ورد في الخوارج سيماهم التحليق، فلا ينطبق على ما ادعاه فإن ترك الشعر واللّمة سنة عند محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، فإن كان صحيحاً يحمل أمره ذلك، فيمن كان جديد الإسلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألق عنك شعر الكفر) (1) (2).
ويبيّن ناصر الدين الحجازي في (النفخة) المراد بالشرق وحده - أثناء رده على إفك الأسكندراني - فيقول:
(إن الشرق اسم عام نهايته مطلع الشمس، وقد ظهر منه فتن كثيرة كفتنة جنكيزخان، وهولاكو ومن بعده من التتار، واستطال الأمر، وقتلت الألوف المؤلفة من المسلمين فما الذي حملت على أن تخصمه بأولئك المساكين الذين يضربون في الأرض، ليحصلوا قوتهم من حلال ….). (3)
ويجيب الحجازي عن فرية التحليق فيقول - رحمه الله ـ:
(وأما ما ذكرته عن التحليق فذاك) كلام خرافة يا أم عمرو). (4)
وألف الشيخ حكيم محمد أشرف سندهو - رحمه الله - رسالة مستقلة بعنوان (أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان(5)، جمع فيها روايات هذا الحديث، وذكر أقوال شرّاح الحديث في بيان معناه، وكذا أقوال علماء اللغة، والجغرافيين، وأثبت - على ضوئها - أن المراد بنجد قرن الشيطان هي العراق، ونوجز بعض ما أورده وهو يقول - بعد أن ساق مرويات هذا الحديث ـ:
(مقصود الأحاديث أن البلاد الواقعة في جهة المشرق من المدينة المنورة، هي مبدأ الفتنة والفساد ومركز الكفر والإلحاد، ومصدر الابتداع والضلال، فانظروا في خريطة العرب بنظر الإمعان، يظهر لكم أن الأرض الواقعة في شرق المدينة إنما هي أرض العراق فقط موضع الكوفة والبصرة وبغداد). (6)
ويقول - في موضع آخر -:
__________
(1) رواه أبو داود، وضعفه عبد القادر الأرناؤوط - وقد تقدم -.
(2) الحق المبين ص 45.
(3) النفخة على النفحة ص29.
(4) المرجع السابق، ص 32.
(5) حقق هذه الرسالة عبد القادر السندي، ط1، حديث أكاديمي باكستان، 1402هـ.
(6) ص16 ،17.(1/227)
(واتفقت كلمة شرّاح الحديث وأئمة اللغة ومهرة جغرافية العراب أن النجد ليس اسماً لبلد مخصوص، ولا اسماً لبلدة بعينها، بل يقال لكل قطعة من الأرض مرتفعة عما حواليها نجد …). (1)
وقد رد الشيخ حمود التويجري في كتابه (إيضاح المحجة) على فرية الغماري فكان من رده:
(أن الروايات الواردة في طلوع قرن الشيطان من المشرق كلها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد صرح في بعضها أن المراد بالمشرق أرض العراق فبطل بذلك كل ما يتعلق به الملاحدة على أهل الجزيرة العربية).(2)
ولما زعم الغماري أن المراد بطلوع قرن الشيطان بنجد هو ظهور الشيخ أعقبه التويجري برد قال فيه:
(وهذا من البهتان والإثم المبين، لكونه وصفهم بصفة ذميمة لم ترد فيهم، وإنما وردت في غيرهم، وقد قال الله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) (3). وقد شهد علماء الدين للشيخ بأنه أظهر توحيد الله، وجدد دينه، ودعا إليه، واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته، وأثنوا عليه نظماً ونثراً) (4).
ويقول العلامة ناصر الدين الألباني - معلقاً على حديث (اللهم بارك لنا في شامنا..) بعد أن ساق طرقه ومروياته:
__________
(1) ص21.
(2) إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة ص132، باختصار.
(3) سورة الأحزاب : آية 58.
(4) إيضاح المحجة ص 138.(1/228)
(فيستفاد من مجموع طرق الحديث أن المراد من نجد في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنما هو العراق، وبذلك فسره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني … وقد تحقق ما أنبأ به عليه السلام، فإن كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق كالقتال بين سيدنا علي ومعاوية، وبين علي والخوارج، وبين علي وعائشة وغيرها مما هو مذكور في كتب التاريخ. فالحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم وأعلام نبوته..) (1).
وينفي د. عبد الباري عبد الباقي أن يكون الوهابيين خوارج، فيقول:
(فعلى عكس الخوارج، لم يتبرأ الوهابيون من عثمان وعلي رضي الله عنهما). (2)
ويدحض القصيمي فرية التحليق - شعار الخوارج كما يقولون.. ـ، وينفي أن تكون منطبقة على الوهابيين، فيقول:
(وهذا قول فاسد مردود، وبيان ذلك أن حجته في هذا القول، هي أن النجديين فيهم من يحلقون رؤوسهم، وفاتهم أن معنى سيمى القوم، أي علامتهم التي بها يتميزون عن غيرهم، وما به يعرفون ويختصون، وإذا كان الأمر مشتركاً بين الناس مشاعاً بين أصنافهم، فليس سيمى الطائفة ولا علامة، وكذلك التحليق لا يمكن أن يكون سيمى لأحد اليوم؛ لأن التحليق أمر تفعله أمم كثيرة في أقطار كثيرة من الأقطار الإسلامية، فلا يمكن أن يكون سيمى النجديين يقيناً..). (3)
__________
(1) محمود مهدي الاستانبولي، (الإمام محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب)، ص 88 - 90.
(2) (الوهابيون الأوائل بعض الجواب من التقييم المعاصر لهم) تعريب د. سيد رضوان علي (ضمن بحوث أسبوع الشيخ، غير منشور) ص17.
(3) الصراع بين الإسلام والوثنية، 1/443، 444 باختصار.(1/229)
ويبطل القصيمي - دعوى الرافضي العاملي - أن الوهابيين خوارج فيقول: (إن الوهابيين يشهدون بحق وصدق أن هؤلاء الذين أكفرهم الخوارج كعلي وعثمان ومعاوية ومن وافق هؤلاء الصحابة من الصحابة والتابعين من أفضل البشر، وأصدقهم ديناً، وإيماناً وسيرة وسريرة..)(1).
المبحث الثالث : شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس فيها
نورد في هذا المبحث ما كتبه بعض الخصوم من مخالفات واعتراضات لما قرره علماء الدعوة السلفية، فلقد خالف هؤلاء الخصوم، وادعوا أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأنصار دعوته قد أدخلوا في نواقض الإسلام ما ليس منها، وادعوا - أيضاً - أن تلك المكفرات التي يؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنها تخرج عن دائرة الإسلام أنها ليست - في الحقيقة عندهم - مكفرات، بل هي دون ذلك …
__________
(1) المرجع السابق 1/470.
ويوضح القصيمي أن الشيعة شر من الخوارج من عدة أوجه (انظر : المرجع السابق 1/477 - 492) ، كما يوضح أوجه الشبه بين الشيعة واليهود. (انظر : المرجع السابق 1/492 - 503)., ويرد القصيمي في كتابه (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)، الصفات الشنيعة - من صفات الخوارج - التي ألصقها الدجوي بالوهابيين ثم يثبت بالبراهين أن الدجوي وأتباعه هم بهذه الصفات أحق وأولى. انظر : (الفصل الحاسم) ص 112 - 117.
وانظر : مقال د. محمد الشويعر في مجلة الاعتصام س47، ع 8، 9 جمادى الأولى والآخرة 1406هـ بعنوان : (لا علاقة بين الوهابية الرستمية وبين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية) حيث أن هناك طائفة من الإباضية في المغرب يطلق عليها الوهابية نسبة إلى عبد الوهاب بن الرحمن بن رستم وهذه الطائفة قد وجدت قبل مولد الشيخ بمئات السنين، فربما وقع اللبس عند قاصري الإطلاع فخلط بين الحركة الإباضية الخارجية وبين دعوة الشيخ الإمام السلفية.(1/230)
ولو تتبعنا أقوال الخصوم في هذا المقام، لطال بنا الحديث وامتد دون حد أو حصر.. ولكن – ومن خلال التأمل في تلك الأقوال والنقول عنهم – لاحظت أن السبب الرئيس لهذا الخلاف، هو الاختلاف في حد الكفر المخرج عن دين الإسلام بين أئمة الدعوة السلفية، وبين هؤلاء الخصوم، فقد قرر أئمة الدعوة نواقض الإسلام وبينوا وميزوا حد الكفر الأكبر من الأصغر، كما جاء هذا التقرير والبيان في نصوص القرآن ونصوص السنة النبوية، وآثار السلف الصالح، أما أولئك المخالفين – من الخصوم – فقد خالفوا سبيل المؤمنين، فلم يدركوا حد الكفر..، ولم يعرفوا معنى الكفر المخرج من الملة، لذا فإنهم قد حصروا الكفر في حدود ضيقة جداً، فأخرجوا كثيراً من المكفرات – مما جاءت الأدلة والبراهين على إثبات أنها من المكفرات ـ، وجعلوها غير داخلة في نواقض الإسلام.
ولقد وقع الخصوم في اللبس والقصور لحقيقة الكفر، بسبب جهلهم بحقيقة التوحيد، فلما لم يتصوروا حقيقة التوحيد تصوراً تاماً، ولم يفهموا حقيقة التوحيد فهماً سليماً، وجهلوا بعض خصائص التوحيد، أدى بهم ذلك إلى التصور المبتور، والجهل بمعرفة ما يناقض حقيقة التوحيد – إضافة إلى أثر العوائد المألوفة والتقليد الأعمى ـ، ومن ثم جهلوا بعض أوصاف الكفر، فوقعوا – أي الخصوم – في بعض المكفرات، وأوقعوا العامة في أدران الشرك ونجاساته(1)، ثم أنكر الخصوم على من أدرك الحق في ذلك، وخالف هؤلاء الأدعياء في تصور حقيقة التوحيد، وحقيقة ما يناقضه.
__________
(1) سبق الإشارة إلى هذا الكلام.(1/231)
إن التصور الناقض المبتور لحقيقة التوحيد – عند الخصوم – هو أنهم يعتقدون أن التوحيد - الذي يجب على كل مكلَّف - هو توحيد الربوبية فقط، فمن أقر بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت.. ونحوها من صفات الربوبية، فهو الموحَّد، وتصوروا – جهلاً وتقليداً – أن معنى شهادة لا إله إلا الله هو إثبات أن الله هو الخالق والقادر على الاختراع، وجهلوا - أو تجاهلوا - أن معنى (الإله) بإجماع أهل اللغة وعلماء التفسير والفقهاء هو المعبود، فيكون المراد بكلمة الشهادة: لا معبود بحق إلا الله، أي صرف جميع أنواع العبادات لله وحده، وإثباتها له وحده – سبحانه، ونفيها عما سواه عز وجل. (1)
وكأن هؤلاء الأدعياء لا يعلمون أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قاتل مشركي العرب مع إقرارهم بتوحيد الربوبية؛ لأنهم قد أنكروا توحيد العبادة ولم يعترفوا، ولم يقروا بأن الله وحده هو المستحق للعبادة بجميع أنواعها فلا تصرف لمعبوداتهم من الأحجار والأوثان والطواغيت.
ومما يدل على أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرَّين بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر.. ونحوها من أفعال الرب سبحانه، ولم يدخلهم ذلك في دين الإسلام قوله تعالى:
(قل من يرزقكم من السماء والأرض، أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون). (2)
وهذا التوحيد الذي أقر به مشركوا العرب ولم يدخلهم في الإسلام هو الغاية عند هؤلاء الخصوم.
__________
(1) انظر : بيان ذلك في (مجموعة التوحيد النجدية)، المطبعة السلفية، القاهرة، 1375هـ، ص 396، 398.
(2) سورة يونس : آية 31.(1/232)
وسنورد نماذج من أقوالهم – من كتبهم – توضح ما ذكرناه آنفاً، وتبين أن توحيد الربوبية هو مقصودهم، وأن مخالفة ومناقضة هذا التوحيد هي الكفر – فقط -، ولو وقع أحدهم في بعض أنواع المكفرات – المخرجة عن دين الإسلام – كمن ذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو استغاث ودعا المخلوقين – فيما لا يقدر عليه إلا الله -، فإنه لا يعتبر بفعلها مرتداً، ما دام أنه يعتقد أن المؤثر في هذا الكون هو الله وحده …
ثم نورد نماذج أخرى من أقوالهم في تجويز تلك المكفرات – أو جعلها معاصي دون الكفر المخرج عن الملّة – مثل الذبح لغير الله والنذر لغير الله والدعاء والاستغاثة بغير الله، وإنكارهم على أئمة الدعوة خلاف ذلك، وعقب ذلك، نذكر الرد والبيان من كلام الأئمة الأعلام أتباع هذه الدعوة السلفية على تلك الدعاوى.
يقرر ابن عفالق معنى التوحيد – عنهم – فيقول:
(التوحيد إفراد القديم من المحدث، وإفراده بالربوبية والوحدانية، ومبيانته تعالى لجميع مخلوقاته …). (1)
وينكر القباني إقرار المشركين الأولين بتوحيد الربوبية، لكي يدافع عن مشركي زمانه ممن يستغيث بغير الله – فيما لا يقدر عليه إلا الله – فيقول:
(فهل سمعت عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه..). (2)
ويدعي محمد بن عبد المجيد نفس الدعوى السابقة، وأن مشركي العرب لم يقروا بربوبية الله، فيقول:
__________
(1) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق65.
(2) فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب)، ق61.(1/233)
(إنما كفر أهل الجاهلية بعبادة الأصنام لتضمنها اعتقادهم ثبوت شيء من صفات الربوبية لها … - ثم يقول - ومن هذه الحيثية شركهم وكفرهم؛ لأن صفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها إلا قائم بذاته تعالى ولا بذات أخرى). (1)
فإذا كان مشركو العرب منكرين لشيء من صفات الربوبية - على حد زعمه - (فأين هذا ممن يستغيث من المسلمين بنبي أو ولي معتقداً أنه لا يملك نفعاً ولا ضراً). (2)
ويدافع (الحداد) عن أتباعه - من عبّاد القبور - فيقول:
(.. هؤلاء مهما عظموا الأنبياء والأولياء فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جناب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي، وينسبونه لهم مجازاً، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه). (3)
ويقرر (دحلان) أن الشرك هو اعتقاد التأثير لغير الله، وليس هناك مسلم يعتقد التأثير لغير الله، يقول:
(فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله). (4)
ثم يقول: (ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله تعالى، ولا تأثير أحد سوى الله تعالى..). (5)
ويؤكد (الزهاوي) أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون لأصنامهم أنها تنفع وتضر بذواتها فيقول: (إن المشركين إنما كفروا بسبب اعتقادهم في الملائكة والأنبياء والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون بذواتهم). (6)
__________
(1) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية ص11 باختصار.
(2) المرجع السابق، ص 15، 16 باختصار.
(3) مصباح الأنام ص5.
(4) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 33.
(5) المرجع السابق، ص 34.
(6) الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق ص 51 باختصار.(1/234)
ويحاول (العاملي) أن يثبت - بلا دليل - أن مشركي العرب ينكرون ربوبية الله، وأن يرد على ما قرره الشيخ الإمام - بالأدلة والبراهين في رسالتيه: (كشف الشبهات)، و (أربع قواعد) - بأن مشركي العرب معترفون بربوبية الله، فيقول - في دفاع هزيل عن أتباعه المشاركين لهؤلاء المشركين في الإقرار بتوحيد الربوبية فقط -: (لا شيء يدلنا على أنهم - أي مشركي العرب - لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم. أنه لا تأثير لها في الكون، وأن التأثير وحده لله تعالى وهي شافعة فقط، إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثير بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها، فتشفي المرض وتكشف الضر..).(1)
ويقرر الشطي أن الشرك الأكبر هو - فقط -: (عبادة الأوثان والأصنام) (2)، ويذكر حكاية لجده، فقال:
(ومرة دخل جدي جامع بني أمية في الشام، فسمع عجوزاً تقول:
يا سيدي يحيى عاف لي بنتي، فوجد هذا اللفظ بظاهره مشكلاً، وغير لائق بالأدب الإلهي، فأمرها بالمعروف، وقال لها: يا أختي قولي بجاه سيدي يحيى عاف لي بنتي، فقالت له: أعرف أعرف، ولكن هو أقرب مني إلى الله تعالى، فأفصحت عن صحة عقيدتها من أن الفعال هو الله تعالى، وإنما صدر هذا القول منها على وجه التوسل والتوسط إلى الله تعالى، بحصول مطلوبها منه..) (3).
ويبرّأ الرافضي محمد حسين طائفته الرافضة، ومن سار على نهج ضلالهم من عبّاد القبور، ويعلن براءتهم من شرك الربوبية فيقول:
فهل تحس أن أحداً من زوّار القبور يقصد أن القبر الذي يطوف حوله، أو صاحب الملحود فيه هو صانعه وخالقه، أو أنه يقول للغير أو لمن فيه، يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي.. كلاَّ ثم كلاَّ.. ما أحسب أن أحداً يخطر على باله شيء من تلك المعاني..). (4)
__________
(1) كشف الارتياب ص 170، باختصار.
(2) النقول الشرعية ص 100.
(3) المرجع السابق، ص 102.
(4) رسالة نقض فتاوى الوهابية ص 27 - 30 باختصار.(1/235)
ويسد محمد الطاهر باب الردة، ويلغي نواقض الإسلام حين يهذي فيقول:
(إذا وجد في كلام المسلمين إسناد شيء لغير الله يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل لتكفير أحد من المسلمين.. فإذا قال العامي من المسلمين: نفعني النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي أو الولي، فإنما هو يريد الإسناد المجازي، والقرينة على ذلك أنه مسلم موحَّد لا يعتقد التأثير إلا لله وحده لا لغيره). (1)
بناءً - على النقول السابقة لهؤلاء الخصوم - فليس الذبح لغير الله شركاً، وليس النذر لغير الله شركاً، وليست الاستغاثة بالأموات شركاً، كل ذلك ليس شركاً يخرج عن دائرة الإسلام، ما دام أن مرتكبها يعتقد أن الله هو الفاعل وأنه المؤثر وحده.. هكذا فهم هؤلاء البشر وإليك أقوالهم - من كتبهم - التي تثبت ذلك، وتستنكر - وبشدة - على من خالفهم في ضلالاتهم وانحرافاتهم.
يقول ابن عفالق - نافياً أن يكون الذبح والنذر لغير الله شركاً -:
(فاجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله.. والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله..). (2)
ويشنع ابن سحيم على الشيخ الإمام، لأنه كفّر من ذبح لغير الله، يقول ابن سحيم:
(ومنها أنه يقطع بكفر الذي يذبح الذبيحة ويسمي عليها، ويجعلها لله، لكن يدخل مع ذلك دفع شر الجن ويقول ذلك كفر واللحم حرام..).(3)
ويستنكر سليمان بن عبد الوهاب تكفير من ذبح أو نذر لغير الله، ويستغرب من تكفير من دعا غير الله فيقول:
__________
(1) قوة الدفاع والهجوم ص 16، 17.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق60.
(3) نقلاً عن : أحمد القباني، (فصل الخطاب)، ق 211.(1/236)
(من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه). (1)
ويقول سليمان: (لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد..)(2).
ويجوّز محمد بن محمد القادري الاستغاثة بغير الله ما دام أن المستغيث بغير الله، لا يعتقد أن غير الله هو الموجد، وأنه لا تأثير إلا لله وحده يقول القادري:
(وقول يا سيدي أحمد أو شيخ فلان ليس من الإشراك؛ لأن القصد التوسل والاستغاثة.. ولا يشك في مسلم أن يعتقد في سيدي أحمد أو غيره من الأولياء أن له إيجاد شيء من قضاء مصلحة أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته..) (3).
ويعتبر الحداد أن منع النذر للأولياء من مفتريات الشيخ، فيقول الحداد:
(وأما نص النجدي بمنع النذر مطلقاً للأكابر، فمن افترائه على كتب الشريعة وجهله المركب). (4)
ويقول محسن بن عبد الكريم في (لفحات الوجد) أثناء مدحه لأحد خصوم الشيخ:
(وألزمهم بعد ذلك أن الشرك في الدعاء ليس بشرك أكبر، فلا يخرج به فاعله من دائرة الإسلام بعد تحقيق دخوله فيه). (5)
وألف عبد الله بن حسين بلفقيه العلوي رسالة في الرد على أئمة الدعوة … في هذه المسألة، لكي يثبت أن دعاء غير الله ليس شركاً أكبر. (6)
كما أن داود بن جرجيس يزعم أن دعاء الأموات والغائبين والذبح والنذر لغير الله ليس بشرك. (7)
__________
(1) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية ص 6.
(2) المرجع السابق، ص 7.
(3) رسالة في الرد على الوهابية، ق6، 7.
(4) مصباح الأنام ص 44.
(5) ق 88.
(6) انظر : رسالته في الرد على الوهابية، صورة خطية من معهد المخطوطات بالكويت، ق 13.
(7) انظر : مقدمة (تأسيس التقديس) للشيخ عبد الله أبي بطين ص2.(1/237)
ويحتج جعفر النجفي على جواز الذبح لغير الله بأن (أهل الإسلام من قديم الأيام يذبحون للأنبياء والأولياء..). (1)
ويدعي الرافضي العاملي جواز الاستغاثة بغير الله، فيقول:
(لو قال في دعائه واستغاثته بغير الله: اقض ديني، أو اشف مريضي أو انصرني على عدوي، فليس منه مانع ولا محذور، فضلاً عما يوجب الإشراك والتكفير، للعلم بحال المسلم الموحَّد المعتقد أن من عدا الله تعالى لا يملك لنفسه أو لغيره نفعاً ولا ضراً). (2)
ويستنكر الشطي أن تكون الاستغاثة بغير الله شركاً - كما هو عليه أئمة الدعوة السلفية -، فيقول حاكياً معتقد الوهابيين في ذلك:
(فإنهم يصرحون بأن من يستغيث بالرسول عليه السلام، أو غيره، في حاجة من حوائجه، أو يطلب منه أو يناديه في مطالبه ومقاصده، ولو بيا رسول الله، أو اعتقد على نبي أو ولي ميت وجعله واسطة بينه وبين الله في حوائجه فهو مشرك حلال الدم والمال …). (3)
ويأتي محمد بن علوي المالكي - في ذيل تلك القافلة المتعثرة - فيدعي: (أنه لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله). (4)
لكي نجيب على تلك الشبهة، ونزيل اعتراض الخصوم، فإننا نذكَّر ابتداءً - بما قررناه من قبل - أن الخصوم قصرت تصوراتهم عن إدراك حقيقة التوحيد فجعلوا توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، وأنه الواجب على المكلَّف.. ومن ثم قصرت تصوراتهم لحقيقة الشرك - الذي يناقض التوحيد - فحصروا الشرك في الربوبية كمن يعتقد أن الخلق والإيجاد لغير الله، أو النفع والضر لغيره سبحانه …
أما علماء هذه الدعوة وأتباعها فقد تصوروا تصورا ًتاماً وفهموا فهماً شاملاً لكل من حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك.
__________
(1) منهج الرشاد لمن أراد السداد ص 30.
(2) كشف الارتياب ص 274
(3) النقول الشرعية ص 101.
(4) مفاهيم يجب أن تصحح ط1، دار الإنسان، القاهرة، 1405هـ، ص 15.(1/238)
ومن المناسب – إذن – أن نذكر حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده – كما قرره بعض علماء الدعوة.. – وهو:
(أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله.. فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر). (1)
فمثلا أمر الله بالذبح له، وإخلاص ذلك لوجهه، كما هي صريحة بذلك النصوص القرآنية في الصلاة، فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه، وإذا ثبت أن الذبح لله من أجل العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام. (2)
وكذلك النذر عبادة، مدح الله الموفين به، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة، وأمر سبحانه بالاستغاثة به في كل شدة ومشقة، فهذه إخلاصها لإيمان وتوحيد وصرفها لغير الله شرك وتنديد. (3)
وأما دعوى الخصوم أن مشركي العرب يعتقدون النفع والضر لأصنامهم، فنصوص القرآن الكريم ترد تلك الدعوى الخاطئة – كما ذكرنا بعضها من قبل – ويكفي من ذلك قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون).(4)
فهؤلاء الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقرون بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده ومقرون أن معبوداتهم – سواء كان أصناماً أو أولياء – لا تدبر ولا تخلق شيئاً، وأن النفع والضر من عند الله..
__________
(1) عبد الرحمن بن ناصر السعدي، (القول السديد في مقاصد التوحيد)، مكتبة المعارف، الرياض، ص43.
(2) انظر : المرجع السابق، ص42 = بتصرف يسير.
(3) انظر : المرجع السابق، ص 47، 48.
(4) سورة المؤمنون : آيات 84 – 89.(1/239)
وبهذا يتضح بطلان اعتقاد هؤلاء الجهال – من عباد القبور – ممن يذبح للأولياء أو ينذر لهم القرابين أو يستغيث بالموتى، ويظن أنه مسلم بمجرد اعتقاده أن الله هو المؤثر المتصرف، فإن هذه طريقة مشركي العرب – سواء بسواء.(1)
ولبيان أن دعاء غير الله والاستغاثة بالأولياء ونحوهم، وكذا الذبح لغير الله، والنذر لغيره عز وجل.. أن هذه – كلها – من أنواع الشرك الأكبر الذي يخرج عن دائرة الإسلام، فإننا نذكر بعض ما كتبه أئمة الدعوة في هذا الشأن رداً على شبهة أولئك الخصوم.
يورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب الجواب الشافي على شبهة ابن سحيم حين ظن أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ مجيباً على ذلك ومخاطباً ابن سحيم:
__________
(1) انظر : للرد على اعتراضات الخصوم التي يتوصلون بها إلى الشرك ونقض التوحيد ما كتبه الشيخ الإمام في رسالته النفيسة (كشف الشبهات).
وانظر : كذلك ما كتبه الدكتور صالح العبود في رسالته، (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) 2/591 – 602.(1/240)
(فدليلك قولهم أن النذر لغير الله حرام بالإجماع فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك فكيف تدعي المعرفة ؟ يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } (1). فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } (2). إلى قوله: { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } (3). هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه ؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في (الإقناع) أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره كيف لا يكون شركاً) (4).
ويورد الشيخ الإمام قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس ردة.. يقول الشيخ:
__________
(1) سورة الأنعام : آية 151.
(2) سورة الأعراف : آية 33.
(3) سورة الأعراف : آية 33.
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/229.(1/241)
(قوله: الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ (التحريم) و (الكراهة) وقوله (لا ينبغي) ألفاظ عامة تستعمل في المكفّرات، والمحرّمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المفكرات: قولهم لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له. وقوله (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً)(1) ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً)(2)، وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم (يحرم كذا) لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم (يكره) كقوله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (3) إلى قوله (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها)(4) وأما كلام الإمام أحمد في قوله: (أكره كذا) فهو عند أصحابه على التحريم، إذا فهمت هذا، فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج وقالوا: الذبيحة حرام ولو سمى عليها..). (5)
ويقرر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر حكم الاستغاثة بغير الله فيقول:
(ونحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله قال الله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) (6). (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين(7)..) (8) .
ثم يقول: (فكل من دعا ميتاً من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله) (9).
__________
(1) سورة مريم : آية 92.
(2) سورة الأنعام : آية 151.
(3) سورة الإسراء : آية 23.
(4) سورة الإسراء : آية 38.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ 3/ 66.
(6) سورة الجن : آية 18.
(7) سورة الشعراء: آية 213.
(8) الهدية السنية ص 54.
(9) المرجع السابق ص 55..(1/242)
ويبين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر - رحمه الله - نوعي دعاء غير الله، ثم يرد على بعض الاعتراضات التي أوردها بعض الخصوم، لكي يجيزوا دعاء غير الله ويحسبون أنه ليس بكفر، فكان مما قاله:
(اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان، أحدهما: سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه مثل سؤاله أن يدعو له، أو ينصره، أو يعينه، فهذا جائز كما كان الصحابة يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم.
النوع الثاني: سؤال الميت والغائب وغيرهما ما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين.. وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام) (1).
وقال أيضاً:
(فقول القائل: أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلَّم لوجوه: الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه. كلام باطل بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله نداً من خلقه يدعوه كما يدعو الله ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها.
قال الله تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون(2)}(3).
ويقول - في موضع آخر -:
(وأيضاً فإن كثيراً من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الردة والكفر وانعقد عليها الإجماع، لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفراً، وإنما يستنبطها العلماء من عمومات النصوص..) (4).
ثم يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر - في رد اعتراض آخر -:
(وأما قوله الثاني إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله وقد ورد أنه شرك وكفر ثم أوّلوه بالأصغر …
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 4/592.
(2) سورة الأنعام : آية 1.
(3) المرجع السابق 4/599.
(4) المرجع السابق 4/602.(1/243)
فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأي مشابهة بين من وحد الله وعبده، ولم يشرك معه أحداً من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله واستغاث به في تفريج كربته، لكنه حلف بغير الله يميناً مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد، فإن هذا صرف مخ العبادة الذي هو لبها وخالصها لغير الله …) (1).
ويوضح صاحب (التوضيح) الإشكال عند الخصوم، ويزيل اللبس عندهم في مسألة النذر لغير الله … فيفصّل الفرق بين نذر فعل المعصية، والنذر لأجل غير الله..، ويبين تحقق الشرك وحصوله في النذر لغير الله.. يقول صاحب (التوضيح): (والنذر غير الجائز قسمان:
أحدهما: نذر فعل معصية كشرب الخمر، وقتل معصوم، وصوم يوم عيد فيحرم الوفاء به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)(2)، ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال …
__________
(1) المرجع السابق 4/611.
... ومما يجدر ذكره أن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر قد قال في مسألة الحلف بغير الله ما نصه: (أما إن فعل الحلف بغير الله مستحلاً أو لكون المخلوق أعظم في قلبه من الخالق كان ذلك كفراً ..) عن المرجع السابق 4/612.
(2) جزء من حديث رواه البخاري.(1/244)
الثاني: النذر لغير الله كالنذر لإبراهيم الخليل أو محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر .. فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي؛ لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع إما بطبعه، وإما بقوة سببيه فيه، ويجلب الخير والبركة، ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم أنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة، فنذروا نذرا لفلان وفلان أصحاب القبور من الأنبياء والمشايخ، وللغار الفلاني، والشجرة الفلانية فانكشفت شدائدهم، واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم، ونظر أحوال السلف الصالح علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى: (هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا(1)..) (2).
ويرد الشيخ عبد الله أبو بطين شبهة القبوريين حين ظنوا أن دعاءهم الأموات مجاز، وأن الله عز وجل هو المسئول حقيقة، فيقول :
(وأما قول القائل أن دعاء الأموات وسؤالهم قضاء الحاجات مجاز، والله سبحانه هو المسئول حقيقة، فهذا حقيقة قول المشركين {هؤلاء شفعاؤنا عند الله }(3)، { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }(4). فهم يسألون الوسائط زاعمين أنهم يشفعون لهم عند الله في قضاء حوائجهم، قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم كفر إجماعاً(5).
__________
(1) سورة الأنعام: آية 136.
(2) التوضيح عن توحيد الخلاق ص 382، 383 باختصار.
(3) سورة يونس: آية 18.
(4) سورة الزمر: آية 3.
(5) الدرر السنية 8/237.(1/245)
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أن صرف بعض أنواع العبادة لغير الله شرك.. كما قرره الأئمة الأعلام..، وعلى تقريرهم سار علماء هذه الدعوة فيقول الشيخ عبد اللطيف:
(وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم – أي العلماء – فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر، وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به، ويرجع إليه من مشايخ الإسلام، والأئمة الكرام. ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك وسلكنا منهاجهم فيما هنالك، لم نكفر أحداً إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره ممن أشرك بالله، وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفاً وتدبيراً مع الله. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً) (1).
ويتحدث محمود شكري الآلوسي عن حال الناذرين في نذورهم لمن يعتقدون فيه الصلاح، ويذكر أنهم يعتقدون فيمن نذروا له من الأولياء أنه ينفع ويضر، ويعطي ويمنع، ويذكر الآلوسي الدليل على ذلك، فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 3/221.(1/246)
(والدليل على اعتقادهم هذا، قولهم: وقعنا في شدة فنذرنا لفلان فانكشفت شدتنا، ويقول بعضهم: هاجت علينا الأمواج، فندبت الشيخ فلان، ونذرت له الشيء الفلاني فسلمت سفينتنا، وتراهم إذا هم لم يفوا، وحصلت لهم بعض الآلام، قيل للناذر أوفي بنذرك، وإلا يفعل بك الشيخ كذا وكذا، فيسارع بالوفاء، ولو أنه يستدين في ذمته، ولو كان مديوناً أو مضطراً، وربما يموت وهو مديون، كل ذلك خوفاً من المنذور له، وطلباً لرضاه. وهل هذا إلا من سوء اعتقاده، وقلة دينه وكساده، وغاية جوابه إذا عذلته أن يقول لك: مقصودي يشفعون لي. والله لا تخطر الشفاعة على قلبه، ولا يعرف إلا أن ذلك المنذور له هو القاضي لحاجته والمهيء لبغيته) (1).
وسرد الآلوسي أقوال العلماء التي تؤكد وتثبت أن الذبح لغير الله يعتبر شركاً أكبر يخرج من الملة، ثم قال:
(فقد تبين لك من هذه النقول كلها أن من يقرب لغير الله تقرباً إلى ذلك الغير ليدفع عنه ضيراً، أو يجلب له خيراً تعظيماً له من الكفر الاعتقادي والشرك الذي كان عليه الأولون) (2).
ومما تضمنه (البيان المفيد) ما نصه:
(ونعتقد أن عبادة غير الله شرك أكبر، وأن دعاء غير الله من الأموات والغائبين وحبه كحب الله، وخوفه ورجائه، ونحو ذلك شرك أكبر، وسواء دعاه عبادة، أو دعاه دعاء استعانة في شدة أو رخاء، فإن الدعاء مخ العبادة، وأن اعتقاد أن لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين شرك أكبر، وأن من عظّم غير الله مستعيناً به فيما لا يقدر عليه إلا الله كالاستنصار في الحروب بغير قوة الجيوش.. والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا، يكون مشركاً شركاً أكبر) (3).
__________
(1) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس ص 418.
(2) المرجع السابق ص 421.
(3) البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد)، ص 6.(1/247)
ونذكّر - في خاتمة هذا المبحث - أن ما قرره أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في مسألة نواقض الإسلام، وأنواع المكفرات التي توجب على مرتكبها الخروج والانسلاخ عن دين الإسلام، أن هذا التقرير ليس بدعاً من عند أنفسهم، وإنما كان ذلك اتباعاً لنصوص القرآن الكريم، ونصوص السنّة النبوية الصحيحة، والتزاماً بأقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المعتبرين من المذاهب الأربعة(1).
المبحث الرابع : شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة ،عرض ثم رد
يظن بعض الخصوم لهذه الدعوة السلفية أن ما قرره أئمتها من المكفرات، وعدوه من أنواع الشرك الأكبر، كالذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والاستغاثة بغير الله .. وغيره من صرف بعض أنواع العبادة لغير الله، أنهم خالفوا بذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه ابن القيم - رحمه الله -، فادعى هؤلاء الخصوم أن هذين الشيخين لم يدخلا الذبح لغير الله والنذر لغير الله والاستغاثة بالأموات ضمن الشرك الأكبر المخرج من الملة.
__________
(1) انظر: بيان ذلك فيما ذكره الشيخ الإمام في رسالته المسماة (مفيد المستفيد) (مجموعة مؤلفات الشيخ 5/304، 305.
وما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته النفيسة (الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة) (مجموعة التوحيد ص 281 - 332). وغيرهما من رسائل أئمة الدعوة.(1/248)
وحاول هؤلاء الخصوم التشبث بكل نص أو قول ينسب لابن تيمية أو لابن القيم يفهمون منه بناءً على تصورهم الفاسد، وإدراكهم الخاطيء مخالفة الشيخ الإمام لابن تيمية، وابن القيم في مسألة التكفير، وذلك لكي يقنعوا أنفسهم – ومن تبعهم من سواد الناس – أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مخالف لسائر الأمة وعلمائها، حتى أنه خالف ابن تيمية وابن القيم، اللذين يكثر – ابن عبد الوهاب – من إيراد أقوالهما والنقل من كتبهما، ولقد أدت بهم هذه المحاولة الفاشلة إلى تحريف النصوص، وتبديلها، وسوء فهمها – كما سيأتي موضحاً -.
وسنورد أقوال هؤلاء الخصوم، وما نقلوه من نصوص للشيخين، محتجين بهما على مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لهما، ونقتصر على بعض الأمثلة التي أوردوها، ثم نتبعها بالرد والدحض.
يسوق ابن عفالق جواباً لابن تيمية في الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم … فكان مما قاله ابن تيمية – بناءً على نقله -:
(فإن كان الاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللايق لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو كافر إن أنكر ما يكفر، وإما مخطيء ضال) (1).
ثم قال ابن عفالق: (فانظر هذا الكلام النفيس، وتأمل قوله: فإن كان الاستغاثة.. إلخ فهذا حال المنكر للتوسل به صلى الله عليه وسلم يدور بين الكفر والضلال، فكيف بمن أنكرها، وقال من قال يا رسول الله فهو كافر، ومن لم يكفره فهو كافر …) (2).
ثم يقال ابن عفالق – منفراً عن دعوة الشيخ -: (والذي أوقع هذا الرجل في هذه الورطة العظيمة أنه ينظر في كتب ابن القيم فيأخذ منها ما وافق هواه، ويترك ما خالفه، ويأخذ من أول الفصل ويترك آخره …) (3).
ويقول ابن عفالق – أيضاً -:
(عده – أي الإمام – قول البوصيري:
__________
(1) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 45، 46 (هكذا نقل ابن عفالق العبارة).
(2) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 45، 46.
(3) المرجع السابق ق 46.(1/249)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... ... سواك عند حلول الحادث العمم
نوع من الشرك الأكبر، وهو كذب صراح إن كان ينقله عن العلماء، وإلا فهو افتراء منه وبهت، فإن ابن القيم مع تعصبه وخلافه لجميع الأمة في مثل هذا الباب عدّ هذا من الشرك الأصغر … انظروا كتبه كـ (شرح المنازل) في باب الشرك الأصغر، و(إغاثة اللهفان) (1).
ونلاحظ أن سليمان بن عبد الوهاب في غالب رسالته في الرد على أخيه الشيخ الإمام، أراد أن يفصح عن مخالفة الشيخ الإمام لما كتبه ابن تيمية وابن القيم، فإن جلّ رسالته في سرد الأقوال والنقول للشيخين...، ثم يعقب تلك النقول بما يفهمه منها ويتوصل إليه تفكيره، بأن الشيخين لم يكفرا من ذبح أو نذر أو استغاث بغير الله..
يقول سليمان بن عبد الوهاب:
(قال تقي الدين: النذر للقبور، ولأهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل عليه السلام، أو الشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به وإن تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء أو الصالحين كان خيراً له عند الله وأنفع. ا.هـ.
فلوا كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة؛ لأن الصدقة لا تقبل من كافر، بل يأمره بتجديد إسلامه، ويقول له خرجت من الإسلام بالنذر لغير الله. قال الشيخ أيضاً: من نذر اسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه لم يجز، ولا يجوز الوفاء به، ويصرف في المصالح ما لم يعرف ربه. ا.هـ .
فلو كان الناذر كافراً لم يأمره برد نذره إليه، بل أمر بقتله، وقال الشيخ أيضاً: من نذر قنديل نقد للنبي صلى الله عليه وسلم صرف لجيران النبي صلى الله عليه وسلم. ا.هـ.
فانظر كلامه هذا، وتأمله، هل كفّر فاعل هذا، أو كفّر من لم يكفره، أو عد هذا في المكفرات هو أو غيره من أهل العلم كما قلتم أنتم.
__________
(1) المرجع السابق ق 52 باختصار.(1/250)
كذلك ابن القيم ذكر النذر لغير الله في فصل الشرك الأصغر من (المدارج)، واستدل بالحديث الذي رواه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (النذر حلفة)(1)، وذكر غيره من جميع من تسمونه شركاً وتكفرون به في فصل الشرك الأصغر، وأما الذبح لغير الله، فقد ذكره في المحرمات ولم يذكره في المكفرات، إلا أن ذبح للأصنام، أو لما عبد من دون الله كالشمس والكواكب، وعدّه الشيخ تقي الدين في المحرمات الملعون صاحبها كمن غيّر منار الأرض، وقال الشيخ تقي الدين: كما يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله تعالى وغيرها من بلاد المسلمين من الذبح للجن، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبائح للجن. ا.هـ.
ولم يقل الشيخ من فعل هذا فهو كافر، ومن لم يكفره فهو كافر كما قلتم أنتم) (2).
ثم جاء داود بن جرجيس، فحّرف في كلام الشيخين، وبدّل وغيّر؛ من أجل أن يجيز بعض أنواع الشرك بالله … وقد جمع تلك النقول المتعددة المختلفة وجعلها في كتاب سماه (صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم).
وسنورد بعض نقوله لكلام الشيخين محتجاً به على جواز دعاء الموتى، والاستغاثة بهم … فمن هذه النقول الكثيرة.. ما نقله داود:
__________
(1) ذكر ابن القيم هذا الحديث في (مدارج السالكين)، وعزاه إلى السنن من حديث عقبة بن عامر. انظر: (مدارج السالكين) 1/345.
(2) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) ص 8، 9.(1/251)
(النقل الثالث عشر: قال – أي ابن تيمية – رحمه الله في كتاب (الفرقان) ونجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه صدر منه مكاشفة، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، أو أن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء، فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض، وليس شيء من هذه الأمور يدل على أن صاحبها ولي الله، بل اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، ومشى على الماء لم يغتر به، حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقته لأمره ونهيه، وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور. ا.هـ نقله.
ثم قال: فانظر إلى كلامه ولا سيما قوله: وإن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته، فإنه تسليم منه بأن هذا الأمر يقع على وجه الكرامة، ويستدل به على ولاية صاحبه، لكن بشرط أن يكون المستغاث به متابعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقاً له ولنهيه، قال العراقي: فحينئذٍ تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من أولياء يجوز أن يعتقد فيهم الدلالة بسبب الاستغاثة بهم سواء كانوا غائبين أو ميتين، وأن هذا يقع على وجه الكرامة، وأن كرامات الأولياء يجب اعتقادها كما ذكره الشيخ في (التحفة العراقية)..، ومعلوم أن الكرامة لا تنشأ عن فعل محرم فلو كانت الاستغاثة محرمة لما عدّها الشيخ وغيره كرامة، بل حينئذٍ تكون استدراجاً) (1).
ويورد العراقي نقولا لابن القيم يحتج بها لضلاله، منها ما كتبه ابن القيم – رحمه الله – في كتابه (الكبائر)(2)
__________
(1) نقلاً عن : (منهاج التأسيس) ص 157.
(2) يقول د. بكر أبو زيد – عن هذا الكتاب - :
(ذكره ابن رجب، والداودي، وابن العماد، والبغدادي، وأحمد عبيد، وابن النحاس) انظر: كتابه (التقريب لفقه ابن القيم)، القسم الأول ص 236.(1/252)
حيث ذكر حكاية خلاصتها: أن أحد الرافضة رفض أن يبيع دقيقاً على رجل من أهل السنة، حتى يلعن الصدّيق والفاروق - رضي الله عنهما -، وراجعه الرافضي مرات، حتى قال السني: لعن الله من يلعنهما، فلطم الرافضي عينه حتى سالت على خده، فانطلق هذا السنّي مع صاحب له إلى الحجرة النبوية في المسجد النبوي، وقال: السلام عليك يا رسول الله، قد جئناك مظلومين فخذ بثأرنا. فما جاء صباح الغد إلا وعينه صحيحة.
ثم قال العراقي: فانظر إلى نقل هذه الحكاية من مثل ابن القيم، ذكرها في مقام الافتخار، والزجر عن الرفض. يدل على أن الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا بأس بها، وأنها غير مذكورة...) (1).
وقد ذكر الآلوسي في كتابه (فتح المنان) نقولاً أخرى لداود، منها ما ذكره ابن تيمية في (الكلم الطيب) وابن القيم في (الوابل الصيب) عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - أن الإنسان إذا خدرت رجله، فليناد: يا محمد. فإن الخدر يذهب عنه، ثم قال داود: (وهذا ذكره في مقام تعليم المسلم الأذكار، فلو كان نداء الغائب شركاً لكان الشيخان وغيرهما بل وأصحابه صلى الله عليه وسلم يعلمان الناس الشرك والعياذ بالله..) (2).
ويأتي عثمان بن منصور فيقتدي بداود بن جرجيس في تحريف الكلم عن مواضعه على حسب ما تمليه الأهواء والضلالات، يقول عثمان بن منصور:
(قال ابن تيمية بعد كلام سبق من ذكر أنواع العبادة التي لله تعالى، ثم قال: ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالف. فهذا صريح قوله.
__________
(1) المرجع السابق ص 179 باختصار.
(2) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس ص 375.(1/253)
قال عثمان: وهم جعلوا مجرد تعريفهم حجة فكفروا به، فلابد أن يتبين للمعرف الحجة، ويتضح له الصواب في نفس الأمر..) (1).
وبعد إيراد هذه النقول التي اختارها هؤلاء القوم، وفهموا منها أن الذبح والنذر لغير الله وأن الاستغاثة بالأموات.. ليست من نواقض الإسلام، كما فهموا منها عدم تكفير المعين..، فإننا - بعد ذلك - نتبعها بالإيضاح والبيان، وإزالة اللبس والإشكال بشيء من الإيجاز، بناءً على ما سجله بعض أئمة الدعوة وأنصارها جواباً على هذه الشبهة.
يورد الشيخ الإمام نصاً لابن تيمية، يتبين فيه أنه يقرر أن الذبح لغير الله شرك أكبر يخرج عن دين الإسلام، كما يتضح منه أنه يكفر المعين إذا ذبح لغير الله..فيقول رحمه الله:
(قال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) في الكلام على قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به}(2) ظاهره أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم، وقال فيه بسم الله ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه وتعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، ولكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. أ.هـ كلام ابن تيمية.
__________
(1) نقلاً عن (مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام) ص 323 بتصرف.
(2) سورة المائدة : آية 3.(1/254)
وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافقين يصير مرتداً بذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة المعين) (1).
ثم يقول الشيخ الإمام: (قال ابن تيمية: أنا من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى. أ.هـ كلامه.
وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير الميت إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية.
وصرح رضي الله عنه أيضا ً أن كلامه في غير المسائل الظاهرة، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا، فقال: هذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال أنه فيها مخطيء ضال لم تقم على الحجة، التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام … ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرازي.. - يعنى الفخر الرازي - قال ردة صريحة باتفاق المسلمين. أ.هـ كلامه.
فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله، لكن من يرد الله فتنته، فلن تملك له من الله شيئا) (2).
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ 1/285.
(2) المرجع السابق 1/289، 290.(1/255)
ويورد الشيخ الإمام نصاً لابن القيم – رحمه الله – يؤكد عليه أن النذر للموتى، ودعاءهم شرك أكبر مخرج عن دين الإسلام. وليس كما ظنه الخصوم من أمثال سليمان بن عبد الوهاب وغيره أنه من الشرك الأصغر، وشبهتهم في ذلك أن ابن القيم رحمه الله ذكر في (شرح منازل السائرين) الشرك الأكبر، ثم ذكر الشرك الأصغر، وقال بعدها: (ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم ومن أنواعه النذر لغير الله … وطلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم …) (1) فنسب هؤلاء الخصوم إلى الشيخ ابن القيم أن ما سبق هو من الشرك الأصغر؛ لأن ابن القيم بعد ما ذكر الشرك الأكبر ثم الأصغر، قال ومن أنواع الشرك، فظنه هؤلاء الجهلة أنه يقصد الشرك الأصغر، ولكن كما قال الشيخ الإمام:
(وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول، والثاني صريحاً لا يحتمل التأويل..) (2)
وحتى تكتمل صورة هذا الرد، فإننا نسوق كلام ابن القيم – كما نقله الشيخ الإمام مختصراً.
__________
(1) انظر : (مدارج السالكين)، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، 1375هـ، 1/344.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/297.(1/256)
(ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله والإنابة، والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره … ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت فد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً لمن استغاث به. بل الميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم تنقصوا الخالق بالشرك، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم. وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا …
وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله..) (1)
ويورد الشيخ الإمام نصاً آخر لابن القيم مستدلاً به على تكفير المعيّن:
(وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في إنكار تعظيم القبور: (وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه (مناسك المشاهد) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام) أ.هـ وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المصنفين يقال له: ابن المفيد: فقد رأيت ما قال فيه بعينه، فكيف ينكر تكفير المعين) (2)
__________
(1) المرجع السابق 1/296.
(2) المرجع السابق 1/303.
وقد أورد الشيخ الإمام في رده على أخيه سليمان نقولاً كثيرة للشيخين ابن تيمية وابن القيم، في إثبات تكفير المعين، ولم يقتصر على ذلك بل ذكر أقوال المذاهب الأربعة في تلك المسألة.
وانظر: ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين حول تكفير المعين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل، فلا يحكم عليه إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، والذي لا يعذر.. (مجموعة الرسائل والمسائل 4/509-523).(1/257)
ويرد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين على تلبيس وخلط داود العراقي، فيقول رحمه الله:
(وقد أورد بعضهم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ذكر كلاماً وحكايات تدل على أن دعاء الأموات ليس بشرك، كما ذكر أنه روى أن رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة. فرآه وهو يأمره أن يأتي إلى عمر بن الخطاب فيأمره أن يستسقي بالناس، وغير ذلك من الحكايات).
قال أبو بطين: (هذا تلبيس من الناقل، وكذب على الشيخ رحمه الله؛ لأنه إنما قال ذلك في سياق الكلام في بعض البدع، كتحري دعاء الله عند قبر النبي أو غيره) (1).
ويكشف محمد بن ناصر التهامي تلاعب ابن جرجيس بنصوص الشيخين: ابن تيمية وابن القيم، فيقول رحمه الله:
(ذكر صاحب الرسالة - أي داود - أن الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم رحمهما الله لا يطلقون الكفر، والشرك على من اعتقد في القبور، واستغاث بالأموات، وأنهم قائلون بأن ذلك من باب كفر دون كفر، وقد أورد من كلامهما ما بتره من الأبحاث بنقل بعض ما في مؤلفاتهما مما هو فيه له مستند، ولا يستكمل البحث …)(2).
ثم أورد التهامي نقولا للشيخين من كتبهم، منها ما ذكره ابن القيم في (شرح منازل السائرين) في نوعي الشرك: الأكبر والأصغر، ثم ذكر - بعده - قول ابن تيمية في رسالته السنية: (إن كل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إلهاً آخر..) (3).
ثم قال التهامي - بعد إيراد تلك النصوص - :
__________
(1) الانتصار) ص 14، وقد ذكر قريباً من ذلك في (مجموعة الرسائل) 4/473.
(2) إيقاظ الوسنان)، ق 7.
(3) المرجع السابق.(1/258)
(فهذه نصوص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله قاضية بكفر من اعتقد النفع والضر في مخلوق ونذر له، أو دعا له، أو استغاث به، وهو صريح في ذلك كفر أكبر يحل الدم والمال، إذا عرفت هذا فقد انتفض على صاحب الرسالة ما طول به، وبذل فيه مجهوده أن أفعال هؤلاء من الشرك الأصغر، زاعماً أن ذلك صريح قول ابن القيم وشيخه ابن تيمية الذين قصد الذب عنهم بما هم فيه مصرحون بأنه شرك أكبر، والأدلة القرآنية قاضية بما صرحا به، ولو أراد إنسان أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة لكان مجلداً ضخماً …) (1).
ويزيل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن اللبس الذي افتعله داود، وادعى من خلال سياقه لنصوص الشيخين أنها تدل على ما يهواه من الغلو في الأولياء وصرف بعض أنواع العبادات – التي يجب أن تكون لله وحده – للموتى.
فيقول الشيخ عبد اللطيف جواباً على ما نقل داود عن ابن تيمية من كتاب (الفرقان)(2):
(والجواب أن يقال: سياق الكلام ومقتضى التقرير في كلام الشيخ الذي نقله العراقي نفي الولاية بهذه المذكورات، ونفي الاستدلال عليها بالمكاشفة، وخوارق العادة، ورؤية المستغاث به من الغائبين والأموات، والإخبار بما سرق وبحال الغائب والمريض، وقرر أن هذا أو نحوه لا يدل على الولاية أصلاً، وأن أولياء الله متفقون على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى يتقيد بمتابعة الرسول وموافقته لأمره ونهيه. وهذا تصريح من الشيخ بنفي الاستدلال بهذا على الولاية وإبطاله، وليس فيه تسليم مجيء المستغاث به الميت أو الغائب إلى المستغيث، وأنه يقضي حاجته وأنه يستدل به على الولاية كما زعم العراقي …
__________
(1) المرجع السابق ق 7.
(2) سبق ذكر هذا النقل.(1/259)
والعراقي صرف العبارة عن مدلولها وصدف عنها، ونسب إلى الشيخ ما لا يحتمله كلامه بوجه من الوجوه فبعداً لقوم لا يؤمنون. قال رحمه الله: والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وفي مغيبه ليس مشروعاً قط، ولكن كثير من الناس يدعون الموتى، والغائبين من الشيوخ وغيرهم فتمثل لهم الشياطين تقضي بعض مآربهم لتضلهم عن سبيل الله، كما تفعل الشيطان بعبّاد الأصنام، وعبّاد الشمس والقمر وتخاطبهم وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا وغير زماننا) (1).
ومما قاله الشيخ عبد اللطيف: (واعتقاد الولاية لا يسوغ ولا يجوز بسبب الاستغاثة ودعاء غير الله، وصريح كلام الشيخ، وصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الولاية لا تثبت بسبب من هذه الأسباب التي أنكرها الشيخ، وألزمه إياها العراقي جهلاً وظلماً، وإنما تثبت بالإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والنبيين والقيام بالواجبات الدينية..، ولو كانت الاستغاثة بغير الله سبباً للولاية، ودليلاً عليها، للزم القول بولاية كل معبود مع الله من الفاسقين والكهّان والشياطين بل والأصنام؛ لأن عبادها قد تقضي حوائجهم، ويخاطبون منها كما ذكره الشيخ وغيره …) (2).
ويجيب الشيخ عبد اللطيف على ما نقله داود عن ابن القيم حين ذكر حكاية (3).. فهم منها داود بغير فكر ولا رؤية، أنها تدل على جواز الاستغاثة بالرسول.. فكان من جواب الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) منهاج التأسيس ص 158.
(2) المرجع السابق، ص 159، 160.
(3) سبق ذكر هذه الحكاية.(1/260)
(والجواب أن يقال ليس في الحكاية جواز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وفاعل ذلك لا يحتج بفعله بإجماع المسلمين، وإنما سيقت العبارة لتقرير نصر الله لأوليائه، وإثابة من نصرهم، ووالاهم، لا لأجل الاستغاثة، وأنها تجوز بغير الله، وأن ذلك صواب. والاستدلال بالحكاية خروج عن موضوعها، وموضوع الكتاب الذي سيقت فيه، وابن القيم نص في غير موضع أن دعاء الموتى هو أصل شرك العالم وأنه من الشرك الأكبر.. إلى آخر ما قاله - رحمه الله -) (1).
وأما جواب الشيخ محمود شكري الآلوسي علامة العراق على ما نقله داود عن الشيخين ابن تيمية وابن القيم، ثم زعم ابن جرجيس أنهما يجوزان (الاستغاثة بالأموات) وسماها داود - تلبيساً وتمويهاً - نداء الغائبين.
(والجواب أن يقال: هذا أيضاً ليس مما نحن فيه، فإنه ليس نداء بما لا يقدر عليه إلا الله غاية ما فيه ذكر المحبوب لا طلب شيء منه، ولا استغاثته، وإلا لزم أن كل من ذكر محبوبه فقد استغاث به، وبطلانه ظاهر، ولفظ الشفاء: أن ابن عمر خدرت رجله، فقيل له: اذكر أحب الناس إليك فصاح يا محمداه فانتشرت رجله(2). وهذا يقتضي صحة ما جربه الناس فإن من أصابه الخدر منهم إذا ذكر محبوبه زال بسهولة، لأنه بمسرته تنتعش الحرارة الغريزية، فيندفع الخدر) (3).
(و أقول إن هذا كان من مذاهب العرب في الجاهلية، فكان الرجل منهم إذا خدرت رجله، ذكر من يحب أو دعاه فيذهب خدرها - ثم ذكر الآلوسي بعض أشعار العرب التي تدل على ما قاله -) (4)
__________
(1) منهاج التأسيس ص 179.
(2) ضعفه الألباني في تحقيقه لكتاب (الكلم الطيب) لابن تيمية ص 120 كما ضعفه عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه لكتاب (الوابل الصيب) لابن القيم ص 181.
(3) فتح البيان تتمة منهاج التأسيس ص 375.
(4) المرجع السابق ص 376.(1/261)
ثم قال الآلوسي: (أفيقال: أن هؤلاء الشعراء لما خدرت أرجلهم استغاثوا بمن يحبونه من امرأة أو غلام. لا أرى من يقول بذلك إلا من خدر عقله، وتركب جهله) (1).
وأما ما أورده ابن منصور من نقل عن ابن تيمية، فقد أظهر الشيخ عبد اللطيف رحمه الله، تحريف ابن منصور لهذا النص، وكثافة جهله فقال:
(والجواب أن يقال: قد تصرفت في كلام الشيخ، وأسقطت أوله الذي يستبين به مقصوده، وقد تقدم أن هذه حرفة يهودية صار هذا المعترض على نصيب وافر منها..
وقبل هذا النقل قرر شيخ الإسلام في هذه الرسالة التي يشير إليها المعترض أن دعا الصالحين مع الله، وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله كمغفرة الذنوب، وهداية القلوب وطلب الرزق من غير جهة معينة … ونحو ذلك مما يصدر ممن يعبد الأموات ويدعو الصالحين، ويستغيث بهم كفر صريح، وشرك ظاهر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قتل.
وبعد تقرير هذا قال: ولكن لغلبة الجهل … - إلى آخر العبارة التي أوردها المعترض.
ومراد ابن تيمية بهذا الاستدراك أن الحجة إنما تقوم على المكلفين، ويترتب حكمها بعد بلوغ ما جاءت به الرسل من الهدى ودين الحق … فمن بلغته دعوة الرسل إلى توحيد الله ووجوب الإسلام له، وفقه أن الرسل جاءت بهذا لم يكن له عذر في مخالفتهم، وترك عبادة الله. وهذا هو الذي يجزم بتكفيره إذا عبد غير الله، وجعل معه الأنداد والآلهة. والشيخ وغيره من المسلمين لا يتوقفون في هذا، وشيخنا رحمه الله قد قدر هذا وبينه وفاقاً لعلماء الأمة واقتداء بهم. ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل، حتى أنه رحمه الله توقف في تكفير الجاهل من عبّاد القبور إذا لم يتيسر له من ينبهه.
ثم يقول الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) المرجع السابق ص 376..(1/262)
(وإذا تبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصر وعاند فهو غير مستجيب، والحجة قائمة عليه، سواء كان إصراره لشبهة مثل النصارى، أو كان ذلك عن عناد واستكبار مثل فرعون وقومه، فالصنفان يحكم بكفرهم إذا قامت الحجة التي يجب اتباعها، و لا يلزم أن يعرف الحق في نفس الأمر كما عرفته اليهود وأمثالهم، بل يكفي في التكفير رد الحجة وعدم قبول ما جاءت به الرسل …)(1).
وبإيجاز فإن من قرأ ما كتبه الشيخان ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - في مسألة نواقض الإسلام، فسيجدهما يتفقان مع ما كتبه الشيخ الإمام في تلك المسألة، وأما دعوى المخالفة فلا تكون إلا ممن قصر فهمه، وساء قصده كحال أولئك الخصوم.
المبحث الخامس: شبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة
عرض ثم رد
أراد المناوئون بشبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة، أن ينفوا وقوع الشرك في هذه الأمة المحمدية، وأن ينفوا طروء الشرك على المسلمين، لأنها أمة معصومة من ذلك، ونورد أقوالهم في ذلك - من كتبهم أو ممن نقل عنهم - ثم نتبعها بالرد والبيان.
فنجد - أولاً - ابن عفالق يشنع على الشيخ الإمام في ذلك فيقول:
__________
(1) مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام) ص 324، 325 باختصار.
انظر: ما كتبه محمود شويل في كتابه (القول السديد) رداً على من زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم ص 35 - 40.
ولمعرفة التفصيل في مسألة قيام الحجة على الكافر المعين، والفرق بين قيام الحجة، وبين فهمها.
انظر : ما كتبه الشيخ عبد الله أبو بطين في رسالته (الكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل)، فلا يحكم عليه إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، والذي لا يعذر).
(مجموعة الرسائل والمسائل) 4/510 - 523.(1/263)
(وتنقيصه للأمة المعصومة من الضلالة المحفوظة من الغواية، فيكتم محاسنهم الجميلة ويرميهم بالشرك الأعظم، ويجعل عبادتهم كلها لله عنده هباءً منثوراً..) (1).
ويقول ابن عفالق أيضاً:
(وقد ثبت بالأدلة والبراهين القاطعة عصمة الأمة، ومن نفي العصمة عنهم إلى الكفر أقرب) (2).
ويورد سليمان بن عبد الوهاب الأدلة على عصمة هذه الأمة، فيقول:
(ومما يدل على بطلان قولكم في تكفير من كفرتموه ما روى البخاري في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما قاسم والله يعطي، ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله تعالى..).
وجه الدليل منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمر هذه الأمة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر، ومعلوم أن هذه الأمور.. التي تكفرون بها، مازالت قديماً ظاهرة ملأت البلاد فلو كانت هي الأصنام الكبرى، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابد للأوثان، لم يكن أمر هذه الأمة مستقيماً، بل منعكساً..) (3).
(ومما يدل على بطلان مذهبكم ما في (الصحيحين) عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: (إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها.. الحديث)، وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بجميع ما يقع على أمته.. ومما أخبر به في هذا الحديث الصحيح أنه أمن أن أمته تعبد الأوثان، ولم يخافه، وأخبرهم بذلك..) (4).
ويتابع سليمان أدلته فيقول:
__________
(1) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 40.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر ق 57.
(3) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) ص 41.
(4) المرجع السابق ص 45.(1/264)
(ومما يدل على بطلان مذهبكم ما روى مسلم في (صحيحه) عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم) وروى الحاكم وصححه أبو يعلى والبيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات).
أقول وجه الدلالة:
أن الرسول أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، وفي حديث ابن مسعود أيس الشيطان أن تعبد الأصنام بأرض العرب، وهذا بخلاف مذهبكم فإن البصرة وما حولها والعراق من دون الدجلة الموضع الذي فيه قبر علي وقبر الحسين رضي الله عنهما، وكذلك اليمن كلها والحجاز كل ذلك من أرض العرب، ومذهبكم أن هذه المواضع كلها عبد الشيطان فيها، وعبدت الأصنام، وكلهم كفار … وهذه الأحاديث ترد مذهبكم) (1).
يقول القباني:
(نقول أن الأمة قد اجتمعت على تكفير من ضلل هذه الأمة، وممن نقل الإجماع علماء الحنابلة..) (2).
ويقول عبد الرؤوف بن محمد بعد أن ذكر حديث افتراق الأمة:
(وليس الافتراق مخرجاً عن ملته - أي الملة المحمدية -.. وما حكي خلف عن سلف أن أحدا من الصحابة والتابعين منع أحدا من فرق الإسلام من إتيان المسجد الحرام، ولو كانوا قائلين بكفرهم لمنعوهم من الحج..) (3)
وقد أشار الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى بعض الخصوم الآخرين ممن أورد هذه الشبهة، واعترض بها على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:
(وممن أورد هذه الشبهة عليه عبد الله المويس راعي حرمة، وابن إسماعيل في الوشم وسليمان بن عبد الوهاب في العارض وزعموا أن الأمة لا يقع فيها شرك..) (4).
__________
(1) المرجع السابق ص 45..
(2) فصل الخطاب ق 214.
(3) فصل الخطاب في نقض مقالة ابن عبد الوهاب) ق 13.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل) 2/53.(1/265)
وأورد هذه الشبهة رجل من الإحساء - زمن الشيخ عبد الرحمن بن حسن - قائلا: (يا أيها الرجل الجاهل المعجب بنفسه لقد غويت وجهلت باعتقادك في هذه الأمة المحمدية التي قال الله فيها (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (1) وقال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) (2) أي عدلاً خيارا ً) (3).
كما زعم داود بن جرجيس استحالة وقوع الشرك في الأمة المحمدية(4) وردد عثمان بن منصور تلك الدعوى، فهو يرى أن هذه الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، وأنها أمة صالحة - كلها - من أولها إلى آخرها، ليس فيها شرك(5).
وإذا انتقلنا إلى مقام الرد والبيان، فإننا نلاحظ أن الشيح الإمام قد تصدى لتلك الشبهة، فأزال اللبس، وأبان وجه الحق في ذلك، وحشد الأدلة والبراهين التي تثبت وتدل على وقوع الشرك في هذه الأمة، فبوب في كتابه النفيس (كتاب التوحيد)، هذا الباب: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان).
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - في مقدمة شرح هذا الباب -:
(أراد المصنف بهذه الترجمة، الرد على عباد القبور، الذين يفعلون الشرك ويقولون: أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة، ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى) (6).
__________
(1) سورة آل عمران : آية 110.
(2) سورة البقرة : آية 143.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل 2/54.
(4) انظر: تأسيس التقديس) لابن بطين ص 2.
(5) انظر: (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) 9/187، 203، 210.
(6) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 362.(1/266)
وليس المقام - هاهنا - مقام تفصيل وإسهاب، حتى نذكر ما سطره الشيخ الإمام في هذا الباب، من الأدلة والحجج في إبطال تلك الشبهة، لذا فإننا نقتصر على دليل واحد مما ذكره الشيخ الإمام في شرحه لحفيده الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهم الله، يقول الشيخ الإمام:
(قوله صلى الله عليه وسلم - فيما زاده البرقاني في صحيحه - وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتى بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان..) (1) الحديث)(2).
يقول الشيخ سليمان - شارحاً له -: (وفي رواية لأبي داود: (وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) ومعناه ظاهر، وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عبّاد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك، وعبادة الأوثان في هذه الأمة، وفي معنى هذا ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة مرفوعاً: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة...) إلى آخر ما قاله رحمه الله)(3).
ويرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - على استدلال صاحب الإحساء بالآيتين السابقتين … فيقول:
(قلت: فترك من الآيتين ما هو دليل عليه، وذلك أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك، والنفاق والبدع والفسوق فيها نصيب فقال: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، فليس المشركون والمنافقون من خير أمة .. بل هم شرار الأمة)..)(4)
__________
(1) وهذه الزيادة عند الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجة وبحشل في تاريخ واسط، والحاكم، وأبي نعيم في الحلية والدلائل بسند صحيح على شرط مسلم) عن كتاب (النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد) لجاسم فهيد الدوسري، ط 1، دار الخلفاء، الكويت، 1404هـ، ص 129.
(2) تيسير العزيز الحميد)، ص 369.
(3) المرجع السابق ص 377.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل 2/54، 59 بتصرف.
وانظر رد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على الاستدلال بالآيتين السابقتين ({كنتم خير أمة أخرجت للناس}، {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} ونحوهما، (الدرر السنية) 9/354-356.(1/267)
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:
(وكل أهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة من أمته الذين أرسل إليهم، وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة … ومن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه من هذه الملل الخمسة فهو في النار، كما قال تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية)(1) فأخبر تعالى أنهم في النار مع كونهم من هذه الأمة.
وأما استدلاله بقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) .. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الآية، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم، وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنهم من الأمة الوسط إلا مثل هذا الجاهل الذي يقول ليس في الأمة كافر ولا مشرك …)(2).
ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن جانباً من البدع والشرك والضلال الذي وقع في هذه الأمة … مثل المرتدين في عهد الصديق، والخوارج زمن علي بن أبي طالب والقدرية، والجهمية الجبرية، ودولة القرامطة، الذين وصفهم شيخ الإسلام بأنهم أشد الناس كفراً والبويهيين، والعبيديين وغيرهم (3).
وأما استدلال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب بحديث (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) على عدم وقوع الشرك في جزيرة العرب فقد أجاب على ذلك الاستدلال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين فكان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) سورة البينة: آية 6.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل 2/57، 61.
... وانظر: رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن (التوحيد وطروء الشرك على المسلمين في مجموعة التوحيد) ص 350-358.
(3) انظر: (مجموعة الرسائل) 2/62-80.(1/268)
(قال ابن رجب على الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر الأكبر، وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) (1) قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني يئسوا أن تراجعوا دينكم.
وأيضاً ففي الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبيناً للفاعل لم يقل أيس بالبناء للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياساً مستمراً فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم؛ لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله..، كما أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا مسيلمة في دعواه الكاذبة للنبوة، ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده، لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك، كما أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها: اليهود والنصارى وفارس والروم..) (2).
وكان من جواب علامة العراق محمود شكري الآلوسي على الاستدلال بهذا الحديث أنه قال:
(.. الحديث لا يدل على عدم وقوع الكفر في جزيرة العرب وانتفاء الإلحاد فيها، فإن الدلالة على ذلك مما لا يحتاج في إبطالها إلى دليل .. فقد ارتد عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعض قبائل العرب الساكنين في صميم الجزيرة العربية، حتى قاتلهم الصديق رضي الله عنه، بعد أن حكم هو والصحابة بكفرهم. ولا يبعد أن يقال مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الشيطان..) أن الشيطان لا يطمع أن يعبده المؤمنون في جزيرة العرب، وهم المصدقون بما جاء به الرسول من عند ربه المذعنون له، المتمثلون لأوامره، ولا شك أن من كان على هذه الصفة فهو على بصيرة ونور من ربه، فلا يطمع الشيطان أن يعبده …
__________
(1) سورة المائدة: آية 3.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل 4/482 – 487 بتصرف.(1/269)
فوجود مثل هذا في جزيرة العرب لا ينافي الحديث الصحيح، كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل رجيح، وإطلاق لفظ المصلين على المؤمنين كثير في كلام العارفين.
ويحتمل أن يراد بالمصلين أناس معلومون بناء على أن تكون (أل) للعهد وأن يراد بهم الكاملون فيها … وهم خير المقرون، يؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث -: (ولكن في الترحيش بينهم).. يقول الطيبي: لعل المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضوان الله عليهم أجمعين. أي أيس أن يعبد فيها، ولكن يطمع في التحريش.
- إلى أن قال الآلوسي - وأنت تعلم أن الدليل متى طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال) (1).
وكما أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع الشرك وحدوثه في هذه الأمة، ووقع وحصل هذا الإخبار بما هو مشاهد عياناً، فإنه - أيضاً - أخبر بأن الله تكفل لهذه الأمة بحفظها دينها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) (2).
وأما دعوى ابن منصور في منع وقوع الشرك في هذه الأمة، فقد أبان الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن تلبيس ابن منصور في ذلك، فكان مما قاله:
(وبالجملة فهذا المعترض مموه بلفظ الأمة ملبس. قال تعالى في ذم هذا الصنف من الناس (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) (3) وهذا من أعظم اللبس والخلط والتمويه، والأمة تطلق ويراد بها عموم أهل الدعوة ويدخل فيها من لم يستجب لله ورسوله. وتطلق أيضاً ويراد بها أهل الاستجابة المنقادين لما جاءت به الرسل، ومن لم يفصل ويضع النصوص مواضعها فهو من الجاهلين الملبسين) (4).
__________
(1) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس ص 497- 499 باختصار.
(2) رواه مسلم.
(3) سورة البقرة: آية 42.
(4) مصباح الظلام ص 30.(1/270)
ويكشف الشيخ عبد اللطيف عن أصل هذه الشبهة عند ابن منصور، وسبب حدوثها فيقول: (واعلم أن هذا المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد، بل ظن أنه مجرد قول بلا معرفة ولا اعتقاد، وإلا فالتصريح بالشهادتين والإتيان بهما ظاهر هو نفس التصريح بالعداوة، ولأجل عدم تصوره أنكر هذا، ورد إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره، وإجراء الحكم مع علته، واعتقد أن من عبد الصالحين، ودعاهم، وتوكل عليهم وقرب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله) (1) ويظهر جهل ابن منصور حين لم يفرق بين أمة الإجابة، وأمة الدعوة، وقد رد الشيخ عبد اللطيف ذلك الاشتباه، فقال:
(ليس كل من وصف بأنه من الأمة يكون من أهل الإجابة والقبلة، وفي الحديث (ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار) رواه ابن ماجة(2). وقال تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوي بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) (3) فدلت هذه الآية على أن هؤلاء الكافرين من الأمة التي يشهد عليهم صلى الله عليه وسلم … والأمة في مقام المدح والوعد يراد بها أهل القبلة وأهل الإجابة، وتطلق في مقام التفرق والذم بها غيرهم. فلكل مقامٍ مقال) (4).
__________
(1) المرجع السابق ص 36.
(2) لم أعثر عليه في سنن ابن ماجة، والحديث أخرجه مسلم في (صحيحه)، 1/134 في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته.
(3) سورة النساء: آية 41، 42.
(4) مصباح الظلام ص 341 باختصار.(1/271)
وأما المنع من تكفير هذه الفرق.. فليس لأنهم من الأمة، ولكن - كما يقول الشيخ عبد اللطيف رحمه الله -: (بل لأن التفرق قد يبقى معه أصل الإيمان والتوحيد المانع من الكفر المخرج من الملة. ولذلك وقع النزاع في كثير من هذه الطوائف، فمن كفّر بعضهم فهو يحتج بالنصوص المكفرة لهم من الكتاب والسنة، ومن لم يكفر فحجته أن أصل الإسلام الثابت لا يحكم بزواله إلا لحصول مناف لحقيقته..) (1).
ونختم هذا المبحث بما ذكره العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي توضيحاً لمقصد الشيخ الإمام من إيراد باب (ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان) ضمن (كتاب التوحيد).
يقول السعدي رحمه الله:
(مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه، وأنه أمر واقع في هذه الأمة لا محالة، و الرد على من زعم أن من قال: لا إله إلا الله وتسمى بالإسلام أنه يبقى على إسلامه ولو فعل ما ينافيه من الاستغاثة بالقبور ودعائهم.
فإن الوثن اسم جامع لكل ما عبد من دون الله، لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية، ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع، وهو العبادة فإنها حق الله وحده فمن دعا غير الله، أو عبده، فقد اتخذه وثناً وخرج بذلك عن الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام، فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد، وكافر، ومنافق.
والعبرة بروح الدين وحقيقته لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها) (2).
المبحث السادس : شبهة تنزيل آيات في المشركين على مسلمين
عرض ثم رد
يفتعل الخصوم شبهة أخرى، هي في حقيقتها لا تختلف عن أختها السابقة، فيدعون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من بعده، قد عمدوا إلى آيات من القرآن نزلت في المشركين، وخوطب بها الكفار - آنذاك - فحملها - أي الشيخ وأتباعه كما يدعون - على المسلمين، فجعلوا المسلمين مثل الكفار..
__________
(1) المرجع السابق ص 340.
(2) القول السديد في مقاصد التوحيد ص 71 - 73، باختصار.(1/272)
هذه هي شبهتهم، مع ملاحظة أنهم يقصدون بالمسلمين - هاهنا - من يستغيث بالأموات، ويذبح للجن، وينذر للأولياء … فهم مسلمون - على حد ظنهم - ماداموا يعترفون بأن الله هو المؤثر، والفاعل وبيده النفع والضر..، وهم مسلمون - أيضاً - لأنهم ينطقون بالشهادتين، ولو وقعوا في تلك الشركيات.
وسنورد شبهتهم في ذلك.. ثم نتبعها بالرد والبيان.
يشير سليمان بن عبد الوهاب إلى تلك الشبهة، فيقول - مخاطباً أنصار الدعوة السلفية -:
(ولكن ليس هذا بأعجب من استدلالكم بآيات نزلت في الذين (إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) (1) والذين يقال لهم (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) (2) والذين يقولون (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) (3)، ومع هذا يستدلون بهذه الآيات، وتنزلونها على الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقولون ما لله من شريك، ويقولون ما أحد يستحق أن يعبد مع الله …) (4).
ويورد علوي الحداد تلك الشبهة فيقول:
(وأما ما استدل به من الآيات الكريمة على تكفير المسلمين كقوله تعالى (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون) (5).
وما بعدها من الآيات فهي إنما نزلت في حق الكفار المنكرين للقرآن والرسول فأي مناسبة بين المسلم والكافر)(6).
ويدعي اللكنهوري تلك الدعوى فيقول:
(كما أن الخوارج طبقوا ما ورد في الكفّار والمشركين من الآيات على المسلمين المؤمنين، فكذلك هؤلاء الوهابيون يطبقون سائر تلك الآيات الواردة في المشركين على مسلمي العالم..) (7).
__________
(1) سورة الصافات: آية 35، 36.
(2) سورة الأنعام: آية 19.
(3) سورة ص : آية 5.
(4) الصواعق الإلهية ص 11.
(5) سورة المؤمنون: آية 84، 85.
(6) مصباح الأنام ص 17، 18 باختصار.
(7) كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب ص 80.(1/273)
ويزيد دحلان عن غيره - كعادته - الأكاذيب والشبهات، فيقول مستكثراً من تلك الشبهة:
(وعمدوا إلى آيات كثيرة من آيات القرآن التي نزلت في المشركين فحملوها على المؤمنين..) (1).
ويقول في موضع آخر:
(وحملوا الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على خواص المؤمنين وعوامهم. كقوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا) (2) وقوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) (3).. حيث حملوها على المؤمنين، وأدخلوهم في عموم هذه الآيات) (4).
ويقول دحلان في موضع ثالث، أثناء ذكره معتقد الشيخ الإمام:
(وتمسك في تكفير المسلمين بآيات نزلت في المشركين، فحملها على الموحدين) (5).
وتلقف الزهاوي تلك الشبهة فرددها - كغيره - قائلاً:
(وحمل الآيات التي نزلت في الكفّار من قريش على أتقياء الأمة) (6) ثم قالها مرة أخرى: (فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها شاملة لجميع المسلمين) (7).
ويرددها ثالثة فيقول: (حملت الوهابية جميع الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الموحدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم..) (8).
ويسوق محمد نجيب سوقية هذا الشبهة بأسلوبه المعتاد من بذاءة اللسان وكثافة الجهل وانعدام الورع.. فيقول عن الوهابية:
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 32.
(2) سورة الجن: آية 18.
(3) سورة الأحقاف : آية 5، 6.
(4) الدرر السنية ص 39 باختصار.
(5) المرجع السابق ص 51.
(6) الفجر الصادق ص 19.
(7) المرجع السابق ص 25.
(8) المرجع السابق ص 47.(1/274)
(أما كفاها فجوراً فيما تدعيه، وتموه به على العامة من هذه الأمة بقولها أن جميع ما جاء في آي القرآن مما كان أنزل بحق المشركين والكافرين يحملونه على كافة المسلمين الموحدين، ليتني أدري عنهم هل وجدوا أحداً ينسب التأثير لشيء ما في الوجود إلا لله وحده لا شريك له … أو يعتقد أن يكون فاعلاً غير الله تعالى في هذا العالم …)(1).
ويظهر في هذه الشبهة تلبيس الخصوم، وتمويههم على سواد الناس، حيث جعلوا عبّاد القبور مسلمين موحدين، لأنهم يعترفون بأن الله هو الفاعل دون غيره، ولذا فهم مسلمون - كما صرح بذلك (نجيبهم) سوقية !.
وقد أشار الشيخ عبد الله أبو بطين إلى خطر مقالة الخصوم، فقال رحمه الله:
(وأما قول من يقول أن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول ما يقوله إلا ثور مرتكس في الجهل، فهل يقول أن الحدود المذكورة في القرآن والسنة لأناس كانوا وانقرضوا؟ فلا يحد الزاني اليوم، ولا تقطع يد السارق، ونحو ذلك، مع أن هذا قول يستحي من ذكره، أفيقول هذا أن المخاطبين بالصلاة والزكاة وسائر شرائع الإسلام انقرضوا وبطل حكم القرآن ؟) (2).
وقد تحدث الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن آثار هذه الشبهة فكان مما قاله رحمه الله:
(أن من منع تنزيل القرآن، وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل العموم اللفظي، فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجراً له وعزلاً عن الاستدلال به في موارد النزاع، فنصوص القرآن وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب.
وما المانع من تكفير من فعل ما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به. مع معرفته ؟) (3).
__________
(1) تبيين الحق والصواب ص 13.
(2) الدرر السنية 8/237.
(3) مصباح الظلام ص 140.(1/275)
ويذكر الشيخ عبد اللطيف أن تلك الشبهة قد وقع فيها داود بن جرجيس فقال الشيخ عبد اللطيف:
(ومن شبهاته قوله في بعض الآيات هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام، هذه نزلت في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان يريد - قاتله الله - تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدله بربه)(1).
ويبين الشيخ عبد اللطيف أن هذه الشبهة من الأسباب المانعة عن فهم القرآن:
(ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم ووصفهم به خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا، وانقرضوا، لم يعقبوا وارثاً.
وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين هذه نزلت في عبّاد الأصنام، هذه في النصارى …، فيظن الغر أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة) (2).
ويظهر الشيخ صالح بن محمد الشثري خطورة هذه الشبهة ومدى انحرافها فيقول - رداً على دحلان -:
(فيا سبحان الله كيف بلغ اتباع الهوى بصاحبه إلى هذا الجهل العظيم، والتناقض البين، وتحريف آيات الله المحكمات الدالة على السؤال والطلب، ويحتج بها على أنها وردت في المشركين وأن حكمها لا يتعداهم … مع أن أحكام القرآن متناولة لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة. قال تعالى (لأنذركم به ومن بلغ) (3) وعلى قول هذا المبطل أن حكم القرآن لا يتعدى من نزل فيه، فيقال: قد خاطب الله الصحابة بشرائع الدين كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وبآيات المواريث، وبآيات الحدود، فيلزم على قول هذا المبطل أن حكمها لا يتعدى الصحابة. وهذا كفر وضلال، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..) (4).
ويوضح السهسواني - رحمه الله - صحة معتقد الشيخ الإمام في تلك المسألة، فقال:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 3/78.
(2) دلائل الرسوخ ص 44.
(3) سورة الأنعام: ص 19.
(4) تأييد الملك المنان ق 39.(1/276)
(نعم قد استدل الشيخ رحمه الله على كفر عباد القبور بعموم آيات نزلت في الكفّار، وهذا مما لا محذور فيه، إذ عبّاد القبور ليسوا بمؤمنين عند أحد من المسلمين …، وإنما تمسك الشيخ في تكفير الذين يسمّون أنفسهم مسلمين، وهم يرتكبون أموراً مكفرة بعموم آيات نزلت في المشركين، وقد ثبت في علم الأصول أن العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، وهذا مما لا مجال فيه لأحد) (1).
ومما كتبه الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين - رداً على دحلان وغيره ممن وقع في تلك الشبهة - قوله:
(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل آية نزلت في مشرك على مؤمن بتشبيه به شائع ذائع، ولأجل ذلك أجرى الفقهاء حكم الكفر بالتشبه بالكفر، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)(2))(3).
ويقول ابن سحمان:
(فمن فعل كما فعل المشركون من الشرك بالله، بصرف خالص حقّه لغير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، واستغاث بهم كما يستغيث بالله، وطلب منهم ما لا يطلب إلا من الله، فما المانع من تنزيل الآيات على من فعل كما فعل المشركون، وتكفيره، وقد ذكر أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن إذا عميت قلوبهم عن معرفة الحق، وتنزيل ما أنزله الله في حق المشركين على من صنع صنيعهم واحتذا حذوهم فلا حيلة فيه) (4).
ويكشف محمد رشيد رضا عن كثافة جهل أصحاب هذه الشبهة فيقول:
__________
(1) صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان ص 487.
(2) أخرجه أبو داود وأحمد.
(3) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين ص 46.
(4) كشف غياهب الظلام عن أوهاب جلاء الأوهام ص 195، وانظر: (الأسنة الحداد) ص 122.(1/277)
(ومن عجائب جهل دحلان وأمثاله أنهم يظنون أن ما بيّنه القرآن من بطلان شرك المشركين خاص بهم لذواتهم، وليس بحجة على من يفعل مثل فعلهم كأن من ولد مسلماً يباح له الشرك لجنسيته الإسلامية، وإن أشرك بالله في كل ما عده كتاب الله شركاً، وعلى هذا لا يتصور وقوع الردة في الإسلام، لأن من سمي مسلماً يجب أن يسمى كفره وشركه إسلاماً، أو يعد مباحاً له أو حراماً على الأقل، وقد يعدونه مشروعاً بالتأويل) (1).
ويرد الشيخ فوزان السابق تلك الدعوى، فيقول:
(وأما القول بأن الآيات التي نزلت بحق المشركين من العرب لا يجوز تطبيقها على من عمل عملهم ممن يتسمى بالإسلام لأنه يقول: لا إله إلا الله، فهو قول من أغواه الشيطان. فآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض لأن مجرد التلفظ بالشهادة مع مخالفة العمل بما دلت عليه لا تنفع قائلها. وما لم يقم بحق لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، وإلا كان قوله لغواً لا فائدة فيه.
فالمعترض يريد تعطيل أحكام الكتاب والسنة، وقصرهم على من نزلت فيهم، وهذا القول يقتضي رفع التكليف عن آخر هذه الأمة) (2).
ونختم هذه الأجوبة، بما سطره القصيمي ردا على هذه الشبهة، يقول:
(وما زال المسلمون والعلماء والأئمة الأعلام، يستدلون بالآيات العامة النازلة في الكفار على ما يفتون به المسلمين … وما زالوا يأخذون من تلك العموميات الحجج والدلالات على معتقداتهم وإيمانهم، ولا خلاف عندهم أن القرآن إذا ما نهى اليهود، والنصارى، أو المجوس عن أمر من الأمور، أو أخبر أن ذلك كفر فيهم، أنهم هم أيضاً منهيون عن ذلك الأمر، وأنه كفر فيهم.
__________
(1) صيانة الإنسان للسهسواني (تعليق محمد رشيد رضا) ص 487.
(2) البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار ص 277.(1/278)
وقد عقد الإمام الشاطبي في أول كتابه (الاعتصام) فصلاً مبسوطاً رد به على البدع والمبتدعين، محتجاً بعموم الآيات النازلة في أهل الكتاب، وذكر فيه أقاويل كثيرة عن السلف من صحابة وتابعين ومن بعدهم قد احتجوا فيها بالآيات المطلقة النازلة أصلاً في طوائف الشرك، وأهل الكتاب على إثم البدعة، وخطأ المبتدعين من المسلمين) (1).
المبحث السابع: شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة
ادعى بعض خصوم الدعوة السلفية أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب قد خرج على دولة الخلافة العثمانية، ففارق بذلك الجماعة، وشق عصا السمع والطاعة.
فيصف ابن عفالق التوحيد الذي عليه أتباع الدعوة السلفية، فيقول: (وأما توحيدكم الذي مضمونه الخروج على المسلمين … فهذا إلحاد لا توحيد)(2) وينعتهم عمر المحجوب مخاطباً لهم: (ووقعتم في شق العصا)(3) ونلاحظ أن ابن عابدين في حاشيته - كما سبق ذكره - قد وصف أتباع هذه الدعوة بأنهم خوارج، وذلك ضمن باب البغاة، وهم الخارجون عن طاعة الإمام بلا حق(4).
ويدعي دحلان أن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (فارقوا الجماعة والسواد الأعظم) (5)، كما يدعي الزهاوي أنهم عرفوا (بالمروق عن طاعة أمير المؤمنين)(6)، وإن كثيراً من الخصوم قد وصفوا الشيخ الإمام وأتباعه بأنهم خوارج؛ لأن من صفات الخوارج الخروج على إمام المسلمين، وشق عصا الطاعة بمجرد وقوعه في المعاصي التي دون الكفر الأكبر …
ونوضح ذلك بما ادعاه العاملي حيث يقول:
(الخوارج استحلوا قتال ملوك المسلمين والخروج عليهم.. وكذلك الوهابيون) (7).
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية 1/419 باختصار.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق 57.
(3) رسالة في الرد على الوهابية ص 4.
(4) انظر : حاشية ابن عابدين 4/262.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 32.
(6) الفجر الصادق ص 73.
(7) كشف الارتياب ص 115 باختصار.(1/279)
ويذكر صاحب كتاب (خلاصة تاريخ العرب)، مبحثاً لعنوان:
(المبحث السادس: في خروج الوهابية عن الطاعة) (1).
ويدعي عبد القيوم زلوم أن الوهابيين بظهور دعوتهم قد كانوا سبباً في سقوط دولة الخلافة.
يقول:
(وكان قد وجد الوهابيون كيان داخل الدولة الإسلامية بزعامة محمد بن سعود ثم ابنه عبد العزيز، فأمدتهم انجلترا بالسلاح والمال، واندفعوا على أساس مذهبي للاستيلاء على البلاد الإسلامية الخاضعة لسلطان الخلافة أي رفعوا السيف في وجه الخليفة، وقاتلوا الجيش الإسلامي جيش أمير المؤمنين بتحريض من الإنجليز وإمداد منهم) (2).
وقبل أن نورد الجواب على شبهة خروج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة، فإنه من المناسب أن نذكر ما كان عليه الشيخ الإمام من اعتقاد وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، لأن الطاعة إنما تكون في المعروف.
يقول الشيخ الإمام في رسالته لأهل القصيم:
(وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه) (3).
ويقول أيضاً:
(الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمّر علينا، ولو كان عبداً حبشياً فبين له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند كثير من يدعي العلم، فكيف العمل به)(4).
وصرح الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله باعتقادهم في هذه المسألة فقال:
__________
(1) سيديو، خلاصة تاريخ العرب، ترجمة علي باشا مبارك، ط 1 مطبعة محمد أفندي، مصر، 1309هـ، ص 279.
(2) كيف هدمت الخلافة ص 10.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/11.
(4) المرجع السابق 1/394.(1/280)
(ونرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية) (1).
وبعد هذا التقرير الموجز الذي أبان ما كان عليه الشيخ من وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله.
فإننا نشير إلى مسألة مهمة جواباً عن تلك الشبهة، فهناك سؤال مهم هو: هل كانت نجد موطن هذه الدعوة ومحل نشأتها تحت سيطرة دولة الخلافة العثمانية ؟ يجيب الدكتور صالح العبود على هذا السؤال فيقول:
(لم تشهد نجد على العموم نفوذاً للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها، ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في الزمان، الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها (قوانين آل عثمان مضامين دفتر الديوان) يعني قوانين آل عثمان في ما يتضمنه دفتر (الديوان) ألفها - يمين علي أفندي - الذي كان أميناً للدفاتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافقة 1609م من خلال هذه الرسالة يتبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري، كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى اثنتين وثلاثون إيالة، منها أربع عشرة إيالة عربية، وبلاد نجد ليست معها ما عدا الإحساء إن اعتبرناه من نجد..) (2).
ويقول الدكتور عبد الله العثيمين:
__________
(1) الهدية السنية ص 109.
(2) عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي - غير منشور - 1/27.(1/281)
(ومهما يكن فإن نجداً لم تشهد نفوذاً مباشراً للعثمانيين عليها قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما أنها لم تشهد نفوذاً قوياً بفرض وجوده على سير الحوادث داخلها لأية جهة كانت، فلا نفوذ بني جبر، أو بني خالد في بعض جهاتها، ولا نفوذ الأشراف في بعض جهاتها الأخرى أحدث نوعاً من الاستقرار السياسي، فالحروب بين البلدان النجدية ظلت قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة استمر حاداً عنيفاً)(1).
يقول الدكتور عجيل النشمي:
(إن نجداً وما جاورها لم تعرها دولة الخلافة أهمية تذكر، وربما كانت سياستها هذه تجاه بلاد نجد لسعة أراضيها، وترامي أطرافها، هذا من جانب، ولتمكن التوزيع القبلي والعشائري من جانب آخر..) (2)
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره، ص 11.
... واستكمالاً لما ذكره العثيمين آنفاً، فإننا نورد قوله: (وما ورد من أن بعض أئمة المساجد النجديين كانوا حينذاك يمجدون السلطان العثماني في الخطبة، ربما كان سببه ما يكنه الناس عامة من مشاعر طيبة تجاه ذلك السلطان، وربما كان ناتجاً عن استعمال أولئك الأئمة لخطب من هم أغزر علماً في المناطق الخاضعة خضوعاً مباشراً للعثمانيين).
عن كتاب (تاريخ المملكة العربية السعودية)، ص 36، 37.
(2) مجلة المجتمع، عدد 509، 23 صفر 1401هـ.
ومما يدل على أن موقف الشيخ من دولة الخلافة كان سليماً، وأن الشيخ كان لا يجد شكاً بأن محل دعوته ليس لها علاقة بدولة الخلافة، ما جاء في رسالته لفاضل آل مزيد رئيس بادية الشام حيث قال له: (إن هذا الذي أنكروا عليّ وأبغضوني وعادوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام أو اليمن أو غيرهم يقول هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه) (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/32.
فيبدو من هذا النص سلامة موقف الشيخ من دولة الخلافة، وأن الشيخ كان لا يجد شكاً بأن محل دعوته ليست خاضعة لدولة الخلافة.(1/282)
ويقول أمين سعيد في هذا الشأن:
(ولقد حاولنا كثيراً في خلال دراستنا لتاريخ الدولتين الأموية والعباسية، وتاريخ الأيوبيين، والمماليك في مصر، ثم تاريخ العثمانيين الذين جاءوا بعدهم وورثوهم، أن نعثر على اسم وال، أو حاكم أرسله هؤلاء، أو أولئك أو أحدهم إلى نجد أو إحدى مقاطعتها الوسطى، أو الشمالية أو الغربية أو الجنوبية، فلم نقع على شيء، مما يدل على مزيد من الإهمال تحمل تبعته هذه الدول..
على أن الذي استنتجناه في النهاية هو أنهم تركوا أمر مقاطعات نجد الوسطى والغربية إلى الأشراف الهاشميين حكام الحجاز الذين جروا على أن يشرفوا على قبائلها إشرافاً جزئياً) (1).
ويقول أيضا:
(وكان كل شيخ أو أمير في نجد مستقل استقلالاً تاماً في إدارة بلاده وما كان يعرف الترك، ولا الترك يعرفونه)(2).
ويبين حسين خزعل حال نجد زمن العصر العثماني فيقول:
(ولما حلت سنة 923هـ، وظهرت الدولة العثمانية على المسرح السياسي في جزيرة العرب، - وإن كانت الجزيرة العربية لن تشتمل بالحكم العثماني المركزي المباشر، بل اكتفت الدولة العثمانية بالسلطة الأسمية عليها -، كان كل قطر من أقطار الجزيرة العربية مستقلا بذاته، ولا سيما نجد، فقد كانت العصبيات فيها قائمة على قدم وساق، لكل عشيرة دولة، ولكل حاكم من أولئك الحكام حوزته الخاصة يحكمها حكماً مطلقاً (3).
ويقول جاكلين بيرين في ذلك:
__________
(1) تاريخ الدولة السعودية من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، ص 23.
(2) كتاب عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، ط 1، شركة التوزيع العربية، بيروت، ص 179.
(3) تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، دار مكتبة الهلال، ص 38، 39.(1/283)
(ولكن شبه الجزيرة العربية ظلت ممتنعة على الفتح التركي بفضل صحرائها التي هلكت فيها عطشاً الجيوش التي وجهها السلطان سليمان سنة 1550 م) (1).
فإذا كانت نجد - محل ظهور وانطلاق هذه الدعوة - ليست تحت سيطرة العثمانيين، فكيف ترد هذه الشبهة ويظن أن الشيخ قد خرج على دولة الخلافة ؟.
واستكمالاً لهذا المبحث نذكر بعض جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على ذلك الاعتراض، يقول الشيخ عبد العزيز:
(لم يخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة العثمانية - فيما أعلم وأعتقد -، فلم يكن في نجد رئاسة ولا إمارة للأتراك بل كانت نجد إمارات صغيرة وقرى متناثرة، وعلى كل بلدة أو قرية - مهما صغرت - أمير مستقل … وهي إمارات بينها قتال وحروب ومشاجرات، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرج على أوضاع فاسدة في بلده، فجاهد في الله حق جهاده وصابر وثابر حتى امتد نور هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى …) (2).
ويجيب الشيخ محمد نسيب الرفاعي على من ادعى أن هذه الدعوة حركة انقلابية المراد منها خلع الخليفة العثماني، وإعادة الخلافة إلى العرب، فكان مما قاله:
__________
(1) اكتشاف جزيرة العرب نقله إلى العربية قدري قلعجي، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 24.
(2) ندوة تجديد الفكر الإسلامي، ألقيت في قاعة المحاضرات بجامعة الملك سعود، 1402هـ، (مسجلة على أشرطة كاسيت).(1/284)
(لم يكن ليخطر على بال الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن ينقلب على خليفة المسلمين ولا مرّ بخاطره ذلك.. ولكن الملتفين حول الخليفة إذ ذاك من الطرقيين المتصوفة قلبوا له الأخبار، وشوهوها، ليوغروا صدر الخليفة عليهم، وحرضوه عليهم بحجة أنهم أهل حركة انقلابية على الخليفة نفسه، تقصد إرجاع الخلافة إلى العرب.. مع أن من صميم عقيدة الشيخ رحمه الله التي هي العقيدة الإسلامية الحقة أنه لا تنقض الأيدي من طاعة الخليفة القائم إلا أن يروا فيه كفراً بواحاً صراحاً، ولم ير الشيخ شيئاً من هذا حتى يدعو الناس إلى خلع الخليفة، حتى ولو كان الخليفة فاسقاً في ذاته، إن لم يصل فسقه إلى درجة الكفر البواح الصراح، فلا يجوز الانقلاب عليه، ولا الانتقاض على حكمه، وأن الشرع يخالف القيام على السلطان إلا في حالات الكفر البواح الصراح، حتى وإن الحركة – من أولها إلى آخرها – لم يكن للخليفة والخلافة أي علاقة في الدعوة ألبتة، حتى ولما استتب لهم الأمر في نجد والحجاز، أنهم انتقضوا على الخليفة، ولم يكن للخليفة ذكر قط في مراحل الدعوة..) (1).
يتبين – من خلال النصّيْن السابقين – جانب من موقف الشيخ من دولة الخلافة فليس هناك عداء أو خصومة لدولة الخلافة.
ولذا يقول الدكتور عجيل النشمي:
(نستطيع القول باطمئنان أن كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس فيها تصريح بموقف عدائي ضد دولة الخلافة.
- يقول أيضا: ولم نعثر على أي فتوى له تكفر الدولة العثمانية بل حصر افتاءاته في البوادي القريبة منه التي كان على علم بأنها على شرك..) (2).
__________
(1) الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (من بحوث أسبوع الشيخ – غير منشور - ) ص 9، 10.
(2) مجلة المجتمع، عدد 506، 17 محرم 1401هـ.(1/285)
بل – كما يقول النشمي – أن موقفه من دولة الخلافة هو موقف الناصح الآمر بالمعروف، المنكر لما يخالف الشرع دون أن يتعداه إلى الصدام المسلح، بل كان يتجنبه ويتحاشاه، كما هو واضح في موقفه من الأشراف الذين يحكمون الحجاز باسم دولة الخلافة. ويذكر النشمي بعض الأحداث التاريخية – في زمن الشيخ – التي تثبت ما كان عليه الشيخ الإمام من نبل الموقف، وتقدير العثمانية وإجلالها(1).
ونورد خلاصة ما كتبه النشمي في هذا الموضوع، حيث يقول:
(فكانت سياسة الشيخ وموقفه تجاه الحجاز أنه لم يؤثر عنه طوال حياته تحريض أو استعداء أو دعوة لحربها، أو الاستيلاء عليها لشعوره أن ذلك الفعل قد يسفر على أنه خروج على دولة الخلافة.
لم تحرك دولة الخلافة ساكناً، ولم تبدر منها أية مبادرة امتعاض، أو خلاف يذكر رغم توالي أربعة من سلاطين آل عثمان في حياة الشيخ..) (2).
إذا كان - ما سبق - يعكس تصور الشيخ لدولة الخلافة، فكيف كانت صورة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لدى دولة الخلافة ؟
يقول د. عجيل النشمي مجيباً على هذا السؤال:
(لقد كانت صورة حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لدى دولة الخلافة صورة قد بلغت من التشويه والتشويش مداه، فلم تطلع دولة الخلافة إلا على الوجه المعادي لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سواء عن طريق التقارير التي يرسلها ولاتها في الحجاز، أو بغداد، أو غيرهما .. أو عن طريق بعض الأفراد الذين يصلون إلى الآستانة يحملون الأخبار)(3).
وساق النشمي بعضاً من الأمثلة التي تظهر مدى التشويه وقلب الحقائق الذي ضمته تلك التقارير، أو نقله بعض الأفراد.
__________
(1) انظر: ما كتبه النشمي في مجلة المجتمع: عدد 509، 23 صفر 1401هـ، عدد 510، 30 صفر 1401هـ.
(2) مجلة المجتمع، عدد 510، 30 صفر 1401هـ.
(3) مجلة المجتمع، عدد 504، 3 محرم 1401هـ.(1/286)
ولا زالت آثار هذا التشويش، وتبديل الحقائق وتزويرها ظاهراً جلياً فيما كتب عن تاريخ العثمانيين، ونورد مثالاً على ذلك:
يقول المؤرخ التركي سليمان بن خليل العزي:
(إن المراسلات التي وصلت إلى القسطنطينية من الشريف مسعود بن سعيد شريف مكة تبين أن ملحداً لا دينياً باسم محمد بن عبد الوهاب، قد ظهر من الشرق، قام بضرب وإجبار سكان تلك المنطقة لإخضاعهم لنفسه عن طريق اجتهاد زائف..) (1) .
وأما دعوى (زلوم) أن دعوة الشيخ أحد أسباب سقوط الخلافة، وأن الانكليز ساعدوا الوهابيين على إسقاطها.
فيقول محمود مهدي الاستانبولي جواباً على هذه الدعوى العريضة:
(قد كان من واجب هذا الكاتب أن يدعم رأيه بأدلة وإثباتات، وقديماً قال الشاعر:
وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ... ... بالنص، فهي على السفاه دليل
مع العلم أن التاريخ يذكر أن هؤلاء الانكليز وقفوا ضد هذه الدعوة، منذ قيامها خشية يقظة العالم الإسلامي) (2).
ويقول الاستانبولي:
(والغريب المضحك والمبكي معاً أن يتهم هذا الأستاذ حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها من عوامل هدم الخلافة العثمانية، مع العلم أن هذه الحركة قامت حوالي عام 1811م، والخلافة هدمت حوالي 1922م) (3).
__________
(1) نقلاً عن (الوهابيون الأوائل) لعبد الباري عبد الباقي، ص 5.
... وقد تضمن (تاريخ الدولة العلية العثمانية) لمحمد فريد بك ص 404 معلومات خاطئة عن الشيخ محمد بن الوهاب، فقد ذكر أن الشيخ ولد في الدرعية وأنه درس مذهب أبي حنيفة، وسافر إلى أصفهان، وأنه عاد يقرر مذهب أبي حنيفة، ويذكر – أيضاً – أن الشيخ أدته ألمعيته إلى الاجتهاد والاستقلال فأنشأ مذهباً جديداً.
(2) الشيخ محمد بن الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب) ص 62.
(3) المرجع السابق ص 64.(1/287)
ومما يدل على أن الانكليز ضد الحركة الوهابية، أنهم أرسلوا الكابتن فورستر سادلير ليهنيء إبراهيم باشا على النجاح الذي حققه ضد الوهابيين - إبان حرب إبراهيم باشا للدرعية -، وليؤكد له أيضاً مدى ميله إلى التعاون مع الحركة البريطانية لتخفيض - ما أسموه بأعمال القرصنة الوهابية في الخليج العربي(1).
بل صرحت هذه الرسالة بالرغبة في إقامة الاتفاق بين الحكومة البريطانية، وبين إبراهيم باشا، بهدف سحق نفوذ الوهابيين بشكل كامل(2).
يقول الشيخ محمد بن منظور النعماني:
(لقد استغل الانجليز الوضع المعاكس في الهند للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورموا كل من عارضهم ووقف في طريقهم، ورأوه خطراً على كيانهم بالوهابية، ودعوهم وهابيين …، وكذلك دعا الإنجليز علماء ديوبند - في الهند - بالوهابيين من أجل معارضتهم السافرة للانجليز، وتضييقهم الخناق عليهم..) (3).
وبهذه النقول المتنوعة ينكشف زيف هذه الشبهة، وتهافتها أمام البراهين العلمية الواضحة من رسائل الشيخ الإمام ومؤلفاته، كما يظهر زيف الشبهة أمام الحقائق التاريخية التي كتبها المنصفون.
__________
(1) انظر: الكابتن فورستر سادلير، رحلة عبر الجزيرة العربية خلال عام 1819م، ترجمة أنس الرفاعي، أشرف على طبعها سعود العجمي، ط 2، الصفاة، الكويت 1403هـ، ص 7.
(2) انظر المرجع السابق ص 156، 157.
وانظر: كتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) لمسعود الندوي، ص 121، 123.
(3) دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، ص 105، 106 باختصار.
بل إن القس زويمر يذكر أن الوهابيين في الهند لا يجاهرون بمعتقدهم؛ لأنه نسب إليهم الحث على الجهاد ضد الحكومة الإنجليزية.
وهذه شهادة خصم، والحق ما شهدت به الأعداء.
انظر: مجلة المقتطف م 27، ص 295.(1/288)
الفصل الثاني : تحريم التوسل عرض ثم رد
ادعى كثير من خصوم الدعوة السلفية أن الشيخ الإمام وأتباعه - من بعده - وأنصار دعوته .. أنهم يحرمون التوسل .. وحشد الخصوم لإثبات صحة دعواهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وسنتحدث - بشيء من الإطناب - عن تلك الشبهة، نظراً لكثرة الخصوم وتعددهم، ممن رموا الشيخ الإمام وأنصار دعوته السلفية بتلك الشبهة دون تبيين أو تفصيل لدعواهم.
لقد ادعى هؤلاء الخصوم جواز التوسل بالأموات مثلما جاز التوسل بالأحياء؛ لأنه لا فرق بينهما - على حدَّ زعمهم -، ومما يدل على أهمية الشبهة وخطورتها أن الخصوم قد اتخذوا لفظ (التوسل) مطيّة يتوصلون بها إلى إثبات ما تهواه أنفسهم من جواز بعض الشركيات، والكفريات مثل: الاستغاثة بالأموات، والاستغاثة بهم في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ لأن هؤلاء الجهلة يزعمون أنه لا فرق بين لفظ التوسل، ولفظ الاستغاثة، فخلطوا بينهما..
ونظراً لكثرة أقوال الخصوم وتنوعها في هذه المسألة فإنه يمكن حصر أقوالهم - بعد استقرائها - في هذين العنصرين الأساسيين التاليين:
العنصر الأول: جواز التوسل بذوات المخلوقين أحياء وأمواتاً، وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجوز التوسل به في حياته، وبعد وفاته، ويوم البعث، بل يجوز التوسل به قبل وجوده، وجواز الإقسام على الله بكريم عليه، وأنه حيث جاز التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض، فجواز التوسل بالذوات الفاضلة وهي أعيان من باب أولى ويورد هؤلاء القوم ما عندهم من الأدلة والنصوص التي تثبت دعواهم.
العنصر الثاني: جواز التوسل بالأموات كما جاز التوسل بالأحياء؛ لأنه لا فرق بينهما، فليس للحي تأثير كما أنه ليس للميت تأثير؛ لأن المؤثر والفاعل هو الله وحده، إضافة إلى أن الميت حي في قبره، كما أن له حياة قبل موته ….
وحيث جاز التوسل بالأموات والأحياء جميعاً بلا فرق، فإنه لا فرق أيضاً بين معنى التوسل ومعنى الاستغاثة ومعنى الالتجاء.. ونحوها؛ لأن المعنى واحد.(1/289)
وسنورد أقوال الخصوم - كما جاءت مسطورة في كتبهم - في بيان هذين العنصرين، ونشرع في سرد أقوالهم في بيان العنصر الأول على النسق الآتي:
يدعي ابن عفالق جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فيقول - مخاطباً الوهابيين -:
(فإن كنتم تنكرون التوسل والتشفع به صلى الله عليه وسلم مطلقاً فالكلام ساقط معكم، والخطاب مستد بيننا وبينكم، وإن كنتم تقولون يجوز ذلك في حياته، وفي عرصات يوم القيامة إظهاراً لعظيم شأنه وتنويهاً برفيع مقامه، وتقولون بعدم ذلك بعد وفاته، فأي دليل قام لكم على ذلك، وأي أمر أسقط عظيم جاهه بعد وفاته … ومن المعلوم إنما أقره عليه السلام في حياته فهو شرع بعد وفاته) (1).
ويقرر محمد سليمان الكردي مشروعية التوسل بالأنبياء والصالحين فيقول:
(وأما التوسل بالأنبياء والصالحين فهو أمر محبوب ثابت في الأحاديث الصحيحة وغيرها، وقد أطبقوا على طلبه، واستدلوا بأمور يطول شرحها .. بل ثبت في الأحاديث الصحيحة التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض. فالبذوات أولى) (2).
ويؤكد عمر المحجوب كثرة الأدلة التي تثبت دعواه في جواز التوسل بذوات الخلق فيقول:
(.. فإن التوسل بالمخلوق مشروع. ووارد في السنة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة، تضيق المهارق عن استقصائها، ويكل اليراع إذا كلف بإحصائها. ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين في خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين واستسقاؤهم عام الرمادة بالعباس …) (3).
ويردد الحداد نفس المقالة السابقة فكان مما قاله:
(وثبت في الأحاديث الصحيحة أن التوسل بالأنبياء والصلحاء أمر محبوب، وقد أطبقوا على طلبه، واستدلوا بأمور يطول شرحها..) (4).
__________
(1) رسالة ابن عفالق إلى ابن معمر ق 43.
(2) قرة العين بفتاوى علماء الحرمين، ط 1، المكتبة التجارية، مصر 1357، ص 259.
(3) رسالة في الرد على الوهابية ص 5.
(4) مصباح الأنام ص 85.(1/290)
ويجوز إسماعيل التميمي التوسل بذوات المخلوقين ويدعي الإجماع على جواز التوسل بالمصطفى صلى الله عليه وسلم …
فيقول: (وإذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض جاز التوسل بالذوات الفاضلة بعد موتها من باب أولى)(1).
ويقول - أيضاً -: (أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أمر مجمع عليه لا خلاف فيه .. وإن التوسل بغيره الأكثر على المشروعية..) (2).
وكذلك يجوّز عبد الرؤوف بن محمد بن عبد الله التوسل بذوات المخلوقين فيقول مستغرباً:
(كيف جاز التوسل بأعراض المفضولين - أي الأعمال الصالحة -، ولم يجز بأعيان الفاضلين، مع كون العين أفضل من العرض، والفاضل أفضل من المفضول) (3).
ويجوّز عبد الرؤوف - أيضاً - الإقسام على الله بما أقسم به، فيقول: (الإقسام على الله بما أقسم به ليس حلفاً بغير الله حتى تحرمه، والذي يحكم بالتحريم لابد له من إقامة الدليل، ومع فقد الدليل ليس إلى المنع سبيل …)(4).
ومما ذكره النجفي في تجويز التوسل بكل معظم قوله:
(إن من توسل إلى الله بمعظم من قرآن، أو نبي، أو عبد صالح، أو مكان شريف، أو بغير ذلك فلا بأس عليه، بل كان آتياً بما هو أفضل وأولى …)(5).
__________
(1) المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية ق 39.
(2) المرجع السابق ق 44 باختصار.
(3) فصل الخطاب ق 43.
(4) المرجع السابق ق 47.
(5) منهج السداد لمن أراد الرشاد ص 47.(1/291)
وسرد أحمد دحلان أدلتهم في مشروعية التوسل بذات المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فكان مما ذكره من الأدلة (ما رواه الطبراني والبيهقي أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن خلافته في حاجة، فكان لا يلتفت إليه، ولا ينظر إليه في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف فقال: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ثم قل: اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي وتذكر حاجتك فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى بباب عثمان رضي الله عنه، فجاء البواب فأخذ بيده، فأدخله على عثمان رضي الله عنه، فأجلسه معه، قال له: اذكر حاجتك، فذكر حاجته فقضاها …).
قال دحلان: (فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم) (1).
ومما استدل به: حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم حين اقترف آدم الخطيئة فقال: يا رب أسالك بحق محمد إلا ما غفر لي … فغفر له. فهذا دليل على جواز التوسل بمحمد قبل وجوده - كما يقول دحلان - (2).
واستدل على جواز التوسل بالأنبياء بقول النبي صلى الله عليه وسلم (اغفر لأمي فاطمة بنت أسيد، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي)(3).
كما استدل على جواز التوسل بالأحياء بحديث استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما -(4).
ويذكر السمنودي دليلاً آخر على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم مع ندائه بعد وفاته وهو مرثية صفية رضي الله عنها عمة الرسول فإنها رثته بأبيات فيها قوله:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا ... ... ... وكنت بنا برا ولم تك جافياً
ثم يقول السمنودي:
(ففي ذلك النداء بعد وفاته مع قولها أنت رجاءنا، وقد سمع تلك المرثية الصحابة رضوان الله عليهم فلم ينكر عليها أحد منهم …) (5).
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 8، 9.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.(1/292)
ومما كتبه محمد بن محمد القادري، مكذباً الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسألة التوسل قوله:
(والحاصل أن قوله لا يجوز التوسل بالأنبياء والأولياء فهذا كذب وافتراء، وقد نص الأئمة على أنه يجوز التوسل بأهل الخير والصلاح) (1).
ويدعي الكسم اختصاص المصطفى صلى الله عليه وسلم بجواز أن يقسم على الله به، فقال:
(واختص صلى الله عليه وسلم بجواز أن يقسم على الله به، وفي المواهب اللدنية: قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغي أن يكون مقصوراً على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره.. وخالف في ذلك بعضهم فجوّز القسم على الله تعالى بكل نبي..) (2).
ويذكر الدجوي أن التوسل بذوات الصالحين هو توسل بأعمالهم الصالحة فيقول - مخاطباً الوهابيين -: (لماذا لا تجعلون التوسل بالولي أو النبي توسلاً بعمله الصالح، فإنك تتوسل بالولي من حيث هو ولي مقرب إلى الله، وما تقرب إليه بما أحبه من صالح الأعمال، وسؤال الله بالأعمال الصالحة مجمع على جوازه منا ومنكم) (3).
ويقول العاملي في تجويز الإقسام على الله بكل ما هو صالح، وأن ذلك توسل مستحب: (الإقسام على الله بكريم عليه من نبي، أو ولي، أو عبد صالح، أو عمل صالح، أو غير ذلك نوع من التوسل.. وهو محبوب لله تعالى، وأنه تعالى يحب أن يتوسل إليه عبده بأنواع الوسائل) (4).
ويزعم الطباطبائي أن التوسل بالأموات كالتوسل بالأحياء في الحكم، فيقول:
(إن التوسل بالميت نظير التوسل بالحي، وسؤاله قضاء الحوائج بواسطة دعائه من الله تعالى .. فأحد التوسلين كالآخر بجامع السؤال من المخلوق، فإذا جاز بالنسبة إلى الأحياء، جاز مطلقاً) (5).
__________
(1) سعادة الدارين 1/204.
(2) رسالة في الرد على الوهابية ق 7.
(3) مجلة نور الإسلام، المجلد الثاني، مقال التوسل وجهلة الوهابيين ص 114، 115.
(4) كشف الارتياب ص 329.
(5) البراهين الجلية ص 27 باختصار.(1/293)
ويورد الشطي بعض النصوص القرآنية التي استدل بها على دعواهم من جواز التوسل بالأموات، نذكر من أدلته قوله تعالى:
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) (1).
وقوله عزَّ وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون(2)) (3).
ويجمع خزبك خلاصة دعواهم فيقول:
(وخلاصة القول أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذلك بغيره من الأنبياء والمرسلين والعلماء والصالحين كما دلت عليه الأحاديث الثابتة المتواترة) (4).
ويجوز السيامي - كأسلافه - التوسل بالأنبياء والصالحين ويجعله مستحباً، فيقول:
(إن التوسل بالأنبياء والصالحين … جائز، بل مستحب ومطلوب …) (5).
ويدعي (الجبالي) أن التوسل بالجاه هو من باب التبرك … فيقول:
(وليس التوسل بجاههم إلى المولى لتقضى له حاجته إلا تبركاً بمن كرّمهم الله، وجعل لهم منزلة عنده..) (6).
ويفسر المالكي لفظ (الوسيلة) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) فيقول:
(لفظ الوسيلة عام في الآية كما ترى فهو شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين، في الحياة وبعد الممات، والإتيان بالأعمال الصالحة على الوجه المأمور به، وللتوسل بها بعد وقوعها) (7).
__________
(1) سورة النساء: آية 64.
(2) سورة المائدة : آية 35.
(3) انظر : النقول الشرعية ص 107.
(4) المقالات الوفية ص 199.
(5) رسالة السنيين في الرد على المبتدعين الوهابيين ص 20 باختصار.
(6) مجلة نور الإسلام م 1، ص 646، مقال التوسل والاستغاثة.
(7) مفاهيم يجب أن تصحح ص 45.(1/294)
يظهر من هذه النقول السابقة عن كتب المناوئين لهذه الدعوة السلفية – والتي أوردناها بإيجاز – أنها تجوز التوسل البدعي المحظور، فتجوز التوسل بذوات المخلوقين وأشخاصهم أحياء كانوا أم أمواتاً وتجوز – أيضاً – التوسل بجاه الأولياء ومنزلتهم عند الله، كما تجوز الإقسام على الله بكل صالح أو فاضل، ويورد هؤلاء الخصوم نصوصاً من القرآن، ونصوصاً من السنة يستدلون بها على دعواهم، كما سبق ذكر بعضها.
وأما أقوالهم التي يتضمنها العنصر الثاني، فنسردها على النحو الآتي:
يدعي القباني عدم الفرق بين لفظ التوسل، ولفظ الاستغاثة، ولفظ التشفع فيقول:
(جواز التوسل والتشفع والاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء … ولا فرق في ذلك بين التعبير بالتوسل، أو الاستغاثة، أو التشفع، أو التوجه به صلى الله عليه وسلم في الحاجة..) (1).
ويذكر معنى الاستغاثة، حين تكون مرادفة لمعنى التوسل، فيقول:
(فالمستغاث في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث، فهو تعالى مستغاث، والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث، والغوث منه تسبباً وكسباً) (2).
ويؤكد صاحب (إزهاق الباطل) عدم الفرق في التعبير بين لفظ الاستغاثة أو التوسل أو التشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقرر جواز التوسل أو الاستغاثة بالنبي، ما دام أن المتوسل أو المستغيث يعتقد أن الله هو المتصرف في الأمور، فيقول:
__________
(1) فصل الخطاب) ق 19.
(2) المرجع السابق ق 28.(1/295)
(لا فرق أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التوجه.. فكل من الاستغاثة والتوسل والتوجه والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره في (تحقيق النصرة)، و (مصباح الظلام)، و(المواهب اللدنية) للقسطلاني واقع في كل حال قبل خلقه، وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة..) (1).
ثم يقول، بعد كلام طويل: (ولا ينبغي أن يستريب أحد في جوازه، كيف والقائل معتقد بأن الله هو الشافي والكاشف للضر، وأن الأمور ترجع إليه) (2).
ويقول أيضاً:
(إن كان يعتقد - أي المتوسل والمستغيث بغير الله - أن المتصرف في الأمور هو الله والطلب في الحقيقة، ونفس الأمر منه، وغيره لا يملك شيئاً من الضر والنفع والوضع والرفع، ولكن مع ذلك يتوجه الخطاب، والطلب إلى الوجيه المقرّب لدى الرب … فالطلب في الحقيقة منه تعالى لا من سواه، وإن كان في الظاهر متوجهاً إلى غيره فلا بأس به في المعنى..) (3).
فالتوسل والاستغاثة بالأموات جائزة - عند صاحب (إزهاق الباطل) - ما دام أن المتوسل والمستغيث بالموتى يعترف بأن الله هو المتصرف في الأمور.
ويؤكد محسن بن عبد الكريم هذا المعنى الذي قرره سلفه، فيقول:
(والمتوسل بالنبي، أو الولي لا يعتقد أنه يفعل ما يريد، وأنه إن شاء الضر فعله، وإن لم يأذن به الله، وإن شاء النفع فعله، وإن لم يأذن به الله. ولو كان معتقداً لذلك لما جعله - أي الولي أو النبي - وسيلة إلى الله، ولوجّه العبادة إليه من أول الأمر)(4).
ويستنكر داود بن جرجيس على من استغرب طلب التسبب من الموتى، ما دام أن ذلك الذي طلب من الموتى، ويستغيث، ويتوسل بهم يعترف بأن الله هو الفاعل، فيقول:
__________
(1) إزهاق الباطل لمحمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني، ق 62.
(2) المرجع السابق، ق 72.
(3) المرجع السابق، ق 75، بتصرف يسير.
(4) لفحات الوجد على فعلات أهل نجد ق 26.(1/296)
(كيف يستغرب طلب التسبب من الموتى والتشفع والتوسل بدعائهم إلى ربهم …؟ فهل إذا عامل أحد هؤلاء الذين هذا حالهم معاملة الأحياء يلام على ذلك، أو يعاب أو يؤثم أو يكفّر .. مع اعتقاده أن الفعل لله وحده خلقاً وإيجاداً لا شريك له، وأنه يكون من أهل القبور من الأنبياء، والأولياء تسبباً وكسباً؟) (1).
ويدعي داود أن الصالحين بعد وفاتهم أحياء في قبورهم، كما هم عليه في الدنيا فيقول:
(وكان بعد من يدعي العلم في زعمه وهو أجهل من هبنقة، يقول كيف يعلم الأنبياء، والأولياء بمن يستشفع بهم ويناديهم؟ فقلت لهم هم مكشوف لهم في الدنيا، وهم على ما هم عليه بعد موتهم..) (2).
ويقول: (إن سائر الموتى أحياء حياة برزخية، ولا ينكر التوسل والتشفع بهم إلا من جعلهم تراباً وعظاماً، وترك ما يجب لهم ويسند إليهم إكراماً وتعظيماً..) (3).
ويزعم ابن جرجيس أن منكري التوسل والاستغاثة بالموتى، إنما أتاهم الإنكار من اعتقادهم أن الميت لا يسمع ولا يرى وليس له حياة برزخية، يقول داود:
(اعلم أيها المؤمن أن المنكر للتوسل والتشفع من الأنبياء، والأولياء من عبّاد الله الصالحين والاستغاثة بهم .. إنما أتاه الإنكار من اعتقاده أن الميت إذا مات صار تراباً، لا يسمع ولا يرى وليس له حياة برزخية في قبره .. ولو كان معتقداً أن سائر أهل القبور أحياء حياة برزخية يعقلون، ويسمعون، ويرون، ويتزاورون، وأن أعمال الأحياء تعرض عليهم، لما وسعه الإنكار..) (4).
وجاء في رسالة ضد الوهابية ما نصه:
(ثم أي فرق بين التوسل بالأحياء في قضاء الحاجات، وبين من مضي من الأنبياء والأولياء حتى جوزتم الأول وأنكرتم الثاني) (5).
__________
(1) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية ص 25 باختصار.
(2) المرجع السابق، ص 15.
(3) المرجع السابق، ص 25 بتصرف.
(4) المرجع السابق، ص 2، 3 باختصار.
(5) رسالة في الرد على أجوبة الوهابية، مخطوطة من ورقة واحدة، دارة الملك عبد العزيز.(1/297)
ويبين محمد بن مصطفى الحسني جواز التوسل والاستغاثة بغير الله، لعدم اعتقاد - هؤلاء المستغيثين والمتوسلين - التأثير لغير الله، ولا يكتفي الحسني بذلك، بل يقرر انتقاء التأثير وسقوط الأسباب، فليست النار سبباً في الاحتراق وإنما اقترنت النار بالإحراق فقط … يقول:
(والمسلمون لم يعتقد أحد منهم التأثير في الواسطة المتوسل بها إلى الله، كيف وصغار الولدان منهم يعرف ذلك ضرورة لقراءته كلام الله كل حين، وقد نفوا التأثير عما يحكم عليه بالعادة أنه مؤثر بحاسة العيان كالنار مثلاً، فإن إحراق ما مسته لا دلالة للعادة عليه أصلاً، وإنما غاية ما دلت عليه العادة الاقتران فقط بين الأمرين ..) (1).
ويجعل دحلان كلاًّ من التوسل والتشفع والاستغاثة بالأموات بمعنى واحد هو التبرك فقط … ثم يدعي أنهم أسباب يرحم الله بهم، لكن الله هو المؤثر وحده، ولكن - أيضاً - هؤلاء الأموات سبب عادي لا تأثير له !! يقول دحلان:
(فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى، لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، فالمؤثر والموجد حقيقة هو الله تعالى، وذكر هؤلاء الأخيار سبب عادي في ذلك التأثير، وذلك مثل الكسب العادي فإنه لا تأثير له) (2).
ويورد دحلان قولاً آخر يدعي فيه مساواة الحي بالميت؛ لأن كلاًّ منهما لا تأثير له في شيء، ومن اعتقد أن الحي يقدر على بعض الأشياء، فقد اعتقد اعتقاداً باطلاً، يقول:
__________
(1) إظهار العقوق في الرد على منع التوسل إلى الله تعالى بالنبي والولي الصدوق)، ط 1، مطبعة التقدم، مصر، 1327هـ، ص 48.
(2) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 14.(1/298)
(الحي والميت مستويان في أن كلاًّ منهما لا تأثير له في شيء .. واعتقادكم أن الحي قادر على بعض الأشياء يستلزم اعتقادهم أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وهو اعتقاد فاسد ومذهب باطل، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده لا شريك له، والعبد ليس له إلا الكسب الظاهري .. فيستوي الحي والميت في أن كلاًّ منهما لا خلق له ولا تأثير، والمؤثر هو الله تعالى وحده..) (1).
ويدعي السمنودي - كأسلافه السابقين - عدم التفريق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل، أو الاستغاثة أو التوجه.. ما دام أن الاستغاثة بالأنبياء والصالحين ليس لها معنى إلا طلب الغوث حقيقة من الله ومجازاً بالتسبب العادي(2).
ويطنب الدجوي في هذه المسألة، فيجوّز التوسل والاستغاثة بالأموات إذا كان من فعلها يسند الخلق إلى الله وحده .. ولو أسند شيئاً لغير الله فإن ذلك يحمل على الإسناد المجازي لا الحقيقي ..، فلا تفرقة – إذن – بين الأحياء والأموات في هذا المقام، بل إن حصر التوسل في الحي دون الميت أقرب إلى وقوع الناس في الشرك.
يقول الدجوي:
(لا أدري كيف يكفرون من يقول: إن الله خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، والمتوسل ناطق بهذا في توسله. فإن المتوسل إلى الله بأحد أصفيائه قائل أنه لا فاعل إلا الله، ولم ينسب إلى من توسل به فعلاً ولا خلقاً، وإنما أثبت له القربة والمنزلة عند الله .. حتى أننا لو رأيناه أسند شيئاً لغير الله تعالى، علمنا بمقتضى إيمانه أنه من الإسناد المجازي، لا الحقيقي كقولهم أنبت الربيع البقل) (3).
ويقول في موضع آخر:
__________
(1) المرجع السابق ص 34، بتصرف يسير.
(2) انظر: (سعادة الدارين) 1/207.
(3) مجلة نور الإسلام، م 1، مقال حكم التوسل بالنبي، ص 588.(1/299)
(ولست أدري هل يأخذ هؤلاء بالظواهر أم بالمقصود منها؟ فإن كان التعويل عندهم على الظواهر، كان قول القائل (أنبت الربيع البقل، وأرواني الماء وأشبعني الخبز) شركاً وكفراً.
وإن كانت العبرة بالمقاصد والتعويل على ما في القلوب التي تعتقد أنه لا خالق إلا الله وأن الإسناد لغيره إنما هو لكونه كاسباً له، أو سبباً فيه، لا لكونه في التفرقة بين الحي والميت على نحو ما يقولونه (كأن الحي يصح أن يكون شريكاً لله دون الميت))(1).
ثم يقول: (فالتفرقة بين الأحياء والأموات في هذا المقام غير صحيحة، فإن الطلب من الله، والفعل لله لا من المستغاث به) (2).
ويهاجم الدجوي مخالفيهم فيقول:
(إن تخصيص جواز التوسل بالحي دون الميت أقرب إلى إيقاع الناس في الشرك، فإنه يوهم أن للحي فعلاً يستقل به دون الميت، فأين هذا من قولنا أن الفعل في الحقيقة لا للحي ولا للميت ؟ ومن أمعن النظر في كلامهم لم يفهم منه إلا مذهب المعتزلة في الأحياء ومذهب الذين يئسوا من أصحاب القبور في الأموات) (3).
ويقرر العاملي أن: (الأخبار صرحت بعدم الفرق بين الحي والميت بل - وكذا - الموجود والمعدوم) (4).
ويدعي العاملي – أيضاً – أن: (التفرقة بين التوسل بالأحياء والأموات تحكم محض وجمود بحت) (5).
ويذكر الزهاوي مقالة أسلافه، فيدعي أن التوسل والتشفع والاستغاثة بمآل واحد؛ لأن القصد منها التبرك بالأموات الذين بسببهم يرحم الله عباده، ولكنهم أسباب – عادية – لا تأثير لهم؛ لأن الموجد حقيقة هو الله(6).
ويقول الزهاوي:
__________
(1) المرجع السابق، م 2، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 31.
(2) المرجع السابق، م 2، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 33.
(3) المرجع السابق، م 2، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 114 بتصرف يسير.
(4) كشف الارتياب، ص 306).
(5) المرجع السابق، ص 304.
(6) انظر: (الفجر الصادق)، ص 60.(1/300)
(المراد من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين والتوسل بهم هو أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله هو الفاعل.. لا أنهم هم الفاعلون كما هو المعتقد الحق في سائر الأفعال، فإن السكين لا يقطع بنفسه بل القاطع هو الله، والسكين سبب عادي خلقه الله تعالى القطع عنده) (1) فليست السكين - على حد زعم الزهاوي - سبباً في القطع وإنما خلق الله القطع عند اقترانه بالسكين..
ويدعي الزهاوي - بناء على ما قرره - عدم التفريق في التوسل بذوات المخلوقين أحياء أو أمواتاً، فليس لهم تأثير في شيء(2).
ويزعم الطباطبائي أن الميت كالحي إدراكاً وشعوراً بل يزيد الميت على الحي فيقول:
(أما عدم كون نداء الأموات توجيهاً للخطاب نحو المعدوم، فلأن للميت من الإدراك والشعور، والالتفات مثل ما له في الحياة، بل أزيد لإجماع المسلمين عليه بعد الكتاب والسنة) (3).
ويذكر خزبك عدم الفرق في التوسل بين الأحياء والأموات؛ لأن الله وحده هو المؤثر والأحياء والأموات ليس لهم تأثير في شيء (4).
ويورد حسن الشطي شبهة لمن خالفهم، ويردّ عليهم، فيقول:
(فإن قلت شبهة من منع التوسل رؤيتهم بعض العوام يطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء لا تطلب إلا من الله، ويجدونهم يقولون للولي افعل لي كذا وكذا، فهذه الألفاظ الصادرة منهم توهم التأثير لغير الله.
أجيب بأن الألفاظ الموهمة محمولة على المجاز العقلي، والقرينة عليه صدوره من موحد، ولذا إذا سئل العامي عن صحة معتقده بذلك فيجيبك بأن الله هو الفعال وحده لا شريك له، وإنما الطلب من هؤلاء الأكابر عند الله تعالى المقربين لديه على سبيل التوسط بحصول المقصود.. ولا يصح لنا أن نمنعهم من التوسل والاستغاثة مطلقاً..) (5).
__________
(1) الفجر الصادق ص 53، 54.
(2) انظر: (الفجر الصادق)، ص 59.
(3) البراهين الجلية ص 23.
(4) انظر: (المقالات الوفية)، ص 199.
(5) النقول الشرعية ص 107، 108، باختصار.(1/301)
ويورد سوقية معتقدهم في الأفعال، فكان مما أورده أنه قال:
(واعتقاد أهل السنة والجماعة أن الفاعل في هذه العوالم هو الله وحده لا شريك له، لا تأثير لشيء من الأشياء كبر أو صغر، شديداً كان أو ضعيفاً، والشيء يوجد عنده لا به.. مثل قول الموحد أنبت الربيع البقل، فإسناد الإنبات إلى الربيع إسناد مجازي، للعلم بأن المنبت حقيقة هو الله وحده لا يشاركه فيه غيره..) (1).
ويذكر محمد عاشق الرحمن - بعد أن ساق حديث توسل آدم بمحمد قبل وجوده - عدم الفرق بين لفظ التوسل ولفظ الاستعانة ولفظ الالتجاء، فيقول:
(ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل، أو الاستعانة، أو التشفع، أو الالتجاء، والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه متوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه ومستغيث به) (2).
ويقول محمد الطاهر يوسف - في شأن التوسل بالموتى -:
(بالنسبة للمتوسل بهم، فلا فرق بين أنهم أحياء أو أموات؛ لأن المتولي لأمورهم هو الله، وهو حي لا يموت، ومن اعتقد أن الولي ينفع في حياته دون مماته، وهو رأي الفرق المعتزلة - يعني الوهابيين - فقد ضل عن السبيل..) (3).
ويجيء المالكي أحد أفراخ أولئك الخصوم، فيردد ما قاله أشياخه، فيقول:
(إن الاستغاثة، والتوسل إن كان المصحح لطلبها هو الحياة كما يقولون فالأنبياء أحياء في قبورهم وغيرهم من عباد الله المرضيين، ولو لم يكن للفقيه من الدليل على صحة التوسل والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم إلا قياسه على التوسل والاستغاثة به في حياته الدنيا لكفى، فإنه حيي الدارين، دائم العناية بأمته متصرف بإذن الله في شؤونها..) (4).
ويقول أيضاً:
__________
(1) تبيين الحق والصواب ص 14.
(2) عذاب الله المجدي لجوف منكر التوسل النجدي مكتبة الحقيقة، استنابول، 1402هـ، ص 43.
(3) قوة الدفاع والهجوم ص 12.
(4) مفاهيم يجب أن تصحح ص 91.(1/302)
(أما دعوى أن الميت لا يقدر على شيء فهي باطلة..) (1)
ويدعي المالكي (أن الأرواح لها من الإطلاق والحرية ما يمكنها من أن تجيب من يناديها، وتغيث من يستغيث بها كالأحياء سواء بسواء، بل أشد وأعظم) (2).
وهكذا يتضح العنصر الثاني من خلال تلك النقول – التي سبق إيرادها – عن كتب المناوئين، فظهر أن الخصوم يعتقدون أن التوسل إلى الله بالأموات بمعنى الاستغاثة بهم فلا فرق بين المعنيين.
وتبين أنه لا فرق – عندهم – في التوسل والاستغاثة بين الحي وبين الميت، لأنه ليس للميت ولا للحي تأثير، فالمؤثر والفاعل هو الله وحده، ولو جد في بعض (الألفاظ الموهمة) – كما يسمونها – ما يتوهم منه إسناد الفعل إلى الأموات، فلا حرج في ذلك؛ لأن هذا الإسناد مجازي لا حقيقي …
وكذلك لا فرق عندهم بين الأحياء والأموات في التوسل، والاستغاثة؛ لأن الأموات أحياء في قبورهم، بل إن حياتهم وإدراكهم أتم وأكمل ممن كان في الدنيا.
وسنورد الرد والبيان الشافي على تلك الشبهة من خلال ما سطّره بعض أئمة الدعوة السلفية، وأنصارها.
وقبل أن نورد الرد والبيان – بشيء من التفصيل – لما تضمنته شبه تحريم التوسل بكلا عنصريها، نرى أن يسبق ذلك إشارة لما يحتويه لفظ (التوسل) من الإجمال والاشتراك الذي يحتاج إلى تفصيل وتمييز.
ولقد بين علماء الدعوة ذلك، فأوضحوا ما يحمله مصطلح (التوسل) من الإجمال الذي لابد من تفصيله، وما يتضمنه من الإطلاق الذي لابد تقييده.
يقول صاحب كتاب (التوضيح):
(إن التوسل فيه إجمال واشتراك بحسب الإصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة والتابعين طلب الدعاء من النبي أو الصالح، أو التوجه بدعائه …
__________
(1) المرجع السابق، ص 92.
(2) المرجع السابق، ص 93.(1/303)
وأما معناه في لغة المعاندين فهو أن يسأل الله عز وجل بذات ذلك المخلوق، ويقسم عليه تعالى به، أو يسأل ذلك المخلوق نفسه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله يتقرب بذاته ويسأل منه شفاعته..) (1).
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ما يحتويه لفظ (التوسل) من الاشتراك، فيقول:
(إن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعبّاد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله، ودعائه رغباً ورهباً والذبح والنذر، والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق.
وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة … ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح. أو بعباده الصالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر - أي الهيتمي -) (2).
وكذا ذكر الآلوسي ما تضمنه لفظ التوسل من جمال، فقال رحمه الله:
(إن لفظ التوسل صار مشتركاً على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عبّاد القبور التوجه إلى الصالحين ودعائهم مع الله في الحاجات والملمَّات) (3).
لقد استغل الخصوم هذا الإجمال والاشتراك في لفظ التوسل، فقلبوا الحقائق، وأجازوا دعاء الموتى والاستغاثة بهم باسم التوسل، ثم زعموا أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بالأنبياء والصالحين.
__________
(1) كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص 310.
(2) منهاج التأسيس ص 267. وذكر قريباً من هذا الكلام في كتابه (مصباح الظلام) ص 178.
(3) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس ص 400، وانظر: (الأسنة الحداد) لابن سحمان ص 150، و(الصواعق المرسلة الشهابية) ص 7، 8.(1/304)
فزعم ابن سحيم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يكفّر من توسل بالصالحين(1). وحرّف ابن منصور الكلم عن مواضعه، فادعى أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بذوات الصالحين(2)، وافترى دحلان حين قال:
(كان محمد بن عبد الوهاب يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة: ومن توسل بالنبي فقد كفر)(3).
ويزيد العاملي كذباً وزوراً على سلفه، فيقول:
(والتوسل بأنواعه مما منعه الوهابية وجعلوه شركاً) (4).
إن الشيخ الإمام كفّر من استغاث بالأموات سواء كانوا أنبياء أو أولياء ولو سميت تلك الاستغاثة توسلاً فالعبرة بالحقائق والمعاني وليست بالأسماء والمباني، فالتوسل عند عبّاد القبور يطلقونه على الاستغاثة بالموتى وطلب الحاجات منهم - كما تقدم -.
وأما دعوى أن الشيخ كفّر من توسل بالصالحين، بمعنى سؤال الله بجاه هؤلاء الصالحين فقد أجاب الشيخ الإمام على تلك الدعوى - رداً على ابن سحيم - فقال:
(فالمسائل التي شنع بها منها، ما هو من البهتان الظاهر - وذكر الشيخ الإمام منها - قوله: أني أكفر من توسل بالصالحين، وجوابي أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم) (5).
__________
(1) انظر: (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/12 وانظر: أيضاً 5/64.
(2) انظر: (مصباح الظلام) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ص 73.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 42.
(4) كشف الارتياب ص 301.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/64.(1/305)
وفي المقابل نجد أن خصوماً فهموا أن الشيخ لا ينكر الاستغاثة بالموتى، وطلب الحاجات منهم، واحتجوا بجواب كتبه الشيخ الإمام في حكم التوسل إلى الله بالصالحين ذكر فيه أنه لا ينكر من توسل بالصالحين؛ لأنها من مسائل الفقه، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، مع أن الشيخ الإمام صرّح، ووضّح في نفس الجواب الفرق بين التوسل بذوات الصالحين بمعنى سؤال الله بذواتهم، وبين سؤال الصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم - فيما لا يقدر عليه إلا الله -، فكان مما قاله رحمه الله: (ولكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يطلب منه تفريج الكربات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين، أو غيره يدعو عنده، لكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين) (1).
فاحتجوا بهذا النص الذي هو حجة دامغة عليهم، وادعوا به جواز الاستغاثة بالموتى الصالحين باسم التوسل، مع أن كلام الشيخ دليل عليهم لا لهم، وردّ على خطئهم وانحرافهم(2).
وعقب هذه الإشارة التي أوضحت ما يتضمنه لفظ التوسل من الإجمال والاشتراك، فإننا نورد بياناً موجزاً للتوسل الشرعي - كما بينه وقرره علماء الدعوة - تمييزاً له عن التوسل البدعي..
إن التوسل الشرعي إما أن يكون بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى وإما أن يكون التوسل بالأعمال الصالحة، وإما أن يكون التوسل بدعاء الرجل الصالح.
وقد أشار الشيخ حمد بن ناصر بن معمر إلى هذه الأنواع الثلاثة التي تشمل التوسل الشرعي فقال:
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ 3/68، وانظر: (تاريخ ابن غنام) 1/208.
(2) انظر إلى تلبيس المالكي في كتابه (مفاهيم يجب أن تصحح) حيث نقل كلام الشيخ - الذي سبق إيراده - بعنوان (الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر التوسل) ص 62، 63، واحتج به - زوراً وبهتاناً - على جواز الاستغاثة بالموتى.(1/306)
(.. الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسول ومحبته وطاعته ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته وتوسلوا بدعاء العباس وبيزيد..) (1).
ويذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين بعض أنواع التوسل المشروع فيقول:
(فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة كتوسل المؤمنين بإيمانهم في قولهم: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان)(2)..، وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم(3)، وكسؤاله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وهذا معنى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (4) فإنها القربة التي تقرب إلى الله وتقرب فاعلها منه، وهي الأعمال الصالحة) (5).
ويوجز الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنواع التوسل المشروع بقوله:
(التوسل المشروع الذي جاء به الكتاب والسنة وهو التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات اللائقة بجلال رب البريات، وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم) (6).
ويبين الشيخ سليمان بن سحمان التوسل المشروع، وأنه ما كان في عرف الصحابة والتابعين فيقول:
__________
(1) الدرر السنية 9/17.
(2) سورة آل عمران: آية 193.
(3) حديث رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم.
(4) سورة المائدة : آية 35.
(5) الدرر السنية) 2/85 باختصار، وانظر: (التوضيح عن توحيد الخلاق) ص 43.
(6) الدرر السنية 9/232.(1/307)
(التوسل في عرف الصحابة والتابعين هو طلب الدعاء من الرسول في حياته كما كانوا يتوسلون به عند القحط، فيدعوا الله ويستسقيه، فيسقيهم الله، ثم بعد مماته توسل عمر بدعاء عمه.. فهذا (من) التوسل المشروع، والشيخ - أي محمد بن عبد الوهاب - لا يمنع من هذا ولا ينكره) (1).
فالتوسل الشرعي معلوم ومفهوم بأدلته وأنواعه، وكما قال أبو السمح: (وأما التوسل إلى الله تعالى فقد أمر تعالى به إجمالاً وتفصيلاً، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً حتى أصبح من فلق الصبح..) (2).
وقد فصّل القصيمي أنواع التوسل المشروع، فجعلها أحد عشر نوعاً .. وهي في الحقيقة كلها مندرجة ضمن الأنواع الثلاثة من التوسل المشروع(3).
وهذا التوسل المشروع قد أقر به الشيخ رحمه الله، وكذا أتباعه امتثالاً لما شرعه الله تعالى لعباده من الوسائل التي تقربهم إليه.
لذا يقول محمد بن نسيب الرفاعي:
(فإن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقرون بالتوسل المشروع، ويدعون إليه.. فهل الإنصاف يا ناس أن نتهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها تنكر التوسل، ونقيم الدنيا عليها ونقعدها بالباطل، بينما هي تقر بالتوسل على ما يحب الله ورسوله، وتحض المسلمين عليه) (4).
وبعد هذه العجالة التي أوضحنا فيها المراد بالتوسل المشروع وأنواعه، وبعض أدلته، وإقرار وإيمان أئمة الدعوة السلفية بهذا التوسل الذي شرعه الله تعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) الأسنة الحداد) ص 150، باختصار، وانظر: ص 231.
(2) الرسالة المكية في الرد على الرسالة الرملية)، ط 1، مطبعة المنار، مصر، 1349هـ، ص 29.
(3) انظر: (البروق النجدية في اكتساح الطاعات الدجوية)، مطبعة المنار، مصر، 1350هـ، ص 22-25.
(4) الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ص 20 باختصار.(1/308)
ننتقل إلى الرد والبيان لما تضمنه العنصر الأول من شبهة تحريم التوسل، ونعرض لأنواع التوسل البدعي بالرد والمناقشة، ثم نتحدث عن أدلتهم ومدى صحتها سنداً، ومدى صحة الاستدلال بها متناً.
نقصد بالتوسل البدعي، التوسل إلى الله بذوات المخلوقين وأشخاصهم، والتوسل إلى الله بجاه الصالحين ومنزلتهم عند الله، الإقسام على الله بالمتوسل به – كما ذكره خصوم الدعوة السلفية -:
وينبغي أن يعلم – ابتداء – أن حكم هذه الأنواع الثلاثة لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر الذي يخرج عن الملة، وإنما هي بدع قد تصل إلى درجة التحريم، أو دونه، لأن من توسل إلى الله بهؤلاء الصالحين، أو جاههم، فهو يدعو الله مخلصاً له الدين، ولكن يقول: أسألك بهؤلاء الصالحين(1).
ولعلنا إذا أوردنا – الآن – الردود على تلك الأنواع من التوسل البدعي يتضح الحكم ويزول اللبس والإشكال.
وقد تحدث الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن ذلك التوسل فقال:
(وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين ومن قال هذا من الصحابة والتابعين.
وأما التوسل بالذات بعد الممات فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقض ذلك. وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه، وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء، فالواجب رد ما تنازعوا إلى الله والرسول. ومعلوم أن هذا لم يكن منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مشهوداً بين السلف، وأكثر النهي عنه.
__________
(1) انظر بيان ذلك في كتاب (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان) للسهسواني ص 209.(1/309)
ولا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته، فلا يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مرّ من التوسل به من الدعاء للمتوسل وبمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل به الإنسان إذا توسل إلى غير بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه اشفع لنا عند فلان، وهذا جائز، وإما أن يقسم عليه لا يجوز الإقسام بالمخلوق، كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين، فالتوسل إلى الله بذات خلقه بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان) (1).
ويوجز الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الجواب على أنواع هذا التوسل، فيقول:
(وأما التوسل، وهو أن يقال: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة ولم يرد بذلك نص) (2).
يبين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حكم سؤال الله بالموتى فقال:
(وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، ولكن بعض العلماء يرخص فيه، وبعضهم ينهي عنه ويكرهه .. لكنه لا يوصله إلى الشرك الأكبر..) (3).
وأما التوسل إلى الله في الدعاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول عنه الشيخ عبد الله:
(لا نعلم أحداً من السلف فعله، ولا روي فيه أثر) (4).
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية 9/23.
(2) الدرر السنية 1/129.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل 1/69 باختصار.
(4) المرجع السابق 1/71.(1/310)
ويذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين حكم الإقسام على الله بمخلوق فقال:
(وأما الإقسام على الله بمخلوق فهو منهي عنه باتفاق العلماء، وهل هو منهي عنه تنزيه أو تحريم ؟ على قولين أصحهما أنه كراهة تحريم) (1).
ومما أجاب به الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب لمن سأله عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والمرسلين، فكان مما قاله رحمه الله:
(وأما التوسل بجاه المخلوقين كمن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك بعد موتهم، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على النهي عنه، وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة إجماعاً. ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم؛ لأن الذين لهم من الجاه والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك بشيء إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم) (2).
ويوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن سؤاله الله بالرجل الصالح ليس في الشريعة ما يدل على جوازه فيقول:
(ولو جاز (سؤال الله بالرجل الصالح)، لما ترك الصحابة السابقون الأول من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا. وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب عام الرمادة بمحضر من السابقين الأولين يستسقون فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، ثم قال ارفع يديك يا عباس فرفع يده، يسأل الله تعالى، ولم يسأله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره، ولو كان هذا التوسل حقاً، كانوا إليه أسبق، وعليه أحرص) (3).
__________
(1) الدرر السنية 2/85.
(2) المرجع السابق 9/232.
(3) الدرر السنية 2/113.(1/311)
ونورد بعض جواب الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن في مسألة سؤال الله بالمخلوق، والإقسام على الله به، حيث قال رحمه الله:
(وإذا تقرر هذا، فقد عرفت سلمك الله كلام الناس في مسألة سؤال الله بمخلوق، والإقسام على الله به، وقد ذاكرتك فيها بأن الذي نعتقده أنا لا نكفر بها أحداً، بل نقول هي بدعة شنيعة نهى عنها السلف..) (1)
ويسوق السهسواني جواباً حول السؤال بحق فلان فيقول:
(فالقول الفصل في ذلك: أن السؤال بحق فلان إن ثبت بحديث صحيح، أو حسن فلا وجه للمنع، وإن لم يثبت فهو بدعة، وقد عرفت فيما سلف أن كل حديث ورد في هذا الباب لا يخلو من مقال ووهن، فالأحوط ترك هذه الألفاظ، وقد جعل الله في الأمر سعة، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التوسل المشروع على هيئات متعددة، فلا ملجيء إلى الوقوع في مضيق الشبهات..) (2).
ويقول الشيخ صالح بن أحمد:
(وأما التوسل بذوات الأشخاص فغير جائز، وهو من البدع المحدثة وأمر لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن اجتلبوا له أحاديث لا أصل لها، ودندنوا حولها، وحملوا بعض الآيات على غير محملها لهواهم، وليس كل قول قيل بالقبول يقابل، إلا ما جاء في كتاب الله، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جل ذلك عن الرد)(3).
ولعل تصور أنواع التوسل البدعي - الثلاثة - يكون أكثر وضوحاً وبياناً، وكذلك حكمها، عندما ننتقل إلى رد وبيان العنصر الثاني من شبهة هذا الفصل.
ومن المناسب - في هذا المقام - أن نذكر كلمة جامعة لشيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة التوسل بالصالحين حيث يقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق 1/271.
(2) صيانة الإنسان ص 207.
(3) تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور ص 55.(1/312)
(ومازلت أبحث، وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك)(1).
وأما ما أورده القوم من الأدلة القرآنية واستدلالهم بها، وكذا أحاديثهم..، فنذكر أمثلة من إجابات أنصار هذه الدعوة السلفية على تلك الأدلة.
فأما استدلالهم بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (2) فيقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين:
(الوسيلة هي القربة والتوسل إلى الله التقرب إليه بطاعته، واتباع رسوله، والاقتداء به، وهذا هو الوسيلة المأمور بها في قوله سبحانه (وابتغوا إليه الوسيلة) ومن الوسيلة دعاؤه لهم صلى الله عليه وسلم وطلبهم ذلك منه في حياته كما كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم ويستسقي لهم كقول عمر: اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، فهذا من الوسيلة المأمور بها) (3).
ويبين الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المراد بالوسيلة في الآية فيقول:
(إن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله هي عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به، وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها) (4).
وقد ساق القصيمي الجواب على استدلالهم بهذه الآية من ثمان وجوه كلها على طريق الإلزام والجدل(5).
__________
(1) نقلاً عن: أحمد بن عيسى، (الرد على شبهات المستعينين بغير الله)، دار مصر للطباعة، ص 49.
(2) سورة المائدة: آية 35.
(3) تأسيس التقديس ص 107.
(4) دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ ص 89.
(5) انظر: (البروق النجدية) ص 26، 27.(1/313)
كما أورد القصيمي سبعة وجوه جواباً على استدلالهم بقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله …. الآية) (1)، نختار وجهاً واحداً منها حيث قال:
(وهي واقعة معينة لا تفيد العموم بمعناها، ولا لفظها، وقعت في حياته صلى الله عليه وسلم، فمن أين أخذت التعميم في الحياة والممات ؟ مع أن لفظها لا يفيد، ومعناها لا يريده، وأما كون الوقائع المعينة تكون عامة لغير صاحب الواقعة فمن أدلة أخرى دلت عليه) (2).
وأما استدلالهم ببعض الأحاديث، فالجواب عليها ما يلي:
فأما حديث توسل آدم بحق محمد، فقد أجاب عليه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فكان مما قاله رحمه الله:
(فأما حديث توسل آدم بحق محمد. فالجواب أن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن يزيد ضعيف بالاتفاق ضعفه مالك، وأحمد، وابن معين، وابن المديني، وأبو زرعة، وأبو داود، وابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، فهذا كما ترى تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو هو. وقال الحافظ الذهبي في (تلخيص المستدرك) لما ذكر الحاكم هذا الحديث، فقال هذا صحيح.
قال الذهبي: أظنه موضوعاً ثم هو مخالف للقرآن؛ لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام، وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم) (3) .
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المعنى الصحيح لحديث (أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي …) - وهو في السنن - حيث استدلوا به على سؤال الله بخلقه. فقال الشيخ رحمه الله في بيان معناه:
__________
(1) سورة النساء: آية 64.
(2) البروق النجدية ص 37.
(3) الدرر السنية 9/233 بتصرف يسير.(1/314)
(وأما ما ورد في السنن (بحق السائلين عليك) وبحق ممشى الذاهب إلى المسجد ونحو ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقاً تفضلاً منه وإحساناً إلى عباده، فهو توسل إليه بوعده، وإحسانه، وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه حقاً تفضلاً منه، وإحساناً إلى عباده، فليس هذا من الباب أعني باب مسألة الله بخلقه، وقد منعه فقهاء الحنفية، كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي(1) رحمه الله بداره بالأسكندرية، وذكر أنهم قالوا: لا حق لمخلوق على الخالق.
ويشهد لهذا ما يروي أن داود قال: اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك، فأوحى الله إليه: (أي حق لآبائك عليّ) أو نحو هذا. والحق المشار إليه بالنفي هذا غير ما تقدم إثباته. فإن المثبت بمعنى الوعد الصادق وما جعله الله للماشي إلى الصلاة، وللسائلين من الإجابة، والإنابة فضلاً منه وإحساناً، والمنفي هنا هو الحق الثابت بالمعارضة، والمقابلة على الإيمان والأعمال الصالحة، فالأول يرجع ويعود إلى التوسل بصفاته الفعلية والذاتية، والثاني يرجع إلى التوسل بذوات المخلوقين، فتأمله فإنه نفيس جداً) (2) .
وأما استدلالهم بحديث (يا عباد الله أعينوني)، وحديث (يا عباد الله احبسوا) فأجاب عنه الشيخ محمد بن ناصر الحازمي فقال: (والحديثان لا يصحان. أما الأول: فرواه الطبراني في الكبير بإسناد منقطع، والثاني: ففي إسناده معروف بن حسان، قال ابن عدي: منكر الحديث..) (3) .
__________
(1) أحد شيوخ الشيخ عبد اللطيف في مصر، فقيه، مقريء، تولى إفتاء الأسكندرية في عهد محمد علي، وله عدة مؤلفات، توفي سنة 1267هـ. انظر: (معجم المؤلفين) 12/5، وانظر: تعليق محمد حامد الفقي على كتاب (مصباح الظلام)، ط أنصار السنة المحمدية، ص 166، 167.
(2) مصباح الظلام ص 179، 180.
(3) إيقاظ الوسنان ق 24، وانظر: ما كتبه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ حول هذا الحديث في (تيسير الحميد) ص 247.(1/315)
وكتب الشيخ أحمد بن عيسى جواباً على استدلالهم بحديث الأعمى، فكان مما كتبه:
(قد قرر جمع من العلماء ما قرره شيخ الإسلام في معنى حديث الأعمى، وبينوا أنه ليس فيه إلا طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه دلالة فيه على التوسل بالذات، كالعلامة السويدي وابنه، والشيخ نعمان بن محمود أفندي الآلوسي..) (1).
وقد أفاض الشيخ السهسواني في الرد على ما استدلوا به من أحاديث، وتعقبها بالرد والنقد، فكان مما قاله رحمه الله - جواباً على استدلالهم بحديث فاطمة بنت أسيد على جواز التوسل بالأنبياء -:
(وفيه - أي حديث فاطمة بنت أسيد - روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقال الذهبي في (الميزان) روح بن صلاح المصري يقال له ابن سبابة ضعفه ابن عدي، يكنى أبا الحارث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم ثقة مأمون. أ.هـ.
فقد علم بذلك أن في سنده روح بن صلاح المصري وهو ضعيف ضعفه ابن عدي، وهو داخل في القسم المعتدل من أقسام من تكلم في الرجال كما في (فتح المغيث) للسخاوي ولا اعتداد بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف كما في (الميزان).
وكذلك لا اعتداد بتوثيق الحاكم وتصحيحه فإنه داخل في القسم المتسمح كما قال السخاوي) (2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري في حاشية الجواب السابق:
__________
(1) الرد على شبهات المستعينين بغير الله، ص 55.
وانظر : ما كتبه الشيخ سليمان بن عبد الله حول هذا الحديث في (تيسير العزيز الحميد) ص 244 - 247. وما كتبه الشيخ محمود شويل حول هذا الحديث سنداً ومتناً في (القول السديد على الحرازي العنيد) ص 48 - 101.
(2) صيانة الإنسان ص 129.(1/316)
(هذا الحديث - أي حديث فاطمة بنت أسيد - لا يصح دراية، إذ صيغة متنه وركاكة ألفاظه وما فيه من المبالغة مما يدل على عدم ثبوته. زيادة على غرابته، وما في سنده من الضعف الذي تكلم عليه المؤلف) (1).
وأما استدلالهم بحديث عثمان بن حنيف، فقال السهسواني عن هذا الحديث:
(في سنده أبو جعفر، فإن كان هو عيسى بن أبي عيسى ما هان أبو جعفر الرازي التميمي - كما ظنه الحافظ ابن حجر في (التقريب) - فالأكثرون على ضعفه .. قال عنه الحافظ في (التقريب): صدوق سيء الحفظ، وقال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال الفلاس: سيء الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي.
وإن كان أبا جعفر المدني كما في سنن ابن ماجة فهو مجهول..) (2).
وأما استدلالهم بحديث (أسألك بحق السائلين إليك)، فقد تكلم السهسواني على سنده فقال:
(ففي سنده عطية العوفي فإن جارحيه أكثر من معدليه، ووجه ضعفه كونه شيعياً مدلساً، وكذا عدم الضبط وكثرة الخطأ .. كما أن في سنده فضيل بن مرزوق، وهو ممن اختلف فيه.. وكذا في سنده الفضل بن موفق أبو الجهم ضعفه أبو حاتم، والأشبه أن هذا الحديث موقوف كما قال أبو حاتم) (3).
__________
(1) المرجع السابق ونفس الصفحة.
وانظر: ما كتبه محمود شويل حول حديث فاطمة في كتابه (القول السديد) ص 117 - 121.
(2) صيانة الإنسان) ص 131باختصار.
وانظر ما كتبه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ حول حديث عثمان بن حنيف في (تيسير العزيز الحميد) ص 248، 249.
(3) صيانة الإنسان ص 124 - 126 باختصار.(1/317)
هذه بعض الردود على استدلال الخصوم في إثبات التوسل البدعي، ولم نقصد بتلك الردود الإحاطة والتفصيل، وإنما قصدنا مجرد التنبيه والتمثيل، فلقد ألفت – ولله الحمد – كتب عرضت لهذه الأدلة بالرد والنقد التفصيلي(1)، فأغنى ذلك عن ذكره. وننتقل إلى الرد على ما جاء في العصر الثاني من هذه الشبهة ونشرع في الرد عليها – أولاً – فيما ادعوه بأن التوسل إلى الله بالموتى بمعنى الاستغاثة بهم، فقد أورد صاحب كتاب (التوضيح) هذه الدعوى ثم أبطلها من عدة وجوه، فكان مما قاله رحمه الله:
(فإن قيل يجوز أن يكون لفظ الاستغاثة بغير الله بمعنى التوسل، فمعنى قول المستغيث أستغيث برسول الله، وبفلان الولي أي أتوسل برسول الله أو بالولي الصالح، ويصح حينئذٍ أن يقال تجوز الاستغاثة في كل ما يطلب من الله بالأنبياء والصالحين بمعنى أنه يجوز التوسل بهم في ذلك ويصح لفظاً ومعنى. الجواب أن هذا باطل من وجوه:
أحدهما: أن لفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به لا بمعنى التوسل، وقد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن الاستغاثة لا تجوز بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وقول القائل أستغيث به بمعنى توسلت بجاهه، هذا كلام لم ينطق به أحد من الأمم لا حقيقةً ولا مجازاً ولم يقل أحد مثل هذا، ولا معناه لا مسلم ولا كافر.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) لابن تيمية، و (رسالة في التوسل) للألباني، و (التوصل إلى حقيقة التوسل) لمحمد بن نسيب الرفاعي، ومقال د. محمد خليل هراس: (الرد على كتاب حكم التوسل بالأنبياء والأولياء)، لمحمد حسنين مخلوف، مجلة كلية أصول الدين ع 3، ص 393 – 482، و (الشفاعة) لمقبل بن هادي الوادعي.(1/318)
الثاني: أنه لا يقال أستغيث إليك يا فلان بفلان أن تفعل بي كذا، وإنما يقال أستغيث بفلان أن يفعل بي كذا، فأهل اللغة يجعلون فاعل المطلوب هو المستغاث به، ولا يجعلون المستغاث به واحداً والمطلوب آخر، فالاستغاثة طلب منه لا به.
الثالث: أن من سأل الشيء، أو توسل به، لا يكون مخاطباً له ولا مستغيثاً به، لأن قول السائل، أتوسل إليك يا إلهي بفلان: إنما هو خطاب لله، لا لذلك المتوسل به بخلاف المستغاث به، فإنه مخاطب مسئول منه الغوث فيما سأل من الله فحصلت المشاركة في سؤال ما لا يقدر عليه إلا الله، وكل دعاء شرعي لابد أن يكون الله هو المدعو فيه.
الرابع: أن لفظ التوسل والتوجه ومعناهما يراد به أن يتوسل إلى الله ويتوجه إليه بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم عند خالقهم في حال دعائهم إياه، فهذا هو الذي جاء في بعض ألفاظ السلف من الصحابة رضوان الله عليهم .. وهذا هو الذي عناه الفقهاء في كتاب الاستسقاء في قولهم ويستحب أن يستسقى بالصالحين..) (1)
ويوضح الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الفرق بين التوسل والاستغاثة فيقول:
__________
(1) كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) ص 307 – 312 باختصار.(1/319)
(وبينهما فرق عظيم أبعد ما بين المشرق والمغرب.. فالعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم أتوسل إليك بنبيك أو بملائكتك أو بالصالحين أو بحق فلان وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور ولا يسألونها وينادونها فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه، ولا يسأل وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم أن من قال أتوسل إليك برسولك أو أتوجه إليك برسولك فقد استغاث به حقيقة فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسئول مدعو فيفرقون بين المسئول وبين المسئول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق) (1).
كما يوضح الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الفرق بينهما فيقول:
(واعلم أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه، فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك فهذا بدعة ليس شرك، وسؤاله ودعاؤه هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة وأنا في كرب شديد، فرج عني، واستجرت بك من فلان فأجرني ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه من الملة؛ لأنه صرف حق الله لغيره؛ لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك، والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله فافهم ذلك) (2).
ويرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على هؤلاء المجوزين للشرك باسم التوسل، فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 1/70.
(2) الدرر السنية 9/234.(1/320)
(وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان يجوز التوسل بالصالحين ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله وتخلصكم من عذابه، بل الحجة ما في كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله، وكلما جاءنا رجل أجدل من رجل نترك ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه، فإن كان أرادوا بالتوسل دعاء الميت والاستشفاع به فهذا هو شرك المشركين بعينه، والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جداً) (1).
ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن ضلال داود بن جرجيس حيث خلط بين التوسل إلى الله بالموتى وبين الاستغاثة بالموتى، فكان مما قاله الشيخ رحمه الله:
(فدخل عليه الضلال والخطأ من وجوه: منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغيثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازاً مع دعواه الإجماع على ذلك، فإن المستغاث هو المسئول المطلوب منه لا المسئول به) (2).
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن الفرق بين مسألة الله بجاه الخلق، ومسألة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله، فيقول:
__________
(1) المرجع السابق 2/112، 113.
(2) القول الفصل النفيس ص 143.(1/321)
(فاعلم أن مسئلة الله بجاه الخلق نوع، ومسئلة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله نوع آخر، فمسئلة الله بجاه عباده منعها أهل العلم، ولم يجزها أحد ممن يعتد به، ويقتدي به كالأئمة الأربعة، وأمثالهم من أهل العلم والحديث، إلا أن ابن عبد السلام أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقيده بثبوت صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع الله يا محمد.. الحديث. قال ابن عبد السلام إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة.- إلى أن قال الشيخ عبد اللطيف: وبالجملة فهذه المسألة نوع، ولا يخرج بها الإنسان عن مسئلة الله، وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله، فسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، ولو قال يا ولي الله اشفع لي فإن السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله) (1).
ويشير الشيخ السويدي(2) إلى الفرق بينهما فيقول:
(وهذا التوسل الذي ذكر فيه الخلاف فيما إذا كان الداعي يتوجه إلى ربه، متوسلاً إليه بغيره مثل أن يقول أسألك بجاه فلان عندك، أو بحرمته أو بحقه، وأما إذا توجه إلى ذلك الغير وطلب منه فهو شرك كما تحقق) (3).
ويبين الشيخ سليمان بن سحمان أنواع التوسل جملة، موضحاً الفرق بينهما فيقول:
__________
(1) البراهين الإسلامية في رد الشبه الفارسية (مخطوط) المكتبة السعودية، رقم 359/86، ق 48، 49.
(2) هو محمد أمين السويدي، أحد علماء العراق، له عدة مؤلفات، توفي سنة 1246هـ. انظر: (المسك الإذفر)، ص 149.
(3) نقلاً عن : (الرد على شبهات المستعينين بغير الله) لأحمد بن عيسى ص 55.(1/322)
(والتوسل له أقسام، فقسم مشروع وهو التوسل بالأعمال الصالحة، وبدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وطلب الاستغفار منه، وبدعاء الصالحين وأهل الفضل والعلم، وكذلك بالأعمال الصالحة، وقسم محرم، وبدعة مذمومة، وهو التوسل بحق العبد وجاهه وحرمته نبياً كان ذلك، أو ولياً، أو صالحاً؛ لأن ذلك لم يرد به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين.. وأما قصد هؤلاء من التوسل فهو دعاء الأنبياء والأولياء، والصالحين، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين..) (1).
وبهذا يعلم أن هناك توسلاً شرعياً، توسلاً بدعياً محرماً، وأن التوسل عند عباد القبور هو بمعنى دعاء الموتى والاستغاثة بهم. وكذلك ندرك خطأ ما ذكره هؤلاء الخصوم بأن لفظ التوسل بمعنى الاستغاثة، وكذلك بمعنى الالتجاء، وغيرها من الألفاظ التي أوردوها بقصد التمويه والتلبيس، وتزيين الشرك بأسماء ينخدع بها عامة الناس، لذا يقول أبو بطين رحمه الله:
(ولما علم الشيطان أن كل من قرأ القرآن، أو سمعه ينفر من الشرك، ومن عبادة غير الله ألقى في قلوب الجهال أن هذا توسل، وتشفع بهم، والتجاء إليهم ونحو ذلك فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم، وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب) (2).
ولكن تغيير الأسماء لا يغير الحقائق، الحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً، وليس مع الأسماء والألفاظ، لذا قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله:
__________
(1) الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية مطابع الرياض، 1376هـ، ص 7، 8.
(2) الانتصار) ص 13.(1/323)
(فإنه من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير أسمائها، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها، كتسمية عبادة غير الله توسلاً وتشفعاً، أو تبركاً وتعظيماً للصالحين وتوقيراً، فإن الاعتبار بحقائق الأمور، لا بالأسماء والاصطلاحات والحكم يدور مع الحقيقة، وجوداً وعدماً لا مع الأسماء..) (1).
وأما دعواهم بعدم الفرق بين التوسل والاستغاثة بالأحياء وبين التوسل والاستغاثة بالأموات؛ لأنه ليس للميت ولا للحي تأثير أو فعل؛ لأن الفاعل - حقيقة - هو الله وحده، وإن وجد في كلام العامة بعض (الألفاظ الموهمة) التي توهم إسناد الفعل إلى الأموات، فلا جناح عليهم؛ لأن هذا الإسناد إسناد مجازي لا حقيقي، هذه هي دعواهم، فأما الرد عليهم فيكون على النحو التالي:
يبين الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين بطلان دعواهم بأن الطلب من الأموات من باب التسبب(2)، فيقول:
(نحن لا ننكر إضافة الأشياء إلى أسبابها، ولكن الله سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات، ولا يلزم من ذلك أن نعتمد على الأسباب، فضلاً عن أن نسألها ونرغب إليها وهي مخلوقة، بل يتعين على العباد أن يعتمدوا على خالق الأسباب ويرغبوا إليه، ويستعينوا به ويعبدوه وحده، إياك نعبد وإياك نستعين).
__________
(1) الضياء الشارق ص 182.
(2) سبق إيراد تلك الدعوى كما ذكرها داود بن جرجيس في كتابه (المنحة الوهبية).(1/324)
ثم يقول: (فطرد هذا الأصل الباطل - أي دعاء الأموات كأسباب - أن يجوز ذلك في جميع الأسباب، وقد قال تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً) (1). فيلزمه أن يجوز للناس أن يطلبوا من الريح أن تسير لهم سحاباً ماطراً، وقال تعالى في حق نبيه: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) (2) والمراد بالظلمات ظلمات الجهل والكفر والشك إلى نور العلم والإيمان، فيجوز على أصل هذا أن يقال يا رسول الله أخرجنا من الظلمات إلى النور) (3).
ويكشف الشيخ صالح الشثري بطلان دعوى دحلان - ومن معه - حين جوز التوسل والاستغاثة بالأموات، ما دام أن المتوسل والمستغيث بهم يعتقد أن التأثير والإيجاد لله وحده، وأنه ليس للحي ولا للميت فعل أو تأثير، يقول الشثري رحمه الله:
(وعلى معتقد هذا الملحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ وظلم في قتال المشركين؛ لأنهم لا يعتقدون تأثيراً، ولا إيجاداً لغير الله، مع أن هذا الملحد قد نقض أصله في نفس تعريفه بقوله: فالمستغيث يطلب ممن استغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، فهل التحصيل إلا فعل قائم بالواسطة الذي طلب منه، وقد سلك في معتقده هذا مع تناقضه مذهب القدرية المجبرة، القائلين بأن العبد مجبور لا فعل له حقيقة، بل إسناد الفعل إليه مجاز، فكأنه لم يسمع قول الله سبحانه وتعالى: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) (4) فأثبت سبحانه فعل الظلم لهم فعاقبهم عليه، وقال تعالى (ومكروا ومكر الله) (5) الآية، أيظن من له أدنى رائحة من عقل أن الله قصد نسبة مكر المشركين إليهم مجاز، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً) (6).
__________
(1) سورة الروم: آية 48.
(2) سورة إبراهيم: آية 1.
(3) تأسيس التقديس ص 5.
(4) سورة هود: آية 101.
(5) سورة آل عمران: آية 54.
(6) تأييد الملك المنان ق 35، 36.(1/325)
ويرد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على دعوى ابن جرجيس حين ادعى أن من اعتقد أن الأسباب العادية فاعلة من غير استنادها إلى الله فهو كافر إجماعاً فيقول:
(إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالاً يكفر فاعله إجماعاً، وهي من الأسباب العادية التي أودع الله فيها قوة فاعلة، فكيف لا يكفر من أسند مالا يقدر عليه إلا الله من إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات إلى غير الله من الصالحين، ونحوهم، وزعم أنها وسائل أو أن الله وكل إليهم التدبير كرامة لهم، هذا أولى بالكفر وأحق به ممن قبله.
ويقال للعراقي أنت لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشبهة وأنه شرك أصغر يثاب من أخطأ فيه، فكيف جزمت بكفر من أسند القطع للسكين من غير استناد إلى الله وما الفرق بين من عذرته وجزمت بإثباته، وبين من كفرته وجزمت بعقابه ليست إحدى المسألتين بأظهر من الأخرى، وما يقال من الجواب فيما أثبته من الكفر يقال فيما نفيته..
ويقال جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العادية وغيرها، فالشبع والري والدفء أسباب عادية فاعلة، وإنما يكفر من أنكر خلق الله لهذه الأسباب، وقال بفعلها دون مدبر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلق بتوحيد الربوبية، وأما جعل الأموات أسباباً يستغاث بها وتدعى وترجى، وتعظم على أنها وسائط فهذا دين عباد الأصنام، يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله، وإن لم يعتقد الاستقلال كما نص عليه القرآن في غير موضع) (1).
ويورد الشيخ السهسواني ما في دعوى دحلان من البطلان، حين ادعى أن المتوسلين والمستغيثين بالأموات لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده، فيقول السهسواني رحمه الله:
.. أقول: فيه كلام من وجوه:
الأول: أنه يعتقد كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله..
__________
(1) منهاج التأسيس ص 266، 267.(1/326)
الثاني: أن مجرد عدم اعتقاد التأثير والخلق والإيجاد والإعدام.. لا يبريء من الشرك فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده..
الثالث: أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء، لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوين في جميع الأحكام، حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز التوسل بالأموات، وكيف وليس معنى التوسل بالأحياء إلا التوسل بدعائهم، وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بدعاء الأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن..) (1).
ويسوق الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين حجة في الرد على دعوى دحلان - ومن سار على نهجه - حين زعم أن ذكر الصالحين في الاستغاثة والتوسل إنما هو سبب عادي لا تأثير له، فقال الشيخ عبد الكريم مجيباً:
(فإن كان كما زعم، فينبغي أن لا يكون التأثير والخلق والإيجاد لله القدير بدون ذكر الأخيار عادة، فإنه سبب عادي على قوله، فيلزم منه أنه لا يشبع بطن أحد بمجرد أكله إلا إذا ذكر هؤلاء الأخيار، فإن الأكل سبب عادي للشبع، وذكر الأخيار سبب عادي ثاني، وأن لا يسرج سراج بالفتيلة والزيت إلا بذكر الأخيار وقس على ذلك كل شيء من غير انحصار) (2).
وأما دعوى بعضهم أنه يجوز الاستغاثة بالأموات والأحياء؛ لأن لهم قدرة كسبية وتسببية، فيجيب الآلوسي عن هذه الدعوى فيقول:
__________
(1) صيانة الإنسان ص 216 باختصار.
(2) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين ص 33.(1/327)
(وما أورد على الجواب من أن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى سواء أكانوا أحياءً أم أمواتاً وسواء كانت الاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث به أم لا، مدفوع بأن كون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله ولا يستغاث به، ولا يتوكل عليه ـ ولا يلتجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد حي، أو ميت قريب، أو بعيد ارزقني، أو أمتني، أو أحيّ ميتي، أو اشف مريضي إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الفرد الصمد، بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها، أعني في حمل متاعي أو غير ذلك، والقرآن ناطق بحظر دعاء كل أحد، لا من الأحياء، ولا من الأموات سواء كانوا أنبياء أو صالحين، أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة، أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر ومنشيء البشر، كيف والدعاء عبادة وهي مختصة به سبحانه) (1).
ويرد الشيخ ابن سحمان على ما زعمه الخصوم حين ظنوا أن السكين لا يقطع بنفسه، وإنما القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي خلق الله تعالى القطع عنده فيقول رحمه الله:
(فالجواب أن يقال: هذا من أقوال أهل البدع والأهواء، وليس هو من كلام أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام، وهؤلاء هم الاقترانية الذين يقولون أن الله يخلق عند السبب، لا بالسبب ومن نحا نحوهم من المتصوفة القائلين بإسقاط الأسباب الظاهرة، وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سبباً لشيء أصلاً، ولا شيء جعل لشيء ولا يكون شيء لشيء، فالشبع عندهم لا يكون بالأكل.. ولا الطاعات عندهم سبب الثواب، ولا المعاصي سبب للعقاب) (2).
ويبطل القصيمي دعواهم بالمجاز العقلي في هذه الشبهة، فيقول:
__________
(1) فتح البيان تتمة منهاج التأسيس ص 347.
(2) الضياء الشارق ص 205 باختصار.(1/328)
(إذا كان إدخال المجاز جائزاً لديكم في الأدعية وفي النداء، وفي كل الأقوال المعبرة عن الاعتقاديات، وعن الديانات فهل ترون أن هذا جائز بلا قيد ولا شرط في هذه المسائل بحيث إدخال المجاز في كل قول وفي كل دعاء ما دام مقبولاً في قانون البلاغة وعلوم المجازات ؟ أم أنتم لا تدعون هذه الدعوى ولا تذهبون هذا المذهب، فلا تطلقون جواز المجاز في جميع أقوال العبادات .. إنه لا فرار لكم من اختيار أحد المذهبين وأيا اخترتم فقد خصمتم، ولا ريب فإنكم إذا اخترتم الرأي الأول، وزعمتم أن المجاز جائز مطلقاً بلا قيد ولا شرط في كل كلام ومقال، قيل لكم هذا باطل بالإجماع والضرورة فإنه لو كان صحيحاً حقاً لما استطعنا أن نخطيء ولا أن نعارض من قال مثلاً عيسى هو ابن الله، أو قال علي بن أبي طالب هو خالق محمد عليه السلام.. وذلك أن هنالك مجاز الحذف، فيرد بقوله عيسى هو ابن الله أي ابن أمة الله.. وبقوله علي خالق محمد أنه مختار خالق محمد. وبهذا التأويل تصبح هذه الأقاويل من أقاويل المؤمنين الصحيحة المقبولة: التي لا اعتراض عليها ولا فند فيها، وهذا يقضي بألا يؤخذ قائل بمقال، ولا متكلم بكلام…
وأما إن قلتم بالرأي الثاني، أي قلتم أنه ليس كل ما صح مجازاً صح ديناً بل من المجازات ما هو ضلالات، ومنه ما الذهاب إليه إثم كبير، وذنب لا يجوز للمسلم اقتحامه، قيل لكم إذن لعل هذا المجاز الذي زعمتموه وأجريتموه.. هو إثم وباطل) (1).
ويقول أيضاً في الرد على الدعوى السابقة:
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية 2/430 باختصار.(1/329)
(هنالك فرق بين دعوة الميتين وبين قول الناس أنبت الربيع البقل والماء العشب، ذلك أن الأول طلب والثاني خبر، وبين الأمرين فرق حقيقي عظيم معروف، وليس كل ما جاز إخباراً، جاز طلباً، والدليل على هذا الفرق الواضح أنه صح أن يقال أنبت الربيع البقل والماء العشب ولم يصح أن يقال: يا ربيع أنبت البقل، ويا ماء أنبت العشب) (1).
وأما دعواهم بأن هؤلاء المستغيثين بالأموات لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده، وليس قصدهم من تلك الاستغاثات إلا التبرك، ولو وقع منهم بعض (الألفاظ الموهمة) التي توهم إسنادهم التأثير لغير الله.
فإن واقع أولئك المستغيثين بغير الله، يبطل تلك الدعوى ويسقطها، لذا قال الشيخ حسين النعمي(2) معقباً على تلك الدعوى:
(إن من يتكلم بهذا لا يدري ما فشى في العامة.. وما صار هجيراهم عند الأموات، ومصارع الرفات من دعائهم، والاستغاثة بهم، والعكوف حول أجداثهم، ورفع الأصوات بالخوار. وإظهار الفاقة، والاضطرار، واللجأ في ظلمات البحر، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال) (3).
ويرد ابن سحمان تلك الدعوى الخاطئة، فكان مما قاله:
(والألفاظ التي يقولها العوام، وينطقون بها دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله فما معنى الشبهة ؟) (4).
وأما الرد على دعواهم بأنه لا فرق بين الحي والميت؛ لأن الميت له حياة في قبره، وله إدراك وشعور، فإذا كان لا فرق بينهما، فيجوز التوسل، والاستغاثة بالأموات، والأحياء دون تفريق، فإن الرد على تلك الدعوى يكون على النحو التالي:
__________
(1) المرجع السابق 2/466.
(2) هو حسن بن مهدي النعمي التهامي، من أهل صبيا بتهامة اليمن، تعلم ودرس في صنعاء، توفي سنة 1187هـ.
انظر (الأعلام) 2/260، وانظر : مقدمة كتابه (معارج الألباب).
(3) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب)، تحقيق محمد حامد الفقي، ص 2، مطابع الرياض، 1393هـ، ص 169.
(4) كشف غياهب الظلام ص 205.(1/330)
يوضح الشيخ أبو بطين بطلان دعواهم، وتناقضهم فيها، مع بيان الحق في تلك المسألة، فيقول:
(فمن سوى بين الحي والميت بقوله يطلب من الميت ما يطلب من الحي، فقد سوى بين ما فرق الله والناس بينهما، حتى المجانين يعرفون الفرق بين الحي والميت) (1).
(ويقال لهذا المساوي بين الأحياء والأموات من المعلوم أن أهل الدنيا يستقضون حوائج بعضهم من بعض، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم أدرعاً من صفوان بن أمية وهو مشرك، وما زال المسلمون يستقضون حوائجهم من المسلم، والذمي والبر، والفاجر، فيلزم المساوي بين الأحياء والأموات أن يساوي بين أموات المذكورين كما كانوا في الدنيا كذلك، فإن قال طلب الحاجات مختص بموتى الصالحين فلا يجوز طلبها من موتى الكفار والفساق قيل له نقضت أصلك حيث فرقت بين أحياء هؤلاء، وأمواتهم، فإن قال موتى الصالحين أحياء في قبورهم كما زعم، فهو كاذب في ذلك، ولم يرد في ذلك حديث إلا ما أخبر الله عن حياة الشهداء مع أن حياتهم لا تدرك بالحس، ولا بالعقل فالله سبحانه أعلم بحقيقتها، وأما سوى الشهداء غير الأنبياء، فلم يأت خبر عن الرسول أنهم أحياء في قبورهم، وإنما هو افتراء وكذب.. فإن قال: أن صالحي الأموات ينعمون في البرزخ، قيل له وضدهم يعذبون فيدركون العذاب كما يدرك الصالح النعيم. وهذا إدراك وإحساس لا يعلم حقيقته إلا الله) (2).
ويؤكد الشيخ صالح الشثري بداهة الفرق بين الطلب من الحي وبين الطلب من الميت فقال:
(من المعلوم بالفطرة السليمة، وإن كان جاهلاً يفرق بين الطلب من الحي الحاضر مما في يده أو دعائه له، وبين الطلب من الميت والغائب، ولا يسوي بين الحي والميت إلا من اختالته الشياطين عن الفطرة التي فطره الله عليها، أو إنسان أعماه الهوى والتقليد..) (3).
__________
(1) تأسيس التقديس ص 54.
(2) المرجع السابق، ص 59، 60 باختصار يسير.
(3) تأييد الملك المنان ق 49.(1/331)
وقد أورد السهسواني كثيراً من الحجج في إبطال التسوية بين الحي والميت فكان مما قاله:
(إن قدرة الحي على بعض الأشياء دون الميت ثابت بالكتاب والسنة … - منها - قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (1). - ومن الأحاديث - قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله …))(2)
كما أن إثبات الكسب ولو باطنياً للميت مخالف للنص الصريح هو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله) فلا يعبأ به، على أن قدرة الحي على الكسب يعلم حدها بالمشاهدة، مثلاً نعلم أن الحي يقدر على حمل الحجر، وعلى أن يحول بينه، وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً، أو لصاً، أو يدعو له، أو نحو ذلك، وأما قدرة الميت على الكسب فعلى تقدير تسليمها لا تعلم حدها بالمشاهدة، فما طريق العلم بها ؟ وهل هي مساوية لقدرة الحي أو زائدة عليها أو ناقصة عنها؛ فلابد من بيانه حتى يطلب منه على حسبه، ودونه لا معنى لهذه الدعوة العمياء) (3).
ويصف أحد العلماء قياس الأموات على الحياء بهذا الوصف:
(قياس الأموات من الأنبياء والصالحين في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله على الأحياء القادرين على الأسباب العادية المقدور عليها من أفسد القياس، وأبطل إبطال، وأمحل المحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرق بين الأحياء والأموات ولم يسو بينهما بقوله (وما يستوي الأحياء والأموات (4))(5).
ويتحدث علامة العراق الآلوسي عن مسألة سماع الأموات فيقول:
__________
(1) سورة البقرة: آية 286، انظر: أدلته القرآنية في كتابه (صيانة الإنسان) ص 247، 248.
(2) رواه مسلم. انظر : الأحاديث الأخرى في كتابه (صيانة الإنسان) ص 249 - 252.
(3) صيانة الإنسان)، ص 252 - 253، باختصار، وانظر : الرد تفصيلاً ص 247 - 253.
(4) سورة فاطر: آية 22.
(5) مجموعة الرسائل والمسائل 4/837.(1/332)
(لا يشك أحد من أهل العلم أن في مسألة السماع قولين، أحدهما: أن الأموات يسمعون، ومع ذلك لا يستمد منهم ولا يستغاث بهم في قضاء الحاجات، ولا يلجأ إليهم لعدم ورود ذلك في الشريعة.
والآخر: أنهم لا يسمعون، وإلى كل قول من هذين القولين ذهب جم غفير من أهل العلم، وكل منهما أورد أدلة على مدعاه لا يمكن إنكارها، وليس هذا الاختلاف في متأخري الأمة، بل عن السلف كانوا مختلفين في ذلك فإنكار السماع رأساً، وإثباته مطلقاً لا شك في أنه مكابرة محضة، فالراجح قصر السماع على ما ورد وهذا الوجه يجمع بين الروايات المختلفة) (1).
ولكن - كما يذكر الآلوسي - من يقول بسماع الأموات لا يقول بأنهم يسمعون كل كلام، ومن أي محل كان قريب أو بعيد … فإن هذا باطل بإجماع المسلمين) (2).
وأخيراً نكتفي بما أوردناه من نقول موجزة لأئمة الدعوة وأنصارها في إزالة اللبس في هذه الشبهة، ثم ردها، ومن أراد المزيد والتفصيل فعليه بما كتب السلف قديماً، وأتباعهم من أهل هذه الدعوة وغيرهم.
الفصل الثالث :منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم (3)
أطلق الخصوم على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأنصار دعوته شبهة منع الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم، فادعوا أن الشيخ الإمام وأتباعه من بعده يمنعون طلب الشفاعة من المصطفى صلى الله عليه وسلم وكذلك يمنعون طلبها من الأنبياء والصالحين.
__________
(1) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس ص 380.
(2) المرجع السابق، ص 382.
(3) كان هذا الفصل ضمن الشبهات، لأن مسألة الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم من المسائل المجملة التي تحتاج إلى تفصيل وبيان، وسيتضح ذلك في ثنايا هذا الفصل.
وانظر : تفصيلاً لهذه المسألة في كتاب (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، ط الرابعة، المكتب الإسلامي ببيروت ص 261 - 263.(1/333)
وقبل الشروع في عرض هذه الشبهة ثم ردها، ينبغي أن ننبه إلى أن موضوع الشفاعة يرتبط - إلى حد كبير - بموضوع التوسل، لذا فهناك تداخل كبير بين هذا الفصل، وبين الفصل السابق - كما سيتضح أثناء عرض هذا الفصل -، إلا أنه مع هذا التداخل فهناك بعض المسائل التي يستقل بها موضوع الشفاعة عن موضوع التوسل، مما ناسب إفراده بهذا الفصل.
وقد تحدث خصوم هذه الدعوة عن شبهة منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فادعوا أن الشيخ الإمام، وأتباعه من بعده يمنعون طلب الشفاعة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا سائر الأنبياء والأولياء، وذكر الخصوم حجتهم في هذه المسألة، وسنورد أقوالهم - من خلال كتبهم -، وحججهم في هذا المقام.
يدعي القباني الفرق بين المشركين الذين اتخذوا الأصنام شفعاء لهم عند الله لتقربهم إليه زلفى، وبين المسلمين - كما زعم القباني - الذين يطلبون الشفاعة من الأنبياء والأولياء.
فليس سبب كفر مشركي العرب هو اتخاذ الأولياء شفعاء تقربهم عند الله زلفى، وإنما كان كفرهم بسبب اعتقادهم أن الملائكة والأولياء بنات وأبناء الله على حد دعوى القباني، لذا يقول القباني:
(العلة التي وجبت كفر المشركين هي اعتقادهم في الأنبياء، والأولياء، والملائكة أنهم أبناء الله، وبنات الله تعالى الله عن ذلك..) (1).
ويقول أيضاً: (إن عبادة المشركين للأنبياء، والأولياء إنما هي بالسجود لتماثيلهم، ليتقربوا إليهم) (2).
ويستنكر القباني أن يكفر من قال: يا رسول الله اشفع لي، فيقول بكل قبح ووقاحة مخاطباً الشيخ الإمام:
(أما أنهم كفروا بمجرد قولهم يا رسول الله اشفع لي، أو أغثني، وأنها مساواة لقول المشرك واعتقاده أن المسيح هو الله، ولعبادة تمثاله من السجود والذبح كما ادعيت ذلك، وجزمت به. فما أقمت على ذلك الدليل والبرهان يا طويل الآذان) (3).
__________
(1) فصل الخطاب ق 36.
(2) المرجع السابق ق 38.
(3) المرجع السابق ق 38.(1/334)
ويجوّز ابن داود الهمداني طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء فلا يحتاج إلى إذن من الله، لأن الله أذن لهم في الشفاعة، يقول ابن داود:
(إن الله تعالى أذن لنا أن نطلب منهم - أي الأنبياء والأولياء - الشفاعة، وليعلم أولاً أن طلب الشفاعة منهم لا يحتاج إلى ورود إذن من الله في ذلك، فإنا بعد أن علمنا أن لهم جاهاً وجيهاً عنده تعالى، بحيث إذا شفعوا قبلت شفاعتهم، فعلمنا مع ذلك أن الله تعالى أذن لهم في الشفاعة، ساغ لنا أن نطلبها منهم، ونجعلهم شفعاء عنده، ونقول لهم اشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا فإن لكم عند الله جاهاً وجيهاً، وشفاعة مقبولة كما يسوغ لأحدنا أن يقول لآخر توسط لي عند السلطان واشفع لي لدى فلان) (1).
ويرد ابن داود على الشيخ الإمام في تلك المسألة، فيقول:
(وقول الزنديق الحجازي: إن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن طلبها منه كما قال: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (2) غلط، فإن الدعاء المنهي عنه هنا بمعنى العبادة، وطالب الشفاعة لا يعبد الشفيع، بل يطلب منه أن يشفّعه عند الله، كما أن يوسف بدعائه لأحد صاحبي السجن لم يكن عابداً له ولا كافراً، وقوله(3) (فإن الشفاعة التي أعطاها غير النبي، فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون. أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة، فاطلبها منهم. فإن قلت هذا، فقد عبدتم) غلط أيضاً، لما قلنا من أن طلب الشفاعة ممن أعطيها سواء كان نبياً، أو كان ولياً، أو وصياً، أو ملكاً، أو مؤمناً ليس عبادة له، فيصح لنا أن نطلب الشفاعة من الأوصياء، والأولياء، والملائكة، والصلحاء، وليس في ذلك شرك) (4).
ويسوي ابن داود بين قول: اللهم شفّع محمداً فينا، وبين قول: يا محمد اشفع لي، فيقول:
__________
(1) إزهاق الباطل ق35.
(2) سورة الجن : آية 18.
(3) أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(4) إزهاق الباطل ق 35.(1/335)
(وإذا ثبت أن لهم – محمد صلى الله عليه وسلم وعترته – الشفاعة المقبولة، وأنهم مأذونون في الشفاعة، ونحن مأمورون بطلبها، كان لنا الخيار في الدعاء. فإن شئت طلبناها، وقلنا اللهم شفعهم فينا، أو لا تحرمنا شفاعتهم، أو تقبل شفاعته فينا، وإن شئنا طلبناها منهم وقلنا يا أولياء الله اشفعوا لنا عند الله، واستغفروا ذنوبنا إلى غير ذلك) (1).
ويفسر محمد بن عبد المجيد معنى الإذن – أحد شرطي قبول الشفاعة – فيقول:
(والذي يظهر - والله أعلم - تفسير الإذن بلازمه، من الرضى والاختيار، والمعنى: لا أحد يشفع عنده شفاعة نافعة، إلا برضاه، واختياره تعالى، إذ لا ينفذ لأحد مراد لم يرده الله تعالى …)(2).
وبناءً على ذلك فإن محمد بن عبد المجيد لا يشترط الإذن للشافع، لذا يقول:
(والمتحصل من هذا أن الشفاعة لا تتوقف على إذن خاص، بمعنى إطلاقها وإباحتها للشافع، ولكن يتوقف نفعها على رضاه تعالى أن يقبلها واختياره لذلك..) (3).
ويدافع محمد بن عبد المجيد عن المستغيثين بالموتى والذين يسألونهم الشفاعة فيقول:
(والمشركون كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تنفع وتضر.. فأين هذا ممن يستغيث من المسلمين بنبي، أو ولي، ويسأله الشفاعة، معتقدا أنه لا يملك نفعاً ولا ضراً..) (4).
ويرد محمد ابن عبد المجيد على اعتراض لما قرره، فيقول:
__________
(1) المرجع السابق ق53.
(2) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية، ص 13.
(3) المرجع السابق، ص14.
(4) المرجع السابق، ص 16.(1/336)
(وأما تمسكه – أي الإمام سعود بن عبد العزيز – في منع استشفاعهم إلى الله بقوله تعالى: { قل لله الشفاعة جميعا } (1) قلنا مسلم، ولا ينافي طلبنا منهم الشفاعة في مآرب الدنيا والآخرة، لأن شفاعتهم لنا من بعد إذنه تعالى لهم بإلهام، أو غيره مما يعلمونه أولاً، ولأن شفاعتهم مجرد دعائه لله تعالى، وطلب وابتهال، كما يدعو المؤمن لأخيه بظهر الغيب. ومعنى توقفها على الإذن توقف قبولها على رضاه تعالى، واختياره الإجابة، لا كما زعم المشركون أن معبوداتهم تشفع لهم عنده، وجزموا بذلك، ولم يلتفتوا إلى توقف نفع شفاعتها على قبوله تعالى، ورضاه، حتى كأنهم لا يجوزون رد شفاعتها …)(2).
ويدعي الحداد أن سبب كفر مشركي العرب هو نسبتهم الولد لله تعالى، وليس لأنهم جعلوا الأصنام، أو الأولياء شفعاء تقربهم عند الله زلفى. فيقول:
(وقوله تعالى في سورة الزمر: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (3) فإن بعدها قوله تعالى ردا على من نسب له الولد، تعالى الله { لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار } (4).. وقولهم ليقربونا معتقدين أنهم آلهة وأنهم شركاء، كما حكي عنهم سبحانه في قوله: { هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } (5)، الآية، ولو أنهم آمنوا بالله وحده، وأقروا برسالة نبيه، وما جاء به، واعتقدوا في الحجر أنه من خلقه، وأنه لا ذنب له، نفعهم، لقوله عليه السلام (لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه) (6)
__________
(1) سورة الزمر : آية 44.
(2) الرد على بعض المبتدعة..، ص 47 بتصرف يسير.
(3) سورة الزمر : آية 3.
(4) سورة الزمر : آية 4.
(5) سورة الأنعام : آية 136.
(6) قال ابن تيمية – عن هذا الحديث – كذب، ونحوه قول الحافظ ابن حجر لا أصل له، وقال ابن القيم: هو من كلام عباد الأصنام، الذين يحسنون ظنهم بالأحجار).
عن كتاب (كشف الخفاء) لإسماعيل العجلوني، مكتبة التراث سوريا، 2/216، 217 باختصار.(1/337)
، لاعتقاده أنه لا يضر ولا ينفع خلق من خلقه إلا بإذنه)(1).
ويدعي عمر المحجوب أن الوهابيين ينكرون الكثير من الشفاعة فيقول:
(ولعلك من المبتدعة الذين ينكرون أنواعاً كثيرة من الشفاعة)(2).
ويذكر إسماعيل التميمي أن الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس عبادة له؛ لأنها في ملكه.. يقول:
(وليست - أي مسألة الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم - عبادة للمطلوب - أي محمد ؛- لأنه لا يعظم طالبها كتعظيم المعبود..)(3).
(أما مسألة طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فإن هذا الطلب ليس عبادة، فإن الله لما وعده بها، وبالإذن فيها صارت في يده، فطلبها منه كطلب حاجة من يد قادر على إعطائها..) (4).
ويورد جعفر النجفي كلاماً حول الشفاعة، كان مما قاله:
__________
(1) مصباح الأنام، ص 18 - يظهر - جلياً - من كلام الحداد، وغيره من المبتدعة الذين سبق ذكرهم، أنهم لا يدركون، ولا يعرفون معنى إذن الله، فهم لا يفرقون، ولا يميزون بين الإذن الكوني القدري، وبين الإذن الديني الشرعي.. فقد ظن هؤلاء الجهلة أن معنى إذن الله للشافع، أي تحقق ذلك قدراً وكوناً، ومن ثم استنكروا كلام أئمة الدعوة في إيراد هذا الشرط لتحقيق الشفاعة، لأنهم فهموا من هذا الشرط بإمكانية وقوع ما يخالف القدر - الكوني -، مع أن علماء الدعوة قصدوا بالإذن - ها هنا - أي الشرعي الديني.
انظر : بيان الفرق بين الإذن الكوني القدري وبين الإذن الديني في كتاب شفاء العليل، لابن القيم، مكتبة التراث، القاهرة، ص 588.
(2) الرد على الوهابية ص 7.
(3) المنح الإلهية ص 25.
(4) المرجع السابق، ص 64.(1/338)
(إن الشفاعة إن كانت من قبيل الدعاء، فيرجع طلبها إلى التماس الدعاء من الأنبياء والأولياء، فتكون عبارة عن دعاء مخصوص لنجاة الغير، أو قضاء حاجته في أمور الدنيا والآخرة. فلا كلام، ولا بحث في جواز طلبها من كل أحد كما لو سألت إخوانك الدعاء .. ولا ريب أن المستشفع بالنبي، والأولياء في دار الدنيا يريد هذا المعنى). (1)
ويسوق دحلان ما قرره علماء الدعوة من اشتراط إذن الله في قبول الشفاعة، ثم ذكر رده، فيقول:
(ومما يعتقده المنكرون للزيارة، والتوسل منع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون أن الله تعالى قد قال في كتابه العزيز: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2)، وقال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (3) فالطالب للشفاعة لا يعلم حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة للمؤمنين.
وقد صحت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم يشفع لمن قال بعد الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة..) (4) إلى آخر الدعاء المشهور، ولمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، ولمن زار قبره صلى الله عليه وسلم .. فالطالب للشفاعة كأنه يتوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يحفظ عليه الإيمان إلى أن يتوفاه الله، فيدخل في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون من أهلها) (5).
ويذكر السمنودي ما اشترطه علماء الدعوة لقبول الشفاعة، من الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، ثم يرد ذلك بقوله:
__________
(1) منهج الرشاد، ص 49، 50 باختصار.
(2) سورة البقرة : آية 255.
(3) سورة الأنبياء : آية 28.
(4) رواه البخاري.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص 33.(1/339)
(وأقول أن منعهم المذكور، واحتجاجهم هذا عليه مردود عليهم، وباطل بالأحاديث الصحيحة الصريحة في حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة للمؤمنين، لكونهم ممن ارتضى الله تعالى أن يشفع له، وبما صح متواتراً من طلب بعض الصحابة الشفاعة لله من النبي صلى الله عليه وسلم)(1).
ويورد السمنودي النصوص التي تثبت الشفاعة، ثم يقول:
(وهذه الآيات، والأحاديث وما ماثلها على عمومها، ولم يخصصها أحد بحال الحياة دون الممات)(2).
ويدعي السمنودي أن طلب الشفاعة من باب التسبب فقال:
(والشفاعة وإن كانت في الحقيقة بإذن الله..، ولكن على المسلم أن يباشر السبب، وأمر الإذن في القضاء إلى الله تعالى إن شاء، وإن لم يشأ، لم يكن. هذا هو اعتقاد المسلمين لا يعتقدون غيره، فمقصودهم بطلبهم الشفاعة من الأنبياء، والصالحين إنما هو التسبب) (3).
ويذكر الطباطبائي أن الوهابيين يثبتون الشفاعة، ولكن يمنعون طلبها في الدنيا من أصحابها، ثم يرد على هذا المعتقد فيقول:
(قالت الوهابية أن الشفاعة للأنبياء، والأولياء منقطعة في الدنيا وإنما هي ثابتة لهم في الآخرة، فلو جعل العبد بينه وبين الله وسائط من عباده يسألهم الشفاعة كان ذلك شركاً وعبادة لغير الله، فاللازم أن يوجه العبد دعاءه إلى ربه ويقول: اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز له أن يقول يا محمد اشفع لي عند الله) - ثم ذكر أدلتهم على ذلك:
ثم قال: (وقالت الإمامية أن الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصالح المؤمنين، والملائكة المقربين، فيجوز الاستشفاع بهم إلى الله تعالى لنهوض الكتاب والسنة عليه..
__________
(1) سعادة الدارين 2/2.
(2) المرجع السابق 2/6.
(3) المرجع السابق 2/7.(1/340)
وقول ابن عبد الوهاب: أن الله أعطى نبيه الشفاعة، ولكن نهاك عن الاستشفاع به.. كلام شعري مبناه الخيال، فإنه مثل أن يقول أن الله تعالى أعطى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة سقاية الحوض، ولكن نهى الناس عن الورود عليه، والاستسقاء منه.
وقوله تعالى: { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } (1) دلت على جواز وقوع الشفاعة الحسنة من المؤمنين، بعضهم في حق بعض، ومتى جاز، جاز التوسل بالشفيع ولو كان ذلك شركاً لما صح الإذن في الشفاعة لا عقلاً ولا سمعاً مع أنها مأذون فيها ومرغب إليها بقوله سبحانه: { يكن له نصيب منها } (2).
ويجوز عبد الرؤوف الرافضي الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى الله فيقول:
(وقد جوز الشرع الاستشفاع به إلى الله، وليس فيه شرك ولا هو دين المشركين أصلاً، ونوضح المقال بضرب من المثال ونقول:
ولا شك أن السجود لغير الله شرك، وقد أمر الله تعالى ملائكته المقربين أجمعين أن يسجدوا لآدم، فانقادوا كلهم أجمعون، فصار سجودهم لغير الله الذي كان كفراً وشركاً لولا أمر الله، طاعة مقبولة عند الله، وخاتم الأنبياء خير من فاتح الأنبياء، بل من سائر الأنبياء والاستشفاع به أيسر من السجود..) (3)
ويدعي العاملي جواز طلب الشفاعة من كل مؤمن حياً أو ميتاً، لأنه كطلب الدعاء فيقول:
(فطلب الشفاعة من الغير، كطلب الدعاء منه. وقد ثبت جواز طلب الدعاء من أي مؤمن كان … ويجوز طلب الشفاعة إلى الله تعالى من كل مؤمن فضلاً عن الأنبياء والصالحين، وفضلاً عن سيد المرسلين) (4).
ويدعي العاملي - أيضاً - أن اتخاذ الأصنام، أو الأولياء شفعاء عند الله، ليس سبباً في شرك عباد الأصنام والأولياء، يقول:
__________
(1) سورة النساء : آية 85.
(2) البراهين الجلية ص 17، 18.
(3) فصل الخطاب ق39، باختصار.
(4) كشف الارتياب ص 242.(1/341)
(والمشركون لم يعلم أن هذا سبب في شركهم؛ لأنه لم يصدر منهم وحده، بل صدر معه ما هو كاف في الشرك، والكفر من إنكار الرسل، والشرائع، والعبادة للأصنام)(1).
ويستنكر العاملي طلب الشفاعة من الله وحده في الدنيا، فيقول:
(أما قولهم فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله. فإذا كانت حقاً فما المانع من طلبها ؟ أفيجعل الله طلب الحق باطلاً وشركاً؟ تعالى الله عن ذلك، فطلب الحق لا يكون إلا حقاً، وطلب الباطل لا يكون إلا باطلاً، والتقييد بقولهم في دار الدنيا دال على جواز طلبها في الآخرة، كما يدل عليه حديث تشفع الناس بالأنبياء، واعتذار كل منهم ثم تشفعهم بمحمد صلى الله عليه وسلم..
وهل منع الناس من الشرك في الدنيا، وأبيح لهم الشرك في الآخرة (2). ثم يورد العاملي دليلاً له، ويرد عليه:
(وأما قوله: إن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك أن تطلبها منه وقال: { فلا تدعوا مع الله أحداً } (3) فقول فاسد، لأن الدعاء المنهي عنه في الآية لا يشمل طلب الشفاعة، كما لا يشمل طلب الدعاء التي هو نوع منه، ولا يمكن أن يكون شاملاً لذلك، إذ يكون محصله أن الله تعالى أباح لك أن تطلب من كل أحد ما أعطاه الله إياه إلا الشفاعة) (4).
وادعى فضل الرسول البركاتي هذه المقالة:
(والنجدية خالفوا أهل السنة والجماعة في الشفاعة، وخلطوا مع الاعتزال أنواعاً من الخبط والشناعة، قالوا إن الشفاعة بالوجاهة غير ممكنة واعتقادها كفر) (5).
ويبيح الأوردبادي الاستشفاع بالأولياء بقوله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 251.
(2) المرجع السابق، ص 260.
(3) سورة الجن : آية 18.
(4) كشف الارتياب ص 260 يتصرف.
(5) المعتقد المنتقد، مكتبة الحقيقة، استانبول 1983، ص 136.(1/342)
(وأما الاستشفاع بهم، فلم يكن إلا لأن الله أثبت الشفاعة لعباده المكرمين في قوله تعالى: { إلا لمن ارتضى } (1) وأذن بشفاعتهم في قوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2) فيتوسل عند الله، ويتوجه، ويستشفع إليه بأوليائه من عباده) (3).
يتبين – من خلال هذه النقول أن هؤلاء الخصوم يدعون أن العلّة التي أوجبت كفر المشركين، هي اعتقادهم في الأنبياء، والملائكة أنهم أبناء الله وبناته – تعالى الله عن ذلك -، أو اعتقادهم أن الأصنام تنفع وتضر، وليست علة كفرهم اتخاذهم الأصنام، أو الأولياء شفعاء كي تقربهم عند الله زلفى.
كما أن المناوئين يجوّزون طلب الشفاعة من الأنبياء، والأولياء في دار الدنيا؛ لأن الله أذن لهم في الشفاعة، وبعضهم يفسر الإذن بمعنى الرضا والاختيار. ونلاحظ أنهم ينفون أن يكون طلب الشفاعة من الأنبياء أو الأولياء عبادة لهم، بل هو دعاء المسلم لأخيه كما أن طلب الشفاعة منهم عام لا فرق في ذلك بين الأحياء منهم والأموات.
ويدعي الخصوم أن الشفاعة حين تطلب في الدنيا من الأنبياء، فلأنها في ملكهم وحوزتهم.
لقد أفاض علماء هذه الدعوة السلفية الحديث عن ما يتعلق بهذه المسألة فوضوحها غاية الوضوح، وأوردوا الأدلة والبراهين عليها، وذكروا شبهات الخصوم، واعتراضهم، ثم أعقبوها بالرد والمناقشة.
وقد تحدث الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب عن هذه المسألة في أكثر من موضوع، وأطال في بيانها وإظهارها.
__________
(1) سورة الأنبياء : آية 28.
(2) سورة البقرة آية 255.
(3) رسالة في الرد على الوهابية، المطبعة العلومية، النجف، 1345هـ، ص 22.(1/343)
فيبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب مشابهة هؤلاء الذين اتخذوا الصالحين شفعاء، ووسائط بينهم وبين الله، ويدعونهم، ويرجونهم، بحال المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن اتخذ الأصنام أو الأولياء شفعاء تقربهم عند الله زلفى، مع اعتقاد أن النفع والضر من عند الله، ويورد الاعتراضات في ذلك فيقول:
(إن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدون بها الناس عنه، منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق، ولا يرزق ولا ينفع، ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً، ولا ضراً، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم.
فجوابه هو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرّون بما ذكرت، ومقرّون أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه، والشفاعة، كما في القرآن. فإن قال هؤلاء الآيات إنما نزلت فمن يعبد الأصنام. كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً فجاوبه بما تقدم .. فإنه إذا أقرّ أن الكفّار يشهدون بالربوبية كلها، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعله، وفعلهم بما ذكر – فأذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } (1) ويدعون عيسى بن مريم وأمه، ويدعون الملائكة..
__________
(1) سورة الإسراء : آية 57.(1/344)
فقل له: أعرفت أن الله كفّر من قصد الأصنام، وكفّر أيضاً من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال: الكفّار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبّر، لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم. فالجواب أن هذا قول الكفّار سواء بسواء، واقرأ عليه قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (1). وقوله تعالى: { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (2) واعلم أن هذه الشبهة أكبر ما عندهم) (3).
ويقرر الشيخ الشفاعة، ويثبتها، ويذكر شرطي الشفاعة، ثم يرد على من قال إن الله أعطى الشفاعة محمداً فأطلبها منه، يقول رحمه الله:
__________
(1) سورة الزمر : آية 3.
(2) سورة يونس آية 18.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/161
وانظر : ما كتبه الشيخ الإمام في بيان أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قصدوا الأصنام إلا لطلب القربة والشفاعة.
... (مجموعة مؤلفات الشيخ، 1/200، 398.(1/345)
(فإن قال أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها ؟ فقل لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأرجوا شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: { قل لله الشفاعة جميعاً } (1) ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2)، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عز وجل: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } (3) فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيها، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، تبين لك أن الشفاعة كلّها لله فاطلبها منه، وقل: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه فيّ وأمثال هذا.
فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله.
فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا فقال: { فلا تدعوا مع الله أحداً } (4)، فإن كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك، فأطعه في قوله: { فلا تدعوا مع الله أحداً } ، وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم، فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه) (5).
ويرد الشيخ الإمام على من ألصق بهم فرية إنكار شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
__________
(1) سورة الزمر : آية 44.
(2) سورة البقرة : آية 255.
(3) سورة آل عمران : آية 85.
(4) سورة الجن آية: 18.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1 / 165، 166.(1/346)
(يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، نسأل الله رب العرش العظيم أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه. هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباع شرعه) (1).
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن الشفاعة لا تطلب في الدنيا إلا من الله، فلا تطلب من الأنبياء، أو الأولياء بعد موتهم يقول رحمه الله:
(والشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } (2) وقال: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } (3)، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل (يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد لهم حداً فيدخلهم الجنة) (4) فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرناه، ولا يخالف فيه أحداً من علماء المسلمين. بل قد أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين الأئمة الأربعة وغيرهم..) (5).
وعلى ضوء ذلك، فلا تطلب الشفاعة من المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولأنه – أيضاً – ليس هناك دليل على طلبها منه بعد موته، لذا قال الشيخ الإمام:
(القائل أنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنّة رسول الله، أو من اجتماع الأمة. والحق أحق أن يتبع) (6).
__________
(1) المرجع السابق 5/48.
(2) سورة الجن : آية 18.
(3) سورة يونس : آية 106.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/113 باختصار.
(6) المرجع السابق 5/48.(1/347)
ويؤكد الشيخ الإمام أن طلب الشفاعة من موتى الصالحين يضاد توحيد العبادة وينافيه، فيقول:
(إن أهل الجاهلية يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله، وعبادته. يريدون شفاعتهم، لظنهم أن الله يحب ذلك، وأن الصالحين يحبونه كما قال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (1)، وقال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (2).
وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص..) (3).
ويردّ الإمام عبد العزيز الأول على من ادعى عدم شرط الإذن من الله في مسألة الشفاعة فيبين أن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب .. يقول رحمه الله:
(ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما؛ لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب لتأثيره فيه بشفاعته، ولا سيما إن كانت من غير إذنه فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قال: { قل لله الشفاعة جميعاً } (4) (5).
وتبدو أهمية هذه المسألة ومدى قيمتها، من خلال ما كتبه الإمام عبد العزيز الأول، حين تحدث عن حال أولئك المستشفعين بالموتى، ثم أشار إلى فائدة مهمة وهي أن الشفاعة ثابتة بالوصف، لا بالشخص .. يقول:
__________
(1) سورة يونس : آية 18.
(2) سورة الزمر : آية 3.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 1/334.
(4) سورة الزمر : آية 44.
(5) الهدية السنية / ص 14.(1/348)
(وما حجتهم علينا إلا أن المدعو يكون شفيعاً ووسيلة، ونحن نقول: هؤلاء الداعون الهاتفون بذكره، المعتقدون في الأحياء الغائبين المدعوين، والأموات يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم، وإبراء مريضهم وتكثير رزقهم.. لم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة، وهما من أعظم المخاصمة الجارية علينا مما قاتلنا وبدّعنا، وجعل اليهود والنصارى أخف شراً منا ومن أتباعنا.
وحقيقة قولنا أن الشفاعة وإن كانت حقاً في الآخرة فلها أنواع مذكورة في محلها، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته صلى الله عليه وسلم، بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص، ماعدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون، فالوصف من مات لا يشرك بالله شيئاً كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل نبي دعوة مستجابة وأني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً) (1) (2).
ويقرر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معتقدهم في مسألة الشفاعة فيقول:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الهدية السنية، ص 12.(1/349)
(ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذا نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضاً، ونسألها من المالك لها، والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: اللهم شفّع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو اللهم شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. فلا يقال يا رسول الله، أو يا ولي الله، أسألك الشفاعة، أو غيرها كأدركني، أو أغثني، أو اشفعني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى) (1).
ويبين الشيخ محمد بن ناصر بن معمر أن الشفاعة كلّها لله وحده، وأنها لا تكون إلا بشرطيها: الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، فيقول رحمه الله:
(وبيان أن الشفاعة كلّها لله، ليس لأحد فيها شيء، وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله تعالى، وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضى قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، ومعلوم أن أعلى الخلق، وأفضلهم، وأكرمهم عند الله الرسل والملائكة المقرّبون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم وأمره، فيأذن سبحانه لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى، والذي شفع عنده إنما بإذنه له، وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته أن يرحم عبيده) (2).
ويسوق صاحب كتاب (التوضيح) شرط رضا الله عن المشفوع له، وشرط الإذن للشافع، مما يقضي وجوب التجرد، والتوجه لله وحده، فيقول:
__________
(1) الهدية السنية، ص 42. وانظر : كلاما قريبا من ذلك في رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ضمن كتاب الهدية السنية، ص 107.
(2) المرجع السابق ص61. وانظر : ما كتبه الشيخ حمد بن معمر في أقسام الناس في مسألة الشفاعة (مجموعة الرسائل والمسائل)، 4/207.(1/350)
(ومسألة الشفاعة لم ينفها الله سبحانه، لكن أخبر أنها لا تكون ولا تنفع إلا لمن أذن له، فالشفاعة بعد رضائه تعالى عن المشفوع فيه وهذا بخلاف الشفعاء للمخلوقين، فإنهم قد يشفعون لمن لم يؤذن لهم في الشفاعة وقبل استئذان المشفوع إليه، وهذا كقوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (1).
وقوله: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } (2)، وقال: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (3) وقال: { ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } (4)، وهذا يوجب انقطاع تعلق القلوب بغيره، ولو كان نبياً، أو ملكاً. فكيف بالمشايخ، والعلماء، والملوك. فإن غاية الراجي لهم المعتقد أن يقول هم يشفعون لي، فقد أخبر سبحانه أنه ما من شفيع إلا من بعد إذنه، وأنكر أن يشفع أحد إلا بإذنه وأخبر أن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له) (5).
ويبيّن الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مناسبة إيراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب لباب (الشفاعة) ضمن أبواب (كتاب التوحيد)، فيقول:
(لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه، إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة. كما قال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (6)، وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها، وأخبر أنه شرك، ونزّه نفسه عنه، ونفى أن يكون للخلق من دونه ولي أو شفيع، كما قال تعالى:
__________
(1) سورة البقرة : آية 255.
(2) سورة النجم : آية 26.
(3) سورة الأنبياء : آية 28.
(4) سورة يونس : آية 3.
(5) التوضيح عن توحيد الخلاق ص77.
وانظر : تفصيلاً عن شرطي الشفاعة في الكتاب نفسه ص 236، 324.
(6) سورة يونس : آية 18.(1/351)
{ الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } (1) أراد المصنف - الشيخ الإمام - في هذا الباب، إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك، وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله ليشفع له، كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى، وأنها لله، هو الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع ابتداء كما يظنه أعداء الله } (2).
ويرد الشيخ سليمان على دعوى الخصوم بأن طلب الشفاعة من الموتى ليست عبادة لهم، لأنه دعاهم للشفاعة فقط، فيقول رحمه الله:
(فإن قلت: إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء، أما من دعاهم للشفاعة فقط، فهو لم يعبدهم، فلا يكون ذلك شركاً.
قيل: مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك، والشرك لازم له، كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى، والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى. وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج، وإنما هو شيء قدره المشركين في أذهانهم، فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإذا دعاهم للشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى) (3).
ويكشف الشيخ سليمان بن عبد الله عما يتضمنه اتخاذ الشفعاء من دون الله من التنقص لعظمة الإلهية، والهضم لحق الربوبية، وسوء الظن برب العالمين فيقول:
__________
(1) سورة السجدة : آية 4.
(2) تيسير العزيز الحميد ص 273، 274.
(3) المرجع السابق، ص 276.(1/352)
(إن المتخذ للشفعاء والأنداد، إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني من كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع، وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع، أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه كما هو حال ملوك الدنيا.. وهذا أصل شرك الخلق، وكله تنقص للربوبية وهضم لحقها، ولهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك، ونزّه نفسه عنه فقال: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } (1) (2).
ويجمل الشيخ سليمان بن عبد الله حقيقة أمر الشفاعة فيقول:
(وحقيقة أمر الشفاعة، أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فهذا هو حقيقة الشفاعة، لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء، فيدخله الجنّة، وينجيه من النار. ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم..) (3).
ويتحدث الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن امتناع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فيسوق الأدلة النقلية التي تثبت هذا المنع ثم أورد دليلاً عقلياً في منع ذلك فقال:
__________
(1) سورة يونس : آية 18.
(2) تيسير العزيز الحميد ص 275 / 276 باختصار.
(3) المرجع السابق، ص 295، بتصرف يسير.(1/353)
(وأما دليله من العقل، فالعقل الصريح يقضي، ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح وأسباب ذلك كله لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله تعالى وحده، وإخلاص الدعاء، والالتجاء له؛ لأن الخير كله بيده، وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء كما قال تعالى: { ما يملكون من قطمير } (1) فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل كما قال تعالى: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } (2) فالذي له الخلق، والأمر، والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقير إليه لا يستغني عنه طرفة عين، هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى ويرغب إليه ويرهب منه …) (3).
ويرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على من كذب وادعى فرية الإجماع على طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فيقول:
(الله أكبر ما أعظمها من فرية على الله، وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى السلف، وأئمة الدين. فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة، جعل ما أجمع عليه الرسل، والكتب، والسلف، والمسلمون من تحريم دعاء غير الله، وتشديد النهي عنه، وعن اتخاذا الشفعاء، جعل ذلك المحرم أشد التحريم مجمعاً على جوازه..) (4).
ويوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن شناعة اتخاذ الشفعاء من دون الله، وما يتضمنه من الطامات.. فكان مما قاله:
(ولا ريب أن اتخاذ الشفعاء والتوجه إليهم بالقلب واللسان ينافي إسلام القلب والوجه لله وحده، وقد قال تعالى: { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع.. } (5). أخبر تعالى أن النذارة بالقرآن لا ينتفع بها إلا من تخلى عن الشفعاء في دار العمل، وعلق رغبته، ورهبته وسؤاله وطلبه بمن له الملك وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله..) (6).
__________
(1) سورة فاطر : آية 13.
(2) سورة النحل : آية 17.
(3) القول الفصل النفيس ص 253.
(4) المرجع السابق، ص 82.
(5) سورة الأنعام : آية 51.
(6) القول الفصل النفيس ص86.(1/354)
ويقول أيضاً: (ولا ريب أن الاستشفاع بالموتى يتضمن أنواعاً من العبادة: سؤال غير الله، وإنزال الحوائج به من دون الله، ورجائه، والرغبة إليه، والإقبال عليه بالقلب والوجه والجوارح واللسان .. وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله) (1).
ويظهر الشيخ عبد الرحمن بن حسن المراد بالاستشفاع بالمصطفى في حياته فيقول:
(وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه، وأن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة..) (2).
ويفرّق الشيخ أبو بطين بين أن تطلب من الشافع أن يشفع، وبين أن تطلبه يقضي حوائجك، كما فرّق القرآن بينهما .. يقول أبو بطين:
(وقد فرق القرآن بينهما في قول صاحب يس { ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } (3) فالإنقاذ هو بالنصرة والمظاهرة، والشفاعة بالجاه والمكانة) (4).
وينبّه الشيخ أبو بطين على ما يقع اللبس فيه، من إطلاق القول بأن الله ملّك المؤمنين الشفاعة، فيقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 90.
انظر : ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن اتخاذ الشفعاء شرك في مجموعة الرسائل والمسائل 1/24.
(2) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 504.
(3) سورة يس : آية 23.
(4) تأسيس التقديس ص 24.(1/355)
(إطلاق القول بأن الله ملّك المؤمنين الشفاعة، خطأ، بل الشفاعة كلّها لله وحده { قل لله الشفاعة جميعاً } (1)، وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء يشفعون والصالحين يشفعون، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة، يصح أن يقال أنه ملك ما أذن له فيه فقط، لا ما لم يؤذن له فيه، فهو تمليك معلق على الإذن والرضا لا تمليك مطلق كما يزعمه هذا الضال (2)، وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع حتى يقال له ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع..) (3).
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على هذا التنبيه، ويزيده بياناً ووضوحاً بقوله:
(وليس قولهم: أنه أعطى الشفاعة بمعنى ملكها وحازها كسائر العطايا والأملاك التي يعطاها البشر، وأيضاً فإن الله يعطي رسله وأولياءه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أفيقال أن الله أعطاهم ذلك، وملكهم إياه، فيطلب منهم ويرغب إليهم فيه؟ فإن كان ذلك مشروعاً وسائغاً، فالشفاعة قيدت بقيود لم تقيد بها هذه العطايا والمواهب السنية، وقد قال تعالى: { قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض } (4)، وقد قال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (5)، وقال تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (6) (7).
ويقرر الشيخ عبد اللطيف مشابهة من طلب الشفاعة من الأولياء الموتى، بحال النصارى فيقول:
__________
(1) سورة الزمر : آية 44.
(2) يقصد داود بن جرجيس.
(3) تأسيس التقديس ص 82.
(4) سورة الزمر : آية 44.
(5) سورة الأنبياء : آية 28.
(6) سورة البقرة : آية 255.
(7) مصباح الظلام ص 255.
وانظر : ماكتبه الشيخ عبد اللطيف حول منع طلب الشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته في (الدرر السنية) 9/301.
وانظر : ما كتبه أيضاً حول أن الشفاعة لله لا تطلب إلا منه في كتاب (منهاج التأسيس)، ص312.(1/356)
(ولو قال يا ولي الله اشفع لي، فإن نفس السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى، يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله. وقد أجمع المسلمون أن هذا شرك، وإذا سألهم معتقداً تأثيرهم من دونه فهو أكبر وأطم) (1).
ويتحدث الحازمي عن الشفاعة، فيؤكد على شرط الإذن للشافع أن يشفع فيقول:
(وأما الشفاعة فإن الله تعالى يقول: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشفع يوم القيامة، حتى يأذن الله به بالشفاعة، ثم إن هؤلاء الذين اعتقدهم الخلق، ونصبوا على قبورهم الأعواد المنقوشة، ووضعوا في محلاتهم الفرش النفيسة، ونحروا عند قبورهم، لا يدري هل لهم شفاعة أم لا ؟ قال الله تعالى: { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } (3)، وقال تعالى في الملائكة الكرام: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } (4)، ولما قال صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت: { وما نتنزل إلا بأمر ربك.. الآية } ) أخرجه البخاري، فإذا كان نزول جبريل عليه السلام لزيارة خير الأنام لا يكون إلا بأمر ذي الجلال والإكرام، فكيف يطلب منه شيء وبالأولى من ليس بأمين وحي رب العالمين) (5).
ويذكر الشيخ صالح الشثري ما وقع فيه المبتدعة من قلب الحقائق فكان مما ذكره:
(فإذا كنا على جنازة ميت، ندعوا له لا ندعوا به، ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى، فبدّل أهل الشرك والبدع قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعاء نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به..) (6).
ومما ذكره السهسواني - أثناء رده على دحلان - قوله:
__________
(1) البراهين الإسلامية ق 49.
(2) سورة البقرة : آية 255.
(3) سورة الزمر : آية 43.
(4) سورة الأنبياء : آية 28.
(5) إيقاظ الوسنان ق19.
(6) تأييد الملك المنان ق 15.(1/357)
(وجملة القول أن طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم في حياته ثابت بلا شك، وكذلك طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهذا لا ينكره أحد) (1).
ويقول رحمه الله: (ثبوت الشفاعة، وحصول الإذن يوم القيامة مسلّم لا ينكره أحد من أهل السنة والجماعة، وأما حصول الإذن الآن بالشفاعة التي تكون يوم القيامة فثبوته غير مسلّم) (2).
ويشير الشيخ أحمد بن عيسى إلى أن صرف طلب الشفاعة إلى غير الله من الموتى ونحوهم شرك عظيم.. يقول رحمه الله:
(قد أخبر تعالى أن الشفاعة جميعها له، فمن طلبها من غير الله، فقد طلبها ممن لا يملكها، ولا يسمع ولا يستجيب، وفي غير الوقت الذي تقع فيه، ولا قدرة له عليها إلا برضا ممن هي له، وإذنه فيها وقبوله، فطلبها ممن هي له في دار العمل عبادة من جملة العبادات، وصرف ذلك الطلب لغيره شرك عظيم، ومن تدبر آيات الشفاعة حق التدبر، علم علماً يقينياً أنها لا تقع إلا لمن أخلص أعماله كلّها لله واتبع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده وشرائع دينه، فليس لله من عمل عبده إلا الإخلاص) (3).
ويوضح الشيخ ابن سحمان رحمه الله الحكم في الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقول أثناء ردّه على الزهاوي:
__________
(1) صيانة الإنسان ص 363.
(2) المرجع السابق، ص 372.
(3) الرد على شبهات المستعينين بغير الله ص 45.(1/358)
(قوله ثم إن الوهابية عدوا الاستشفاع إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كفراً مع أن الإجماع منعقد على جوازه. فأقول إن كان أراد بالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول القائل: اللهم إني أسألك بجاه محمد، أو بحقه، أو حرمته، فهذا القول بدعة محدثة محرمة ولا يكفر الوهابية أحداً بهذا، وإن أراد بالاستشفاع بالنبي بأن يدعوه ويستغيث به كأن يقول يا رسول الله أغثني، وأدركني، وأنا في حسبك، أو يسأله، أو يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، ويتوكل عليه، ويلجأ إليه في جميع مهماته .. فإن كان أراد هذا فقد ذكر في (الإقناع) من كتب الحنابلة أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً.
وأما دعوى انعقاد الإجماع على جوازه فدعوى مجردة اللهم إلا إجماع عبّاد القبور، وأولئك ليسوا من أهل الإسلام، فضلاً عن أن يجمعوا على الأحكام) (1).
ومما اتفق عليه علماء مكة وعلماء نجد في (البيان المفيد) ما نصّه:
(ونعتقد) أن الشفاعة ملك لله وحده ولا تكون إلا لمن أذن الله له { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (2) ولا يرضى الله إلا عمن اتبع رسله، فنطلبها من الله مالكها، فنقول اللهم شفع فينا نبيك مثلاً، ولا نقول: يا رسول الله اشفع لنا، فذلك لم يرد به كتاب، ولا سنّة ولا عمل سلف، ولا صدر ممن يوثق به من المسلمين، فنبرأ إلى الله أن نتخذ واسطة تقربنا إلى الله أو تشفع لنا عنده، فنكون ممن قال الله فيهم وقد أقروا بربوبيته، وأشركوا بعبادته ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (3) (4).
وقد ساق القصيمي الدلائل على بطلان الاستشفاع بالموتى، نختار منها قوله:
__________
(1) الضياء الشارق : ص156.
(2) سورة الأنبياء : آية 28.
(3) سورة يونس : آية 18.
(4) البيان المفيد) ، ص 7.(1/359)
(المستشفعون بالموتى لابد أن يعتقدوا أنهم قد أعطوا من كمال السمع، والإحاطة بالغيب ما لم يكن لهم، وما لم يكن إلا لله وحده، ولابد أن يعتقدوا فيهم أيضا أنهم يعلمون الغيوب، ويحيطون علماً بالقريب والبعيد .. ولهذا يدعو النبي والولي في الوقت الواحد منهم الداعون الكثيرون المختلفون لغات، ولهجات، وحاجات، ثم لا يشكون أن ذلك النبي، أو الولي يسمع دعاءهم، واستشفاعهم. فإذا كان الاستشفاع بالموتى يلزمه نحلهم هذه الصفات التي لا يمكن أن تعدو رب العالمين، أو نحل بعضها فلا ريب في بطلان هذا الاستشفاع، وفساد عقائد القائلين به) (1). ثم يقول القصيمي:
(كما أن الله قد ذكر في كتابه إنكار شفاعات المشركين، ونعى عليهم أنواع استشفاعاتهم، فنفى شفاعاتهم جملة، ونعى عليهم استشفاعهم أيضاً جملة، وأخبر أن من جملة ضلال القوم، وفساد عقائدهم، ومن جملة شركهم بالله، واستحقاقهم النقمة والمقت، اتخاذهم الشفعاء إليه، وطلبهم الشفاعة من معبوديهم..)(2).
ويقول القصيمي أيضاً: (ولا يمكن أيضا أن يقال: أن هذا الاستشفاع المنكر على المشركين هو الاستشفاع المقرون باعتقاد صاحبه بأن ذلك المستشفع به المرجو للشفاعة قديم مع الله مساوٍ له في القدرة والسلطان، وذلك لأن المشركين كانوا مقرّين بأن الله وحده هو خالق الخلق وخالق العالم وخالق أصنامهم وشفعائهم وما يعبدون ويدعون من دون الله.
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية) 2/212 باختصار.
(2) المصدر السابق، 2/279.(1/360)
ولا يمكن أيضاً أن يحمل هذا الاستشفاع الذي يعتقد صاحبه أن من استشفع به يشفع بدون إذن الله، وبدون رضاه، بل يشفع قهراً وقسراً، لأن المشركين كانوا مقرّين بخضوع أصنامهم وخضوع كل شيء لله لا ينازعون في هذا ولا يمحالون، ولهذا يتخذون أصنامهم شفعاء لديه تعالى، ويقولون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ولا ريب أنه لابد أن يكون الشافع والمشفوع له خاضعين دائنين لسلطانه وقهره؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن الأصنام مستقلة عن الله، قادرة على منح الخير، والفلاح، والسعادة من دون الله، وبدون إذنه ورضاه، لما احتاجوا إلى جعلهم شفعاء لديه سبحانه) (1).
فإذا كان الأمر كذلك، فإن هؤلاء المستشفعين بالموتى قد شابهوا المشركين الأولين في اتخاذهم الأصنام شفعاء، ووسائط تقربهم إلى الله زلفى.
ثم يتحدث عما يجره الاستشفاع بالموتى من المحرمات فكان مما قاله:
(إن تجويز الاستشفاع بالموتى يلزمه أنواع كثيرة من أنواع المحرمات المحظورة في الدين، وفي العقول، فإن الميت إذا استشفع به، وقصد للشفاعة، فلابد أن يعكف على قبره وأن يطاف به، وأن يستلم، ويقصد، ويحج من كل مكان … ومما يدل على هذا التلازم الواقع والعادة..) (2).
ويرد القصيمي على دعوى العاملي بأن الله أعطى الصالحين الشفاعة، فلا مانع من سؤالهم ما أعطوا، فكان من ردوده أنه قال:
__________
(1) المصدر السابق 2/286.
(2) المصدر السابق، 2 / 288، باختصار.(1/361)
(قد أعطى الله الملائكة الشفاعة على ما ذكر في الآية، ولا يجوز طلبها منهم، ولا الاستشفاع بهم بالضرورة، بل لقد أعطى الجماد الشفاعة كما قال: أنه أعطاها الحجر الأسود، وأخبر أنه يشفع ويشفّع يوم القيامة. وهل يجرأ المخالف الرافضي أن يدعي أنه يجوز طلب الشفاعة من الجماد ومن الحجر الأسود، وأنه يجوز الاستشفاع به ؟ بل لقد جاء وصح أن القرآن يشفع، وأن الأطفال يشفعون لآبائهم وأقاربهم. فهل يزعم الرافضي أن الاستشفاع بالقرآن، والقرآن عندهم مخلوق، وبالأطفال جائز مطلوب ودين يتقرب إلى الله به ؟)(1).
ثم أورد جواباً أخر على دعوى العاملي السابقة، يقول القصيمي:
(ثم من ذا الذي قال بأن كل من أعطي شيئاً جاز طلبه منه ؟ وأي دليل على هذا القول إذا قيل ؟ وهل يجوز للناس جميعاً أن يسألوا الأغنياء الأموال والأشياء التي أعطاها الله إياها ؟ وهل يجوز لكل مسلم أن يسأل كل مخلوق ما أعطاه الله وما ملّكه إياه من أنواع الأموال والأعطيات بحجة أن الله أعطاه ذلك وبحجة أن لا مانع من سؤال الخلق ما أعطوا؛ لأن طلب الحق لا يكون باطلا) (2).
ونختم هذا الفصل بسؤال وجه إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ونص هذا السؤال: -
هل الوهابية ينكرون شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
فأجاب سماحته بما يلي: -
__________
(1) المصدر السابق 2/300، 301.
(2) المصدر السابق، 2 / 301
وانظر : ما كتبه القصيمي في بيان الدلائل على بطلان الاستشفاع بالموتى، والرد على حجج المخالفين 2/209 – 330.(1/362)
(لا يخفى على كل عاقل درس سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه أنهم براء من هذا القول، لأن الأمام - رحمه الله - قد أثبت في مؤلفاته، لاسيما في كتابيه (التوحيد)، و (كشف الشبهات) شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة، ومن هنا يعلم أن الشيخ رحمه الله وأتباعه لا ينكرون شفاعته عليه الصلاة والسلام، وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين، بل يثبتونها كما أثبتها الله، ورسوله، ودرج ذلك سلفنا الصالح عملاً بالأدلة من الكتاب والسنة، وبهذا يتضح أن ما نقل عن الشيخ وأتباعه من إنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ومن الصد عن سبيل الله والكذب على الدعاة إليه وإنما أنكر الشيخ - رحمه الله - وأتباعه طلبها من الأموات ونحوهم.. (1).
يظهر من خلال هذه النقول المتعددة ما كان عليه أئمة هذه الدعوة السلفية من الفهم العميق والمعتقد الصحيح لمسألة الشفاعة، وطلبها وشروطها، وما يتعلق بها..، ومن ثم استطاعوا أن يردوا شبهات الخصوم ودعاويهم بأقوى الأدلة وأوجزها.
الباب الثالث : فيما اعترض عليه من قضايا الدعوة مع المناقشة
نورد في هذا الباب ما سطره الخصوم من كتابات تتضمن وصف هذه الدعوة السلفية وأنصارها بما هو حق وصدق، ولكنهم ساقوا هذه الجوانب الصادقة من قضايا الدعوة السلفية في مقام الاعتراض والاستنكار، وليس من أجل الإقرار بها والإنصاف، ولذا فإن هذه الاعتراضات على هذه الدعوة السلفية لا تخلو من كذب وتحامل كما سيظهر جلياً في فصول هذا الباب.
__________
(1) مجلة البحوث العلمية، العدد التاسع، ص 323.(1/363)
وسيكون مسلكنا في الباب هو إيراد اعتراض الخصوم بما فيه من حق وصدق، وما زادوا عليه من إفك وكذب، ثم مناقشة هذا الاعتراض وسيتضح بالأدلة والبراهين ما كان عليه أئمة الدعوة السلفية من موافقة الحق والصواب في تلك المسائل، كما تكشف حال أولئك الخصوم وما كانوا فيه من ضلال وزيغ وانحراف، أثناء إيرادهم تلك الاعتراضات.
الفصل الأول: هدم الأبنية على القبوروالنهي عن شدّ الرحال لزيارتها.
اعترض خصوم الدعوة السلفية على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه - من بعده - بأنهم يهدمون الأبنية على القبور، كما يهدمون القباب التي على الأضرحة والمشاهد، ويمنعون تجصيص القبور وكسوتها وتزيينها، ويرون النهي عن شدّ الرحال لزيارة القبور … ونحو تلك الأمور.
وبالفعل فقد كان رحمه الله وأتباعه من بعده يعتقدون تلك الأمور قولاً وعملاً، ولكن هؤلاء الخصوم ساقوا تلك الأمور من هدم القباب ومنع كسوة القبور وتزيينها والنهي عن شدّ الرحال لزيارة المشاهد وغيرها، ساقوها في مقام الاعتراض، وأوردوها بقصد التحامل والتشنيع على هذه الدعوة السلفية، ولذا فإنها لا تخلو - غالباً - من الكذب والافتراء.
ومن أوائل المعترضين - في هذا الفصل - سليمان بن سحيم، حين ذكر ذلك في رسالته التي بعثها إلى الأمصار فقال: -
(فمن بدعه وضلالاته أن عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكائنين في الجبيلة، زيد بن الخطاب والصحابة، وهدم قبورها وبعثرها؛ لأجل أنهم في حجارة، ولا يقدرون أن يحفروا لهم، فطووا على أضرحتهم قدر ذراع ليمنعوا الرايحة والسباع، والدافن لهم خالد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمد أيضاً إلى مسجد في ذلك وهدمه..) (1).
ويستعظم المحجوب هدم القباب، فيقول - مخاطباً الإمام عبد العزيز الأول: -
__________
(1) نقلاً عن : ابن غنام، روضة الأفكار، 1 / 112.(1/364)
(وأما ما جنحت إليه من هدم ما يبنى على مشاهد الأولياء من القباب من غير تفرقة بين العامر، والخراب، فهي الداهية الدهياء، والعظيمة العظمى) (1).
وجعل علوي الحداد في كتابه (مصباح الأنام) فصلاً في صحة بناء القباب على الأولياء والعلماء، فضلاً عن الأنبياء، ثم عقد فصلاً في القبة وندبها، وأنها قربة حيث طعن الحداد في الوهابيين حين هدموا القباب وأزالوها(2).
ووصف الحداد الوهابيين بأنهم (يهدمون القبب المبنية عليهم - أي على القبور -) (3).
ويستدل إسماعيل التميمي على جواز اتخاذ القبور مساجد، بما جاء في قصة أصحاب الكهف في قوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً) (4) يقول إسماعيل: -
(.. فإن الله تعالى لما حكى بناء المسجد هاهنا، ولم يسقه مساق الذم، ولا تعقبه بإبطال دلّ على أن اتخاذ المسجد على الميت لا بأس به) (5).
وأورد هذا التميمي مبحثاً في البناء على القبور، جوّز فيه البناء على القبور، مستدلا على ذلك ببعض النقول لبعض المنتسبين للعلم، ومؤولاً النصوص الشرعية حسب تجويزه … (6).
ويورد الرافضي (اللكهنوري) معتقد الشيخ الإمام في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول:
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 7.
(2) انظر : (مصباح الأنام)، ص42 - 44.
(3) انظر : (مصباح الأنام)، ص 29.
(4) سورة الكهف : آية 21.
(5) المنح الإلهية ق 58.
(6) انظر : المصدر السابق، ق56 - 60.(1/365)
(وأنه يحرم شد الرحال إلى زيارة قبره.. ومستنده إلى حديث رووه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) (1) والاستدلال به على مرادهم غلط ظاهر، فإن مفهوم الحديث كما يظهر على من له أدنى إلمام بالعربية هو أنه لا تشد الرحال من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن المستثنى منه يجب أن يكون من جنس المستثنى .. وأين من ذلك النهي عن شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يزل المسلمون وعلمائهم يتعاهدون زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنكر قط منكر. فقد ثبت إجماع المسلمين) (2).
ثم يذكر مذهب الشيخ الإمام في حكم البناء على القبور، فيقول:
(اعلم رحمك الله أن مذهبه في القبور أنه يحرم عمارتها. والبناء حولها، وتعاهدها، والدعاء والصلاة عندها، بل يجب هدمها وطمس آثارها..) (3).
ويدعي اللكنهوري (أن هذه المشاهد تقلع أصول الشرك والعدوان وتجتاح جراثيم الكفر والطغيان …) (4).
ويورد اللكنهوري الأدلة على جواز عمارة القبور، فيقول: -
(وثبت ذلك في الكتاب في قوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنّ عليهم مسجداً)(5) حيث قال المسلمون لما مات أهل الكهف نحن نبني عليهم مسجداً يصلى فيه، فحكى سبحانه مقالة المسلمين من غير ردّ عليهم ولا إنكار. والعجب من شارح كتاب (التوحيد) لابن عبد الوهاب حيث قال ذكر هذه الآية: هذا دليل على أن الذين غلبوا هم الكفّار إذ لو كانوا مؤمنين ما أرادوا أن يتخذوا على قبور الصالحين مسجداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل ذلك)(6).
ويذكر إجماع قومه من الإمامية الرافضة في ذلك، فيقول :
__________
(1) رواه البخاري ومسلم .
(2) كشف النقاب ص 21.
(3) المرجع السابق ص 82.
(4) المرجع السابق ص 82، 83..
(5) سورة الكهف آية 21.
(6) كشف النقاب ص 90.(1/366)
(وأما الإجماع عند أصحابنا الإمامية فهو أيضاً متحقق في هذا المقام فإن علمائنا رضي الله عنهم من صدر الإسلام إلى هذا العصر لم يزالوا مطبقين على استحسان مشاهد الأئمة وتعظيمها، وتعاهدها، وتجديدها على ذلك مضت القرون، ونسلت الأزمنة من غير خلاف أحد)(1).
ويحمل اللكنهوري حديث أبي الهياج (2) (بأنه وارد في قبور الكفّار التي لا فائدة في بقائها ولا حرمة لها عند الله تعالى)(3).
(وأن المراد بالقبر المشرف هو المرتفع مثل قبور النصارى المرتفعة من الأرض، وأما إذا كان نفس القبر مسطحاً، ولكن بنى حوله قبة عالية، فلا يصدق عليه أنه القبر المشرف) (4).
ويدعي اللكنهوري أن (تقبيل القبر بعد الموت كتقبيل اليد في الحياة لوجود الملاك، وهو التعظيم فيما على السواء)(5).
ويذكر اللكنهوري أن الوهابيين سنة 1223هـ (هدموا القباب، فهدموا قبة سيدتنا خديجة رضي الله عنها … وهدموا قبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد أبي بكر..) (6).
ويعقد جعفر النجفي باباً في بناء قبور الأنبياء والأولياء، ويجعل ذلك أمراً مشروعاً، بحجة أن بنائها سبباً لزيارة القبور وإدراك فضل الزيارة، وأنه علامة للمزار (7).
ويثبت دحلان مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: -
__________
(1) المرجع السابق ص 104.
(2) سيأتي إيراد نص هذا الحديث .
(3) المرجع السابق، ص 105 .
(4) المرجع السابق، ص 107.
(5) المرجع السابق، ص118.
(6) المرجع السابق، ص129.
ومما يجدر ذكره أن هذا الرافضي ألف كتاباً سماه (البيت المعمور في عمارة القبور) ويقول – كما جاء في كتابه (كشف النقاب) ص89 – (أن هذا الكتاب قد طبع في الهند، وتهافت عليه الناس كالفراش المبثوث).
(7) انظر : (منهج الرشاد) ص 71.(1/367)
(وإذا كانت كل زيارة - أي للقبر - قربة، كان كل سفر إليها قربة، وقد صح خروجه صلى الله وعليه وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع وأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غيره صلى الله عليه وسلم، فقبره الشريف أولى وأحرى، والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة أي من حيث إيصالها إليها) (1).
ويرد دحلان على من قال: أن منع شد الرحال من باب المحافظة على التوحيد فيقول: (إن هذا تخيل باطل؛ لأن المؤدي إلى الشرك إنما هو اتخاذ القبور مساجد، أو العكوف عليها، وتصوير الصور فيها.) (2).
ويجيب دحلان عن حديث (لا تشد الرحال …) بقوله: -
وأما قوله (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) (3) فمعناه أن لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة فإنها تشد الرحال إليها لتعظيمها والصلاة فيها، وهذا التقدير لابد منه، ولو لم يكن التقدير هكذا، لاقتضى منع شد الرحال للحج، والهجرة من دار الكفر، ولطلب العلم، وتجارة الدنيا وغير ذلك. ولا يقول بذلك أحد) (4).
وذكر دحلان الأحاديث في وجوب زيارة القبر النبوي، حيث نقلها عن ابن حجر الهيتمي من كتابه (الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم)، يقول دحلان:
(من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) رواه ابن عدي بسند يحتج به.
(من زار قبري وجبت له شفاعتي) رواه الدارقطني.
(من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي).
(من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي).
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية ص5.
(2) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) الدرر السنية، ص5.(1/368)
ثم قال: فتلك الأحاديث كلها في تأكيد زيارته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً والزيارة شاملة للسفر؛ لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور، وإذا كانت كل زيارة قربة، كان كل سفر إليها قربة..)(1).
وخصص السمنودي باباً في الكلام على إثبات مشروعية، التمسح بالقبور، وتقبيلها وكسوتها، وجعل توابيت أو قباب أو عمائم لها، وأعمال المولد للأنبياء، والأولياء. وغيرها ذلك (2).
وقد تحدث السمنودي عن البناء على القبور، فأشار إلى حديث أبي الهياج (أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته) قائلاً:
(لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار .. كما أن ذلك كان في قبور عظماء المشركين محواً لآثار ما كانت تفعله الجاهلية .. فلا حجة فيه للوهابية، وإلا لكان التسنيم والتسطيح ممنوعين، وقد علمت أنهما مشروعان) (3).
ولما أجاب علماء المدينة المنورة على استفتاء قدمه الشيخ عبد الله بن بلهيد رئيس القضاة في الحجاز، إليهم حول البناء على القبور ..، وكان جوابهم على الاستفتاء في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وألف (25 رمضان 1344هـ)، ومما جاء في هذا الجواب ما نصّه:
__________
(1) المرجع السابق، ص 4، 5 باختصار.
وقد ذكر دحلان في كتابه (خلاصة الكلام) ص 278 ما حدث سنة 1218هـ حيث أن (الأمير سعود بن عبد العزيز قد أمر بهدم القباب، فهدموا أولاً ما في المعلى من القبب، فكانت كثيرة، ثم هدموا قبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومولد سيدنا علي رضي الله عنه، وقبة السيدة خديجة رضي الله عنها).
(2) انظر : سعادة الدارين، 2/59.
(3) سعادة الدارين، 2/71.
وانظر : جوابه على حديث (لا تشد الرحال..) في كتابه (سعادة الدارين) 1/120.(1/369)
(أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين على ذلك بحديث علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). رواه مسلم.
وأما إتخاذ القبور مساجد، والصلاة فيما فهو ممنوع مطلقاً، وإيقاد السرج عليها أيضاً لحديث ابن عباس لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن، وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح بها، والتقرب لهم بالذبح والنذر ودعاء أهلها مع الله فهو حرام ممنوع شرعاً لا يجوز فعله أصلاً. وأما التوجه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء فالأولى منعه كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب؛ ولأن أفضل الجهات جهة القبلة، وأما الطواف بها والتمسح وتقبيلها فهو ممنوع مطلقاً) (1).
فلما كتبوا هذا الجواب قام ناس لذلك وقعدوا وضجوا وصالوا وقالوا وحرروا بذلك المقالات والكتب، وقد تولى كبر هذا الضجيج والصياح علماء الرافضة، فكان مما كتبوه ما ذكره العاملي رداً على الوهابية، يقول العاملي معترضاً عليهم: -
(إن بناء القبور، وتجصيصها، وعقد القباب فوقها وعمل الصندوق والخلعة لها مما حرمه الوهابية. وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها والبناء الذي حولها، وزعم الوهابيون أن البناء على القبور بدعة حدثت بعد عصر التابعين..) (2).
ويذكر العاملي بعض أعمال الوهابيين فيقول:
__________
(1)جريدة أم القرى، عدد 69، 17 شوال 1344هـ.
(2) كشف الارتياب ص 357.(1/370)
(هدم الوهابية المسجد الذي عند قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بأحد، بعدما هدموا القبة التي على القبر. وأزالوا تلك الآثار الجليلة، ومحوا ذلك المسجد العظيم الواسع فلا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا أثر قبر على تل من التراب …) (1).
ويذكر العاملي أيضا عنهم:
(ومنع الوهابية تعظيم القبور، وأصحابها، والتبرك بها من لمس، وتقبيل لها، ولأعتاب مشاهدها، وتمسح بها، وطواف حولها، ونحو ذلك) (2).
ويحكي العاملي عن الوهابيين فيقول:
(ومنعت الوهابية اتخاذ الخدمة، والسدنة لقبور الأنبياء، والأولياء والصلحاء، واتخاذها عيداً) (3).
(ومنعوا أيضاً تزيين المشاهد بالذهب، والفضة، والمعلقات والحلي والكسوة ونحو ذلك) (4).
ويذكر العاملي حال الوهابيين بالنسبة إلى شدّ الرحال لزيارة القبر النبوي، فيقول: -
(وقد منع الوهابية من شد الرحال إلى زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن غيره، وقد عرفت أن ابن تيمية في مقام تشنيعه على الإمامية قال: إنهم يحجون إلى المشاهد كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، وما هو حجهم إلا قصدهم زيارتها فسماه حجاً لزيادة التهويل والتشنيع) (5).
وقد أورد العاملي ما فعله أتباع هذه الدعوة السلفية من هدم القباب والأبنية على القبور في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز سنة 1218هـ (6)، كما ذكر هدمهم للقباب كذلك في عهد الملك عبد العزيز سنة 1343هـ فقال عنه:
__________
(1) المرجع السابق، ص 414.
(2) المرجع السابق، ص 429.
(3) المرجع السابق، ص 448.
(4) المرجع السابق، ص 450.
(5) المرجع السابق، ص 474.
(6) انظر : المرجع السابق، ص22، 23.(1/371)
(لما دخل الوهابيون إلى الطائف هدموا قبة ابن عباس كما فعلوا في المرة الأولى، ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قبة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي طالب عمه، وخديجة أم المؤمنين، وخربوا مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد فاطمة الزهراء، ولما دخلوا جدة هدموا قبة حواء وخربوا قبرها كما خربوا قبور من ذكر أيضاً، وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها من القباب والمزارات والأمكنة التي يتبرك بها) (1).
وينادي محمد علي الأوردبادي بالويل والثبور حين يقول:
(طرقت الإسلام تلك الداهية الفادحة، والفاجعة المبرحة، مفرقة الكلمة ومضعضعة أركان الجامعة ومشوشة أمر الأمة، ومضيعة الحرمة ألا وهي فادحة هدم القباب..) (2).
ويدعي الأوردبادي أن معنى اتخاذ القبور مساجد، هو السجود على القبور فقط، لأن المسلمين لم يتخذوا القبور كالمساجد الشرعية (3).
ويتعجب الأوردباي فيقول: -
(ويا للعجب فإن العدوان بهدم القباب الشرعية لم يكن إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرمه المدينة المنورة) (4).
ويقول: -
(وهل يستطيع مسلم أن ينكر المقام العظيم في الإسلام لهؤلاء الذين هتكت حرمتهم بهدم القباب التي بناها المسلمون معاونة لزوارهم على البرّ واستدامة لزيارتهم، واستكثار من تلاوة القرآن، وذكر الله عند مراقدهم…)(5).
ويكتب الرافضي محمد حسين رسالة (في نقض فتاوى الوهابية) جواباً على فتوى علماء المدنية – التي سبق ذكرها -، مؤكداً ومقرراً أن التسوية في حديث أبي الهياج (ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) بمعنى عدلته وسطحته لا بمعنى ساويته وهدمته (6).
ويقول محمد حسين:
__________
(1) المرجع السابق، ص 59.
(2) رسالة في الرد على الوهابية، ص 3.
(3) انظر : المرجع السابق، ص 9.
(4) المرجع السابق، ص 4.
(5) المرجع السابق، ص 6.
(6) انظر : (رسالة في نقض فتاوى الوهابية)، ، ص 9 – 17.(1/372)
(والأخبار ناطقة بمشروعية بنائها، وإشادتها، وأنها من تعظيم شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (1).
ويحتج حسن صدر الدين الكاظمي على فتوى علماء المدينة بوجود القباب والمشاهد، فوجودها دليل على جواز البناء على القبور، يقول: -
(ماذا ينكرون وهذه القباب العالية والبنايات الشامخة القائمة حول مراقد الأنبياء، والأئمة، والأولياء من الصحابة والتابعين، ومراقد العلماء والصالحين قد حشيت بها بطون الأقطار والأمصار. بل أن في الآثار القائمة حول قبور الأنبياء السابقين كقبر دانيال، وقبر هود، وصالح، وذي الكفل، ويوشع في بابل، وكقبور الأنبياء المدفونين عند البيت المقدس، بل في بناء الحجر على قبر إسماعيل، وأمه هاجر لأكبر دليل على اهتمام الأمم السالفة في تعظيم مراقد أنبيائهم، وليس بأقل من اهتمام المسلمين في تعظيم مرقد نبيهم، ومراقد أوليائهم) (2).
وينتقد الطباطبائي الوهابيين ويمدح قومه الإمامية فيقول:
(قالت الوهابية: لا يجوز بناء القبور وتشييدها.
وقالت الإمامية: (يجوز بناء القبور للأنبياء والأولياء، وتشييدها وحفظها) (3)، ويستدل الطباطبائي على ذلك بأن البناء على القبور من باب تعظيم شعائر الله؛ لأن المشاهد المتضمنة لأجساد النبيين، وأئمة المسلمين من معالم الدين الواجب حفظها، وصونها عن الاندراس.
__________
(1) المرجع السابق، ص 17، 18.
(2) رسالة الرد على فتاوى الوهابيين ص 9، 10.
يظهر من هذه النقول المتعددة لبعض علماء الرافضة ضد فتاوى علماء المدينة حول البناء على القبور، أن هؤلاء الرافضة لحقهم غيظ شديد فسودوا الكتب من أمثال العاملي، والأوردبادي، ومحمد حسين، وحسن صدر الدين، والبلاغي وغيرهم، ولا عجب في ذلك فالرافضة قد عرفوا بعمارة المشاهد وهجر المساجد.
انظر : توضيحاً لموقفهم من الفتوى في جريدة أم القرى عدد 104.
(3) البراهين الجلية ص 41.(1/373)
والمشاهد من البيوت التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، فإن المراد من البيت هو بيت الطاعة، وكل محل أعد للعبادة، فيعم المساجد، والمشاهد لكونها من المعابد ) (1).
ويشنع الطبطبائي على الوهابيين، فيقول عنهم: -
(واجتراؤهم على الله ورسوله بهدم القباب الطاهرة لأئمة البقيع الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وأن ذلك منهم إنكار لمودة ذي القربى التي هي من الضروريات الثابتة بالكتاب والسنة) (2).
ويطعن حسن خزبك في الشيخ الإمام فيقول: -
(وكذا تنقيصه الرسل، والأنبياء، والأولياء، وهدم قببهم، بل ونبش قبورهم) (3).
ويورد محمد الطاهر يوسف دليلاً لهم على شدّ الرحال لزيارة القبور، فيقول:
(نحن نستدل على شد الرحال على سبيل الوجوب، أو الندب لأماكن دون المساجد الثلاثة بشد الرحال للتجارة الشرعية، وطلب العلم الشرعي، والمقابر، وللإخوان المؤمنين أحياءً وأمواتاً، ولا سيما قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. وجميع الأنبياء والرسل والصحابة والأولياء والصالحين والشهداء..) (4).
لقد اهتم علماء الدعوة - كعادتهم - بمسألة البناء على القبور ولعلنا في هذا الأوراق المعدودة نكشف جانباً من هذا الاهتمام والحرص. ولا غرو في هذا، فإن البناء على القبور، وتشييدها، وشد الرحال إليها قد اشتمل - قديماً وحديثاً - على الكثير من البدع والمنكرات، عدا ما يترتب، وترتب عليه من إحياء الوثنية، وإعادة مظاهر الشرك المتنوعة، وأن التاريخ والواقع أكبر برهان على ذلك والله المستعان.
وقبل أن نورد بعضاً من أجوبة أئمة الدعوة وأنصارها، ومناقشتهم على هذا الاعتراض، نرى مناسبة أن يسبق ذلك شيئاً مما كتبه الشيخ حسين بن مهدي النعمي رداً على من زعم أن هدم القباب والمشاهد أذيّة لأولياء الله، يقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق ص 47.
(2) المرجع السابق ص 72.
(3) المقالات الوفية ص 188.
(4) قوة الدفاع والهجوم ص 46.(1/374)
(وليت شعري، كيف يكون أمرهم إذا لم يرعهم إلا نزول الإمام الأطهر صاحب السبق الأشهر، علي رضي الله عنه ونضّر، بساحتهم يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته).
فعلى الذي يشاهد من حالهم، كأنا لهم وقد ثاروا ذلك المثار، وأخذوا لتلك المعاقل بالثار، وأرجعوا عليًّا القهقرى، وتركوه زاحفاً على الوراء وقالوا: أذية لأولياء الله ….
ثم كيف الخطب لديهم في هذه الأبنية على الأموات المعدة للتلاوة، والصلوات المشتملة على المحاريب، والفرش، والسرج وسائر الآلات إذا أتاهم في شأنها رسول صاحب الوحي المنزل، والهدي السويّ الأعدل، يقول: بعثني لإزالة ما قد تقدم إليكم بالنهي عنه من اتخاذ القبور مساجد.
وهذا كله بالنظر إلى نفس البناء على القبر، لا إلى ما ترتب عليه من الوثنية والشرك، وعلى إحياء هذه المشاهد من كلم الإسلام وفقء عين شريعة المختار عليه الصلاة والسلام، وما يقع في الزيارات من أنواع الشرك بدعاء المقبورين، والطواف بتلك الأنصاب، والعكوف عندها، والنذر والتقرب لها بأنواع القربات. وما ترتب على ذلك من المفاسد، والمنكرات كترك الصلاة المكتوبة، وما يقولون من أقاويلهم المفتراة المكذوبة، قد حملوا الولي أو حملها عنهم، واختلاط الرجال بالنساء وأرباب الملاهي، واتخاذ الزينات والمجاهرات بالبدع والمعاصي..) (1).
ثم تحدث النعمي عن المفاسد والمنكرات التي تحدث بسبب البناء على القبور من أنواع المفاسد الوثنية، كما صارت هذه الأبنية معتكف كل طامة، ومناخ فجور أهل الفسوق والعقوق من العامة (2).
__________
(1) معارج الألباب ص 40، باختصار.
انظر : ما كتبه النعمي - في نفس الكتاب. حول الأحاديث في النهي عن البناء على القبور ص 105 - 113.
(2) انظر : المرجع السابق، ص 113.(1/375)
ويرد النعمي على هؤلاء المبتدعة قولهم: (من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم له قبة، وأولياء المدينة وأولياء سائر البلدان وأنها تزار كل وقت..).
أقول: (الأمر كذلك فكان ماذا؟ بعد أن حذر صلى الله عليه وسلم وأنذر، وبرأ جانبه المقدس الأطهر صلى الله عليه وسلم، فصنعتم عين ما نهى عنه ..، أفلا كان هذا كافياً لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم عن أمره حجة عليه، وتقدماً بين يديه. فهل أشار بشيء من هذا أو رضيه، أو لم ينه عنه ؟) (1).
ويقول النعمي حاكياً حال عبّاد القبور:
(تأمل دين عبّاد القبور اليوم، خصوصاً الغالين منهم فيها، إذا مسهم الضر أنابوا إليها، ويروون قاتلهم الله أنى يؤفكون إذا دهمتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، ثم يذوقون الرحمة من الله مع كفرهم هذا. فيقولون كرامة الشيخ وبرهانه، وإذا خفق سعيهم يقولون هو غائب أو ساخط) (2).
وأما ما أورده الخصوم من الاعتراض على هدم الشيخ للقباب، والأبنية التي على القبور، والنهي عن شد الرحال لزيارة القبور، فنجد أن الشيخ حسين بن غنام – رحمه الله – من أوائل من بيّن ووضّح صواب هذا الاعتراض، فقد بيّن ذلك في جوابه على رسالة ابن سحيم، مع رده على ما زاد ابن سحيم من الكذب والبهتان، يقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 146 ,
وانظر : ما كتبه النعمي من وقائع حدثت للقبوريين من الشرك بالله، والتضرع إلى الأموات، والذبح لها، وقصدها من أجل الشفاء وقضاء الحاجات، ص177 – 182.
(2) المرجع السابق، ص 203.(1/376)
(فهذا الكلام ذكر فيه ما هو حق وصدق، وذكر فيه ما هو كذب وزور وبهتان، فالذي جرى من الشيخ رحمه الله وأتباعه أنه هدم البناء الذي على القبور، والمسجد المجعول في المقبرة على القبر الذي يزعمون أنه قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه وذلك كذب ظاهر، فإن قبر زيد رضي الله عنه ومن معه من الشهداء لا يعرف أين موضعه بل المعروف أن الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوا في أيام مسيلمة في هذا الوادي، ولا يعرف أين موضع قبورهم من قبور غيرهم، ولا يعرف قبر زيد من قبر غيره، وإنما كذب ذلك بعض الشياطين وقال للناس: هذا قبر زيد، فافتتنوا به، وصاروا يأتون إليه من جميع البلاد بالزيارة، ويجتمع عنده جمع كثير ويسألونه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فلأجل ذلك هدم الشيخ ذلك البناء الذي على قبره، وذلك المسجد المبني على المقبرة اتباعاً لما أمر الله به رسوله من تسوية القبور، والنهي الغليظ الشديد في بناء المساجد عليها، كما يعرف ذلك من له أدنى ملكة من المعرفة والعلم.
وقوله (1): (وبعثرها لأجل أنهم في حجارة ولا يقدرون أن يحفروا لهم فطووا على أضرحتهم قدر ذراع، ليمنعوا الرائحة والسباع). فكل هذا كذب وزور وتشنيع على الشيخ عند الناس بالباطل والفجور، وكلامه هذا تكذبه المشاهدة، فإن الموضع الذي فيه تلك القبور موضع سهل لين الحفر، وأهل العيينة والجبيلة وغيرهما من بلدان العارض يدفنون موتاهم في تلك المقبرة، وهي أرض سهلة لا حجارة فيها) (2).
وذكر ابن غنام ما فعله الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع عثمان بن معمر أمير العيينة – في باديء دعوته – من هدم القباب وأبنية القبور، يقول:
__________
(1) أي سليمان بن سحيم.
(2) روضة الأفكار)، 1/123.(1/377)
(فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي يعظمها عامة الناس والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنّة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة: ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود، وأحمد بن سويلم، وجماعة سواهم) (1).
ويؤكد ابن غنام أن ما فعله الشيخ الإمام هو عين الحق والصواب الذي عليه أهل العلم من كل المذاهب.. يقول رحمه الله.
(ولقد كان العلماء رضي الله عنهم من قديم الزمان ينكرون هذا الذي حدث في هذه الأمة من تعظيم القبور، وبنائها وبناء المشاهد عليها، ودعائها وسؤال أهلها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وقد بيّنوا للناس أن هذا خلاف دين الإسلام.
فليس هذا الذي بيّنه للناس الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في النهي عن دعوة أهل القبور والتبرك بالأشجار والأحجار، فهمه من تلقاء نفسه دون أن يفهمه أحد من علماء هذه الأمة. بل إن العلماء كلهم من جميع المذاهب مطبقون على النهي عنه، والإنكار، والتغليظ على من فعله من الجهال وهم مجمعون على وجوب تغيير ما قدروا عليه من ذلك) (2).
ويبيّن الإمام عبد العزيز الأول معنى حديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فيقول:
__________
(1) المرجع السابق، 1/78 بتصرف يسير.
(2) المرجع السابق، 1/44.
ومما يدل على اهتمام الشيخ الإمام بهذه المسألة أنه عقد في (كتاب التوحيد) باباً بعنوان (باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده)، ثم تلاه بـ (باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله) ثم أعقبه بباب ثالث (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك) انظر : (مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/62 – 67.(1/378)
(وهو حديث ثابت باتفاق أهل العلم يتلقى بالقبول عنهم، وهو إن كان معناه لا تشدوا الرحال إلى مسجد من المساجد إلا إلى الثلاثة التي قد ذكرت، فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة إنما هو للصلاة، والدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف الذي هو من الأعمال الصالحة، وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحال إليه من بعيد، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إليه كل سبت ماشياً وراكباً، وكان ابن عمر يفعله كما في الصحيح.
وإذا كان السفر المشروع لقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، ودخلت زيارة القبر تبعاً؛ لأنها غير مقصودة استقلالاً، فحينئذٍ فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل محذور عند القبر.
واتخاذ قبور الأنبياء، والأولياء مساجد هو الموقع لكثير من الأمم، إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم كود وسواع ويغوث، وتماثيل طلاسم الكواكب، ونحو ذلك) (1).
ويذكر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلوه أثناء دخولهم مكة المكرمة سنة ثمان وعشر ومائتين وألف من الهجرة (1218هـ)، فكان مما قاله:
(فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك) (2).
ويعلل الشيخ عبد الله الدافع لهذا الهدم فيقول:
(وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء حسماً لذرائع الشرك، وتنفيراً من الإشراك بالله ما أمكن لعظم شأنه فإنه لا يغفر) (3).
ويشير الشيخ عبد الله إلى أن بناء القباب على القبور من علامات الكفر فيقول:
__________
(1) الهدية السنية، ص 18، 19.
(2) المرجع السابق، ص 37.
(3) المرجع السابق، ص 43.(1/379)
(أما بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر، وشعائره؛ لأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح؛ لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف، وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً، لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدين فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب، وأمرهما بهدمها) (1).
ولما سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل يجوز البناء على القبور ؟، كان مما أجاب به رحمه الله:
(ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي: إلا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
كما أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه …) (2).
وذكر الشيخ حمد أحاديث أخرى، ثم أورد أقوال العلماء في ذلك، ثم قال:
(ومن جمع بين سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب، والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور.. وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في المعلاة أكثر من عشرين قبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب، التابوت الذي عليه، ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص) (3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 1/246.
(2) الهدية السنية ص 83.
(3) الهدية السنية ص 85.
وهذه السطور التي نقلناها من كلام الشيخ حمد بن ناصر بن معمر هي جزء من مناظرته لعلماء مكة سنة 1211هـ.(1/380)
ويبين صاحب (التوضيح) بعضاً مما يجب تجاه القبور فيقول:
(وأما تعظيم القبور بمعنى احترامها، فإن كانت للمسلمين فواجب لا يجوز تبول، ولا تغوط، ولا جلوس ووطوء عليها لما في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، وفيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد اتكأ على قبر فقال: (لا تؤذوا صاحب القبر) وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر مسلم).
وأما تعظيمها بمعنى عبادتها فهو أكبر الكبائر عند الخاص والعام، وأصل فتنة عبّاد الأصنام كما قاله السلف من الصحابة، والتابعين والأئمة المجتهدين) (1).
ثم ذكر صاحب (التوضيح) الأحاديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد منها حديث عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة كانت على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال وهو كذلك (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر أمته ما صنعوا) متفق عليه ثم يقول صاحب (التوضيح) - بعد هذه الأحاديث - مشيراً إلى حال عبّاد القبور.
(وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن يسجد للقبر أو دعاه، وعدل عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم، فسهلت لهم، وطابت بها قلوبهم من تعظيم القبور، وإكرامها، -والتوكل عليها، والنذر لها، وكتب الرقاع فيها، وخطاب الموتى بالحوائج ياسيدي يامولاي أفعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها، والخرق التي عليها تبركاً، وإيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها وشد الرحال إليها)(2).
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 208.
(2) المرجع السابق، ص 214.(1/381)
وأورد صاحب (التوضيح) الكثير مما يحدث عند القبور من الشركيات والبدع والمحدثات (1).
ثم يبيّن صاحب (التوضيح) الزيارة الشرعية لقبر نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول:
(فأما المشروع من زيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ما قاله الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من المجتهدين كلّهم قالوا: إن من كان حاضراً في المدنية، فيشرع في حقّه أن يأتي إلى القبر، فيصلي، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضوان الله عليهما. قالوا: ولا يكثر من المجيء عليه، ولا يكرره في اليوم مرات احتراماً له، ولأنه لم يفعله الصحابة ولا التابعون، وأن من قدم من سفر، أو خرج إليه فيقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي، ويسلم عليه، وعلى صاحبيه بعد أن يصلي لله في المسجد ركعتين)(2).
ثم يتبعه ببيان الزيارة البدعيّة للقبر النبوي فيقول:
(وأما غير المشروع فهو قصده للدعاء واتخاذه عيداً بالاجتماع عنده، والسفر إليه، لما في (الصحيحين) وغيرها من المسانيد والسنن أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتخذ قبره مسجداً وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) بعد قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف على القاصدين لها من الفتنة بدعائها، أو الدعاء عندها) (3).
ويبين صاحب (التوضيح) بطلان ما استدلوا به من أحاديث في مشروعية شد الرحال لزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وسائر القبور(4)، فيذكر أوجه البطلان فيها:
__________
(1) انظر : المرجع السابق، ص 216، 229.
(2) المرجع السابق، ص 241، وانظر : ص 242 – 245.
(3) المرجع السابق، ص 246.
(4) وقد ذكر صاحب (التوضيح) تلك الأحاديث، وقد سبق إيرادها نقلاً عن دحلان.(1/382)
أحدهما: أن هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل العلم، ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل.
الثاني: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روي في ذلك شيء لأهل الصحيح، ولا السنن، ولا الأئمة المصنفين في المسانيد كالإمام أحمد وغيره.
الثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً كما ثبت عنه من غير وجه رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد بن منصور في سننه من حديث أبي سعيد المهري وغيرهما.
فكيف يقول لا تجعلوا قبري عيداً وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ثم يقول: من حجّ ولم يزرني فقد جفاني، أو يقول من زار قبري وجبت له شفاعتي، ونحوها من المختلقات، وكيف يسأل ربه لا يجعل قبره وثناً يعبد ثم يأمر بشد الرحال إليه، وأنه للدعاء عنده يقصد.
الرابع: أن متأخري الفقهاء القائلين بزيارة القبور من الشافعية، وغيرهم حتى ابن حجر الهيتمي صرح في الإمداد الذي شرح به الإرشاد كلّهم قالوا ينوي الزائر مع زيارته التقرب بالسفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وشد الرحل إليه، والصلاة فيه لتكون زيارة القبور تابعة له..) (1).
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق ص 251، 252 باختصار.
وانظر : باقي الأوجه ص 252، 253.(1/383)
ويتحدث الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عن حال عبّاد القبور فيقول: (فإن عبّاد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بالغوا في مدحه، وأنزلوه منزلة الربوبية، وصرفوا له خالص العبودية، حتى أنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادة، وأما القبور المعروفة أو المتوهمة فأفعالهم معها، وعدها لا يمكن حصره. فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها، كشفوا الرؤوس، فنزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها، واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلّوا عندها ركعتين)(1).
ويجيب الشيخ عبد الرحمن بن حسن على من سأله عن حكم شد الرحال إلى المكانات المشرفة للأنبياء والأولياء، فيقول:
(فالجواب لا ريب أن هذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فإذا كان تبركاً للمحل المزور فهو من الشرك؛ لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور كقصد النبي صلى الله عليه وسلم، أو الولي لتعود بركته بزعمهم. وهذه حال عبّاد الأصنام سواء كما فعله المشركون باللات، والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم لها، وإتيانهم إليها..) (2).
ويوجز الشيخ عبد الرحمن بن حسن الجواب في مسألة شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(إن بعض العلماء قد قال يجوز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وهذا القول لصاحب (المغني)، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله (فزوروها) وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث من قوله (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص 221
(2) مجموعة الرسائل والمسائل 2/41 بتصرف يسير.(1/384)
ويقول ابن تيمية رحمه الله: والصحيح ما ذهب إليه المتقدمون كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف من المتقدمين من أن هذا السفر منهي عنه لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وحجتهم ما في (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد). وهذا الحديث أتفق الأئمة على صحته والعمل به في الجملة. فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، كما نصَّ عليه، شيخ الإسلام..) (1).
ويعلق الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على ما يردده عبّاد القبور من قول: الدعاء عند قبر فلان ترياق مجرب، فيقول رحمه الله:
(وهذه العبارة وهي قولهم الدعاء عند قبر فلان ترياق مجرب، قد تنازعها عبّاد القبور والمتبركون بها، فمنهم من يدعي ذلك لقبر أبي حنيفة ومنهم من يدعيه لقبر معروف الكرخي، وعبّاد عبد القادر وأحمد البدوي والحسين عندهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وبعضهم يفضل الدعاء عندها على الدعاء في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وبهذا وأمثاله عمرت المشاهد، وعطلت المساجد وبنيت القباب، وأرخيت الستور على التوابيت بمضاهاتها لبيت الله …) (2).
ولقد أفاض الشيخ عبد اللطيف في الحديث عن حال بلاد المسلمين قبيل ظهور دعوة الشيخ الإمام، وما كانت عليه تلك البلاد من الفتنة بالقبور، والغلو في المشاهد، وما عمّ فيها وطمّ من مظاهر الوثنية.. فكان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص2/51.
وانظر : جواباً أخر للشيخ عبد الرحمن بن حسن في نفس الكتاب 4/390، 393.
(2) البراهين الإسلامية)، ق39.(1/385)
(وفي بندر جدة، ما قد بلغ من الضلال حدّه، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء وصنعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام، وكذلك مشهد العلوي بالغوا في تعظيمه، وتوقيره، وخوفه، ورجائه.
وكذلك الموصل، وبلاد الأكراد ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد.. فعندهم المشهد الحسيني قد اتخذه الرافضة وثناً بل رباً مدبراً وخالقاً ميسراً، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية الأولى وكذلك مشهد العباس، ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد رافضتهم وسنتهم.
والرافضة يصلون لتلك المشاهد ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور لسكان تلك الأجداث والقبور ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي القدير …) (1).
وهذه البدع والشركيات قد أنكرها أهل العلم، وليس إنكار الشيخ الإمام بدعاً في هذا الأمر.. يقول الشيخ عبد اللطيف مبيناً ذلك:
(وهذه الحوادث المذكورة والكفريات المشهورة والبدع المزبورة قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم، حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان ولكن كان الغلبة للجهال والطغام انتقض عرى الدين وانثلمت أركانه.
فليس إنكار الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى ..) (2).
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 3/387 باختصار.
(2) المرجع السابق، 3/388، 389، باختصار.
وانظر : المرجع السابق 3/397، 450، وانظر : كتاب (مصباح الظلام)، ص 314.(1/386)
ومن المناسب أن ننقل ما سطره المؤرخ الشهير ابن بشر رحمه الله عن بعض الأعمال التي قام بها الإمام سعود بن عبد العزيز في هذا المقام.
(ففي حوادث سنة 1216هـ حين توجه سعود بالجيوش إلى كربلاء، فهدم القبة الموضوعة على قبر الحسين) (1).
(وفي حوادث سنة 1217هـ حين دخل سعود مكة، وطاف وسعى، فرق جيوشه يهدمون القباب التي بنيت على القبور والمشاهد الشركية، وكان في مكة من هذا النوع شيء كثير في أسفلها، وأعلاها، ووسطها، وبيوتها).
ثم يقول ابن بشر:
(فأقام فيها أكثر من عشرين يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعة عشر يوماً يهدمون، يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحد الأحد يتقربون، حتى لم يبق في مكة شيء من تلك المشاهد، والقباب إلا أعدموها وجعلوها تراباً)(2).
ويصف الشيخ الشثري شد الرحال إلى المشاهد بأنه من محدثات الأمور.. فيقول:
(قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن شد الرحال إلى المشاهد، وإلى قبور الأنبياء، والصالحين، لأجل تعظيمهم ليس من عمل المصطفى، ولا من عمل الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، بل هو مبتدع محدث مردود على صاحبه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد(3) (4).
ويفند السهسواني دعاوى دحلان، ويكشف الصواب في هذا المقام فيقول رحمه الله:
__________
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد 1/257 بتصرف.
(2) المرجع السابق، 1/263.
وقد ذكر الجبرتي قريباً من ذلك.
انظر : كتاب (من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي)، لمحمد غالب، إشراف دار اليمامة للبحث الرياض، سنة 1395هـ، ص11.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) تأييد الملك المنان ق4.(1/387)
(قوله – أي دحلان: - والزيارة شاملة للسفر، لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجيء الذي نصت عليه الآية الكريمة) (1).
أقول: هب أن الزيارة مطلقة شاملة للسفر، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) مقيد لذلك الإطلاق، على أن لفظ الزيارة مجمل كالصلاة والزكاة والربا. فإن كل زيارة قبر ليست قربة بالإجماع للقطع بأن الزيارة الشركية والبدعية غير جائزة، فلما زار النبي صلى الله عليه وسلم القبور وقع ذلك الفعل بياناً لمجمل الزيارة، ولا يثبت السفر من فعله صلى الله عليه وسلم، مع أن الخروج إلى مطلق المسجد أيضاً شامل للسفر وهو قربة..، فيكون السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة أيضاً قربة، والخصم أيضاً لا يقول به، وكذلك الصلاة والذكر شاملان لجميع الصلوات المبتدعة والأذكار المبتدعة، فلو سوغ الاستدلال بمثل تلك الإطلاقات، للزم جواز تلك الصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة) (2).
ثم يرد السهسواني قول دحلان: (وقد صح خروجه صلى الله عليه وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع، وبأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غير قبره صلى الله عليه وسلم فقبره الشريف أولى).
فيقول السهسواني مجيباً: -
(أقول: الثابت بالحديث المذكور إنما هو مشروعية الانتقال الذي هو دون السفر للزيارة، ولم ينكر أحد، والانتقال الذي تنكر مشروعيته هو السفر، وهو ليس بثابت) (3).
ثم يبطل السهسواني قاعدة دحلان: أن وسيلة القربة المتوقف عليها قربة .. لكي يجوّز دحلان من خلالها شد الرحال لزيارة القبور .. فأبطلها السهسواني من عدة أوجه، نذكر منها ما يلي:
__________
(1) أي قوله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } {سورة النساء: آية 64}.
(2) صيانة الإنسان)، ص76.
(3) المرجع السابق، ص77.(1/388)
الأول: أن هذه القاعدة في أي كتاب من كتب الأصول والفقه ؟ وما الدليل عليها من الكتاب والسنة ؟ ولابد من نقل الإجماع عليها.
الثاني: أن هذه القاعدة منقوضة بأن إتيان مسجد قباء والصلاة فيه ركعتين قربة. لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً ويصلي فيه ركعتين. مع أن السفر إلى قباء ليس بقربة، فإنه سفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال.
الثالث: أنا لا نسلم أن مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة، بل القربة هي الزيارة التي لا يقع فيها شد رحل بدليل حديث (لا تشد الرحال …).
الرابع: أنه لو سلم كون مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة، فلا نسلم كونها متوقفة على السفر للزيارة، لجواز أن يسافر لزيارة المسجد النبوي، أو أمر آخر من التجارة وغيرها.
الخامس: أنه لو سلمت هذه القاعدة فهي إنما هي وسيلة لم ينه الشرع عنها، والسفر للزيارة قد نهى الشارع عنه بدليل (لا تشد الرحال) (1).
ويذكر الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله، جانباً من معتقدهم في مسألة البناء على القبور فيقول: -
(فنحن ننكر الغلو في أهل القبور والإطراء والتعظيم، ونهدم البنايات التي على قبور الأموات لما فيها من الغلو والتعظيم الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله..) (2).
ويرد مسعود الندوي على فرية كاذبة … فيقول:
(ومما افتراه الأعداء من التهم المكذوبة أن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود كان هدم القبة المبنية على القبر النبوي، والغريب أن المؤرخين الأوربيين يتلذذون بذكر هذه الأسطورة الكاذبة) (3).
ومما كتبه ابن سحمان في الرد على الحداد، ما قاله رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 77 – 79 باختصار.
(2) الهدية السنية)، ص 105.
(3) محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم)، ص 183.(1/389)
(لم يعهد في زمن من الأزمنة، إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم على جواز البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وإسراجها، وخدمتها وسدانتها والعكوف عندها، بل كل أهل العلم بالله وبدينه في كل زمان ومكان ينهون عن البناء عليها، وعن إسراجها، والعكوف عندها، وعن شد الرحال إليها للزيارة) (1).
ويقول: (وأما هدم القباب فنعم، فإن الشيخ فعل ذلك، وقد اتبع في ذلك أئمة الإسلام من سادات الحنابلة وغيرهم من العلماء، فبناء القبور إنما أحدثه الرافضة، فهم سلف الحداد وأشباهه من عبّاد القبور) (2).
ويجيب ابن سحمان على اعتراض الطبطبائي قائلاً:
(وأما ما ذكره من منع الوهابية لزيارة قبور الأئمة، فنعم منعوا زيارة المشاهد التي تعبد من دون الله، وشرعوا فيها من الأمور التي لم يأذن بها الله، ولا كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هدي أصحابه، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين..) (3).
ويقول أيضاً:
(نعم امتثلت الوهابية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القباب التي بنيت على أهل البقيع من أهل البيت وغيرهم؛ لأن ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّة أصحابه، ومن بعدهم من الأئمة المهتدين، ولا يعيب على الوهابية بهدمهم القباب التي بنيت على ضرائح الأموات إلا من أعمى الله بصيرة قلبه)(4).
__________
(1) الأسنة الحداد ص204.
(2) المرجع السابق، ص 205. وانظر : كتاب (الضياء الشارق)، ص 276، وكتاب (كشف غياهب الظلام)، ص 250.
(3) الحجج الواضحة الإسلامية ق 35.
(4) المرجع السابق، ق44.(1/390)
ويبيّن أحمد الكتلاني أن اتخاذ القبور مساجد من المحدثات الشركية فيقول: (لم يثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه بطريق صحيح ولا ضعيف، أنهم اتخذوا القباب والمشاهد، وأوقدوا فيها السرج، ولثموا ترابها، وركبوا عليها التوابيت، وكسوها بالورود والديباج إلى غير ذلك من أنواع البدع التي يفعلها الخارجون عن وفق الشريعة وهديه الذي كان عليه وأصحابه. بل الثابت الصحيح أنه جاء بهدمها وإبطالها كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن عبسة بعثت بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحّد الله لا يشرك به شيئاً.
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن كل عمل جار تحت أحكام الشريعة فما كان موافقاً لها فهو مقبول، وما كان خارجاً عن ذلك فهو مردود، وإن كان تقاضته الطباع، وتحالته النفوس) (1).
وينقل محمد رشيد رضا بعض أقوال أهل العلم في البناء على القبور، فكان من قوله: (ذكر الإمام الشافعي في (الأم) أن ولاة مكة كانوا يهدمون ما بني في مقبرتها من القبور، ولا يعترض عليهم الفقهاء، ونقله عنه النووي في (شرح مسلم) عند شرح ما ورد في هذا المعنى من الأحاديث، وفي (الزواجر) لابن حجر الهيتمي أن اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً والطواف بها، واستلامها والصلاة إليها كلّها من كبائر الذنوب..) (2).
ويورد عبد الكريم بن فخر الدين بعض العلماء المانعين شد الرحال لزيارة القبور، فيقول: (ومن المانعين عن السفر لزيارة قبور الأولياء، القاضي الحسين من الشافعية، وابن عقيل، وابن بطة وابن تيمية، وابن القيم ،وابن عبد الهادي من الحنابلة) (3).
ويصف الشيخ محمد بن عثمان الشاوي ما شاهده من الأعمال القبورية في مكة المكرمة حيت دخلها مع أتباع هذه الدعوة السلفية سنة 1343هـ، وما فعلوه من هدم قباب الشرك، يقول رحمه الله :
__________
(1) الصيب الهطال ص16.
(2) الهدية السنية (حاشية)، ص43، 44.
(3) الحق المبين ص23.(1/391)
(وبعد أن فرغنا من أعمال العمرة، وبادرنا إلى هدم القباب، وجدنا في القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ما لا تستطاع حكايته، من ذلك أنا وجدنا رقاعاً مكتوباً فيها: يا خديجة يا أم المؤمنين جئناك زائرين، وعلى بابك واقفين، فلا تردينا خائبين فاشفعي لنا إلى محمد يشفع لنا إلى جبرائيل، ويشفع لنا جبرائيل إلى الله ووجدنا عندها كبشاً قد جاء به صاحبه ليقربه إليها … ووجدنا عند باب القبة عجوزاً شوهاء من سدنتها، ولقد حدثني غير واحد أنهم سألوها ما حالك، فقالت: هي خادمة لسيدتها المتصرفة في الكون منذ عدة سنين، ولا تصوم، ولا تصلي، ومع ذلك يتمسح بها الزوّار، وعند القبة من الشمع والسرج والآلات ما لا يحصى، وعندها من أنواع الطيب، ما لم نجد مثله عند البيت الحرام والحجر الأسود، وأمثال هذا كثير معلوم، فلهذا استعنا بالله تعالى على إزالة تلك القباب … وأما ما هناك من القباب والأبنية على القبور والكتابة وأنواع الزخرفة فذلك شيء لا يعده عاد، لكن الذي نعتقد أن مجرد البناء على القبر من غير صرف شيء من أنواع العبادة لها ذلك بدعة محرمة؛ لأنها من أكبر الوسائل إلى تعظيم أرباب القبور وعبادتهم من دون الله..) (1)
ويفصح الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف (2) (ت 1376هـ) عن موقفهم من المشاهد والقباب على القبور، وذلك في قصيدة يرد بها على من سمى نفسه بـ (فتى البطحاء)، حين استنكر ذلك الفتى، ما فعلته جيوش الموحدين أثناء دخولها مكة من هدم القباب، والأبنية على القبور … يقول الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) القول الأسد ق3.
(2) وهو حفيد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، ولد في الرياض سنة 1315هـ-، وتعلم بها، ثم جلس للتدريس، وتولى إدارة المعاهد العلمية، وله معرفة بالعروض ويقرض الشعر، وأصدر مجلة إسلامية، توفي في الرياض. انظر : (مشاهير علماء نجد). ص 164.(1/392)
وقولنا أننا قد هدمنا مشاهداً ... ... لخير نبي أو لأفضل صاحب
نعم أننا والحمد لله وحده ... ... ... نهدم قباب الشرك من كل جانب
ونكسر أوثاناً ونهدم ما بني ... ... ... على أثر أو بقعة للأطايب(1)
وقد تضمن (البيان المفيد) - الذي اتفق فيه علماء الحجاز ونجد - أن البناء على القبور بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل علياً، فأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه بالأرض (2).
ولما سأل الشيخ عبد الله بلهيد علماء المدينة عن البناء على القبور سنة 1344هـ، وكتبوا جواباً مطابقاً للسؤال جار على الأصول الشرعية والقوانين المرعية من ذكر الحكم بدليله، وقام بعض المبتدعة وقعدوا وضجوا على تلك الفتوى - كما سبق بيانه -، لما حدث كل ذلك كتب الشيخ عبد الله بن بلهيد رحمه الله مقالة نورد منها قوله:
(وهذه الكتب من جميع المذاهب الأربعة قد ثبت فيها أحكام القبور، ونحن لم نخرج عما قالوه، فأفيدونا من شرع البناء على القبور، ومن أول من بني عليها، وغير خاف على من له أدنى ممارسة لعلوم الحديث والتفسير والتاريخ أنه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دفن أحد في قبر إلا في التراب، ولم يجصص، ولم يبن عليه، وكذلك من مات من الصحابة بالمدينة المنورة، وفي مكة المكرمة، وغيرها من البلاد البعيدة، وكل من مات منهم دفنوا هنالك، ولم تجصص قبورهم، ولم يبن عليها..) (3).
__________
(1) القول الأسد ق20، وقد ألحقت هذه القصيدة بعد نهاية رسالة الشاوي، وقد قرض قصيدة الشيخ عبد اللطيف كل من المشايخ:
سعد بن حمد بن عتيق، وابن سحمان ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ كما أن للشيخ محمد الشاوي قصيدة يرد بها على فتى البطحاء، وقد قرظ هذه القصيدة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ.
(2) انظر : (البيان المفيد)، ص9.
(3) جريدة أم القرى، عدد 104، 4 جمادى الثانية 1345هـ، وانظر : (خطاب الشيخ ابن بلهيد) ص19.(1/393)
ويذكر الشيخ فوزان السابق جانباً من تلبيس عبّاد القبور، فيقول عنهم:
(إنهم يتعلقون بالأسماء، ويغيرون الحقائق من نصوص الكتاب والسنّة ويحرفونها عن مواضعها، ويعارضونها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، محتجين بها على فتح أبواب شركهم وضلالهم، الذي أضلوا به كثيراً من جهلة هذه الأمة مقتفين في ذلك أثر من حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن سلوك سبيلهم، وذلك فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة في لعن متخذي القبور مساجد، لأنه من الغلو الذي نهى الله تعالى عنه، وهو أصل عبادة الأصنام، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (ولو لا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً(1)(2).
والتأمل فيما نقلناه من موقف بعض أئمة الدعوة قولاً وفعلاً أبنية القبور، واتخاذ القباب والافتتان بها، يظهر أن قولهم وفعلهم هو عين الحق والصواب الذي تشهد له الأدلة وتثبته البراهين، وتعضده أقوال أهل العلم والدين، ومن ثم ظهر ما كان عليه الخصوم من الضلال والبعد عن جادة الصواب حين خالفوا ذلك الحق، وزاغوا عن الصدق، فظنوا الحق باطلاً، واعترضوا على الشيخ الإمام وأتباعه - من بعده - فيما جاء به من الصواب.
وأدركنا ما كان عليه أئمة الدعوة من البصيرة والفقه لواقعهم ببيئتهم فيما حكوه من الطامَّات الشركية والمصائب الكفرية والحوادث البدعية التي نزلت ووقعت في بلاد المسلمين بسبب الافتتان بالقبور وتزيينها.
الفصل الثاني :تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبيّة وتوحيد الألوهية.
أورد خصوم الدعوة السلفية اعتراضاً آخر على إحدى قضايا الدعوة، فادعوا أن الشيخ الإمام ابتدع أمراً جديداً، واستحدث شأناً منكراً، حين جعل التوحيد قسمين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وفرّق بين معنيهما.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) البيان والإشهار ص 321.(1/394)
وقد ساق الخصوم هذا التقسيم والتفريق بين التوحيدين في مقام الاعتراض والمخالفة للشيخ الإمام وأتباع دعوته، لذا فإن اعتراضهم لا يخلو من تلبيس وتمويه وتزوير.
ويظهر أن سبب هذا الاعتراض من قبل الخصوم، هو اعتقادهم أن الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبّر، بيده النفع والضر .. هو غاية التوحيد، فتوحيد الربوبية هو الواجب على المكلَّف، وليس معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله عندهم إلا بأن الله وحده هو القادر على الاختراع، فإذا كان توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، وهو المطلوب من كل مكلَّف، فلا اعتبار إلى غيره، ولا نظر إلى ما عداه، ومن ثمّ رفض هؤلاء القوم هذا التقسيم واستنكروه، واعترضوا على الشيخ الإمام في ذلك.
ونورد اعتراضهم كما جاء مسطوراً في كتبهم، ثم نتبعها بالمناقشة التي تكشف عن صحة ما قصده الشيخ الإمام وأتباعه من إيراد هذا التقسيم والتفريق، وأن تقسيم التوحيد إلى توحيد ربوبية وألوهية هو تقسيم تثبته النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة وآثار السلف الصالح.
يسوق علوي الحداد هذا الاعتراض فيقول:
(توحيد الألوهية داخل في عموم توحيد الربوبية، بدليل أن الله تعالى لما أخذ الميثاق على ذرية آدم، خاطبهم الله تعالى بقوله (ألست بربكم)(1) ولم يقل بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقر له بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله بل هو الإله بعينه.
ومن العجب العجاب قول المدعي الكذّاب لمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من أهل القبلة أنت لم تعرف، التوحيد نوعان: توحيد الربوبية الذي أقرت به المشركون والكفّار، وتوحيد الألوهية الذي أقرت به الحنفاء وهو الذي يدخلك في دين الإسلام.
__________
(1) سورة الأعراف : آية 172.(1/395)
وأما توحيد الربوبية فلا، فيا عجباً هل للكافر توحيد صحيح، فإنه لو كان توحيده صحيحاً لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد كما صرحت به الأحاديث) (1).
ويورد محسن بن عبد الكريم قول أحد أسلافه، وهو عبد الله بن عيسى حيث يقول – معترضاً على هذا التقسيم - :
(ثم إن المخالف - يعني ابن عبد الوهاب - جعل التوحيد توحيدين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فقال: إن الأول اعترف به المشركون، وأما الثاني فلم يعترفوا به، وجعل توحيد الإلهية راجعاً إلى العبادة ولا نعلم سلف له في هذا، ونحن لا نسلم الفرق، بل توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، إذ الصفة لا تزول عن الموصوف، فرب السموات والأرض إلههما..) (2).
ثم ينكر ابن عيسى إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية مستدلاً بقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً). (3)
ثم قال ابن عيسى: (فلم يكن مشركوا العرب مقرّين بالأحدية والربوبية كما زعم..) (4).
ويقول داود بن جرجيس حول هذا التقسيم:
(إن هذه الشبهة هي التي غرّ بها إبليس هؤلاء وأشباههم، فإذا رأيت جوانبها سقطت وتبين المؤمن من الكافر، والموحد من المشرك، فاعلم أن الكفّار كانوا مشركين بالله تعالى أصنامهم في الربوبية والعبادة .. فمن قال أن الكفّار يوحدون الله توحيد الربوبية أخذاً من ظاهر بعض الآيات، فقد أخطأ، وما أصاب، ولا تدبر السنّة ولا الكتاب، فإن الربوبية والألوهية متلازمان. الرب والإله معناهما واحد، لأن الذي يستحق أن يعبد لابد أن يكون رباً) (5)
ويدعي السمنودي أن مشركي العرب وقعوا في الكفر بسبب اتخاذهم رباً من دون الله، وعلى ذلك فهم غير مقرّين بتوحيد الربوبية، يقول السمنودي:
__________
(1) مصباح الأنام)، ص 17.
(2) لفحات الوجد) ، ق23، 24.
(3) سورة الفرقان : آية 60.
(4) لفحات الوجد) ق 24.
(5) نقلاً عن : (سعادة الدارين) 2/22.(1/396)
(لقد جاء مشركوا العرب الكفر من جهة اعتقادهم استحقاق العبادة لغير الله، واتخاذه رباً من دون الله، وأما المسلمون فإنهم بحمد الله بريئون من ذلك، إذ لا يعتقدون شيئاً يستحق الألوهية والعبادة غير الله تعالى، فهذا هو الفرق بين الحالين. وأما هؤلاء الجاهلون المكفرون للمسلمين، فإنهم لم يعرفوا الفرق بين الحالين، تخبطوا وقالوا أن التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية). (1)
ويقول السمنودي - في موضع آخر: -
(وأما المشركون الذين نزلت فيهم الآيات القرآنية، فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية والعبادة، ويعظمونها تعظيم الربوبية، وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئاً (2).
ويورد أحمد دحلان تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية ويستنكر هذا التقسيم، ثم يذكر أدلته على إبطاله، يقول دحلان:
(وقالوا أن التوحيد نوعان توحيد الربوبية، وهو الذي أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية وهو الذي أقر به الموحدون، وهو الذي يدخلك في دين الإسلام، وأما توحيد الربوبية فلا يكفي، وكلامهم باطل .. فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية.
ألا ترى إلى قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى)(3) ولم يقل ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقرّ لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه.
وفي الحديث (إن الملكين يسألان في قبره فيقولان له: من ربك ؟) (4) ولا يقولا: من إلهك؟، فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية.
__________
(1) سعادة الدارين 2/22.
(2) المرجع السابق، 1/304.
(3) سورة الأعراف : آية 172.
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو جزء من حديث البراء بن عازب.(1/397)
ثم قال - وهل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان للكافر توحيد صحيح لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد. فهل سمع المسلمون في الأحاديث والسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب ليسلموا على يده، يفضّل لهم توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ويخبرهم أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في دين الإسلام، أو يكتفي منهم بمجرد الشهادتين، وظاهر اللفظ ويحكم بإسلامهم، فما هذا الافتراء والزور على الله ورسوله، فإن من وحّد الربّ فقد وحّد الإله، ومن أشرك بالرب فقد أشرك بالإله، فليس للمسلمين إله غير الرب، فإذا قالوا لا إله إلا الله، إنما يعتقدون أنه هو ربهم، فينفون الألوهية عن غيره، كما ينفون الربوبية عن غيره)(1).
وقد تحدث يوسف الدجوي عن هذا الاعتراض فأطال، فاستنكر التقسيم - السابق - وذكر أدلته وحججه، فقال:
(فقولهم أن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية ..، وغير معقول، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام أن هناك توحيدين، وأنك لا تكون مسلماً حتى توحّد توحيد الألوهية، ولا أشار إلى ذلك بكلمة واحدة، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شيء، ولا معنى لهذا التقسيم، فإن الإله الحق هو الرب الحق، والإله الباطل هو الرب الباطل، ولا يستحق العبادة والتأليه إلا من كان رباً ولا معنى لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنه رب ينفع ويضر …) (2).
ثم ساق الدجوي أدلته واستدلاله فقال:
(يقول تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) (3) فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أرباباً، يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب:
__________
(1) الدرر السنية ص 40، 41.
(2) مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع، مقال بعنوان (توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية)، ص 255، 256.
(3) سورة آل عمران : آية 80.(1/398)
أنهم موحدون توحيد الربوبية، وليس عندهم إلا رب واحد، وإنما أشركوا في توحيد الألوهية.
ويقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن وهو يدعوهما إلى التوحيد (ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (1)، ويقول الله تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي) (2) وأما هم – أي مشركوا العرب – فلم يجعلوه رباً، ومثل ذلك قوله تعالى: (لكنا هو الله ربي) (3) خطاباً لمن أنكر ربوبيته تعالى).
إلي أن قال الدجوي -: (فليس عند هؤلاء الكفّار توحيد الربوبية، كما قال ابن تيمية، وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية، لأنه ليس هناك شيء يسمى توحيد الربوبية، وشيء آخر يسمى توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام. فهل هم أعرف بالتوحيد منه أم يجعلونه مخطئاً في التعبير بالأرباب دون الآلهة.
ويقول الله تعالى في أخذ الميثاق: (ألست بربكم قالوا بلى)(4)، فلو كان الإقرار بالربوبية غير كاف، وكان متحققاً عند المشركين، ولكنه لا ينفعهم كما يقول ابن تيمية، ما صحّ أن يؤخذ عليهم الميثاق بهذا، ولا صحّ أن يقولوا يوم القيامة: (إنا كنا عن هذا غافلين) (5)، وكان الواجب أن يغير الله عبارة الميثاق إلى ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية، حيث أن توحيد الربوبية غير كاف كما يقول هؤلاء إلى آخر ما يمكننا أن نتوسع فيه، وهو لا يخفى عليك، وعلى كل حال فقد اكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ولو لم يكونا متلازمين لطلب إقرارهم بتوحيد الألوهية أيضاً (6).
ثم يقول:
__________
(1) سورة يوسف : آية 39.
(2) سورة الرعد : آية 30.
(3) سورة الكهف : آية 38.
(4) سورة الأعراف : آية 172.
(5) سورة الأعراف : آية 172.
(6) مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع، مقال بعنوان (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية)، ص256، 257.(1/399)
(فهل ترى للمشركين توحيداً بعد ذلك يصح أن يقال فيه أنه عقيدة؟ أما التيميون (1) فيقولون بعد هذا كله أنهم موحدون توحيد الربوبية، وأن الرسل لم يقاتلوهم إلا على توحيد الألوهية الذي لم يكفروا إلا بتركه، ولا أدري ما معنى هذا الحصر مع أنهم كذبوا الأنبياء وردّوا ما أنزل عليهم، واستحلوا المحرمات وأنكروا البعث واليوم الآخر، وزعموا أن لله صاحبةً وولداً … الخ، وذلك كله لم يقاتلهم عليه الرسل في رأي هؤلاء، وإنما قاتلوهم على عدم توحيد الألوهية كما يزعمون) (2).
ويتعجب الدجوي مرة أخرى من هذا التفريق فيقول:
(وإني أعجب لتفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية، وجعل المشركين موحدين توحيد الربوبية مع قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)(3) وهل المراد من الأرباب إلا المعبودون ؟) (4).
ويسوق العاملي تقسيم التوحيد في مقام الاعتراض حيث يقول:
(وقسموا التوحيد إلى توحيد الربوبية، وهو الاعتقاد بأن الخالق الرازق المدبر للأمر هو الله، وتوحيد العبادة وهو صرف العبادة كلّها إلى الله قالوا: ولا ينفع الأول بدون الثاني، لأن مشركي قريش كانوا يعتقدون بالأول فلم ينفعهم لعدم إقرارهم بالثاني؛ كذلك المسلمون لا ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية، لعبادتهم الأنبياء والصالحين وقبورهم بنفس الأشياء التي كان المشركون يعبدون أصنامهم بها) (5).
ويورد حسن خزبك عنواناً - في كتابه المقالات الوفية - باسم: (العقيدة المستحدثة التفريق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) كان مما قاله فيه: -
__________
(1) يريد الدجوي بهذا اللقب : أتباع ابن تيمية.
(2) المرجع السابق، ص 259.
(3) سورة التوبة : آية 31.
(4) المرجع السابق، ص 322.
(5) كشف الارتياب ص 140.(1/400)
(وعقيدتهم الجديدة هي التفريق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية فقالوا أن الكفّار وحدوا توحيد الربوبية، ولم يوحدوا توحيد الألوهية؛ لأنهم مع اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق عبدوا الأصنام..) (1) - ثم نقل حسن خزبك كلام دحلان - .
فأنكر هؤلاء الخصوم تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولم يفرّقوا بينهما، وجعلوا توحيد الربوبية هو الغاية والمطلوب من المكلَّف، وادعوا أن مشركي العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا مقرّين بأن الله هو الرب الخالق الرازق المدبّر المحي المميت .. ونحوها من صفات الربوبية - كما هو ظاهر كلام الخصوم -.
لذا يقول الطبطبائي:
(ثم إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكاً لله في خلق وتدبير العالم، وجوّزوا عبادتها خلافاً لله تعالى فيما نهاهم عنه على لسان أنبيائه بقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً) (2)، وأين هذا ممن لا يعتقد في الأنبياء، والصلحاء الخلق والتدبير ولا يعتقد عبادتهم) (3).
وترتب على ما سبق بيانه، أن الخصوم فهموا أن العبادة لله هي مجرد الخضوع للرب، والاعتراف بأفعال الرب مثل الرزق والإحياء والإماتة والنفع والضر.
لذا يقول أحدهم - وهو محمد بن عبد المجيد - في تعريف العبادة:
(فالعبادة شرعاً غاية التذلل والخضوع لمن يعتقد له الخاضع بعض صفات الربوبية، كما ينبيء عنه مواقع استعمالها في الشرع.
فغاية الخضوع لا تكون عبادة بمجردها بل حتى تكون على وجه خاص، وهو اعتقاد الخاضع ثبوت صفة من صفات الربوبية للمخضوع له) (4).
__________
(1) المقالات الوفية، ص203 بتصرف يسير.
(2) سورة البقرة : آية 22.
(3) البراهين الجلية ص32، 33، وانظر : (منهج الرشاد) لجعفر النجفي، ص29.
(4) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية ص10.(1/401)
وإذا انتقلنا إلى مجال المناقشة والجواب على الاعتراض - السابق - ، فنجد أن الشيخ الإمام رحمه الله قد اعتنى بهذا التقسيم، والتفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فقد قرر رحمه الله الفرق بينهما في أكثر من موضع، وبيّن أن مشركي العرب مقرّون بتوحيد الربوبية - كما سيأتي موضحاً بالنصوص القرآنية -، ولكنهم أنكروا توحيد العبادة، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم - (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيء عجاب) (1).
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -:
(فإذا تحققت أنهم مقرّون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحداً) (2).
فإقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وإن قصدهم الملائكة والأنبياء، والأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم .. وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله الله) (3).
ويبين الشيخ الإمام الفرق بين التوحيدين فيقول:
(فإذا قيل لك ما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر، وإنبات النبات، وتدبير الأمور. وتوحيد الإلهية فعلك أيها العبد مثل: الدعاء، والرجاء، والخوف، والتوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة، والنذر، والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة). (4)
ويوضح الشيخ رحمه الله اجتماع الربوبية والألوهية، وافتراقهما فيقول :
__________
(1) سورة ص : آية 5.
(2) سورة الجن : آية 18.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 1/156، 157.
(4) المرجع السابق، 1/371.
وانظر : ما كتبه الشيخ حول تلك المسألة في مجموعة مؤلفاته :
1/200، 363، 398، 399 ، 5/124، 144، 150، 182، 187.(1/402)
(اعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان، ويفترقان كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس) (1)، وكما يقال رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله:
(إنما الصدقات للفقراء والمساكين)(2)، ونوع واحد في قوله صلى الله عليه وسلم: (افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم)(3)، إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك ؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها وكذلك قوله: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)(4) وقوله: (قل أغير الله أبغي رباً) (5) وقوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (6) فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة) (7).
وفي هذه المقالة - السابقة - التي سطرها الشيخ الإمام جواب على كثير من الأدلة التي استدل بها أولئك الخصوم في إبطال هذا التقسيم، حين أظهر الشيخ وفصّل متى يجتمع توحيد الربوبية والألوهية، ومتى يفترفان مما أثبت صواب هذا التقسيم والتفريق، وأن نصوص القرآن والسنّة تثبته وتدل عليه.
ويرد صاحب (التوضيح) على من أدعى أن الألوهية هي القدرة على الاختراع فيذكر مقالته ثم يجيب عليها:
(معنى الألوهية أنها القدرة على اختراع الخلق والتدبير، فمن قال لا إله إلا الله واعتقد أنه لا يقدر على اختراع الخلق والتدبير إلا الله فلا شريك له في ذلك، كان ذلك هو معنى لا إله إلا الله.
__________
(1) سورة الناس : آية 1-3.
(2) سورة التوبة : آية 60.
(3) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم.
(4) سورة الحج : آية 40.
(5) سورة الأنعام : آية 164.
(6) سورة فصلت : آية 30.
(7) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/17.(1/403)
ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرّين بهذا المعنى معترفين، فلم يقولوا أن العالم له خالقان، أو مدبران بل الخالق والمدبر واحد (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى تؤفكون)(1).
فهذا التوحيد من الواجب على العبيد، ولكن لا يحصل به التوحيد لإله كل العبيد، ولا يخلص بمجرده عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر، ولا يغفره الله يوم تبلى السرائر، بل لابد أن يخلص الدين كله لله فلا يتأله بقلبه غير الله، ولا يعبد إياه مخلصاً له الدين) (2).
ويرد صاحب (التوضيح) على من زعم أن مشركي العرب يعتقدون النفع والضر لغير الله فيقول:
(زعمه أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون النفع والضر، والعطاء والمنع من غير رب العالمين، ويرد هذا صريح قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) (3)، وقوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)(4)..) (5).
ويذكر الحازمي الغاية من إرسال الرسل، فيشير إلى الفرق بين التوحيدين حيث يقول:
__________
(1) سورة العنكبوت : آية 61.
(2) التوضيح عن توحيد الخلاف ص 180.
(3) سورة الأنعام : آية 40، 41.
(4) سورة يوسف آية 106.
(5) التوضيح عن توحيد الخلاق ص 180
وانظر : بقية الأدلة ص 181، 182.(1/404)
(اعلم أن الله تعالى لم يبعث رسله عليهم السلام وينزل كتبه ليعرف خلقه بأنه هو الخالق لهم، الرازق لهم ونحو ذلك، فإن هذا يقرّ به كل مشرك قبل بعثة الرسل، قال الله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) (1) – وذكر الحازمي آيات كثيرة تدل على ما قال - … بل بعث رسله، وأنزل كتبه، لإخلاص توحيده، وإفراده بالعبادة لا يتمّ إلا بأن الدعاء كله لله والنداء والاستغاثة، والاستعانة، والرجا، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره، ولا من غيره، ولا يدعى مع الله أحد .. وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله تعالى إليهم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم، وتقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم عنده مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقها، وخالقهم، ورازقها، ورازقهم، ومحييها ومحييهم ومميتها ومميتهم..) (2).
ثم يقول الحازمي – مبيناً وجه الشبه بين المشركين الأولين وبين عبّاد القبور:
(فإن قلت أن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده وإنما استغاثوا بالأموات قصداً لإنجازه ما يطلبونه من الله عزّ وجل.
قلت: وهكذا كانت الجاهلية فإنهم يعلمون أن الله سبحانه هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز) (2).
ويورد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين هذا التقسيم، ويسوق بعض أقوال أهل العلم التي توضح ذلك التقسيم وتقرره، فيقول رحمه الله :
__________
(1) سورة الزخرف : آية 9.
(2) ، (2) (إيقاظ الوسنان)، ق1 ، 2.(1/405)
(وأما الإقرار بتوحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره. فهذا يقر به المسلم والكافر ولا بد منه، لكن لا يصير الإنسان به مسلماً حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم من المشرك، وأهل الجنة من أهل النار، فقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويحتج عليه سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الألوهية.
قال سبحانه: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } (1)الآية.
قال البكري الشافعي في تفسيره على هذه الآية: إذا قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام ؟ قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، لكن في طرق مختلفة، ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى. وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة عند الله، اتخذناها أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وقالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً متوكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله.
وقال ابن كثير عند قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (2) إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عبدوا الأصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم، ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
__________
(1) سورة يونس : آية 31.
(2) سورة الزمر : آية 3.(1/406)
وقال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } (1) قال ابن عباس وغيره: إذا سألتهم من خلق السموات والأرض قالوا الله، وهم يعبدون معه غيره. ففسروا الإيمان في هذه الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك بعبادتهم غير الله وهو توحيد الألوهية) (2).
ويبين الشيخ الشثرى الفرق بين التوحيدين من خلال إقرار المشركين بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فيقول رحمه الله :
(توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا به، فلو أشرك أحد فيما يختص بالرب من ذلك، لكان شركاً في توحيد الربوبية لا يغفر، والرب سبحانه يأمر نبيّه في كتابه العزيز بأن يحتج على المشركين في شركهم في توحيد الألوهية بإقرارهم بتوحيد الربوبية. قال تعالى: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، و يخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } (3) وقال تعالى: { هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى يؤفكون } (4) - وغيرها من الآيات التي ذكرها المؤلف - ثم قال الشثرى:
(أتراهم مشركين في ربوبيته التي أقروا بها أم شركهم في توحيد الإلهية بجعل معبوديهم وسائط بينهم وبين الله؟) (5).
ويقول أيضاً - موضحاً شرك كفّار العرب الأولين -:
__________
(1) سورة يوسف : آية 106.
(2) الانتصار)، ص 8، 9.
(3) سورة يونس : آية 31.
(4) سورة يونس : آية 34.
(5) تأييد الملك المنان ق24، 25.(1/407)
(فإذا عرفت أنهم لم يعتقدوا فيمن عبدوهم صفات الربوبية، وإنما جعلوهم وسائط بينهم وبين الله يحبونهم كحب الله، يدعونهم ويتذللون لهم، ويتضرعون إليهم لطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، بزعمهم أن رتبتهم قصرت عن التأهل لسؤال رب الأرض والسماوات قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار) (1) (2).
ومما أورده السهسواني في الجواب على اعتراض دحلان، قوله رحمه الله: -
(لا مرية في أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده هو ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبود ليس لنا معبود غيره، وأن لا نعبد إلا إياه، والأمر الأول هو الذي يقال له توحيد الربوبية، والأمر الثاني هو الذي يقال له توحيد الألوهية.)(3). ثم ذكر السهسواني الآيات الدالة على كلا الأمرين(4)- إلى أن قال رحمه الله:
(ولا أظنك شاكاً في أن مفهوم الرب، ومفهوم الإله متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر، وفي اعتقاد المسلمين الخالص واحداً. وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيد، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين توحيد (الرب) ولا يعتقد توحيد الإله، وأن يشرك واحد من المبطلين في الإلهية، ولا يشرك في الربوبية، وإن كان هذا باطلاً في نفس الأمر، ألا ترى أن مصداق الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحي والمميت، ومدبر الأمر، ورب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء والخالق، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومصداق الإله واحد ؟ ومع ذلك كان مشركو العرب يقرّون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما ويشركون في الألوهية والعبادة) (5).
__________
(1) سورة الزمر : آية 3.
(2) تأييد الملك المنان) ق 26.
(3) صيانة الإنسان ص 444.
(4) انظر : المرجع السابق، ص 444 - 446.
(5) المرجع السابق، ص446، 447.(1/408)
ويكشف السهسواني عن تنبيه مفيد، وهو أن كون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية والألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين..
يقول رحمه الله:
(فعبّاد القبور يقرون بتوحيد الرازق، والمحي والمميت، والخالق والمؤثر، والمدبر والرب، ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفاً وطمعاً، ويذبحون لهم، ويطوفون لهم، ويحلقون لهم، ويخرجون من أموالهم جزءاً لهم، وكون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين من الأمم الماضية، وهذه الأمة.
أما نعقل أن لفظ توحيد الربوبية، ولفظ توحيد الألوهية كلاهما مركبان إضافيان، والمضاف في كليهما كلي، وهذا غني عن البيان، وكذلك المضاف إليه في كليهما، فإن الربوبية والألوهية منتزعان من الرب والإله، وهم كليان. أما الرب فلأن معناه المالك والسيد والمتصرف للإصلاح والمصلح والمدبر، والمربي، والجابر، والقائم والمعبود، وكل واحد مما ذكر معنى كلي.
وأما الإله فلأن معناه المعبود بحق أو باطل، وهو معنى كلي، فالمنتزع منهما أيضاً يكون معنى كلياً، فتوحيد الربوبية اعتقاد أن الرب واحد سواء كان ذلك الرب عين الإله أو غيره، وتوحيد الألوهية اعتقاد أن الإله واحد سواء كان ذلك الإله عين الرب أو غيره.(1/409)
وإذا تقرر هذا فنقول: يمكن أن يوجد في مادة توحيد الربوبية ولا يوجد توحيد الألوهية لمن يعتقد أن الرب واحد، ولا يعتقد أن الإله واحد، بل يعبد آلهة كثيرة. ويمكن أن يوجد في مادة توحيد الألوهية ولا يوجد توحيد الربوبية لمن يعتقد أن المستحق للعبادة واحد، ولا يعتقد وحدانية الرب، بل يقول أن الأرباب كثيرة متفرقة، ويمكن أن يجتمعا في مادة واحدة كمن يعتقد أن الرب والإله واحد، فثبت أن مفهوم توحيد الربوبية مغاير لمفهوم توحيد الألوهية. نعم توحيد الربوبية من حيث أن الرب مصداقه إنما هو تعالى لا غير يستلزم توحيد الألوهية من حيث أن الإله مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير، لكن هاتين الحيثيتين زائدتان على نفس مفهومي التوحيدين، ثابتان بالبرهان العقلي والنقلي) (1).
ثم يقول السهسواني:
(على أنا لو قطعنا النظر عن بحث تغاير مفهومي التوحيدين، فمطلوبنا حاصل أيضاً، فإن توحيد الألوهية لا يتأتى إنكاره من أحد من المسلمين).
وهو كاف لإثبات إشراك عبّاد القبور، فإنهم إذا دعوا غير الله رغبة ورهبة، وطلبوا منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحروا لهم، ونذروا لهم، وطافوا لهم، وحلقوا لهم، وصنعوا غير ذلك من العبادات فقد عبدوا غير الله، واتخذوهم آلهة من دون الله) (2).
ثم يسوق السهسواني ما استدل به دحلان على اتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ويعقبه بالمناقشة والجواب، فلما ادعى دحلان أن قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى) (3)دليل على أن الله اكتفى من البشر بتوحيد الربوبية، لأنه لم يقل ألست بإلهكم، فكان جواب السهسواني على هذا الاستدلال بما يلي:
__________
(1) المرجع السابق، ص447 – 449.
(2) المرجع السابق، ص449.
(3) سورة الأعراف : آية 172.(1/410)
(إن غاية مايثبت من الآية أن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية توحيد الألوهية، وهذا لا دلالة له بشيء من الدلالات على اتحادهما، فرب حكم يذكر في آية دون أخرى، وتوحيد الألوهية وإن لم يذكر في هذه الآية فهو مذكور في آيات أخرى، وتوجيه الاكتفاء بتوحيد الربوبية ليس منحصراً في أنهما لما كانا متحدين اكتفى بذكر أحدهما، بل هناك احتمالات أخر:
الأول: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بديهية، وهي أن غير الرب لا يستحق العبادة يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم وفهم مستقيم، قال ابن كثير تحت قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار) (1) الآية، يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانية ربوبيته على وحدانية ألوهيته.
الاحتمال الثاني: أن في الآية اختصاراً والمقصود: ألست بربكم وإلهكم ؟ يدل عليه أثر ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق.. الحديث.
الاحتمال الثالث: أن المراد بالرب المعبود، قال القرطبي: الرب المعبود، وعن عكرمة في تفسير قوله تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) (2)، قال يسجد بعضنا لبعض، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره، وقال الله تعالى في سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (3) فالمراد بالأرباب في تلك الآية هم المعبودون(4)
__________
(1) سورة يونس : آية 31.
(2) سورة آل عمران : آية 64.
(3) سورة التوبة : آية 31.
(4) صيانة الإنسان ص 450 - 454 باختصار.
وما كتبه السهسواني في الاحتمال الثالث، هو قريب مما كتبه الشيخ الإمام حول اجتماع التوحيدين، وافتراقهما، فإن كلمة (الرب) وكلمة (الإله) إذا اجتمعتا افترقتا، وإذا افترقتا اجتمعتا، كما بينه الشيخ الإمام بالأدلة والبراهين، مما ذكرناه سابقاً.(1/411)
ويرد الشيخ ابن سحمان دعاوى الحداد في اعتراضه على ذلك التقسيم، فيقول رحمه الله:
(وأما قوله - أي الحداد -: فيا عجباً هل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان توحيده صحيحاً لأخرجه من النار … الخ.
والجواب: لم يقل الشيخ أن للكافر المشرك توحيداً صحيحاً، ولكن أخبر أن مشركي العرب كانوا مقرّين بأن الله وحدة خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (1)، قال طائفة من السَّلف: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع ذلك يعبدون غيره، فإيمانهم هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، وهذا الإيمان بتوحيد الربوبية لا يدخلهم في الإسلام وهم يعبدون غير الله، أي يشركون به في توحيد الألوهية) (2).
ويؤكد عبد الكريم بن فخر الدين على ضرورة التفريق بين نوعي التوحيد، فيقول:
(أقول قال الله سبحانه: (قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون)(3) وقال عزَّ من قائل: (وإذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون(4) الآية، فتبيّن لك أن المشركين من العرب الأول كانوا يقرون بربوبية الله تعالى، وينكرون وحدانيته تعالى في الألوهية أي العبودية، ويقولون إنكاراً منهم (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب)(5) الآية .. فلأجل ذلك تنوع التوحيد بنوعين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فإنكار هذا إنكار الحس) (6).
وقد أجاب القصيمي على دعاوى الدجوي، وتتبعها بالرد والنقاش، ثم أعقبها بالبراهين الدالة على خلاف تلك الدعوى ..
__________
(1) سورة يوسف : آية 106.
(2) الأسنة الحداد ص 117.
وانظر : ما كتبه ابن سحمان في الفرق بين التوحيدين في كتابه (الصواعق المرسلة الشهابية) ص 141.
(3) سورة المؤمنون : آية 86.
(4) سورة الصافات : آية 35.
(5) سورة ص : آية 5.
(6) الحق المبين ص36.(1/412)
فلما زعم الدجوي أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله مستدلاً بما فهمه من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)(1). فأجاب القصيمي على هذا الاستدلال بعدة أوجه نذكر منها:
(الأول: ليس في الآية الكريمة إنكار للرحمن، وإنما فيها استفهام عنه (بما) التي يسأل بها حقيقة الشيء، والمصدق بوجود الأمر يسأل عنه، لا خلاف بين اللغويين في ذلك فهم يقولون: ما الروح؟ كما قال تعالى: (ويسألونك عن الروح)(2) وهم يؤمنون بها .. فالسؤال عن الأمر ليس إنكاراً له.
الثاني: نقول هب ذلك جحوداً، ولكن هل هو جحود لذاته تعالى؟ أم جحود لتسميته بالرحمن؟ هو لم يدلل على ما قال، وقد سمع العربي لفظ عقار وخندريس وكميت، من أسماء الخمر، فيقول ما العقار وما الخندريس وما الكميت؟ وهو مؤمن بها، وقد يكون شربها، ولكن يجحد تسميتها بهذا الاسم، أو يجهلها، فالاسم غير المسمى، والمدلول غير الدال.
الثالث: في خبر صلح الحديبية لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو نائب المشركين في الصلح: أما الرحمن فلا نعرفه، ولكن أكتب باسمك اللهم، فقول سهيل: لا نعرف الرحمن، ولكن أكتب باسمك اللهم. يدل على أمرين، على أنهم مؤمنون بالله، وأنهم يستعينون به في أمورهم، وعلى أن الذي ينكرونه هو وصفه بالرحمن، ولو كانوا ينكرون ذاته لعارض باسم اللهم، ولأنكر لفظ الجلالة، ولفظ الرحيم المذكورين فهذا يفسر الآية، ويوضح قولهم (وما الرحمن).
الرابع: المفسرون قاطبة يفسرون الآية بإنكار المشركين لهذا الاسم لا لذاته، وقد أجمعوا على هذا التفسير.
__________
(1) سورة الفرقان : آية 60.
(2) سورة الإسراء : آية 85.(1/413)
الخامس: هذه الآية على فهمهم مخالفة لتسمية العرب مشركين بالله والناس قاطبة يقولون أنهم مشركون بالله، فلو كان جاحديه لما كانوا مشركين به، فتسميتهم مشركين بالله يدل على أنهم مؤمنون بوجوده، ولكن عبدوا معه غيره)(1).
وقد ذكر القصيمي أجوبة أخرى .. فنكتفي بما ذكرناه (2).
ثم رد القصيمي مقالة الدجوي بأن الرسول لم يذكر الفرق بين التوحيدين فقال القصيمي:
(نقول: إما أن يريد أنهم لم يذكروه باللفظ المذكور، وإما أن يريد أنهم لم يذكروه ولا بالمعنى، ولم يفهموا من دخل في الدين أن هناك توحيدين، إن أراد الأول فلا يضرنا ولا ينفعنا ..، وإن أراد الثاني نازعناه، وقلنا إنك لم تقم دليلاً عليه، بل نقول أن الرسول وأصحابه أعلموا الداخلين في الدين أن هناك توحيد ألوهية وربوبية بقولهم لهم قولوا لا إله إلا الله، ولا تعبدوا إلا الله ولا تدعوا إلا إياه، مع قولهم لا خالق ولا رازق إلا الله، وهؤلاء يريدون أن يكون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: ينقسم التوحيد إلى قسمين..) (3).
ثم ذكر القصيمي البراهين على الفرق بين توحيد الألوهية، والربوبية فكان مما قاله:
البرهان الأول: فرّقت كتب اللغة والتفسير بين معنى كلمة الإله، وبين معنى كلمة الرب، فإله بمعنى المعبود، والرب بمعنى المالك للشيء وصاحبه.
البرهان الثاني: قال تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس) (4) ذكر الرب ثم المالك ثم الإله، فلو كان الرب والإله شيئاً واحداً. لكان في الآية تكرار ينبو بها عن حدّ البلاغة.
__________
(1) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ص 23 - 25.
(2) انظر : المرجع السابق، ص25 - 40.
ثم ذكر القصيمي البراهين الدالة على أن المشركين الأوائل مؤمنون بأن الله خالق كل شيء ص 40 - 55.
(3) المرجع السابق ص59، باختصار، انظر : الرد مفصلاً ص58 - 67.
(4) سورة الناس : آية 1-3.(1/414)
البرهان الثالث: باتفاق أهل اللغة أن إلهاً بمعنى مألوه ككتاب أي مكتوب، وأن رباً بمعنى راب أي اسم فاعل، لأنه يقال رب الناس أي ملكهم، فلا يصح تفسير اسم الفاعل باسم المفعول.
البرهان الرابع: أخبر القرآن أن الكفّار كان يسمون أصنامهم آلهة قالوا: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك)(1) ولم يخبر في آية أنهم قالوا لها أرباباً، فلو كان لا فرق بين اللفظين لسموها أرباباً كما سموها آلهة.
البرهان الخامس: الذي يحقن دم المشرك أن ينطلق بكلمة الإخلاص على – ألا يأتي بما ينقضها – وهذه الكلمة التي تحقن الدم هي لا إله إلا الله باتفاق المسلمين. ولا يعصمه أن يقول لا خالق إلا الله بإجماع المذاهب، ولو كان معنى الإله والرب واحداً لما عصم دمه أحد اللفظين دون الآخر) (2).
وهكذا يظهر – عبر تلك النقول لأئمة الدعوة وأنصارها – أن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والتفريق بينهما، أن ذلك تقسيم وتفريق تثبته الأدلة وتقرّره النصوص، ويشهد له أئمة العلم والهدى. فليس تقسيماً مبتدعاً – كما ادعاه أولئك الناس – استحدثه ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، بل الصواب والحق في هذا التقسيم والتفريق، والزيغ والضلال في الإعراض عنه، والاعتراض عليه، ومن ثم ظهر ما كان عليه الخصوم من الجهل بحقيقة التوحيد، وقصر التوحيد على توحيد الربوبية، حتى ظنّوا أن مشركي العرب قد أنكروا توحيد الربوبية، الذي يعتبرونه – هؤلاء الخصوم – غاية التوحيد.
ومن المناسب في نهاية هذا الفصل أن نذكر ماكتبه حسين بن مهدي النعمي رحمه الله حول إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية، دون الإقرار بتوحيد العبادة يقول:
__________
(1) سورة هود : آية 53.
(2) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)، ص67 – 71. بتصرف يسير.
وانظر : بقية البراهين ص67 – 72، ومجموعها سبعة عشر برهاناً.(1/415)
(ولقد تتبعنا في كتاب الله فصول تراكيبه، وأصول أساليبه، فلم نجده تعالى حكى عن المشركين أن عقيدتهم في آلهتهم وشركائهم التي عبدوها من دونه، أنها تخلق، وترزق، وتحي، وتميت، وتنزل من السماء ماء، وتخرج الحي من الميت، والميت من الحي .. بل إذا ضاق عليهم الأمر واشتدت بهم الكرب، فزعوا إلى الله وحده، فإذا سئلوا عن حقيقة دينهم هل هو شرك في الربوبية ؟ دانوا وأذعنوا للرب وحده بالاختصاص بكل ذلك والإنفراد، وهذا واضح لمن ألقى السمع للقرآن فيما حكى عنهم بقوله: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون ..) (1)الآيات.
فهذا شرك القوم واتخاذهم الآلهة الذي كان سبباً أن سجّل عليهم ربهم القاهر فوق عباده بالشرك والغي والضلال والكفر والظلم والجهلة) (2).
ويقول النعمي في موضع آخر:
(ومن أمعن النظر في آيات الكتاب وما قصَّ من محاورات الرسل مع أممهم وجد أن أسّ الشأن، ومحط رحال القصد شيوعاً، وكثرةً وانتشاراً وشهرةً، هو دعاء الله وحده، وإخلاص العبادة له، وأن الغافلين كانوا بنقيض هذه الصفة من دون أن يضيفوا لما عبدوا شيئاً من صفات الربوبية كخلق ورزق وغيرهما، أو يجعلوا لها من ذواتها وصفاتها مقتضياً وملزماً للعبادة، بل أعربوا عن اتخاذها آلهة لتقريبهم إلى الله وشفاعتها عنده …) (3).
الفصل الثالث: إنكار دعاء الموتى
ساق خصوم الدعوة السلفية اعتراضاً ثالثاً على دعوة الشيخ الإمام، فذكروا أن الشيخ الإمام ينكر دعاء الموتى، وينكر الاستغاثة بهم، بل ويكفّر من دعا الأموات واستغاث بهم.
__________
(1) سورة المؤمنون : آيات 84 - 87.
(2) معارج الألباب ص 202، 204 باختصار.
(3) المرجع السابق، ص 214.(1/416)
وقبل أن نورد هذا الاعتراض بشيء من البيان والتوضيح، وما تضمنه من استدلالات الخصوم في جواز دعاء الموتى والاستغاثة بهم، فإن من المناسب أن نذكّر بأن هذا الفصل يتداخل مع فصل تحريم التوسل، فهناك علاقة وارتباط بينهما، حيث أن مسألة الدعاء والاستغاثة تتصل بمسألة التوسل - كما هو ظاهر في فصل تحريم التوسل - .
ولذا فإن بعض المسائل والأفكار التي سبق ذكرها هناك - في فصل تحريم التوسل - ولها صلة بهذا الفصل، فإننا هاهنا نسوقها بإيجاز وإجمال، لكي يكتمل عرض أفكار هذا الفصل بصورة شمولية، وقد نضيف إليه ما يزيده بياناً ووضوحاً.
وأفردت مسألة دعاء الموتى بهذا الفصل، نظراً لأهمية عبادة الدعاء ووجوب صرفها لله وحده، فالدعاء - كما هو معلوم - من أفضل الطاعات وآكد العبادات، وأعظمها شأناً، وأعلاها قدراً، وقد دلّ على هذا الكثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - في هذا المقام-:
(الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على الله .. فإن لم يكن الإشراك فيه شركاً، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك، فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركاً من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة ليشفعوا لهم عند الله، ولهذا يخلصون في الشدائد لله، وينسون ما يشركون(1).
ومع أهمية هذه العبادة ووجوب صرفها لله وحده وإخلاص الدعاء له سبحانه في السراء والضراء، حيث أن تجريد الدعاء لله وحده إيمان وتوحيد، ودعاء غيره - مهما كان - كفر وإشراك، ومع كل ذلك، فإن الكثير قد اتخذوا من الموتى ملجأ وملاذاً يلوذون بهم، فيسألونهم تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وربما زادوا على ذلك فسألوهم دخول الجنان، والنجاة من النيران.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص 219، باختصار يسير .(1/417)
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوا ذلك، فأنكروا على من أخلص الدعاء لله وحده، واعترضوا عليه وخالفوه، كما فعل أولئك الخصوم مع أتباع هذه الدعوة السلفية.
ومما يجدر ذكره أن الخصوم قد يعترضون على الشيخ الإمام في إنكاره دعاء الموتى والاستغاثة بهم، ولكن لا يسمونه دعاء، فقد يسمونه توسلاً – أحياناً – وربما أطلقوا عليه استمداداً، وربما جعلوه تشفعاً، وربما زينوا دعاء الموتى وصيّروه نداء لا دعاء، وكل ذلك يفعله أولئك الخصوم لكي يزينوا للعوام ذلك الشرك بأسماء لا ينفرون منها ...
وقصدهم ومرادهم من تلك الأسماء هو سؤال الموتى، وطلب الحاجات منهم، وطلب حصول الغوث منهم، وسؤال المدد، وشفاء المرض وغيره من الأمور التي لا تسأل ولا تطلب إلا من الله وحده.
ويورد الخصوم اعتراضهم على إنكار دعاء الموتى، فيستغربون ويستنكرون المنع من سؤال الموتى والاستغاثة بهم، ثم يوردون ما عندهم من الاستدلالات في إثبات وتجويز دعاء الأموات فيدعون أن سؤال الموتى ودعائهم جائز، كما جاز سؤال الأحياء وطلب عونهم، ووجه المساواة بين الموتى والأحياء هو أن الأموات كالأحياء في الحياة. فلهم حياة برزخية يدركون فيها ويشعرون، ويتصرفون كالأحياء، وأيضاً فالأموات مثل الأحياء في السؤال وطلب الحاجات؛ لأن من سأل ودعا ميتاً معتقداً أن الله هو المؤثر والفاعل، فهذا جائز، مثل سؤال الأحياء، فلا فرق بين الأحياء والأموات، لأن الفاعل حقيقة هو الله، ويدعي أولئك الخصوم أن سؤال الموتى ليس دعاء لهم، بل هو نداء كنداء الغائب، وليس كل نداء دعاء، فيجوز نداء الموتى ما دام أن الذي يناديهم لا يعتقد التأثير لهم، يجعل الله هو المؤثر وحده.
وبهذا يظهر ما تضمنه اعتراض الخصوم – في هذا الفصل – إجمالاً، وسنذكره الآن بشيء من التفصيل مدعماً بأقوال الخصوم من خلال كتبهم:
يقول القباني معترضاً.(1/418)
(وأما ما ادعاه بأن الاستغاثة هي عبادة لغير الله تعالى، وأنها شرك أكبر من شرك الكفّار، فلم يقم على ذلك الدليل والبرهان..)(1).
ويجوّز القباني الاستغاثة بغير الله فيقول:
(جواز التوسل والتشفع والاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء)(2).
ويدعي القباني أن منع الاستغاثة بالأموات قول محدث فيقول:
(قد قلدت ابن تيمية في عدم جواز التشفع والاستغاثة بمخلوق ميت أو غائب)(3).
ويؤكد الحداد جواز الاستغاثة بالأنبياء، والمرسلين وبالعلماء الصالحين بعد موتهم … ويعلل ذلك بقوله:
(لأن معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يأكلون، ويشربون، ويصلون، ويحجون بل وينكحون كما وردت بذلك الأخبار.
والشهداء أيضاً أحياء عند ربهم شوهدوا نهاراً، وجهاراً يقاتلون الكفّار في العالم المحسوس في الحياة وبعد الممات)(4).
ويدعي الحداد أن إنكار الاستغاثة بالأموات من هفوات الشيخ الإمام، فيقول:
(ومن هفوات النجدي إنكار التوسل والاستغاثة والمناداة بأسمائهم أي الأموات ..) (5).
ثم يقول محتجاً: (.. كيف ساغ له أن ينكر على الأكابر، بل يسميهم مشركين لما استغاثوا بالأموات) (6).
ويسوق محسن بن عبد الكريم أقوال أسلافه ممن عارض هذه الدعوة، فأنكروا أن يوجد الشرك في دعاء غير الله، فيقول:
(وألزمهم - أي ألزم يوسف بن إبراهيم الأمير الوهابيين - أن الشرك في الدعاء ليس بشرك أكبر، فلا يخرج به فاعله من دائرة الإسلام بعد تحقق دخوله فيه، وعرفهم أن للدعاء في الآيات والحديث التي تمسكوا بها معنى غير النداء لطلب الحاجات)(7).
__________
(1) فصل الخطاب ق 60.
(2) المرجع السابق، ق 19، انظر : ق 27.
(3) المرجع السابق، ق 53.
(4) مصباح الأنام ص 26.
(5) المرجع السابق، ص 54.
(6) المرجع السابق، ص 62.
(7) لفحات الوجد ق 18.(1/419)
ويقول محسن: (وأما المولى عبد الله بن عيسى في كتابه (السيف الهندي) فإنه لم يساعدهم من أول الأمر على تسمية دعاء الأولياء والتوسل بهم معصية فضلاً عن أن يكون شركاً أصغر. فكيف يكون شركاً أكبر مخرجاً عن الإسلام)(1).
ويدعي ابن جرجيس أن الواقع لمنع الوهابيين من الاستغاثة بالأنبياء والأولياء بعد موتهم هو عدم إيمانهم بالحياة البرزخية (2)، وابن جرجيس بدعواه تلك قد افترى عليهم بهتاناً عظيماً …
ويدعي ابن جرجيس أن حياة الأنبياء عليهم السلام في قبورهم حياة حقيقية، ويجعل باباً في سماع الموتى يقول فيه:
(ولما كان الميت لا يردّ رداً متعارفاً ،بل رداً نؤمن به ولا نسمعه غالباًلم يحصل حقيقة التكلم .. لا لأن الميت لا يسمع. وهذا ظاهر) (3).
ويقول أيضاً: (وكان بعض من يدعي العلم في زعمه، يقول كيف يعلم الأنبياء والأولياء، بمن يستشفع بهم ويناديهم، فقلت لهم هم مكشوف لهم في الدنيا، وهم على ما هم عليه بعد موتهم) (4).
ويدعي ابن جرجيس أن الأولياء حياتهم حقيقية، فلا مانع من الطلب منهم فلا إثم في ذلك، مادام أن الطالب منهم يعتقد أن الفعل لله وحده، ثم يزيد في كذبه وافترائه، ويدعي إجماع العلماء على جواز الطلب من الموتى.
يقول ابن جرجيس:
__________
(1) المرجع السابق، ق 20.
وقد تضمنت رسالة (في الرد على الوهابية) لعبد الله بن بلفقيه العلوي أدلة كثيرة استدل بها العلوي على أن الشرك في الدعاء ليس بشرك أكبر، والرسالة المذكورة عبارة عن محاورة جرت بين هذا العلوي وبين بعض أتباع الدعوة السلفية سنة 1211هـ، كما ذكر ذلك العلوي في مقدمة رسالته.
(2) انظر (المنحة الوهبية)، ص 4.
(3) المرجع السابق، ص 6.
(4) المرجع السابق ص 15.(1/420)
(إن الأنبياء والأولياء المنقولين بسيف المجاهدة لله كالشهداء الوارد فيهم النص القرآني في حياتهم الحقيقة. كيف يستغرب طلب التسبب منهم والتشفع .. فهل إذا عامل أحد هؤلاء الذين هذا حالهم معاملة الأحياء يلام على ذلك. أو يعاب، أو يؤثم .. مع اعتقاده أن الفعل لله وحده خلقاً وإيجاداً لا شريك له، وأنه يكون من أهل القبور من الأنبياء والأولياء تسبباً وكسباً) (1).
ثم يقول: (فالأحاديث الواردة في الطلب من الموتى، وأجمع عليها العلماء مبني أمرها على هذا الأصل ..)(2).
ويجوّز ابن داود الهمداني الاستغاثة بالموتى، ويعلل ذلك أن المستغيث بهم يعتقد أن المتصرف في الأمور هو الله، وأنه وحده يملك الضر والنفع، ولكن مع ذلك يوجه الخطاب والطلب إلى المقرب. فالطلب في الحقيقة منه تعالى لا من سواه، وإن كان في الظاهر متوجهاً إلى غيره (3).
ويجوّز ابن داود الاستغاثة بالموتى؛ لأنه لا فرق بين الأحياء والأموات فيقول:
(فإنه لا فرق بين الميت والحي، إلا أن الروح مفارق عن البدن العنصري في الميت وحالّ في الحي، ومتعلق التعظيم، والاستغاثة والمخاطبة والاستجارة ونحوها إنما هو الروح وليس للبدن) (4).
ويدعي دحلان كذلك عدم الفرق بين الأحياء والأموات؛ لأنهم لا يخلقون شيئاً، والمؤثر والخالق هو الله وحده .. كما أن المستغاث به حقيقة هو الله، وأما النبي أو الولي فهو واسطة بينه وبين المستغيث، فالغوث من الله خلقاً وإيجاداً، والغوث من المخلوق تكسباً وتسبباً .. (5).
ويرد دحلان على من جعل دعاء غير الله شركاً، ويسمي دحلان هذا الدعاء نداء، فيقول:
__________
(1) المرجع السابق، ص 25.
(2) المرجع السابق، ص 25.
(3) انظر : (إزهاق الباطل)، ق 75، 76 باختصار.
(4) المرجع السابق، ق77، باختصار.
وانظر : أدلته على إثبات حياة الموتى، ق 77 – 82.
(5) انظر : (الدرر السنية) ص 13، 14، 17.(1/421)
(وشبهتهم التي يتمسكون بها أنهم يزعمون أن النداء دعاء، وكل دعاء عبادة، بل الدعاء مخ العبادة.
وحاصل الرد عليهم أن النداء قد يسمى دعاء في قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}(1) لكنه لا يسمى عبادة، فليس كل دعاء عبادة، ولو كان كل نداء دعاء وكل دعاء عبادة، لشمل ذلك نداء الأحياء والأموات، فيكون كل نداء ممنوعاً مطلقاً سواء كان للأحياء والأموات، أم للحيوانات والجمادات. وليس الأمر كذلك، وإنما النداء الذي يكون عبادة هو نداء من يعتقد ألوهيته، واستحقاقه للعبادة فيخضعون بين يديه، فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله تعالى، أو اعتقاد التأثير لغير الله تعالى، وأما مجرد النداء لمن لا يعتقدون ألوهيته وتأثيره، فإنه ليس عبادة ولو كان ميتاً أو غائباً) (2).
ويورد السمنودي إنكار أئمة الدعوة السلفية الاستغاثة بالموتى في مقام الاعتراض والمخالفة، فيقول عنهم:
(أنكروا جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذا بغيره من الأنبياء والصالحين والأولياء. بل تجاوزوا الحد فزعموا أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذا بغيره ممن ذكروا شرك أكبر..) (3).
ويقرر السمنودي أن حياة الموتى في قبورهم حياة حقيقية، فبعد أن ساق حديث حمل الجنازة والإسراع بها، وأنها إن كانت صالحة قالت قدموني .. الحديث قال السمنودي بعد إيراد هذا الحديث:
(فهذا يدل على أن الميت يتكلم حقيقة بلسان المقال بحروف وأصواتاً يخلقها الله تعالى فيه، وأسند الفعل إلى الجنازة وأراد الميت) (4).
ويجوّز الطباطبائي الاستغاثة بالموتى، وأنها ليست بشرك فيقول:
__________
(1) سورة النور : آية 63.
(2) الدرر السنية، ص 34.
(3) سعادة الدارين، 1/151.
(4) المرجع السابق، 1/341.
ونقل السمنودي بعض ما سطّره ابن جرجيس في مسألة سماع الموتى وتزاورهم وتصرفهم بعد موتهم، وزاد عليه. انظر : (سعادة الدارين)، 1/335، 336.(1/422)
(وأما عدم كون التوسل بالميت إلى الله شركاً، فلأنه نظير التوسع بالحي وسؤاله قضاء الحوائج بواسطة دعائه من الله تعالى، فكما أنه ليس من الشرك، كذلك التوسل بالميت، فيجعل أحد التوسلين كالآخر، بجامع السؤال من المخلوق، إذ لا وجه لتوهم كونه شركاً، إلا كونه دعاء لغير الله تعالى، فإذا جاز بالنسبة إلى الأحياء جاز مطلقاً.. وذلك لوقوع نداء المخلوق والدعاء، والالتماس له في الكتاب لقوله سبحانه { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه}(1) وسؤال قوم موسى منه الاستسقاء، وقال سبحانه حكاية عن يوسف (اذكرني عند ربك) (2). فلو جازت هذه الأسئلة ولم تكن شركاً جاز سؤال الأنبياء والأولياء عند الوقوف على قبورهم، أو من مكان بعيد إجابة للمضطر)(3).
ويدعي الطباطبائي عدم التفريق بين الحي وبين الميت؛ لأن للميت من الإدراك والشعور مثل ماله حال الحياة، بل يدعي أن الميت يزيد على الحي في الإدراك، وأن الكتاب، والسنّة والإجماع قد دلّ على ذلك (4).
ويزعم الطباطبائي أن الأنبياء قد استعانوا بغير الله فيقول:
(فالأنبياء مع أنهم معصومون، استعانوا بغير الله تعالى، حتى نزل في حق محمد صلى الله عليه وسلم (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)(5) فكيف تنكر الوهابية جواز الاستمداد بالمخلوق) (6).
ويذكر الطباطبائي مقالة الوهابيين في شأن دعاء غير الله، ثم يردها.. فيقول:
(وثالثها قول الوهابية: أن الدعاء مخ العبادة، والعبادة لا تجوز لغير الله تعالى، لأنها شرك.
__________
(1) سورة القصص : آية 15.
(2) سورة يوسف : آية 42.
(3) البراهين الجلية، ص 27، باختصار.
(4) انظر : المرجع السابق ص 24 - 27.
(5) سورة الأنفال : آية 64.
(6) البراهين الجلية، ص 33 ،34.(1/423)
والجواب عنه: المنع عن أن مطلق الدعاء عبادة فضلاً عن أين يكون روح العبادة، وإنما الدعاء من الدعوة، ومنها قوله تعالى: (ندع أبناءنا) (1)- وذكر الطباطبائي آيات أخرى، إلى أن قال -: فإن المراد من الدعاء فيها النداء، وليس كل نداء دعاء، وكل دعاء عبادة، بل ولا دعاء الله عبادة لمحض ندائه ومجرد خطابه..) (2).
وعقد النبهاني في كتابه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) باباً يتكون من أربعة فصول لتقرير مشروعية الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء أحياءً وأمواتاً (3).
ويدعي النبهاني أن هؤلاء المستغيثين بالموتى يعترفون بأن الله وحده هو الفعّال فلا حرج عليهم في ذلك.. يقول:
(وأنت إذا نظرت إلى كل فرد من أفراد المسلمين عامتهم وخاصتهم، لا تجد في نفس أحد منهم غير مجرد التقرب إلى الله لقضاء حاجاتهم الدنيوية والأخروية بالاستغاثات. مع علمهم بأن الله هو الفعّال المطلق المستحق للتعظيم بالأصالة وحده لاشريك له)(4).
ويدعي الزهاوي تجويز العلماء الأجلاء الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
(وقد جوّز العلماء الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإطلاق لفظ الاستغاثة على من يحصل منه غوث ولو تسبباً وكسباً أمر نطقت به اللغة، وجوّزه الشرع..) (5).
ويجوّز الزهاوي الاستغاثة بالموتى، لأن الموتى لهم حياة وسماع مثل الأحياء، فيقول:
(لا يقال أن حياة الأنبياء والشهداء غير الحياة الدنيوية، فلا تنطبق هذه على تلك، لأنا نقول لو سلمنا أن تلك الحياة ليست من نوع الحياة الدنيوية، فمجرد ثبوت الحياة لهم أي حياة كانت، كاف لثبوت السماع لهم وتجويز التوسل والاستغاثة بهم..)(6).
__________
(1) سورة آل عمران : آية 61.
(2) البراهين الجلية، ص 39 ،40.
(3) انظر (شواهد الحق، ص 98 - 121.
(4) المرجع السابق، ص 116، باختصار.
(5) الفجر الصادق، ص 54.
(6) المرجع السابق، ص 68.(1/424)
ويبيح الدجوي الاستغاثة بغير الله من الموتى والغائبين، ويذكر المسوّغات لتجويز دعواه فيقول:
(فالمستغيث لا يعتقد أن المستغاث به من الخلق مستقل في أمر من الأمور غير مستمد من الله تعالى، أو راجع إليه. وذلك شيء مفروغ منه، ولا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات، فإن الله خالق كل شيء..) (1).
كما يدعي الدجوي أيضاً عدم الفرق بين الأحياء، والأموات، لأن الأموات لهم حياة مثل الأحياء، فيقول:
(لا فرق بين الحي والميت، فإن منزلته ميتاً كمنزلته حياً؛ لأن الفاعل حقيقة هو الله .. كما أن الأرواح بعد موتها باقية مدركة فاهمة على نحو ما كانت عليه في حياتها أو أشد، ولذلك يتساءلون عن الأحياء، ويفرحون، ويحزنون بما يكون منهم..)(2).
ويسوّغ محمد حسنين مخلوف الاستغاثة بالرسول فيقول:
(الدعاء بنحو أغثني أو أعني يا رسول الله ليس توسلاً ممنوعاً بل هو جائز سائغ، فإن الاستغاثة طلب الغوث والتخلص من البلية. وهذا كما يسند إلى الله تعالى، يسنده إلى غيره.. وكذلك الاستعانة فإنها طلب المعونة من الغير، وهي من الله تعالى خلق الفعل في العبد، ومن العباد المشاركة في الفعل ليسهل..) (3).
ويقول مخلوف:
(أن الاستغاثة تستعمل تارة في طلب الإغاثة بمعنى خلق التخلص من البلية وهذا مختص به تعالى، وتارة في طلب الإغاثة بمعنى السعي في التخلص من الشدة وهذا المعنى يصح إسناده إلى العباد) (4).
__________
(1) المقالات الوفية) (تقريظ الدجوي تلك المقالات...) ص 223 ،224 بتصرف يسير.
وانظر ما كتبه الدجوي في مجلة نور الإسلام، المجلد الأول، مقال حكم التوسل بالنبي، ص 589.
والمجلد الثاني، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 30.
(2) المرجع السابق، نفس الصفحات.
(3) رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء (ضمن مجموعة كتب) ص 173 بتصرف يسير.
(4) المرجع السابق، ص 175.(1/425)
ويجوّز حسن الشطي الإستغاثة بالأنبياء، والأولياء والصالحين حال حياتهم، وبعد مماتهم بحجة أن: (الاستغاثة والطلب في حقيقة الأمر من الله تعالى لا من غيره فلا يصح القول بمنعها) (1).
ويسوق العاملي ما ذكره الشيخ الإمام في حكم من استغاث بغير الله، وذلك في مقام الاعتراض عليه، والإنكار لمقالته فيقول العاملي:
(وصرّح محمد بن عبد الوهاب بأن دعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله موجب للارتداد عن الدين، والدخول في عداد المشركين) (2).
ويرد العاملي على الوهابيين في منعهم من الاستغاثة بالمصطفى بعد وفاته وسائر الأنبياء، فيقول :
فإن كان منعه لأنه خطاب غير قادر على سماع الكلام فالنبي محمد وسائر الأنبياء أحياء بعد الموت (3).
ويجوّز العاملي دعاء الأنبياء مادام أن الداعي لا يعتقد استقلالاً لهم بقضاء الحاجات، فيقول:
(فدعاء الأنبياء والصالحين ليس دعائهم بالذات بأن يحسبوا كافين في قضاء الحاجة، وإنجاح المأمور ..
وأما الذين يحسبهم كفاة مستقلين في دفع مكروه أو جلب نفع واستغنى بذلك عن دعوة الله فنحن أيضاً نحكم بكفره وشركه)(4).
ويسوق سوقية دليلاً على حياة الموتى فيقول:
__________
(1) النقول الشرعية، ص 113.
(2) كشف الارتياب، ص 269.
(3) المرجع السابق، ص 278.
وقد جعل العاملي في كتابه المذكور ثلاثة فصول، الأول في حياة النبي بعد موته، والثاني في حياة سائر الأنبياء والشهداء، والثالث في حياة سائر الناس (انظر : (كشف الارتياب)، ص 109-114).
وكان العاملي بتلك الفصل، يقلد أسلافه من أمثال جعفر النجفي الذي اتخذ تلك الفصول (انظر : كتابه (منهج الرشاد)، ص 51-55)، وقد ادعى جعفر النجفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره يسمع الكلام، ويرد الجواب كما في حياته، غير أن الله حبس سمع الناس إلا قليلاً من الخواص.
(4) المرجع السابق، ص 45 - 47 باختصار.(1/426)
(فالحياة ثابتة قطعاً لا يشك فيها مؤمن .. خلافاً لهذه الفرقة المغرورة الشاذة، بل إن علماء أوربا يقولون بخلود الأرواح وقد توصلت لاستحضارها ومخاطبتها بالنوم .. مما يدل دلالة قاطعة على الحياة بعد الموت)(1).
ويزعم محمد بن أحمد نور – فيما نقله عنه الشيخ صالح بن أحمد – أن تفسير قوله تعالى – في شأن الشهداء – (بل أحياء ولكن لا تشعرون) (2) هو: (أن الشهداء أحياء، ولكن لا تشعرون ما هم فيه من الحال من تنعيم وفرح وسرور واستبشار) (3).
ويجوّز محمد الطاهر يوسف الاستغاثة بالأموات، ويعلل ذلك (بأن استناد الإغاثة إلى الله استناد حقيقي، واستنادها إلى الخلق مجازي، ولا فرق بين الحي والميت؛ لأن المتولي لأمورهم في الدارين هو الله الذي أكرمهم بفضله) (4).
وبعد إيراد اعتراض أولئك الخصوم على إنكار أئمة الدعوة السلفية الاستغاثة بالموتى ودعاءهم، وما تضمنه هذا الإيراد من بيان بعض استدلالاتهم وحججهم في ذلك، بعد ذلك نسوق بعض ما كتبه أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في تقرير وتأكيد أن الدعاء عبادة يجب صرفها لله وحده، وأن من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر. وسيتضح هذا جلياً من خلال أجوبتهم ومناقشتهم لأقوال الخصوم.
لقد ركز الشيخ الإمام على عبادة الدعاء، وبيّن وجوب صرفها لله وحده سواء كان الدعاء دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، وعقد باباً في كتابه (كتاب التوحيد) بعنوان: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره) (5).
__________
(1) تبيين الحق والصواب، ص 18.
(2) سورة البقرة : آية 154.
(3) نقلاً عن : (تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور)، ص74.
(4) قوة الدفاع والهجوم)، ص 12، 13 بتصرف يسير. وانظر : كتاب (الحقائق الإسلامية)، ص 39.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ، 1/42.(1/427)
وألف الشيخ الإمام رحمه الله رسالة موجزة في مسائل مستنبطة من قول الله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (1) ، فقال رحمه الله فيها عشرة درجات .. نختار منها قوله:
الأولى: تصديق القلب أن دعوة غير الله باطلة، وقد خالف فيها من خالف.
الثانية: أنها منكر يجب فيها البغض، وقد خالف فيها من خالف.
الثالثة: أنها من الكبائر، والعظائم المستحقة للمقت والمفارقة وقد خالف فيها من خالف.
الرابعة: أن هذا هو الشرك بالله الذي لا يغفره، وقد خالف فيها من خالف.
الخامسة: أن الداعي لغير الله لاتقبل منه الجزية كما تقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود، لأنه أغلظ كفراً) (2).
ولما دخلت جيوش الموحدين مكة سنة 1218هـ، كان مما حدث مع علماء مكة ما سطّره الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:
__________
(1) سورة الجن : آية 18.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ، 1/388، 389، باختصار.(1/428)
(عرّفناهم أنّا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمراً فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إن بقي لديهم شبهة، فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين، فرددناها بالدلائل القاطعة من الكتاب والسنّة حتى أذعنوا، ولم يبق عندهم أحد منهم شك ولا ارتياب فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه، وحلفوا لنا الأيمان المعقدة من دون استحلاف على انشراح صدورهم، وجزم ضمائرهم، أنه لم يبق لديهم شك في من قال: يا رسول الله أو قال ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين طالباً بذلك دفع شر أو جلب خير في كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من شفاء المريض، والنصر على العدو، ونحو ذلك أنه مشرك الشرك الأكبر الذي يهدر دمه ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء متقرباً لهم لقضاء حاجته) (1).
وقد سبق - في فصل تحريم التوسل - بيان بطلان أن تكون الاستغاثة بالأنبياء وغيرهم بمعنى التوسع من عدة أوجه، كما قرر ذلك في كتاب (التوضيح) فأغنى عن إعادته وتكراره (2).
ويبين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر - رحمه الله - بطلان دعاء الموتى فيقول:
__________
(1) الهدية السنية ص 36، 37.
(2) انظر : كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص 307 - 312.(1/429)
(نحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذا الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله ….يقول تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) (1) فهذه الآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو (2) يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته. ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين فقد تناولته هذا الآية، وقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله..) (3)
ويوضح الشيخ حمد حكم من دعا ميتاً أو غائباً فيقول:
(من دعا ميتاً أو غائباً فقال يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني، أو اكشف عني شدتي، ونحو ذلك فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم لم يكونوا يقولون: أنها تخلق، وترزق وتدبر أمر من دعاها بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع في كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها..)(4).
ويسوق الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - إجماع العلماء في حكم من صرف الدعاء لغير الله فيقول:
__________
(1) سورة الإسراء : آية 56، 57.
(2) أي من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين.
(3) الهدية السنية، ص 54، 55 باختصار.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل، 4 / 596.(1/430)
(اعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء - أي دعاء العبادة ودعاء المسألة - لغير الله فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام. إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله فمن أتي بالشهادتين وعبد غير الله، فما أتي بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا إله إلا الله وهم مشركون) (1).
ومما أورده الشيخ سليمان في شرحه للآية الكريمة وهي قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } (2) - أثناء شرحه لباب (من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره من (كتاب التوحيد) - يقول رحمه الله.
(حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، واستغاثة من هذه حاله، ومعنى الاستفهام في إنكار أن يكون الضلال كلهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم ولا قدرة على استجابة أحد منهم مادام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة) (3).
ولما سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن حكم الاستغاثة بالموتى، كان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص227.
وانظر : الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء في بيان أن الاستغاثة بغير الله شرك أكبر يخرج عن دين الإسلام:
(تيسير العزيز الحميد)، ص 214 - 236.
(2) سورة الأحقاف : آية 5.
(3) تيسير العزيز الحميد ص 239.(1/431)
(وأما مسألة - استغاثة الأحياء بالموتى في طلب الجاه والسعة والرزق والأولاد فالجواب هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وهذا شرك في الربوبية، والألوهية، وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم بطلب الشفاعة والقربة، وأما طلب الرزق والأولاد وشفاء المرضى فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك كما قال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } (1) (2).
ويقول الشيخ أيضاً في مسألة سماع الموتى:
(ومن قال أن الميت يسمع، ويستجيب، فقد كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه .. قال تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) (3) (4).
ويبين الشيخ عبد الرحمن خطورة دعاء الموتى والتعلق بهم، ثم يبطله فيقول:
(إن التعلق بالأموات والالتجاء والرغبة إليهم هو أصل دين المشركين.
__________
(1) سورة يونس : آية 31.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل 2/36.
(3) سورة الأحقاف : آية 5.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل 2/37.(1/432)
ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبداً. ولو جاز التعلق بالأموات، لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة الذين هم لا يفارقونه بيقين، وهم كما وصف الله: {عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (1)، وهذا لا يقوله مسلم أصلاً، بل لو فعله أحد لكان مشركاً بالله، فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة الحاضرين، فإنه لا يجوز في حق أرواح أموات قد فارقت أجسادها لا يعلم مستقرها إلا الله من باب أولى، قال تعالى: { والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}(2)(3).
ويوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن كيف كان الاستمداد بالأموات شركاً أكبر فيقول:
(إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية وأجمعها لأعمال القلوب.
كما أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعياً، وراغباً، وراهباً، وخاشعاً، ومتذللاً، ومستعيناً. فإن الاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولابد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده، فقد ألهمه العبد، فإذا صرف لغير الله تعالى صار مألوهاً له) (4).
ويرد الشيخ عبد الرحمن دعواهم في التفريق بين الدعاء والنداء، ويثبت أنهما مترادفان، ويذكر الأدلة القرآنية التي تدل على أنهما بمعنى واحد ومنها ما قاله - رحمه الله -:
__________
(1) سورة الأنبياء : آية 26، 27.
(2) سورة النمل : آية 26، 27.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل 4/385 - 387 باختصار.
(4) الدرر السنية 9/152 بتصرف يسير.(1/433)
(قال تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) (1) فعطف النداء على الدعاء عطف مرادف.
ومما يوضح ترادف النداء والدعاء وأنهما بمعنى واحد، ما أخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام بقوله: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له) (2) فأخلص القصد لله بندائه في كربه وشدته فاستجاب الله له. وقال في الآية الأخرى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)(3) فسماه تعالى دعاء (4).
ومما كتبه الشيخ أبو بطين - رحمه الله - في شأن الحياة البرزخية للشهداء، والحياة البرزخية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
(فحياتهم برزخية الله أعلم بحقيقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنّة، ومن شك في موته فهو كافر، وكثير من الناس خصوصاً في هذه الأزمنة، يدعون أنه صلى الله عليه وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم، فإن الله سبحانه أخبر بأنه ميت، وهل جاء أثر صحيح أنه باعثه لنا في قبره مثل حياته على وجه الأرض يسأله أصحابه عما أشكل عليهم، ومعلوم ما صار بعده صلى الله عليه وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجيء أحد إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأل عما اختلفوا فيه، وفي الحديث المشهور (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) (5). فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست دائمة في قبره) (6).
ويشير أبو بطين إلى كثرة وقوع الاستغاثة بالنبي عند المتأخرين، وما كتبه ابن تيمية في ذلك، فيقول أبو بطين رحمه الله:
__________
(1) سورة البقرة : آية 171.
(2) سورة الأنبياء : آية 76.
(3) سورة القمر : آية 10.
(4) القول الفصل النفيس ص 29، 30.
(5) رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما. وقال عنه ابن تيمية : إسناده جيد، وصححه ابن القيم في (جلاء الأفهام) عن كتاب (النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد)، ص121 باختصار.
(6) مجموعة الرسائل والمسائل 2 /128 باختصار.(1/434)
(والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم صدرت من كثير من المتأخرين ممن يشار إليهم بالعلم، وقد صنف رجل يقال له ابن البكري كتاباً في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه الشيخ ابن تيمية، بين فيه بطلان ما ذهب إليه وبين أنه من الشرك. قال الشيخ رحمه الله:
(وقد طاف هذا - يعني ابن البكري - على علماء مصر، فلم يوافقه منهم أحد، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته، فلم يعارضه أحد منهم، مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى ..)(1).
ويرد الشيخ أبو بطين على افتراء داود، حين زعم الإجماع على مشروعية الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال رحمه الله:
(ثم زعم أن الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم في الشدائد أمر مشهور معمول به عند الصحابة والتابعين، فنسب إلى خير القرون ما هم أبعد الناس عنه، ويكفي في إبطال الشبهة كلّها قول الله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله) (2)، وقوله سبحانه: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً) (3)، وهذا في حال حياته صلى الله عليه وسلم فكيف الحال بعد الممات) (4).
ويستنكر الشيخ أبو بطين دعوى التفريق بين الدعاء والنداء، ثم يبطلها، فيقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، 2 / 242.
(2) سورة الأعراف : آية 188.
(3) سورة الجن : آية 21.
(4) تأسيس التقديس ص 114.(1/435)
(ومن العجب قول بعض من ينسب إلى علم ودين أن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاء لهم بل هو نداء، أفلا يستحي هذا القائل من الله إذا لم يستح من الناس من هذه الدعوى الفاسدة السّمجة التي يروج بها على رعاع الناس. والله سبحانه وتعالى قد سمى الدعاء نداء كما في قوله: {إذ نادى ربه نداء خفياً} (1)، وقوله تعالى: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (2) وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربه حاجة، وبين ما إذا طلبها من غيره ميت أو غائب، بأن الأول يسمى دعاء والثاني نداء؟ وما أسمج هذا القول وأقبحه .. وهو قول يستحي من حكايته لولا أنه يروج على الجهال) (3).
ويقول الشيخ محمد بن ناصر التهامي مبيناً تحريم دعاء غير الله:
(فإذا رددنا ما تنازعنا فيه، وقلنا بتحريم دعوة غير الله والاستغاثة به.. وجدنا القرآن ينادي بالنهي عن دعوة غير الله ويختمها بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك، ولو لم يحتج على صاحب الرسالة إلا بآية واحدة، لانقطعت حجته، ووهت شبهته، والسنة كذلك تنادي في النهي عن أن يدعى مع الله غيره، كما في (الصحيح) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار) (4). ومسمى الدعاء هو السؤال والطلب لغة وشرعاً، والند هو الشبه والمثل. فمن استغاث بغير الله من ميت أو غائب، أو دعاه فقد شبهه بالله الذي يصمد إليه كل مخلوق في كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وأخراهم) (5).
كما أن القول بتحريم دعاء غير الله واعتباره من الشرك الأكبر المخرج من الملة ليس مما انفرد واختص به الشيخ ابن عبد الوهاب، بل جمهور أهل العلم على ذلك … فيقول الحازمي مدافعاً عن الشيخ الإمام:
__________
(1) سورة مريم : آية 3.
(2) سورة الأنبياء : آية 87.
(3) الانتصار)، ص 25.
(4) رواه البخاري.
(5) إيقاظ الوسنان)، ق 26 باختصار.(1/436)
(إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ليس أول من فتح هذا الباب، بل ما ذكره هو ما عليه جمهور العلماء.. فهو يقول لا يدعى في الممات إلا الله عز وجل وأكثر الخلق يدعون سواه في كل محل، إذا عثرت دابة نادى من يعتقده كالشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد بن علوان، أو العيدروس، أو البدوي، أو العلوي، وإذ مسّهم الضر في البحر، دعى كل واحد منهم شيخ بلده في زعمه، ويقول ابن عبد الوهاب: هذا فعل المشركين؛ وليس هو أول من قال هذه المقالة بل قد سبق إليها..) (1).
ويبطل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن دعوى تصرف الموتى فيقول رحمه الله:
(وأما القول بالتصرف بعد الممات، فيقول تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) وقوله سبحانه: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى)(3) وقوله: (كل نفس ذائقة الموت) (4)، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله.. الحديث) (5). فجميع ذلك دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، فإن أرواحهم ممسكة، وإن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته، فضلاً عن غيره بحركة، وإن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره..) (6).
ويتحدث الشيخ عبد اللطيف عن مسألة سماع الموتى فيقول:
(واعلم أن مسألة السماع فيها كلام للمحققين لا يحيط به علماً إلا من فقه عن الله قلبه، ودق في باب العلم نظره وفهمه.. فتأمل قوله تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم.. الآية) (7).
__________
(1) المرجع السابق، ص 11 باختصار.
(2) سورة الزمر : آية 30.
(3) سورة الزمر : آية 42.
(4) سورة الأنبياء : آية 35.
(5) رواه مسلم.
(6) البراهين الإسلامية ق10 باختصار يسير.
(7) سورة فاطر : آية 13.(1/437)
فإن هذه الآيات فيها دعوى نفي الإجابة فقط مع بقاء أصل السماع، لئلا يتحد فعل الشرط وجوابه، والأظهر أن سماع الميت مقيد بحال دون حال، لا في جميع حالاته) (1).
ويبين الشيخ عبد اللطيف اختلاف حياة البرزخ عن حياة الدنيا فيقول:
(والذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع الأمة أن الحال بعد مفارقة الأرواح للأبدان ليست كحال الحياة من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها ويكفي المؤمن قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..) (2)فهذا الحديث يدخل تحته جميع أعماله الباطنة والظاهرة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأن الأسباب الحسية تزول بالموت، فكيف بغيره، وإذا كان لا يملك لنفسه شيئاً وعمله قد انقطع فكيف يتصرف، ويدبر ويستمد منه، وتطلب منه الحوائج إن هذا لهو الضلال المبين)(3).
وينقل الشيخ عبد اللطيف نصاً نفيساً لابن تيمية – رحمه الله – في بطلان الاستغاثة بالأموات، وآثارها السيئة ..، وأن الاستغاثة بالله وحده هي سبب انتصار المسلمين على التتار – آنذاك -، يقول ابن تيمية:
(ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء، ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا غيرها .. وربما قصدوا الأموات في ضرورة نزلت بهم فيدعون دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم .. حتى أن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور قال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر.. لوذوا بقبر أبي عمر … ينجيكموا من الضرر
__________
(1) البراهين الإسلامية)، ق14، 15.
(2) رواه مسلم.
(3) البراهين الإسلامية)، ق36، 37.(1/438)
فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال، لا نهزموا كما انهزم المسلمون يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، فلما كان ذلك بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله والاستعانة به، وأنهم لا يستعينون إلا به، ولا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل.
فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم الله على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة أصلاً..) (1).
ويرد الشيخ عبد اللطيف على افتراء داود ابن جرجيس حين كذب، وزعم إباحة دعاء الموتى فقال الشيخ عبد اللطيف:
(من المستحيل شرعاً وفطرةً وعقلاً أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول القائل يا علي، أو يا حسين أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله والتسوية به تعالى وتقدس (2)وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام حتى ذكره ابن حجر في (الأعلام) (3) مقراً له) (4).
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف أن دعاء الموتى شرك أكبر، وإجماع العلماء على ذلك فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل 3/409.
(2) يقصد الشيخ عبد اللطيف بالتسوية بالله أي في ألوهيته وعبادته وليس في ربوبيته، لأن كفار مكة يقرون بتوحيد الربويية كما هو معلوم، انظر : تفصيل ذلك : (تيسير العزيز الحميد)، ص469.
(3) أي ابن حجر الهيتمي في كتابه (الأعلام بقواطع الإسلام).
(4) دلائل الرسوخ ص 79 باختصار.(1/439)
(الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى، والتوجه إليه شرك محرم، وأن فاعله من أسفه السفهاء، وأضل الخلق وأنه ممن عدل بربه، وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه، ولا تنبغي لغيره، وأنه أصل شرك العالم، وقد حكى الإجماع على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كلامه، وكذلك ابن قيّم الجوزية قرر تحريمه، وأنه من الشرك الأكبر، وأنه أصل شرك العالم في كتابه (إغاثة اللهفان) وغيره، وابن عقيل كفّر بطلب الحوائج من الموتى) (1).
ويكشف الشيخ عبد اللطيف عما لبّس فيه المخالفون حين ادعوا الحياة الحقيقية للموتى - كما لهم في الدنيا - ومن ثم جوّزوا سؤالهم، فيقول جواباً على هذا التلبيس:
(ليست حياة الأنبياء والشهداء كما يظنه هؤلاء وأسلافهم من الصابئة من أن لهم علماً بحال من دعاهم، وقدرة على إجابته، وتصرفاً في العالم وجولاناً في الملكوت، ويكفي المؤمن في بيان حياتهم والإشارة إلى حقيقتها قوله تعالى: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه ((أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت)(3)، ويكفي في إبطال قول الصابئة وورثتهم قوله تعالى في المسيح: { وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } (4) فإن في هذه الآية ما يدل على أنه عليه السلام لا علم له بما صدر وجرى منهم بعد وفاته وأنه إنما يشهد بما كان منهم مدة حياته، وبقائه فيهم، ولا يعلم سواه ..) (5).
ويرد الشيخ عبد اللطيف على من ادعى حياة الأنبياء بعد وفاته كحياتهم الدنيا، فقال الشيخ رحمه الله:
__________
(1) مصباح الظلام ص 252.
(2) سورة آل عمران : آية 169.
(3) رواه مسلم.
(4) سورة المائدة : آية 117.
(5) مصباح الظلام ص 291.(1/440)
(إن هذه مقالة جاهل لا يفرق بين حياة الأنبياء والشهداء بعد الموت، وحياتهم في الدنيا فظنّ الغبي أنها هي الحياة الدنيوية ولذلك نفى الموت، والله تعالى يقول { إنك ميت وإنهم ميتون } (1) والحياة البرزخية تجامع الموت ولا تنافيه كحال الشهداء) (2).
ويرد الشيخ عبد اللطيف دعوى داود حين ظنّ جواز دعاء الموتى، مادام أن الذي يدعوهم ويستغيث بهم يعتقد أن الفاعل والموجد هو الله وحده، ثم يرد ويبطل الشيخ عبد اللطيف تفريق داود بين الدعاء والنداء، فقال رحمه الله:
(وهذا الأحمق زاد قيداً، فقال لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله، وفي تلبية المشركين في الجاهلية لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين. وقوله وهذا نداء لا دعاء من أدل الأشياء على جهله، فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر أو النهي ويقابله النجا الذي هو المسارة وخفض الصوت. هذا بإجماع أهل اللغة كما حكاه ابن القيم في نونيته، وشيخ الإسلام في تسعينيته، وليس قسيماً للدعاء، قال تعالى: { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم}(3) الآية، فما فعلوه هو عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله.
__________
(1) سورة الزمر : آية 30.
(2) مصباح الظلام ص 249.
(3) سورة الكهف : آية 52.(1/441)
وقال تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه) (1) ونوحاً إذ نادى من قبل) (2) وسمى هذا النداء دعاء في كتابه العزيز، قال عن نوح عليه السلام: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) (3)، وقال: (هنالك دعا زكريا ربه) (4) وفي الحديث: (دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه) (5) - وذكر الشيخ عبد اللطيف غيرها من النصوص، إلى أن قال: فانظر هذه النصوص وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب) (6).
ولما سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن - رحمهم الله - عن بعض الأحاديث التي وصفت موسى عليه السلام في حياة البرزخ، فأجاب عن ذلك جواباً شافياً، وضّح فيه وبيّن ما تختص به الحياة البرزخية وتتميز به عن الحياة الدنيوية، ثم نقل جواباً لابن تيمية رحمه الله في الجواب على ذلك السؤال، سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن عما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره، ورآه يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك الأنبياء فأجاب :
__________
(1) سورة الأنبياء : آية 83.
(2) سورة الأنبياء : آية 76.
(3) سورة القمر : آية 10.
(4) سورة آل عمران : آية 38.
(5) رواه أحمد والترمذي والنسائي.
(6) دلائل الرسوخ ص 81، 82.(1/442)
(هذه الأحاديث وأشباهها تمر كما جاءت ويؤمن بها، إذ لا مجال للعقل في ذلك، ومن فتح على نفسه هذا الباب هلك، في جملة من هلك، فهذه الأحاديث التي مر البحث فيها خاض فيها بعض الزنادقة، وصنف مصنفاً بناه عليها، وجادل وماحل في أن من كان حياً هذه الحياة التي أطلقت في القرآن فينبغي أن ينادى، لا فرق عند هذا الجاهل بين الحياة الحسية والبرزخية، لأنه اشتبه عليه أمر هذه الصلاة .. ولم يعلم أنه لا خلاف في أن أهل البرزخ يجري عليهم من نعيم الآخرة ما يتلذذون به مما هو ليس من عمل التكليف، ومعاذ الله أن نعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، والحديث عام؛ لأن المقصود به جنس بني آدم؛ لأن الفرد يعم كما هو مقرر في محاله، ألم يعلم المسكين أن البرزخ طور ثان وله حكم ثان؟ إذ لو كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة أن يلاقي الأولياء والأفاضل كما زعم بعض المصنفين، لبطل حكم الاجتهاد بعده، ولم يتراجع الصحابة رضوان الله عليهم بعده مسائل طال فيها نزاعهم إلى زماننا هذا، إذا تحققت هذه الإشارة، وتأملتها، فلابد أن أنقل كلام ابن تيمية قدس الله روحه في أحاديث السؤال:
(قال رحمه الله: أما رؤيا موسى في الطواف فهذا كان رؤيا منام لم يكن ليلة المعراج، كذلك جاء مفسراً لما رأى المسيح أيضاً، ورأى الدجال، أما رؤيته ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صورة أبدانهم .. وأما كونه رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضاً، فهذان لا منافاة بينهما فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة تصعد وتهبط، كالملك ليست كالبدن …. إلى آخر ما نقله) (1).
__________
(1) الدرر السنية)، 1/274، 275 باختصار يسير.(1/443)
ويورد الشيخ أحمد بن عيسى الأدلة المتعددة على ترادف الدعاء والنداء وأنهما بمعنى واحد، فكان مما قاله رحمه الله رداً على من فرق بينهما :
(كأنه لم يسمع ما ذكره الله في كتابه من أن مدلول النداء والدعاء واحد، قال الله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا. إذا نادى ربه نداء خفياً، قال رب إني وهن العظم مني)(1) فقوله: (رب) هذا هو الدعاء، سماه نداء، ثم قال (ولم أكن بدعائك رب شقياً)(4) فتبين أن النداء في هذه الآية هو الدعاء لا غير.
وقال في سورة آل عمران: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب)(2) فقوله: (رب) هو الدعاء في قوله: (هنالك دعا)، وفي سورة مريم قال: (إذ نادى)، وفي سورة آل عمران قال: (دعا) والصيغة واحدة. ثم قال: { إنك سميع الدعاء}، وقال تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) (3)، وفي الحديث مرفوعاً: (دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه)) (4).
ومما يدل على ترادف الدعاء والنداء في كلام العرب، قول الشاعر:
فقلت ادعي وأدعو فإني أنـ ... ... ... ـدى لصوت أن ينادي داعيان) (5)
ويبين علامة العراق محمود الآلوسي اختلاف الحياة البرزخية عن الحياة المعهودة .. ومن ثم فلا يجوز سؤال الموتى، يقول رحمه الله:
__________
(1) سورة مريم : آية 2، 3، وجزء من آية 4.
(2) سورة آل عمران : آية 38.
(3) سورة الأنبياء : آية 87.
(4) رواه أحمد والترمذي والنسائي.
(5) الرد على شبهات المستعينين بغير الله ص14، 15 باختصار.(1/444)
(إن الأموات لا يسألون سؤال الأحياء بوجه من الوجوه، إذ الموت غير الحياة، وما ثبت لهم من الحياة فهي برزخية غير الحياة المعهودة في الدنيا فمن أراد بها الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا انتكاس ظاهر، والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص، ومن أراد أنها حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح) (1).
ويوضح الشيخ ابن سحمان الفرق بين طلب الغوث من الأحياء، وطلبه من الأموات، والفرق بين الأحياء والأموات .. فكان من توضيحه أنه قال:
(وأما الإغاثة بالأسباب العادية، وما هو في طوق البشر وقدرتهم فهذا ليس الكلام فيه، والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العادية وما هو في طوق البشر وقدرتهم.. والله سبحانه خلق في الحي اختياراً ومشيئة بها يثاب وبها يعاقب وبها يكلّف، والميت ليس له قدرة الحي، ولا يكلف، بل ينقطع عمله بموته، وتطوى صحيفته، ولا يسأل، ولا يستفتى ولا يرجع إليه في شيء مما للعباد عليه قدرة، وسائر الحيوان يفرقون بين الحي والميت) (2).
ويرد الشيخ ابن سحمان على من جوّز الاستغاثة بالأموات بشرط الإقرار بأن الله هو المؤثر، والموجد وحده سبحانه فقال رحمه الله:
__________
(1) تتمة منهاج التأسيس، ص 379، وانظر : ص347، 348، وانظر : كتاب (غاية الأماني)، 1/256.
(2) كشف غياهب الظلام، ص 303 بتصرف يسير.(1/445)
(إن مجرد عدم التأثير، والخلق والإيجاد، والإعدام والنفع والضر إلا الله لا يبريء من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرّين بأن الله هو الخالق الرازق النافع والضار، بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله والطلب منه والنداء، والاستغاثة كلها يكون لله) (1).
وقرر علماء الحجاز وعلماء نجد في (البيان المفيد) أن الدعاء عبادة يجب صرفها لله وحده، وأن صرفها لغيره شرك أكبر فقالوا رحمهم الله:
(ونعتقد أن عبادة غير الله شرك أكبر، وأن دعاء غير الله من الأموات والغائبين، وحبه كحب الله، وخوفه ورجائه ونحو ذلك شرك أكبر، وسواء دعاء عبادة أو دعاء استعانة في شدة أو رخاء فإن الدعاء مخ العبادة وسواء دعاه لجلب نفع أو دفع ضر ..)(2)
ويوضح الشيخ عبد الله بن بلهيد رحمه الله أن دعاء غير الله شرك أكبر، وإن كان فاعله يعتقد أن الله بيده النفع والضر.. فقال رحمه الله:
(فإن قال قائل أن من يدعو النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأولياء لا يعتقد أنه يملك نفعاً أو ضراً، ولا يطلب ذلك منه. وأن قوله عند قيامه، أو دخوله، أو خروجه أو غير ذلك من أحواله يا رسول الله أو يا فلان إن أراد به طلب النفع والضر فهو شرك، وإن أراد أنه يشفع له عند الله أو يقّربه إلى الله فهذا ليس بشرك.
فيقال أن شرك المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم هو بتعلقهم على الأنبياء، والصالحين لطلب القربة، والشفاعة، كما قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (3) (4).
__________
(1) الصواعق المرسلة الشهابية، ص 62.
(2) البيان المفيد، ص 6.
(3) سورة الزمر : آية 3.
(4) خطاب ابن بلهيد أثناء اجتماع علماء الحجاز ونجد، ص 17.(1/446)
(ولما سئل أحد العلماء: هل النداء بمعنى الدعاء أم بينهما فرق ؟ كان جوابه: لا فرق بينهما، وتفريق من فرّق بين النداء والدعاء تفريق يرده الكتاب والسنة واللغة ..
- ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة ثم قال:
- وقال في (المصباح) : النداء الدعاء، وقال النحاة النداء هو الدعاء بأحرف مخصوصة) (1).
ويرد الشيخ صالح بن أحمد على من ادعى أن حياة الشهداء في قبورهم حياة حقيقية فيقول:
(إن حياة الشهداء في قبورهم كما قال تعالى: (بل أحياء ولكن لا تشعرون) (2)، فنؤمن بأننا لا نشعر بحقيقة حياتهم التي أخبرنا بها سبحانه وتعالى، وهو المختص بحقيقة علمها وأما الأستاذ (3) فحمل قوله تعالى: (ولا تشعرون) على عدم شعوره بالسرور والنعيم الذي هم فيه، وهذا مبلغ علمه.
وتقتضي دعواه عدم موتهم، تحريم تقسيم أموالهم، على الورثة، وعدم تزوج نسائهم؛ لأنهم أحياء على زعمه، والمسلمون متفقون الوهابية وخلافهم على تقسيم أموالهم، وتزويج نسائهم كسائر الأموات) (4).
وأما دعوى المجوّزين الاستغاثة بالأموات، بحجة أن الفاعل هو الله وحده والعبد لا فعل له، فيرد القصيمي تلك الحجة فيقول:
(قولك أن العبد ليس فاعلاً، إما أن يكون دلّ عليه العقل، أو القرآن أو الحديث، أو الإجماع، أو المشاهدة، أو الضرورة، أو شيء غيرها، ولا شيء، أما العقل فإنه لا يفهم أن العبد ليس فاعلاً وأنه كالريشة تقلبها الريح أنّى شاءت، بل العقل يعلم أنه لا يحسن عقاب العبد، ولا ثوابه، ولا أمره، ولا نهيه، إلا إذا كان فاعلاً قادراً على الفعل والترك، ولهذا لا يلوم الحجر الهاوي من أعلى إلى أسفل إذا ضر، ولا يشكره إذا نفع ..
__________
(1) جريدة أم القرى، عدد 285.
(2) سورة البقرة : آية 154.
(3) يقصد محمد بن أحمد نور، وسبق نقل قوله.
(4) تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور، ص 74، بتصرف يسير.(1/447)
وأما القرآن فمن أوله إلى آخره ينادي بهدم هذه المقالة، منها قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (1)، وأما الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) (2)، وأما الإجماع فالسَّلف قاطبة يرون العبد فاعلاً حقيقة لا يشذ منهم واحد.
وهذا مذكور في كتاب (خلق أفعال العباد للبخاري، وغيره) (3).
وعقب إيراد ما سطّره أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في مسألة دعاء الموتى، اتضح جلياً عظم شأن الدعاء، وأنه من آكد العبادات وأهمها وأعلاها قدراً، وأن الدعاء عبادة يجب أن لا تصرف إلا لله وحده. فمن خالف ذلك، ودعا الأموات والغائبين فقد صرف هذه العبادة العظيمة إلى غير مستحقها، فوقع في الشرك الأكبر المخرج عن دين الإسلام، وإن كان يعتقد أثناء دعاءه للموتى، أن الله هو الخالق المؤثر وبيده - سبحانه - النفع والضر، فإن هذا لن ينفعه كما لم ينفع مشركي العرب ممن قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعترفون ويقرون بما يقر به طالبوا الحاجات من الموتى، من إقرار بتوحيد الربوبية.
كما ظهر - في ثنايا هذا الفصل - الجواب والرد على دعواهم بعدم التفرقة بين الحي والميت، إما على حسب ظنهم، لأن الموتى لهم حياة حقيقية في قبورهم كالأحياء في دنياهم، أو عدم التفريق بينهما؛ لأن المؤثر والفاعل هو الله وحده، وليس للميت ولا للحي فعل أو تأثير.
كما تبين - أيضاً - بطلان تلبيسهم في التفرقة بين الدعاء والنداء ولله الحمد والمنة.
__________
(1) سورة النساء : آية 79.
(2) رواه مسلم.
(3) البروق النجدية، ص 82 باختصار.(1/448)
خاتمة
وفي هذه الخاتمة أحمد الله تعالى وأشكره على إنجاز هذا البحث وإنهائه.
وقد بينتُ - أولاً في المقدمة - أهمية هذا الموضوع، وأسباب اختياره ثم ذكرت خطة البحث، ومنهجي الذي سرت عليه في كتابة أبواب البحث، ثم تحدثتُ عن جمع المادة العلمية لهذا البحث.
وقد تحدثت في التمهيد عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبينتُ أن هذه الدعوة ما هي إلا دعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن هذه الحركة الإصلاحية ما هي إلا تجديد لمنهج السلف الصالح، وأشرتُ إلى بعض العلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ، ممن لم يذكرهم الكتّاب الذين كتبوا في هذا المجال، كما أشرت إلى خطأ دعوى أن بعض الحركات الإصلاحية أو الشخصيات الإسلامية قد تأثرت بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مثل الحركة السنوسية، والحركة المهدوية، ومثل: محمد عبده، ومحمد إقبال.
ثم أوردت دراسة استقرائية مجملة لمؤلفات المناوئين مع موقف علماء الدعوة من هذه المؤلفات المناوئة، وقد اتضح أن خصوم هذه الدعوة على عدة أصناف، فمنهم من أبغض هذه الدعوة حسداً وبغياً كما وقع من سليمان بن سحيم مطوع الرياض، ومنهم من عادى هذه الدعوة وأهلها انتصاراً لطريقته الصوفية كما هو ظاهر في كتابات علوي الحداد وداود بن جرجيس النقشبندي ومحمد الطاهر يوسف ومالك بن داود، وغيرهم.
ومنهم من ناهض هذه الدعوة انتصاراً لمسلكه الرافضي كما هو واضح في كتابات محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني، وعلي اللكنهوري، وجعفر النجفي، ومحسن الأمين العاملي، وغيرهم ممن سبق ذكر أقوالهم.
وقد بينتُ بكثير من الأمثلة الكم الهائل من المؤلفات التي صنفت ضد هذه الدعوة السلفية، وبمختلف اللغات، ثم وضحت بكثير من الأمثلة - أيضاً -، ما سطّره بعض أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في الرد على تلك المؤلفات، ومناقشة الشبهات، وتفنيد الاعتراضات.
ثم أوجزت أهم الأسباب التي أدت إلى كثرة تلك المؤلفات المناوئة وتعددها ثم انتقلت إلى الباب الأول، ويتضمن الحديث عن مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الرد عليها.(1/449)
وقد عرضتُ في الفصل الأول منه لافتراء الخصوم بأن الشيخ ادعى النبوة، وانتقص الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدأت أولاً بالحديث عن معتقد الشيخ الإمام وأتباعه في مسألة ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم أوردتُ الفرية كما جاءت مدونة في كتب الخصوم، ثم أتبعتها بالرد والدحض من خلال ما كتبه أئمة الدعوة السلفية.
وكذلك كان الأسلوب في فرية انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقبل إيراد الافتراء، كان هناك تمهيد يتضمن بيان مقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند الوهابيين، ثم بيان الافتراء كما جاء مسطوراً في كتب المناوئين، وعقب ذلك يأتي الرد والدحض لهذا الافتراء، وفي آخر الفصل كشفت عن ضلال أولئك الخصوم – من خلال كتبهم – وجهلهم بحقه عليه الصلاة والسلام، وزيغهم عن معرفة مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وكتبتُ الفصلين: الثاني والثالث بنفس أسلوب الفصل الأول، وكان الفصل الثاني حول الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم، وقد ظهر بكثير من الأدلة والبراهين أن الشيخ وأتباعه في باب أسماء الله عز وجل وصفاته على منهج أهل السنة والجماعة، من وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، فلا يتجاوزون القرآن والحديث.
كما ظهر ضلال أولئك الخصوم في هذا الباب، ووقوعهم في التعطيل والتحريف كما بيناه بأمثلة من كتبهم.
أما الفصل الثالث وهو حول فرية إنكار الشيخ لكرامات الأولياء، فقد اتضح بطلان هذه الفرية، وأن الشيخ الإمام وأتباعه يقرون بكرامات الأولياء، كما ظهر جلياً تلبيس الخصوم وتضليلهم حين اتخذوا من لفظ كرامات الأولياء قناعاً أخفوا تحته الكثير من الشركيات والبدعيات.
وتحدثتُ في الباب الثاني عن الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ مع بيان الحق في ذلك.
وكان موضوع الفصل الأول عن شبهة التكفير والقتال، وقد أطنبت – نوعاً ما في الحديث عن هذه الشبهة، وذكرت أسباب ذلك.(1/450)
وقد ذكرت في المبحث الأول من هذا الفصل مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير، ثم أتبعتها بالرد والدحض.
ثم تحدثت في المبحث الثاني عن فرية أن الوهابيين خوارج، وأن موطنهم قرن الشيطان، وقد ثبت كذب هذه الفرية، واتضح الفرق الشاسع بين الوهابيين والخوارج، ثم ذكرت بعض أقوال العلماء قديماً وحديثاً في بيان معنى حديث نجد قرن الشيطان مع توضيح بطلان استدلال الخصوم بهذا الحديث في نصر فريتهم.
وفي المبحث الثالث كشفت - من خلال ما نقلته عن أئمة الدعوة وأنصارها - عن زيف شبهة الخصوم حين ادعوا أن الوهابيين أدخلوا في نواقض الإسلام ما ليس منها، وبينت سلامة موقفهم في هذه المسألة، وأنه هو الصواب الذي سار عليه السلف الصالح.
وفي المبحث الرابع بينت موافقة الشيخ الإمام لابن تيمية وابن القيم في مسألة التكفير، وأنه لم يخالفهم في ذلك كما ادعى الخصوم، وأوردت الأمثلة على ذلك.
وفي المبحث الخامس وضحت أن الشرك واقع في هذه الأمة، كما شهدت بذلك النصوص، فلا صحة لشبهة الخصوم من عدم طروء الشرك على هذه الأمة.
وعرضت في المبحث السادس لشبهة الخصوم بأن الشيخ يجعل الآيات التي نزلت في المشركين منطبقة على المسلمين، وأوردت الردود عليها.
وختمت مباحث ذلك الفصل بشبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة العثمانية، وبينت ابتداء، وبنقول متعددة أن نجداً – موطن هذه الدعوة – لم تكن تحت سيطرة دولة الخلافة ثم بينت بطلان هذه الشبهة.
وفي الفصل الثاني تحدثت عن شبهة تحريم التوسل، وعرضت أولاً لشبهة الخصوم في هذه المسألة، ثم أعقبتها بالرد والبيان، وبينت ما في لفظ التوسل من الإجمال والإطلاق، وأشرت إلى التوسل المشروع، ثم التوسل البدعي المحظور وعرضت لأدلة الخصوم واستدلالاتهم بالرد والجواب وبشيء من التفصيل.(1/451)
وتحدثت في الفصل الثالث عن شبهة منع الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعرضت لمقالة الخصوم في تجويز طلب الشفاعة من المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وأن ذلك ليس عبادة للرسول أو للولي وذكرت حججهم في ذلك، ثم عطفت عليها بالرد والبيان، وبينت شرطي قبول الشفاعة، والفرق بين قول الداعي: اللهم شفع محمداً فينا، وبين قول: يا محمد اشفع لي، وذكرت خلط الخصوم وعدم تفريقهم بين كلا القولين.
ثم انتقلت إلى الباب الثالث، ويتضمن الحديث عما اعترض على الشيخ من قضايا الدعوة مع المناقشة لها.
فبينت في الفصل الأول اعتراض الخصوم على الشيخ وأنصار دعوته فيما فعلوه من هدم الأبنية على القبور، والنهي عن شد الرحال لزيارة الأضرحة، وقد ظهر بالأدلة والبراهين صواب فعل الشيخ وأتباعه، وأن ما اعتقدوه وفعلوه في هذه المسألة هو الحق الذي تعضده النصوص الشرعية كما ظهر في نفس الوقت ضلال الخصوم وانحرافهم في تلك المسألة.
وأظهرت في الفصل الثاني، ومن خلال كتابات أنصار الدعوة الوهابية، صحة تقسيم التوحيد إلى توحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وأنه تقسيم تقره الأدلة، وتثبته نصوص الوحيين، وأقوال السلف الصالح، وبينت بطلان اعتراض الخصوم على ذلك التقسيم، كما اتضح أيضاً زيغ الخصوم حين اقتصروا على تقرير توحيد الربوبية واكتفوا به.
وفي الفصل الثالث تحدثت عن اعتراض المناوئين على هذه الدعوة في إنكارهم دعاء الموتى وظهر جلياً – عبر أقوال أئمة الدعوة – صحة ما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه في إنكار دعاء الموتى، وأبطلت على ضوء تلك النقول حجج الخصوم واستدلالاتهم في هذا الاعتراض.
وفي نهاية هذه الخاتمة أحب أن أقترح بعضاً من الحلول والأساليب لمن يهمه نشر مذهب السلف الصالح عموماً، وبصورة صادقة، والتي يمكن أن تحقق في نفس الوقت تصوراً صحيحاً لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فمن هذه الحلول:(1/452)
الاهتمام بنشر تراث السلف الصالح، وفي سائر بلاد المسلمين، وعلى مختلف المستويات الثقافية، واختيار الرسائل والمؤلفات التي توضح عقيدة أهل السنة والجماعة، وتتصف بالوضوح والإيجاز وملائمة العصر، وأن يتضح ويظهر لعامة المسلمين – من خلال الرسائل – (عالمية) معتقد أهل السنة والجماعة، فتنشر رسائل موجزة لبعض علماء السلف الصالح ومن مختلف المذاهب الأربعة، وتنشر رسائل موجزة أخرى لبعض علماء السلف الصالح من مختلف أقطار المسلمين، ومختلف الأزمان. فتطبع – على سبيل المثال – رسالة (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ومعها رسالة (تطهير الاعتقاد) للصنعاني، أو رسالة (شرح الصدور في تحريم رفع القبور) للشوكاني، أو رسالة (قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر) لمحمد صديق خان.
نشر مؤلفات الشيخ الإمام التي توضح معتقده مثل (كتاب التوحيد) و (الأصول الثلاثة) وغيرهما، وكذلك نشر الرسائل الجامعة لأئمة الدعوة في نجد، والتي توضح معتقدهم ومنهجهم، كما فعل الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله – حين جمع بعض الرسائل الهامة في كتاب سماه (الهدية السنية) وهو خمس رسائل لكبار أئمة نجد وعلمائها. وترجمة هذا التراث النفيس إلى أشهر اللغات العالمية.
إبراز الجوانب الدعوية عند الشيخ الإمام، وكذا أئمة الدعوة من بعده، وبيان ما كان عليه الشيخ وأتباعه من فقه للدعوة، وإدراك لأساليبها المناسبة.
التحذير من كتب الخصوم، وتتبعها بالرد والمناقشة، وتصحيح الأخطاء الواقعة في بعض المراجع العامة، مثل (دوائر المعارف) عموماً و (حاشية الصاوي على الجلالين) و (حاشية ابن عابدين) وبعض المصادر التاريخية.(1/453)
الاهتمام بتدريس كتب ورسائل الشيخ في التعليم الجامعي، وحسن عرض ترجمة الشيخ الإمام في المناهج الدراسية، وإبراز آثاره العلمية والعملية على هذه البلاد، وكذلك إظهار فضله وعظيم نفعه على بلاد المسلمين عموماً والعناية أيضاً بحسن عرض أبواب (كتاب التوحيد) – في المناهج الدراسية للمرحلة المتوسطة -، وإعادة صياغة ذلك المنهج بأسلوب جذاب يفهمه الناشئة ويدركونه، مع مراعاة ربط مادة الكتاب بالواقع الذي يعيشه الطالب.
فتح باب الحوار والمناقشة مع المتعلمين من الوافدين لهذه البلاد، ودعوتهم إلى التجرد والإنصاف، واتباع الحق أينما دار وتحرير أفكارهم من تبعية حملات التشويه والتضليل.
وهذه الاقتراحات الموجزة ما هي إلا غيض من فيض، وأسأل الله عز وجل أن يمدنا بالعون لتحقيقها، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/454)