منهج النقد الحديثي بين المتقدمين والمتأخرين
بقلم الدكتور عبد القادر المحمدي
أولاً: عند المتقدمين :
يقوم منهج النقد عند الأئمة المتقدمين على مرحلتين :
المرحلة الأولى: وتقوم على نقد المتون ، ومن خلالها يتم الكلام في الرواة جرحاً أو تعديلاً ، وتمتد هذه المرحلة من عصر الصحابة حتى نهاية النصف الأول من القرن الثاني الهجري ، ويتمثل هذا المنهج برد الصحابة بعضهم على بعض حينما يستمعون إلى متون الأحاديث المروية والأحكام المتصلة بها ، تلك المتون التي يرونها تعارض بعض المتون الأخرى ،كاعتراضات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على بعض الصحابة ، أو اعتراضات ابن مسعود ، أو ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين .
و المرحلة الثانية : وهي تمثل مرحلة التبويب والتنظيم من خلال جمع ودراسة أحاديث كل محدث والحكم عليه من خلال تلك المرويات ، ويظهر ذلك في الأحكام التي أصدرها الأئمة على الرواة كعلي ابن المديني ، ويحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين ، والبخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، وأضرابهم .
ولا يساورنا شك أن بعض العلماء المتقدمين قد تكلموا في الرواة ممن عاصروهم أو لاقوهم جرحاً أو تعديلًا ، كالإمام مالك بن أنس ، والسفيانيين ،وشعبة بن الحجاج ، وحماد بن زيد ، والأوزاعي ، ووكيع بن الجراح ، ثم أن العلماء من الطبقة التي تلت هؤلاء قد تكلموا في الرواة الذين أخذوا عنهم واتصلوا بهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه : هو كيف نفسر كلام كبار علماء النقد ممن عاشوا في المئة الثالثة في رجال لم يلحقوا بهم من التابعين ومن بعدهم ، ولم يؤثر للمتقدمين فيهم جرح أو تعديل حتى نقول : إنهم اعتمدوا أقوال من سبقهم فيهم ؟
الجواب : إنهم أصدرا أحكامهم عن طريق تفتيش حديثهم المجموع ، واستناداً إلى ذلك .
وسأضرب لذلك أمثلة :(1/1)
" قال ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي : " سألت أبي عنه ، وعرضت عليه حديثه فقال : لا أعرفه ، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول ، يدل حديثه على أنه كذاب"(1) ، وقال في ترجمة أحمد بن المنذر بن الجارود القزاز : " سألت أبي عنه فقال : لا أعرفه ، وعرضت عليه حديثه فقال : حديث صحيح " (2).
وقال أبو عبيد الآجري في مسلمة بن محمد الثقفي البصري : " سألت أبا داود عنه قلت : قال يحيى (يعني ابن معين ) : ليس بشيء ؟ قال : حدثنا عنه مسدد أحاديث مستقيمة ، قلت : حدث عن هشام ، عن عروة ، عن أبيه ،عن عائشة : إياكم والزنج فإنهم خلق مشوّه . فقال : مَنْ حدث بهذا فاتهمه " (3).
فهذه الأمثلة الثلاثة واضحة الدلالة على أن أبا حاتم الرازي وأبا داود لم يعرفا هؤلاء الرواة إلا عن طريق تفتيش حديثهم المجموع ، وأنهما أصدرا أحكامهما استناداً إلى ذلك .
وقل مثل ذلك في قول الإمام البخاري ( ت 256 ) في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي المدني (83 –165 ) : منكر الحديث ، وقول أبي حاتم الرازي ( ت 277هـ ) فيه : شيخ ليس بقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به ، منكر الحديث ، وقول النسائي ( ت 303هـ ) فيه : ضعيف .
__________
(1) الجرح والتعديل 2/ 40 ترجمة (5) .
(2) الجرح والتعديل 2/ ترجمة (170) قلت : ومن أمثلته أيضا : قال في ترجمة أحمد بن بحر العسكري : " سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه فقال : حديث صحيح . وهو لا يعرفه " الجرح والتعديل 2/ 42 (15).
(3) تهذيب الكمال 7/112 (6554) .(1/2)
"فهؤلاء العلماء الثلاثة لم يدركوه ولا عرفوه عن قرب ولا نقلوا عن شيوخهم أو آخرين ما يفيد ذلك ، فكيف تم لهم الحصول على هذه النتائج والأقوال ؟ واضح أنهم جمعوا حديثه ودرسوه ، واصدروا أحكامهم اعتماداً على هذه الدراسة " (1).
ويرى الواقف على أقوال الأئمة المتقدمين ، وصنيعهم في المصنفات والجوامع والسنن ونحوها ، وكذا كتب العلل والتواريخ أنهم يتعاملون مع الحديث بشكل شمولي ، غير مجزأ ولا مخل ، مستعملين أوجز العبارات التي يفهمها أهل الصنعة ، كقولهم : (غير محفوظ) ، (منكر) ، (وهم) ، (خطأ) .وإنما استعملها النقاد هكذا دون تفصيل - في الأغلب – لأنهم خشوا أن تلتبس الأحاديث على غير المحدثين إذا ما طولوا ببيان علل كل حديث ، أو لأنهم اكتفوا بتقديم النتائج من غير بيان الأدلة التي حدت بهم إلى ذلك في الأغلب الأعم دفعاً للتطويل وطلباً للاختصار (2)،والتي أصبحت فيما بعد غامضة ، خاصة عندما ضعف علم الحديث ، وتوسع بعض الفقهاء في قبول الأحاديث الضعيفة ، فأصبحت تلك العبارات كأنها طلاسم ، يفسرها كل محدث ، أو فقيه (من المتأخرين) بنحو فهمه ومذهبه !! .
كما أثرت مناهج الفقهاء والأصوليين وحاجتهم المتزايدة إلى قبول الأحاديث من أجل الاستدلال بها في هذا المنحى ،فمثلا :
قال ابن الصلاح : " الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا وبعضهم متصلا : اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل ؟
__________
(1) .مقدمة تحرير التقريب ، د. بشار عواد ، والشيخ شعيب الأرنؤوط 1/ 18- 20 ، وانظر مقدمة تأريخ الخطيب ،د.بشار عواد معروف 1/ 137- 138 .
(2) انظر مقدمة جامع الترمذي ،د.بشار عواد معروف 1/ 33 ، ونظرات جديدة ، المليباري ص 95.(1/3)
مثاله حديث :" لا نكاح إلا بولي " ، رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندا هكذا متصلا ، ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا هكذا ، فحكى الخطيب الحافظ أن : " أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل " ، وعن بعضهم أن الحكم للأكثر وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله ، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته ، ومنهم من قال : من أسند حديثا قد أرسله الحفاظ فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته ، ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا فيقبل خبره وإن خالفه غيره سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة، قال الخطيب : هذا القول هو الصحيح قلت وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله"(1).
قلت : تأمل قوله : "أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل ، وعن بعضهم أن الحكم للأكثر وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ" ثم يرجح ماذا ؟ : " قال الخطيب : هذا القول هو الصحيح ، قلت : وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله " (2). فرجح ابن الصلاح رأي محدث متأخر مثل الخطيب وأتبعه بأن هذا هو مذهب الفقهاء والأصوليين .
ثم جاء بعده الإمام النووي ، وهو من كبار الفقهاء ليطلق قبول الزيادة إذا كانت من ثقة ، وليصبح قاعدة عريضة للمحدثين من بعده ؟
ومن ذلك أيضاً تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد وإدخال ذلك في كتب الحديث ، رغم أنَّ ذلك هو من صنيع الفقهاء والأصوليين .
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 59.
(2) انظر شرح علل الترمذي 2/638 ، والنكت على ابن الصلاح 2/607- 608 ، والمنهج المقترح ، العوني ص217.(1/4)
وهذا وإن كان محموداً بيد أنه غريب عن منهج المحدثين ، إذ جلَّ اهتمامهم هو صحة نسبة الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سواء أكان آحاداً ، أم متواتراً ، ويعد الخطيب البغدادي أول من صرح بتقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد بالمفهوم الذي استقر عليه علماء المصطلح من بعده ، يقول ابن الصلاح : " ومن المشهور المتواتر ، الذي يذكره أهل الفقه وأصوله ، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص وإن كان الخطيب البغدادي قد ذكره ، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم" (1).
وقال الفقيه ابن أبي الدم الشافعي ت 642هـ : " اعلم أن الخبر المتواتر : إنما ذكره الأصوليون دون المحدثين خلا الخطيب أبا بكر البغدادي ، فإنه ذكره تبعاً للمذكورين ، وإنما لم يذكره المحدثون لأنه لا يكاد يوجد في روايتهم ، ولا يدخل في صناعتهم " (2).
ولا أريد أن أخوض في جزيئات الاصطلاح ، لأن ذلك يطول ويحتاج إلى تسويد صفحات أمثال هذا الكتاب .
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص265 .
(2) لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ، الزبيدي ص17 ، وانظر المنهج المقترح ، العوني ص92.(1/5)
والذي يهمنا هنا أن منهج النقد عند المتأخرين نحا منحىً آخر عنه عند المتقدمين ، وأصل هذا:أن المتقدمين حين جمعوا الحديث وغربلوه عرفوا صحيحه من سقيمه استنادا إلى قواعد نعرف بعضها ، ونجهل الكثير منها ، لكن من أبرزها موافقته لما عرفوه من القواعد الكلية للشريعة الإسلامية ، في حين اعتمد المتأخرون على كتب المصطلح القائمة أصلا على معرفة الرواة فكان جل حكمهم ينصب على الأسانيد لا على المتون فتكون الأسانيد حاكمة على المتون ، وقد مر قول ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي : " سألت أبي عنه ، وعرضت عليه حديثه فقال : لا أعرفه ، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول ، يدل حديثه على أنه كذاب"(1).
وقد كان الحديث عند المتقدمين يعتمد على قواعد ثلاث : رواية -أعني من حيث السند أو المتن - ، والدراية، والفقه .
يقول علي بن المديني :" التفقه في معاني الحديث نصف العلم ، ومعرفة الرجال نصف العلم"(2).
فليس العالم الذي يتعلم نصفاً ، ويدع النصف الثاني ، فتنزلق قدمه ، وقد تُدقُ عنُقهُ ! قال عبد الله بن وهب : "لولا الله أنقذني بمالك والليث لضللت . فقيل له : كيف ذلك ؟ قال : أكثرت من الحديث فحيّرني ، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث فيقولان لي:خذ هذا ودع هذا " (3).
وقال قتادة بن دعامة السدوسي : " من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه " (4).
وقال سفيان الثوري :" لو كان أحدنا قاضياً لضربنا بالجريد فقيهاً لا يتعلم الحديث ، ومحدثاً لا يتعلم الفقه " (5).
__________
(1) الجرح والتعديل 2/ 40 ترجمة (5) .
(2) سير أعلام النبلاء ، الذهبي 11/48 .
(3) ترتيب المدارك ، القاضي عياض 2/ 427 ، وأصل النص عند ابن حبان في المجروحين 1/ 42 بلفظ قريب.
(4) جامع بيان العلم ، ابن عبد البر 2/46 ، وانظر نظرات جديدة في علوم الحديث ، المليباري ص55 .
(5) نقله الكتاني في مقدمة نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص3 .(1/6)
وقال أيضاً : " تفسير الحديث خير من الحديث "(1) ، أي خير من سماعه ، وحفظه كما ورد عن أبي أسامة : " تفسير الحديث خير من سماعه "(2). وهذا يعني فهم فقه الحديث ومعناه .
ويقول الإمام أحمد : " إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالماً " (3).
وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى مغيرة الضبي ، قال : " أبطأت على إبراهيم فقال يا مغيرة ما أبطأ بك ؟ قال قلت : قدم علينا شيخ فكتبنا عنه أحاديث ، فقال إبراهيم: لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إلا ممن يعلم حلالها من حرامها وحرامها من حلالها ، وإنك لتجد الشيخ يحدث بالحديث فيحرف حلاله عن حرامه وحرامه عن حلاله وهو لا يشعر" (4).
فالجهابذة من المتقدمين من لم يفصلوا متن الحديث عن سنده ، ولا هذين عن فقهه ومعناه،فإذا جاءهم الحديث فأول ما ينظرون إلى معناه هل هو موافق للشرع أم لا ؟ ثم هل هو موافق للمحفوظ أم لا ؟ فلعل راويه قد أخطأ فيه ، أو وهم في متنه ، أو لعله خالف ما عند الناس.
فالناقد حينما ينظر إلى الحديث لتقييمه يعتبر بالسند والمتن لمعرفة هل حدّث هذا الراوي بهذا الحديث ؟ وتتم المعرفة بجمع الطرق وضم بعضها إلى بعض مع الدقة في الفهم والمعرفة.
__________
(1) أدب الإملاء ، السمعاني ص135 ، وانظر نظرات جديدة ، المليباري 56 .
(2) مصدر سابق .
(3) معرفة علوم الحديث ، الحاكم ص60 .
(4) الكفابة ص 169.(1/7)
ويذكر الدكتور حمزة المليباري : " أن الجوانب الفقهية ومعرفة الصحيح والسقيم لم تكن محل عناية كافة المحدثين في المرحلة الأولى ، بل إن الكثيرين منهم لا تهمّهم إلاّ عملية الرواية ، وضبطها وحفظها ، غير أن هؤلاء كفوا عن الخوض في نقد الأحاديث ، وأمّا النقاد فيختلفون عنهم في التكوين العلمي بصورة واضحة وحفاظ الحديث الذين تمكنوا من علوم الحديث بشقيها – فقه الحديث ، ومعرفة الصحيح والسقيم – هم وحدهم الذين سبروا أغوار النقد ، وهم بعينهم اعتبارنا في البحث ، وإنَّ تصحيح الأحاديث وتعليلها لا يتأتى لأحد دون التكوين العلمي المزدوج "(1).
قلت : رغم صحة هذا الكلام لكن قوله : " إن الكثيرين منهم لا تهمّهم إلاّ عملية الرواية ، وضبطها وحفظها ... " ،ربما يفهم منه أنه يريد بذلك " كثيراً " من كبار علماء الحديث ، وما
أخاله قصد ذلك ، فإن جل كبار المحدثين الجهابذة المعروفين كانوا على دراية تامة بذلك ، ومما لا شك فيه أن المقياس في هذا هو كتابة العلل ، فالإمام مالك لم يدون لنا كتاباً مستقلاً في العلل ولكنه إمام العلل في زمانه ، ولم يصل إلينا أن سفيان بن عيينة أو الثوري أو شعبة أو ابن مهدي مثلاً لهم مصنفات مستقلة في العلل ، فهل هذا يعني أنهم لم يحسنوها ؟!
بل بلا منازع هؤلاء – وغيرهم – هم رجالات العلل والنقد !!
هذا فضلاً عن أن كتب الأئمة المتقدمين في السنن أو العلل حينما تقتضي منهجيتهم ذلك ، كما فعل الإمام الترمذي مثلاً في " الجامع الكبير " لأنه إنما ألف هذا الكتاب من أجل النقد وبيان عمل الفقهاء (2)، أو يكون الكتاب مخصصا ً للعلل كما في كتب العلل .
__________
(1) نظرات جديدة ص61.
(2) انظر مقدمة جامع الترمذي ، تحقيق د.بشار عواد معروف 1/ 9.(1/8)
وهكذا فإنّ نقد المحدّثين في المرحلة الأولى نقد علمي متكامل بجميع عناصره،لا يفصل الإسناد عن المتن ،ويقوم أسهُ على المعرفة الحديثية والفقهية (1).
وسأوضح منهجية المتقدمين من خلال المراحل الآتية :-
فلو جئتهم بحديث مسند مرفوعٍ بمتن معين فإنهم :
... 1 - ينظرون إلى متن الحديث هل يخالف نصاً شرعياً أو يخالف الواقع ؟. وهذه القنطرة الأولى . ...
ومن أمثلته : قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :" سمعت أبي يقول حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن إسحاق بن يسار عن عمران بن أبي أنس أن رجلاً كان له كلب صائد قد أعطيه به عشرين بعيرا فخطب امرأة وخطبها معه رجل من قومها فقالت :لا أنكحك إلا على كلبك فنكحها وساق الكلب إليها فعدا عليه الآخر فقتله فترافعوا إلى عثمان بن عفان فغرمه عشرين بعيراً، سمعت أبي يقول : هذا باطل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب " (2).
2- هل هذا المتن محفوظ عند أئمة الحديث أو لا ؟
__________
(1) انظر :نظرات جديدة ، المليباري ص97-98 .
(2) العلل ومعرفة الرجال 1/408 (2661) وللمزيد انظر الأحاديث (459و618 و694و 695 و698 و700 و749 و 662 ).(1/9)
قال ابن أبي حاتم :" سألت أبي عن حديث أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: قد اختلفوا في متنه ، رواه فطن والأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ،ورواه شعبة والمسعودي عن إسماعيل بن رجاء لم يقولوا : أعلمهم بالسنة ، قال أبي : كان شعبة يقول : إسماعيل بن رجاء كأنه شيطان من حسن حديثه ، وكان يهاب هذا الحديث يقول :حكم من الأحكام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشاركه أحد ، قال أبي شعبة أحفظ من كلهم ، قال أبو محمد : ليس قد رواه السدي عن أوس بن ضمعج ؟ قال :إنما رواه الحسن بن يزيد الأصم عن السدي وهو شيخ أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث ؟! وأخاف أن لا يكون محفوظاً " (1).
وقال : " سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن حسان بن بلال عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية ؟ قال أبي :لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة عن ابن أبي عروبة ، قلت : صحيح ؟ قال : لو كان صحيحاً لكان في مصنفات ابن أبي عروبة ، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث وهذا أيضاً مما يوهنه " (2).
3- هل هذا الحديث تفرد به راويه عن بقية الرواة فزاد فيه ما لم يحفظ عند بقية الرواة فإذا كان قد زاد ولم يحفظ استنكر عليه .
فمثلاً :قال الإمام أحمد :" كنت أتهيب حديث مالك " من المسلمين " يعني حتى وجدته من حديث العمريين ، قيل له : أمحفوظ هو عندك : " من المسلمين " ؟ ، قال : نعم " (3) .
__________
(1) علل ابن أبي حاتم 1/92 (248) .
(2) علل ابن أبي حاتم 1/ 23 (60 ).
(3) شرح علل الترمذي ، ابن رجب 2/ 632.(1/10)
ومنه : قال ابن المديني باب : " علل حديث منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة " . قال علي : حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " منزلنا غداً إن شاء الله بالخيف عند الضحى " . رواه الزهري فاختلف على الزهري في إسناده . فرواه الأوزاعي وإبراهيم بن سعد والنعمان بن راشد وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع كلهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة . إلاّ أنَّ معمراً أدرجه في حديث علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد :" وهل ترك لي عقيل منزلاً "، فأدرج عنه : " منزلنا غداً " .وقد رواه محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة ، ولم يذكر فيه : " منزلنا بالخيف" (1).
4- ينظر هل الراوي تفرد بهذا الحديث – أصلاً –أم توبع عليه ؟ فإن توبع فقد زالت الغرابة ، وإلاّ يبقى في دائرة الاختبار ؟
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي قلت: كان يحيى بن سعيد يحدث عن همام ؟ فقال زعم عفان قال : كان يحيى يسألني عن حديث همام حيث قدم معاذ بن هشام فكان يسألني : كيف قال همام، قال أبي وذاك أنه وافق هشاماً في أحاديث، قال أبي :كان يحيى يرى أنه ليس مثل سعيد ،وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول همام عندي في الصدق مثل سعيد بن أبي عروبة سمعت أبي مرة ذكر هماما فقال:كان يحيى ينكر على همام أنه يزيد في الإسناد، يعني :فلما قدم معاذ وافقه على بعض تلك الأحاديث لهشام" (2).
__________
(1) علل ابن المديني ص81-83 (117) ، وانظر الأحاديث (53 ، 105 ، 175) .
(2) العلل (1231).(1/11)
فالمتقدمون يعلّون الأحاديث التي ينفرد بها الراوي ، إذا كانت غير معروفة عندهم ، ولو كان راويها ثقة ، يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي : "وأما أكثر الحفاظ المتقدمون فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه أنه لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا ، 0ولهم في كل حديث نقد خاص وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه " (1).
5- فإن كثر من الراوي تفرده ، وعمت غرائبه ، أصبح ( منكر الحديث ).
قال الحسين بن إدريس الأنصاري عن أبي داود:" قلت لأحمد : عبد الملك بن أبي سليمان ؟ قال : ثقة ، قلت يخطئ ؟ قال : نعم ، وكان من أحفظ أهل الكوفة إلا أنه رفع أحاديث عن عطاء .
وقال علي بن الحسين بن حبان : وجدت في كتاب أبي بخط يده سئل أبو زكريا يحيى بن معين عن حديث عطاء عن جبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفعة ؟ قال: هو حديث لم يحدث به أحد إلا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء وقد أنكره عليه الناس ولكن عبد الملك ثقة صدوق لا يرد على مثله ، قلت له: تكلم شعبة فيه ؟ قال نعم ، قال شعبة : لو جاء عبد الملك بآخر مثل هذا لرميت بحديثه ،وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه :هذا حديث منكر " (2).
6 - يلاحظ الراوي فلعله ركب سند حديث على متن آخر ، أو العكس ،ومنه:
__________
(1) شرح علل الترمذي ، ابن رجب 2/ 582 .
(2) تهذيب الكمال 4/ 556 (4120).(1/12)
قال ابن المديني في حديث : " لا يحرم من الرضاعة المصة والمصتان ": " رواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن الحجاج بن أبي الحجاج عن أبي هريرة ،وهذا غلط ، ورواه يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه هشام بن عروة عن أبيه عن الحجاج بن أبي الحجاج أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يذهب عني مذمة الرضاع ؟ قال : "غرة عبد أو أمة " ، وحديث ابن إسحاق عندهم خطأ ، وأدخل حديثاً في حديث ،والحديث عندي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :" لا تحرم المصة والمصتان " وحديث هشام بن عروة عن الحجاج بن أبي الحجاج أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يذهب مذمة الرضاع " (1).
ومن ذلك أيضا : ما أخرجه النسائي 8/ 273 فقال : أخبرنا محمد بن أبان قال : حدثنا شبابة بن سوار قال : حدثنا شعبة ، عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن الدباء والمزفت " (2).
فهذا الحديث صح من طريق عدة صحابة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الشيخان وغيرهما (3).
ولم يعرف بهذا الإسناد ، وإنما المعروف به حديث " الحج عرفة " (4)،ولا يعرف بهذا الإسناد غير هذا الحديث.
__________
(1) علل ابن المديني 1/ 82 ، وانظر علل ابن أبي حاتم 1/ 76.
(2) انظر تفصيله في المسند الجامع 12/366(9590).
(3) من طريق علي وعائشة وأنس وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - انظر تفصليه في المسند الجامع 2/(882) و6/ (4460 و4461) و 8/ (5907 ) و 9/ (6647 و 6649و 6650 )و10/(7889) ، و17/ (13854) ، و 9 /(15946) و 20 /(16845 و 1646) و 20 / (17462).
(4) أخرجه أحمد والأربعة ، انظر المسند الجامع 12/ 365(9589).(1/13)
... قال الحافظ ابن رجب : " أنكره على شبابة طائفة من الأئمة منهم الإمام أحمد ، والبخاري ، وأبو حاتم ،وابن عدي ؛ ... قال أحمد : إنما روى شعبة بهذا الإسناد حديث الحج ؛ يشير إلى أنه لا يعرف بهذا الإسناد غير حديث الحج " (1).وقال أبو حاتم : " هذا حديث منكر ،لم يروه غير شبابة ، ولا يعرف له أصل " (2).
7- فإذا كان الراوي ضعيفاً ولم يتابع فإن مجرد تفرده بالمتن نوع ضعف ، وإن خالف فهو حديث منكر وإن توبع بمن هو مثله فلا يسلم ، أما إن كان بأحسن منه فربما اعتضد ، ويعتمد ذلك على حسب القرائن .
8- قد ينتقي الناقد البارع من حديث الضعيف أصح رواياته ،وهذا لا يُقبل إلاّ عند أئمة الشأن كـ ( البخاري ومسلم ) (3) ومن هو قرين لهما في النقد والفهم ، لأنه أعلم بحديثه وبمظانه في السنن .
9- إن لكل حديث من الأحاديث قرينة خاصة به كما نص على ذلك الأئمة المحققون، فعند ترجيح حديث على حديث أو قبول رواية راوٍ في موضع وردها من الراوي نفسه في موضع آخر هناك قرائن ومعطيات على أساسها يتم ترجيح الرواية وقبولها في هذا دون ذلك .
10 – إن الأئمة المتقدمين يوردون أحياناً الحديث المعلول ليبينوا علته ، فينبهوا عليه ، وقد صرح بعضهم بذلك كأن يورد الصحيح أولاً ثم يورد المعلول رديفه كما في صنيع الإمام مسلم -كما سيأتي – ؛ وبعضهم يضع الحديث المعلول أولا ثم يورد الصحيح بعده .
يقول الحافظ ابن رجب في هذا :"وقد اعترض على الترمذي – رحمه الله – بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالباً ، وليس ذلك بعيب فإنه – رحمه الله – يبين ما فيها من العلل ، ثم يبين الصحيح في الإسناد .
__________
(1) شرح علل الترمذي 2/ 648 .
(2) علل ابن أبي حاتم 2/ 27(1557).
(3) وقد انتقى الإمام البخاري مثل ذلك في (2806) و (5642)و(6229) ، والإمام مسلم (188 ) و (211) (510) و (1080) و (1283)و (1429) ، وانظر ص 222 من هذا الكتاب .(1/14)
وكان مقصده – رحمه الله – ذكر العلل ، ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط بعد ذلك الصواب المخالف له ، وأما أبو داود – رحمه الله – فكانت عنايته بالمتون أكثر ، ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها ، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض ، فكانت عنايته بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد ، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد ، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية " (1).
والذي أريد قوله : إنّ إطلاق العبارات النقدية أمر نسبي ، يطلقها المجرّح نتيجة لقرائن بدت له ، ومن مجموعها أصدر هذا الحكم ، وهذه الألفاظ وصفية ، أي ليست مرتبة حديثية مستقلة ، أطلقها النقاد على تفردات الرواة بما لم يحفظ عندهم ، ولما كان الوهم والخطأ من فطرة البشر ، فهو أيضاً يشمل رواة الأحاديث ، بل من النادر أنك تجد راوياً سلم من الوهم ، حتى جهابذة العلل ، يقول عبد الرحمن بن أبي حاتم : " سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه شعبة عن منصور عن الفيض بن أبي حثمة عن أبي ذر أنه كان إذا خرج من الخلاء قال : " الحمد لله الذي عافاني واذهب عني الأذى " ؟ فقال أبو زرعة : وهم شعبة في هذا الحديث ورواه الثوري فقال :عن منصور عن أبي علي عبيد بن علي عن أبي ذر وهذا الصحيح وكان أكثر وهم شعبة في أسماء الرجال ، وقال أبي :كذا قال سفيان ، وكذا قال شعبة ، والله أعلم أيهما الصحيح ، والثوري أحفظ وشعبة ربما أخطأ في أسماء الرجال ولا يدري هذا منه أم لا ؟ " (2).
... فهذا أمير المؤمنين في الحديث قد يهم ! فما بالك بغيره ؟ وهذا الوهم نسبي لا يقاس أمام حفظ وإتقان وضبط شعبة بن الحجاج ( أمير المؤمنين في الحديث ) ، وحسبه شرفا أن تحسب الأحاديث التي أخطأ بها ، وهي قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة !
__________
(1) شرح علل الترمذي 2/ 626.
(2) علل ابن أبي حاتم 1/ 27(45).(1/15)
فالراوي كلما وافقت روايته رواية الثقات ، ولم تكد تخالف كان إلى الضبط أقرب ، وكلما جاءك بالغرائب ، والمنفردات كان إلى الوهم أقرب ، وأطلق عليه : " يروي الغرائب ، له غرائب ، ... " ، وهذه الغرائب مذمومة عند السلف ،قال إبراهيم النخعي:" كانوا يكرهون الغريب من الحديث" (1) ،وقال الإمام مالك بن أنس :"شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس " (2) ، وقال عبد الرزاق :" كنا نرى أن غريب الحديث خير فإذا هو شر "(3).
ثانياً : عند المتأخرين :
وأمّا منهج أئمة الحديث من المتأخرين في النقد فإنه نحا منحىً آخر بدأ بابي عبد الله الحاكم إذ فرّق بين السند والمتن ، فكان نقطة تحول في علم الحديث ويتضح منهجه في ذلك في حكمه على أحاديث كثيرة أنها صحيحة الإسناد ، وكان لا بد أن يخرجها صاحبا الصحيحين ، البخاري ومسلم ، فقال مرات لا تحصى : " صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه " ، " صحيح الإسناد على شرطيهما ولم يخرجاه " ، " إسناده صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه " ، " صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجه " ، وهكذا .
فجعل صحة الإسناد شرطاً لقبول الحديث ، متغاضياً عن صحة المتن فأدخل متون منكرة ، ومعلولة ، ظاهر إسانيدها صحيحة (4). وهكذا بدأ علم الحديث يأخذ منحىً جديداً يختلف عمّا كان عليه قبل الحاكم النيسابوري.
__________
(1) الكفاية ، الخطيب البغدادي ص 171 .
(2) شرح علل الترمذي ، ابن رجب 2/ 622 .
(3) فتح المغيث ، السخاوي 2/ 310 .
(4) انظر بحث " منهج الذهبي في تلخيص مستدرك الحاكم "، لزميلنا الشيخ عزيز رشيد .(1/16)
يقول الإمام الذهبي ً في معرض الكلام عن عنعنة المدلس :"وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث،فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود،عاينوا الأصول،وعرفوا عللها ،وأما نحن فطالت علينا الأسانيد ،وفقدت العبارات المتيقنة،وبمثل هذاونحوه دخل الدّخل على الحاكم في تصرفه في المستدرك "(1).
ولما شرع المتأخرون بكتابة مصطلح الحديث -وهذا أمر طبيعي ، إذ هو تلبية لحاجة طلبة العلم لمصطلح نظري ييسر لهم ولوج علم الحديث ، خاصة بعد ضعفه في تلك الأزمان كما بينه العلماء في ذلك الوقت فوضعت كتب المصطلح- أصبح النقد عندهم قائماً على الإسناد ، في الأعم الأغلب واصبح من وثقه المتقدمون صُحَحَ حديثه ، ومن ضعفه المتقدمون ضُِعفَ حديثه ، ومن تركه المتقدمون حكموا على حديثه بالضعف الشديد ، مع عدم إدراكهم دائماً لمسألة الانتقاء .
إن هذا العمل جعلهم في بعض الأحيان يتبعون قواعد صماء لا ينظرون فيها إلى معاني الحديث أو فقهه ، أو مخالفته ، أو موافقته للقواعد العملية للشريعة التي سار عليها المتقدمون ، وأدخل هذا العلم في متاهات صعبة .
__________
(1) الموقظة ص46.(1/17)
إن الاعتماد على الإسناد حسب ، واستناداً إلى توثيق الرجال وتضعيفهم جعلهم يلزمون المتقدمين بأشياء لم تكن تلزمهم ، كما فعل الإمام الدار قطني في الإلزامات والتتبع ، وكما فعل أبي عبد الله الحاكم في المستدرك مع كثرة أخطائه (1)، ولكنه بلا شك جاء بكثير من الأسانيد التي استخدمها الشيخان في كتابيهما ولكنهما لم يرويا هذه الأحاديث التي ساقها أو غيرها لأسباب لا نعرفها عموماً ، ومن َثمّ أخذت فكرة الأسانيد التي على شرط البخاري ، أو شرط مسلم تظهر منذ ذلك الوقت المبكر عند المتأخرين مما خلق إرباكاً كبيراً ومساءلات لا حد لها في الأحاديث التي أوردها المتأخرون بموجب هذه القواعد النقدية التي لم يعرفها المتقدمون ، ولا عملوا بها .
__________
(1) من المعروف أن كثيرا من الرجال الذين زعم الحاكم أنهم من رجال البخاري أو مسلم هم ليسوا من رجالهما.(1/18)
يقول أستاذنا الدكتور بشار : " شاع عند المتأخرين ، ومنهم الحاكم ، من قول : إن هذا الحديث على شرط الشيخين ، أو على شرط البخاري ، أو على شرط مسلم ، وكأن شروطهما كانت معروفة لكل أحد من الناس ، نعم ، حاول بعض المتأخرين معرفة شروط الشيخين بالاستقراء ونقل بعض النصوص ، كما فعل محمد بن طاهر المقدسي ت507 هـ ، والحازمي ت584 هـ ، ولكن هذا في حقيقة أمره مجرد تخمين واستنتاجات قائمة على استقراء غير تام لصنيع الشيخين في كتابيهما ، فإن أحداً لا يمكنه الجزم بالطريقة التي تم بموجبها اختيار المؤلفين أحاديث كتابيهما ، قال ابن طاهر المقدسي في مقدمة كتابه : " اعلم أن البخاري ومسلماً ومن ذكرنا بعدهما لم ينقل عن واحد منهم أنه قال : شرطت أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني ، وإنما يعرف ذلك من سبر كتبهم فيعلم بذلك شرط كل رجل منهم " (1)،وقد انتقى الشيخان من الأحاديث انتقاءً لا ندرك تماماً الأسس التي تم بموجبها هذا الانتقاء ، فلا ندري مثلاً لماذا انتقيا من موطأ مالك هذه الأحاديث ، ولماذا انتقيا هذه المرويات من حديث نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنه - ؟ ولماذا انتقيا هذه المرويات من أحاديث الثقات أمثال : أيوب السختياني ، وجرير بن حازم ،وجعفر بن إياس اليشكري ، والليث بن سعد ،وعبيد الله بن عمر العمري،وغيرهم..، فلماذا أخذا من مروياتهم ما أخذا وتركا ما تركا ؟؟ فليس هناك من جواب إلا القول بالانتقاء.
وقل مثل ذلك في الرواة المتكلم فيهم الذين أخرجا لهما في صحيحيهما ، إذ انتقيا من أحاديثهم أصحها ، أو قل أسلمها من العيوب مما يصلح في بابه ، إذ أخرجاها في غير أبواب الحلال والحرام. واستعاض بعضهم بقولهم : " رجاله رجال الصحيح " ، أو" رجاله رجال البخاري" ، أو " رجاله رجال مسلم " . وهذا فيه نظر من وجهين :
__________
(1) شروط الأئمة الستة ص 17.(1/19)
الأول : إن كون رواة الإسناد من رجال الشيخين أو أحدهما لا يعني أن الشيخين قد أخرجا بهذا الإسناد ، أعني برواية الواحد عن الآخر ...
الثاني : أن الشيخين قد رويا لرجال من رجالهما ممن عرفوا بالضعف ، فانتقيا قليلاً ، أو كثيراً من حديثهم الصحيح ، فكيف عندئذٍ نوهم بأن حديث مثل هذا الشيخ أو الراوي صحيح في جملته ... ." (1).
وحاول بعض المتأخرين أن يجدوا أشياء جديدة فاتت المتقدمين – بزعمهم- كأن يوصلوا المرسل ، ويرفعوا الموقوف ، أو يزيدوا في لفظة ما لم تكن معروفة عند المتقدمين وهي بجميعها إما أن تكون مما تركه المتقدمون لعلة فيه ، أو سرقه السراقون .
فمن أمثلة ذلك : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أنا مدينة العلم وعلي بابها " (2).
قلت : جاء هذا الحديث من طرق متعددة هي أكثر من سبعة عشر طريقاً عن ثلاثة من الصحابة : " علي ، وجابر ، وابن عباس " - رضي الله عنهم - .
__________
(1) مقدمة تأريخ بغداد 1/ 173 –176 بتصرف ، وانظر تمامه هناك فإن فيه زيادة فائدة.
(2) أخرجه الترمذي (3732) ، وفي العلل الكبير (699)، والحاكم 3/ 137 و138، والطبراني في الكبير 11/ 65 (11061).(1/20)
فهذا الحديث أعلّه المتقدمون –أصلاً- ، قال يحيى بن معين : " رأيت عمر بن إسماعيل بن مجالد ليس بشيء كذاب رجل سوء خبيث حدث عن أبى معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا مدينة العلم وعلي بابها "؟ وهو حديث ليس له أصل . قال عبد الله : وسألت أبى عنه فقال : ما أراه إلا صدق . أنبأنا عبد الرحمن قال : سألت أبى عن عمر بن إسماعيل بن مجالد فقال: ضعيف الحديث ، أخبرنا عبد الرحمن قال: سئل أبو زرعة عن عمر بن إسماعيل بن مجالد فقال : أملى علينا عن أبى معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :أنا مدينة العلم وعلى بابها "، فأتيت يحيى بن معين فذكرت ذلك له فقال : قل يا عدو الله متى كتبت أنت هذا عن أبي معاوية ؟ إنما كتبت أنت عن أبي معاوية ببغداد ولم يحدث أبو معاوية هذا الحديث ببغداد ؟! " (1).
وأعله أيضا الإمام أحمد ، وقال : " ما سمعناه !" ، وعده كذباً ! (2).
وأنكره الإمام البخاري (3)، والترمذي (4)،وكذا جهبذ العلل من المتأخرين الإمام الدارقطني (5) ، وقال جمهور المحققين من المتأخريين : "موضوع "،كابن عدي (6) ، والعقيلي (7) ، وابن الجوزي (8) ، والذهبي (9) وغيرهم ، وإنما أعلّوه باعتبار أصل المتن ، وأنّه لم يصح به .
__________
(1) الجرح والتعديل ، ابن أبي حاتم 6 / 99 (514).
(2) العلل و معرفة الرجال 2/ 107 (645).
(3) علل الترمذي الكبير ص 375 (699)
(4) الجامع (3732) ، والعلل ص 375 (699).
(5) العلل 3/ 247 (386) ، وانظر لسان الميزان ، ابن حجر 1/ 179 (574).
(6) الكامل 2/ 412 (840) ، و5/ 67 (1244).
(7) الضعفاء 3/ 149 (1134).
(8) الموضوعات 1/ 348 فما بعد .
(9) تذكرة الحفاظ 1/ 1231 (1047)، وميزان الاعتدال 1/ 249 (428)، وفي 2/ 145 (1527) وغيرها .(1/21)
... قال ابن حبان : " كل من حدّث بهذا المتن إنما سرقه من أبي الصلت وإن قلب إسناده "(1). وعدَّ الدارقطني جماعة ممّن سرقه ، حتى بلغوا عشرة (2).
فالحديث بهذا المتن لا يصح ، ولو جاء من طريق صحيح لأنه لم يحفظ ، وكل الطرق موضوعة له .
ثم جاء الحاكم ليصححه ؟! ويقول :" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"(3) ؟ وتبعه الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال : " حسن بمجموع طرقه " (4) ، وقال في لسان الميزان : "وهذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم أقل أحوالها أن يكون للحديث أصل فلا ينبغي أن يطلق القول عليه بالوضع " (5).
وإنما قال ذلك لأنه : " اعتبر كثرة الطرق دليلاً على حسنه ، وإن لم تسلم واحدة منها من الطعن " (6) .
فالفرق بين منهجية النقد عند المتأخرين تختلف كثيراً عنها عند المتقدمين وأكثر ما يوضح هذا الفارق هو مبحث ( زيادة الثقة ) ، إذ كم من أحاديث مرفوعة ردّها المتقدمون لكون المحفوظ (موقوفاً) أو (مرسلاً) ، أو غيرها من العلل رغم أنَّ الزائد ثقة ، ثم يأتي بعدهم المتأخرون ليصححوا مثل ذلك اعتماداً على صحة السند وأن الزائد قد حفظ والحافظ حجة على من لم يحفظ ؟
__________
(1) المجروحين 2/152 .
(2) ذكره الدكتور الدميني ، في كتابه مقاييس نقد متون السنة ص 167 ، ولم أقف عليه .
(3) المستدرك 3/ 138.
(4) نقلاً عن الأسرار المرفوعة- الموضوعات الكبرى - ، القاري ص118 ، وكشف الخفاء،العجلوني 1/235.
(5) لسان الميزان 2/ 122(513).
(6) الدميني ، نقد متون السنة ص167 .(1/22)
فعكسوا ميزان النقد ، وتحول فيما بعد معيار صحة الحديث وعدمه هو اتصال السند، بنقل العدول الضابطين ، أمّا (من غير شذوذ) فكان نصيبه خمطاً ،إذ الشاذ قد يكون اسماً بلا مسمى!؟، فالبعض زعم أنّ الأئمة قد سووا بين الشاذ والفرد المطلق ؟ ، فيلزم أن يكون في الشاذ الصحيح وغير الصحيح ، وبعضهم خصصه فأطلقه على تفرد الثقة وهذا يلزم أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ (1)؟! وهذا يعني أنّ قول الناقد : "شاذ " قد يريد به الحديث الصحيح الفرد الذي لا يتابع ! ،وهو قول مردود كما بينه الحافظ ابن حجر ، كما سيأتي .
ثم جاءت بعض النصوص التي فصلت الإسناد عن المتن ، فقد يصح الحديث سنداً ولا يصح متناً ثم تطلق عبارة التصحيح هكذا ( إسناده صحيح ، ورجاله ثقات ) ، فتعكّز عليها بعض المتأخرين ، وخاصة من المعاصرين ليصححوا مئات ، بل آلاف الأحاديث المعلولة تحت هذا الغطاء :" إسناده صحيح " .
بل كم تعكزّ بعض المعاصرين على عبارات الأئمة من المتأخرين الذين فصلوا تصحيح السند عن المتن : كقول ابن الصلاح : " قد يقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصح لكونه شاذاً أو معللاً " (2).
وكقول الإمام النووي : " قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أو علة " (3). فهذه وأمثالها من أقوال الأئمة من المتأخرين استغلت في إطلاق صحة الإسناد على صحة المتن عند بعض المعاصرين .
__________
(1) انظر النكت على ابن الصلاح 2/652 ، وانظر ص 86 من هذا الكتاب .
(2) مقدمة ابن الصلاح ص23 .
(3) تقريب النووي مع التدريب 1/129 ، وانظر فتح المغيث ، السخاوي 1/62 ونظرات جديدة ، المليباري ص63 .(1/23)
فأقوال هؤلاء الأئمة لا تعني أن الحديث صحيح ،وإنما مقصدهم منها بيان أحوال الرواة بأنهم ثقات أو فيهم صدوق ، ويبقى الحديث في خانة الإختبار حتى يجزم بعدم شذوذه وخطئه ،ومع هذا فإنّ ظاهر هذه النصوص ساعد على انتشار منهجية فصل الإسناد عن المتن في الحكم على الحديث الواحد لدى المتأخرين ولا سيما لدى المعاصرين ، حيث كان تصحيحهم وتحسينهم وتضعيفهم مبنياً على ظواهر الإسناد وأحوال رواته بغض النظر عن متنه ، وترسّخ ذلك في عملهم بل تجاوز الأمر حتى إنهم حاكموا المتقدمين على قواعد المتأخرين ، فإذا ما أعل النقاد المتقدمون حديثاً تفرد به ثقة أو صدوق بحجة تفرده به ، أو إذا أعلوا ما زاده على الآخرين بحجة عدم وجود المتابعة له ، يرفضونه بمنتهى البساطة لخروجه من حدود منهجهم الذي يؤسس على ظواهر الإسناد وأحوال الرواة ،وأحياناً يعللون ذلك بقولهم :" كما هو مقرر في كتب المصطلح" !
وهذا ما دفع بعض الطاعنين إلى انتقاد كتب الحديث كونها لا تهتم بالمتون ، وإنما جلّ اهتمامهم وعنايتهم تنصب في معالجة الأسانيد (1).
__________
(1) انظر نظرات جديدة في مصطلح الحديث ، الميليباري ص64 .(1/24)
وفي هذا يقول الدكتور المليباري :" إن كثيرا من المشتغلين بالأحاديث يتسابقون إلى تخريجها أو تحقيق مصادرها ويقومون بتصحيحها أو تعليلها بصورة توهم أن علم الحديث أمور رياضية تقوم على حسابات خاصة ، واعتبارات محددة تقاس عليها جميع الأحاديث فيقولون : هذا صحيح لأن رجاله ثقات ، وهذا حسن لذاته لكون راويه صدوقاً ، وهذا ضعيف لضعف راويه ، وفي حالة وجود متابعة أو شاهد يقولون تقوى هذا الحديث فأصبح صحيحا لغيره أو حسنا لغيره ، وهكذا تحول التصحيح والتحسين والتضعيف أمرا سهلا ، يتأهل الجميع لتناوله بمجرد التعرف على هذه الطريقة ، وحفظ القواعد من كتب مصطلح الحديث ! بل إنهم لا يبالون بما قد يصادفهم أثناء بحوثهم من تعليل النقاد أو تصحيحهم فيرفضونه بمنتهى البساطة لخروجه من التقديرات التي تقيدوا بها ، فعلى سبيل المثال يعل النقاد حديثا من مرويات ثقة بحجة تفرده به ، أو زيادته أو مخالفته لغيره فيأتي بعض المعاصرين ويقول : كلا إنه صحيح ؟!!ورواته ثقات ، ولا يضر التفرد هنا أو لا تضر الزيادة لان صاحبها ثقة ، وإذا صحح النقاد حديثا من مرويات راوٍ ضعيف أو حديثاً من مرويات المدلس الذي عنعن فيه ، فيقول المعاصر : كلا إنّ الحديث ضعيف ، لأن فبي سنده راوياً ضعيفاً ، أو عنعنة المدلس كما هو مقرر في كتب المصطلح " (1).
هذا المنهج في الحكم على المرويات هو الذي شاع عند المتأخرين ، وهو الذي استقرّ عليه المعاصرون ؟! فكم من حديث أعله المتقدمون ثم يأتي الشيخ العلامة أحمد شاكر ليصححه ويخطأ الأئمة المتقدمين (2) ، أو يأتيك الشيخ الألباني ليوّهمهم ،ويستدرك عليهم طريقاً شاهداً – هو في الغالب مما سجره المتقدمون – يصحح به عرج الرواة ؟ ثم يقول لك بعدها : " كما هو مقرر عند أهل العلم " ، أو " كما هو مقرر في كتب المصطلح "! ، ومن أمثلة ذلك :
__________
(1) نظرات جديدة في علوم الحديث ص 47 .
(2) انظر مثلاً ص321و326و370 من هذا الكتاب .(1/25)
صحح الشيخ الألباني : في سلسلته الصحيحة 1/ 103 (565) : حديث أبي معاوية عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أحصوا هلال شعبان لرمضان ولا تخلطوا برمضان إلا أن يوافق ذلك صياما كان يصومه أحدكم وصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فإنها ليست تغمي عليكم العدة".
قلت : أخرجه الترمذي (687) ، وقال : "حديث أبي هريرة لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث أبي معاوية ،والصحيح ما روي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لا تقدموا شهر رمضان بيوم ولا يومين " ، وهكذا روي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث محمد بن عمرو الليثي .
وأخرجه الدارقطني 1/ 162واللفظ له ،والحاكم 1/578 وقال :"صحيح على شرط مسلم " ، والبيهقي 4/ 206 .
قلت :ثم أورد الألباني متابعا لأبي معاوية من طريق يحيى بن راشد المازني ، قال الألباني : " ضعيف يصلح للاعتبار والاستشهاد فثبت أن الحديث حسن " .
قلت – الباحث-: أورد هذه المتابعة أبو حاتم في العلل 1/ 245 (718) وقال : "ليس هذا بمحفوظ ".ورد الألباني تعليل أبي حاتم بقوله:"فكأنه لم يقع له من طريق أبي معاوية ، كما لم تقع للترمذي هذه الطريق ، وبالجمع بينهما ينجو الحديث من الشذوذ والمخالفة " !!.
قلت : إنما أعله الإمامان أبو حاتم والترمذي كونه غير محفوظ عندهما بهذا الإسناد ،لا لكون رجال الإسناد ضعفاء ، فالحديث هذا غير محفوظ ولو جاء باسناد كله ثقات .
أما عند المتأخرين : فقد صححه أبو عبد الله الحاكم ، وقال الألباني : "إنما هو حسن فقط .. " (1).
__________
(1) انظر مثلاً سلسلته الصحيحة برقم :( 535و 537 و 545 و548 و 565و589و599و610و724و727و733 و750و833و899).(1/26)
ونظرا لشيوع هذا المنهج عند الكثير من المحققين المعاصرين فقد اتهموا النقاد المتقدمين بالتعصب للمذهب ، ومن ذلك ما قاله محقق علل الترمذي الكبير اعتراضاً على تصحيح الإمام البخاري ، والترمذي وغيرهما لحديث" لا نكاح إلا بولي " (1) : "أخطأ الترمذي في تصحيح الحديث ....وقد حاول كثيرون تصحيح هذا الحديث ووصله وسلكوا في ذلك كله مسلك لحاجة في أنفسهم أساسها التعصب المذهبي ،والعياذ بالله "(2)، وقال أيضاً:"ما صحح هذا الحديث أحد إلا لهوى في نفسه والعياذ بالله " (3) . فتأمل !!
وإن تعجب ، فعجب قول أحدهم :" لو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا – في نظري – النتائج التي توصلت إليها لأني بحمد الله طبقت قواعد المحدثين بكل دقة ، ولم آل في ذلك جهدا " (4)!؟
ونتج عن هذا مناهج عجيبة غريبة في تصحيح الأحاديث ، أو تضعيفها عند بعض المتأخرين وكثير من المعاصرين ، فمن يتتبع – مثلاً- الشيخ الألباني في كيفية تصحيحه للأحاديث وتضعيفها يقف مذهولاً! فمنهجه منهج غريب فريد ،لم يسبق إليه ،وسأمثل بحديث واحد صححه في سلسلته الصحيحة ليتبين خطورة غياب منهج الأئمة المتقدمين في تصحيح الأحاديث وإعلالها:
فقال في حديث (551): " أفضل الساعات جوف الليل الآخر " :
__________
(1) أنظر تفصيل الحديث ص 181.
(2) علل الترمذي ، تحقيق الشيخ صبحي السامرائي وجماعة معه ص 156.
(3) علل الترمذي ص 157 .
(4) ذكره د. حمزة المليباري نظرات جديدة في علوم الحديث ص 48 .(1/27)
أخرجه أحمد 4/385 (1)عن محمد بن ذكوان عن شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة قال : "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر ؟ قال:حر وعبد ،قلت :ما الإسلام ؟قال:طيب الكلام وإطعام الطعام ،قلت: ما الإيمان؟ قال:الصبر والسماحة ، قال: قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال :خلق حسن، قال :قلت :أي الصلاة أفضل؟ قال :طول القنوت، قال: قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك عز وجل، قال: قلت:فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه، قال: قلت: أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الآخر ... " (2).
قلت – والقائل الألباني - : وهذا إسناد ضعيف: محمد بن ذكوان وهو الطاحي ،وشهر ضعيفان ، لكن الحديث ثبت غالبه من طرقٍ أخرى :
أولاً:الفقرة الأخيرة منه : أخرجها أحمد 4/187 (3)من طريق أبي بكر بن عبد الله عن حبيب بن عبيد عن عمرو بن عبسة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ،ورجاله ثقات غير أبي بكر وهو ابن أبي مريم فإنه سيئ الحفظ .
وأخرج هو(4) 5/111-113-114 ،وابن ماجه (1364)من طريق يزيد بن طلق عن عبد الرحمن البيلماني عن عمرو بن عبسة قال : " أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله من أسلم ؟ قال : حر وعبد قال : فقلت : وهل من ساعة أقرب إلى الله تعالى من أخرى ؟ قال : جوف الليل الآخر" (5)،وقال ابن ماجه :" الليل الأوسط " وهو شاذ.
__________
(1) جاء في المطبوع من السلسلة 5/ 385 وهو خطأ .
(2) انظر تفصيل الحديث في المسند الجامع 14/170(10783).
(3) جاء في المطبوع من السلسلة 5/187 وهو خطأ ،وانظر تفصيل الحديث في المسند الجامع 14/172(10785).
(4) أي الإمام أحمد .
(5) انظر تفصيل الحديث في المسند الجامع 14/167(10781).(1/28)
قلت : وابن البيلماني: ضعيف ، وابن طلق : مجهول ، لكن لهذه الفقرة طريق أخرى صحيحة عن عمرو بن عبسة تجد الكلام عليها في صحيح أبي داود (1198).
ثانياً : فقرة " أي الجهاد أفضل " فقد أخرج أحمد 4/114 من طريق أبي قلابة عن عمرو بن عبسة قال : قال رجل : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : أن يسلم قلبك لله عز وجل وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك . قال : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : الإيمان قال : وما الإيمان ؟ قال : تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت،قال: فأي الإيمان أفضل ؟ قال: الهجرة، قال: فما الهجرة ؟قال: أن تهجر السوء ، قال: فأي الهجرة أفضل ؟ قال: الجهاد، قال: وما الجهاد ؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم ، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة " (1).
قلت : ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين فهو صحيح إن كان أبو قلابة واسمه عبد الله بن زيد – سمعه من عمرو فإنه مدلس ،وعلى كل حال فهذه الفقرة ثابتة بمجموع الطريقين ،والله أعلم .
ثالثاً : فقرة " أي الهجرة أفضل " :قد جاءت في الطريق آنف الذكر فهي حسنة أيضاً.
رابعاً : فقرة أي الصلاة أفضل :هذه صحيحة لأن لها شواهد منها عند مسلم وغيره من حديث جابر :" أفضل الصلاة طول القنوت " .
خامساً : فقرة " الصبر والسماحة ": لها شاهد من حديث جابر وله عنه طريقان :
الأولى: عن الحسن عنه أنه قال : " قيل يا رسول الله أي الإيمان أفضل ؟ قال : الصبر والسماحة " أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (ق 184/2) ، ورجاله ثقات رجال الشيخين إلا أن الحسن وهو البصري مدلس ، ولم يصرح بالسماع .
__________
(1) انظر تفصيل الحديث في المسند الجامع 14/162(10778).(1/29)
الثانية : عن يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر ، أخرجه ابن أبي الدنيا في الصبر (43/2) ،وابن عدي في الكامل من طريق أبي يعلى .
قلت : ويوسف هذا ضعيف لكن الحديث قوي بمجموع طرقه الثلاث .
سادساً : فقرة (حر وعبد ): أخرجها مسلم في صحيحه 2/208-209 من طريق أخرى عن عمرو بن عبسة (1).أ هـ كلام الألباني .
قلت – الباحث - : هذا المنهج لم يسبق إليه الشيخ البتة،وهو منهج غريب جداً ، إذ قسم حديثاً واحداً إلى فقرات ، ثم أتى بشواهد من عدة أحاديث مختلفة أغلبها ضعيفة – كما قال هو - لكل فقرة من الفقرات ، فصحح الجميع !! . ولو أخذ المتقدمون بهذه الطريقة لما أعلوا حديثاً ، بل تصبح كتب العلل عديمة النفع ، وأنا أسأل مَن من المتقدمين صحح على هذه الطريقة ؟!. ومن هنا أصبحت عملية تصحيح الحديث وتضعيفه عملية سهلة ، فما عليك إلا أن تضع بين يديك تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني ثم تفتش عن حال رجال السند فإن كان رجاله كلهم ثقات فهو صحيح ، وإن كان فيه صدوق أو أكثر فهو حسن ، وإن كان فيه ضعيف فهو ضعيف ، وهلم جراً ..، فأصبح تصحيح الحديث وتضعيفه أمرا ميسوراً يقدر عليه كل واحد ، فظهرت مئات الأسماء كمحققين ومخرّجين ،ومصححين ومضعفين لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ممن لا يميزون بين كوعهم وبوعهم –كما يقال - ! ولا يعرفون أبجديات هذا العلم الشريف ،ثمّ يخطئون أئمة النقد وجهابذة العلل.
__________
(1) انظر تفصيل الحديث في المسند الجامع 14/164(10780).(1/30)
ومن ثم يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي – وهو من أبرز المعاصرين الذين فهموا منهجية المتقدمين في النقد -:" إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة، فإذالم يجدوا له علة قادحة مطلقاً حيث وقعت أعلّوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً ،ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر،فمن ذلك إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع هذا،مع أن الراوي غير مدلس ". – ثم أردف -: " ومن ذلك الإعلال بالحمل على الخطأ وإن لم يتبين وجهه ... .ومن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أُدخل على الشيخ ، كما ترى في لسان الميزان في ترجمة الفضل بن الحباب ، وغيرها ،وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك العلة مطلقا إنما بني على أنّ دخول الخلل من جهتها نادر ، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه فقد يحقق وجود الخلل ، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة فالظاهر أنها هي السبب ، وإن هذا من ذلك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها ،وبهذا يتبين أن ما وقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة ، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق ، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر ".
ثم ختم ذلك بنتيجة هي أنّ: "القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يذكر فيه خلاف ، ولا يحقق الحق فيه تحقيقا واضحاً ، وكثيراً ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيرا ، وإدراك الحق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل مع حسن الفهم وصلاح النية " (1).
__________
(1) مقدمة تحقيق الفوائد المجموعة للإمام الشوكاني ص8-9.(1/31)