رد شيخ الإسلام على الجهمية
قولهم بفناء الجنة والنار يعني العدم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد .. فقد وُجد أخيراً مُؤلَّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي قرر فيه القول بفناء النار بما لايدع مجالا للخوض والتخرّص الذي كُثر وتنوّع بما يضرّ ولا ينفع، والذي عثر على المخطوطة محمد بن عبدالله السّمهري وسمّاها : (الرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك) وهي تحوي مسألتين :
الأولى : ردّ الشيخ على الجهمية قولهم بفناء الجنة والنار وهو الذي اختاره السمهري أن يكون عنواناً لكتابه وهذا لا يهمّنا هنا إلا في مسألة واحدة وهي أن الشيخ وتلميذه كغيرهم من أهل السنة يقولون عن الجنة والنار : "لايفنيان" لِرَد قول الجهمية وأن هذا لايناقض القول بفناء النار وحدها كما يتوهّم بعض الناس، ويأتي إن شاء الله بيان هذا في أجوبة الإعتراضات فيما بعد وكنت أشرت إليه في (القول المختار) .
قول الشيخ بفناء النار وحدها
الثانية قول الشيخ بفناء النار، وهذه المسألة هي التي سوف أنقلها هنا من كتاب السّمهري وتبدأ في كتابه من صفحة 52 إلى 87، لأن هذه المسألة هي بيت القصيد ولقد حُمّلَتْ فوق ماتحتمل لأن كثيراً من الناس يحكم بغير عدل، فلا يسمع في مسائل النزاع إلا من جانب واحد فيحكم الزلل، ولقد كُثر في هذه المسألة الخوض والخرص، والزيادة والنقص، وإن من عظيم الآفات أن يكذّب الإنسان بما لم يحط به علمه ولم يُدركه فهمه أو أن يقول بلا علم وعلى كل حال فإن موجب هذا كله الجهل والظلم، والإنسان يَسَعَهُ في أمور كثيرة لا يعلمها أن يقول : الله أعلم، فإن ذلك أصلح له وأسلم، والآن جاء فصل الخطاب، بما يزيل الشك والإرتياب والحمد لله الكريم الوهاب .(1/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما القول بفناء النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين ومن بعدهم، وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها فإن الذين يقولون : إن عذابهم له حَدّ ينتهي إليه ليس بدائم دوام نعيم الجنة، قد يقولون : إنها قد تفنى، وقد يقولون: إنهم يخرجون منها فلا يبقى فيها أحد، لكن قد يُقال : إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد بل يفنى عذابها وهذا هو معنى فنائها .
نفي الشيخ عن الصحابة القول بدوام النار
وأن المنقول عنهم القول بفنائها
التعليق على كلام الشيخ :
بدأ الشيخ المسألة بهذا الكلام ليُبيّن أن فيها نزاع متقدم بين التابعين أما الصحابة فقال : بل إلى الساعة لم أعلم أحداً من الصحابة قال : إنها لا تفنى وإنما المنقول عنهم ضد ذلك (يعني أنها تفنى) وسوف يأتي كلامه هذا إن شاء الله في موضعه والمراد دحض وإبطال حجة كل من قال عن الشيخ أنه ينقل الأقوال في هذه المسألة أو أنه لايقول بالفناء أوغير ذلك مما خاض به الخائضون فتأمل كيف يُقرر المسألة تقريراً ويرد ما خالف الفناء وليس ينقل قول أحد بل كلامه بنفسه واعتقاده بنفسه ولايحلّ لأحد أن يفتري على الشيخ ولا على تلميذه ولاغيرهم لشيء في نفسه وعلى المخطئ أن يرجع عن خطئه قبل الخصام بين يدي الملك العلاّم فقد كثر في المسألة الكلام وطُبِعَتْ فيها كتب أحدثت فتناً ما زال شرّها والله المستعان . إنتهى .
ذكر الشيخ بعض من نُقِلَ عنهم القول
بفناء النار من الصحابة وتصحيحه أثر عمر
قال الشيخ : وقد نُقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم .
التعليق : يعني أن القول بفناء النار منقول عن الصحابة وهذا كلام الشيخ بنفسه ليس ينقل أقوالاً لأحد . إنتهى .(1/2)
قال الشيخ : وقد روى عبْد بن حميد وهو من أجلّ علماء الحديث في تفسيره المشهور قال : أنا سليمان بن حرب أنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري قال : قال عمر : (لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه). وقال أنبأ حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال : (لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه) ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} وهذا يُبين أن مثل هذا الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث والسنة مثل سليمان بن حرب الذي هو من أجلٌ علماء السنة والحديث ومثل حجاج بن منهال في كلامهما عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم والسنة والذي يُروى من وجهين : من طريق ثابت ومن طريق حميد هذا عن الحسن البصري الذي يقال أنه أعلم من بقي من التابعين في زمانه يرويه عن عمر بن الخطاب وإنما سمعه الحسن من بعض التابعين فسواء كان هذا قد حفظ هذا عن عمر أو لم يحفظ كان مثل هذا الحديث مُتَدَاولاً بين هؤلاء العلماء الأئمة لاينكرونه وهؤلاء كانوا يُنكرون على من خرج عن السنة من الخوارج والمعتزلة والمرجئة والجهمية .
نفي الشيخ أن يكون القول بالفناء
من أقوال أهل البدع
وكان أحمد بن حنبل يقول : (أحاديث حمّاد بن سلمة هي الشجي في حلوق المبتدعة) فهؤلاء من أعظم أعلام أهل السنة الذين ينكرون من البدع ماهو دون هذا لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة والإجماع كما يظنه طائفة من الناس.
التعليق : انظر تقرير الشيخ للقول بالفناء وليس ينقل قول أحد بل يرد على من يظن ذلك من البدع المخالفة للكتاب والسنة والإجماع، فكيف يُقال أنه ينقل أقوال الناس أو أنه لم يقل بفناء النار فأين نقله لأقوال الناس وعلى أي شيء اعتمد من قال : إن الشيخ لايقول بفناء النار ؟ .
بيان الشيخ أن أثر عمر المراد به(1/3)
أهل النار الذين هم الكفار
قال الشيخ : وعبْد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى : {لابثين فيها أحقاباً} لُيبيّن قول من قال : الأحقاب لها أمد ينفد ليست كالرزق الذي ماله من نفاد ولا ريب أنه من قال هذا القول قوْل عمر ومن نقله عنه إنما أرادوا بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها .
فأما قوم أصيبوا بذنوب فأولئك قد علم هؤلاء وغيرهم بخروجهم منها وأنهم لايلبثون فيها قدر رمل عالج ولا قريباً من ذلك.
التعليق : انظر قول الشيخ أن المقصود بأهل النار هنا الكفار في كلامه على أثر عمر الذي يدل على فناء النار وتصحيحه لهذا لأثر فكيف يقال : لم يقل، لم يجزم، ينقل أقوالاً ؟ .
قال الشيخ : والحسن كان يروي حديث الشفاعة في أهل التوحيد وقد ذكره البخاري ومسلم عنه، وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها ويحدّث بها وكذلك سليمان بن حرب وأمثاله فهذا عندهم لايُقال فيه مثل هذا.
التعليق : يريد الشيخ أن هؤلاء العلماء يعلمون أن هذا لا يقال في أهل التوحيد يعني (قدر رمل عالج) .
قال الشيخ : ولفظ أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لايموتون فيها ولايحيون، وقوله : (يخرجون منها) أي يخرجون من جهنم بعد أن يفني عذابها وينفد وينقطع .
التعليق : انظر كيف يّقرّر الشيخ الفناء على أثر عمر .
تقرير الشيخ خلود الكفار
وأنه لا يُعارض الفناء
قال الشيخ : فهم لايخرجون منها يعني جهنم بل هم خالدون في جهنم كما أخبر الله سبحانه وتعالى لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا لم يبق فيها عذاب .
التعليق : قول الشيخ : فهم لايخرجون منها بل هم خالدون في جهنم يعني ما دامت باقية فهم مخلدون فيها لايخرجون ويأتي معنى الخلود فيما بعد إن شاء الله، وانظر : قوله : لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب يعني وإن كان جثمانها موجود لكن لا عذاب فيها ليُبيّن الفرق بين هذا وبين مارد الجهمية أنها تُعدم هي والجنة .(1/4)
بيان الشيخ أن فناء النار تغيّر حالها
قال الشيخ : وذلك أن العالَم لا يُعدم وجهنم في الأرض لا تُعدم بالكلية ولكن فناؤها بتغيّر حالها واستحالتها من حال إلى حال.
التعليق : أنظر كيف يقرّر الشيخ فناء النار بتغيّر حالها مثل فناء الدنيا خلافاً للجهمية القائلين بالعدم حيث لايَقْدِر الرب بزعمهم على إبقاء الجنة والنار فيما بعد كما لم يكن له قدرة في الماضي فتعْدمان .
قال الشيخ : كما قال تعالى : {كل من عليها فان} وهم لا يعدمون بل يموتون ويهلكون وكما قال تعالى : {ماعندكم ينفد وما عند الله باق} فإذا أنفده الرجل فقد نفد ما عنده وإن كان لم يعدم بل انتقل من حال إلى حال، وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس وهو معروف مشهور ينقل منه عامة المفسرين الذين يُسندون التفسير كابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وعثمان بن سعيد الدارمي والبيهقي، والذي يذكرون الإسناد مجملاً كالثعلبي والبغوي والذين لايُسندون كالماوردي وابن الجوزي قال : قوله : {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} قال في هذه الآية إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً .
قال الطبري : ورُوي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء أن الله تعالى جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته، ثنا عبدالله ثنا معاوية عن علي عن ابن عباس قال : {النار مثواكم خالدين فيها} قال في هذه الآية (إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً).
بيان الشيخ أن آية الأنعام في الكفار(1/5)
وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصاً بأهل القبلة فإنه قال : {ويوم يحشرهم جميعاً يامشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} فأولياؤهم من الإنس لفظ يدخل فيه الكفار قطعاً فٍإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين .
التعليق : يبيّن الشيخ أن هذه الآيات في الكفار ومع هذا جاء الاستثناء وسيورد آيات يستدل بها على أن أوليائهم هم الكفار.(1/6)
قال الشيخ : وقال تعالى : {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . إنما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون} وقال تعالى : {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} وقال تعالى : {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} وقال تعالى : {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} وقال تعالى : {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً} وقال تعالى : {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} فأمر بقتال أولياء الشيطان وهم الكفار وقال : {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} وقال تعالى : {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} فأخبر أنهم يُوحُون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم فهذه وأمثالها تبيّن أن الكفار أولياء الشياطين فهم أحقّ الناس بالدخول في قوله : {وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}. وقد قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : إن هذه الآية تقتضي أنه لاينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولايُنزلهم جنة ولا ناراً، فدل على أن هذا الاستثناء عنده يقتضي دفع العذاب عنهم وهذا مدلول الآية وأنه لأجل هذه الآية يجب أن يتوقف فلا يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً وهذا يُناقض قول من يقول : سوى ما شاء الله من أنواع العذاب، وإلاّ مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا، فإن ذلك معلوم أنه قبل الدخول لم يكونوا فيها، وقول من يقول : في أهل الجنة فإنها صريحة في تناول الكفار .(1/7)
التعليق : انظر كيف أن الشيخ بعد أن استدلّ بالآيات على أن أولياء الشيطان هم الكفار كما ورد في آية الأنعام بيّن أنّ الاستثناء واقع على الكفار وأنها صريحة في تناولها ثم صار يبطل ماعدا ذلك من التأويلات في الاستثناء .
قال الشيخ : لكن ذكر البغوي أن ابن عباس قال : (الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله يُسلمون فيخرجون من النار) ولم يذكر من نقل هذا عن ابن عباس فإن أريد بذلك من أسلم في الدنيا فليس كذلك فإن الخطاب إنما هو لمن كان من أولياء الشيطان، والجن الذين استمتع بعضهم ببعض وهؤلاء من جملة المسلمين وجميع من أسلم سبق فيه علم الله أن يسلم وكأنّ قائل هذا القول ظنّ أن هذا خطاب للأحياء وليس كذلك بل هذا خطاب لهم يوم القيامة وإن أراد أنهم يسلمون في جهنم فيخرجون منها وهذا خلاف ما دلّ عليه القرآن في غير موضع .
نقل الشيخ أثر ابن مسعود وأنه في الكفار
كذلك أثر أبي هريرة
فعن عبدالله بن مسعود قال : (ليأتينّ على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً) وهؤلاء هم الكفار وعن أبي هريرة مثله .
التعليق : انظر قول الشيخ على أثر ابن مسعود : وهؤلاء هم الكفار يعني الذين يلبثون أحقاباً في جهنم ثم لا يبقى فيها أحد.
تقرير الشيخ أن الذين يلبثون أحقاباً
هم الكفار
قال الشيخ : قال البغوي : ومعناه عند أهل السنة إن ثبت ألاّ يبقى فيها أحد من أهل الإيمان.
فيقال : إنهما لم يريدا ذلك فإنهما قالا : بعد ما يلبثون فيها أحقاباً وهؤلاء هم الكفار المذكورون في قوله تعالى : {إن جهنم كانت مرصاداً . للطاغين مآباً . لابثين فيها أحقاباً . لايذوقون فيها برداً ولا شراباً . إلا حميماً وغساقاً . جزاءً وفاقاً . إنهم كانوا لايرجون حساباً . وكذبوا بآياتنا كذاباً} وهذا وصف الذين كذبوا بآيات الله كذاباً أي تكذيباً فهو تكذيب مؤكد بالمصدر.(1/8)
التعليق : انظر كيف يردّ الشيخ قول البغوي ويبين أن ابن مسعود وأبا هريرة لم يريدا ذلك يعني أنها في أهل الإيمان، وقوله : وهؤلاء هم الكفار يعني الذي يلبثون في النار أحقاباً فهل هو ينقل أقوال الناس وهل هو غير جازم وغير ذلك من الخوض والقول بلا علم ؟ .
قول الشيخ : ولم أجد نقلاً مشهوراً
عن أحد من الصحابة يخالف ذلك يعني الفناء
قال الشيخ : ولم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك .
التعليق : يريد الشيخ أنه ليس بين الصحابة نزاع في فناء النار وتقدم ذكره أن النزاع وُجِدَ في التابعين .
قال الشيخ : بل أبو سعيد وأبو هريرة هما رَويَا حديث ذَبْح الموت وأحاديث الشفاعة وخروج أهل التوحيد وغيرهما قالا في فناء النار ما قالا، وقد نقل البغوي : روى السدي عن مرّة عن عبدالله قال : (لَوْ علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا) (1) . وقد استفاض عن غير واحد من السلف تقدير الحقب بحدّ محدود، والأحقاب جمع حقب فروى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس قال في قوله تعالى : {لابثين فيها أحقاباً}.
قال : سنين، وعن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال : {لابثين فيها أحقاباً} قال : الحقب ثمانون سنة والسنة ثلاثمائة
وستون يوماً واليوم كألف سنة اليوم منها كالدنيا كلها.
قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن عبدالله بن عمرو بن العاص وهلال الهجري والضحاك وذكوان والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وعمرو بن ميمون أنهم قالوا : الحقب ثمانون سنة وعن هشام وعن الحسن البصري أنه سُئل عن قوله تعالى : {لابثين فيها أحقاباً} فقال : الله أعلم بالأحقاب فليس فيها عدد إلا الخلود ولكنه بلغنا أن الحقب الواحد : سبعون ألف سنة كل يوم من تلك من تلك الأيام كألف سنة مما تعدون، وعن هشام عن الحسن قال : الأحقاب لا يدرى أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون .
__________
(1) وذلك لطول الأحقاب .(1/9)
التعليق : أراد الشيخ أن يُبينّ من كلام السلف أن الأحقاب لها أمَد ولو طالت مُدّتها بعد ما بيّن أن قوله تعالى {لابثين فيها أحقاباً} أنها في الفكار قطعاً فهو ما زال يُقَرِّر بنفسه الفناء بكلام واضح جليّ يزيده وضوحاً ما بعده .
بيان الشيخ أن الكفار مخلدون في النار
ولا يخرجون منها مادامت باقية
قال الشيخ : في بيان كلام الحسن السابق : وقوله : الله أعلم بالأحقاب ولايدري ما هي يقتضي أن لها عدداً الله أعلم به ولو كانت لا عدد لها لعَلِمَ كل أحد أنه لا عدد لها، ويؤيد ما نقله الحسن عن عمر بن الخطاب كما تقدم قول الحسن : (ليس فيها عدد إلا الخلود) حق أيضاً فإنهم خالدون فيها لايخرجون منها مادامت باقية، فأقوال الحسن يُصدّق بعضها بعضاً .
التعليق : انظر قول الشيخ : فإنهم خالدون فيها لايخرجون منها مادامت باقية لِعِلْمِ الشيخ بلغة القرآن وهو أن الخلود لايقتضي عدم النهاية وتأتي الأدلة على ذلك إن شاء الله في موضعها ولذلك.
قال الشيخ : وأما خلودهم في النار فهو حق كما أخبر الله، وعن السدي : {لابثين فيها أحقاباً} قال : سبعمائة حقب كل حقب سبعون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً كل يوم كألف سنة مما تعدون، وعن عبدالله بن عمرو قال : (الحقب أربعون سنة) وقد تنازع الناس في الأحقاب هل هي مقدّرة محدودة على قولين فعلى قول السدي وغيره هي محدودة مقدّرة وهو قول الزجّاج وغيره لكن قال الزجّاج : (المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقون فيها برداً ولاشراباً)، قال الزجاج : (وبيانه أن الأحقاب حَدّ لعذابهم بالحميم والغسّاق فإذا انقضت الأحقاب عُذّبوا بغير ذلك من العذاب.
التعليق : انظر كيف أن الشيخ سوف يُبطل ما قاله الزجّاج وأنه يتتبع كل شبهة تعارض الفناء فيبطلها بالدليل .(1/10)
قال الشيخ : وهذا الذي قاله الزجاج شاذ خلاف ما عليه الأولون والآخرون وهو خلاف ما دلّ عليه القرآن فإن هذا يقتضي أنهم يبقون بعد الأحقاب فيها ولكن لا يذوقون البرد والشراب حينئذ وهذا باطل قطعاً ثم إذا ذَاقوا البرد والشراب فهذا نعيم فكيف يكونوا معذّبين فيها بعد ذلك ؟ .
التعليق : يقصد الشيخ أن كلام الزجاج يقتضي أنهم بعد الأحقاب يذوقون البرد والشراب في النار فهذا نعيم وهو باطل قطعاً فليست النار إلا دار عذاب محض.
قال الشيخ : وقال بعضهم : هذه الآية منسوخة وقيل : هي في أهل التوحيد .
التعليق : الأخبار لايكون فيها نسخ ولذلك قال السمهري في الهامش (64) : وعللّ الإمام الطبري فساد هذا القول بقوله : (إنه لا معنى للنسخ لأن قوله : {لابثين فيها أحقاباً} خبر والأخبار لا يكون فيها نسخ وإنما النسخ في الأمر والنهي). 30/12 .
قال الشيخ : قال عبد الحق بن عطيّة في تفسيره : ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم فطلبوا التأويل فقال مقاتل بن حيان : الحقب سبع عشرة ألف سنة وهي منسوخة بقوله تعالى : {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} قال : وقد ذكرنا فساد هذا القول .
التعليق : تقدم أن النسخ لايكون في الخبر .
قال الشيخ : وقال آخرون : الموصوفون باللبث أحقاباً عصاة المؤمنين، قال : وهذا أيضاً ضعيف فما بعده من السورة يردّ عليه.
التعليق : يُريد الشيخ بالذي بعده قوله تعالى : {إنهم كانوا لايرجون حساباً . وكذبوا بآياتنا كذاباً} فيردّ على من قال : عصاة المؤمنين لأن هذا منطبق على الكفار فكيف يُجعل في العصاة من أهل التوحيد ؟ هذا بيّن البطلان .(1/11)
قال الشيخ : وقال آخرون : إنما المعنى : {لابثين فيها أحقاباً} غير ذائقين برداً ولا شراباً فبهذه الحال يلبثون أحقاباً ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم والقول الثاني أنها غير مقدّرة وقال هؤلاء هذا لايدل على غاية لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب، ولو أنه قال : لابثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة أحقاب دلّ على غاية، هذا قول ابن قتيبة وغيره.
قال أبو الفرج بن الجوزي : وهذا قول ابن قتيبة والجمهور وبيانه : إن زمان أهل الجنة والنار يُتصور دخوله تحت العدد كقوله تعالى : {بكرة وعشياً} ومثل هذا أن كلمات الله داخلة تحت العدد وإن لم يكن لها نهاية فيقال : هذا ممنوع فما لا نهاية له يمتنع أن يدخل تحت العدد وإنما يدخل تحت العدد ما له مقدار محدود وهو المعدود لكن إذا أخذ بعض من أبعاضه دخل تحت العدد كالبكرة والعشى وهو مقدار يوم ن أيام الجنة ويُعرف ذلك بنور يظهر لهم يزيد على النور المعتاد يعرفون به البكرة والعشى كما تظهر الشمس لأهل الدنيا لكن الجنة ليس فيها ظلمة، وقوله : كلمات الله داخلة تحت العدد ممنوع إنما يدخل منها تحت العدد بعض من أبعاضها مثل الآيات المنزلة وإلا فما لا نهاية له كيف يكون معدوداً ؟ وكلما عُدّ بقدر معدود فهو ماحُدّ، وما يقدّره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حدٌ، والذي لايتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه .(1/12)
التعليق : قول الشيخ : وإلا فما لا نهاية له كيف يكون معدوداً؟ يريد الشيخ أن الذي لا نهاية له لايكون معدوداً فكلام الله لايحصى بالعدّ، كذلك لَوْ كان بقاء أهل النار لا نهاية له لما حُدَّ بالأحقاب لأنه لايصح أن يقال : إن الله يبقى أحقاباً ودهوراً وعصوراً لاستْشعار الحدّ، يوضحه قوله : وكلما عُدّ بقدر معدود فهو ما حُدَّ يعني أن ذكر الأحقاب في وعيد الكفار محدود مهما طالت الأحقاب، وتبيّن أنه لايجوز إطلاق مثل هذا على دَوَام الله وحياته لأنه لا يقال : أحقاباً لما لا نهاية له، ويزيده وضوحاً قوله رحمه الله بعد ذلك : وما يُقدّره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حَدّ يعني إذا قال بلسانه أوتصوّر بذهنه أزماناً طويلة فهي تنتهي إلى حدّ ونهاية مهما طالت ولذلك قال : والذي لايتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه مثل دوام الله عز وجل ودوام كلماته ومثل دوام عذاب النار وبقاء أهلها فيها على قول من يقولون بالدوام فلا يُعبّر عن ذلك بالأحقاب لو كان الأمر على ما قالوا وبما أن الأحقاب زمن له حَدّ فبطل قولهم.(1/13)
قال الشيخ : وقوله تعالى : {خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد}، قال ابن أبي حاتم : ذُكِرَ عن جعفر بن سليمان عن الجريري قال : سمعت أبا نضرة يقول : ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية : {إن ربك فعّال لما يريد}، وقد روى حرب الكرماني وأبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وعن قتادة في قوله : {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ماشاء ربك} الله أعلم بتثنيته على ماوقعتْ، وروى الطبراني عن يونس نا ابن وهب نا ابن زيد في قوله : {خالدين فيها إلا ماشاء ربك} فقرأ حتى بلغ : {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار، وعن السدّي : {إلا ما شاء ربك} إن هذه الآية يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج، قوله : {خالدين فيها أبداً} وذكر البغوي عن عبدالرحمن بن زيد أنه قال : قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال : {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار، وقد روى علماء السنة والحديث في ذلك آثاراً عن الصحابة والتابعين مثل ما روى حرب الكرماني وأبو بكر البيهقي وأبو جعفر الطبري وغيرهم عن الصحابة في ذلك، وفي المسند للطبراني ذكر فيه : "أنه ينبت فيه الجرجير" .
قول الشيخ : وحينئذ فيُحتج على فنائها بالكتاب
والسنة وأقوال الصحابة مع أن القائلين ببقائها ليس
معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة
وحينئذ فَيُحْتَجّ على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة.(1/14)
التعليق : هل أصرح من هذا شيء ؟ وإذا كان الشيخ أثبت فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة فكيف يقال فيه ماقيل؟ وسوف أذكر بعضه في موضعه مثل قول السمهري في نفس الكتاب الذي كتب فيه مخطوطة ابن تيمية في صفحة (18) : لا يوجد لشيخ الإسلام فيما أعلم نصّ واضح جليّ في هذه المسألة ولكن له هذه الرسالة التي ألّفها جواباً عن سؤال وُجِّه إليه فأجاب يذكر آراء غيره من العلماء في ذلك، وعجيب كلام السمهري هذا فإنه فَرْقٌ بين أن ينقل الشيخ الأقوال والخلاف في جزئيات من المسألة كآية ونحوها ويرد ما خالف الفناء بنفسه كما هو حاصل وظاهر أيضاً وبين أن ينقل الأقوال والخلاف في كل المسألة فيأتي بأقوال النافين والمثبتين ولا يكون له أثر في الجانبين كالمتفرّج، والذي حصل من الشيخ هو الأول لا الثاني كما هو واضح .
سقوط قول السمهري
فلا عبرة بقول السمهري : أن الشيخ ينقل آراء غيره من العلماء فهو باطل محض وخطأ فاحش، والمراد هنا أن الشيخ قال بعد ذلك، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة، إن أبلد الناس وأجهلهم إذا اطّلع على كلام الشيخ يعلم أن كلام السمهري باطل وفِرْية على الشيخ فيا عجباً هل يقال : إن شيخ الإسلام يقول : يُحتج على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وهو لا يقول بذلك بل يُخالف الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ثم هل يقال : إن الشيخ يقول بعد ذلك، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة وهو مع القائلين بالبقاء أوْ وهو لا يردّ ذلك ؟ ومتى نثق بكلام العلماء إذا كان يُتلاعب به هكذا ؟ بل كلام الشيخ واضح أنه يقرر الفناء من أول الرسالة ويردّ على من قال بالبقاء إلى آخرها.
{ إلا ماشاء ربك }
تأتي على كل وعيد في القرآن(1/15)
قال الشيخ : مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة، منها ما رواه حرب والبيهقي قال حرب الكرماني : سألت إسحاق عن قول الله تعالى : {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} قال : أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن، قال إسحاق : ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا معتمر بن سليمان قال : قال لي أبي : ثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال المعتمر : قال أبي : عنى كل وعيد القرآن، ورواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قال : ثنا الحسن بن يحيى، أنا عبد الرزاق، أنا ابن التميمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد أوعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه : {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله فيقول : حيث كان في القرآن {خالدين فيها} تأتي عليه .
ما يُروى عن ابن عباس
يأمر النار أن تأكلهم
وقال ابن جرير : حُدّثت عن ابن المسيّب عمن ذكره عن ابن عباس : {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} قال استثنى الله عز وجل قال : يأمر النار أن تأكلهم، قال : وقال ابن مسعود : (ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً) وقال : ثنا محمد بن حميد الرازي، ثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال : (جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً) .
أثر عبد الله بن عمرو وأثر أبي هريرة
وقال حرب الكرماني عن إسحاق بن راهويه، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، شعبة، عن أبي بلج سمع عمر وابن ميمون يُحدّث عن عبدالله بن عمرو قال : (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً).(1/16)
وقال إسحاق، ثنا عبيدالله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة عن يحيى ابن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : (أما الذي أقول : إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ : {وأما الذين شقوا ففي النار} الآية .
إيراد الشيخ طرق القائلين
بدوام النار ونقضها كلها
التعليق : والآن سوف يذكر الشيخ طرق القائلين بدوام النار ويردّها كما رَدّ ما تقدم وهو أوضح من أن يُقال عنه : إنه قول الشيخ يعني القول بالفناء وإلا كيف نفهم كلام العلماء ؟ لأنه قد تصدّى لِرَدّ أقوال أهل الدوام مع تقريره الفناء .
قال الشيخ : قلت : والذين قطعوا بدوام النار لهم أربع طرق:
أحدها : ظَنّ الإجماع فإن كثيراً من الناس يعتقد أن هذا مجمع عليه ولا خلاف فيه بين السلف وإن كان فيه خلاف حادث فهو من أقوال أهل البدع .
والثاني : أن القرآن قد دلّ على ذلك دلالة قطعية فإنه أخبر بخلودهم في النار أبداً في غير موضع من القرآن .
والثالث : أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار دون الكفار فإنهم لم يخرجوا.
والرابع : قول من يقول : الرسول وقفنا على ذلك وعلمناه من بعده ضرورة ولا يحتجون بنصّ معيّن، وعامّة الناس يقولون : هذا لا نعلمه إلا من الخبر وشّذَ بعضهم فزعم أن العقل دلّ على خلود الكفار.
التعليق : الشيخ يردّ هذه الطرق ويُبين خطأها إضافة إلى ما تقدم، والسمهري يقول عن الشيخ : أنه يذكر آراء غيره من العلماء ولم يُعقّب على ما ذكر من الآراء بقول خاص له هو، والإنسان والله يعجب من هذا كيف يقول ما قال والشيخ يذكر أدلّته على الفناء ويورد أدلّة القائلين بالبقاء ويُفَنّدها كما هو واضح فأي شيء هذا ؟ وانظر رَدّ الشيخ الآن :(1/17)
قال الشيخ : فأما الإجماع فهو أولاً : غير معلوم فإن هذه المسائل لا يُقطع فيها بإجماع، نعم قد يُظنّ فيها الإجماع وذلك قبل أن يُعرف النزاع وقد عُرف النزاع قديماً وحديثاً بل إلى ا لساعة لم أعلم أحداً من الصحابة قال : إنها لا تفنى، وإنما المنقول عنهم ضد ذلك ولكن التابعون نُقل عنهم هذا وهذا.
قول الشيخ
وليس في القرآن ما يدل على أنها لاتفنى
وأما القرآن فالذي دلّ عليه حق وليس في القرآن مايدل على أنها لا تفنى بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن أنهم خالدون فيها أبداً كما أخبر الله عز وجل في غير موضع وأخبر أنهم يطلبون الموت والخروج منها ويطلبون تخفيف العذاب فلا يُجابون لا إلى هذا ولا إلى هذا وأخبر أنهم ماكثون فيها .
التعليق : قد يظن من لم يفهم أن في هذا ردّ على القول بالفناء، وكم وكم شُحِنَت الردود بمثل هذا والشيخ سوف يُورد النصوص التي يُظَنّ أنها معارضة ثم يُبيّن عدم المعارضة في ذلك كله للفناء .
إيراد الشيخ آيات الخلود والوعيد(1/18)
قال الشيخ : وأخبر أنهم : {لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفف عنهم من عذابها} وقال تعالى : {وهم يصطرخون فيها} {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون . قال اخسئوا فيها ولاتكلمون} . وقال تعالى : {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون . لا يُفتر عنهم وهم فيه مبلسون . وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}. وقوله : {ليقض علينا ربك} أي يُميتنا، وهكذا قال المفسرون مثل السدي وابن زيد وغيرهما ؟ قال السدي : يقضي علينا بالموت، وقال ابن زيد : القضاء ها هنا الموت، وكذلك قال سائر المفسرين وهذا كقوله تعالى : {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} . وعن الفراء في قوله تعالى : {وأما من أوتي كتابه بشماله} إلى قوله : {يا ليتها كانت القاضية} وذلك أن القضاء هو الإكمال والإتمام والأمر المقتضي هو الذي قد مضى وفرغ وبالموت تنقضي حياة الإنسان فقال تعالى : {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا أو لم يك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} . وقال تعالى : {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يخفف عنهم العذا ولاهم ينظرون} وقال تعالى : {والذين كفروا لهم نار جهنم لايقضي عليهم فيموتوا ولايخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور . وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير . فذوقوا فما للظالمين من نصير}. وقال تعالى : {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نردّ ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين . بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}.(1/19)
فهذه النصوص وأمثالها في القرآن تبيّن أنهم خالدون في جهنم لايموتون ولايحيون، وأنهم يَسْألون هذا وهذا فلا يحابون.
التعليق : يريد الشيخ بهذه العبارة الأخيرة التي ذكرها بعد النصوص التي كما تَوَهّم بها من توهّم واستدل بها من استدل على دوام النار يريد أنها وأمثالها في القرآن تبيّن نفس عذاب الكفار في النار وبقاؤهم الطويل وهذا لا نزاع فيه ومُنْكِرُهُ كافر، لكن فرق بين أدلّة تعذيب الكفار وبين أدلّة بقاء النار نفسها. فالأخير مَوْرد النزاع وهو الذي لا يدر أحد أن يأتي بدليل واحد عليه وانظر ما يقول الشيخ في ذلك كله وأن لايعارض الفناء بل ذلك كله حاصل ما دام العذاب باقياً .
ذكر الشيخ الأحاديث الواردة في الموحّدين(1/20)
قال الشيخ : وهذا يقتضي خلودهم في جهنم دار العذاب مادام ذلك العذاب باقياً لا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها كما يخرج أهل التوحيد فإن هؤلاء يخرجون منها بالشفاعة وغير الشفاعة مع بقائها كما يخرج ناس من الحبس الذي فيه العذاب مع بقاء الحبس والعذاب الذي فيه على من لم يخرج، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح صحيح مسلم : عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لايموتون فيها ولايحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فيبثون على أنهار الجنة ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل، وفي الصحيحين عن أبي هريرة في الحديث الطويل الذي فيه المرور على الصراط والشفاعة وقال فيه : "حتى إذا فزع الله من القصاص بين العباد فأراد أن يُخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لايشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول : لا إله إلا الله فيعرفونهم بأثر السجود وتأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيُصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القصاص بعد العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار وهو آخر أهل الجنة دخولاً الجنة فيقول : "رب إصرف وجهي عن النار" وذَكَرَ صرفه عن النار ثم تقدُّمه إلى الجنة ثم إلى بابها ثم إدخاله الجنة وأنه يعطيه ما تمناه ومثله معه، ورواه أبو سعيد وقال : "وعشرة أمثاله"، وكذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال : "حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي يده ما منكم من أحد بأشدّ مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذي في النار يقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقول : أخرجوا من عرفتموهم(1/21)
فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه فيقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً إلى أن قال : ثم يقول : إرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، وكان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وأن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجراً عظيماً} . فيقول الله : شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له : نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولاخير قدّموه ثم يقول : أدخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون : ربنا أعطيتنا مالم تعط أحداً من العالمين فيقول : لكم عندي أفضل من هذا فيقولون : يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول : رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً.(1/22)
وفي رواية : "من إيمان" بدل قوله : "من خير" قال فيه : فيقول الجبار : قد بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيلقيهم في نهر بأفواه الجنة " الحديث . ولم يقل : "لم يعملوا خيراً قط" . وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يخرج من النار حبْواً فيقول الله له : اذهب فادخل الجنة فيأتيها فتخيّل إليه أنها ملأى إلى أن قال : فيقول الله له : اذهب فإن لك عشرة أمثال الدنيا أو إن لك الدنيا وعشرة أمثالها) . وفي رواية لمسلم فيقول له : ( تمنّ فيتمنى فيقال له: لك الذي تمنيت وعشرة أضعافه). وهذا يوافق حديث أبي سعيد من وجهين :
وكذلك لمسلم من حديث جابر : (مثل الدنيا وعشرة أمثالها) كما في اللفظ الأول في حديث ابن مسعود وفي حديث جابر في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله تعالى يُخرج ناساً من النار فيدخلهم الجنة) . وفي رواية : (أن الله يُخرج قوماً من النار بالشفاعة)، ولمسلم من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دَارَأت وجوههم حتى يدخلون الجنة) .(1/23)
وللبخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى ا لله عليه وسلم فيدخلون الجنّة فيُسمون الجهنميين) وللبخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يخرج قوم من النار بعد ما مسّهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين). وأحاديث الشفاعة فيمن يخرج من النار كثيرة فيخرج من النار كثير منها عدة أحاديث في الصحيحين، وفي حديث أنس : ذكر فيه الشفاعة مرّة بعد مرّة وأنه صلى الله عليه وسلم قال في الآخرة : فأقول : أي رب إئذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل : وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي لأُخرجنَّ منها من قال : (لا إله إلا الله)، وفي رواية لمسلم : (ليس ذلك لك أو إليك) .
التعليق : أراد الشيخ بإيراد هذه الأحاديث بيان أن الموحدين يخرجون من النار كما ورد مثل من يخرج من الحبس الذي فيه العذاب مع بقاء الحبس وعذابه على من لم يخرج يعني الكفار فهؤلاء لهم الخلود ما دام عذاب النار باق ولا دليل واحد على دوامه مع دوام الله. بل الأدلة خلاف ذلك .
بيان الشيخ الفرق بين بقاء الجنة والنار
شرعاً وعقلاً
والآن يأتي كلام الشيخ في الفرق بين بقاء الجنة والنار يُقرر فيه الفناء تقريراً يفهمه البليد وذل بالمقارنة وسياق الأدلة الموضحة لذلك فكيف يُكذب عليه ويُفترى بأنه ينقل آراء غيره من العلماء أو أنه لم يجزم أونحو ذلك مما يقوله الخائضون بلا رَويّة الذين أحدثوا بلبلة في أفكار الناس .
قال الشيخ : والفرق بين بقاء الجنة والنار شرعاًو عقلاً : فأما شرعاً فمن وجوه :
أحدها : أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه كما خبر أن أهل الجنة لايخرج منها، وأما النار وعذابها فلم يُخبر ببقاء ذلك بل أخبر أن أهلها لايخرجون منها .(1/24)
التعليق : أنظر قوله شرعاً وعقلاً بخلاف من يقول : إن الفناء مخالف للشرع والعقل، وسوف أذكر إن شاء الله مثالاً يُبَيّن أن ذلك هو الموافق للعقل بعدوان شخص على آخر عدواناً بليغاً ثم إمساكه إياه ومجازاته على عدوانه في أجوبة الاعتراضات، وقول الشيخ هنا : بل أخبر أن أهلها لايخرجون منها يعني مادامت ناراً وعذابها موجود فإنهم لايخرجون منها كالموحدين، وقد تقدم بيان ذلك وتمثيله بالحبس لبيان الفرق بين الموحدين وأهل النار الكفار فهو من جنس الكلام في الخلود والتأبيد .
قال الشيخ : الثاني : أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤبّد في عدة آيات .
التعليق : يريد الشيخ أن الله أخبر في آية الأنعام وهود والنبأ أن العذاب ليس بمؤبد تأبيداً لا نهاية له .
تأمل قول الشيخ أن النار لم يذكر فيها شيء
يدل على الدوام
قال الشيخ : الثالث : أن النار لم يذكر فيها شيء يدل على الدوام .
التعليق : بخلاف ما يظن المنازعون من أنها أدلة صالحة لنفي الفناء وهي أدلة تعذيب الكفار في النار لا أدلّة دوام النار وفَرْقٌ بين هذا وهذا، ويأتي شرح ذلك في موضعه ـ إن شاء الله ـ فالشيخ يبيّن أنه لم يُذكر في النار شيء يدل على الدوام .. والخلود والتأبيد لانزاع فيه لأنه أدّلة تعذيب الكفار لا أدلة دوام النار مع الله .
قال الشيخ : الرابع : أن النار قيّدها بقوله : {لابثين فيها أحقاباً} وقوله : {خالدين فيها إلا ما شاء الله} وقوله : { ما دامت السموات والأرض إلا ماشاء ربك} فهذه ثلاث آيات تقتضي قية مؤقتة أو معلقة على شرط ذاك مطلق ليس بمؤقت ولا معلّق .
التعليق : يريد الشيخ بالقضية المؤقتة الأحقاب والمعلّقة على شرط آيتي الاستثناء، أم الدائم المطلق الذي ليس بمؤقت ولا معلّق هو دوام الجنة .(1/25)
قال الشيخ : الخامس : أنه قد ثبت أنه يدخل الجنة من يُنشئه في الآخرة لها ويدخلها من دخل النار أولاً ويدخلها الأولاد بعمل الآباء فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيراً، وأما النار فلا يعذّب أحد إلا بذنوبه فلا تقاس هذه بهذه .
التعليق : قول الشيخ : فلا تقاس هذه بهذه يعني أن الجنة موجب الفضل والنار موجب العدل وقد وردت النصوص تبين الفرق مثل ما ذكر الشيخ هنا الإشارة إليها وهي أحاديث ثابتة معروفة ولكن أبي من يُعاند إلا أن يُساوي بين فضل الله وعدله والله يُنزّه عن ذلك كما يُنزّه عن سائر النقائص وما خلق الخلق للعذاب وإنما اقتضت حكمته سبحانه تقدير الفكر والعصيان لعواقب حميدة وجودها أحبٌ إليه من عدمها وقد شرح ذلك ابن القيم في شفاء العليل في كلامه على الحكمة في خلق إبليس والنار ونحو ذلك فالعذاب لابد منه لكن ليس هو المقصود لذاته ومما يبين ذلك ما روى الثلعبي في "تفسيره" بإسناده عن جعفر بن محمد الصادق رحمه الله أنه سُئِل عن قوله تعالى : {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} لِمَ خلق الله الخلق وكان غنياً عنهم لم يخلقهم لجرّ منفعة ولا لدفع مضرّة ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتى يفصلوا بين الحق والباطل فمن أحسن كافأه بالجنة ومن عصى كافأه بالنار، منقول من الفتاوى لشيخ الإسلام 5/538 فالذي ينظر في شفاء العليل ما ذكره ابن القيم من حكمة الله في خلقه خاصلة إبليس والشياطين والنار وتقديره ما قدّر سبحانه ينفتح له باب معرفة الله عز وجل ومحبته بخلاف من يُنَفّرُ عنه بوصفه له بما لا يليق بجلاله وعظمته، ولقد كان من فُتحت لهم أبواب هذه المعارف من أعظم الناس تعظيماً لحرمات الله كالشيخ وتلميذه لعلمهم أنه لايعارض وصف الرب سبحانه بالسخط والغضب وأنه يُعذّب أعدائه فمن أتى البيوت من أبوابها عرف حقيقة الأمر .(1/26)
قال الشيخ : السادس : أن الجنة من مُقتضى رحمته ومغفرته والنار من عذابه وقد قال : {نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقال : {إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} وقال : {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته فيجب دوامه بدوام معاني أسمائه وصفاته، وأما العذاب فإنما هو من مخلوقاته والمخلوق قد يكون له انتهاء مثل الدنيا وغيرها لاسيما مخلوق خُلِقَ لحكمة تتعلّق بغيره .
التعليق : يريد الشيخ بالمخلوق الذي خُلق لحكمة تتعلق بغيره النار وعذابها لأن ذلك لم يكن مراداً لذاته وإنما المراد الإحسان إلى الخلق كما قال جعفر بن محمد الصادق وقد تقدم.
قول الشيخ : فإذا قُدِّر عذاب لا آخر له
لم يكن هناك رحمة البتّة
قال الشيخ : السابع : أنه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء وأنه {كتب على نفسه الرحمة} وقال : {سبقت رحمتي غضبي} و {غلبت رحمتي غضبي} وهذا عموم وإطلاق فإذا قُدِّر عذاب لا آخر لم يكن هناك رحمة البتّة .
التعليق : أقول : استشاط الألباني عند ذكر هذه العبارة للشيخ في مقدمة رفع الأستار صفحة 25 ويأتي أن شاء الله في ذكر طعن الألباني على الشيخ وتلميذه، والمراد هنا أن كلام الشيخ هذا عن علم ومعرفة للنصوص وعلم ومعرفة بالله سبحانه لأن هذا العموم والإطلاق بَيّن وغلبة الرحمة كائنة لا محالة كما أخبر الله عز وجل فاعتراض من يعترض لا يقدّم ولايؤخر ولايُبدل ولايُغيّر، فمراد الشيخ أن هذه النصوص تُناقض دوام العذاب بدوام الله وصدق قدّس الله روحه .(1/27)
قال الشيخ : الثامن : أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم والحكيم إنما يخلق لحكمته العامة كما ذكر حكمته في غير موضع فإذا قُدِّر أنه يُعّذّب من يُعّذّب لحكمة كان هذا ممكناً كما توجد في الدنيا العقوبات الشرعية فيها حكمة وكذلك ما يُقدّره من المصائب فيها حِكَم عظيمة فيها تطهير من الذنوب وتزكية للنفوس وزجر عنها في المستقبل للفاعل ولغيره ففيها عبرة والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا قال في الحديث الصحيح : " إنهم يُحبسون بعد خلاصهم من الصراط على قنطرة بين الجنة والنار فإذا هُذّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة، والنفوس الشريرة الظالمة التي إذا رُدَّت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نُهيت عنه لايصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والظلم والشر فإذا عُذّبوا بالنار عذاباً يخلّص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا معقولاً من الحكمة كما يوجد في تعذيب الدنيا .
قول الشيخ : وخَلْقُ من فيه شر يزول
بالتعذيب من تمام الحكمة
وخَلْقُ مَنْ فيه شرّ يزول بالتعذيب من تمام الحكمة، أما خلق نفوس تعمل الشرّ في الدنيا وفي الآخرة لاتكون إلا في العذاب فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره.
التعليق : لا مفرّ ولا مهرب للقائلين بالدوام من أن الله تعالى يخلق نفوساً تعمل الشر في الدنيا والآخرة لا تكون إلا في العذاب، ولا شك أن ظهور مناقة هذا للحكمة والرحمة بيّن .
إشارة إلى جزم ابن القيم بفناء النار(1/28)
ولذلك قال ابن القيم في الصواعق : أما خلْق نفوس لمجرّد العذاب السرمدي لا لحكمة ولا لمصلحة فتأباه حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين (1) ، وقال وهو يُقرّر الفناء ولا ينقل قول أحد قال : وكل هذا ينفي أن يخلق خلقاً لمجرّد عذابه السرمدي الذي لا انتهاء له ولا انقضاء لا لحكمة مطلوبة إلا لمجرّد التعذيب والألم الزائد على الحدّ فما قَدَرَ الله حق قدْره من نسب إليه ذلك بخلاف ما إذا خلقهم ليرحمهم ويحسن إليهم وينعم عليهم فاكتسبوا ما أغضبه وأسخطه فأصابهم من عذاه وعقوبته بحسب ذلك العارض الذي اكتسبوا ثم اضمحل سبب العقوبة وزال وعاد مقتضى الرحمة فهذا هو الذي يليق برحمة أرحم الراحمين وحكمة أحكم الحاكمين (2) . انتهى .
بعد ذلك يقال : من الذي نزّه الله عما لا يليق به وعمل بمقتضى النصوص الدّالة على ذلك القائلون بالدوام أم القائلون بالفناء ؟ وأعجب ممن يقول : ابن القيم لم يجزم بالفناء .
من قال بدوام النار فهو يُعين الجهمية
على تفيهم حكمة الله ورحمته
قال الشيخ : ولهذا كان الجهم لما رأى ذلك يُنكر أن يكون الله أرحم الراحمين وقال : بل يفعل ما يشاء .
التعليق : قوله عن الجهم : لما رأى ذلك يعني رأى دوام النار وأن الله يخلق نفوساً تعمل الشر في الدنيا وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب لأن هذا مقتضى القول بدوام النار فأنكر أن يكون الله أرحم الراحمين، والشيخ يريد أن يبيّن أن فَهْم الجهم لدوام النار خطأ وأنه أوْجب له ما أوجب من إنكار أن الله أرحم الراحمين وسيُبَيَن الشيخ ذلك .
__________
(1) الصواعق مختصر الموصلي 1/355 .
(2) الصواعق مختصر الموصلي 1/353 .(1/29)
قال الشيخ : والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره ليس عندهم في الحقيقة حكمة ورحمة ولكن له علم وقدره وإرادة لاتُرجح أحد الجانبين ولهذا لما طُلب منهم أنْ يُقرّوا بكون حكيماً فسّروه بأنه عليم أو قدير أو مريد وليس من الثلاثة ما يقتضي الحكمة، وإذا ثبت أنه رحيم حكيم وعُلِمَ بطلان قول الجهم تعيّن إثبات ماتقتضيه الرحمة والحكمة .
التعليق : يعني أن الله بلا شك رحيم وحكيم فَنَفْي الجهم للرحمة والحكمة باطل فتعيّن إثبات ما تقتضيه الحكمة والرحمة وهو خلق نفوس يُخلّص العذاب شرّها فلا يبقى إلا موجب الرحمة الغالبة فتفنى النار، وقد بيّن الشيخ ذلك في هذا الوجه وبَيّنه ابن القيم أتمّ بيان .
ذِكْر الشيخ أن اعتقاد تأبيد جهنم إلى مالا نهاية
يستلزم نفي حكمة الله ورحمته
قال الشيخ : وما قاله المعتزلة أيضاً باطل فقول القدرية والنفاة في حكمته باطل ومن أعظم ما غَلّطهم اعتقادهم تأبيد جهنم فإن ذلك يستلزم ما قالوه وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم والله سبحانه أعلم .
التعليق : الشيخ يبيّن الإسلام على حقيقته لا على ما يستلزم اعتقادات فاسدة من الفهم الخاطئ فهو يقول : ومن أعظم ما غلّطهم يعني حتى أنكروا الرحمة والحكمة اعتقادهم تأبيد جهنم ثم يقول الشيخ : فإن ذلك يستلزم ما قالوه يعني اعتقاد دوام النار يستلزم ما قالوه من نفي الرحمة والحكمة، ثم قال : وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم يعني فساد اللازم وهو نفي الرحمة والحكمة، يستلزم فساد الملزوم وهو دوام النار فتبيّن أن القول بالدوام يستلزم صاحبه لوازم باطلة وقد لا يشعر بذلك فالحمد لله الذي عافانا من اعتقاد ما يستلزم إعانة الجهم وأمثاله على ضلالهم وهو القول بدوام النار مع دوام الله وأن الله يخلق نفوساً يعذبها سرمداً دائماً بدوامه.
الشيخ يذكر أدلة بقاء الجنة(1/30)
قال الشيخ : وأما آيات بقاء الجنة فالأول : مثل قوله تعالى : {أكلها دائم وظلها} فأخبر أنه دائم والمنقطع ليس بدائم.
والثاني : مثل قوله : {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} والمنقطع ينفد.
والثالث : قوله تعالى : {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فأخبر أن ما في الدنيا من الخير ينفد وما عند الله باق لا ينفد فلو كان لِمَا عند الله من النعيم آخر لكان ينفد كما ينفد نعيم الدنيا ولم يكن باقياً لا ينفد.
والرابع : مثل قوله تعالى في آيتين : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}. كما قال : {وإن لك لأجراً غير ممنون} قال عامة المفسرين : غير مقطوع ولامنقوص، وذكروا عن ابن عباس أنه قال : غير مقطوع، وعن مقاتل : غير منقوص أيضاً، عامة المفسرين : غير مقطوع ولا منقوص كما قال : {وإن لك لأجراً غير ممنون} قالوا : ومنه المنون لأنه يقطع عمر الإنسان، وعن مجاهد : غير محسوب، وهذا يوافق ذلك لأن ماينتهى مقدّر محسوب بخلاف ما لانهاية له فإنه غير محسوب، وقد شذّ بعض الناس فقال : غير ممنون عليهم من جنس قوله : {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عيكم أن هداكم للإيمان} وهذا القول مع مخالفته لأقوال السلف والجمهور هو خطأ لوجوه :(1/31)
أحدها : أن الله يمن علينا بكل نعمة أنعم بها علينا حتى بالإيمان والعمل الصالح قال تعالى : {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} وقال تعالى : {لقد منّ الله على المؤمنين إذْ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} وقال أهل الجنة ما أخبر الله تعالى به في قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم} وهذا كقولهم : {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} وقوله : {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة، قالوا : ولا أنت يارسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) .(1/32)
والله تعالى في غير موضع يذكر آلاءه وإحسانه ونعمه على عباده ويأمرهم أن يذكروها ويأمرهم أن يشكروها والعبد قد نُهيّ أن يمنّ بصدقته بقوله تعالى : {لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} لأن المتصدق في الحقيقة إنما أحسن إلى نفسه لا إلى المتصدَّق عليه فإنه لولا أن له في ذلك منفعة وأجراً وعوضاً لم يتصدّق عليه فصار كالذي يخدم المماليك بأجرة يأخذها من سيدهم ليس بمحسن إليهم، وأيضاً فإن المتصدِّق الله هو المنعم عليه بما يسّره الله للإحسان إلى نفسه وعليه أن يشك الله تعالى ويرى أن الله هو المحسِن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعِوَضه من الله وإن نظر إلى المحسَنِ إليه فهو المحسِن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسناً إلى نفسه لا ظالماً لها، فلهذا كان مَنَّهُ على المخلوق ظلماً أبطل به صدقته، والله هو المنعم على عباده حقيقة بالنعمة والشكر عليها إذْ أعانهم على شكره وجعلهم شاكرين بنعمته وبثواب الشكر فكل ذلك تفضّل منه وإحسان من غير أن يكون له على ذلك عِوض يأخذه من غيره لا من المحسَن إليه ولا من غيره فهو المنعم حقيقة وإن كان له في الإنعام حكمة يحبها ويرضاها فتلك الحكمة منه فما لأحد عليه مِنّة وهو الجواد المحض وهو سبحانه ليس كمثله شيء، وللنسا كلام في الجود والإحسان ومن يفعل الحكمة ومقصود هل هو جواد أم ليس بجواد؟ أم يُفرق بين من يطلب عوضاً من غيره فيحتاج إلى غيره فيكون جوده من باب المعاوضة وبين من لا يحتاج إلى غيره بل هو الجواد بالنعم وبالحكم كما قد بُسِط في غير هذا الموضع، ولأنه لما قال تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وبيّن أن غير المؤمنين تزول عنهم النعمة فلو كان المؤمن كذلك لم يكن بينهما فرق .(1/33)
الخامس : مثل قوله في نعيم الجنة : {عطاء غير مجذوذ} وفي عذا النار : {إن ربك فعال لما يريد} قال غير واحد : غير مقطوع أيضاً.
السادس : أنه أخبر أن أهل الجنة والنار لايموتون كما في الحديث الصحيح : ( يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت فيها ويا أهل النار خلود ولا موت فيها) كل خالد فيما هو فيه، فإذا كانوا لايموتون فلابد لهم من دار يكونون فيها ومُحال أن يُعذبوا بعد دخول الجنة فلم يبق إلا دار النعيم، والحي لايخلوا من لذة أو ألم فإذا فإذا انتفى الألم تعيّنت اللذة الدائمة، آخرها، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل . انتهى كلام شيخ الإسلام .
اعتراضات على القول بفناء النار والجواب عليها
وهل يُعارض الفناء الخلود والتأبيد ؟
أولاً : خلود الكفار في النار وتأبيدهم لا يُنكره ولا يشك فيه مسلم والقرآن مليء من ذلك والسنة فكيف يجتمع الخلود والتأبيد والفناء .
الجواب : لا تعارض إطلاقاً بين ماذكر الله من خلود الكفار وتأبيدهم في النار وبين القول بفنائها حيث أن الخلود والتأبيد دليل على عذاب الكفار أنفسهم وبقاؤهم فيها فهذا خلود وتأبيد من أنكر منه حرفاً واحداً كفر، والذين يقولون بفناء النار لا يجادلون في هذا ويؤمنون به كما ذكر الله ورسوله لكن الخلود والتأبيد ليس معناه في اللغة التي نزل بها القرآن والفهم الذي فهمه الصحابة كما يفهمه كثير من الناس اليوم، فالصحابة رضي الله عنهم لا يفهمون من الخلود والتأبيد عدم النهاية لنزول القرآن بلغتهم دون الاصطلاحات والفهوم الحادثة فيعلمون أن الخلود والتأبيد هو المكث الطويل .
ثانياً : إذا كان الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية فما الدليل على ذلك من الكتاب والسنة ؟(1/34)
الجواب : الأدلة على ذلك كثيرة يتبيّن منها أن الخلود والتأبيد في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المكث الطويل، قال تعالى : {يحسب أن ماله أخلده} يعني في الدنيا ومعلوم أنها تفنى ومع ذلك ذكر الخلود وهو البقاء الطويل فيها، وقال تعالى : {وتبنون مصانع لعلكم تخلدون} مثل الذي قبله يعني المكث الطويل في الدنيا، وقال تعالى : {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} يعني الخلد في الدنيا مع أنها لاشك تفنى، وقوله تعالى : {ولكنه أخلد إلى الأرض} قال ابن القيم في ذلك : يقال : أخلد فلان بالمكان إذا لَزِمَ الإقامة فيه قال مالك بن نويرة :
بأبناء حيِّ من قبائل مالكِ ... ... عَمْرو بن يربوعِ أقاموا فأخلدوا
وقال تعالى : {ولاتصل على أحد منهم مات أبداً ولاتقم على قبره} فكل هذا معناه المكث الطويل في الخلود والتأبيد، وروى البخاري في الصوم حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا صام من صام الأبد) معلوم أنه لايعني عدم النهاية وإنما بقية عمره وسماه أبداً، وقال صلى الله عليه وسلم : (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّؤ بها في نار جهنم خالداً مخلّداً أبداً) حديث صحيح فهذا وعيد بليغ في ذكر الخلو والتأبيد مع أنه يخرج من النار بالتوحيد لكن المقصود المكث الطويل، وقال تعالى : {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} فهذا وعيد بالخلود مع أنه يخرج من النار بالتوحيد، وفي قاموس الأسماء العربية : خالد : شيخ أبطأ عنه الشيب ص42 وفي القاموس المحيط: خلْداً وخُلوداً : أبطأ عنه الشيب وقدْ أسَن، وبالمكان وإليه أقام كأخلد وخَلَّد فيهما، والخوَالد الأثافي والجبال والحجارة، وأخلد بصاحبه لَزِمَه وإليه مال .(1/35)
ومن شعر العرب : إلاّ رماداً هامداً دَفَعَتْ عنه الرياحث خَوَالدٌ سُحْمُ الخوَالد هي الأثافي التي يوضع عليها القدر على النار .. قال شيخ الإسلام : لايجوز استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم. (1)
قال ابن كثير : ولما خير عليه السلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين الصيرورة إلى الله عز وجل اختار ماعند الله (2) ، فذكر الخلد في الدنيا في أنها تفنى .
قول ابن القيم : فلا يظن من ساء فهمه
أن هذا يناقض ما أخبر الله ورسوله به
ولما كانت هذه الشبهة واردة في هذه المسألة قال ابن القيم وهو يُقَرّر فناء النار : فلا يظن من ساء فهمه أن هذا يُناقض ما أخبر الله ورسوله به واتّفق عليه سلف الأمة أنهم مخلّدون في النار. (3) فجعل المعارضة بين الخلود والفناء من سوء الفهم .
قاعدة مهمة من كلام شيخ الإسلام
في فهم الكتاب والسنة
ولذلك يقول ابن تيمية : ومن هنا غَلِطَ كثير من الناس فإنهم قد تعوّدوا ما اعتادوه إمّا مِنْ خطاب عامّتهم وإمّا مِنْ خطاب علمائهم باستعمال اللفظ في معنى فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النّبطية وعادتهم الحادثة .. كلام الشيخ في هذا يبين ما وقع فيه الكثير من حمل ما ورد في القرآن والحديث من ذكر الخلود والتأبيد على عادتهم الحادثة وفهمهم لا على ما أراد الله ورسوله حيث فهموا من ذلك عدم النهاية وهو خطأ فاح .
__________
(1) مجموعة الفتاوى 29/166 .
(2) تفسير ابن كثير 4/522 .
(3) مختصر الصواعق المرسلة 1/361 .(1/36)
ثم قال الشيخ : وهذا مما دخل به الغلط على طوائف بل الواجب أن تُعرف اللغة والعادة والعُرْف الذي نزل في القرآن والسنة وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ، فبتلك اللغة والعادة والعُرْف خاطبهم الله ورسوله لا بما حدث بعد ذلك (1) . انتهى .
فقد ظهر الآن أن الخلود والتأبيد إنما هو أدلّة تعذيب الكفار ومكثهم الطويل في النار وهذا لاجدال فيه وإنما المطلوب أدلّة دوام النار نفسها بدوام الله فهذا الذي لا دليل عليه من الكتاب والسنة وهو المراد وهو المطلوب وهو موْرد النزاع وهو الذي لا يقدر أحد أن يأتي بدليل عليه، ولذلك يلجأ المنازع إلى أدلة تعذيب الكفار الذي هو مُسَلَّم من الجانبين لا نزاع فيه ومُنكره كافره، والعرب تُسمّي الأثافي التي يوضع عليها القِدر وعادةً تكون ثلاثة أحجار يُسموّنها : خَوَالد، لبقائها بعد أهلها مدة طويلة مع أنها في النهاية تزول لكن سموّها بهذا الاسم لأجل بقائها مدة بعد رحيل القوم، كذلك يقال : سجنُ مؤبّد وقيْد مخلّد والمقصود في ذلك بيان طول المدة لأن السجين قد يخرج وإلا فهو حتماً ينقضي عمره ويموت وليس إلى مالا نهاية . وذكر الخلود والتأبيد في كلام العرب كثير ويريدون به المكث الطويل لا عدم النهاية .
ثالثاً : قد تبيّن أن الخلود والتأبيد معناه المكث الطويل فهل يكون مكث أهل الجنة فيها كمكث أهل النار فيها لأنه كما جاء ذكر الخلود والتأبيد لأهل النار جاء كذلك لأهل الجنة ؟.
الجواب : صحيح أنه ورد ذكر الخلود والتأبيد لأنه الجنة لكن ليس ذلك هو الدليل وحده على دوام الجنة وبقاء أهلها حتى يُساوى بين الأمرين :
فأولاً : الجنة مُوجب الفضل والنار موجب العدل والمساواة بين الفضل والعدل تنقّص لرب العالمين .
__________
(1) مجموعة الفتاوى 7/108 .(1/37)
ثانياً : هناد أدلّة لدوام الجنة ونعيم أهلها لم يأت مثلها في النار وعذاب أهلها وذلك قوله تعالى : {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} وقوله : {عطاء غير مجذوذ} وقوله : {أكلها دائم وظلها} وقوله: {فلهم أجر غير ممنون} غير مقطوع فهذه أدلّ’ بقاء الجنة، وأيضاً فإنه مقابل أدلّة بقاء الجنة ودوامها وردت أدلة فناء النار وانتهائها كما يأتي إن شاء الله فقد تبيّن الفرق، وتقدم في كلام الشيخ هذا وهذا .
معنى كلمة ( لا يفنيان )
رابعاً : هل قول أهل السنة عن الجنة والنار أنهما (لايفنيان) مستقيم وصحيح من القول بفناء النار ؟
الجواب : نعم صحيح مستقيم ولذلك تجد ذلك مذكوراً في عقائد القائلين بفناء النار ولذلك اغترّوا بقول شيخ الإسلام وابن القيم : (لا يفنيان) لظنهم أن هذا معارض لفناء النار وحدها، فقول أهل السنة : (لايفنيان) يُنكرون بذلك على القائلين بفناء الجنة والنار جميعاً من الجهمية والمعتزلة كأبي الهذيل العلاّف وجهم ونحوهم الذين يزعمون أن الرب عز وجل لم يكن قادراً في الأزل حتى خلق لنفسه قدرة فَفَعَلَ بتلك القدرة وأنه فيما بعد سوف يعود إلى عدم القدرة والعجز عن الفعل فتفنى الجنة والنار معاً حيث لايقدر الرب على إبقائهما وأهلهما فتعدمان وهذا مبني على أصول الجهمية كما يقولون : كلامه مخلوق وينفون صفاته سبحانه وتعالى عما يقولون فيردّ عليهم أهل السنة بقولهم : (لايفنيان) يعني على مقتضى هذا الاعتقاد الباطل، أما فناء النار وحدها فتكلم به الصحابة كما فهموه من القرآن وتكلم به أهل السنة بعدهم، فكَوْن الجنة والنار لايفنيان كما اعتقد أهل الضلال شيء وفناء النار وحدها بتحوّل عذابها شيء آخر فلا تعارض بين الأمرين، ولذلك ردّ ابن تيمية على الجهمية قولهم بفناء الجنة والنار وهو الموضوع الأول في كتاب السّمهري وقرّر فناء النار وحدها فلا تعارض .
معنى فناء النار(1/38)
خامساً : ما معنى فناء النار ؟ وكيف تكون نهايتها في نفسها إذا كانت لا تعدم كما يزعم الجهمية وأمثالهم ؟
الجواب : معناه تحوّل عذابها بانطفائها وهذه نهايتها في نفسها لأن سِرّ مسألة فنائها هو أنها لاتدوم بدوام الله ولا أحد يستطيع أن يأتي بدليل واحد من الكتاب والسنة على دوامها بدوام الله.
آيات الوعيد تجتمع مع القول بالفناء
إفهم معنى ( مادامت النار باقية )
سادساً : يقول تعالى : {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} ويقول : رلا يفتّر عنهم من عذابها} ويقول : {وما هم بخارجين من النار} وغير ذلك من الوعيد كيف يجتمع هذا والقول بفناء النار ؟.
الجواب : يُقال في هذه الآيات ونحوها : (ما دامت باقية) كذلك الخلود والتأبيد (ما دامت باقية) وهو الأحقاب التي ذكر الله وقد تكون آلاف أو ملايين السنين هذا علمه عند الله فما دامت النار باقية فهم مخلدون فيها ولا يفتر عنهم من عذابها وكلما نضجت جلودهم بُدلوا جلوداً غيرها، وهذا كله يعرفه القائلون بالفناء ويعتقدونه ويجتمع هو والقول بالفناء بلا معارضة وقد تبيّن والحمد لله .
أدلة من الكتاب على فناء النار
سابعاً : وماهي أدلّة الكتاب على فناء النار ؟
الجواب :
1- قال تعالى في سورة النبأ : {لابثين فيها أحقاباً} وهؤلاء كفار قطعاً لأن الله عزّ وجل وصفهم بقوله : {إنهم كانوا لايرجون حساباً} ووصفهم بقوله : {وكذبوا بآياتنا كذاباً} وهذا بلا شك منطبق على الكفار،وكل ما يُتأول غير ذلك فهو فاسد لأنه سياق واضح بيّن في الكفار ومع هذا ذكر أن لبثهم في النار أحقاباً، والأحقاب وإن طالت إلى ملايين السنين فهي تنتهي يوضح ذلك أنه لا يصلح ولايصح أن يقال : إن الله يدوم أحقاباً لاسْتشعار النهاية ولو طالت المدة وقد فهم ذلك الصحابة رضي الله عنهم وثبت عن بعضهم ولم تثبت المعارضة من الصحابة .(1/39)
2- قال تعالى في سورة الأنعام : {ويوم يحشُرُهُم جميعاً يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} إلى قوله : {إنهم كانوا كافرين} هذا خطاب للكفار وقد قال تعالى: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} ومع هذا قال تعالى: {إلا ماشاء الله} بعد ذكر خلودهم في النار وهم الكفار قطعاً.
3- قال تعالى في سورة هود : {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} وهي في الكفار ومع هذا استثنى، أما الاستثناء في أهل الجنة فقد وَصَلَهُ سبحانه بقوله : {عطاء غير مجذوذ} وتقدم ذكر الآيات التي تبين دوام نعيم أهل الجنة .
أدلة من السنة على فناء النار
ثامناً : ماهي أدلة السنة على الفناء ؟
الجواب : ورد أحاديث مرفوعة وموقوفة ذكرها ابن القيم في حادي الأرواح وشفاء العليل والصواعق المرسلة أذكر هنا بعضها وأحيل على الباقي هناك وذكر بعضها ابن تيمية كما تقدم، خرّج عبد الرزاق وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي نضرة عن جابر بن عبدالله أوْ أبي سعيد أو رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {إلا ماشاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال : (هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن {خالدين فيها} تأتي عليه) .(1/40)
قال الألباني : وإسناده صحيح موقوف، وإنما ذكرت تصحيح الألباني لأنه من المنكرين لفناء النار بل والطاعنين على شيخ الإسلام وتلميذه من أجل ذلك أنظر : رفع الأستار ص78 التعليق، ومن رواية إسحاق بن راهوية : حدثنا عبيد الله حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : (ما أنا بالذي لا أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لايبقى فيها أحد وقرأ قوله : {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} الآية .
قال الألباني : وسنده صحيح، أنظر رفع الأستار التعليق ص75 فهو يصحّح عن الصحابة ويعارض وهذه مصيبة، ومن الباطل البيّن أن يُقال : المراد أهل التوحيد فهذا مُنتهى منه ومعروف، كيف وقد قرأ أبو هريرة هذه الآية وهي في الكفار .
مصير أهل النار بعد فنائها
تاسعاً : ماهو مصير أهل النار بعد فنائها ؟
الجواب : ذكر ابن القيم كلاماً لابن عباس أن الله يأمر النار فتأكلهم، وقال هو : إن الله قادر أن يُنشئهم نشأة أخرى يرحمهم فيها والله أعلم {إن ربك فعال لما يريد} .
هل القول بفناء النار يُهَوّن المعاصي ؟
عاشراً : هل القول بفناء النار يُهَوَّن على العصاة المعاصي ؟
الجواب :
1- هذه مسألة متفرّعة ليست هي الأصل ولم يكن كلام السلف في هذا وإنما كان النزاع هل تدوم النار بدوام الله أم أنه يأتي عليها وقت ولو بعد آلاف السنين يتحول فيها عذابها ؟ وتقدم ما يشفي ويكفي .
2- الذين زعموا تهوين المعاصي على العصاة إنما قالوا ذلك لعدم فهمهم معنى القول بفناء النار حيث ظنوا معارضته للخلود والتأبيد وقد تقدم ما يبيّن فساد هذا الظن .
3- هذا القول لم يُستحدث في هذا الزمان فهو مُثبت في دواوين أهل السنة المتنشرة بين الناس.
أهل السنة ينكرون مذهب الخوارج ولا يقولون
إنكار مذهبهم يُهَوّن المعاصي(1/41)
4- أهل السنة يُنكرون على الخوارج تكفيرهم الناس بالذنوب يذكرون هذا في عقائدهم ولايُخفونه بل يُلحقون من اعتقد ذلك بهم، ولم يقولوا : هذا يُهَوِّن على العصاة الذنوب لأن الحق حق في نفسه لا يتغيّر بالآراء والفهوم الخاطئة .
إنكار الحق يوقع في محاذير قد لايشعر
بها الإنسان
5- الذي يُنكر فناء النار خشية تهوين المعاصي يقع في محاذير أعظم مما فَرَّ منه حيث يصف الرب عز وجل بغير ما اتصف به من أنه أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين يُعذب لحكمة لا لمشيئة مجرّدة، ولم يعرف معنى ما ورد في حديث الشفاعة الصحيح : (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ولا معنى حديث : (إن رحمتي تغلب غضبي) الذي قال في معناه ابن تيمية : هذا عموم وإطلاق فإذا قُدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتّة، وليس معنى ذلك أنْ يُفاتح في ذلك الناس أويُعرض عليهم دون مناسبة تدعوا إلى ذلك إنما المراد أنه حق في نفسه وإنكاره باطل .
6- هذا الاعتراض والطعن واعتراض على الحق فقد تبيّن أن ذلك مذكور في القرآن والآثار كذلك هو طعن على الصحابة الذين تكلموا به وعلى الآئمة بعدهم الذين ذكروه بمناسبته بياناً للشريعة وذبّاً عنها من بيان حكمة الرب تعالى ورحمته لما أنكر ذلك أهل الضلال.(1/42)
7- لقد تكلم في المسألة الصحابة فمن بعدهم وما رأيت أحداً تعرّض لهذه الشبهة التي شنّع بها علينا المخالفون وحتى المتأخرين مثل الصنعاني والشنقيطي لا أعلم أنهم ذكروا هذه الشبهة وإنما يتكلمون في المسألة هل هي حق أم باطل، والألباني رغم ردّه هذا القول وتشنيعه على الشيخ وتلميذه من أجل ذلك لم يذكر تهوين الأمر على العصاة أوتعظيمه، وحتى الذين طُبعت لهم كتب في ذلك مثل الحربي والسّمهري لم يتعرضوا لتهوين المعاصي على العصاة أوتعظيمه وإنما انفرد به من يُريد التشنيع علينا فأشاعوه وأذاعوه وتلقّفه بعض الناس بلا رَوِيَّة، وإذا كان ردّ مذهب الخوارج وإنكاره لم يُهَوِّن المعاصي فكذلك هذا لأنه ليس فيه إنكار للعذاب ولا الخلود ولا التأبيد ولا جميع ما ورد الوعيد وإنما هو فقط أن النار لا تدوم بدوام الله وقد بيّن الله ذلك في كتابه فقيدّه بالأحقاب كذلك آيتي الاستثناء وتقدم بيان ذلك .
جَزْمُ ابن القيم بفناء النار
الحادي عشر : بعض الناس يقول : لم يجزم ابن القيم بالقول بفناء النار، وبعضهم يقول : زلّة عالم .
الجواب : ليس الأمر كذلك فابن القيم جازم بذلك لا يستريب فيه وإن كان عَرَضَ المسألة في بعض المواضع (1) بنقل أقوال النافين والمثبتين فقد حَرَّرَ المسألة بنفسه وجرّدها من الأقوال في الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة وسأذكر هنا إن شاء الله بعض أقواله التي تبين لا جزمه فقط ولكن إنكاره على من أنكر ذلك مثل قوله : فما قَدَرَ الله حق قدره من نسب إليه ذلك يعني التعذيب الذي لا نهاية له وهذه عبارته وهو يُقرّر الفناء قال : وكل هذا ينفي أن يخلق خلقاً لمجرّد التعذيب والألم والزائد على الحدّ فما قَدَرَ الله حق قدره من نسب إليه ذلك (2)
__________
(1) حادي الأرواح، وشفاء العليل .
(2) الصواعق مختصر الموصلي 1/353 .(1/43)
وقال : أما خلق نفوس لمجرّد العذاب السّرمدي لا لحكمة ولا لمصلحة فتأباه حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين (1) .
وقال : فلا يظن من ساء فهمه أن هذا يُناقض ما أخبر الله ورسوله به واتفق عليه سلف الأمة أنهم مخلدون في النار. (2) إلى آخره فذكر أنّ ظَنّ تعارض الفناء مع إثبات الخلود كما ورد في الشرع من سوء الفهم، فالذي يقول مثل هذه العبارات كيف يقلا عنه : أنه لم يجزم، وشيخه ابن تيمية يقول على حديث : (غلبت رحمتي غضبي) يقول وهو يقرّر الفناء : وهذا عموم وإطلاق فإذا قُدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتّة وتقدم.
وقال ابن القيم : وإلا فأي مصلحة لهم في عذاب لا ينقطع وهو دائم بدوام الرب تعالى، وبعد أسطر قال : ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار فإن أسفر لك صبح الصواب وإلاّ فردّ الحكم إلى ما ردّه الله إليه بقوله : {إن ربك فعال لما يريد} (3) .
__________
(1) الصواعق مختصر الموصلي 1/355 .
(2) الصواعق مختصر الموصلي 1/361 .
(3) الصواعق مختصر الموصلي 1/362 .(1/44)
هذا الكلام موَجَّه إلى القاريء الذي لم يُسفر له صبح الصواب أن النار تفنى فأحاله على قوله تعالى : {إن ربك فعال لما يريد} وقد قال في معنى هذه الآية ص271 حادي الأرواح : فإنه قال في أهل النار : {إن ربك فعال لما يريد} فعلمنا أنه سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلاً لم يخبرنا به وقال في أهل الجنة {عطاء غير مجذوذ} فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبداً فالعذاب مؤقت والنعيم ليس بمؤقت ولا معلّق، إنتهى فانظر كيف أحال القارئ الذي لم يسفر له صبح الصواب إلى هذه الآية مع قوله فيها : فالعذاب مؤقت، وقال في حادي الأرواح بعد أن قرّر الفناء في تسعة عشر صفحة من صفحة 270 إلى صفحة 289 قال في آخر البحث : فإن قيل : فإلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟ قيل : إلى قوله تبارك وتعالى : {إن ربك فعال لما يريد} وقد تقدم قوله في الآية : فالعذاب مؤقت، فإلى هنا انتهى قدمه وهو الفناء، أما شفاء العليل فقال في آخر بحث هذه المسألة : والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم يكن مطابقاً لخبره عن نفسه بذلك وإلاّ كان قولاً عليه بغير علم والنمصوص لا تُفْهِمُ ذلك والله أعلم فقوله : (والنصوص لا تُفْهِم ذلك) معناه أن النصوص لا تُفهم أن النار وعذابها دائم بدوام الله فهو قول بغير علم قطعاً فكلامه بيّن، ولذلك لو كانت النصوص تُفهم دوامها ما قال بفنائها ولا شيخه بل النصوص تُفهم فنائها وقد وضّحا ذلك رحمهما الله، وقد فَهِمَ الألباني من هذه العبارة جزم ابن القيم ويأتي بيانه إن شاء الله .
تكلم الشيخ وتلميذه بمسألة فناء النار
دفاعاً عن الدين
الثاني عشر : لماذا بحث شيخ الإسلام وابن القيم هذه المسألة؟(1/45)
الجواب : هي كما تقدم بيانه ليست أمراً مستجداً بل تكلم بها الصحابة تفسير للقرآن، وأما الشيخ وتلميذه فتكلما بها دفاعاً عن الدين وذلك أن الجهم بن صفوان أنكر أن يكون الله أرحم الراحمين ويقول : بل يفعل ما يشاء يعني بلا حكمة ولا رحمة وقد سلك طريقته الأشعري وغيره، ذكر ذلك الشيخ ثم قال : ومن أعظم ما غلّطهم اعتقادهم تأبيد جهنم فإن ذلك يستلزم ما قالوه وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، وقد تقدم شرح هذه العبارة، فتكلم الشيخ وتلميذه بهذه المسألة ليثبتوا حكمة الرب سبحانه ورحمته ويبيّنوا خطأ الجهم ومن تبعه باعتقادهم تأبيد جهنم الذي كان من أعظم أسباب غلطهم فالذين يعتقدون تأبيد جهنم اليوم ودوامها لهم نصيب بهذه المشاركة في الاعتقاد وإن كانوا قد لايشعرون.
وأما قوله الشيخ : فإن ذلك يستلزم ما قالوه فمعناه أن أعتقاد دوام وتأبيد جهنم يستلزم نفي حكمة الرب ورحمته يوضحه قول الشيخ المتقدم : فإذا قُدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتّة.
أيّ حكمة في خلقه خلقاً يعذبهم بأنواع
العذاب الدائم الذي لا ينقطع ؟(1/46)
والذي يقرأ البحث من أوله في شفاء العليل في الباب الثاني والعشرين (في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره وإثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فَعَلَ وأَمَرَ لأجلها) فتأمل هذا العنوان للباب وقد قال هو عنه أنه أجلّ أبواب الكتاب وصَدَقَ رحمه الله والكتاب كله نفيس، فبعد حوالي خمسة عشر صفحة من بداية هذا الباب قال فصل : قال نفاة الحكمة فذكر اعتراضاتهم منها : وأيّ حكمة في خلقه خلقاً يُعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع ؟ فهي مسألة خلق الأشقياء ؟ ولذلك يقول ابن الوزير في كتابه (إيثار الحق على الخلق) صفحة 96 : وصَنَّف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخروي وتبعه تلميذه ابن القيم الجوزية وبسط ذلك في كتابه (حادي الأرواح إلى ديار الأفراح) فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدْت عليه . إنتهى . وطلبوا أيضاً الحكمة من أهل السنة في خلق إبليس والنار وغير ذلك فبيّن ذلك قدّس الله روحه وروح شيخه أتم بيان ودافع عن الدين ونزّه رب العالمين وأثبت حكمته في ذلك ورحمته، وإنه لمن الخذلان الاعتراض على هذا الإمام وشيخه في ذلك نسأل الله العافية وأعظم منه الاعتراض على الصحابة وأعظم منه الاعتراض على رب العالمين وقد يقع الإنسان في عظائم وهو لا يشعر كيف إذا اعتقد أن هذا نصرة للدين ؟ وكأنه يقول : لا أعرف لا رباً دائم الغضب دائم العقوبة تفنى قطرات البحار وحبات الرمل ولَوْ كانت كل قطرة مليون سنة وكل حبّة مليون سنة ولا يزول غضبه ولا تزول عقوبته ويظن بهذا أنه ينصر الحق ويُعظّم الرب وهو يصف الله بوصف يأباه سبحانه وَيُنَزَّه عنه، والخوارج قصدوا تعظيم الحق فوقعوا بما وقعوا به، وهكذا نصر المقالات الفاسدة لايؤول إلى خير.
طعن الألباني على الشيخ وتلميذه
لأجل القول بفناء النار(1/47)
والأعجب من صاحب هذا الكتاب الألباني الذي كتب مقدمة رفع (الأستار) للصنعاني وعلّق عليه حيث يقول في صفحة 21 عن الصحابة، وهم قدوتنا جميعاً لوْ صَحّ ذلك عنهم رواية ودراية ولم يصح، ومع هذا يقول في صفحة 75 على أثر أبي هريرة : (ما أنا بالذي لا أقول بأنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد) إلى آخره يقول : وسنده صحيح فإذا كان السند صحيح والكلام صريح فلماذا أقام الدنيا الألباني وأقعدها وحتى طعن على الشيخ وتلميذه بما لا مزيد عليه من أجل قولهما بالفناء ؟ كذلك فإنه صحّح أثر أبي سعيد الذي قال على قوله تعالى : {إن ربك فعّال لما يريد} قال : هذه الآية قاضية على القرآن كله يعني : {خالدين فيها} تأتي عليه .
يقول الألباني : وإسناده صحيح، انظر صفحة 78 من رفع الأستار، وهنا أريد أن أنقل بعض طعن الألباني على الشيخ وتلميذه لأجل قولهما بفناء النار من مُقدمته لرفع الأستار الذي كان السبب في كلامي بهذه المسألة وقد ذكرت بعض ذلك في (القول المختار)، قال الألباني في مقدمته ص21 عن فناء النار : فكيف ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر له تلميذه ابن قيم الجوزية، (وهذا طعن في ابن القيم لا يرضاه منصف إذْ المعلوم عنه الانتصار للحق سواء كان مع شيخه أوغيره)، وقال عن الشيخ وتلميذه : وقالا ما لم يقل أحد قبلهما، (وكأن الألباني يتخرّص، فالقول بالفناء منقول عن الصحابة وإلا فما معنى قول أبي هريرة المتقدم الذي صححه هو فإنه واضح بدلالة الفناء) .
وقال : وما أرى لهما يعني الشيخ وتلميذه في هذا إلا ذلك المؤمن الذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار (فشبّههما بالشاك في قدرة الله على إعادته) فقال في صفحة 22 : فما أشبه ابن تيمية به من حيث أنه غفل عن المعلوم يقيناً أيضاً وهو أن النار باقية لا تفني .(1/48)
وقال الألباني : وساعده على ذلك ظواهر بعض الآيات والأحاديث التي لم يُمعن النظر فيها فلم يتبيّن له خطأ استدلاله بها حتى استقرّ ذلك القول في نفسه وأخذ بمجامع قلبه فصار يُدافع عنه ويحتج له بكل دليل يتوهّمه ويتكلف في الرد على الأدلة المخالفة له تكلّفاً ظاهراً خلاف المعروف عنه، وتبعه في ذلك بل زاد عليه تلميذه وما شطة كتبه كما يقول البعض ابن قيم الجوزية أقول : لقد جانب الألباني الصواب .
ثم قال : حتى ليبدو للباحث المتجرد المنصف أنهما سقطاً فيما يُنكرانه على أهل البدع والأهواء من الغلو في التأويل والابتعاد بالنصوص عن دلالتها الصريحة وحمْلها على ما يؤيد ويتفق مع أهوائهم كما سترى ذلك مفصلاً في الرسالة هذه (ص116-122) حتى بلغ الأمر بهما إلى تحكيم العقل فيما لا مجال له فيه كما يفعل المعتزلة تماماً .
( أقول : نبرأ إلى الله من هذا الإفتراء وإذا كان الشيخ وتلميذه يُحكّمان العقل فيما لامجال له فيه كما يفعل المعتزلة تماماً فَبِمن نثق؟ وأخطأ الألباني ولَوْ كان القول بالفناء خطأ من الشيخ وتلميذه لما أوْجب هذا الطعن كيف وهما ولله الحمد على الصواب ولم يأت هو ولا غيره بدليل واحد على دوام النار مع الله) ، وقال في صفحة 23 عن الشيخ وتلميذه : فزعما أن عذاب النار سبب لإزالة آثار الخبث والنجاسة من الفار فإذا تطّهروا منها عادوا إلى فطرتهم الأولى فيزول العذاب ويبقى مقتضى الرحمة كما سيأتي ص122 نقلاً عن ابن القيم ومضى نحوه من كلام ابن تيمية فتأمل معي في ذلك تجده كلاماً خطابياً خيالياً لا حقيقة تحته.
(أقول : بضاعة نفيسة جُلبت في سوق الكساد وإلاّ فمن نظر في كلام ابن القيم في الكتب الثلاثة التي تقدم ذكرها وهو منصف يعلم حقيقة الأمر وأن باب المعرفة بالله عز وجل وأسمائه الحسنى وصفاته العلى الذي فُتح للشيخ وتلميذه قد لايُوفق له كل أحد).(1/49)
وفي صحفة 24 وَصَفَ الشيخ بالذهول، وفي صفحة 25 يقول: فكيف يقول ابن تيمية : (ولوْ قدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة) فكأنّ الرحمة عنده لا تتحقق إلا بشمولها للكفار المعاندين الطاغين . (والذي قاله ابن تيمية هو الحق والصواب وإنما قاله في معنى حديث : (غلبت رحمتي غضبي)، وقد حذف الألباني هنا أوّل عبارة الشيخ التي تبيّن المعنى فإنه قال : وهذا عموم وإطلاق فإذا قُدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة يعني لابدّ أن تغلب الرحمة وإلا بطل معنى الحديث فهو عام مطلق يوضحه ماورد في حديث الشفاعة : (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)، فالرب سبحانه يشتد غضبه يوم القيامة وجميع الخلق في الموقف ولم ين ذلك هكذا ثم بعد ذلك يذهب غضبه لغلبة الرحمة وذلك بعد أن تأخذ النار من أعدائه مأخذها ومعلوم أنهم ينكسرون إنكساراً فوق ما يوصف ويذلّون ذِلاً فوق التقدير ويعترفون بذنوبهم كما ذكر الله عنهم حيث يكابدون من العذاب مالا يُطاق ويتجلّى لهم ظلمهم لنفوسهم فيمقتونها أشد المقت مع أنهم يدعون ربهم في الجحيم بإخلاص تام فما المانع لِرَان الشرك الطاريء على قلوبهم أن يزول بعد الخلود والتأبيد ويعودون إلى ما فُطِروا عليه لم يُفْطَروا على الشرك والرب سبحانه يقول : {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} وأنا أعلم أن هذا الخطاب لأهل الدنيا ليس لأهل النار لكن أريد الإشارة إلى صفات لله سبحانه وأنه يُعذب لحكمة لا للتّشفي كما يفعل المخلوق فعجب لا ينقضي أن يُنكَرَ مثل هذا والنصوص واردة به فيُنكر نقلاً وعقلاً كما يَدّعي البعض فالنقل تبيّن، أما العقل وليس الاعتماد عليه وحده لكن يقال : كيف يحيل العقل مثل هذا وإن لله المثل الأعلى فلَوْ أن أقسى الخلق قلباً وأغلظهم طبعاً وأعتاهم عتوّاً أمسك عدوّه الذي قتل أولاده وبناته وأخذ ماله وأراد قتله وفعل معه مافعل من الضرر والأذى وفي الآخر أمسكه فسلّط(1/50)
عليه من العذاب أشدّه ومن النقمة أعظمها وصب عليه العذاب صبّا والأعوام تتكرر والعذاب يزداد والمعذَّب منكسر ذليل مُعترف بذنبه، ويزداد مع الزمان إنسكاراً وذلاً واعترافاً ويُقرّ بخطئه وجُرْمه ويمقت نفسه فهل يستحيل على المخلوق أن يرحمه بعد أن صار في قبضته ورهين أسره وعذابه زماناً طويلاً فكيف بأرحم الراحمين الذي هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها والذي يُعذّب لحكمة لا للتشفي كالمخلوق وقد خلق كل عباده على الفطرة ؟ ولا أريد أن استمر في هذا وأُطيل فالذي يُريد ورود هذه المناهل العِذاب من معرفة الرب عز وجل وحكمته ورحمته فلينظر ماذكره ابن القيم في حادي الأرواح على هذه المسألة وشفاء العليل والصواعق، فالكلام إنما هو في معرفة الرب عز وجل وأعوذ بالله ممن لا يُريد إلا أن يعرف رباً دائم السخط دائم الغضب لايمكن أن يرضى ولايرحم ولا بعد عَدَدَ قطرات البحار وحبات الرمل لو أن كل واحدة مليون سنة، فهذه معنى عقيدة القائلين بدوام النار مع دوام الله وهم يعلمون أن هذا لازم قولهم وحقيقته ويلتزمونه أيضاً حيث لا مفرّ لهم منهم إلا إذا اعترفوا بالفناء فقد قال صاحب كتاب (تنبيه الأخيار) مُعلّقاً على كلام البربهاري الذي يقول عن النار أنها باقية مع بقاء الله قال : وهذا الإطلاق وإن لم يَرِدْ إطلاقه في الكتاب والسنة والكن هذا لازم التأبيد ولازم الحق حق إذا التزمه صاحبه، إنتهى. فهُو يبين أن البربهاري قد التزم ذلك ويعلم أن هذا لازم القول بالبقاء يعني مع بقاء الله ويُقرّر ذلك العلوان ويلتزمه حيث لا مفرّ لهم من ذلك فَلَوْ قالوا : بعد عدد قطرات البحار وحبات الرمل لو كانت كل قطرة وحبة مليون سنة تفنى النار لرجعوا عن قولهم بالدوام فأيّ شيء هذا وأي عقول هذه ؟ (1)
__________
(1) كذلك لوْ قالوا : لا نقول : تدوم بدوام الله فهذا إقرار بفنائها ..(1/51)
وأخشى أن هذه القلوب قد بلغت من التحجّر والقسوة مالا يُحيط به إلا الله وكأنهم يقولون : يشتدّ علينا أن نؤمن إلا برب لايُتصور له رحمة لمن بالغ في الإساءة إليه وَلَوْ عذّبه بأشدّ العذاب أضعاف أضعاف عمره بما لايحْصَر، ولقد أضَرَّ بالخوارج وأهلكهم زعمهم تعظيم الحق لما أتَوْا البيوت من ظهورها فالله المستعان، وكلامي قليل مما استفدته من كلام الشيخ وتلميذه رضى الله عنهم الذي يقول عنه الألباني : كلاماً خطابياً لا حقيقة تحته.
فإذا قيل : إن القول بفناء النار تهوين الأمر على العصاة فيقال : نعم هو تهوين بالصورة التي تصوّرها مَنْ لم يفهم كلام القائلين بالفناء حيث ظن أن ذلك مُعارض للخلود مبطل للتأبيد، وعلى كل حال فهذا فَهْمٌ سَيئ وقد تقدم بيان ذلك وكيف يَهُون على عاص أوكافر العذاب بنار الدنيا ساعة بل دقيقة فهذا لَوْ قُدِّر وجوده يعني التهوين مع أنه كما ذكرت إنما أراد به المنكرون التشنيع ولَمْ أَرَ له ذكر في كلام العلماء الذين تداولوا هذه المسألة، وَحَسْبُ من يقول بدوام العذاب مع الله أنْ يُنَفّر عنه وأنْ يصفه بغير ما اتصف به سبحانه من أنه أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأن تعذيبه للكفار لايُعَلّل بحكمة .(1/52)
وبعد هذا كله نقول : لَوْ سلّمنا أنه تهوين على العصاة فهل يقول المنازعون : صحيح فإن أدلّة الكتاب والسنة تدل على الفناء لكن أتركوا الكلام في ذلك ففيه تهوين على العصاة يقال : هم يقرأون القرآن وفيه آيات الاستثناء وفيه ذكر الأحقاب ولم يُفاتحوا بذلك ويُخْطَبُ عليهم به لكن تُذكر المسألة بمناسبة ذكرها، ولا أبالغ ولا أكذب إذا قلت : إن إخواننا الذين تَصَدَّوْا لِرَدّ وتأكيد التبديع والتضليل والهجر أننا نعتبر مَنْ يُصارم وهو مُنْطوٍ على غِلٍّ وغَيْض لكن لايُبَدّع نعتبره أَخَفّ من غيره أقول : لا أُبالغ إذا قلت : إنهم هم الذين شهروا هذه المسألة ونشروها وعَظّموا شأنها بالباطل وفَهَّموا الناس الأمر على غير وجهه دَعْ مايُزَاد ويُحَرَّف ويُكْذَب فالله المستعان، والإنسان يَسَعَهُ في أمور كثيرة لايحيط بها علمه أن يقول : الله أعلم لم يُلْزم أحداً بشيء لكن إنكار الحق باطل.
والمراد هنا طعن الألباني على الشيخ وتلميذه وأنه شديد لايُحتمل لَوْ كان ذلك غلطاً منهما، كيف وهو الحق والصواب، قال الألباني بعد الكلام السابق : أليس هذا من أكبر الأدلّة على خطأ ابن تيمية وبُعْده هو ومن تبعه عن الصواب في هذه المسألة الخطيرة فغفرانك اللهم، ولَعَلّ ذلك كان منه إبّان طلبه للعلم وقبل توسّعه في دراسة الكتاب والسنة وتضلّعه بمعرفة الأدلة الشرعية في الوقت الذي كان يُحسن الظن بابن عربي الصوفي القائل بأن عذاب الكفار في النار لا يستمر بل ينقلب عليهم إلى عُذُوبة يتلذّذون بها كما في حادي الأرواح 2/168 فلما تبيّن له حاله رجع عنه .(1/53)
أقول : هذا هو الكلام الخطابي والخيالي الذي لا حقيقة له وهو فَتْح باب تشكيك في علم الشيخ وليس المنكَر قول الألباني : أن ابن تيمية كان يحسن الظن بابن عربي، فهذا كلام الشيخ نفسه فقد قال: وإنما كنت قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي ويُعظّمه لِمَا رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من (الفتوحات) و (الدّرة الفاخرة) و (مطالع النجوم) ونحو ذلك ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصودة ولم نطالع (الفصوص) ونحوه . إنتهى .
إلى هنا مانقله الألباني من كلام الشيخ في الفتاوى (2/464-465) ويقال للألباني عذرك عن الشيخ أقبح من فعلك فهذا فيه تشكيك بعلمه وكتبه ومَنِ الذي كشف أستار ابن عربي وغيره من الإتحادية مثل الشيخ فكيف يليق أن يُقال في مثل هذه المسألة الطويلة العريضة التي أصلها الحكمة في خلق الأشقياء وفي أسماء الرب وصفاته من حكمته ورحمته وخلق النار وإبليس وهي أعظم من الدنيا كما اشتهر لها هذا الوصف من كلام ابن القيم، ثم يقال : لعل ذلك كان وهو يحسن الظن بابن عربي، سبحان الله كيف يكون هذا، وإذا كان شيخ الإسلام قال قبل الكلام السابق الذي نقل عنه الألباني في مقدمة رفع الأستار ص26 قال الشيخ في وصف الإتحادية ابن عربي وطائفته : وهؤلاء مَوَّهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى به الكتب وبعث به الرسل بالإتحاد الذي سمّوه توحيداً وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق ثم ذكر الكلام السابق قوله : وإنما كنت قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي وفي آخر الكلام الذي نقل الألباني منه عرضه وترك أوله وآخره .(1/54)
قال الشيخ : وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ونكشف حقيقة الطريق فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا. إنتهى. ويكفي أن هاتين العبارتين مقترنتان قبل الكلام الذي نقل الألباني وبعده وقد تركهما، ثم إن الشيخ قال في نفس الصفحة التي نقل منها الألباني عبارة الشيخ قال عن ابن عربي وطائفته : والله تعالى يعلم وكفى به عليماً لَوْلا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق وتُهتك أستارها . إنتهى . وهو قليل من كلام الشيخ في ابن عربي وأشباهه فكيف يُعْتَذَر للشيخ بمثل ما قال الألباني مع أن الشيخ وتلميذه بسطا المسألة وتكلما بأدلة الكتاب والسنة وحاشاهما من عدْوى الإتحادية .
وقال الألباني في صفحة 29 : فإننا نرى المقلّدة في كل عصر ومصر يعادونه أشدّ العداء [يعني ابن تيمية] لا سيما إذا عثروا له على قول خالف فيه العلماء كمسألتنا هذه فهناك تراهم يصولون ويجولون ومِنْ عِرضه ينالون وفي دينه يطعنون بل وبالكفر والضلال يُصرّحون كما يفعل الكوثري والحبشي وغيرهما إلى آخره .
وأقول : وأنت فقد أدْلْيت بدلولك وطعنت في الشيخ وتلميذه وها هو كلامك لايستره الذيل ولا يُغطيه الليل إلا أن تخرج منه بيان يعلمه الناس كيف وق قلت في صفحة 120 تعليقاً على قول الصنعاني : فالقول به بدعة قطعاً يعني الفناء، فقلتَ في التعليق : قلتُ : وهذا هو الصواب جزماً .(1/55)
أقول : وقد ثبت عن ابن تيمية وتلميذه وأجلّ منهما بعض آثار الصحابة التي صحّحتَ أنت والآيات القرآنية فما تقول الآن؟ ثم ليذكر الألباني قوله في صفحة 14 : ولقد كان أملي كبيراً في أن أجد رسالة ابن تيمية هذه محفوظة في : (مجموع الفتاوى) التي جمعها الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن قاسم في خمس وثلاثين مجلداً ولكني مع الأسف لم أجد لها أثراً في شيء منها بعد تقليبي لها كلها إلى آخر ما قال، والآن ما يقول الألباني في مخطوطة السمهري وما يقول من قلّده ؟ ولست ولله الحمد أجعل كلام الشيخ ولا غيره حجة وإنما الحجة في كلام الله ورسوله أما العالِم فيُطلب لكلامه حجة من الكتاب والسنة لا يُجعل حجة وحده ولقد اتُّهِمْنا بما هو أعظم من ذلك فالله هو المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل والمراد هنا النبيه ولعل من حصل منه خطأ يرجع عنه لدفع الضرر عن نفسه وعمن حسّن الظن به فاتبعه على خطئه بعد أن ظهرت رسالة الشيخ التي تمنى الألباني العثور عليها .
ثم يقول الألباني في صفحة 30 : فهل من العدل في شيء أن يتخذوا شيخ الإسلام رحمه الله غرضاً للتكفير والتضليل لقوله هذا ونحوه من الأقاويل إلى آخره .
وأقول : وأنت ألم تشعر بما قلت ؟ قلتَ عن الشيخ وتلميذه : أنهما قد سقطا فيما ينكرانه على أهل البدع والأهواء وقد تقدم، وقلت : حتى بلغ الأمر بهما إلى تحكيم العقل فيما لا مجال له فيه كما يفعل المعتزلة تماماً وغير ذلك فهل كنت لا تشعر بما تكتب أما ماذا ؟ .
وقال في صفحة 31 : ولست بالذي يتتبع زلات العلماء وإنما هي الأمثال نضربها للناس لعلهم يتذكرون .(1/56)
أقول : إذا تنزّلنا أنهذه زلّة للشيخ وتلميذه الذي أبقيته حتى تقول هذا ؟ لقد أقمت الدنيا وأقعدتها على الشيخ وتلميذه وتقول هذا، فلو كنت تتبع زلاّت العلماء فما الذي سوف تزيده على الشيخ وتلميذه ؟ وهذا كله تنزّل معك وإلا فنبرأ إلى الله أن نقول : هذه من زلات العلماء بل حق ندين الله به ونعوذ بالله أن تدّعي للشيخ أو تلميذه أو أي أحد غير الأنبياء عليهم السلام العصمة.
فَهْم الألباني جَزْم ابن القيم بالفناء
وقال الألباني في صفحة 36 : ويؤسفني والله جداً قوله المتقدم [يعني ابن القيم] : (والنصوص لا تُفهم ذلك) [يُريد الكلام الأخير الذي قاله ابن القيم في آخر شفاء العليل فهو مُتبين للألباني أنه يعني الجزم بذلك من ابن القيم بفناء النار] .
قال الألباني : كيف يتجرأ على مثل هذا القول والنصوص قاطعة في ذلك من الكتاب والسنة كما تقدم فلا جرم أجمعت على مدلولها الأمة، فالحق والحق أقول [ليت الألباني لم يقل هذه الكلمة]: لقد أُصيب ابن القيم في هذه المسألة مع الأسف الشديد بآفة التأويل التي ابتُلي بها أهل البدع والأهواء في مقالتهم التي خرجوا بها عن نصوص الكتاب والسنة فرد عليهم هو وشيخه ابن تيمية أحسن الردّ في كتبهما الكثيرة المعروفة فما بالهُ وقع في مثل ما وقعوا من التأويل ولقد كان أوله في تأويلهما قول عمر على انقطاعه : (لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه) إنتهى . وقد تبين كلام الشيخ في أثر عمر . (1)
وقال الألباني عن ابن القيم في صفحة 39 : ويجادل فيه ويصول ويجول يتأوّل النصوص الصريحة المخالفة له مما لا نعرفه عنه وإنما عن أهل البدع والأهواء الذين قضى حياته هو وشيخه في الرد عليهم والكشف عن ضلالهم .
أقول : أخطأ الألباني : والمتجرد للحق إذا تابع كلام ابن القيم في هذه المسألة عرف الصدق من الكذب .
__________
(1) إسماعيل الأنصاري رَدّ على الألباني كلامه على أثر عمر، ويأتي إن شاء الله .(1/57)
قال الألباني في صفحة 41 : فيا سبحان الله ما يفعل التأويل بأهله وإلى أيّ حضيض سحيق يَهْوُون به فيه وإلاّ فقل لي بربك : كيف يمكن لابن القيم أن يُنكر أبدية النار ببقاء أهلها فيها وعدم دخولهم الجنة مطلقاً لوْلا تشبّثه بذلك التأويل البشع وهو المعروف بمحاربته لعلماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة لِتأوّلهم كثيراً من آيات وأحاديث الصفات كاستواء الله على عرشه ونزوله إلى السماء ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من التأويل الذي هو أيْسَر من تأويله فقد قال به كثير من المتأخرين خلافاً للسلف، وأمّا تأويله فلم يقل به أحد منهم لا من السلف ولا من الخلف إلا تقليداً لشيخه ولقد كان من الواجب عليه أن يلتزم بقول أمامه الذي قال ناصحاً لكل سلفي : (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام) .
أقول : سبحانك هذا بهتان عظيم، تأويل علماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة الكثير من آيات وأحاديث الصفات كاستواء الله على عرشه مثل قولهم استولى ونزوله إلى سماء الدنيا مثل قولهم : ينزل أمره ومجيئه يوم القيامة غير ذلك من التأويل أيْسر من تأويل ابن القيم النصوص للقول بفناء النار، ولقد أخطأ الألباني ونبرأ إلى الله من هذا البهتان العظيم والحمد لله أنّ كُتب ابن القيم التي فيها كلامه متوفرة لا يكاد يخلو منها طالب علم وفيها ولله الحمد ما يُبيّن خطأه وبطلان قوله .
وقال الألباني في صفحة 41 عن الشيخ وتلميذه : فإنه في الوقت الذي مال إلى القول بفناء النار وانتصر له ابن القيم ذاك الانتصار الغريب المُتكلَّف إلى آخره، كل منصف يعلم ولله الحمد أن ابن القيم ليس ينتصر لشيخه بل ينتصر للحق .(1/58)
وقال الألباني في صفحة 44 : بعد أن ذكر بعض ما قاله ابن القيم في الوعد والوعيد قال : فتأمّل في هذا يتبيّن لك خطأ ابن القيم في بعض ما يدّعيه ويعزوه لأهل السنة دون قيد أو شرط فيكون ذلك مثار شبهة عنده تحمله على أن يتأوّل النصوص القاطعة الدلالة فيخرج بذلك عما عليه أهل السنة والجماعة فيقع في الخطأ من حيث لا يدري ولا يشعر .
أقول : الألباني كأنه لا يدري ما يقول وكأنه لا يفكر في كلامه فهو يردّ على ابن القيم قوله : في حادي الأرواح 2/221 : لوْ جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا انتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له لكانم ذلك وعيداً منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده، وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز يُمدح الرب تبارك وتعالى عليه إلى آخره .
يقول الألباني : فإذا لم يجز هذا الإخلاف في حق الموحدين فكيف يجوز الإخلاف الأبكر الذي هو في حق المشركين، وابن القيم لم يقصد أن الله يُخلف وعيده فلا يُعذب الموحدين ولا المشركين هذا فهم خاطيء، فإنه قال في أو الكلام : لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا إنتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له لكان ذلك وعيداً فكلام ابن القيم على النار نفسها لاتَعَرُّض فيه لِوعيد الموحدين ولا المشركين فليس إخلاف كما يزعم الألباني.
وقال الألباني في صفحة 47 : فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية زلّت به القدم فقال قولاً لم يُسبق إليه ولا قام الدليل عليه ومن هنا قالوا : زلّة العالِم زلة العالَم، فلو أننا كنا مُبْتَلين بتقليده كما ابتلى كل مقلد بتقليد إمامه لزللنا بزلته ولذلك قالوا : الحق لايعرف بالرجال إعرف الحق تعرف الرجال .(1/59)
أقول : الألباني ما عَرَف ولا أنصف، وقد ذكر أثناء ذلك مدحاً كثيراً للشيخ وتلميذه والإنسان يعجب كيف يتّفق هذا المدح مع هذا الطعن والقدح ؟ والملاحة بالقباحة لاتفي فمهما كان مدح الألباني فإنه لايمحو طعنه ولايُزيل أثره وإنه أسلوب غريب لم نتعوّده أنْ يجتمع مبالغه في الطعن والقدح من مبالغة في الثناء والمدح، فليتخلّص الألباني من ورطته قبل الفوات فالذي قاله في الشيخ وتلميذه عظيم وأعظم منه أنه أنكر الفناء إنكاراً شنيعاً فضيعاً بلا بصيرة، وفرق عظيم بين كلامه وكلام الصنعاني، وطعن الألباني هذا هو الذي دعانا للكتابة في هذه المسألة من الأصل وقد بيّنت ذلك.
كلام الشنقيطي وهو عجيب
وكذلك الشنقيطي لما أتى على هذه المسألة في كتابه (أضواء البيان) قال : أما ما يقول كثير من ابن قيّم الجوزية قد صنّفا في هذا: (يعني القول بفناء النار) مصنفات ممتعة وهذا كله يبيّن أن السمهري قد أتعب نفسه ولم يوفق للصواب وابن الوزير ليس من أعداء الشيخ ولا تلميذه وأخبر أنهما صنّفا في ذلك مصنفات ممتعة .
كتاب تنبيه الأخيار(1/60)
ويوجد كتاب مطبوع متداول بين الناس اسمه (تنبيه الأخيار) يقطع صاحبه بدوام النار ويُنكر على من يقول بفنائها ويقول إنه بدعة فما نبّه الأخيار لخير يعملون به أو لشرّ ليجتنبوه، والكتاب المذكور ليس فيه دليل واحد من الكتاب والسنة يدل على دوام النار بدوام الله، ولا يستطيع كاتبه ولا غيره أن يأتي بدليل واحد لكنه عَبَّاه من أدلة تعذيب الكفار في النار من خلودهم فيها وتأبيدهم، وأنه كلما نضجت جلودهم بُدّلوا جلوداً غيرها، ولا يفتر عنهم من عذابها، وماهم بخارجين من النار، ونحو ذلك مما لا يُنكر القائلون بالفناء حرفاً واحداً منه حيث يقولون في هذا كله وأمثاله : كله حق على حقيقته (ما دامت النار باقية) فهل أورد في كتابه أو غيره ممن ردّوا هذا القول دليلاً واحداً على دوام النار مع الله لأن هذا موْرد النزاع ليس النزاع في خلود الكفار فيها وعذابهم الأليم الشديد وخلودهم الطويل البعيد الذي لا ينكره إلا كافر، كذلك عَبّأ كتابه من كلمة : (لا يفنيان) وقد تقدم بيان هذا كله وأنه عقيدتنا في الردّ على الجهمية فلم يُنَبّه لخير ولم يحذّر عن شرٌ بل غرّ وضرّ فكم وكم ممن كان في غفلة عن هذه الأمور من عوام وغيرهم أدخلهم في عماية يحسبون أنها بصيرة ودراية .
ذكر المباهلة(1/61)
ولقد كان الأيسر من تكلّف طبع الكتاب ونشره أنه يباهلني حيث طلبت منه ذلك وبشكل عجيب كما هو مثبت في كتابي المطبوع (القول المختار لبيان فناء النار) طلبت منه ذلك قبل طبع كتابه وقبل طبع كتابي فما الذي منعه وهو قد تصدّر للأمر ؟ إن قال : بَاهَلَهُ غيري فصحيح لكن هذا غير مانع له هو بنفسه أوْ يُظهر بيان خطئه، والرجوع إلى الحق أحق (1) ، وبعض الناس يظن أن كتابه ظهر بعد كتابي كالردّ عليه وليس الأمر كذلك بل ظهر كتابي وكتابه في وقت واحد لكن هو يرد علينا لأجل ما ظهر من القضيّة لا على مقتضى ما في كتابي (القول المختار لبيان فناء النار) وسوف أنقل هُنا بعض فقرات من كتاب (تنبيه الأخيار) بعد أن ظهرت الحقيقة وتجلّت ليتبيّن عُظم ضرر الكتاب وأنه أدخل من تبعه في حيره وهو وإياهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فالمراد ظهور الصواب في المسألة .
ذكر في صفحة 3 : أنني أنسب القول بأن النار تفنى إلى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى ثم قال : وهما بريئان من هذا القول ... فمن الصادق ؟ الذي جاء بالبيّنة أمْ الذي أنكر مالم يُحط به علمه، قال في صفحة 5 : وبهذا يتضح أنه لايجوز نسبة القول بفناء النار إلى ابن القيم ولا شيخه، وصاحب الرسالة أتى بأشياء أخرى ليُلَبِّس على العوام والطغيام أتباع كل ناعق . انتهى.
__________
(1) وقد تراجع عن التضليل والتبديع .(1/62)
الرسالة التي يذكر ليست هي (القول المختار) لأنه ظهر مع كتابه وليس كتابه رداً على كتابي (القول المختار) والأشياء الأخرى التي زعم أنني أُلبّس بها لا أذكر ولله الحمد أنني لَبَسْت على عوام طغام أتباع كل ناعق ولا على علماء أجلاء أتباع كل صادق، ويجب عليه أن يُظهر تلبيسي لكن هو يقصد طلبي منه المباهلة، ولذلك قال: وأما كلامه فسنضرب عنه صفحاً لِسقوطه ولكونه ولا تعلّق له بمسألتنا، وأقول : المباهلة سنة ماضية لم نستحدثها، وقد ألّف شخص كتاباً كله في المباهلة وكيف كانت من الأصل كما في قوله تعالى : {فقل تعالوا ندعوا أبناءنا وأبناءكم} الآية . وكيف أنها مستعملة في الصحابة ومن بعدهم من العلماء وقد دعوته هو وغيره للمباهلة من أول المسألة . (1)
قال شيخ الإسلام : والمباهلة مبْناها على العدل. (2)
قال في صفحة 8 : وأحذِّر كل مسلم ومسلمة من القول بفناء النار لأن هذا القول خلاف ما عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. (3) إنتهى . ولم يأت بدليل واحد يُقيم دعواه .
قال في صفحة 9 : ومما يجدر التنبيه على خطورة تتبّع زلات العلماء لأنها هادمة من هوادم الإسلام . إنتهى . مرة يقول : ما قاله الشيخ ولا تلميذه، ومرة يقول : تتبع زلات العلماء .
قال في صفحة 10 : القول بفناء النار قول مبتدع والقول به بدعة لا شك فيه ولا ارتياب كما قاله الصنعاني وهو الحق والصواب.
__________
(1) مسألة المباهلة يوجد الآن لها كتاب مستقل مفصل فيه الرد على كل من خاض فيها بجهل .
(2) منهاج أهل السنة 3/11 .
(3) سيأتي إن شاء الله في ص98 الكلام على الإجماع ومن الأسعد والأولى به .(1/63)
وقال في الحاشية : نعم بالذي يذكره الأئمة في عقائدهم كلمة : {لا يفنيان} (سارت مشرقة وسرت مغرباً شتّان ما بين مشرق ومغرب) فقد تبين المراد مما يذكرونه بل النسخة الأولى من مخطوطة شيخ الإسلام التي سبق ذكرها كلها في الردّ على من يقول عن الجنة والنار : يفنيان، وقد تبيّن والحمد لله أنه غير مسألتنا هذه فذاك رَدّ على الجهمية، فكيف المخرج من التبديع فالأمر خطير وفظيع وليس الضرر متوقف على صاحب الكتاب بخاصته فالكتاب انتشر بكثرة كما يعلم هو وغيره فعلينا أن ننصح لنفوسنا ولغيرنا، فالقدوم على الحي القيوم . (1)
وفي صفحة 25 نقل قول البربهاري : (لا تفنيان أبداً بقاؤهما مع بقاء الله أبد الآبدين ودهر الداهرين) ثم قال : والبربهاري رحمه الله كان شديداً من أهل البدع كما قال ذلك عنه المؤرخون فمن أقواله الجيّدة المسدّة : مَثَلُ أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأيديهم في التراب ويخرجُون أذنابهم فإذا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فإذا تمكنوا بلغوا ما أرادوا. إنتهى .
أقول : كلام البربهاري حق وجيد ومسدّد كما قال فأهل ال بدع أسْوأ مما قال، وإنما الكلام على إيراده له هنا بعد أن أكّد أن القول بفناء النار بدعة كما في صفحة 10 من كتابه وحتى هذا في صفحة 26 التي فيها كلام البربهاري المتقدم في أهل البدع قال في التنبيه عن فناء النار : لأن القول بفناء النار قول باطل لم يدل عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة ولا إجماع العلماء ولا العقل الصحيح بل هو قول مبتدع مخالف للمنقول والمعقول.
__________
(1) ننبّه هنا أن صاحب كتاب (تنبيه الأخيار) يقول : لا أبدّع ولا أضلل من يقول بفناء النار . ويقول : الدوام والفناء قولان لأهل السنة . ويقول : لَوْ أعدت طبع كتاب (تنبيه الأخيار) لحذفت منه أشياء لا أقرّها الآن.(1/64)
وقال في صفحة 29 في الحاشية : عن مقدمة الألباني لرفع الأستار للصنعاني قال : فيها فوائد كثيرة لدحض القائلين بفناء النار فليرجع إليها، وتقدم بعض هذا الدّحض من الطعن على شيخ الإسلام وتلميذه.
وهو كلام عظيم قاله الألباني هو السبب في تعرّضي للمسألة من الأصل والبداعية وها هو يُحيل إليها القاريء ولايُنبه على طعن الألباني .
ونقل كلام ابن يابس كما يأتي إن شاء الله وفيه الطعن على الشيخ وتلميذه وقال عن رسالة الصنعاني (رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار) قال : وهي رسالة قيمة ينبغي لطالب العلم أن يقتنيها.
وفي صفحة 32 في الحاشية يقول : اما ابن القيم وشيخه فهما بريئنان من هذا القول (1) ، ويقول : لم يثبت القول بفناء النار عن ابن القيم كما تقدم إنما ساق أقوال العلماء إلى آخره، وقد بَيّنت والحمد لله جَزْم ابن القيم بل وإنكاره على من ظنّ أن الله يخلق خلقاً يعذبهم بعذابه السرمدي دائماً بدوامه وقوله : (ماقدر الله من ظن ذلك، ومن شاء فلينظر في الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم مختصر الموصلي وهل نَقَل قول أحد أو أنه يقرّر فناء النار تقريراً واضحاً وإلا كيف نفهم كلام العلماء ؟ وهو مُرْفق بهذا الكتاب.
وفي صفحة 36 نقل كلام ابن يابس وفيه : أن شيخ الإسلام وتلميذه يؤيدان القول بفناء النار فعلّق في الحاشية : تقدم أنه لايصح عنهما فنسبة القول إليهما بفناء النار خطأ قطعاً لأنه من أقوال أهل البدع .
__________
(1) يُلاحَظ أن مخطوطة شيخ ا لإسلام التي فيها تقرير الفناء كما تقدم إنما ظهرت بعد ظهور كتاب (تنبيه الأخيار) بسنين، كذلك ظهرت المخطوطة بعد مقدمة (رفع الأستار) بسنين أكثر، وقد كان الألباني يتمنى العثور عليها كما صَرّح بذلك في مقدمة رفع الأستار .(1/65)
وفي صفحة 37 يقول ابن يابس : أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله قد ذهبا يُؤيّدان القول بفناء النار وهي هفوةٌ كبيرة إن كان ذلك رأيهما، ويعلّق صاحب التنبيه في الحاشية على هذا الكلام ويقول : إي والله إنها لَهَفْوَة كبيرة عظيمة لَوْ ثبت ذلك عنهما لكن ولله الحمد لم يقولا بهذا ومن زعم ذلك فعليه البيان .
أقول : كان البيان بين يديه فثلاثة كتب لابن القيم فيها البيان والبرهان وهي معروفة مشهورة حادي الأرواح وشفاء العليل والصواعق مختصر الموصلي، وقد بيّنت ذلك فيما تقدم والحمد الله، والآن يُقال له جاءت مخطوطة الشيخ وفيها البيان والبرهان زيادة وهي التي بدأنا بها بهذا الكتاب وهي المؤلف المشهور الذي ذكره ابن القيم في (شفاء العليل) .
ومع تعليقاته على كلام ابن يابس لم يعلّق على قوله في صفحة (40) عن الشيخ وتلميذه : وقد أكثر رحمهما الله في هذا الموضوع من الفلسفة التي لا تغني في الاحتجاج والله يغفر لهما إن كان ذلك رأيهما . لم يردّ عن الشيخ وتلميذه هذا الطعن وهذه النسبة القبيحة مع أن الشيخ وتلميذه يُحاشا أن يقال عنهما : أكثرا من الفلسفة بل هذا بهتان، ومن الذي دَمْدَم الفلاسفة وكشف أستارهم مثل الشيخ وتلميذه ؟
وفي صفحة 46 قال عن دوام النار : وعلى هذا إجماع أهل العلم ولم يخالف أحد يُعْتَد بقوله أما ما نُسب لشيخ الإسلام وتلميذه فلا يصح عنهما فهما بريئان من هذا القول الباطل ولا يستطيع أحد أن يأتي بشيء صريح عنهما بالقول بفناء النار فالذي نعتقده وندين الله به أنهما لا يريان ذلك لمخالفته مقتضى العقول وصريح المنقول والله الموفق .(1/66)
أقول : قد تقدم مايبين أن قوله : ولا يستطيع أحد أن يأتي بشيء صريح عنهما بالقول بفناء النار مجازفة خطيره فما يقول الآن وكيف المخرج ؟. (1)
وفي صفحة 55 قال : والأحاديث في أبدية النار كثيرة جداً وقد تقدم بعضها .
أقول : من شاء فليرجع إليها فهي أدلة خروج الموحدين من النار وخلود الكفار فيها ومَن الذي نازع في هذا فأين أدلّة أبدية النار نفسها ؟ ليعلم القاريء أنه وغيره من القائلين بالدوام يصولون ويجولون بأدلّة تعذيب الكفار وخروج الموحدين من النار لعدم قدرتهم على إيجاد دليل واحد يدل على دوام النار بدوام الله. وهذا هو مَوْرد النزاع .
وقال في صفحة 59 : وبهذا البيان يتضح للقاريء أنه ليس مع من قال بفناء النار من الحجج إلا مما هو أوْهى من بيت العنكبوت.
ونقول : {وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون} وإنما المسألة حُمِّلتْ ما لا تحتمل فقد جرى بسبب ماقيل وكُتِب مايطول وصفه .
كتاب كشف الأستار للحربي
__________
(1) سبق وأن بيّنت في حاشية ص 51 أنه غيّر رأيه أخيراً بعدم تضليل وتبديع من يقول بالفناء، لكن يُراد منه الإقرار بالفناء كما ظهر واتضح لأنه تنزيه لله وإثبات لحكمته في التعذيب .(1/67)
وممن أدلى بدلوه أيضاً على الحربي فقد ألّف كتاباً سمّاه : (كشف الأستار لإبطال إدّعاء فناء النار المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيّم الجوزية) والعنوان كافٍ لمعرفة المضمون، ومما يبين أن الحربي وكثير غيره ممن ردّوا القول بالفناء أنهم يستعظمون شأنه لِظنهم معارضة ذلك لشدة العذاب والخلود للكفار والتأبيد ولذلك يقول الحربي في كتابه في صفحة 11 مُنَوِّهاً بأهمية هذا البحث قال : كيف وقد ذكر الله عز وجل النار في القرآن الكريم ما يقارب خمسين ومائة مرة أنها نار تحرق الجلود وتقطع الأمعاء والقلوب طعام أهلها الزقوم وشرابهم المهل والصديد وسرابيلهم القطران والحديد، إلى آخره . ولقد تبين للقارئ أن القول بالفناء لا يعارض هذا كله وتكرّر بيان ذلك، وأنه حاصل مادامت باقية .
وقال في صفحة 6 : وقد كنت أشرت إلى براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بفناء النار وذكرت نصيّن من كلامه على ذلك وفي هذا البحث أضفت إلى ذهنك النصين ثلاثة عشر نصاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من كتبه المشهورة المعتمدة الجميع خمسة عشر نصاً كلها صريحة بأبدية النار ولو ارتفع البحث لا ارتفع العدد ولكني اكتفيت بذلك خوفاً من التطويل. إلى آخره .
وفي صفحة 62 : ساق النصوص المزعومة فوجدت ثلاثة عشر منها رَدّ الشيخ القول بفناء الجنة والنار على الجهم ومن تبعه ومن شاء فلينظر إلى كتابه، وهذا والله الحمد قد تبين مراراً أنه لايُعارض كيف والشيخ تكلّم في المسألتين معاً في المخطوطة التي وَجَد السمهري وأنّ هذه مسألة وهذه مسألة .
النص الحادي عشر ذكر فيه أن الشيخ قال : ( ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءً مطلقاً) إنتهى . وهذا أيضاً من جنس الثلاثة عشر يريد به الشيخ الردّ على القائلين بأن الجنة والنار تعدمان وهو نفسه قول الجهمية .(1/68)
أما العاشر فذكر حديث أنس : (سبعة لا تموت) الحديث. فنقل قول الشيخ : وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات مالا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار إلى آخره .
ثم قال : ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم إلى آخره .
فكل هذه الخمسة عشر تحصيل حاصل لأن مدارها على نفي العدم بالكلية للجنة والنار رداً على الجهمية والعدم شيء وفناء النار بتحول عذابها شيء آخر كما مَثّلَ الشيخ بالدنيا أنها تفنى والأرض باقية وقد تقدم فلم يصنع الحربي شيئاً .
لكن الحربي قال في صفحة 23 إن شخصاً قال له : وجدتُ أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بفناء النار. يقول فطلبت منه بإلحاح أن يأتيني بالمرجع أويذكره لي فواعدني مواعيد عرقوب إلى آخره.
أقول : السمهري وجد مخطوطة الشيخ فلينظر فيها الحربي فهي التي ألحّ بطلبها وعليه أن يتخلّص مما قال كذلك الألباني فقد ألحّ بطلبها كما تقدم، وقد استفتحت بها هذا الكتاب، والمسألة يبدأ الكلام فيها من صفحة 52 في كتاب السمهري.
حيث أن القسم الأول رَدّ الشيخ على الجهمية كما بيّنت سابقاً. وهو الذي يقال فيه عن الجنة والنار (لا يفنيان) .
كتاب توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين
والعجب من إنسان يدعى خليل بن عثمان السبيعي الذي أخرج كتاب (توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين) لِمرْعي الحنبلي يقول هذا الكاتب السبيعي عن مؤلف شيخ الإسلام الذي ذكره ابن القيم في (شفاء العليل) يقول : وليتنا نعثر عليه لنرى ماتضمنه، يقول هذا الكلام في ص42 من كتابه في الهامش مع أنه ذكر كتاب السمهري في هامش ص31 الذي فيه مؤلف الشيخ ويبدأ من ص52 .
كالعيش في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
وهذا الكاتب أساء غاية الإساءة وخبّط غاية التخبيط وزَعَم تبرئه الشيخ وتلميذه من القول بفناء النار .(1/69)
مقدمة كتاب (توقيف الفريقين)
ويقال : رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فهذا أدخل نفسه فيما لايحسنه ولايفقهه ولايعيه، وقد استغل كتاب مرعي بن يوسف الحنبلي فجعل له ربع الكتاب وثلاثة الأرباع جعلها لحضْرته من جنس مافعل الألباني بكتاب الصنعاني الذي سَمّاه (رفع الأستار).
والرد على هذا الكاتب يطول وإنما أشير إلى إساءاته إشارة تدل على ماوراءها فمن ذلك ماكتبه في الغلاف وهو : براءة شيخ الإسلام وتلميذه عن القول بفناء النار .. وهذه فرية وقد تبين ولله الحمد فيما تقدم تكذيب هذه التبرئة بالبرهان والحجة، بل نحن ولله الحمد نبريء الشيخ وتلميذه من هذه التبرئة.
إن هذا ومن صنع صنيعة يبرءون الشيخ وتلميذه من حق هو دين يُدان الله به وقُرْبةُ يتقرب بها إليه حيث تكلما بهذا بياناً للحق وجهاداً للأعداء كما وضحت ذلك هنا وفي كتاب (القول المختار) الذي قال عنه في ص 27،28 من كتابه قال : وقد خرجت رسالة صغيرة المبنى والمعنى وأسماها صاحبها : (القول المختار لبيان فناء النار) ثم قال : قلت : ولوْ أسماها بـ (قول المختار بحاء مهملة لبيان فناء النار) لكان أوْلى به إلى آخر كلامه الساقط .
وكيف يجعلني محتاراً وقد وقف على ماذكرته في الكتاب من الدعاء إلى المباهلة وبصورة لم أُسبق إليها فيما أعلم، فهل يفعل هذا من لديه أدنى شك فضلاً عن أن يوصف بالحيْرة. نعم رَخُص الكلام وترحّل خوف الإله العظيم من القلوب إلا ما شاء الله، فيقال هنا : أين العقول ؟
قال الكاتب في ص18 : فخلصت بعد ذلك إلى نسبة القول إليهما [يعني الشيخ وتلميذه] غير صحيح إطلاقاً بل يُبَدِّعون من قال بفناء النار وأنه ضال ومخال للأمة سلفاً وخلفا .. إنتهى .
قد تقدم ولله الحمد في هذا الكتاب مايبين الحق من الباطل والحال من المرّ العاطل .(1/70)
وقد جاء هذا بفرية افتراها على الشيخ وتلميذه عظيمة إذْ أنهما قرّر الفناء بأدلة الكتاب والسنة ونسبا ذلك إلى عدد من الصحابة كما تقدم فعلى هذا هما يُبَدِّعان من صَحّ عنهم من الصحابة القول بالفناء وعلى رأسهم الفاروق رضي الله عنهم أجمعين ويضللنا هم وأنهم مخالفون للأمة سلفاً وخلفاً، فلينظر من يعقل ضرر وفساد وقبح نصرة المقالات الفاسدة.
الفرية الثالثة : قال عن ابن القيم في ص26 : لكنه لم يُصرّح بفناء النار بل قطع دابر قول من نسب إليه القول بذلك.
ثم نقل كلام ابن القيم الذي في حادي الأرواح وأسْقط منه كلاماً في موضعين لما رأى فيهما فضيحته، ومعلوم أن هذه خيانة وعدم أمانة في نقل كلام العلماء وخصْمه ابن القيم .
فلينظر القاريء الآن التلاعب بكلام العلماء.. نقل هذا الكاتب المتمعلم كلاماً لابن القيم في حادي الأرواح ص268 وهو : والذي دَل عليه القرآن أن الكفار خالدين في النار أبداً وأنهم غير خارجين منها، وأنه لايفتر عنهم من عذابها، وأنهم لايموتون فيها أبداً [أبداً ليست مثبته عندي في الكتاب] وأن عذابهم فيها مقيم، وأنه غرام لازم لهم، وهذا كله مما لانزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لما وصل الكاتب إلى هذا الموضع أسقط كلاماً جعل بدله نقطاً لأن هذا الكلام يفضحه وهو : وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر وهو أنه : هل النار ابديّة أومما كُتب عليه الفناء.. ثم نقل الكاتب بقية كلام ابن القيم وهو : وأما كوْن الكفار لايخرجون منها ولا يفتّر عنهم من عذابها ولايقضى علهيم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والإتحادية وبعض أهل البدع .(1/71)
الكاتب بَتَرَ كلام ابن القيم حيث قال رحمه الله بعد ذلك : وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب مادامت باقية، إلى آخر كلامه بَتَرَهُ لأنه يُفسر الكلام السابق في وعيد الكفار وأن هذا كله حق لانزاع فيه مادامت النار باقية .
وكذلك بَتَرَ الكلام من أوله فقبل قول ابن القيم الذي نقله الكاتب الذي أوله : والذي دَل عليه القرآن أسقط قبله قول ابن القيم في رَدّ القول ببقاء النار وعدم فنائها وهو : فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك ؟
فبتر كلام هذا الإمام أوله وآخره ووسطه ليقيم الضلع الأعوج فكسره ..
ولم يكتف بهذا حتى أعاد الخيانة نفسها في ص 46،47 كذلك فإن الكاتب نقل في ص41 كلاماً لابن ا لقيم في مسألة الفناء يُوهِمُ به أن ابن القيم لايقول بفناء النار ولما وصل إلى تقريره الفناء بتره كله والعجيب أنه يقول عن الكلام الذي اسقطه أنه نفيس للغاية وكأنه لايدري مايقول، فإذا كان نفيساً عندك فلماذا هَجّنته بل جعلته بدعة وضلالة .
وفي صحفة 45 نقل الكاتب من النونية قول ابن القيم :
وقضى بأن النار لم تخلق ولا ... جنات عدن بل هما عدمات
فإذا هما خُلقا ليوم معادنا ... فهما على الأوقات فانيقان
وقد تبين فيما تقدم أن هذا رَدّ قول الجهمية وهو موضوع آخر غير مانحن فيه وهو القسم الأول من كتاب السمهري حتى ص52 حيث بدأ شيخ الإسلام ببيان فناء النار وحدها فذاك شيء وهذا شيء وبسبب هذا الخلط وقع اللبس .
فلابد من التفريق بين معتقد الجهمية في فناء الجنة والنار الذي اقتضته أصولهم الفاسدة وبين كلام الصحابة ومن تبعهم من الأئمة في فناء النار وحدها .
فالأول نقول فيه عن الجنة والنار : (لايفنيان) أي لايُعدمان حسب أصول الجهمية، وهذا حق .
أما فناء النار وحدها فموضوع آخر وهو : هل النار تدوم بدوام الله أم لا ؟ وهذا لا دليل عليه لا من الكتاب ولا السنة لأن المثبت عليه الدليل كما أن لنا في كذلك.(1/72)
والأدلة الصحيحة المتوافرة ولله الحمد على أن النار تفنى أي لاتدوم بدوام الله عز وجل وذلك بعد الخلود والتأبيد وجَرَيان كل ماذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من آيات وأحاديث الوعيد.
وليس عند القائلين بالدوام إلا أدلة وعيد الكفار ورد أهل السنة على الجهمية وقد ظهر لله الحمد زيف وعندهم أيضاً التأويل الفاسد واتباع المتشابه وقد قال ابن القيم رحمه الله : فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يُرده الله ورسوله بكلامه ولا دَل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل؟ وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل ؟ فمِن بابه دُخل إليها، وهل أُريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل ؟ إنتهى فقد أوّل القائلون بدوام النار الاستثناء والأحقاب والخلود وأوّلوا آثار الصحابة، وحتى المعقول أوّلوه إلى مالا يُعقل .
أما مرعي الحنبلي الذي قدّم لكتابه السبيعي فإنه استدل على عدم فناء النار بما ليس بدليل مثل الخلود وذبح الموت والرد على الجهمية بلا يفنيان، وهذا قد تبين أنه ليس بدليل .
وأهل النار لا يموتون مادامت باقية وأين دليل بقائها ؟ ويكفي في بيان وَهَى شبهاته أنه قال في ص71 : قلت : ومن أصرح الآيات في ارد عليهم قول الله تعالى في حق أهل النار : {خالدين فيها أبداً} فإن الأبد عبارة عن اسْتغراق المستقبل الذي لا انقطاع له، فتأمل . إنتهى .
وقد تبين ولله الحمد أن الخلود والتأبيد لايقتضيان عدم النهاية بلغة القرآن ولاعبرة بالفهوم الحادثة المخالفة، والحقيقة أن النسخة بمقدمتها وبكلام مرعي لاتساوي قيمة ورقة واحدة من الأوراق التي سَوّدتها .
وليست الأمر ينتهي على هذا فالرب يقضي بين العباد بحكمه ويكفي من كلام مرعي قوله : ومن أصرح الآيات في الرد عليهم قول الله تعالى في حق أهل النار : {خالدين فيها أبداً} فهذا أنْكى سلاحاً عنده .(1/73)
وإنما لَفَتَ نظري ماقاله في ص69 وهو يذكر الأحقاب قال : قلت : لعمري إن لُبْثَ الحقب الواحد من أعظم المصائب فكيف بأحقاب لا انْقضاء لها ولا انقطاع نعوذ بالله من ذلك. إنتهى وهو صحيح بل إن لبث ساعة واحدة في نار الدنيا لمن أعظم المصائب فكيف بلبث ساعة في نار حرّها ضعف هذه سبعين مرة كيف بالخلود والتأبيد والأحقاب وإنما العجب من قلوب تبلغ بها الشدة والقسوة هذا المبلغ وكأنه لا يُرضيهم إلا رباً دائم الغضب دائم العذاب نعوذ بالله، أما يخاف أحدهم أنه مكتوب في أم الكتاب كافراً فيا ترى ما الذي أوْجب لمن يزعم دوام النار هذا التشدّد الذي لوْ تجسّد لكان أقسى من الحجارة والحديد ؟
لقد كان في قلوب الخوارج شدّة وقسوة أوجبت لهم اعتقاداً سيئاً، وإن مرادهم ونياتهم تعظيم الإله فلم يذكر أهل العلم أن فيهم نفاق وإنما هو الجهل بمعاني القرآن، ولقد أرْداهم سوء اعتقادهم. إنتهى .
أصل الكلام في الفناء(1/74)
المطلوب الإجابة على اعْتراضات نفاة حكمة رب العالمين سبحانه وبحمده قال نفاة الحكمة : قد قام الدليل على أنه سبحانه خالق كل شيء فأي حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان، وأي حكمة في خلق مَنْ عَلِمَ أنه يكفر ويفسق ويظلم ويفسد الدنيا والدين، وأي حكمة في خلق كثير من الجمادات التي وجودها وعدمها سواء، وكذلك من الأشجار والنبات والمعادن المعطَّلة والحيوانات المهملة بل العادية المؤذية، وأي حكمة في خَلْق السموم والأشياء المُضِرّة، وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين وإن كان في خلقهم حكمة، فأي حكمة في آدم وحواء من الجنة وتعريض الذرية لهذا البلاء العظيم وقد أمكن أن يكونوا في أعظم العافية، وأي حكمة في إيلام غير المكلف كالبهائم والأطفال والمجانين، وأي حكمة في خَلَقِه خلْقاً يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع، وأي حكمة في تسْليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب قَتْلاً وأسْراً وعقوبة واسْتعباداً، وأي حكمة في تلكيف الثقلين وتعريضهما بالتكليف لأنواع المشاق والعذاب...؟
قالوا (نفاة الحكمة) أيضاً ونحن العقلاء ؟ نعلم علماً ضرورياً أن خلود أهل النار فيها فِعْل الله ونعلم ضرورة أنه لا فائدة في ذلك تعود إليه ولا إلى المعذبين ولا إلى غيرهم .
قال نفاة الحكمة : إذاً الأمر مَرْدود إلى محض المشيئة وليس الرب بحكيم ولا أحكم الحاكمين .. إنتهت الاعتراضات .
المطلوب الآن الإجابة على هذه الأسئلة التي يظن نفاة الحكمة أنها قادحة في حكمة أحكم الحاكمين فهو يفعل بالمشيئة فقط يعني بلا حكمة الجواب مطلوب من أهل الوقت، ونعني الجواب المؤيَّد بالصواب ورحم الله امرءاً عرف قدْر نفسه .
هذا أصل مسْألة فناء النار وليس بعيد أن يوجد وُرَّاث لهؤلاء أعني لنفاة الحكمة فلْيتهيأ من سيأتي بما لم تستطعه الأوائل لدحض حججهم وردّ كيدهم، والذين يقولون بدوام النار لا يقدرون على إثبات حكمة لذلك .(1/75)
وأهل السنة يُعللون أفعال الرب عز وجل على مقتضى الحكمة، قال ابن تيمية : وقد بيّنا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة ومالم نعلم أعظم (1) .
والإنسان يَسَعه في أمور كثيرة أن يقول : الله أعلم والحاصل اليوم أننا بدلاً من أن نُعارض هؤلاء المبطلين بنرو الحق المبين نُعارض من قام بنحورهم من علمائنا الأجلاء الفضلاء النبلاء اللهم غفرا.
إنها نصيحة وقد كرّرتها وقَلَّ من انتفع بها وهي أن يقول الإنسان في هذه المسألة وأمثالها : الله أعلم فإنه يَسَعه ذلك، ثم هو بين أمرين : إما أن ينظر في المسألة في مضانِّها حيث أُوردت ويبدل جهده في تحري الصواب بلا هوى ولا تعصيب ولا لحاجة فيكون أتى البيوت من أبوابها أو يقول : الله أعلم فيسلم وفي هذا الكتاب بيان شافي ومن العجيب أن يُستدل على بقاء النار بالآيات التي فيها ذكر الخلود مع أن الخلود في لغة القرآن هو المكث الطويل قال تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} يعني في الدنيا فسمى الله البقاء في الدنيا إلى يوم القيامة خلداً حيث معلوم أن الدنيا تنتهي وتنقضي .
والعرب تسمي الأثافي التي ينصب عليها القِدْر خَوَالِد لِبقائها بعد أهلها مدة طويلة مع أنها تندرس وتمحَّي مع طول الزمان، كذلك فإن العرب تسمي بخالد يتفائلون له بطول العمر مع علمهم أن هذا الخلود له نهاية، والتأبيد كذلك له نهاية فتأبيد كل شيء بحسبه، فقد يكون التأبيد لمدة الحياة وقد يكون لمدة الدنيا قال تعالى عن اليهود : {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم} ومعلوم أنهم يتمنونه في النار حيث يقولون : {يا مالك ليقض علينا ربك} ويقال : قَيْد مُؤبّد وسجن مؤبّد حتى أهل الوقت يقولون كذلك وهو صحيح باللغة ومعلوم أنه ينتهي، وإنما المقصود به المكث الطويل فصاحبه إما أن يُخرج أو يموت فينقضي .
__________
(1) من مجموعة الفتاوى 8/207 .(1/76)
إذا علمت أن النار لاتدوم بدوام الله وهذا مراد القائلين بفنائها وعرفت معنى الخلود والتأبيد في لغة العرب اتضح لك المبهم وهو أنهم يخلدون ويؤبّدون فيها مادامت باقية، بعد ذلك الله أعلم بمصيرهم لكن ذكر ابن عباس أن الله يأمر النار فتأكلهم ومعناه تأكل أرواحهم وأبدانهم فيُعدمون، وذكر ابن القيم أن الله قادر بنشئهم نشأة أخرى يرحمهم فيها.. وربنا فعال لما يريد كذلك إذا تأملت الاستثناء في القرآن وقوله تعالى : {لابثين فيها أحقابا} وأن الأحقاب مهما طالت وكانت آلاف السنين أوملايين السنين أوغير ذلك أنها تنتهي وتنقضي ليست كدوام الرب عز وجل وقد فسّر الصحابة هذه الآية بهذا المعنى ينكشف لك الأمر .
بعد ذلك نرفق كلام ابن القيم رحمه الله الذي في مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة قطعاً لشبهة من يقول : لم يجزم على القول بالفناء وإنما ينقل الأقوال .
وقد سبق أيضاً وبينا جزمه في شفاء العليل وحادي الأرواح، قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : من عَدَّ كلامه من عمله قَلّ كلامه. إنتهى، كيف إذا كان الكلام بالخرص والجهل والهوى ؟
مختصر
الصواعق المرسلة
على الجهمية المعطلة
الجزء الأول
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ(1/77)
المسلك الثالث : مسلك الرحمة فإنها هي المستولية الشاملة التامة للموجودات كلها وبها قامت الموجودات، فهي التي وسعت كل شيء والرب وسع كل شيء رحمة وعلما، فوصلت رحمته إلى حيث وصل علمه، فليس موجود سوى الله تعالى إلا وقد سعته رحمته وشملته وناله منها حظ ونصيب، ولكن المؤمنون اكتسبوا أسبابا استوجبوا بها صرف الرحمة إلى غيرهم، فلباب الرحمة متصلة دائمة لا انقطاع لها لأنها من صفة الرحمة، والأسباب التي عارضتها مضمحلة زائلة لأنها عارضة على أسباب الرحمة طارئة عليها، وإذا كان كل مخلوق قد انتهت إليه الرحمة ووسعته فلابد أن يظهر أثرها فيه آخراً كما ظهر أثرها فيه أولا، فإن أثر الرحمة ظهر فيه أول النشأة ثم اكتسب مايقتضي آثار الغضب فإذا ترتب على الغضب أثره عادت ا لرحمة فاقتضت أثرها آخراً كما اقتضته أولاً لزوال لمانع وحصول المقتضى في الموضعين .
ومما يوضح هذا المعنى أن الجنة مقتضى رحمته ومغفرته والنار من عذابه وهو مخلوق متفصل عنه، ولهذا قال تعالى : {نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم} وقال : {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} وقال تعالى: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فالنعم موجب اسمائه وصفاته وإما العذاب فإنه من مخلوقاته المقصودة لغيرها بالقصد الثاني، فهو سبحانه إذا ذكر الرحمة والاحسان والعفو نسبه إلى ذاته وأخبر أنه من صفاته، وإذا ذكر العقاب نسبه إلى أفعاله ولم يتصف به، فرحمته من لوازم ذاته وليس غضبه وعقابه من لوازم ذاته فهو سبحانه لايكون إلا رحيما كما أنه لايكون إلا حياً عليماً قديراً سميعاً، وأما كونه لايكون إلا غضبانا معذبا فليس ذلك من كماله المقدس ولا هو مما اثنى به على نفسه وتمدح به .(1/78)
يوضح هذا المعنى أنه كتب على نفسه الرحمة ولم يكتب عليها الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته ولم يسبقها الغضب ولا غلبها ووسعت رحمته كل شيء ولم يسع غضبه وعقابه كل شيء، وخلق الخلق ليرحمهم لا ليعاقبهم، والعفو أحب إليه من الانتقام، والفضل أحب إليه من العدل، والرحمة آثر عنده من العقوبة، ولهذا لايخلد في النار من في قلبه أدنى مثقال ذرة من خير، وجعل جانب العدل السيئة فيه بمثلها وهي معرضة للزوال بأيسر شيء وكل هذا ينفي أن يخلق خلقاً لمجرد عذابه السرمدي الذي لا انتهاء له ولا انقضاء لا لحكمة مطلوبة إلا لمجرد التعذيب والألم الزائد على الحد، فما قدر الله حق قدره من نسب إليه ذلك، بخلاف ما إذا خلقهم ليرحمهم ويحسن إليهم وينعم عليهم فاكتسبوا ما أغضبه وأسخطه فأصابهم من عذابه وعقوبته بحسب ذلك العارض الذي اكتسبوا، ثم اضمحل سبب العقوبة وزال وعاد مقتضى الرحمة، فهذا هو الذي يليق برحمة أرحم الراحمين وحكمة أحكم الحاكمين .
ومما يبين هذا أن الجنة من لم يعمل خير قط، ويدخلها من ينشئه الله تعالى فيها، ويدخلها من دخل النار أولا، ويدخلها الأبناء بعمل الآباء، وأما النار فذلك كله منتف فيها ولا يدخلها من لم يعمل شرا قط، ولا ينشيء الله تعالى فيها خلقا يعذبهم من غير جرم، ولا يدخلها من يدخل الجنة أولا، ولا يدخلها الذرية بكفر الآباء وعملهم، وهذا يدل على أنها خلقت لمصلحة من دخلها لتذيب فضلاته وأوساخه وأدرانه وتطهير من خبثه ونجاسته، كالكير الذي يخرج خبث الجواهر المنتفع بها ولمصحلة من يدخلها ليردعه ذكرها والخبر عنها عن ظلمه وغيه، فليست الداران عند الله سواء في الأسباب والغايات والحكم والمصالح .(1/79)
يوضح ذلك : أن الله تعالى لا يعذب أحداً إلى لحكمة ولا يضع عذابه إلا في المحل الذي يليق به، كما اقتضى شرعه العقوبات الدنيوية بالحاود التي أمر بإقامتها لما فيها من المصالح والحكم في حق صاحبها وغيره، وكذلك مايقدره من المصائب والآلام، فيها من الحكم مالا يحصيه إلا الله من تزكية النفوس وتطهيرها والردع والزجر، وتعريف قدر العاقبة وامتحان الخلق ليظهر من يعبده على السراء والضراء ممن يعبده على حرف، إلى إضعاف أضعاف ذلك من الحكم، وكيف يخلو أعظم العقوبات عن حكمة ومصلحة ورحمة أن مصدرها عن تقدير أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، والجنة طيبة لايدخلها إلا طيب، ولهذا يدخل النار من أهل التوحيد من فيه خبث وشر حتى يتطهر فيها ويطيب، ومن كان فيه دون ذلك حبس على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هذِّب ونقي أذن له في الدخول، ومعلوم أن النفوس الشريرة الظالمة المظلمة الأثيمة لاتصلح لتلك الدار التي هي دار الطيبين ، ولو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه لا تصلح لدار السلام التي سلمت من كل عيب وآفة، فاقتضت الحكمة تعذيب هذه النفوس عذابا يطهر نفوسهم من ذلك الشر والخبث ويكون مصلحة لهم رحمة بهم ذلك العذاب وهذا معقول في الحكمة أما خلق نفوس لمجرد العذاب سرمدي لا لحكمة ولا لمصلحة فتأياه حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين .(1/80)
يوضحه : أن الله تعالى قيد دار العذاب ووقتها بما لم يقيد به دار النعيم ويوقتها، فقال تعالى في دار العذاب {لابثين فيها أحقاباً} وقال : {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} فقيدها بالمشيئة واخبر أن ذلك صادر عن حكمته وعلمه، وقال تعالى : {واما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشيقٌ خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعالٌ لما يريد} وأما الجنة فإنه أخبر ببقاء نعيمها ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع، فقال {أُكلها دائمٌ وظلها} وقال : {إن هذا لرزقنا ماله من نفاد} وأما النار فغاية ما أخبر بها عنها أن أهلها لايخرجون منها وأنهم خالدين فيها وماهم منها بمخرجين، وهذا مجمع عليه بين أئمة الإسلام وهو معلوم بالضرورة أن الرسول جاء به، ولكن الكلام في مقام آخر إن النار بداية لا تفنى أصلا كما أن الجنة كذلك، فهذا الذي تكلم فيه الصحابة والتابعون ومن بعدهم .
قال حرب في مسائله سألت إسحاق عن قول الله تعالى : {خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} قال أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن، قال إسحاق : حدثنا عبدالله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال قال أبي حدثني أبو نضرة عن جابر وأبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هذه الآية تأتي على القرآن كله ) {إلا ما شاء ربُك إن ربك فعال لما يُريد} قل للمعتمر قل أبي كل وعيد في القرآن وقال ابن جرير في تفسيره، حدثنا الحسن بن يحيى حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أبي سعيد وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال هذه الآية تأتي على القرآن كله حيث يقول في القرآن خالدين فيها تأتي عليه.(1/81)
قال ابن جرير : حدثت عن ابن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس قال : {خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ماشاء ربك} قال : (أمر النار أن تأكلهم) قال وقال ابن مسعود (ليأتين على جهنم زمان تحقق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدها تلبثون فيها أحقابا) وقال أحمد حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن ساق عن الشعبي قال جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعها خراباً، وقال حرب عن إسحاق بن رهوية : حدثنا عبدالله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن أبي بلج، سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبدالله بن عمر وقال : (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً) وقال إسحاق حدثنا عبيدالله بن معاذ، حدثنا أبي حدثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب، عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : (ما أنا بالذي أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لايبقى فيها أحد وقرأ : {وأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} .
فصل
ومن عدله سبحانه لايزيد أحداً في العذاب على القدر الذي يستحقه، وهذا أمر يشهده أهل النار في النار ومدة الكفر والشرك منقطعة، فكيف يكون العذاب على المنقطع سرمدا أبد الآبدين لانقطاع له ألبتة ؟ بخلاف النعمة، فإنه محض فضله فدوامه لاينافي الحكمة، فإن قيل لما كان من نيته أن يستمر في الشرك والكفر ولو عاش أبدا كانم عقابه موافقا لهذه النية والإصرار .(1/82)
فالجواب : أن العقوبة الدائمة إما أن تكون مصلحة للمعاقب، أو للمعاقب أولهما، أولغيرهما، أولا مصلحة فيها ألبتة، والأقسام كلها باطلة، أما المعاقب فإنه إنما تكون العقوبة مصلحة في حقه إذا كان محتاجا إليها لشفاء غيظه واطفاء نار غضبه التي يتأذى ببقائها، والله تعالى منزه عن ذلك كله فلم يبلغ العباد ضره فيضروه، ولانفعه فينفعوه، ولو أن أول خلقه وآخرهم وأنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ماضره ذلك شيئا ولا نقصه من ملكه شيئاً، وأما أنه لا مصلحة للمعاقب ولا لغيره في ذلك فظاهر، فتعين القسم الأخير وهو أنه لا مصلحة فيها وما كان كذلك فهو عبث يتعالى الله عنه سبحانه أن يخلق شيئاً باطلا أوسدى أوعبثا أوخاليا عن مصلحة وحكمة وهذا بخلاف ما إذا قيل : وضعت العقوبة لمصلحة وتقدرت بقدرها، فإذا حصلت الحكمة والغابة المطلوبة منها وترتبت المصلحة التي قصدت بها عادلاً لأمر إلى الرحمة والجود.(1/83)
ثم أن هذه النفوس الظالمة الكافرة لها بداية وتوسط ونهاية، فهي في بدايتها قابلة للحق والعدل، ولهذا لم يعذبها الله في هذه الحال، وأن علم منها أنها أنما تختار للكفر وإما في حال توسطها من حيث عقلت وقامت عليها الحجة فإنها استحقت العذاب حينئذ لأن العقوبة مع الجناية فاقتضت الحكمة تأخيرها إلى دار الجزاء لعلها أن تراجع الحق فضرب لها مدة الحياة أجلا وأمدا تتمكن فيه من الرجوع إلى الحق واستدراك الفارط، إما لم تفعل ذلك ختم عليها العقوبة، ومعلوم أنها إنما استمرت في مدة الحياة على غيها وكفرها لقيام الأسباب التي زينت لها ذل ولولا تلك الأسباب لآثرت رشدها فله مقتضى فطرتها ولا ريب أن تلك الأسباب تبطل وتضمحل في الآخرة ولاسيما في دار العذاب، بل إنما وضعت تلك الدار لازالة تلك الشرور، وكيف تدوم تلك الأسباب وقد ذاقوا عقوبتها وألمها الشديد، وتيقنوا أنها كانت أضر شيء عليهم وندموا عليها أعظم الندم، وليس في الطبيعة الإنسانية الإصرار على تلك الأسباب وإيثارها بعد طول التألم الشديد بها نعم العذاب باق مابقيت، فإذا قدر زوالها وتبدلها وإقرار أصحابها على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين، وأن الله تعالى إنما عذبهم بعدله وشهدوا على أنفسهم أنهم لايصلح لهم غير ماهم فيه من العقوبة، وأن حمده سبحانه أنزلهم تلك الدار، فقام بقلوبهم حمده وشكره والثناء عليه بموجب اسمائه وصفاته التي كانت في فطرهم أولاً، وحمدوه حمد محب معترب بالجلية وآثروا رضاه على كل شيء فلو قام هذا بقلوبهم حقيقة وعلمه الله منهم لصارت النار برداً وسلاماً عليهم، كما في الأثر المرفوع الذي ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب (حسن الظن بالله) أن رجلين ممن دخلا النار استد صياحهما فقال تعالى : أخرجوهما، فأخرجا فقال : لأي شيء استد صياحكما ؟ قالا : فعلنا ذلك لترحمنا قال : رحمتي بكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما في النار، قال فينطلقان، فيلقي أحدهما نفسه فيها، فيجعلها الله(1/84)
برداً وسلاماً عليه، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه، فيقول له الرب مامنعك أن تلقي نفسك كما لقى صاحبك ؟ فيقول رب إني أرجو ألا تعيديني فيها بعد ما أخرجتني، فيقول الرب لك رجاؤك فيدخلان جميعاً الجنة، وذكر ابن أبي الدنيا أيضاً حديث آخر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يؤمر بإخرا رجلين من النار، فإذا أخرجا وقفا، فقال الله لهما : كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما ؟ فيقولان شر مقيل وأسوء مصير صار إليه العباد فيقول لهما : بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد، قل فيؤمر بصرفهما إلى النار قال فأما أحدهما فيعدوا في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها، وأما الآخر فيتلكأ فيؤمر بردهما، فيقول للذي عدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها : ما حملك على ما صنعت، وقد خبرتها ؟ فيقول أني قد خبرت من وبال المعصية مالم كن لاتعرض لسخطك ثانية، ويقول الله للثاني : ماحملك على ماصنعت؟ قال حسن ظني بك حين أخرجتني إلا تردني إليها فرحمهما الله تعالى وأمر بهما إلى الجنة ، وفي رواية (أنه يقول للأول لو حذرتني مثل حذرك في الآخرة لم أدخلك النار ويقول للآخر لو أحسنت ظنك بي في الدنيا مثل حسن ظنك بي اليوم ما أدخلتك النار).
وفي المسند وغيره من حديث الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة المعتوه، والأصم، والمتوفي في الفترة، وأن الله تعالى يؤجج لهم ناراً ويقول : اقتحموها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاما من امتنع جر إليها .(1/85)
فهؤلاء لما آثروا مرضاته بالعذاب على مرضات أنفسهم، وقام بقلوبهم أن رضاه في تعذيبهم أحب إليه من رضائهم في خلافه استحالت النار في حقهم وانقلبت برداً وسلاماً، وهذا أمر مشاهد في الواقع بين الناس، وهو في اقتضائه رفع العقوبة نظير اقتضاء التوبة بدفعها فإن المذنب لو بلغت ذنوبه عنان السماء إذا ألقى نفسه بفناء من أساء إليه وتوسد عتبة بابه فوضع خده عليها مستسلماً مسلما نفسه إليه ليقضي فيها ما أراد، راضياً بما يقضيه فيها حامداً له عليه، علما أن الحق له، وقد سلم إليه محل الحق يستوفيه منه، فإنه متى فعل ذلك اذهب مافي قلب من أساء إليه من الحنق والغيظ وعاد مكان الغضب عليه رقة ورحمة هذا مع حاجته وبلوغ أذاه ووصوله إليه وقلت صبره وضعف احتماله فكيف بالغني الحميد الذي لن يبلغ العباد ضره ولا نفعه، فلا تزيد عقوبتهم في ملكه شيئاً وهو أرحم الراحمين فهذا القدر من وجده في قلبه في الدنيا لم يدخل دار الشقاء إلا تحلة القسم ومن لم يظهر له هذا في الدنيا فإنه سيعلمه يقينا في الآخرة كما قال تعالى : {فاعترفوا بذنبهم} وقال : {فعلموا أن الحق لله} وقال تعالى : {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} فلا شيء انفع لهم في عذابه من حمده والثناء عليه ومحبته على كماله وعدله فيهم، وقولهم: أن كان هذا رضاك فلا نطلب غيره ويشتد غضبهم على نفوسهم ومقتهم لها موافقة لغضب ربهم ومولاهم ولكن هذا القدر لا تسمح به النفوس اللئيمة الجاهلة الظالمة اختياراً فإذا عوقبت بما تستحق وبلغ منها العذاب مبلغه وكسرها وأذلها، فإن أراد بها خيراً أشهدها ذلك وجعله حاضراً عندها، فالرحمة حينئذ أدنى إليها من العقوبة، والعفو أقرب إليها من الانتقام، فإن أراد بها بارئها وفاطرها إن يرحمها الهمها ذلك فانتقلت به من حال إلى حال، فإن شاء أنشأها بعد ذلك نشأة أخرى وطبعها على غير طبيعتها الأولى، فهو على كل شيء قدير، وهو(1/86)
الحكيم العليم فلا يظن به من ساء فهمه أن هذا يناقض ما أخبر الله ورسوله به واتفق عليه سلف الأمة أنهم مخلدون في النار وماهم منها بمخرجين وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، فمن رد ذلك وكذبه فهو كافر جاحد لما علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، فليس في هذا نظر ولا شك، وإنما الشان في كون النار أبدية كالجنة لاتفنى أبدا وإلا فمتى دامت ناراً فيها خالدون .
فصل
ولنرجع إلى المقصود وهو أن الذين قالوا عذاب الكفار مصلحة لهم ورحمة لهم حاموا حول هذا المعنى، ولم يقتحموا لجنة وإلا فأي مصلحة لهم في عذاب لاينقطع، وهو دائم بدوام الرب تعالى، فأمل هذا الوجه حق التأمل واعطه حقه من النظر واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته، وما دل عليه كلام الله وكلام رسوله، وما قاله الصحابة ومن بعدهم، ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار، فإن أسفر لك صبح الصواب وإلا فرد الحكم إلى مارده الله إليه بقوله : {إن ربك فعالٌ لما يريد} وتمسك بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وصف حالهما ثم قال : ويفعل الله بعد ذلك مايشاء .(1/87)
الوجه الرابع : أن الذي يخلقه الله سبحانه ويقدره من الأمور نوعان : غايات ووسائل وقداقتضت حكمته أن الوسائل تضمحل وتبطل إذا حصلت غاياتها كما يبطل للسفر عند بلوغ المنزل، ويزول الأكل والشرب عند حصول الشبع والري والخيرات والمنافع هي الغايات المقصودة لنفسها، والشرور والآلام إنما تقصد قصد الوسائل، لا فضائها إلى الخيرات والمنافع، وما كان مقصوداً لنفسه فإن بقاءه ودوامه هو مقتضى الحكمة، وأما إذا كان مقصوداً لغيره فإذا حصل ذلك المقصود به لم يكن في دوامه وبقائه حكمة ولا مصلحة، والله تعالى خلق النار سوطا يسوق بها عبادة إلى رحمته وجنته، ويخوفهم بها من معصيته، ويطهر بها من اكتسب من عباده خبثاً ونجاسة، ولايصلح بها لماكنته في جنته، وعقوبته يعاقب بها أعداءه على مقادير جرائمهم وهذا كلها أمور مقصودة لغيرها مفضية إلى مصالح مقصودة لنفسها .
يوضحه الوجه الخامس أن الله سبحانه جعل الشدائد والآلام والشرور في هذه الدار بتراء لا دوام لها، وجعل الشدة بين فرجين فرج قبلها وفرج بعدها، والعسر بين يسرين والبلاءيين عافيتين، فليس عنده شدة دائمة، ولا بلاء دائم، ولا كرب دائم في هذه الدار التي هي دار ظلم وبلاء، وخيراتها ممزوجة بشرورها، وذلك أن الآلام والشدائد شرور، والشر ليس إلى الله بخلاف الخيرات والنعم فإنها من مقتضى اسمائه وصفاته، فهي دائمة بدوامه، ومعلوم أن الدار التي هي حق من كل وجه أولى أن يكون الدوام لخيراتها ولذاتها ومسراتها وإن تكون شرورها إلى اضمحلال وزوال، يوضحه .
الوجه السادس أن القاء الإلهي خير كله فإن مصدره علم الله وحكمته وكماله المقدس، فهو خير كله ومصلحة وحكمة وعدل ورحمة، ودخول الشر فيه بالعرض لا بالذات، كالشر العارض من الحر والبرد والمطر والأكل والشرب والأعمال النافعة وما بالعرض لايقصد لذاته، فلا يجب دوامه كدوام مايقصد لذاته من الخيرات والمنافع .(1/88)
الوجه السابع : إنك إذا اعتبرت هذه الآلام والشدائد والنعمة والرحمة وشرها فظاهرها نقمة وباطنها نعمة؛ فكم نقمة جلبت نعمة؛ وكم من بلاء جلب عافية، وكم من ذل جلب عزا، وكسر جلب جبراً، إذا اعتبرت أكثر الخبرات والمسرات واللذات وجدتها إنما ترتبت على الآلام والمشاق، وأعظم اللذة وأجلها ماكان سببه أعظم لها ومشقة، وهذا مشاهد في هذه الدار بالعيان، ولما كانت أعلى الدرجات درجة أهل الجهاد كان أشق شيء على النفوس وأكرهه إليها قال تعالى : {كتب عليكم القتال وهو كُره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} ولهذا قيل :
وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سبباً ما مثله سبب
فلا يوصل إلى الراحة واللذة إلا على جسر التعب والألم، وهذا يريك أن المصائب والآلام حشوها نعم ولذات ومسرات؛ وهذا لأن الرحمة لها السبق والغلبة، فما في طي النقم والعقوبات من الرحمة أسبق من العقوبة؛ وهي الغاية للغضب فلابد أن يغلب أثرها أثر الغضب كما غلبت الصفة للصفة .
يوضحه الوجه الثامن : أن الرحمة سبقت إلى هذا المعاقب وظهر أثرها فيه فوجد بها وعاش وسمع وأبصر بها وبطش بها ومشى بها وتحرك بها وإلا لولا أنها سبقت إليه لم يكن له قيام ولا حياة بل إنما استظهر بها وإلا لولا أنها سبقت إليه لم يكن له قيام ولا حياة بل إنما استظهر على معاصي الرب ومخالفته بالرحمة التي سبقت إليه ووسعته فغلبت أسباب هلاكه وتلفه فلما تمكنت أسباب التلف والهلاك واقتضت الرحمة أن جعل لها أسباب في مقابلتها من موجبها ومقتضاها تنزيلها ومحو أثرها ليخلص موجب الرحمة فيظهر أثره ودوام العذاب بدوام تلك الأسباب فلو زالت لزال العذاب.(1/89)
يوضحه الوجه التاسع : أن هذه النفوس فيها مايقتضي الرحمة من إقرارها بفاطرها وربوبيته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره ومحبته وتعظيمه وإجلاله وسؤاله وفيها مايقتضي الغضب والعقوبة كالشرك به وإيثار هواها على طاعته ومرضاته ولما كان مقتضى العقوبة فيها أقوى كان الحكم له ومعلوم أن العقوبة أن لم تذهب الأسباب المقتضية لها ولم تزلها بالكلية فإنها تخففها وتضعفها، فأما أن تقاوم أسباب الرحمة وأما أن تترجح عليها، وعلى التقديرين يبطل أثرها قال الله تعالى : {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنَّ الله} وقال تعالى : {قُل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون . سيقلون لله} . إلى آخر الآيات فهم يعلمون أن الأرض ومن فيها له، وأنه رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولايجار عليه، وإذا مسهم الضر في البر والبحر تضرعوا إليه وفزعوا إليه وقالوا : أن مانعبد من دونه هذه الآلهة لتقربنا إليه، وتشفع لنا عنده، وهو يملكها ونواصيها بيده ويحبونه ويقصدون التقرب إليه، وهذا مما وضعه فيهم برحمته ونعمته، فعلم فيهم ما يقتضي رحمته ونعمته، ولكن لما غلبت أسباب النقمة كان الحكم للغالب، وذلك لايمنع اقتضاء المغلوب أثره وترتبه عليه .(1/90)
وقد ثبت في الصحيح أن الله يقول للملائكة أخرجوا من النار من في قلبه من الخير مايزن ذرة أوبرة وأنها تخرج منها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان فانظر هذا الجزء اللطيف جدا كيف غلب تلك الأسباب الكثيرة القوية وابطالها وعاد الحكم له وثبت في الصحيح (أنه يخرج منها من لم يعمل خير قط)، ولكن هذا اخراج منها وهي باقية على حقيقتها وناريتها فأخرج منها بهذا الجزء اليسير، ومعلوم أن أعداءه المشركين لن تخلوا قلوبهم من الإيمان به قال الله تعالى : {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فأثبت لهم إيماناً مع الشرك، وهذا الإيمان وإنم لم يؤثر في إخراجهم نم النار كما أثر إيمان أهل التوحيد، بل كانوا معه خالدين فيها بشركهم وكفرهم، فإنم النار إنما سعرها عليهم الشرك والظلم، فلا يمتنع في الرحمة والحكمة والعدل أن يطفئها ويذهبها بعد أخذ الحق منهم، فيجتمع ضعف أسباب تسعيرها وقوة أسباب زوالها فهذا غير ممتنع في الحكمة الآلهية، ولم يخبر به الرسول بامتناعه وأنه لايكون في موضع واحد، ولادل على ذلك نقل ولا عقل، بل الذي دل عليه النقل والاجماع أنهم خالدون فيها أبدا، وأنهم ليسوا بخارجين منها، ولايموتون فيها؛ ولا يحيون، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وإنما الشأن في أمر آخر .(1/91)
الوجه العاشر : أن أسباب العذاب من النفس وغاياتها اتباع أهوائها وأما أسباب الخير فمن ربها وفاطرها وهو الغاية والمقصود بها فهي به وله، قال الله تعالى : {ما أصابك من حسنة فمن الله. وما أسابك من سيئة فمن نفسك} فالحسنات مصدرها من الله وغايتها منتهيه إليه، والسيئات من النفس وهي غايتها قال الله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} فليس للحسنات سبب إلا مجرد فضل الله ومنته، والأعمال الصالحة وإن كانت أسباب النعم والخيرات فمن وفقه لها وأعانه عليها وشاء ماله ساه ؟ فالنعم وأسبابها من الله، وأما السيئات التي أسلفها العبد فمن نفسه، وسببها جهله وظلمه، فإذا ترتبت عليها سيئات الجزاء كان السبب والمسبب من نفسه، فليس للجزاء السيء في الدنيا والآخرة سبب إلا ذنوب العبد التي من نفسه فالشر كله من نفسه والخير كله من ربه فإن أكثره ليس للعبد فيه مدخل، فإن الله هو الذي أنعم عليه به ولهذا قال بعض السلف (لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه) ولهذا قال تعالى : {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} فخص بالخطاب تنبيهاً على الأدنى ولم يخرجه في صورة العموم لئلا يتوهم متوهم أنه عام مخصوص، فكان ذكر الخالص أبلغ في العموم وقصده من ذكر العام فتأمله فإنه أسلوب عجيب في القرآن .(1/92)
والمقصودان سبب الحسنات كلها هو الحي القيوم الذي لم يزل ولايزال وهو الغاية المقصودة من فعلها فتدوم بدوام سببها، وأما السيئات فسببها وغايتها منقطع هلك فلا يجب دوامها فتأمل هذا الوجه فإنه من الطف الوجوه، فإن الأسباب تضمحل باضمحلال غاياتها وتبطل ببطلانها، ولهذا كان كل عمل باطلاً إلا ما أريد به وجه الله، فإن جزاءه وثوابه يدوم بدوامه وما لم يرد به وجه وأريد به مايضمحل ويفنى فإنه يفنى بفنائه قال الله تعالى : {وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} وهذه هي الأعمال التي كانت لغيره فكما أن مالا يكون فما كان لغيره لايدوم ولهذا كان لبعض حكم الله تعالى في تخريب هذا العالم أن يشهد من عبد شيئاً غيره أنه لايصلح للعبادة والألوهية ويشهد العابد حال معبوده، والمقصودان النعم تدوم بدوام سببها وغايتها وأن الشرور والآلام تبطل وتضمحل باضمحلال سببها .
فهذه الوجوه وغيرها تبين أن الحكمة والمصلحة في خلق النار تقتضي بقاءها ببقاء السبب والحكمة التي خلقت له فإذا زال السبب وحصلت الحكمة عاد الأمر إلى الرحمة السابقة الغالبة الواسعة.
يزيده وضوحا الوجه الحادي عشر : أن الرب يستحيل أن يكون إلا رحيما فرحمته من لوازم ذاته ولهذا كتب على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب فهو لم يزل ولا يزال رحيما ولايجوز أن يقال أنه لم يزل ولا يزال غضبان، ولا أن غضبه من لوازم ذاته، ولا أنه كتب على نفسه العقوبة والغضب ولا أن غضبه يغلب رحمته ويسبقها .(1/93)
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة (أن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فإذا كان ذلك الغضب الشديد لايدوم ولايستمر بل يزول وهو الذي سعر النار، فإنها إنما سعرت بغضب الجبار تبارك وتعالى، فإذا زال السبب الذي سعرها، فكيف لا تطفأ وقد طفئ غضب الرب وزال، وهذا بخلاف رضاه فإنه من لوازم ذاته دائماً بدوامها ولهذا دام نعيم أهل الجنة والرضى، كما يقول لهم في الجنة (إني أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا) فكيف يساوي بين موجب رضاه وموجب سخطه في الدوام ولم يستوي الموجبان .
الوجه الثاني عشر : إنه كما قيد الغضب بذلك اليوم قيد العذاب المرتب عليه به كما في قوله : {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} وقوله : {فويل للذين كفروا من مشهدٍ يوم عظيم} .(1/94)
فجعل العذاب والمشهد واقعين في ذلك اليوم العظيم بل جعل العذاب عذاب يوم العذاب أبداً ولا يقال في الشيء الأبدي الذي لا يفنى ولا يبيد أنه عمل يوم وطعام يوم وعذاب يوم، ولم ينتقض هذا بقوله سبحانه {ولقد صبَّحهم بكرةً عذابق مستقر} ولا بقوله : {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر} فإن استقراره واستمراره لايقتضي أبديته ولاعرفا ولاعقلا وقد أخبر سبحانه عن بطن الأم أنه مستقر الجنين بقوله : {ونُقِرُّ في الأرحام مانشاء} وقال تعالى : {وهو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدة فمستقرٌ ومستودع} سواء كان المستقر صلب الأب والمستودع بطن الأم أوعكس ذلك، أودار الدنيا ودار البرزخ كما هي أقوال للمفسرين في الآية فالمستقر لا يدل على أنه أبدي، وكذلك المستمر لايدل على الأبدية فاستقرار كل شيء واستمراره ودوامه وخلوده وثباته بحسب مايليق به من البقاء والإقامة وقال تعالى : {لابثين فيها أحقاباً} وهذا لايقال في لبث لا انتهاء له، وتأويل الآية عند من تأولها أنهم يلبثون فيها أحقابا لايذقون فيها بردا ولا شرابا أي لايذقون في تلك الأحقاب برداً ولا شراباً، لايفيدهم شيئاً فإنه يلزم على تأويله أنهم يذوقون البرد والشراب بعد مضي تلك الأحقاب ومتى ذاقوا البرد والشراب انقطع عنهم العذاب.(1/95)
الوجه الثالث عشر : أنه سبحانه وتعالى يذكر نعيم أهل الجنة فيصفه بأنه غير منقطع، وأنه ماله من نفاد، ويذكر عقاب أهل النار ثم يخبر معه أنه فعال لما يريد أويطلقه فالأول كقوله : {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير شهيق خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ماشاء ربُّكَ إن ربك فعالٌ لما يريد . أما الذين سُعِدُوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربُّكَ عطاء غير مجذوذ} . وأما الثاني فكقوله : {هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مئآب . جناتعدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهةٍ كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ماتوعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ماله من نفاد هذا وإن للطاغين لشرَّ مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد}. إلى قوله : {إن ذلك لحقٌ تخاصم أهل النار} ولم يقل فيه ما قاله في النعيم : وقريب من هذا أنه سبحانه وتعالى يذكر خلود أهل النعيم فيه فيقيده بالتأبيد بل يطلقه وهذا كقوله تعالى : {إنَّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك همشرٌ البرية . إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خيرٌ البرية .(1/96)
جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى رَبَّه} ولا ينتقض هذا بقوله : {ومن يعص الله ورسوله فإنَّ له جهنَّم خالدين فيها أبداً} فإن تأبيد الخلود فيها لايستلزم ابديتها ودوام بقائها بل يدل على أنهم خالدون فيها أبداً مادامت كذلك فالأبد استمرارهم فيها مادامت موجودة، وهو سبحانه لم يقل إنها باقية أبدا، وفرق بين الأمرين فتأمله، على أن التأبيد قد جاء في القرآن فيما هو منقطع كقوله عن اليهود {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم} وهذا إنما هو أبد مدة حياتهم في الدنيا وإلا فهم في النار يتمنون الموت حين يقولون (يا مالك ليقض علينا ربك) وقول العرب : لا أفعل هذا أبد ولا أتزوج أبدا أشهر من أن تذكر شواهده وإنما يريدون مدة منقطعة، وهي أبد الحياة ومدة عمرهم، فهكذا الأبد في العذاب هو أبد مدة بقاء النار ودوامها.
الوجه الرابع عشر : أنه لو كانت دار الشقاء دائمة دوام دار النعيم وعذاب أهلها فيها مساوياً لنعيم أهل الجنة بدوامه لم تكن الرحمة غالبة للغضب بل يكون الغضب قد غلب الرحمة وانتفاء اللازم يدل على انتفاء ملزومه .(1/97)
والشأن في بيان الملازمة وأما انتفاء اللازم فظاهر، وقد دل عليه الحديث المتفق على صحته من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : أن رحمتي تغلب غضبي) وبيان الملازمة أن المعذبين في دار الشقاء أضعاف أضعاف أهل النعيم، كما ثبت في الصحيح (أن الله تعالى يقول يا آدم، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول : ان الله يأمرك أن تبعث من ذريتك بعث النار فيقول : ربي، ومابعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد في الجنة) فقال الصحابة : يارسول الله، وإينا ذلك الواحد ؟ فقال (إن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج) فعلى هذا أهل الجنة عشر عشر عشر أهل النار، وإنما دخلوهابالغضب فلو دام هذا العذاب دوام النعيم وساواه في وجوده لكانت الغلبة للغضب، وهذا بخلاف ما إذا كانت الرحمة هي الغالبة فإن غلبتها تقتضي نقصان عدد المعذبين أو مدتهم .(1/98)
يوضحه الوجه الخامس عشر : إن الله تعالى جعل الدنيا مثالا وانموذجا وعبرة لما أخبر به في الآخرة، فجعل آلامها ولذاتها ومافيها من النعيم والعذاب ومافيها من الثمار والحرير والذهب والفضة والنار تذكرة ومثالا وعبرة ليستدل العباد بما شاهدوه على ما أخبروا به، وقد أنزل في هذه الدار رحمته وغضبه وأجرى عليهم آثار الرحمة والغضب ويسر لأهل الرحمة أسباب الرحمة ولأهل الغضب أسباب الغضب، ثم جعل سبحانه الغلبة والعاقبة لما كان عن رحمته، وجعل الاضمحلال والزوال لما كان عن غضبه فلابد من حين قامت الدنيا إلى أن يرثها الله ومن عليها أن تغلب آثار رحمته آثارغضبه، ولو في العاقبة، فلابد أن يغلب الرخاء الشدة والعافية والبلاء، والخير وأهله، والشر وأهله وأن أديلوا أحيانا فإن الغلبة المستقرة الثابتة للحق وأهله وآخر أمر المبطلين الظالمين إلى زوال وهلاك فما قام للشر والباطل جيش إلا أقام الله سبحانه للحق جيشاً يظفر به ويكون له العلو والغلبة قال تعالى : {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لَهُمْ المنصورون وإن جُندنا لَهُمْ الغالبون} فكما غلبت الرحمة غلب جندها، وإذا كان هذا مقتضى حمده وحكمته في هذه الدار فهكذا في دار الحق المحض تكون للغلبة لما خلق بالرحمة والبقاء لها، وسرهذا الوجه ومايتصل به أن الخير هو الغالب للشر وهو المهيمن عليه الذي لو دخل حجر ضب لدخل خلفه حتى يخرجه ويغيره وإذا كانت للشر دولة وصولة الحكمة مقصودة لغيرها قصد الوسائل فالخير مقصود مطلوب لنفسه قصد الغايات .(1/99)
الوجه السادس عشر : أنه قد ثبت في الصحيح أن الجنة يبقى فيها فضل فينشئ الله لها خلقاً يسلكهم إياها بغير عمل كان منهم، محبة منه للجود والاحسان والرحمة، فإذا كان جوده ورحمته قد اقتضيا أن يدخل هؤلاء الجنة بغير تقدم عمل منهم ولا معرفة ولا إقرار فما المانع أن تدرك رحمته من قد أقر به في دار الدنيا واعترف بالله ربه ومالكه واكتسب ما أوجب غضبه عليه، فعاقبه بما اكتسبه، وعرفه حقيقة ما اجترحه، واشهده أنه كان كاذبا مبطلا، وإن رسلهم الصادقون المحقون، فشهد ذلك، وأقر على نفسه وتقطعت نفسه حسرة وندما لو أخرجت النار منه خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد ولا يقال الخبث لايفارقهم والإصرار لايزول عنهم، كما قال تعالى : {ولو رُدُّو لعادوا لما نهو عنه} فإن هذا ليس في حكم الطبيعة الحيوانية، ولهذا في الدنيا لما يمسهم العذاب تجد عقدة الاصرار قد انحلت عنهم وانكسرت نخوة الباطل ولكن لم تطهر قلوبهم بذلك وحده، وأما قوله تعالى : { ولو رُدوا لعادوا لما نُهوا عنه} فذلك قبل دخول النار فقالوا {يا ليتنا نُردُّ ولا نكذِّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ماكانوا يُخفون من قبل ولو رُدوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون} وهذا إخبار عن حالهم قبل أن يدخلوا النار وقبل أن تذيب لحومهم ونفوسهم التي نشأت على الكفر فالخبث بعد كامن فيها فلو ردوا والحالة هذه لعادوا لما نهوا عنه والحكمة والرحمة تقتضي أن النار تأكل تلك اللحوم التي نشأت من أكل الحرام، وتنضج تلك الجلود التي باشرت محارم الله تعالى، وتطلع على الأفئدة التي أشركت به وعبدت معه غيره، فتسليط النار على هذه القلوب والأبدان هو من غاية الحكمة، حتى إذا أخذت المسألة حقها وأخذت العقوبة منهم مأخذها وعادوا إلى مافطروا عليه وزال ذلك الخبث والشر الطارئ على الفطرة، وللعزيز الحكيم حينئذ حكم هو أعلم به وهو الفعال لما يريد.(1/100)
الوجه السابع عشر : أن أبداية النار كأبدية الجنة، أما أن يتلقى القول بذلك من القرآن أومن السنة، أومن إجماع الأمة، أومن أدلة المعقول، أومن القياس على الجنة، والجميع منتف، أما القرآن فإنما يدل على أنهم غير خارجين منها فمن أين يدل على دوامها وبقاء أبديتها ؟ فهذا كتاب الله وسنة رسوله أرونا ذلك منهما وهذا بخلاف الجنة فإن القرآن السنة قد دلا على أنها لاتبيد ولاتفنى، وأما الاجماع فلا اجماع في المسألة وإن كان قد حكاه غير واحد وجعلوا القول بفنائها من أقوال أهل البدع، فقد رأيت بعض مافي هذا الباب عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما من حكى الاجماع فأما أن يكون قد حكاه بموجب علمه كما يحكى الاجماع كثير على ما للخلاف فيه مشهور غير خفي وأبلغ من هذا حكاية الاجماع كثيرا على ما الاجماع القديم على خلافه، هذا كثير جدا إنما يعلمه أهل العلم ولو تتبعناه لزاده على مائتي موضع، وأما أن يكون من حكى الاجماع أراد أن الأمة اجتمعت على بطلان قول الجهمية بفناء الجنة والنار وأنهما يشتركان في ذلك، فنعم اجتمعت الأمة على خلافهذا القول، فلما قال السلف أن الأمة مجتمعه على خلاف ذلك ظن من تلقي منهم ذلك أن الاجماع على خلافة في الموضعين، وأيضاً فإن الأمة مجتمعه على خلاف قولهم في الدارين، فإنهم يقولون أن الله تعالى لايقدر على ابقهائهما أبدا إذا يلزم من ذلك وجود حوادث لانهاية لها قالوا : وهذا ممتنع كما أن وجود حوادث لابداية لها ممتنع فيفنيان بأنفسهما من غير أن يفنيهما الله تعالى، وهذا القول لم يقل به أحد من أهل الإسلام سوى هذه الفرقة الضالة، أو يكون حكايتهم الاجماع على أن أهل النار لايخرجون منها أبدا فهو مما اجمع عليه سلف الأمة، فهذه ثلاث محال للاجماع ولكن أين الاجماع على أن النار باقية ببقاء الجنة وأن كليهما في البقاء سواء، وأما أدلة القول فلا مدخل لها في ذلك وأن كان لابد من دخولها فهي من هذا الجانب كما ذكرناه وأما(1/101)
قياس النار على الجنة فقد تقدم الفرق بينهما من وجوه عديدة، وكيف يقاس الغضب على الرحمة والعدل على الفضل والمقصود لغيره على المقصود لنفسه .
الوجه الثامن عشر : أنه لو لم يكن من الأدلة على عدم أبدية النار إلا استثناؤه سبحانه بمشيئته في موضعين من كتابه أحدهما قوله {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء إن ربك حكيم عليم} فما هاهنا مصدرية وقتية وهو استثناء مادل عليه الأول وهو كونها مثواهم بوصف الخلود فلابد أن يكون المستثنى مخرجا لما دخل في المستثنى منه وهو خلودهم فيها فلابد أن يكون المستثنى مخالفاً لذلك إذ يمتنع تماثلهما وتساويهما وغاية مايقال : أن المستثنى واقع على ماقبل الدخول لا على مابعده وهو مدة لبثهم في البرزخ وفي مواقف القيامة، وهذا لا يتأتى هاهنا فإن هذا قد علم انتفاء الدخول في وقته قطعاً فليس في الاخبارية فائدة وهو بمنزلة أن يقال: أنتم خالدون فيها أبداً إلا المدة التي كنتم فيها في الدنيا وهذا ينزه عنه كلام الفصحاء البلغاء فضلا عن كلام رب العالمين وهو بمنزلة أن يقال للميت : أنت مقيم في البرزخ إلا مدة بقائك في الدنيا وليس هذا مثل قوله : {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} فإن هذا استثناء منقطع قصد به تقرير المستثنى منه وأنه عام محفظ لاتخصيص فيه، إذ من الممتنع أن يكون تخصيص باستثناء فيعدل عن ذكره إلى غير جنسه .(1/102)
ونظيره قولهم : مازاد إلا نقصاً فإنه يفيد القطع بعدم زيادته وأنه إن كان ثم تغير فبالنقصان وليس هذا مخرج قوله : {خالدين فيها إلا ماشاء الله} ولو أريد هذا لقيل : لايخرجون منها أبداً إلا مدة مقامهم في الدنيا، فهذا يكون وزان قوله : {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وكان يفيد ذلك تقرير عدم خروجهم منها، وأما إذا قيل خالدين فيها إلا ماشاء الله لايخلدوا فإن ذلك يفيد أن لهم حالين : فإن قيل : هذا ينتقض عليكم بالاستثناء في أهل الجنة فإن هذا وارد فيهم بعينه قيل : قد اقترن بالاستثناء في أهل الجنة ماينافي ذلك وهو قوله {عطاءً غير مجذوذ} ولهذا والله أعلم عقب الاستثناء بهذا رفعاً لهذا التوهم وعقب الاستثناء في أهل النار بالأخبار بأنه يفعل مايريد ولا حجر عليه سبحانه فيما يريد بهم من عذاب أواخراج منه فإن الأمر راجع إلى مشيئته وارادته التي لاتخرج عن علمه وحكمته كما عقب الاستثناء في سورة الأنعام بقوله : {إنَّ ربك حكيم عليمٌ} فدل بذلك على أنه أدخلهم النار بحكمته وعلمه بأنه لا يصلح لهم سواها وله حكمة وعلم فيهم لا يبلغه العباد فإن اقتضت حكمته وعلمه فيهم غير ذلك لم تقصر عنه مشيئته النافذة وقدرته التامة، ومما يوضح الأمر في ذلك أنه في آية الأنعام خاطبهم بذلك أما في النار وأما في موقف القيامة ولم يقيد مدة الخلود بدوام السماوات والأرض فقال {ويوم نحشرهم جميعاً يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجَّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلاَّ ماشاء الله إن ربك حكيم عليم} فأمكن أن يكون هذا الاستثناء هو مدة مقامهم في البرزخ وفي مدة القيامة وأما أن يقول لهم في البرزخ وفي الموقف فهذا أمر قد علموه وشاهدوه فأى فائدة حصلت في الاخبار به .
كلام ابن القيم في الوابل الصيب(1/103)
ذكر ابن القيم في كتابه (الوابل الصيب) : أن الدور ثلاث : دار الطيب المحض ودار الخبث المحض، قال : وهاتان الداران لاتفنيان، ثم قال : ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة .
فيقال هنا : أَلْحَقَ رحمه الله نار الكفار بالجنة باعْتبار البقاء الطويل لِنار الكفار وهو من جنس اشتراك أهل الدارين بالخلود والتأبيد مع الفارق حيث أن الجنة لدوامها أدلة أخرى كما تقدم ولفناء نار الكفار أدلة أخرى كما تقدم، وبما أن اعتقاد ابن القيم وشيخه بفناء النار لم يمنعهما من إطلاق كلمة (لا يفنيان) في الرد على الجهمية فكذلك هنا .
فاقتران الجنة والنار شيء وإفراد النار وحدها شيء آخر ثم إن أرقى مايصل إليه هذا الكلام أنه من المتشابه من كلام هذا العالِم فلا يُقابل ماتقدم من كلامه وكلام شيخه المحكم .. وهذه قاعدة من ضيّعها أسرع التنقّل وعسر عليه الثبات .. كذلك فكُتُب ابن القيم الثلاثة التي فيها بحث مسألة الفناء بعد هذا الكتاب .. فتبين أن هذه الشبهة ليست بشيء .
كلام ابن القيم في زاد المعاد
ثم ذكر الألباني في مقدمته ص18 : أن ابن القيم صرح في كتابه زاد المعاد بأن المشرك لاتطهره النار ولو أخرج منها عاد خبيثاً كما كان وقد حرّم الله عليه الجنة .
أقول : ذكر ابن القيم هذا بعد كلامه على النار التي تُطَهِّريَنْ به مادة خبيثة ومادة طيبة وهم الذين يخرجون منها ثم ذكر خبث المشرك وأنه لَوْ أخرج من النار لعاد خبيثاً يعني لَوْ أخرج من النار كما يُخرج مَنْ به مادة خبيثة ومادة طيبة وقد طهرته النار فإن المشرك مايزال خبيثاً إذْ لابُدّ له من طول البقاء في النار وهو الخلود يوضح هذا ماقاله في حادي الأرواح ص273 .(1/104)
قال عن المشركين : ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا وتواطِنهم خبيثة كما كانت في ال دنيا والعذاب مستمر عليهم دائم ماداموا كذلك ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمْرٌ ذاتي لهم زواله مستحيل أم هو مر عارض طاريء على الفطّرة قابل للزوال ؟ هذا حَرْف المسألة وليس بأيديكم مايدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي، وقد أخبر سبحانه أنه فطر عباده على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب كما فطر الحيوان البهيم على طبيعته وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده، فإذا كان هذا الحق الذي فطُروا عليه وخُلقوا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل فإمكان زوال الكفر والشرك الباطل بضده من الحق أولى وأحرى ولا ريب أنهم لَوْ رُدّوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لما نُهوا عنه ولكن من أين لكم أن تلك الحال لاتزول ولا تتبدل بنشأة أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النار مَأْخَذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم فإن العذاب لم يكن سُدى وإنما كان لحكمة مطلوبة فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يُطلب ولا غرض يُقصد، والله سبحانه ليس يشْتَفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه، وهو لايعذب عبده لهذا الغرض، وإنما يعذبه طُهْرة له ورحمة به فعذابه مصلحة وإن تألم به غاية الألم كما أن عذابه بالحدود في الدنيا مصلحة لأربابها.
وقد سمى الله سبحانه الحد عذابا (1) ، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داء دواء يناسبه ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية.. إلى آخر كلامه رحمه الله .
إذا فهمت هذا تبين لك أن كلام ابن القيم لايتناقض كما يضرب بعضهم كلامه ببعض لِيُورهم التناقض والتعارض .
كلام مُنْصِف في هذه المسألة
__________
(1) قال تعالى في حَدّ الزناة : { وليشهدوا عذابهما طائفة من المؤمني} فسماه عذاباً .(1/105)
أوْرَدَ بعضهم كلام ابن القيم في مسألة الفناء فقال بعد ذلك : هذا ما أوْرده في المسألة العلامة المحقق ابن القيم وفيه من قائق المعرفة بالله تعالى وفَهْم كتابه والغوْص على دُرَرِ حِكَمِه في أحكامه وأسراره في أقداره والإفصاح عن سعة رحمته وخفيِّ لطفه جليل إحسانه مالم يسبقه إليه فيما نعلم سابق ولم يلحقه لاحق.. إلى آخر ما قال، وصدق فيما قال، والأمر والله أجل وأعظم مما ذكر وَوَصَف، وإنما آفة من رَدّ هذا القول في معنى هذا البيت :
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيمِ
وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذا بقوله في الصواعق : فلا يظن من ساء فهمه أن هذا يناقض ما أخبر الله ورسوله به واتفق عليه سلف الأمة أنهم مخلدون في النار .. وقد تقدم في ص
يريد رحمه الله أن من ظن أن الخلود والتأبيد في جهنم يناقض القول بالفناء فإنما أُتِيَ من قِبَل سوء فهمه حيث لا تعارض ولا تناقض، وتقدم بيان ذلك والحمد لله .
القائلون بالفناء أسعد بالإجماع
ممن يقول بالدوام
صاحب كتاب (تنبيه الأخيار) وغيره بالإجماع على دوام النار، وإنما بنوا ذلك على آيات الخلود والتأبيد والأحاديث ونحو ذلك وقد تبين أنها ليست أدلة صالحة لدوام النار، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح ص268 كلام أصحاب الفناء قالوا : فالإجماع الذي أدّعيتموه غير معلوم وإنما يظن الإجماع في هذه المسالة من لم يعرف النزاع وقد عُرف النزاع فيها قديماً وحديثاً بل لو كُلف مُدّعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه يقال : إن النار لاتفنى أبداً لم يجد إلى ذلك سبيلاً، ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عنم واحد منهم خلاف ذلك بل التابعون حكوْا عنهم هذا وهذا قالوا : والإجماع المعتدّ به نوعان متفق عليهما ونوع ثالث مختلف فيه ولم يوجد واحد منهما في هذه المسألة.(1/106)
النوع الأول : مايكن معلوماً من ضرورة الدين كوجوب أركان الإسلام وتحريم المحرمات الظاهرة.
النوع الثاني : ماينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه.
النوع الثالث : أن يقول بعضهم القول وينشر في الأمة ولا ينكره أحد، فأين معكم واحد من هذه الأنواع ؟
ولوْ أن قائلاً ادّعى الإجماع من هذه الطرق واحتج أن الصحابة صَحّ عنهم ولم ينكر أحد منهم عليه لكان أسعد بالإجماع منكم. إنتهى .
فقد تبين أن القائلين بالفناء أسعد بالإجماع .
قال ابن القيم : ولكن أين الإجماع على أن النار باقية ببقاء الجنة وأن كليهما في البقاء سواء ص375 صواعق .
وانظر قول شيخ الإسلام في ص16 : بل إلى الساعة لم أعلم أحداً من الصحابة قال إنها لاتفى وإنما المنقول عن ضد ذلك، إنتهى. فمن الأسعد بالإجماع إلا أهل الفناء ؟.
وانظر قوله : ولم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، ص9 فمن الأسعد بالإجماع ؟ .
وانظر قوله : وحينئذ فيُحتج على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولاسنة ولا أقوال الصحابة ص13 من أولى بالإجماع ؟ .
تعقيب إسماعيل الأنصاري
على أثر عمر بن الخطاب
وقد تعقّب إسماعيل الأنصاري الألباني في إسناد أثر عمر في كتابه (نقد تعليقات الألباني) على شرح الطحاوية ص131 .
قال تحت عنوان (حملتان للألباني على ابن القيم لذكره أثراً عن عبد بن حميد يتعلق بالنار ولا داعي لهما) .
قال شارح الطحاوية ص484 : قَدْ رَوَى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال : (لو لبثت أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه) .(1/107)
فعلّق الألباني على هذا بما نصّه : (ضعيف لأنه من روايته عن الحسن قال : قال عمر والحسن لم يدرك عمر رضي الله عنه، وقال ابن القيم في (حادي الأرواح) عقبه : والحسن لم يسمع من عمر، ومع ذلك فقد حاول تَفْوِيته بكلام خطابي لا غناء فيه، راجع المستدرك يشير الألباني بهذه الإحالة إلى قوله ص600 في ذلك المستدرك : وحسْبك بهذا الإسناد جلاله والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين ولوْ لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جَزَم به وقال : (قال عمر بن الخطاب) ومَرَّ الألباني في تعليقه إلى أن قال : سامح الله ابن القيم وغفر له فإنه بتصحيحه لمثل هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه يفتح باباً كبيراً لبعض الفرق الضالة يَلِجون فيه إلى تأييد ضلالتهم كالقاديانية فإن من ضلالهم القول بفناء النار وانتهاء عذاب الكفار . أهـ.
قال الأنصاري بعد هذا الكلام : وردّي على هذا التعليق بأمور:
1- ان تلك العبارة التي في (حادي الأرواح) ليست لابن القيم كما زعم الألباني وإنما هي لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فقد صرّح بذلك الإمام ابن القيم في تلك العبارة ص227إلا أن الألباني بَتَرَها، ونصّها :
وقال شيخ الإسلام : وقد نُقِلَ هذا القول ـ أي بأن الله جعل للنار أمداً تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها عن عمرو وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم، وقد روى عبد بن حميد وهو من أجلّ أئمة الحديث في تفسيره المشهور : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال : قال عمر : (لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه) .(1/108)
وقال : حدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال : (لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه) ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} فقد رواه عَبْد وهو من أئمة الحفاظ وعلماء السنة عن هذين الجليلين سليمان بن حرب وحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة، وحماد يرويه عن ثابت وحميد وكلاهما عن الحسن وحَسْبك بهذا الإسناد جلالة .
والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به وقال : ( قال : عمر بن الخطاب) ولو قدِّر أنه لم يحفظ عن عمر فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين بالإنكار والرد مع أنهم ينكرون عن من خالف السنة بدون هذا فلوْ كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأئمة لكانوا أول مُنْكر له. إنتهى .
ثم قال الأنصاري : هذا نص عبارة الإمام ابن تيمية التي عزاها الألباني إلى تلميذه ابن القيم دون مبالاة بتصريح ابن القيم نفسه بأنها لشيخه .
2- أن الإسناد الذي أشارت إليه عبارة (وحسبك بهذا الإسناد جلالة) ليس المراد به (عن الحسن قال : قال عمر) وإنما المراد به : قول عَبْد بن حميد : (حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن) فهذا هو السند المشار إليه بعبارة (وحسْبك بهذا الإسناد جلالة وقد بَتَرَ الألباني العبارة لِيُوهم القراء أن المزاد منها قوله : (عن الحسن قال : قال عمر) وليس الأمر كذلك كما يظهر بادئ ذي بدء من سياقي للعبارة فيما تقدم كما جاء في (حادي الأرواح) فقد جاء فيها : (وحسبك بهذا الإسناد جلالة) قبل الخوض في رواية الحسن عن عمر ثم أتى بعد ذلك مانصه : (والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين ...) إلى آخره .(1/109)
3- أن ابن القيم أرفع مكانة من أن يُظن بأنه يقصد بأي رأي فتح باب الضلالة لأي ضال كان فاديانيا أوغيره حاشاه من ذلك وإنما يرى ابن القيم وشيخه ابن تيمية وأمثالها من المحققين أن القول الذي يعتبره قائله حقاً لايتركه لكونه فرقة من المبتدعة قالته أوستقوله، حكى ذلك ابن القيم عن بعض أهل العلم في (حادي الأرواح ص233) وأقرّه ونصّه .
(قالوا والقول الذي يُعد من أقوال أهل البدع ماخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة إما الصحابة أومن بعدهم، وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فلا يُعَدّ من أقوال أهل البدع وإن دانوا به واعتقدوه فالحق يجب قبوله ممن قاله والباطل يجب ردّه على من قاله ... إلى آخره ) .
إنتهى المطلوب من كلام الأنصاري.
فتوى بلا برهان
ذكر في فتاواه عن النار أنها مؤبدة وقال : ولايكاد يعرف عند السلف سوى هذا القول .
الجواب : قال ابن القيم في حادي الأرواح ص260 فصل : وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام : فيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين، وذكر ابن القيم سبعة أقوال منها القول بفناء النار في نفس الصفحة.
وذكر السفاريني في لوامع الأنوار البهية سبعة أقوال في الجء الثاني صفحة 234 منها الول بفناء النار وهو السابع.
وانظر شرح الطحاوية لأحمد شاكر صفحة 375 ذكر ثمانية أقوال ثم قال صاحب الفتوى : وهذا الأمر لاشك فيه لأن الله تعالى ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع من القرآن .
الأول في سورة النساء في قوله تعالى : {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا} ثم ذكر آية سورة الأحزاب وآية سورة الجن وفيهما ذكر الخلود والتأبيد .
الجواب : الاستدلال بالخلود والتأبيد غير صحيح حيث يُقصد به المكث الطويل في لغة القرآن، فلا يدل ذكر الخلود والتأبيد على دوام النار، وقد تقدم بيان ذلك .(1/110)
ثم قال صاحب الفتوى : ومن العجب أن فئة قليلة من العلماء ذهبوا إلى أنها تفنى بناء على علل عليلة لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسنة وحَرّفوا من أجلها الكتاب والسنة فقالوا : إن (خالدين فيها أبدا) مادامت موجودة فكيف هذا ؟
الجواب : هؤلاء العلماء أنت تعلم مَنْ هم، ولم تعارضهم بدليل صحيح، كذلك العلل العليلة قولك : وحرفوا من أجلها الكتاب والسنة، هذه إحدى الكبر
نقول : حاشا وكلا برأ الله الشيخ وتلميذه عن هذا، وقولهم : (خالدين فيها أبداً) مادامت موجودة هو الحق والصواب ليس تحريف للكتاب والسنة وإلا فما قولك بقوله تعالى : {وماجعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} أليس هذا الخلود في الدنيا مادامت موجودة مع أنها تفنى، فكيف تقول إنه تحريف للكتاب والسنة قولهم : مادامت النار موجودة ؟.
ثم قلت : إذا كانوا خالدين فيها أبداً لزم أن تكون هي مؤبّدة هم كائنون فيها وإذا كان الإنسان خالداً مؤبداً تخليده لزم أن يكون مكان الخلود مؤبداً لأنه لَوْ فني مكان الخلود ماصح تأبيد الخلود.
الجواب : لا يلزم من الخلود أن تكونم هي مؤبدة إلى مالا نهاية فقد تبين من الآية السابقة جواب هذا ومعنى الخلود، وتبين من الآية السابقة جواب هذا ومعنى الخلود، وتين أنه يفنى مكان الخلود ويصح تأبيد الخلود كما في الآية السابقة لأن الدنيا تفنى وقد صح ذكر الخلود فيها .
وقد تقدم ذكر الخلود والتأبيد وأنه المكث الطويل بلغة القرآن الكريم، ولست هذه معارضة علمية .
أما قولك : والتعليلات الباردةالمخالفة للنص مردودة على صاحبها، فهذا صحيح ولكن الشأن هل تعليلات القائلين بفناء النار باردة ومخالفة للنص أم تعليلات مخالفيهم ؟ فهل تأملت مافي حادي الأرواح وشفاء العليل ومختصر الصواعق للموصلي ؟ أم كلامك جاء مجازفة ؟.(1/111)
وبما أن المثبت له وأم النار مع دوام الرب عز وجل عليه الدليل كذلك النافي عليه الدليل ونحن استدلالنا بآيات الاستثناء وغيرها مثل قوله تعالى : {لابثين فيها أحقابا} وبعض الآثار فما هو دليل المثبت ؟ .
الجواب : غاية ماعنده أن يذكر الآيات التي وردت بخلود أهل النار وتأبيد عذابهم وعدم إخراجهم وعدم تفتير العذاب عنهم ونحو ذلك، وهذا حق وهو على ظاهره ولاتؤوله لكنه يعني المعذبين أنفسهم، أما النار نفسها فليس لدى المثبت ولا دليل واحد من الكتاب والسنة يدل على بقاءها ودوامها مع دوام الرب عز وجل.
كذلك حتى الخلود والتأبيد مع أنه ليس دليلاً على دوامها فهو في لغة العرب يُعنى به المكث الطويل .
ومَنْ وُفّق لفهم هذه الجملة التي ذكر ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل انحلّ عنه الإشكال . وهي : ( وفرق بين أن يكون عذاب أهلها دائماً بدوامها وبين أن تكون هي أبدية لا انقطاع لها فلا تستحيل ولا تضمحل فهذا شيء وهذا شيء) .
فتوى بلا حجة
قال بعضهم : المتعين قطعاً أنها مؤبدة .
الجواب : من أين تعين تأبيدها وقُطع به لابد من حجة.
ثم قال : ولايكاد يعرف عن السلف سوى هذا القول
الجواب : تقدم ماثبت عن الصحابة بلا معارض وغيرهم من السلف.
ثم قال : ولهذا جعله العلماء من عقائدهم .
الجواب : الذين جعلوه من عقائدهم إنما اعتمدوا في ذلك على أدلة وعيد الكفار من الخلود والتأبيد وغيره من ذبح الموت وغيره، وتقدم بيان أن هذا كله لا نزاع فيه وإنما النزاع على النار نفسها هل تدوم بدوام الله أم أنها تفنى بعد خلود الكفار وتأبيدهم، وقولهم : (لايفنيان) وتقدم أن هذا لايعني الدوام .
قال : بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبدة أبد الآبدين، وهذ الأمر لاشك فيه لأن الله تعالى ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع من القرآن قال الناقل : ثم ذكرها .(1/112)
الجواب : الناقل لم يذكرها لأنها في وعيد الكفار من الخلود والتأبيد ونحوه التي لاتصلح للاستدلال على دوام النار نفسها، يوضح ذلك ما يأتي :
ثم قال : ولو ذكر الله التأبيد في موضع واحد لكفى فكيف وهو قد ذكره في ثلاثة مواضع .
الجواب : قد تبين الآن أن أدلته على أن النار مؤبدة أبد الآبدين هي آيات الخلود والتأبيد، وتقدم بيان ذلك مراراً، وأنه لايصلح.
قال : ومن العجب أن فئة قليلة من العلماء ذهبوا إلى أنها تفنى بناءً على عِلل عليلة لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسنة .
الجواب : قد تقدم أن ماذهب إليه العلماء ليس مبنياً على علل عليلة وحاشاهم من ذلك وليسوا ممن يبني كلامه في الدين على علل عليلة وكيف يقال فيهم مثل هذا الكلام ؟ .
ثم قال : وحَرّفوا من أجلها الكتاب والسنة فقالوا : إن (خالدين فيها أبداً) مادامت موجودة فكيف هذا ؟ إذا كانوا خالدين فيها أبداً لَزِمَ أن تكون هي مؤبدة، هم كائنون فيها، وإذا كان الإنسان خالداً مؤبداً تخليده لزم أن يكون مكان الخلود مؤبد لأنه لوْ فني مكان الخلود ماصحّ تأبيد الخلود، والآية واضحة جداً .
الجواب : قوله : وحرفوا من أجلها الكتاب والسنة فنقول : نعوذ بالله أن يقال هذا القول العظيم في شيخ الإسلام وتلميذه لأنه القول بالفناء إنما اشتهر عنهما وهما اللذان يقولان : أن خلود الكفار وتأبيدهم مادامت باقية، وهو الحق والصواب وهو الذين ندين الله به وقد تقدم بيان أن الخلود والتأبيد لايقتضي ذلك عدم النهاية.
والاستدلال به على دوام النار مع الإله باطل بخلاف الجنة فليس العمدة في دوامها على الخلود والتأبيد فقط وإنما بأدلة أخرى، وتقدم بيان ذلك .(1/113)
ونحن نبرأ إلى الله أن نتهم علماءنا بتحريف الكتاب والسنة ونقول : {سبحانك هذا بهتان عظيم} ومن الذي جاهد المحرفين للكتاب والسنة مثل هذين الإمامين رضي الله عنهما ؟ بل إنهما بنفس هذا القول الذي هو الفناء يردّان على من حَرّف الكتاب والسنة بوَصْفه الإله بمالا يليق به، فإلى الله المشتكى، وتقدم ماذكره شيخ الإسلام عن الجهم أنه لما اعتقد دوام النار أنكر أن الله أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، فبين الشيخ أن اعتقاده للدوام فاسداً وبين أنها لاتدوم وعلّل هو وتلميذه أفعال الرب عز وجل بكلام رفيع نفيس عظيم لكن له آفة : وهي تكدّر الفهوم، وإنه لايلزم تخليد وتأبيد مكان الخلود والتأبيد كما يقول لأنه المكث الطويل فيخلد الكافر ويؤبد في النار ما دامت هي خالدة مؤبدة فإنها انتهى تأبيدها وتخليدها إنتهى تخليد الكافر وتأبيده، وهذا واضح وعقدة هذا الإصرار تنحل بعدم تحميل التخليد والتأبيد غير مايحتمل وفهْم ذلك بلغة القرآن وفهْم الصحابة وتقدم بيان ذلك مراراً.
ثم قال : والتعليلات الباردة المخالفة للنص مردودة على صاحبها.
الجواب : هذا صحيح لكن الشأن هل القول بالفناء تعليلات باردة مخالفة للنص أم لا ؟ وتقدم بيان ذلك والحمد لله.
ثم قال : وهذا الخلاف الذي ذُكر عن فئة قليلة من أهل العلم خلاف مطّرح لأنه مخالف للنص الصريح الذي يجب على كل مؤمن أن يعتقده، ومن خالفه لشبهة قامت عنده فمعذور عند الله.
الجواب : تقدم موافقة القول بالفناء للنصوص .
وقوله : ومن خالفه يعني دوام النار لشبهة قامت عنده فمعذور عند الله، أقول : لقد خالفه من معهم أدلة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فَرُموا بالبدعة والضلالة .(1/114)
قال : ولكن من تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف أن القول بتأبيدها هو الحق الذي لايحق العدول عنه والحكمة تقتضي ذلك لأن هذا الكافر أفنى كل عمره في محاربة الله عز وجل ومعصية الله والكفر به وتكذيب رسله مع أنه جاءه النذير وأعذر وبُيّن له الحق ودُعي إليه وقُتل عليه وأصرّ على الكفر والباطل فكيف نقول أن هذا لا يؤبّد عذابه؟ .
والآيات في هذا صريحة كما تقدم . إنتهى .
الجواب : إن تعليل أفعال الرب بالحكمة خاصة فناء النار هي من جانب من يقول بالفناء، وتقدم بيان بعض ذلك أما من يقول بالدوام فأين تعليله بالحكمة لدوام العذاب ودوام النار ؟ إنه لايخرج عن الإحالة إلى مشيئة مجردة الذي هو مذهب الجبرية .
أما الكافر الذي أفنى عمره بالكفر فسيعذب بما أقلّ قليله يصدّع القلوب لكن الكفار في النار يعترفون بذنوبهم ويتضرعون لربهم وينكسرون ويذلّون فتزيل النار ماطَرَا على فطرهم الأصلية ويعودون لأصل الفطرة وهذه وظيفة النار فهي كِيرٌ يُزيل هذا الخَبث.
ويقال هنا : ليس كل الكفار على ماوصفت فالذي حين بلغ سن الرشد مات على الكفر، فهذا لم يفن عمره بمحاربة الله وأبو طالب معروف شأنه وقد مات على الكفر، وأبلغ من هذا كله مسلم عاش على الإسلام ثم قال كلمة كفر، وهؤلاء كثير في أهل النار سوى أبي طالب .
ثم هذا الكافر الذي أفنى عمره، بمحاربة الله عز وجل هو مفطور على محبة الله وكفره دخيل فالنار طُهْرَة له من نجاسة الكفر، وهذا التعليل هو الذي يجعلنا نفهم الحكمة من التعذيب .
أما التعليل بأنه أفنى عمره بمحاربة الله عز وجل هو مفطور على محبة الله وكفره دخيل فالنار طُهْرَة له من نجاسة الكفر، وهذا التعليل هو الذي يجعلنا نفهم الحكمة من التعذيب .
أما التعليل بأنه أفنى عمره بمحاربة الله فكيف لايؤبّد فهذا رأي لانجد مايؤيده لامن العقل ولامن النقل .(1/115)
والرب أرحم الراحمين فالمخلوق لَوْ أراد تعذيب من أفنى عمره بمحاربته ثم عذبه أضعاف أضعاف الزمان الذي كان يحاربه فيه وهو يعترف بذنبه ويُقر بخطئه ويدعو ويتضرع وينكسر كما ذكر الله عن حال الكفار في النار، إنه من كماله أن يعفو عنه ومن مدائحه، أما أن يظل غضبه عليه كما هو بالرغم مما يقاسي هذا ويعاني وبالرغم من انكساره حقيقة واعترافه بذنبه قيقة فهل هذا اكمال يستحق عليه الثناء ؟ مع أن المخلوق يتشفىّ بتعذيب من أساء إليه، والرب سبحانه ليس كذلك فلا يتضرر بالمعاصي ولله المثل الأعلى.
أما ماذكره ناقل الفتوى بالهامش أن الكافر على عزم أنه لوْ عاش أبداً لبقي على اعتقاد الكفر فلما كان عزمه مؤبّداً عُوقب بعذاب الله الأبدي والله هو المطلع على السرائر، وينسب هذا القول لابن ريّان.
فالجواب : أن قائل هذا ماعرف حكمة التعذيب وأنه لإزالة الرّان الذي حجب عن الإله وقطع عن طاعته في الدنيا وأن النار تذيب هذا الرّان كما تُفْتَن المعادن في النار فيزول خبثها، فكذلك الكافر .
إنه كلما يستمر في العذاب كلما يخف الرّان عن قلبه وكلما يقترب قلبه مما فُطر عليه فيزداد تضرعاً وانكساراً، وقد ذكر الله في القرآن تضرعهم ودعائهم وذلّهم وانكسارهم، وهذا لو حصل منهم في الدنيا لرُحِموا فما المانع أن يحصل هذا في الآخرة بعد ما تأخذ النار منهم مأخذها، ما الذي ينفي هذا ؟ والله ما يَبْعُد قبول هذا واستحسانه من قلوب سليمة أيّ شيء أحسن من هذا وأكمل منه يوصف به أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين ؟.
وتأمل كيف يظهر بهذا معنى اسمه (الحكيم) بل و (الرحيم).
فظهر مما تقدم أن الكافر وإن كان عزمه لو عاش البقاء على كفره فإنه ينفسخ عزمه هذا بعد مايذوق العذاب الأليم فيعود إلى فطرته، وظهر أن هذا الرأي مبني على عدم معرفة الحكمة من التعذيب.(1/116)
أما قول ناقل الفتوى النافخ في الورم في هامش الفتوى : ذكر إنسان في كتاب الاستنفار أن ثلاثة عشر عالماً نقلوا الإجماع على ذلك ولم يُعلم لهم مخالف .
الجواب : ثلاثة عشر عالم قليل فلو قال : ثلاثمائة أوثلاثة آلاف ماكذبناه فقد وقفنا على كلام هذا الجنس وأنهم مجمعون على خلود أهل النار أبداً وأن الموت يُذبح وأن عذاب الكفار في النار مقيم وأنه لايفتر عنهم من عذابها ونحو ذلك من وعيد الكفار الذي يكون مادامت النار باقية لكنهم ما أجمعوا على دليل واحد ولا نصف دليل على أن النار تدوم بدوام الله وهذا هو سِرّ المسألة .. وقد تقدم بيان من الأسعد بالإجماع .
أما هذا الإنسان فهو كما تقول العوام : متى بُني هذا القصر ؟ أمس العصر .
ولسنا نعجب فزماننا هذا زمن العجائب ينتج فيه من العنب زبيباً قبل أن يُحَصْرم، فعلى الإنسان في زماننا أن يقبل كل شيء وإلاّ رَفضه كل شيء .
فتوى بلا دليل
قال بعضهم : وكذا النار مخلدون فيها أبد الآباد ولايخرجون منها ولاتخرب أيضاً هي بل تبقى وهم باقون فيها .
الجواب : هذا الكلام كل أحد يستطيع أن يرده هكذا لكن أين الدليل الذي تقوم به الحجة من الكتاب أو السنة ؟ الناقل لهذه الفتوى متلهّف أن يجد في كلام هذا المفتي شيئاً يُعتمد عليه، ولذلك قال بعد الكلام السابق :
وذكر بعض الآيات، هكذا لم يَنقل الآيات لأنها من آيات الوعيد بالخلود والتأبيد ونحوها من آيات وعيد الكفار، التي يجيب عنها القائلون بالفناء بكلمة واحدة وهي : (ما دامت النار باقية) لكن المطالبة بدليل بقائها هي ولا أحد يستطيع إلى ذلك سبيلاً، ولذلك لم يذكرها الناقل .
ثم قال صاحب الفتوى : وقال بعض السلف : إن النار لها أمد ولها نهاية بعد ما يمضي عليها آلاف السنين والأحقاب الكثيرة وأنهم يموتون أو يُخرجون منها، وهذا قول ليس بشيء عند جمهور أهل السنة والجماعة بل هو باطل تردّه الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة كما تقدم .(1/117)
الجواب : حتى الآن ما اسْتفدنا شيئاً لأن هذا الكلام يمكن قوله بسهوله وإنما الشأن بالاستدلال على دوام النار مع الله عز وجل لأن النزاع على هذا فقط فأين الدليل ؟ .
والناقل لم ينقل لنا أدلة لا كثيرة ولا قليلة من الكتاب والسن، والعلّة ماذكرته قبل وهو أنها أدلة تعذيب الكفار الذي لا خلاف فيه بين القائلين بالفناء، والقائلين بالدوام، والمطلوب دليل دوام النار نفسها فهو محل النزاع .
ثم قال المفتي : وقد اسْتقر قول أهل السنة والجماعة أنها باقية أبد الآباد وأنهم لايخرجون منها وأنها لاتخرب أيضاً بل هي باقية أبد الآباد في ظاهر القرآن الكريم وظاهر السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
بعد هذا قال الناقل : ثم ذكر زيادة أدلة، وأين هي ؟
الجواب : لم يستقر قول أهل السنة والجماعة أنها باقية والخلاف مشهور وقد حدث بعد الصحابة وقد تقدم بيان ذلك .
والفتاوى إذا كانت تقبل بهذه الصورة يعني أن يذكر المفتي رأيه دليل فالفتوى سهلة لكل أحد .
والقاعدة الشرعية أن قول العالم مهما يكون ليس بحجة وإنما يُطلب له حجة من الكتاب والسنة .
وقد تقدم مايبين أن هذه الفتوى ليست بشيء.
أما ماذكره الناقل عن الألباني أنه يقول : لم يثبت القول بفناء النار عن أحد من السلف وإنما هي آثار واهية لاتقوم بها حجة وبعض أحاديث موضوعة، ذكر في التعليق على شرح الطحاوية ص424 فقد تقدم الرد على الألباني وبيان تصحيحه لأثر أبي هريرة: (ما أنا بالذي لا أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد) وقرأ قوله تعالى : {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} الآية .(1/118)
قال الألباني : وسنده صحيح، أنظر رفع الأستار ص75 ومعلوم أن هؤلاء هم الكفار أهل النار من السياق ومن كلام هذا الصحابي لعلمه أن أهل التوحيد أمرهم مُنْتَهى منه فلا حاجة أن يقال فيهم مثل هذا الكلام فأمرهم معلوم، كذلك صحّح الألباني الأثر الذي خرجه عبد الرزاق أن قوله تعالى : {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال الصحابي : راوي هذا الأثر : هذه الآية قاضية على القرآن كله .
يقول : حيث كان في القرآن (خالدين فيها) تأتي عليه .
قال الألباني : وإسناده صحيح موقوف، وقد تقدم هذا أيضاً فما هذا التناقض والتعارض ؟ .
كذلك فقد صحح شيخ الإسلام أثر عمر بن الخطاب : (لو لبث أهل النار قدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه) .
وبينه بما فيه كفاية وقد تقدم، كذلك تقدم تصحيح الأنصاري لهذا الأثر ورده على الألباني .
كشف شبهات
قول شيخ الإسلام : وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات مالا يُعدم ولا يفنى بالكلية كالجن والنار والعرش وغير ذلك .
الجواب : أن هذا غير مانحن فيه فابن القيم رحمه الله قال في حادي الأرواح صفحة 256 : فأما القول بفنائهما (يعني الجنة والنار) فهو قول جهم بن صفوان إمام المعطلة الجهمية وليس له فيه سلف قط من الصاحبة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الإسلام ولا قال به أحد من أهل السنة، وهذا القول مما أنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفر وهم به وصاحوا بهم في أقطار الأرض كما ذكره عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب السنة عن خارجة بن مصعب أنه قال : كَفَرْت الجهمية بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل يقول الله سبحانه وتعالى : {أكلها دائم وظلها} وهم يقولون : لا يدوم ويقول الله تعالى : {إن هذا لرزقنا ماله من نفاد} وهم يقولون : ينفد .
ويقول الله عز وجل : {ماعندكم ينفد وماعند الله باق} .(1/119)
قال شيخ الإسلام : وهذا قاله جهم لأصله الذي اعْتقده وهو امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام التي اسْتدلوا بها على حدوث الأجسام، إلى آخر كلامه فهذا شيء وما نحن بصدد شيء آخر، ولذلك قال شيخ الإسلام في جواب السؤال المذكور : ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومَنْ وَافقه من المعتزلة ونحوهم ثم ذكر أنه قول باطل، لأنه قول أهل الكلام ومبني على أصولهم الفاسدة، فالقول بفناء الجنة والنار وغيرهما على مقتضى كلام الجهم وأتباعه باطل يردّه الشيخ وابن القيم وأهل السنة ونحن معهم في ذلك ولله الحمد .
أما ما ذكروه من فناء النار وحدها فلا يقصدون بذلك أنها تعدم بالكلية كما يزعم الجهم بل تتحول من حال إلى حال، يوضحه قول الشيخ في شرح الأثر المروي عن عمر قال الشيخ : وقوله : (يخرجون فيه) أي يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها وينفد وينقطع فهم لايخرجون منها بل هم خالدون في جهنم كما أخبر الله لكن انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا فلم يبق فيها عذاب وذلك أن العالم لا يعدم وجهنم في الأرض والأرض لاتعدم بالكلية لكن فناؤها يتغيّر حالها واسْتحالتها من حال إلى حال إلى آخر كلامه.
فقد بين رحمه الله المقصود بقوله : وذلك أن العالَم لا يُعْدم وجهنم في الأرض ثم أخبر أن الفناء هو الاستحالة من حال إلى حال وهذا غير مازعمه الجهم وهو العدم فالعدم والفناء الذي يزعمه الجهم وأتباعه غير فناء النار وحدها الذي هو قول أهل السنة ولذلك ينكرون عليه قوله .(1/120)
ثم قال الشيخ في جواب السؤال المذكور : كما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها، ولم يذكر النار كما أن الإمام أحمد رحمه الله في إنكاره على الجهمية ذكر الآيات التي تدل على عدم فناء الجنة ولم يذكر عدم فناء النار كما تقدم فقد تبين ولله الحمد أن الفناء والعدم الذي ينفيه أهل السنة عن الجنة والنار وغيرهما من المخلوقات هو مذهب جهم بن صفوان أن حيث أنه يرى أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل فدوم الفعل ممتنع عنده على الرب تبارك وتعالى في المستقبل كما هو مُمتنع عليه في الماضي .
وأن الفناء للنار وحدها هو الذي يثبته أهل النسة وهو تحولها من حال إلى حال ليس إعدامها بالكلية كما يقول الجهم .
فليتأمل الناظر لهذا وكيف أن الجهمية يعتقدون أنه سيأتي على الرب زمان يتعطل عن الفعل فتفنى بزعمهم هذه المخلوقات ومنها الجنة والنار وهذا على كل حال مرْدود ومن أبطل الباطل .
ولو أن الإنسان إذا صعب عليه فهم شيء قال : الله أعلم ولم يقل ويفعل ماسوف لايحمد عاقبته لكان خيراً له وأقوم، والحمد لله.
ملاحظة أخيرة : الصنعاني والألباني وغيرهما يحتجان على الشيخ وابن القيم بأنهما ينكران القول بفناء الجنة والنار ويظنان هذا تعارضاً وتناقضاً وليس كذلك كما بينت وقد ذكرت في بداية هذا الجواب ماذكره ابن القيم من أن القول بفناء الجنة والنار هو قول الجهمية ذكر ذلك في حادي الأرواح صفحة 256 وقال في نفس الكتاب في صفحة 269 : فلا ريب أن القول بفنائهما (يعني الجنة والنار) قول أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين .(1/121)
من تأمل ما في هذه الأوراق زال عنه هذا الإشكال وعلم أنه لا تعارض بين هذا وهذا والحمد لله كذلك ذكر رحمه الله في شفاء العليل صفحة 353 أن أهل السنة أنكروا كلهم على أبي الهذيل وجهم وشبعتهما ممن قال بفنائهما وعدّوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول، ثم قال : ولا ريب أن هذا من أقوال أهل البدع التي خرجوا بها عن السنة .
فإذا كان ابن القيم في نفس المواضع التي يقرر فيها فناء النار يذكر هذا القول ويردّه ويفنده لأنه قول الجهمية يعني القول بفنائها وفناء الجنة فيعلم أن هذا غير هذا .
قول القرطبي : وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب ولا تصرّم آماد .
نحن نقول بهذا ولا ننكره وأنهم يخلدون في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذا ولا تصرّم آماد وهذا معناه (ما دامت هي باقية) ولاينافي فناؤها بنفسها يعني أن خلودهم الأبدي وعدم انقطاع العذاب عنهم وعم تصرّم الأماد كل هذا ما دامت ناراً على حالها لكن أين الدليل فيه أوفي غيره أن النار نفسها تبقى أبد الآباد من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد بل الأدلة بخلاف ذلك مثل قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} والأحقاب آماد تنصرم لأنه لايقال للأبدي : يمكث أحقاباً وعصوراً ودهوراً .
لذلك لو قال قائل : إن الرب سيبقى حياً أحقاباً لكان هذا من أفحش الغلط لأنه قَيَّ حياته وبقائه سبحانه بوقت محدود وإن كان طويلاص .
خلاصة المعنى أن يقال بعد كلام القرطبي : ما دامت النار باقية، ثم يُطالب المنازع بدليل بقائها فهو لايجد أما أدلة فنائها فظاهره، ويلاحظ أن التكرار دعت إليه الحاجة لأن هذا المؤلف مجموعة ردود.
مذهب أهل السنة في إخلاف الوعيد
جواب كلام الشنقيطي الذي نقله صاحب (تنبيه الأخيار) في كتابه في صفحة 33 .(1/122)
لم يتحدَّ ابن القيم من يقولا : إن الله أخبر أنه لايخلف وعيده وإنما قال في حاي الأرواح ص286 : الوجه الثالث والعشرون: أنه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا انتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له لكان ذلك وعيداً منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده، وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم أن إخلافه كرم وعفو وتجاو بُمْدَح الرب تبارك وتعالى به .. إلى آخره .
فهو يذكر إخلاف الوعيد في دَوَام النار أنه كرم من الرب يُمْدح عليه، هذا لو كانم توعَّد الكفار بدوامها وهذا لم يحصل وارجع إلى أول كلامه حيث قال : لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا انتهاء له، إلى آخر كلامه فلماذا يُحمل كلامه على غير مايحتمل حيث زعم الشنقيطي أن هذا اتحدّياً من ابن القيم، ثم ذكر الآيات التي فيها ذكر تحقّق الوعيد فلم يُراد ابن القيم هذا وإنما أراد بقاء النار ودوامها أنه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً في ذلك لكان إخلافه كرم وجود، وأي خلل في هذا الكلام ؟ بل هو في الغاية من السداد .
أما قول الشنقيطي في الوجه الثاني : أنا لو تمسكنا بما ذكر لجاز أن يقال : لا يدخل النار كافر يجوز إخلاف الإيعاد، وهذا خلاف مادلت عليه النصوص ومافهمه العلماء .
يريد الشنقيطي أنْ يَطْرِدَ قوله في دوام النار وإلا فإنه لايلزم ماقال فلو أن مِلكاً توعَّد أقواماً بعضهم بالقتل وبعضهم بالسجن إلى أجل وبعضهم بالسجن مدى الحياة ثم أضعف وعيده فيمن يسجنون مدى الحياة بأن خفف عنهم بخروجهم من السجن أوغير ذلك فهل يلزم من ذلك أن يُخلف وعيده فيمن توعدّهم بالقتل وغيرهم ممن توعده بعذاب دون ذلك ..؟ لا يلزمه ذلك ويكون أيضاً محموداً بتخفيفه عمّن خفف عنه بإخلاف وعيده فيه .
كل هذا على تقدير أن يكون الرب عز وجل توعَّد الكفار بعدم انتهاء النار وهذا غير موجود، هذا قَصْد ابن القيم فلماذا يُحمّل كلامه مالا يحتمل ؟.(1/123)
جواب الوجه الثاني : لم يتطرّق ابن القيم لإخلاف الوعيد جملة حتى يُسْتدل عليه بالآيات التي فيها إثبات تحقّقه، وإنما ذكر مسْألة واحدة وهي موضوع البحث وذلك قوله : أنه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا انتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له لكان ذلك وعيداً منه سبحانه والله سبحانه لا يخلف وعده وأما الوعيد فمذهب أهل السنة وكلهم أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز يُمْدح الرب تبارك وتعالى عليه . إلى آخره .
يعني أن الخبر لم يأت عن الله بعدم انقطاع العذاب فلو جاء صريحاً لكان إخلافه كرم وجود .
فالذي يلزم الشنقيطي ومن رأى رأيه أن كل وعيد لابد أن يتحقق وهذا خلاف الصواب فعنده تسعاً وتسعين رحمة سوف تعمل عملها يوم القيامة ولا يلزم من الآيات التي أوردها تحقق الوعيد كلها .
هل يدخل إبليس والكفار الجنة
بعد فناء النار ؟
ذكر الألباني في مقدمة رفع الأستار صفحة 37 أن ابن القيم لم يقنع بميله إلى القول بفناء نار الكفار وتخلّصهم به من العذاب الأيدي في تلك الدار حتى طمع لهم في رحمة الله أن ينزلهم منازل الأبرار جنات تجري من تحتها الأنهار .
ثم ذكر قول الصنعاني أن ابن القيم يريد بعد فناء النار أن الله يخل من كان فيها من الكفار الجنة .
وأنه أعاد هذا المعنى في صفحة 120 يعني من رفع الأستار وهو قوله : والمعلوم أنه لم يقع في ذلك العصر قول بفناء النار ودخول الكفار جنات تجري من تحتها الأنهار ولا أوْجَدَنا شيخ الإسلام مع تبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف على قول واحد من الصحابة بفناء النار ودخول الكفار الجنات .
ثم قال الألباني : وإن مما لاشك فيه أن هذا الذي استظهرناه هو في الخطورة والإغراق كقوله بالفناء إن لم يكن خطر منه.
الجواب على هذا من وجهين :(1/124)
الأول : أن ابن القيم لم يصرّح بدخول الكفار الجنة لا في شفاء العليل ولا حادي الأرواح ولا الصواعق، وهذه الكتب الثلاثة فيها بحث هذه المسألة، وإنما ذكر قول ابن عباس أن الله يأمر النار أن تأكلهم .
وقال في مختصر الصواعق : صفحة 261 : فإن شاء أنشاها بعد ذلك (يعني بعد الخلود والتأبيد) نشأة أخرى وطبعها على غير طبيعتها الأولى فهو على كل شيء قدير وهو الحكيم العليم.
وقال ابن القيم في حادي الأرواح صفحة 282 : فالله سبحانه قادر أن ينشئها نشأة أخرى غير تلك النشأة ويرحمها في النشأة الثانية نوعاً آخر من الرحمة [يعني بعد الخلود] .
وقال في شفاء العليل صفحة 353 : وهو سبحانه لا يعذب خلقه سدى وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجردة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم وقد أزالها طول العذاب .
الوجه الثاني : إذا كان هذا يحتمل دخولهم الجنة فنحن لا نخوض مع الخائضين بل نقول الله أعلم فربنا سبحانه يفعل مايريد وليس لأحد معه تدبير .
فقول ابن القيم : فالله قادر أن ينشئها نشأة أخرى غير تلك النشأة ويرحمها في النشاة الثانية هو من جنس قوله تعالى بعد الاستثناء : {إن ربك فعال لما يريد} ، ونعوذ بالله أن نقول على علمائنا مالم يقولوا .
بُطلان الإحتجاج بكلام الإمام أحمد
على عدم فناء النار
إن مَنْ يزعم أن كلام الإمام أحمد رحمه الله في الجنة والنار يعارض القول بفناء النار وحدها الذي هو قول الصحابة والعلماء بعدهم، وهو الحق الذي لاشك فيه فهو مخطئ، والآن نذكر كلام الإمام أحمد ليتبين الحق إن شاء الله .
قال رحمه الله في كتابه الرد على الجهمية :
(باب ما تأولت الجهمية من قول الله تعالى)
((1/125)
هو الأول والآخر) فزعموا أن الله هو الأول قبل الخلق فقد صدقوا، وقالوا يكون الآخر بعد الخلق فلا يبقى شيء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب ولا عرس ولا كرسي وزعموا أن شيئاً مع الله لا يكون هو الآخر كما كان فأضلوا بهذا شراً كثيراً. إنتهى.
تأمل قول الجهمية عن الله تعالى أن يكون الآخر بعد الخلق تفسيرهم إياه على مقتضى مذهبهم الباطل وهو فناء المخلوقات بالعدم لامْتناع الفعل على الرب في المستقبل حيث قالوا : فلا يبقى شيء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب ولا عرش ولا كرسي ويزعمون أنه لا يبقى مع الله شيء، وهذا معنى الآخر عندهم، فالإمام أحمد يردّ عليم هذا ولم يتعرض لِفناء النار وحدها الذي هو مذهب أهل السنة فهذا شيء وذاك شيء آخر، فالإمام أحمد يرد عليهم ويحتج ببقاء المخلوقات ومن ضمنها الجنة والنار وأنه ليس الأمر كما زعموا أن المخلوقات تعدم ويبقى الرب وحه وحتى الرب الذي يثبتون بقاءه بعد المخلوقات يتعالى الله عنه فهو مسلوب بالصفات لا يفعل ولا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا له قدرة بل مجرّد ذات بلا صفات وهذا يكون في الأذهان لا في الأعيان.
لذلك قال الإمام أحمد بعد الكلام السابق :
وقلنا أخبر الله عن الجنة ودوام أهلها فيها فقال : لهم فيها نعيم مقيم فإذا قال الله جل وجهه مقيم وقال خالدين فيها أبداً وقال أكلها دائم، فإذا قال الله : دائم لا ينقطع أبداً، وقال : وماهم منها بمخرجين، وقال : إن الآخرة هي دار القرار، وقال : إن الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، وقال : ماكثين فيها أبداً، وأما الذين ابْيضت وجهوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون، وقال : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ومثله في القرآن كثير.(1/126)
وذكر أهل النار وقال : أولئك يئسوا م رحمتي وقال : لا ينالهم الله برحمة، وقال : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك، وقال : خالدين فيها أولئك هم شر البرية، وقال : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، وقال : كلما أرادوا أن أن يخرجوا فيها أعيدوا فيها، وقال : إنها عليم مؤصدة ومثله في القرآن كثير، فأما السماء والأرض فقد زالتا لأن أهلهما صاروا إلى الجنة والنار وأما العرش فلا يبين ولا يذهب لأنه سقف الجنة والله عليه فلا يهلك ولايبيد، وأما قوله كل شيء هالك إلا وجهه، وذلك أن الله أنزل كل من عليها، فان، قالت الملائكة : هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء؛ فأنزل الله أنه يخبر عن أهل السموات والأرض وأنكم تموتون، فقال : كل شيء من الحيوان هالك يعني ميت إلا وجهه إنه حي لا يموت فأيقنوا عند ذلك بالموت. إنتهى .
فأدلة الإمام أحمد هذه ينفي العدم الكلي للمخلوقات الذي تَدَّعيه الجهمية فهو يستدل عليهم بهذه الأدلة على بقائها.
أما فناء النار وحدها فلم يتعرض له في مناظراته للجهمية لأن هذا شيء آخر فليس معناه العدم ولكنه مجرد تحوّل النار من حال إلى حال يعني إنقطاع عذابها، ومثله في كتاب الطبقات قوله : وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله عز وجل وخلق لهما أهلاً لا يفنيان ولا يفنى ما فيها أبداً، فإن احتج مبتدع أوزنديق بقولا لله عز وجل : {كل شيء هالك إلا وجهه} ونجوا هذا من متشابه القرآن قيل له : كل شيء مما كتب عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقنا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا والحور العين لايمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبداً لأن الله عز وجل خلقهم للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت فمن قال خلاف ذلك فهو مبتدع وقد ضل عن سواء السبيل. إنتهى .(1/127)
فهو مثل الأول وهو رد على الجهمية دعواهم العدم للمخلوقات ويستدلون بمتشابه من القرآن لا يدل على مرادهم مثل قوله تعالى : {هو الأول والآخر . وكل شيء هالك إلا وجهه} ونحو ذلك.
تأمل قوله : فإن احتج مبتدع أوزنديق ثم ساق الكلام تعلم أنها محاورة ومناظرة مع الجهمية، وكيف يقول مبتدع أوزنديق الإمام أحمد ويُعلّق هذا على قول قالته الصحابة، وكيف يعلم شيخ الإسلام وتلميذه هذا من كلامه ثم يخالفونه ؟ ولو كان هذا يُفهم من كلامه لأخبروا به. (1) وهم أعلم بكلامه من غيرهم يدرون أن قصده الرد على الجهمية، فليتق الله من يقول على العلماء مالم يقولوا، ومن يُبَدِّع الأئمة والصحابة.
وأنا أباهل من زعم أن كلام الإمام أحمد يقصد به رد القول بفناء النار وحدها الذي في كتاب ابن رجب نقلاً عن الإمام أحمد أن الجنة والنار لا تفنيان هو الحق وهذا مذهب أهل السنة، وإنما قالوا ذلك في مقابلة المتكلمين من الجهمية وغيرهم القائلين بفنائها يعني أنهما يُعْدمان بالكلية بناءً على أصولهم الفاسدة أن الرب سبحانه يمتنع عليه الفعل في المستقبل، ولذلك قال في الآخر : فإن احتج مبتدع أوزنديق بقول الله تعالى : {كل شيء هالك إلا وجهه} ونحو هذا من متشابه القرآن فقل له : كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء والهلاك... إلى آخره.
والمقصود أن هذا مذهب الجهمية يعني القول بفنائهما لذلك يردّه أهل السنة بشدة حيث يقتضي إعدامها بالكلية حسب أصول الجهمية لِعجز الرب سبحانه عن الفعل في المستقبل تعالى الله عما يقولون . ونحن ولله الحمد على هذه العقيدة، أما فناء النار وحدها ليس عدمها وليس لعجز الله عن إبقائها ولكن لانتهاء الحكمة والمصلحة من وجودها بحيث يفنى عذابها ويتحول فهذا شيء آخر وهو الذي يتكلم فيه الصحابة والتابعون وقامت عليه الأدلة من القرآن والسنة والمعقول .
بعض معتقد الجهمية :
__________
(1) يعني ولو خالفوه .(1/128)
نفي الأسماء والصفات عن الله تعالى وأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان [يعني تعدمان] والقول بخلق القرآن، ومما يوضح ماذكره ابن رجب قوله في صفحة 106 فإن في أول الكلام عن حنبل أن أبا عبدالله حكى قصة ضرار وحكايته اختلاف العلماء في خلق الجنة والنار يعني أن هؤلاء المتكلمين ومنهم ضرار يقولون : الجنة والنار لم يخلقان وإنما يخلقان يوم القيامة فهذا أيضاً من أقوالهم الباطلة، فأهل السنة يردون عليهم فما لنا نحن وعقائد أهل البدع تُورد على مسألة الفناء من كل جانب .
تعليل أقدار الجليل (1)
كان الإلهُ وليس شيء غيرهُ
كَمُلَتْ له أوْصافهُ وتَقَدَّستُ
اعرفْ إلهكَ قبل مخلوقاتهِ
هُوَ محسنٌ هو راحمٌ هو واهبٌ
اعْرِفْهُ قبل وجود مخلوقاتهِ
والشرُّ ليس إليه جَلَّ جلالهُ
وَلِحِكْمَةٍ خلق الشرورَ بِمُلكهِ
إبليسُ خالِقُهُ وخالقُ كفرهِ
أقدارهُ سبقتْ وليس بُمجْبَرٍ
هو قَدْ أرادَ إرادةً كَوْنيةً
هي حكمةٌ قد شاءَها لِمصالحٍ
منها ظهور صفاتِهِ وجلالها
وكذلك التوابُ جَلَّ إلهنا
لِيكون إغْوَاءٌ وَدَعْوةُ باطِلٍ
لِيَعود مُنْكسِرٌ ذليلٌ عَبْدُهُ
حِكَمٌ تجلُّ وَعَدُّها مُتَعَذِّرٌ
أما الذي ما تاب من كفْرانه
وله الخلود مُؤَبّدٌ تعْذيبهُ
وهو الجليلُ وعَزَّ ذُو السلطانِ
عَمّا يُشَابِهُ مِنْ مثيلٍ ثاني
إذْ لا وُجُودَ لِهذه الأكوان
ليْس العذابُ مُرَادُ ذي الإحسان
ملكٌ حليمٌ ليس بالغضبان
إعرف ألهك أحسنَ العرفان
وهو المقدِّرُ كُفْرَ ذي الكفران
وكذلك الأتباعُ بالطغيان
بل باختيارٍ منه ذَا العصيان
أنّ الفسوقَ يكونُ في الإنسان
وَمقاصِدٍ عُلُمَتْ لِذِي الإيمان
مثل الغفورُ يجود بالغفران
ولِذاكَ يَخْلُقُ طاعة الشيطان
هو ابْتِلاءُ العبد بالفرقان
يرجوه مغفرةً لِما هُوَ جاني
هذي الإشارةُ حَسْبُ ذُو العرفان
فله الوعيد بِدَائم النيران
جِلْدٌ سَيَنْضُجُ مُعْقَباً بالثاني
__________
(1) كتبت هذه القصيدة في عام 1419هـ .(1/129)
هذا جزاءٌ جاء بالقرآن ... ليس الخروج بحاصِلٍ أبداً لَهُ
وسلامنا في دائم الأزمان ... وأتى بسُنّةِ مَنْ عليه صلاتنا
فيها طويلاً مُغضِب والدّيّان ... تخليدهُ تأبْيدهُ هوَ مكثهُ
والنار ليس تدومُ بالبرهان ... لكن هذا دائمٌ بِدَوامها
شرٌّ وليس مرادُهُ العدوان ... اعرفْ إلهك ليس في أوْصافِهِ
كالحَدِّ في الدنيا لِذي العصيان ... إن العذابَ دوَاءُ مَنْ هُوَ فاسدٌ
فهول الجهولُ بربه الرحمن ... مَنْ قال إن عذابه بِدَوَامهِ
لا فَهْم صَحْبِ نبينا العدناني ... إذْ أنهُ عَرَفَ الإله بِفَهْمِهِ
فجنى مَسَبَّةَ ربنا المنّان ... ويريد تعظيم الإله بِزَعْمِهِ
فيما يُخالف ظاهرا لقرآن ... إن الخوارجَ عَظَّمُوا معبودهمْ
تعظيم ربي ليس بالبهتان ... تَبًّا لِمذْهبهمْ وسالِك دَرْبِهِ
ليس العذاب مراد ذي الإحسان ... اعرف إلهكَ قبل مخلوقاته
غضبُ الرحيم يزول في الأزمان ... الربّ يغضب في القيامة إنما
تَعْصِيهِ كان وليس بالغضبان ... مثل الذي قدْ كان قبل خلائِقٍ
بعذابها في ذلِّةٍ وَهَوَان ... في حينِ تَأْخُذُ نارُهُ أعْدائَهُ
وَيْلٌ لِمُسْخِطِ ربه الرحمن ... ما هم بخارجينَ وما لهم من شافِعٍ
والموتُ مَذْبُوحٌ كذبح الضان ... لا الموت يحصل للِكفورِ وكْيف ذا
حَكَمَ الإله بأنه هُوَ فاني ... هو مِنْيَةٌ لَوْ كان يحصل إنما
فهي التي تفنى بلا نكران ... إن النزاعَ على الجحيم بذاتها
مادام فيها حامِيَ النيران ... فنقول في تخليدهم أبداً بها
أنّ الجحيمَ تدوم كالدّيان ... ما في الكتاب ولا بسنةِ أحمدٍ
لكنْ دَوَامُ النار شيء ثاني ... بل فيهما تخليدهم أبداً بها
فهو الذي قَدْ جاءَ بالبطلان ... ليستْ تدوم ومَنْ أدام عذابها
ما كان قبل الخلق بالغضبان ... يَطْفا اللهيب وينتهي غضبُ الذي
نارُ الجحيم تَسَعّرَتْ بهَوَان ... غَضَبُ الإلهِ هو الذي من أجْلِهِ
ونبيّنا حينٌ من الأحيان ... أما الخلود ففي كلام إلهنا
حَتْمِيَّةٍ محدودةٍ بِأَوَان ... مهما يطول فإنه لِنهايةٍ
معلومة بحقائق القرآن ... وكذلك الأحقابُ فهي لمدّة(1/130)
سَيَدوم أحقاباً من الأزمان ... إذْ لايصحُّ بأنْ نقول إلهنا
ليس الظلام كصُبْحنا النوراني ... لُغَةُ النبي وليس ذاك تَخَرّصٌ
لا تنقضي قَدْ قَدْ جاء بالنكران ... إن الذي زعم العذاب لِمُدَّةٍ
مِنْ غَير مَعْنىً قامَ بالرحمن ... وَصَفَ الإلهَ بحكمةٍ وبرحمةٍ
ظن الدوام لِساكني النيران ... ولذلك الجهم الخبيث لأنهُ
لَهُوَ الظهيرُ لِدَعْوَة الشيطان ... قدْ أنكر الوصْفينِ طُرّاً إنه
قَدَرَ الإله بِظَنِّهِ العدوان ... مَنْ قال إن النار دائمةٌ فما
من منتهىً في دائم الأزمان ... جعل الإله يُريد شراً مالَهُ
لكنَّهُ قَدْ قام بالإنسان ... والشرّ ليس إليه جلّ جلالهُ
وهو العليم بِمَوْضِعِ الشكران ... أسبابه مَنْعٌ لِفضْل إلهنا
هو موجِبٌ للذنب والنقصان ... والظلم والجهل الذي هو طبْعنا
ما حِكْمة الرحمن في الشيطان ... قل لِلَذي زَعَمَ الدّوام سؤالنا
وهو المُقَدِّر مِلَّةَ الكفران ... هو خالق الشيطان مَعْ أفعالِهِ
ما حكمة الرحمن في النيران ... قل للذي زَعَم الدوام سُؤالنا
يبقى مُدِيماً مَعْ بَقَى الرحمن ... ما حكمة التعذيب دُون نهايةٍ
يأتي بِقولٍ لايُفيد معاني ... لا يستطيع إجابةً لكنّهُ
مَنْ جاءَ يطلب حِكمةِ الديان ... إن الذي زَعَمَ ا لبقاء مُحَيِّرٌ
قَدَرَ الحكيم بصورة العُدْوان ... بلْ إنهُ لَمُنَفِّرٌ وَمُصَوِّرٌ
يُنْبيكَ عن حِكَمٍ مَعَ الّبرهان ... أما الذي قال الفناء فإنه
بِصِفات مَدْحٍ ما بها نقصان ... قبل الخلائق كان ربٌ كاملٌ
مثل الرحيمِ وَوَاسِعِ الغفران ... أسماؤه الحسنى أرادَ ظهورها
من عَبْدِه إنْ تاب من عصيان ... وكذلك التوابُ قابلُ توبةٍ
تَوْفيقنا لُطْفٌ من المنّان ... وكذلك المنانُ مَنَّ بفضله
لِلرب يَفْعَلُهُ بنوا الإنسان ... لابُدَّ من تقدير ما هُوَ مُغْضِبٌ
إبليسُ مخلوقٌ لهذا الشان ... لابُدَّ من داعٍ لِكل ضلالةٍ
أجرى مَقادِرَهُ على الكفران ... لَوْ شاء ربي ما عُصي أبداً وما
والاحتجاج به مِن البطلان ... قَدَرٌ به الإيمان فَرْضٌ واجبٌ(1/131)
بالنار تخليصاً من الطغيان ... ولذَاكَ أوْجَدَ ربنا تَعْذِيِبُهُ
قَدْ جَاءَ مفطورٌ على الإيمان ... إذْ كل عبدٍ من عبيد إلهنا
وكذلك العصيانُ لِلدّيان ... فالشركُ يَطْرَؤُ ليس أصْليٌّ بنا
ومن الفُسوقِ تَدَنَّسوُا بالرَّان ... كَسِبَ العباد ذنوبهم مِنْ كُفْرِهِمْ
ران الذنوب ولَوْ من الكفران ... فالنارُ مثل الكِيرِ تُذْهِبُ عنهموا
كُسِروا وَذَلُّوا في المعاد الثاني ... اقرأ كلامَ الله تَعْلَمُ أنهمْ
وتضرّعٍ في داخل النيران ... وبَدَى اعترافٌ منْهموا بَتذُّللٍ
هذا أتى في محكم القرآن ... فالله يفعلُ بعد ذلك ما يشا
نار الإلهِ كمثل شيء فاني ... إبليسُ مَعْ جُنْدٍ لَهُ تُعْدِ مُهُمُوا
يَرْحَمْهُ فيها ربنا الرحمن ... أوْ يُنْشِئُ الله المعَذَّبَ نَشْأةً
فوق التصوُّر في الجحيم الآني ... بعد الخلود مؤبَّدٌ مَعْ شِدَّةٍ
وهُم الهداةُ مَعَالم الإيمان ... هذا هو المأثور عن أسْلافنا
قوْل الصحابة ليس بالبهتان ... والنارُ يَطْفَؤُ حرّها ولَهيبها
من غير إسْرارٍ ولا كتمان ... قالوه والكفار ثعلم قولهم
والفضلُ لا كالعدْل في الميزان ... عرفوا الإله بأنه مُتَفَضِّلٌ
عما يشوبُ كماله الرّباني ... بَلْ نَزَّهوا الرحمن جلّ جلاله
لِيزُول طاري الشرك والكفران ... عرفوا عذاب النار صار لِحكْمةٍ
مِنْ خَلْقِهِ لِلْكُفْرِ والعصيان ... عرفوا مقادير الإله لِحكمةٍ
عِلْمٌ شريفٌ شامخ البيان ... تعليل أفعال الإله بِشَرْعِنا
أَنَّ الرحيمَ كمثل ذي العدوان ... يا مَنْ وصَفْتَ الله وصْفاً مُوحِشاً
إنفاذُ سُخْطٍ دائم الأزمان ... أَنَّ الرحيمَ مراده من خَلْقِهِ
لا تستطيع الحكم بالفرقان ... والنار تبقى مَعْ بقاء إلهنا
كلاّ ولا وُفِّقْتَ لِلعرْفان ... لم تَقْدِرِ الله الجليلِ بِقَدْرِهِ
يا مَنْ زعمتَ إدامة النيران ... إثباتُ حكمة ربنا مُتَعَذِّرٌ
لا تستطيع الحكمَ بالبرهان ... إثباتُ رحمة ربنا مُتَعَذِّرٌ
في قَوْلِ (قُلْتُ) ولي مقالٌ ثاني ... ما صَحَّ عن صَحْبِ النبيِّ مُقَابَلٌ(1/132)
حَذِرُوا الخلافَ مخافة الخذلان ... ما هكذا السلف التُّقَاةُ فِعالُهُم
إن المخالفَ جاء بالخسران ... بِالإتِّباع يكون حَمْدُ عَوَاقِبٍ
من أجل حَقِّ جاء بالقرآن ... عجباً لقومٍ يَدّعون ضلالنا
كل الهدى والفضلُ للرحمن ... وهو اعتقاد صحابةٍ في علمهمْ
جِئْنَا بأمرٍ ظاهر البهتان ... لا ينظرون كلامنا ويَرَوْنَنَا
حِكَمٌ بخلق النار والشيطان ... ولأنهم لا يعرفون لِربهمْ
حِكَمٌ تُفيد حقائِق العرفان ... فَتَهَوَّكُوا في وصْفِ مَنْ أفعالهُ
بالحق يحكمُ ليس بالبطلان ... والموْعد الديّانُ جلّ جلالهُ
سُبُل الهدى ويجود بالإحسان ... والحمد لله الذي يهدي إلى
وإخافةٌ مِنْ غير ما برهان ... قل للذي زعم الوعيد تَشَدُّدٌ
ضاقتْ صدورُ هموا بذي العصيان ... إن الخوارجَ هكذا تَشْدِيدهم
لكنْ وعيدٌ جاء مَعْ فرقان ... الله حَذَّر بالماصي نارهُ
وضلالةً فأتوْا بذا الطغيان ... قطعوا بِتخليدِ العصاة جهالةً
يُنْجيكَ من زُورٍ ومن بهتان ... إن الوعيدَ لَهُ ضَواَبِطُ فَهْمُهَا
خَلقَ العبادَ لِدَائم النيران ... وكذا الذي وَصَفَ الرحيم بأنه
في هذه الدنيا من الأزمان ... أضعاف أضعاف الذي قَدْ عُمِّروا
فجزاؤهم عنها بلا حُسْبان ... بل كل ثانيةٍ مَضَتْ من عُمْرِهمْ
تمضي أُلُوفٌ جاء ألفٌ ثاني ... آلافُ أنَّ طَيْراً ينقل الرمل الذي
في أرْضنا في دائم الأحْيان ... لَوْ أنَّ طَيْراً ينقل الرمل الذي
ضُرِبَتْ بألْفٍ كامل الإتقان ... في كل ألفٍ من سنين زماننا
فَنَيتْ رِمال السهل والقيعان ... يأتي فيأخذُ حَبَّةً من رَمْلها
بِئْسَ اعتقادٌ جاءَ بالبهتان ... والنار باقيةٌ يُعذَّبُ أهلها
نَفَذَتْ وليس لِذاكَ من برهان ... لا عِلَّةٌ في ذاكَ غير مَشِيئةٍ
الزّاعمونَ إدَامَة النيران ... هذا هو المعنى المرادُ بقولهمْ
إبليس داعي الكفر والطغيان ... ويحارُ أيْضاً في وجود عدوّنا
قدْ أزْهَقَتْ ما كان من بطلان ... والشيخُ قدْ ظهرتْ له مخطوطةٌ
لا بالتّخّرصِ دونما عرفان ... ذكَرَ الفناءَ وأنه بأدلّةٍ(1/133)
ومَبَيِّنٌ في غاية التِّبْيان ... وكتابنا (الإنكارُ) جاء مُفَصِّلٌ
جعلوه مثل صحائِف القرآن ... قُلْ للذين رَأوْا كلام خصومنا
كلاّ ولا يأتيهِ من أيْمان ... لا باطِلٌ يأتيه عند شمالِهِ
وكأنَّهُ ضَرْبٌ من الهذَيان ... وكلامنا حكموا عليه مُغَيِّباً
بل جَوْرُكُم هُوَ ظاهر بعيان ... أنْصَفْتُموا لا وَالْجليل وعِزِّهِ
ومُنازعُوهُ لِطالب البرهان ... لابُدَّ من نَظَرٍ لِقوْلِ مُنازعٍ
قُلْتُمْ ظُلِمْتَ وحُكْمنا رَباني ... إنْ جاءَ خَصْمٌ عينهُ مفْقُوءةٌ
مُتَلَبِّس بالإثم والعُدْوان ... إذْ حَكَمْنا أنّ خَصْمَكَ مُعْتَدٍ
فَلَعلَّ ذاكَ هو الظّلوم الجاني ... بِالجهلِ قُلْتُمْ لا بِعَدْل إلهنا
والعدْلُ مُقْتَرِنٌ مَعَ الإيمان ... هذي الجهالة حَظّكم ونصيبكمْ
بين العباد وجَلَّ عن نِسْيان ... فالله جلّ جلاله هو حاكِمٌ
قَرِّبْ لِجْسمِكَ مَوْقد النيران ... قل للذي رَكِبَ الذنوب بِجُرْأة
لا تستطيع وليس في الإمكان ... انظر أَتَصْبِرُ طَرْفَةً أو لحظةً
عَنْ هذه والصَّلْيُ في اللُّحْمان ... سبعون ضِعْفاً حرُّ نار إلهنا
كيف الجحيمُ نعوذ بالرحمن ... الشمسُ تُؤْلِمُ في حرارة صَيْفنا
عند الإلهِ نعوذ بالمنّان ... كيف الخلود بها زماناً غَيْبُهُ
تسعون عاماً دُونما نقصان ... لَوْ قِيلَ إنك بعد عُمْرٍ طائلٍ
أيَكونُ عَيْشكَ قبل ذلك هاني ... تُلْقى بنارٍ ساعةً مِنْ نارنا
اعمل إذاً ما شِئتَ دون تَخَوِّف
عِشْ آمناً إنْ كان عندك مَوْثِقاً
خاف الملائكةٌ الكرامُ وما عَصَوْا
صلى الإله على النبي محمدٍ
إنْ كُنْتَ تَصْبِرُ في الجحيم الآني
ممن عَصَيْتَ مُؤيّداً بأمان
كيف المفرِّط مِنْ بني الإنسان
فهو المعلِّم حكمة الدّيان
فصل
البراءة من التهمة وخطر السير في الظلمة (1)
... بَرِحَ الخفاءُ وما أظنك عاقلاً
... ... ... ... لو كنت تعقل صار أمر ثاني
__________
(1) يعني الكلام في الدين بغير علم، وقد كتبت هذه القصيدة في عام 1409هـ ، وهي في كتاب (القول المختار لبيان فناء النار) للمؤلف ـ ص [34 - 46] .(1/134)
... يا ساهياً والقلب لاه غافل
... ... ... ... ما هذه أخلاق ذو العرفان
... يا وَارداً للنار ليس بعالمٍ
... ... ... ... هل سوف ينجو أم يظل يعاني
... ألم الحريق وليس يشبه هذه
... ... ... ... الآلام في الدنيا وليس يُداني
... سبعون ضعفاً حرها عن هذه
... ... ... ... ما حال من يبى بها أزمان
... من ذا يطيق الشمس في حر الضحى
... ... ... ... كيف الجحيم نعوذ بالرحمن
... يا ليت أمي لم تلدني ليتني
... ... ... ... ما كنت يوماً من بني الإنسان
... لو شاهدتْ عيناكَ مِنْ بُعْدٍ لظى
... ... ... ... لظننت قلبك طار من خفقان
... وجثوت تبكي حائراً متولِّها
... ... ... ... مِنْ شدة الهول العظيم الشان
... كادت تميّز من صرامة غيظها
... ... ... ... والصوت كالرعد الثقيل الداني
... سبعون ألفاً من ملائك ربنا
... ... ... ... قادوا زماماً واحداً فرداني
... ولها بِعدَّتهم كذاك أزمَّةً
... ... ... ... هذي المَقاوِدُ كيف بالجثمان
... يجثو الخليل لِرَوْعَةٍ وهو الذي
... ... ... ... عَبَدَ الإله بغية الإحسان
... أُلْقي بنار لم يُسَعّر مثلها
... ... ... ... وفَدى بنسك ليس كالقربان
... وابن البتول إني ذاهلٌ
... ... ... ... عمَّن سوايَ وقد شغلتُ بشاني
... يارب لست بسائل أُمي التي
... ... ... ... ولَدَتْ وَرَيَّتْ والفتون تعاني
... كيف النجاة ويالها من شِدَّةٍ
... ... ... ... منها تشيب نواصيَ الولدان
... يا من يخوض بكل وادٍ ناسياً
... ... ... ... هذا الوعيد كمنْ لَدَيْه أمان
... خطر اللسان كمثل سيفٍ باتر
... ... ... ... أو قد يكون أضرٌ بالإنسان
... ثكلتك أمك يا معاذ أما ترى
... ... ... ... كَبَّ الورى في النار شرٌ لسان
... يا من يقول النار تفنى خاطفاً
... ... ... ... هذا الكلام ودونما إمعان
... ويظلُّ يشمت بالذين تفوهوا
... ... ... ... وفيهِ ويهجر قائل البطلان
... مهلاً فإنك ما سَعَيْتَ بصالح
... ... ... ... كلا ولا أُسْعِدْتَ بالعرفان
... ذمَّ الإله القائلين بدينه
... ... ... ... قولاً بلا علم ولا إيقان
... حُذِّت لكن ما حذرت وكلَّما
... ... ... ... أُولِيتَ نصحاً زدت في العصيان
... أُدِّبْتَ لكن ما قبلت وإنما
... ... ... ... ترضى لنفسك صفقة الخسران
... أَوَ ما أُمرت بأن تثبَّت قبلما
... ... ... ... تنفي وتثبت دونما برهان
... أَوَ ما أُمرت بأن تقول مقالةً
... ... ... ... فيها الأمان لجاهل حيران(1/135)
... وبها الأمان لعالم إن لم يكن
... ... ... ... علم الصواب وحقَّق الإيقان
... الله أعلم .. إنْ تقول فإنما
... ... ... ... أوتيت نصف العلم والعرفان
... لكن حُرِمْتَ وما ظُلِمْتَ وإنما
... ... ... ... هذا اختيارك دونما جبران
... ساءت ظنونك في أئمة ديننا
... ... ... ... وظننت نفسك رَيَّةَ الإحسان
... أو ما اسْتحيت وما بعلمك طائلٌ
... ... ... ... حتى تُعارض عالماً رباني
... يأتي بحق قاله من قبله
... ... ... ... صَحْبُ الرسول وشيعة القرآن
... ليرُدَّ فيه مقالة قد أوهنتْ
... ... ... ... للدِّين ركناً ثابت البنيان
... هي حكمة الرحمن في أفعاله
... ... ... ... قد أنكروها قائلو البهتان
... فأتى بعلم ما إخالكَ أهله
... ... ... ... ولذا أتيت بأشنع النكران
... قال النفاة الحكمة الباري أمَا
... ... ... ... يكفي دليلاً خَلْقُهُ الشيطان
... وبقاؤه حتى القيامة مُغْوِياً
... ... ... ... للناس يدعوهم إلى الطغيان
... إخراج آدم من نعيم دائم
... ... ... ... ما فيه حكمة خالق رحمن
... وكذلك الأولاد ما هو ذنبهم
... ... ... ... إذ عُرِّضوا للظلم والعدوان
... إيلام طفل والبهيمة مثله
... ... ... ... ما حكمة الإيلام للحيوان
... بل قُلَّنا ما حكمة التخليد في
... ... ... ... نار تسعَّر دائم الأزمان
... تبقى كما يبقى الإله دَوَامها
... ... ... ... بِدوامه ما الحكم في ذا الشأن
... فأجاب رضي الله عنه خصومه
... ... ... ... فشفى العليل وأرغم العدوان
... جازاك ربي بالذي هو أهله
... ... ... ... فضلاً وإحساناً مع الرضوان
... يامن يظن تعارضاً وتناقضاً
... ... ... ... بين الفناء ومحكم القرآن
...
... ليس التعارض واردٌ كلاّ ولا
... ... ... ... خللُ بقوْل العالِم الرباني
... ذَكَر الخلود إلهنا وبقاؤهم
... ... ... ... فيها على التأبيد لا نكران
... كلا ولا هُمْ خارجين وإنما
... ... ... ... لهم العذاب ملازمٌ بهوان
... وإذا خَبَتْ زاد الإله سعيرها
... ... ... ... يا ويح مغرور صريع أماني
... وَمُحرِّمٌ ربي عليهم جنة
... ... ... ... فيها النعيم وكامل الرضوان
... من ذا يقول بأن هذا منكر
... ... ... ... أو من يشك سوى ذوو الكفران
... ليس النزاع لأجل هذا إنما
... ... ... ... أصل النزاع إدامة النيران
... تبقى كما يبقى الإله فهذه
... ... ... ... هي جَوْلة الفرسان في الميدان
... أما الخلود فدائمٌ بدوامها(1/136)
... ... ... ... لكن دوام النار شيء ثاني
... ما في الكتاب ولا بسنة أحمدٍ
... ... ... ... أنّ الدوام يكون للنيران
... بل فيهما جاء الديل بأنها
... ... ... ... تفني ويبقى الله ذو الإحسان
... أما الجنان ففي النصوص دوامها
... ... ... ... لا شك في هذا ولا قولان
... إلا لجهم فهو قال فناؤها
... ... ... ... والنار أيضاً فاسمع الفرقان
... هذا يُرَدُّ لأن مبناه على
... ... ... ... أصل التجهم ملَّةَ الشيطان
... إذْ يزعمون بأن ربي عاجز
... ... ... ... عما يدومُ على مدى الأزمان
... فلذاك يُعدمُ ناره مع جنةٍ
... ... ... ... عَدَماً وليس إحالة النيران
... ولذاك قلنا إن جنة ربنا
... ... ... ... تبقى كذاك النار للتبيان
... ردُّ على الجهمي نُرْغِمُ أنفه
... ... ... ... هذا اعتقادٌ ليس ذا بطلان
... والفرق أن النار تفنى دونما
... ... ... ... عدمٍ وهذا عندنا فرقان
... هذا الصحيح وكل قولٍ غيره
... ... ... ... فهو المفنَّد ساقط الأركان
... أيضاً فإن فنائها ليتس الذي
... ... ... ... يتصوِّر المغرورُ دون بيان
... فيظن أن الأمر أصبح هَيِّنٌ
... ... ... ... فيقول نعصي ربنا بأمنا
... هذا لأنك ما تحققت الذي
... ... ... ... قلنا ولستَ بتارك الطغيان
... أو ما سمعت الله يذكر لُبثهم
... ... ... ... في سورة النبأ العظيم الشان
... والحقب آمادٌ تطولُ وبعده
... ... ... ... الأحقاب تتلو دونما حسبان (1)
... إن الذي نعنيه أمرٌ آخرٌ
... ... ... ... لا يُوجب التهوين للعصيان
... نعني بأن بقائها لا مُشْبهُ
... ... ... ... لبقاء ربي عَزَّ ذو السلطان
... هذا يُنافي حكمة الله الذي
... ... ... ... خلق الوجود بغاية الإتقان
... لا تحسبن النفي منك موافقٌ
... ... ... ... للحق بئس الرأي رأي فلان
... إن الخوارج أخطأت في رأيها
... ... ... ... إذا أجمعوا تكفير ذي العصيان
... ويُخلِّدون عصاتنا بكبائر
... ... ... ... لا توجب التخليد في النيران
... هذا اجتهاد منهمو وتعمُّق
... ... ... ... في الدين لكنْ دونما برهان
... أَوَ ما علمت بأن نَفْيَكَ موجبٌ
... ... ... ... للطعن من قوم ذَوُو شَنَآن
... ينفون حكمة ربنا من أجله
... ... ... ... فتكون أنت مؤيِّد الطغيان
... حارت عقولُ القوم في أمر له
... ... ... ... شأن عظيم حيَّر الأذهان
... تلك النفوس مع الدَّوام لربنا
__________
(1) لا يعلم عدد الأحقاب إلا الله .(1/137)
... ... ... ... تبقى تُعَذَّبُ دائم الأزمان
... مِنْ ههنا قالوا فليس لربنا
... ... ... ... مِنْ حكمةٍ كلاَّ ولا إحسان
... ما حيلتي فيمن يعارضُ عالِماً
... ... ... ... فَلَّ الجيوش بعلمه الرباني
... وحمى حمى الدين القويم وصانَهُ
... ... ... ... عمَّا يقال به من البهتان
... ولِتعلم السبب الذي مِنْ أجله
... ... ... ... حصل الكلام وليس بالهذيان
... اقرأ كتاب الرفع للأستار كَيْ
... ... ... ... يُخبرك عمَّا قاله الصنعاني
... ثم اقرأ التقديم وانظر ما به
... ... ... ... مِنْ طعن ذاك المدْعُوَ الألباني
... ولقد ردننا طعنهُ ببصيرة
... ... ... ... لُنبرِّئَ الشيخين من بهتان
... هانتْ عليك مسبَّة لأئمَّة
... ... ... ... نفديهموا بالنفس والْوِلْدان
... ولتعرف الحق الذي ما بعده
... ... ... ... إلا التخرص دونما تبيان
... فبحادي الأرواح انظر إنما
... ... ... ... فيه المناهل مَوْرِدَ العطشان
... هذا ومختصر الصواعق مثله
... ... ... ... ينبيك عمَّا قاله الرباني
... وشِفَا العليل حقيقة هُوَ كَاسمِهِ
... ... ... ... فيه الشفاء لطالب العرفان
... وإذا تقول أنا الذي مَنْ مِثلُهُ
... ... ... ... فلقد كَمُلْتُ وليس بي نقصان
... فأنا أصحح ما أُريد وإن يكنْ
... ... ... ... غير المراد رَمَيْتُ بالبطلان
... فتعالَ نَبْتَهل الإله فإنَّه
... ... ... ... حَكَمٌ وعدلٌ يُنْصف الخصمان
عبد الكريم بن صالح الحميد
... ... ... ... ... ... 1421هجرية
محتويات الكتاب
الموضوع ... الصفحة
? المقدمة وفيها بيان مخطوطة شيخ الإسلام التي وجَدَها السّمهري وطَبَعها وأنها عبارة عن مسألتين : الأولى : رَدّ الشيخ على الجهمية قولهم بفناء الجنة والنار يعني العدم.
? والثانية : قول الشيخ بفناء النار وحدها
? نفي الشيخ عن الصحابة القول بدوام النار وأن المنقول عنهم القول بفنائها.
? ذِكْر الشيخ بعض من نُقل عنهم القول بفناء النار من الصحابة وتصحيحه أثر عمر : (لَوْ لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لَكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه) .
? بيان الشيخ أن المراد بأثر عمر جنس أهل النار الذين هم أهلها يعني الكفار أما أهل التوحيد فلا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريباً من ذلك.(1/138)
? نفي الشيخ أن يكون القول بفناء النار من أقوال أهل البدع.
? تقرير الشيخ خلود الكفار في جهنم وأنه لا يعارض الفناء ثم قوله بعد ذلك عن النار : لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا لم يبق فيها عذاب.
? بيان الشيخ أن فناء النار هو تغيّر حالها واستحالتها من حال إلى حال كالأرض خلافاً للجهمية القائلين بالعدم.
? بيان الشيخ أن آية الأنعام التي ورد فيها الاستثناء في الكفار.
? نقل الشيخ أثر عبدالله بن مسعود : (ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعدم يلبثون فيها أحقاباً) وقال : وهؤلاء وهم الكفار وعن أبي هريرة مثله .
الموضوع ... الصفحة
? تقرير الشيخ أن الذين يلبثون في النار أحقاباً هم الكفار لدلالة الآيات على ذلك وانظر صفحة 11
? قول الشيخ : ولم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك يعني يخالف القول بفناء النار.
? بيان الشيخ أن الكفار مخلدون في النار ولا يخرجون منها مادامت باقية، وقوله وأما خلودهم في النار فهو حق
? قول الشيخ : وحينئذ فيُحتج على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة.
? سقوط قول السمهري : لا يوجد لشيخ الإسلام فيما أعلم نصّ واضح جليّ في هذه المسألة ولكن له هذه الرسالة التي ألّفها جواباً عن سؤال وُجِّهَ إليه فأجاب يذكر آراء غير من العلماء.
? { إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } تأتي على كل وعيد في القرآن .
? ما يُرْوَى عن ابن عباس : (يأمر النار أن تأكلهم).
? أثر عبدالله بن عمرو وأثر أبي هريرة.
? إيراد الشيخ طُرق القائلين بدوام النار ونقضها كلها.
? إيراد الشيخ آيات فيها ذكر خلود الكفار في النار وغيره من العوعيد وبيانه أن هذا لا يُعارض فناؤها حيث قال بعد ذلك : وهذا يقتضي خلودهم في جهنم دار العذاب ما دام ذلك العذاب باقياً لا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها، وقول الشيخ :(1/139)
? وليس في القرآن ما يدل على أنها لا تفنى.
? ذكر الشيخ الأحاديث الواردة في الموحّدين.
الموضوع ... الصفحة
? بيان الشيخ الفرق بين بقاء الجنة والنار شرعاً وعقلاً.
? تأمّل قول الشيخ أن النار لم يُذكر فيها شيء يدل على الدوام لأن هذا مورد النزاع .
? ليس أدلة خلود الكفار فيها وتأبيدهم فهذا شيء وهذا شيءز
? قول الشيخ : (فإذا قُدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتّة).
? قول الشيخ في تقرير الفناء : وخَلْقُ مَنْ فيه شرّ يزول بالتعذيب من تمام الحكمة. أما خلق نفوس تعمل الشرّ في الدنيا وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره إذا عرفت كلام الشيخ هذا عرفت قبح القول بدوام النار مع رب العالمين وأنه يُنَزّه عنه كما يُنَزّه عن النقائص.
? إشارة إلى جزم ابن القيم بفناء النار وتنزيهه ربه عن أن يخلق خلقاً يُعذبهم بعذابه السّرمدي الذي لا ينتهي .
? مَنْ قال بدوام النار فهو يُعين الجهمية على تفيهم حكمة الله ورحمته مع معارضته للصحابة .
? ذِكْر الشيخ أن اعتقاد تأبيد جهنم إلى ما لا نهاية يستلزم نفي حكمة الله ورحمته .
? الشيخ يذكر : أدلة بقاء الجنة .
? اعتراضات على القول بفناء النار والجواب عليها. وهل يعارض الفناء الخلود والتأبيد ؟
? قول ابن القيم : فلا يظن من ساء فهمه أن هذا [يعني فناء النار] يُناقض ما أخبر الله ورسوله به واتفق عليه سلف الأمة أنهم مخلدون في النار .
الموضوع ... الصفحة
? قاعدة مهمة من كلام شيخ الإسلام في فهم الكتاب والسنة.
? معنى كلمة (لا يفنيان).
? معنى فناء النار .
? آيات الوعيد تجتمع مع القول بالفناء. إفهم معنى : (ما دامت النار باقية) يتبيّن لك أن آيات الوعيد على حقيقتها ولا دليل واحد على دوام النار نفسها مع الله.
? أدلة من الكتاب والسنة على فناء النار.
? مصير أهل النار بعد فنائها : {إن ربك فعال لما يريد}.(1/140)
? هل القول بفناء النار يُهوّن المعاصي وجواب ذلك.
? أهل السنة يُنكرون مذهب الخوارج، ولا يقولون : إنكار مذهبهم يُهَوّن المعاصي.
? إنكار الحق يُوقِع في محاذير قد لا يشعر بها الإنسان.
? جَزْمُ ابن القيم بفناء النار ظاهر في شفاء العليل وحادي الأرواح والأظهر منهما (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) مختصر الموصلي.
? تكلم الشيخ وتلميذه بمسألة فناء النار دفاعاً عن الدين.
? أيّ حكمة في خلقه خلقاً يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع؟.
? طعن الألباني على الشيخ وتلميذه لأجل القول بفناء النار نقول : (سبحانك هذا بهتان عظيم) .
? فَهْمُ الألباني جزم ابن القيم من قوله في شفاء العليل : (والنصوص لا تُفْهِم ذلك) . يعني لا تُفْهِم القول بالدوام .
? كلام الشنقيطي وهو عجيب .
? كلام السّمهري وهو عجيب أيضاً.
الموضوع ... الصفحة
? الكتاب المسمى (تنبيه الأخيار) هل نَبّهَ الأخيار لخير يعملون به أو حَذّرهم عن شرّ يجتنبوه أم أنه غَرّ وضَرّ.
? ذكر المباهلة.
? كتاب الحربي (كشف الأستار لإبطال ادّعاء فناء النار).
? كتاب توقيف الفريقين .
? مقدمة كتاب توقيف الفريقين.
? أصل الكلام في الفناء.
? كلام ابن القيم في (مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة).
? كلام ابن القيم في (الوابل الصيّب).
? كلام ابن القيم في (زاد المعاد) .
? كلام مُنْصِف في هذه المسألة.
? القائلون بالفناء أسعد بالإجماع ممن يقول بالدوام.
? تعقيب إسماعيل الأنصاري على أثر عمر ونفي شيخ الإسلام وابن القيم أن فناء النار من أقوال أهل البدع.
? فتوى بلا برهان.
? فتوى بلا حجة.
? فتوى بلا دليل .
? كشف الشبهات.
? مذهب أهل السنة في إخلاف الوعيد .
? هل يدخل إبليس والكفار الجنة بعد فناء النار ؟.
? بطلان الاحتجاج بكلام الإمام أحمد على عدم فناء النار.
? تعليل أقدار الجليل (منظومة).
? البراءة من التهمة.
? محتويات الكتاب .(1/141)