مقالات ومقدمات
حول
منهج المتقدّمين والمتأخرين في الصناعة الحديثية
المقالات مرتبة على النحو التالي :
1 ـ الشيخ إبراهيم اللاحم 2 ـ الشيخ عبد الله السعد
3 ـ الشيخ عمر المقبل 4 ـ الشيخ تركي الغميز
5 ـ الشيخ حاتم الشريف 6ـ الشيخ حمزة المليباري
7ـ الشيخ ناصر الفهد 9ـ الشيخ عبد العزيز الطريفي
وغيرهم بإذن الله تعالى .
ملتقى أهل الحديث
www.baljurashi.com
مقالة الشيخ الدكتور
إبراهيم اللاحم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،وبعد :
فإن المتأمل في مسيرة نقد السنة النبوية منذ عصر الرواية إلى وقتنا الحاضر- لابد أن يلاحظ وجود اختلاف في الأحكام النهائية على بعض الأحاديث بين نقاد السنة في عصور الرواية –أي في القرون الثلاثة الأولى- وبين نقاد السنة بعد هذه العصور إلى وقتنا الحاضر ،ويلاحظ أيضاً أنه كلما تأخر الزمن بعدت الشقة ،واشتد بروز الاختلاف .
فيلاحظ كثرة ما صحح من أحاديث قد حكم عليها الأولون بالنكارة والضعف ،وربما صرحوا ببطلانها ،أو بكونها موضوعة ،وقد يقول المتقدم : هذا الباب –أي هذا الموضوع- لا يثبت ،أو لا يصح فيه حديث ،فيأتي المتأخر فيقول: بل صح فيه الحديث الفلاني،أو الأحاديث الفلانية .
وهكذا يقال في التصحيح،ربما يصحح المتقدم حديثاً فيأبى ذلك المتأخر ،وربما-في الحالين-توارد الأولون وتتابعت كلماتهم على شيء ،ومع ذلك لا يلتفت المتأخر إلى هذا الإجماع ،أو شبه الإجماع.(1/1)
وليس ما تقدم بالشيء اليسير ،بل هو موجود بكثرة بالغة أوجبت أن يثور في نفوس كثير من العلماء والباحثين السؤال التالي : هل هذا الاختلاف سببه اختلاف الاجتهاد في تطبيق قواعد متفق عليها بين الجميع ؟ فإذا قال أحمد –مثلاً- هذا الحديث منكر ،أو لا يصح ،وقال ابن جرير ،أو ابن حزم ،أو ابن القطان ،أو النووي ،أو السيوطي، أو أحد المشايخ المعاصرين : بل هو حديث صحيح ،أو في غاية الصحة- فسبب ذلك راجع إلى اختلاف اجتهاد الإمامين ،في تطبيق قواعد لا يختلفون عليها ،وإنما يقع الاختلاف في الاجتهاد في تطبيقها ،أو أن سبب الاختلاف هذا في جل الأحاديث التي وقع فيها الاختلاف مبني على اختلافهم في تقرير القواعد والضوابط التي على أساسها تصحح الأحاديث وتضعف ،فالأول يسير على قواعد ،ما لبث أن أغفلت عند المتأخرين، أو هذبت حتى لم يبق فيها روح ، وحل محلها قواعد جديدة .
من يجيب بالجواب الأول لا جديد عنده ، فالمسألة مسألة اجتهاد ، وليس هناك شيء يستحق المناقشة ، وباب الاجتهاد لا يصح إغلاقه ،وإن دعى إلى ذلك بعضهم ، بل قد يكون مع المتأخر-هكذا يقول- زيادة علم .
غير أن نفراً ليس بالقليل عددهم لم يرضوا بالجواب الأول ،ويقولون :بل الأمر راجع في حقيقته إلى اختلاف في القواعد ،إما عن عمد ،كما صرح به بعضهم ،فيقول: ذهب المحدثون إلى كذا ،والصواب خلافه ،وإما عن غير عمد ، بحيث يسير على قاعدة يظن أن المتقدم يسير عليها أيضاً .
ويضيف بعض هؤلاء فيقول: على أن جانباً من الموضوع لا يتعلق بالقواعد ،إذ هو يتعلق أساساً بشخص الناقد في الوقت الأول ،وشخص الناقد في الوقت المتأخر ، فالناقد في ذلك الوقت تهيأ له من العوامل النفسية ،والمادية ما يجعل أحكامه أقرب إلى الصواب .
والمهم هنا هو ما يتعلق بقضية القواعد التي خالف المتأخر فيها المتقدم ،إذ يبرز هؤلاء مجموعة قواعد يقولون إنها هي القواعد الأساس ،ويتفرع عنها قواعد أخرى ، وهذه القواعد هي :(1/2)
أولاً : تجزئة حال الراوي .
فالمتقدم قد يكون الراوي عند ثقة في جانب ،كبعض شيوخه ،أو روايته عن أهل بلد ،أو إذا حدث من كتابه ،ضعيف في جانب آخر ، فيضعف المتقدم ما يرويه في الجانب الذي هو ضعيف .
على حين يميل المتأخر إلى طرد حال الراوي ، إما نصاً فيأبى تجزئة حال الراوي ،وإما تطبيقاً ، كأن يضعف الأولون ما يرويه معمر بن راشد عن ثابت البناني ،ويقولون إنها نسخة فيها مناكير ،أو ما يرويه عبد العزيز الداروردي عن عبيد الله بن عمر ، بينما لا يلتفت المتأخر إلى ذلك ،فهذه كتبهم وتحقيقاتهم يصححون أمثال هذين الطريقين ،وربما ذكروا أنهما على شرط الشيخين أو أحدهما .
ثانياً : الأصل في الراوي أنه لم يسمع ممن روى عنه ، حتى يثبت ذلك بطريق راجح .
هكذا يقرر المتقدم ، على حين أن الأصل عند المتأخر أنه متى روى عنه وأمكنه أن يسمع منه فهو متصل ،وهو على السماع حتى يثبت خلاف ذلك .
رابعاً : إذا روى الحديث جماعة عن شيخ لهم ،وزاد بعضهم زيادة في إسناد الحديث ، كوصله أو رفعه ، أو في متن الحديث ، فإن المتقدم يسير على قاعدة : النظر في كل زيادة بحسبها .
فقد تقوم القرائن والأدلة على حفظها ،وقد تقوم على ضعفها ، في حين يسير المتأخر على قاعدة : زيادة الثقة مقبولة .
وطرد هذه القاعدة ،وتصحيح هذه الزيادات .
خامساً : تعدد الطرق من راو واحد قد يكون سببه اضطرابه أو اضطراب من يروي عنه .
ولهذا تدرس بعناية ، فقد يكون بعضها صواباً ،وبعضها خطأ ، وقد يتبين أن كثرة الطرق ترجع إلى طريق واحد ، وما يظن أنه شاهد ليس كذلك ، لأنه خطأ من بعض الرواة في تسمية الصحابي مثلاً ، بل قد يكون ما يظن أنه شاهد هو كاشف لعلة في الحديث الذي يراد الاستشهاد له ،على هذا يسير المتقدم ،ويخالفه المتأخر ،فيجوِّز كثيراً أن الطريقين محفوظان بل قد يذهب إلى عدد من الطرق والأوجه .
سادساً : كثرة الطرق قد لا تفيد الحديث شيئاً .(1/3)
هذه قاعدة أساسية عند المتقدم ، فبعد دراسته لها يتبين له أنها أخطأ ،أو مناكير ،وهذه عنده لا يشد بعضها بعضاً ،في حين أن المتأخر أضرب عن هذا صفحاً ،فمتى توافر عنده إسنادان أو ثلاثة ،أو وجد شاهداً رأى أنها اعتضدت ورفعت الحديث إلى درجت القبول .
سابعاً : المتن قد يكشف علة فنية في الإسناد ، أو يساعد على تأكيد علة ظاهرة .
هذه قاعدة مهمة يسير عليها الناقد في العصر الأول ، فالمتون يعرض بعضها على بعض ،وتتخذ وسيلة عند تصادمها على كشف علة في الإسناد خفية،أو ضمها إلى علة قائمة أصلاً في الإسناد فيزداد الحديث ضعفاً.
في حين يرفع المتأخر شعاراً ينادي فيه بدراسة الأسانيد بمعزل عن المتون،فالمتون يمكن التعامل معها بعد النظر في الإسناد،وليس قبل،ولهذا كثر عندهم التعرض للجمع بين الأحاديث،وربما التكلف في ذلك ،فتتردد عندهم عبارات:تعدد القصة،الحادثة مختلفة،هذا حديث وذاك حديث،هذا ناسخ للأول ......الخ .
هذه أبرز المعالم للمنهج الذي يسير عليه المتقدم ، ويخالفه فيها المتأخر ،وهناك غيرها أيضاً .
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المخالفات ليست مجموعة في كل شخص ممن تأخر ،فإن بين المتأخرين بعض الاختلاف في هذه القواعد أيضاً ، لكنها موجودة في مجموعهم ،وهي السبب الرئيس للاختلاف في تصحيح الأحاديث وتضعيفها . هكذا يقرره بعض طلبة العلم ،من المنتسيبين لهذا العلم الشريف .
ولا شك أن لكل جواب من الجوابين على السؤال المطروح أنصاره وأعوانه ،ويسرناً جداً المشاركة في هذا الموضوع المهم رغبة في الوصول إلى الحقيقة ما أمكن ،مع رجائنا بالتزام الأدب العلمي في الحوار والمناقشة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
مقالة الشيخ المحدّث
عبد الله بن عبد الرحمن السعد(1/4)
ومعرفة هذا المنهج ـ أعني منهج المتقدمين ـ في هذه المسألة وغيرها من قضايا الصناعة الحديثية أمر لا بد منه في باقي العلوم الشرعية(1)
__________
(1) مثل ما حصل في باب الاعتقاد من مخالفة الكثير لطريقة السلف في ( علم التوحيد ) وتكلموا في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وتركوا الكتاب والسنة فأدى هذا بهم إلى إنكار أسماء الله وصفاته وعلوه على خلقه فضلوا وأضلوا .
ومثل ما حصل أيضاً في أبواب الفقه من التعصب لأقوال العلماء والاقتصار عليها في التفقه دون التفقه على الكتاب والسنة والرجوع إليهما ، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى ( عجبت لمن عرف الإسناد وصحته يذهب إلى قول سفيان ) .
وقال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى ( ومن ذلك أ أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها وسواء خالفت السنن أو وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة ، لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها . وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء الرأي في الحجاز والعراق وبالغوا في ذمه وإنكاره .
فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم أو عند طائفة منهم ، فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به ... ) 1هـ ( من فضل علم السلف على الخلف ) .
ومن ذلك ما حصل في علم أصول الفقه من سلوك طريقة المتكلمين وإدخال علم الكلام المذموم في أصول الفقه .=
= قال أبو المظفر السمعاني في ( قواطع الأدلة ) 1/5ـ6 : ( وما زلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب ، وتصانيف غيرهم فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام ورائق من العبارة ، ولم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه ، ورأيت بعضهم قد أوغل وحلل وداخل غير أنه حاد من محجة الفقهاء في كثر من المسائل وسلك طريقة المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه ، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير ولا نفير ولا قطمير ( ومن تشبع بما لم يعط فقد لبس ثوبي زور ) ... ) اهـ .
وغير ذلك مما خالف فيه كثير من الناس طريقة السلف ، وما زال أهل بحد الله تعالى ينبهون على ذلك ويدعون إلى السير على منهج السلف الصالح .
ولا يظن أنني عندما أدعوا إلى السير على طريقة الأئمة المتقدمين في علم أصول الحديث أنني أدعوا إلى عدم الأخذ بكلام من تأخر من أهل العلم والاستفادة منهم ، هذا لم أقل به ولا يقول به عاقل ، ومع الأسف ظن بعض الإخوان هذا ، ثم عندما ظن هذا الظن السئ وتخيل بعقله هذا الرأي الفاسد أخذ يرد بسذاجة واضحة على هذا القول حتى إنه عندما أراد أن يؤيد رأيه ضرب مثلاً بأبي الفداء ابن كثير وأتى بمثال يبين فيه أن ابن كثير يستطيع أن ينقد الأخبار ويبين العلل التي تقدح في صحه الحديث .
فيا سبحان الله ! هل هذا الإمام الجليل ، والحافظ الكبير يحتاج إلأى أن تأتي بمثال حتى يشهد له بالعلم بالحديث ومؤلفاته كلها تشهد بعلو كعبه في هذا العلم وتمكنه من صناعة الحديث حتى كأن السنة بين عينيه ، حتى أن طالب العلم ليعجب من هذا العالم الجليل عندما يسوق الأخبار من كتب الحديث بأسانيدها ثم يؤلف بينها ويتشبه في هذا بمسلم ابن الحجاج وأبي عبد الرحمن النسائي هذا مع الكلام على أسانيدها ونقد متونها وهو رحمه الله تعالى من البارعين في نقد المتون ، حتى أنه عندما يتكلم في باب من أبواب العلم يغنيك عن الرجوع إلى كتب كثير كما فعل عندما ساق حجة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم منذ خروجه من المدينة إلأى مكة إلى رجوعه ، ويأخذك العجب من استحضاره وقوة علمه وجلالة فضله ، وهذا جزء يسير من كتابه النفيس ( البداية والنهاية ) الذي ذكر فيه بدء الخليفة إلى قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى زمنه يسزق النصوص من كتاب الله ومن السنة النبوية ومما جاء من الصحابة والتابعين وهلم جرا .
وتفسيره النفيس الذي أتى فيه بالعجب وفسر فيه القرآن بالقرآن ، وبالسنة والآثار التي جاءت عن الصحابة والتابعين . فمن أنكر علم هذا الفاضل إما أن يكون إنساناً غاية في البلادة أو ممن أعمى الله بصره وبصيرته ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ومما يستغرب من هؤلاء الإخوان أنهم قالوا : لا تقولوا ( مذهب المتقدمين ) وهذا عجيب لأنه :
أولاً : لا مشاحة في الاصطلاح .
ثانياً : أن أهل العلم استخدموا ذكل كما سيأتي إن شاء الله تعالى النقل عنهم .
ثالثاً : أن هذا الاسم مطابق للمسمى كما هو ظاهر .
رابعاً : أي فرق بين أن يقال ( مذهب المتقدمين ) أو ( أهل الحديث ) أو ( أئمة الحديث ) أو نحو ذلك .
خامساً : أن هذه الكلمة لا تخالف كتاباُ ولا سنة ولا إجماعاً ، وإنما هو الاصطلاح مثل باقي الاصطلاحات ، لا يدعو إلى مثل هذا الإنكار الذي جرى من هؤلاء الإخوان والعجيب أيضاً أن هؤلاء الإخوان أخذوا يدعون إلى مثل ما نقول به ، فقالوا : ينبغي دراسة مناهج المحدثين . وأي فرق بين الدعوة إلى دراسة ( مناهج المحدثين ) أو دراسة =
( منهج المتقدمين ) فالأول هو الثاني ولا فرق عندهم فليبينوه والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .(1/5)
.
لأن أهل العلم ليسوا على منهج واحد في الصناعة الحديثية ، بل على مناهج متعددة ، فعلى هذا لا بد من معرفة طريقتهم ثم السير عليها .
قال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى :
( وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دونه أئمة الحفاظ وقد هجر في هذا الزمان ودرس حفظه وفهمه ، فلولا التصانيف فيه ونقل كلام الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جداً ، وقد كان السلف الصالح مع سعة حفظهم وكثرة الحفظ في زمانهم يأمرون بالكتابة للحفظ ، فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها ولم يبق منها إلا ما كان منها مدوناً في الكتب لتشاغل أهل الزمان بمدارسة الآراء المتأخرة وحفظها ) اهـ من ( شرح العلل ) ص74 بتحقيق / السامرائي .
وقال أبو الفضل بن حجر رحمه الله تعالى مبيناً جلالة المتقدمين في هذا الفن وعلو كعبهم في
هذا العلم :
( وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم(1) في ذلك ، والتسليم لهم فيه ) اهـ من ( النكت ) 2/726 .
قال أبو الوفا بن عقيل مبيناً اختلاف الفقهاء والمحدثين في الحكم على الأحاديث بعد أن ذكر
حديثاً ضعفه أحمد بعد أن سئل عنه وهو حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( أن غيلان أسلم وعنده عشرة نسوة ) قال أحمد : ( ليس بصحيح والعمل عليه ، كان عبد الرزاق يقول : عن معمر عن الزهري مرسلاً )
__________
(1) الذي يظهر أن الحافظ ابن حجر لا يقصد التقليد الأعمى وإنما يقص المتابعة لهم والسير على منهاجهم .(1/6)
قال ابن عقيل : ( ومعنى قول أحمد ( ضعيف ) على طريقة أصحاب الحديث ، وقوله ( والعمل عليه ) كلام فقيه يعول عليه ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين لأنهم يضعفون بما لا يوجب ضعفاً عند الفقهاء ، كالإرسال والتدليس والتفرد بالرواية ، وهذا موجود في كتبهم ، يقولون : وهذا الحديث تفرد به فلان وحده ... ) اهـ من ( الواضح في أًول الفقه ) 5/21ـ22 .
قول ابن عقيل في تفسير كلام أحمد في قوله ( والعمل عليه ) : ( كلام فقيه يعول على ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين ... ) ليس بصحيح فالإمام أحمد ضعف هذا الحديث لأن معمراً حدث به بالبصرة فأخطأ فيه ووصله وعندما حدث به في اليمن أرسله كما رواه عند عبد الرزاق ، وحديث معمر باليمن أصح من حديثه بالبصرة ، وقد خالف الحفاظ من أصحاب الزهري معمرا في هذا الحديث ، ولذلك ذهب أكثر الحفاظ إلأى تضعيف حديث معمر كما قال أحمد ،فقال البخاري عنه ( هذا الحديث غير محفوظ ) وحكم مسلم في كتابه ( التمييز ) على معمر بالوهم فيه وقال : أبو زرعة وأبو حاتم : ( المرسل أصح ) . ينظر ( تلخيص الحبير ) 3/192 .
وأما قول أحمد ( والعمل عليه ) فلا شك في هذا لأن القرآن والإجماع يدلان على ذلك وليس كما قال ابن عقيل أن أحمد يأخذ بقول الفقهاء في تصحيح هذا الحديث . فميز بن عقيل بين طريقة المحدثين والفقهاء .
وقال شيخه القاضي أبو يعلى في ( إبطال التأويلات ) 1/140 تعليقاً على كلام أحمد في حكمه على حديث عبد الرحم بن عايش بالاضطراب ، قال : ( فظاهر هذا الكلام من أحمد التوقف في طريقه لأجل الاختلاف فيه ، ولكن ليس هذا الكلام مما يوجب تضعيف الحديث على طريقة الفقهاء ) اهـ .(1/7)
والشاهد من هذا اختلاف مناهج أهل العلم في الصناعة الحديثية ، وأنهم ليسوا على منهج واحد كما يقول بعض الإخوان وأن في هذا تفريقاً للأمة ، وأنه ليس هناك من له منهج خاص في الصناعة الحديثية إلا محيي الدين النووي ، فهذا القول لا شك في بطلانه وحكايته في الحقيقة تغني عن رده .
وقال تقي الدين بن دقيق العيد في كتابه ( الاقتراح ) ص152 في بيان مذاهب أهل العلم واختلام مناهجهم في حد الحديث الصحيح ، قال : ( اللفظ الأول ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصولين على عدالة الراوي العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً ، وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا ولا معللا ، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث الصحيح بأنه الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا ، ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره لكان حسناً لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف ومن شرط الحد : أن يكون جامعاً مانعاً ) اهـ .
قلت : وقول ابن دقيق هذا يدل على اختلاف أهل العلم في حد الحديث الصحيح وتباين طرائقهم في ذلك كما تقدم .
وقوله : ما اشترطه أ÷ل الحديث في حد الحديث الصحيح : أن لا يكون شاذا ولا معللا ، وأن في هذين الشرطين نظر عند الفقهاء تقدم هذا فيما قاله القاضي أو يعلى وابن عقيل من تضعيف الإمام أحمد للحديثين السابقين : أن هذا لا يجري على طريقة الفقهاء .
ولذلك قال أبو عبد الله بن القيم في ( زاد المعاد ) 5/96ـ 97 :(1/8)
وليس رواية هذا الحديث مرسلة(1) بعلة فيه ، فإنه قد روي مسندا ومرسلا ، فإن قلنا بفول الفقهاء : إن الاتصال زيادة ومن وصله مقدم على من أرسله فظاهر ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله ، وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين فهذا مرسل قوي … ) اهـ .
وقال ابن رجب ناقدا الخطيب البغدادي في بعض منهجه في كتابه ( الكفاية ) في مبحث ( زيادة الثقة ) وأنه لم يسلك منهج من تقدم من الحفاظ وإنما سلك منهج المتكلمين وغيرهم ، فقال ص312 من ( شرح العلل ) : ( ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب ( الكفاية ) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتاب ( تممييز المزيد ) ... ) اهـ .
وقال برهان الدين البقاعي في ( النكت الوفية على الألفية ) ص99مبيناً طريقة كبار الحفاظ في تعارض الوصل والإرسال في الحديث والرفع والوقف وزيادة الثقات وناقدا لابن الصلاح الذي خلط في هذه المسألة طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين فقال :
( إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين ، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرا آخر لم يحكه وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه وذلك أنهم لا يحكمون بحكم مطرد وإنما يدورون في ذلك مع القرآئن ... )(2) اهـ .
قلت : وقد سلك كثير من المشتغلين بعلم الحديث طريقة الفقهاء والمتكلمين من الأصوليين واختلط الأمر عليهم ، زلذك كثرت مخالفتهم لكبار الحفاظ في أحكامهم على الأحاديث فصححوا ما أعله كبار الحفاظ وضعفوا ما صححه كبار الحفاظ .
__________
(1) كذا
(2) بعض الكلمات كانت غير واضحة ـ بالنسبة لي ـ في المخطوط فنقلتها من ( توضيح الأفكار ) .(1/9)
قال عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى في مقدمته لكتاب ( الفوائد المجموعة ) للشوكاني مبينا تساهل كثير من المتأخرين في حكمهم على الأحاديث :
( إنني عندما أقرن نظري بنظر المتأخرين أجدني أرى كثيراً منهم متساهلين وقد يدل على أن عندي تشددا قد لا أوافق عليه غير أني مع هذا كله رأيت أبدي ما هر لي ناصحاً لمن وقف عليه من أهل العلم أن يحقق النظر ولا سيما من ظفر بما لم أظفر به من الكتب التي مرت الإشارة إليها ) اهـ من المقدمة لكتاب ( الفوائد المجموعة ) ص8 .
وقال أيضاً في ( الأنوار الكاشفة ) ص29 : ( وتحسين المتأخرين فيه نظر ) اهـ .
ولذلك تجد أن بعض أهل العلم بالحديث ينبهون على طريقة من تقدم من الحفاظ في القضايا الحديثية الي يعالجونها .
قال أبو عبد الله بن القيم في ( الفروسية ) ص62 مبيناً الطريقة السليمة والمنهج الصحيح الذي كان يسلكه أئمة الحديث في الحكم على الراوي ورداً على من خالف هذا المنهج فقال :
( النوع الثاني من الغلط : أن يرى الرجل قد تكلم في بعض حديثه وضعف في شيخ أو في حديث فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجد ، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم ) اهـ .
وقال أبو الفرج بن رجب في بيان منهج أئمة الحديث في قضية التفرد في الحديث والتفرد في بعض الألفاظ في الحديث :
( وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في هذا الحديث إذا تفرد به واحد وأن لم يرو الثقات خلافه أنه(1) لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه ) اهـ من ( شرح العلل ) .
__________
(1) في المطبوع : أن(1/10)
وقال أيضاً ص272 من ( شرح العلل ) في اشتراط اللقاء حتى يحكم للخبر بالاتصال : ( وأما جممهور المتقدمين فعلى ما قاله علي بن المديني والبخاري وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله ... ) اهـ .
وقال أيضاً ص311 من ( شرح العلل ) في مسالة الاختلاف في وصل الأخبار أو أرسالها أو تعارض الوقف مع الرفع : ( وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً ... ) اهـ .
والكلام في هذا يطول .
وعلى هذا فيستحسن بيان ( منهج المتقدمين ) أو ( أئمة الحديث ) في قضايا علم الحديث التي وقع فيها الخلاف مثل العلة والشذوذ والتفرد وزيادة الثقات وغيرها من القضايا ، وقد بين بحمد الله تعالى أهل العلم هذه القضايا فدونك مثلاً ( شرح العلل ) لابن رجب ، و ( النكت على ابن الصلاح ) لابن حجر وغيرها .
مقالة الشيخ المحدّث
عمر المقبل
اختلاف الحكم على الحديث، بين المتقدمين والمتأخرين
س/ أحياناً نجد بعض الأحاديث التي حكم عليها علماء الحديث قديماً بالضعف كابن حبان، وأبي حاتم، وابن خزيمة وغيرهم . وهذه الأحاديث حكم عليها علماء حديث معاصرون بالتصحيح أو العكس . فلمن يكون الترجيح ؟
فهناك من يقول نأخذ قول العلماء الأوائل؛ لأنهم أقرب عهداً برواة الحديث، وبالسلف الصالح . وهناك من يقول إن الترجيح للمعاصرين؛ لأنهم أوتوا من سبل البحث والتحقيق ما لم يؤتَ أولئك . نرجو التوضيح .
الجواب :
الحمد لله ، وبعد : فهذا السؤال يتصل بقضية كثر الكلام فيها في الآونة الأخيرة ، ولعلي أجمل الجواب في ست نقاط :
الأولى : لا ريب أن الأصل هو التعويل والرجوع إلى الأئمة المتقدمين ، وهذا ليس خاصاً بعلم الحديث بل في كل علم من علوم الشريعة .(1/11)
الثانية : من حيث العموم فأئمة الحديث المتقدمون أعلم من المتأخرين ، وأدقّ نظراً ، وأقرب عهداً بعصور الرواية والتدوين -كما ذكر السائل- فقد شاهدوا جمعاً غفيراً من حملة الآثار ورواة الأسانيد ، ووقفوا على كتبهم وأصولهم التي يروون منها ، فتحصّل عندهم ، وتهيأ لهم من ملكة النقد ، والقدرة على التمحيص ما لم يتهيأ لغيرهم ممن أتى بعدهم ، خاصة في أدق وأجل علوم الحديث ، وهو علم (العلل ) الذي برز فيه جمع من الأئمة الكبار كابن المديني ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، والدارقطني ، وغيرهم .
الثالثة : إذا تقرر أن الأئمة المتقدمين لهم من المزايا والخصائص ما ليس لغيرهم ممن أتى بعدهم ، فإنه يجب التسليم لقولهم إذا اتفقوا ولم ينقل عنهم اختلاف ، ولو خالفهم بعض المتأخرين ، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله : (( فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك ، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه)) (انظر : النكت 2/711) وللعلائي ، وابن كثير ، والسخاوي رحمهم الله كلام يدور حول هذا المعنى ، فينظر : اختصار علوم الحديث: 79 ، وفتح المغيث 1/237 .
الرابعة : هذا الذي سبق فيما إذا اتفق المتقدمون على الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف ، فأما إذا اختلفوا ، فإن كان الشخص قادراً على المقارنة والترجيح أخذ بما تطمئن إليه نفسه ، وإن كان لا يقدر فيقلد من يرى أنه أعلم بهذا الشأن ، كما بيّن ذلك غير واحد من الحفاظ المتأخرين كالعلائي رحمه الله . (ينظر : فتح المغيث 1/237) .(1/12)
الخامسة : أن قول بعض الناس إن سبب ترجيح قول المعاصرين لكونهم أوتوا من سبل البحث والتحقيق ما لم يكن للأوائل ، فالحقيقة أن هذا الكلام لا يصدر ممن له أدنى اطلاع ومعرفة بأقدار الأئمة، وما آتاهم الله عز وجل من سعة الاطلاع العجيب ، والفهم الدقيق ، والنظر العميق في الأحاديث ، وطرقها وعللها ، ومعرفة أحوال رواتها على وجه الدقة . ...
ويكفي أن يعلم السائل الكريم أن المتأخرين لم يظفروا بكثير من الطرق التي كانت معروفة عند الأئمة المتقدمين .
ثم أين يقع علم المعاصرين الذين علم أكثرهم في كتبه، مع علم الأئمة المتقدمين الذين أكثر علمهم محفوظ في صدورهم ، يأتون به متى شاؤوا ؟! ولا ريب أن هذا كلّه لا يعني انتقاص أقدار العلماء المتأخرين - ومنهم المعاصرون - حاشا وكلا، بل لهم فضل وأثر كبير في نفع الأمة، وخدمة السنة، فكم نفع الله بكتبهم وتحريراتهم ! وإنما المقصود بيان منازل أولئك الأئمة ومعرفة أقدارهم على وجه الإيجاز الشديد -رحم الله الجميع – .
السادسة : أن السائل - بارك الله فيه - قرن في سؤاله بين ثلاثة من الأئمة وهم : أبو حاتم الرازي ، وابن خزيمة ، وابن حبان . ومع الاتفاق على جلالة هؤلاء الأئمة إلاّ أن أهل العلم بالحديث يقدمون أبا حاتم على ابن خزيمة ، كما يقدمون ابن خزيمة على تلميذه ابن حبان رحم الله الجميع.
فأبو حاتم له طريقة متميزة في النقد على مشرب الأئمة الكبار : أحمد ، والبخاري ، وأبي داود ، والنسائي ، وغيرهم . وابن خزيمة مع موافقته في كثير من الأحيان لمشرب الأئمة، إلاّ أنه أحياناً - مع تلميذه ابن حبان - لهما طريقة في النقد لا يوافقهما عليها الأئمة الكبار، ومن سار على طريقتهم.
ومقصودي من هذا التنبيه : أن تُعلم أقدار الأئمة ، وأن الله تعالى فضّل بعضهم على بعض في العلم والفهم ، فينبغي أن يلاحظ هذا ويعتبر عند النظر في كلامهم ، والله أعلم .
مقال الشيخ الدكتور
تركي الغميز(1/13)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإن علم السنة علم جليل الخطر، عظيم الأثر، وقد نهض بخدمته علماء أجلاء، ورجال فضلاء من أفذاذ هذه الأمة المحمدية المرحومة، كانت لهم بمعرفته يد طولى، حيث ذبو الكذب عن حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونفوا الخطاء والغلط، وبينوا الصحيح من السقيم ، وعانوا في سبيل ذلك ما عانوا من نصب وعناء ، وأجرهم على الله تعالى ، ولقد كان لهم في معرفة ذلك وتمييزه قواعد عظيمة ، ومسالك دقيقة ، مبنية على سعة الحفظ وقوة الاطلاع ، والمعرفة الدقيقة بأحوال الرواة والمرويات .
ولقد كان أئمة الحديث في عصور الازدهار من أمثال شعبة بن الحجاج ، ويحي القطان ، وابن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابن المديني ، والبخاري ،ومسلم ،وأبي داود ،و الترمذي ، والنسائي ، وأبي زرعة ،وأبي حاتم وغيرهم – على نهج واحد وطريق متحد في عمومه مبني على النظر الدقيق،والتفتيش العميق في أحوال الرواة والمقارنة بين المرويات لتمييز الخطأ من الصواب .
وكان هذا المنهج واضحاً لهم تمام الوضوح كما هو واضح لمن اطلع على كلامهم وتأمل في أحكامهم ، وكتبهم بين أيدينا ، وهي شاهدة وناطقة بذلك ، وهذا لا يعني رفع الاختلاف بينهم ، بل الاختلاف واقع ، ولكن مع اتحاد الأصول العامة التي يسيرون عليها، وإنما ينتج الاختلاف في التطبيقات الجزئية لاختلاف النظر وتفاوت العلم بينهم في ذلك . فقد يطلع أحدهم على ما لم يطلع عليه الآخر ، وقد ينقدح في ذهن أحدهم مالم ينقدح في ذهن الآخر ، وقد يشدد أحدهم ويتسمح الآخر ، إلا أن ذلك لا يخرج عن الأصل العام الذي يسيرون عليه .(1/14)
ثم ضعف علم السنة بعد ذلك ، وتكلم فيه من لم يتقنه ، وكثر ذلك ، حتى ظهرت قواعد جديدة ، وآراء غريبة في تمييز الصحيح من السقيم ، وقد قام بتطبيق هذه القواعد جملة من الفقهاء والأصوليين وغيرهم ، ثم تبناها بعض متأخري المحدثين ، وجعلوها قواعد في علم السنة امتلأت بها كتب المصطلح.ولازال كثير ممن عنى بخدمة السنة يطبق هذه القواعد المتأخرة في التمييز بين الصحيح و السقيم إلى هذا العصر ، ومن هنا انقسم الكلام في هذا العلم إلى قسمين وانتسبت إلى مدرستين ، وصار على منهجين :
الأول : منهج المتقدمين من أئمة الحديث ، كمن سبق ذكرهم ومن أهم ما يتميز به هذا المنهج ما يلي :
1 ـ القاعدة عندهم في النظر عند الاختلاف بين الرواة -كاختلاف في وصل وإرسال أو رفع ووقف أو زيادة ونقص ونحو ذلك - مبنية على التأمل الدقيق في أحوال الرواة المختلفين والتأمل التام في المتن المروي ، فلا يحكمون للواصل مطلقاً سواء كان ثقة أو غير ثقة ، ولا يحكمون للمرسل – أيضاً – مطلقاً ، وكذا الزائد والناقص الخ .. وإنما يتأملون في ذلك فإن دلت القرائن على صواب المُرسِل حكموا به ، وإن دلت على صواب الواصل حكموا به ، وهكذا بقية الاختلاف ، وهذا أمر ليس بالهين ، بل يستدعي بحثاً دقيقاً ، ونظراً متكاملاً ، وتأملاً قوياً ، في الموازنة بين ذلك ، وإنما ساعدهم على هذا سعة حفظهم وقوة فهمهم وقربهم من عصر الرواية .
ولأجل هذا الأمر فإنهم لا يحكمون على إسنادٍ بمفرده إلا بعد أن يتبين أن هذا الإسناد سالم من العلل ، كما قال ابن المديني "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه" .(1/15)
2 ـ ومن أهم ما تميز به عمل الأئمة المتقدمين التفتيش في حديث الراوي ، وتمييز القوي منه وغير القوي ، وذلك أن الراوي قد يكون ثقة ، إلا أن في حديثه شيئاً في بعض الأحوال ، أو الأوقات ، أو عن بعض الشيوخ ، أو نحو ذلك ، فهم يهتمون بتمييز ذلك والتنبيه عليه ، وبناءً عليه فقد يكون الحديث خطاءً وإن كان راويه ثقة ، ولأجل هذا فإنهم قد جعلوا أصحاب الرواة المشاهير على طبقات متفاوتة بعضهم أتقن من بعض وهكذا .
3 ـ ومن القضايا المهمة في هذا أن الأئمة المتقدمين كانت لهم عناية خاصة بنقد المتون ، والتنبيه على ما وقع فيها من خطأ ووهم ، وهذا كثير في كلامهم .
فهذه جملة من القضايا والميزات المهمة التي تميز بها عمل الأئمة المتقدمين في نقد السنة وتمييز صحيحها من سقيمها ، وليس القصد من ذلك الحصر ، فإن هناك قضايا أخرى متعلقة بإثبات السماع وعدمه والاتصال والانقطاع ، وأخرى في التدليس وغير ذلك .
المنهج الثاني : منهج المتأخرين أو منهج الفقهاء والأصوليين ومن تبعهم من متأخري المحدثين وقد تميز هذا المنهج بميزات أيضاً ، ومن أهمها ما يلي :
1 ـ أهم ما يتميز به هذا المنهج أنهم قعدوا قواعد نظرية ثم طردوها ، مع أنهم قد يختلفون في بعض هذه القواعد ، فمن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة مطلقاً ، دون تحرٍ في ذلك هل أصاب الثقة في هذه الزيادة أو أخطأ ، فإذا اختلف في وصل حديث وإرساله أو وقفه ورفعه ، وكان الواصل أو الرافع ثقة فقوله هو الصواب ، ومنهم من يقول المرسل هو المصيب لأن هو المتيقن ، فهذه قاعدة أخرى مقابلة للقاعدة السابقة ، وكل هذا مجانب المنهج أئمة الحديث ،ولهذا ذكر ابن رجب أن هذه الأقوال كلها لا تعرف عن أئمة الحديث المتقدمين . ويترتب على قاعدتهم في زيادة الثقة فروع كثيرة ليس المقصود حصرها .(1/16)
2 ـ وتبعاً للقاعدة السابقة في زيادة الثقة – أيضاً – فقد برز بوضوح في عمل المتأخرين الحكم على الأسانيد مفردة دون النظر في بقية طرق الحديث التي قد تظهر علة قادحة في هذا الإسناد المفرد ، وفي هذا المنهج هدم لجزء كبير مما اشتملت عليه كتب العلل، ولهذا قل اهتمامهم بهذه الكتب ، حتى لا تكاد تذكر إلا قليلاً مع أهميتها البالغة وجلالة مؤلفيها.
3 ـ ومما يميز منهج المتأخرين أنهم لا يعتنون كثيراً بالتفريق بين أحاديث الراوي ، لأنهم لما حكموا بأنه ثقة ألزموا أنفسهم بقبول كل ما روى، ولهذا ظهر في العصور المتأخرة الحرص على إبداء كلمة مختصرة في الحكم على الراوي لتكون عامة في جميع رواياته .
4 ـ ومن الأمور الظاهرة في منهج المتأخرين المبالغة الظاهرة في تقوية النصوص المعلولة بعضها ببعض ، وقد أسرف بعض المعاصرين في هذا جداً، وحتى قُوِّيَّ الخطأ بالخطأ فصار صواباً ،ولا شك أن تقوية النصوص بعضها ببعض أمر وارد عند أئمة الحديث المتقدمين ولكن ذلك على نطاق معين ،وله شروط وضوابط ، ولم يراعها كثير من المتأخرين.
وبناءاً على الاختلاف في المنهج بين المتقدمين والمتأخرين من خلال النقاط السابقة وغيرها مما لم أذكره ، ظهر اختلاف شديد وتباين واضح في الحكم على الأحاديث ، فوجدنا مئات الأحاديث التي نص الأئمة المتقدمون على ضعفها أو أنها خطأ ووهم ،قد صححها بعض المتأخرون ، وصار الأمر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من أن بعض المتأخرين عمدوا إلى أحاديث هي خطأ عند بعض الأئمة المتقدمين فصححها هؤلاء المتأخرون ثم عارضوا بها النصوص الثابتة فاحتاجوا إلى الجمع بينها فجاءوا بأوجهٍ مستنكرة في الجمع بين هذه النصوص. وما ذكره أمر واقع لا شك فيه ، بل اضطر بعض المتأخرين إلى تبني أقوال مهجورة وآراء شاذة في بعض المسائل تبعاً لتصحيحه لبعض النصوص الساقطة والأوهام والأخطاء .(1/17)
والنتائج المترتبة على الاختلاف بين المنهجين عظيمة جداً ، وتمثل خطراً جسيماً على علم السنة إذ يُنسَب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه ،بل ما يعلم أنه أخطئ عليه فيه، وهذه نتيجة طبيعية للفروق الكبيرة بين المنهجين.
مقال الشيخ الدكتور
حاتم بن عارف الشريف
قال في أحد أجوبته في لقائة مع [ مُلتقى أهل الحديث ]
سؤاله الأول : عن التفريق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين في التصحيح والتضعيف ، وهل هذا التفريق سائغ ؟
ويطلب البيان الشافي في ذلك 0
أما البيان الشافي فهو حري بمصنف كامل ، وهو ما قمت به بفضل الله ومنته ، من نحو ثلاث سنوات 0 وإنما أخرت طباعته ونشره استكمالا لبعض الجوانب غير الأساسية المتعلقة بالموضوع ، فعسى أن ييسر الله تعالى نشره قريبا (بإذنه عز وجل) 0
لكني سوف أذكر بعض الأمور التي تجلى وجه الحق في هذه المسألة :
أولاً : لايتردد أحد ممن له علاقة بعلم الحديث أن أئمة النقد في القرن الثالث والرابع ، من أمثال ابن معين وابن المديني وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وأبي حاتم وأبي زرعة وابن خزيمة والعقيلي وابن أبي حاتم وابن عدي وابن حبان والدارقطني وأمثالهم = أنهم أعلم( بمراتب كثيرة ) من المتأخرين من أمثال الذهبي وابن حجر والسخاوي والسيوطي فمن جاء بعدهم إلى المعاصرين 0
ثانياً : لايشك أحد ممن له علاقة بعلم الحديث وبعلمائه وتراجمهم وأخبارهم أن أئمة الحديث ممن سبق ذكر أعيانهم أسلم الناس قلبا ( وفكرا) من العلوم الدخيلة على العلوم الإسلامية التي أثرت فيها تأثيرا سيئا ، كعلم المنطق ووليده علم الكلام ، وأنهم في هذا الأمر ليسوا كعامة المتأخرين ممن تأثروا بتلك العلوم : بطريق مباشر أو غير مباشر ( كما بينت ذلك في المنهج المقترح) 0(1/18)
ثالثاً : لايخفى على أحد أن علم الحديث كان خلال القرون الأولى حيا بين أهله ؛ لأنهم هم الذين سايروا مراحل نموه وتطوره ، وواجهوا الأخطار التي أحدقت به بما يدفعها ، وهم الذين وضعوا قواعده وأتموا بناءه ، حتى اكتمل 0 وأنه بعد ذلك ابتدأ في التناقص ، حتى وصل الى درجة الغربة ( كما صرح بذلك ابن الصلاح ت 643ه) 0ولذلك غمضت على المتأخرين كثير من معالمه ، وخفيت عليهم معاني بعض مصطلحاته ، وصاروا يصرحون في مواطن كثيرة ( بلسان الحال والمقال) أنهم مفتقرون الى الإستقراء والدراسة لأقوال المتقدمين ومناهجهم لاستيضاح معالم علم الحديث ومعاني مصطلحاته التي كانت حية واضحة المعالم عند المتقدمين ( كما سبق) 0
ولذلك كنت قد وصفت المتقدمين في كتابي ( المنهج المقترح) ب ( أهل الإصطلاح )، ووصفت المتأخرين بأنهم ( ليسوا من أهل الإصطلاح) ؛ لأنهم ( أعني المتأخرين) مترجمون لمعاني مصطلحات المتقدمين ،
ومستنبطون لمعالم علمهم : أصولا وفروعا ، وليس لهم دور آخر سوى ذلك ، إلا أن يحفظوا لنا الأوعية التي تركها المتقدمون ( وهي الكتب)0
وبذلك يظهر لنا الفرق الكبير بين الفريقين ، إنه كالفرق بين : من كان من أهل الإحتجاج بلغته من العرب ( فهم أهل اللغة)، ومن جاء بعد انقراض هؤلاء ممن صنف كتب اللغة 0 بل من جاء بعدهم بزمن ، بعد أن أفسد علم المنطق من علوم اللغة ما أفسده في العلوم الأخرى ، وبعد أن ضعف العلم باللغة كما ضعفت العلوم الأخرى!!!
وإذا كان الأمر بالنسبة للمتقدمين والمتأخرين على ما سبق شرحه ، فهل يشك أحد أن هناك فرقا بين المتقدمين والمتأخرين ؟!!!
وإني لأسأل : إذا تكلم في علم من العلوم رجلان ، أحدهما : أعلم به ، بل هو من مبدعيه وواضعيه 0 وثانيهما : أقل علما به بمراتب ، بل قصارى شأنه أن يفهم كلام الأول ويستوضح منهجه = أيهما سيكون أولى بمعرفة الحق في مسائله ؟ ومن منهما سيكون قوله أصوب وأسد 0(1/19)
وبصراحة أكثر : إذا صحح أحد المتأخرين حديثا ، لن يؤثر على تسديد حكمه أنه :
1 ـ أقل علما من المتقدمين .
2 ـ وأنه قد تأثر فكره وعقله بمناهج غريبة عن علم الحديث .
3 ـ وأنه ما زال مفتقرا لفهم واستيضاح بعض معالم علم الحديث 00؟!!
وإذا قرر أحد المتأخرين قاعدة من قواعد نقد الحديث في القبول والرد ، أو أصل أصلا في إنزال الرواة منازلهم جرحا أو تعديلا ، ثم وجدنا أن تلك القاعدة أو ذلك الأصل يخالف ولا يطابق التقعيد الواضح أو المنهج اللائح من أقوال أو تصرفات الأئمة المتقدمين = فمن سيتردد أن المرجع هم أهل الاصطلاح وبناة العلم ( وهم المتقدمون )؟!!! إني – بحق – لا أعرف أحدا يخالف في ذلك ؛ لأني لا أتصور طالب علم يخفى عليه مأخذه !
أما قول من يقول : إن المتأخرين من علماء الحديث ( كالذهبي والعراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي) أعرف الناس بمنهج المتقدمين في قواعد الحديث , وأنهم نصروا مذهبهم = فإني أقول له :
أولاً : فإذا اختلف المتأخرون ( وما أكثر ما اختلفوا فيه : من تعريف الحديث الصحيح 000إلى المدبج ومعناه) = فمن هو الحكم ؟ وإلى ماذا المرجع ؟ أو ليس هو تطبيقات المتقدمين وأحكامهم وأقوالهم ؟
أم أن هذا القائل لتلك المقالة يريد منا أن نقفل باب الاستقراء والدراسة لأقول الأئمة المتقدمين ؟!!!
ما أشبه الليلة بالبارحة ! كنا – معشر أتباع الدليل – نذكر الأدلة لمقلدة المذاهب ، ونعجب بل نستنكر قول المقلدين المتعصبين : إن إمامنا أعرف بهذه الأدلة منكم ، وكل من خالف قول إمامنا إما مؤول أو منسوخ !! ثم أرى بعض أتباع الدليل يرجعون إلى مثل هذا القول !!!(1/20)
فإن كان ذلك القائل لايريد منا إقفال باب الاستقراء والدراسة لأقوال الأئمة المتقدمين ، بل هو مؤيد لهذا المنهج = فما الذي يستنكره على دعاة هذا المنهج ؟! وأخشى ما أخشاه أنه بذلك يؤصل ( من حيث يشعر أو لم يشعر) منهج التقليد الأعمى ، وينسف أصل السلفية العظيم ، وهو الرجوع الى الدليل الصحيح ،وهذا ما نراه في بحوث ودراسات كثير من المعاصرين من المخالفين لنا في منهج دراسة علوم الحديث 0 فأصبحنا ضحكة لأهل البدع : نجتهد في الفروع الفقهية ، ونقلد في علوم الحديث !! ونرضى أن نعد أخطاء العلماء العقدية ، ونستشنع أن يخطأ أحد منهم في تفسير مصطلح من المصطلحات!!!
فإنا لله وإنا اليه راجعون 0
ثانياً : أضف الى ذلك كله في الرد على تلك المقالة : أن المتأخرين الذين تصدوا إلى علم الحديث تأليفا وبيانا لقواعده وشرحا لمصطلحاته قد أخطئوا في بعض ما قرروه، وهذا يعترف به المخالف قبل المؤالف0
وبجمع بعض تلك الأخطاء بعضها الى بعض ، وبعد دراستها لمعرفة سبب وقوع ذلك العالم فيها 0 ولمعرفة ما اذا كانت مجرد خطأ جزئي أم أنها خطأ منهجي = تبين أن بعض تلك الأخطاء سببها خطأ منهجي، أي في طريقة دراسة ذلك العالم لتلك المسائل ومنهجه في تناولها 0 وهذا ما أثبته بوضوح كامل في كتابي ( المنهج المقترح) ، وبينت دواعيه التاريخية والعلمية والعقدية والفكرية ، واستدللت له بأدلة واقعية من أخطاء بعض العلماء 0
وذلك الخطأ المنهجي في دراسة المصطلح لدى المتأخرين لم يتناول كل دراستهم ، ولذلك أصابوا في كثير من مباحث علم الحديث ، لما طبقوا المنهج الصواب ، الذي لاندعوا – اليوم – إلا اليه 0(1/21)
لكن ظهور ذلك المنهج الخطأ لدى بعض العلماء المتأخرين كان أثره واتساع دائرة تطبيقه تدريجيا ، إلى العصر الحديث 0 فكان ( المنهج المقترح ) أول كتاب يبين بجلاء أن خطا المتأخرين في علوم الحديث ىليس دائما خطأ جزئيا كغيره من الأخطاء التي يمكن استدراكها بسهولة ، ولا يكون له خطورة على العلم ذاته0 بل إن بعض تلك الأخطاء نتجت عن خطأ منهجي خطير ، قائم ( في وجهه اللسافر ) على مشاحة أهل الاصطلاح اصطلاحهم ، وعلى مناقضة أصحاب التقعيد تقعيدهم !! وكان ( المنهج المقترح) بعد ذلك أول كتاب أيضا يبين معالم المنهج الصحيح لفهم المصطلح ، بوضع خطوات واضحة له0
وفي الختام :
فإني أنصح كل من فاته أجر وشرف السبق إلى إحياء منهج المتقدمين ، أن يبادر إلى مسايرة ركب هذا المنهج ، الذي يزداد أتباعه يوما بعد يوم ( بحمد الله تعالى) 0 ولا تقعدن بك ( أخي) حظوظ النفس ( من الحسد والكبر) عن فضيلة الرجوع الى الحق، فهذا لن يزيدك إلا كمدا وغما وإثما بزيادة ظهور الحق وأهله ؛ فإن الحق يغلب ولا يغلب ، وإن بدت للباطل دولة ، فغلبة البرهان لاتكون إلا للحق في كل زمان 0
مقالة الشيخ الدكتور
حمزة بن عبد الله المليباري
مقدمة
من هم المتقدمين ومن هم المتأخرين من المحدثين ؟
وما حاجتنا إلى معرفة ذلك في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ؟
وهل يصح أن نضفي على المناهج والمفاهيم المتفق عليها لدى المتأخرين شرعية مطلقة لتفسير نصوص المتقدمين وتأويل مصطلحاتهم في مجال التصحيح والتضعيف ، أو في مجال الجرح والتعديل ؟
وما مصداقية ذلك التفسير إذا لم تعتبر فيه الخلفية العلمية لتلك المصطلحات ، وأساليب أصحابها في استعمالها ؟(1/22)
ومن الجدير بالذكر أن معرفة الإجابة الدقيقة عن هذه التساؤلات أمر لا بد منه لمن يتعامل مع نصوص المتقدمين في مجال التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل ، التي تزخر بها مصادر الحديث وكتب الرجال ، وذلك لتفادي التلفيق بين المناهج المختلفة عند تحديد مفاهيم المصطلحات ودلالات النصوص ذات الطابع النقدي .
ولذا نرى من الضروري أن نشرح مواقف الأئمة تجاه مسألة التفريق بين المتقدمين و المتأخرين بوجه عام في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ، ثم نسلط الضوء على الأمور التاريخية التي أدت إلى تباين المنهج بينهم في ذلك عموما، حتى تكون الإجابة على تلك التساؤلات واقعية دقيقة .
التفريق بين المتقدمين و المتأخرين واقع تاريخي يجب احترامه :
سبق لي ذكر مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في كتابي " نظرات جديدة في علوم الحديث" ، لكني أعيدها هنا بشيء من التفصيل لأمرين :
الأول : استدراك بعض النقائص التي دفعت ببعض الإخوة إلى إساءة الظن بنا ، وتعكير صفاء هذا الموضوع الذي نحن بحاجة ماسة إلى بلورته وإثرائه ، من أجل التحرر من الإشكالات المعقدة كافة حول كثير من أنواع علوم الحديث، وفهم ما تحويه مصطلحاتها من الأبعاد النقدية فهما صحيحاً متكاملاً،والتأصيل لمنهج المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها، دون خلطه بمناهج الفقهاء وعلماء الكلام والأصول، بإذن الله سبحانه وتعالى.
الثاني : أن هذه المسألة تشكل نقطة أساسية لموضوع هذا البحث.(1/23)
إن قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث: النظري والتطبيقي ، ليست فكرة محدثة كما يتصورها بعضنا ، ولا هي بدعة منكرة ، ولا هي مجرد خاطرة خطرت ببالنا كما اتهمنا بها بعض آخر ، وإنما هي فكرة قديمة نوه بها قبلنا علماء التحقيق والتدقيق من المتأخرين أنفسهم . وما دعاني إلى إثارتها من جديد إلا إحياء منهج المحدثين النقاد المتقدمين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، بعد أن لمست في كثير من البحوث والدراسات المعاصرة انتهاج منهج ملفق بين منهج المحدثين النقاد وبين منهج الفقهاء وعلماء الأصول ، ثم إلصاقه بنقاد الحديث .
موقف العلماء من التفريق بين المنهجين :
ونسوق هنا من النصوص ما يحدد لنا بدقة مواقف العلماء تجاه قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف وما يتعلق بهما من القضايا والمسائل .
قال الحافظ الذهبي ( رحمه الله تعالى ) : " يا شيخ ارفق بنفسك والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر ولا ترمقنهم بعين النقص ، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا حاشا وكلا ، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال : من أحمد ؟ وما ابن المديني ؟ وأي شئ أبو زرعة وأبو داود ؟ فاسكت بحلم أو انطق بعلم ، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث فلا نحن ولا أنت ، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل 1 .
ثم قال في ترجمة الإسماعيلي صاحب المستخرج على صحيح البخاري : " صنف ( يعني الإسماعيلي ) مسند عمر رضي الله عنه ، طالعته و علقت منه وابتهرت بحفظ هذا الإمام ، وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين 2 .(1/24)
والجدير بالذكر أن الذهبي قد أدرج الإسماعيلي المتوفى سنة 371 هـ ، من المتقدمين ، على الرغم من قوله بأن " الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين ثلاث مائة سنة " 3 .
و قال أيضاً :" وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث ، فإن أولئك الأئمة ، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها ، وأما نحن فطالت الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة ، وبمثل هذا ونحوه دخل الدخل على الحاكم في تصرفه في المستدرك " 4 .
وقال الحافظ ابن حجر : " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد ، كالترمذي ، وكأبي حاتم ابن حبان ، فإنه أخرجه في صحيحه ، وهو معروف بالتساهل في باب النقد ، ولا سيما كون الحديث المذكور في فضائل الأعمال " 5 .
وقال السخاوي :" ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً ، وللنظر فيه مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه و طائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدارقطني البيهقي ولم يجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي ، وقال : فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا.هـ 6
يعني السخاوي بقوله هذا ، أن تصحيح الحديث أو تعليله بناء على معرفة ما يحيط به من القرائن يصعب على المتأخرين ، بخلاف المتقدمين لتبحرهم في علم الحديث وتوسعهم في حفظه .(1/25)
وقال الحافظ العلائي بعد أن سرد آراء الفقهاء وعلماء الأصول حول مسألة زيادة الثقة :" كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحي بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل و البخاري وأمثالهم يقتضي أن لا يحكم في هذه المسألة ـ يعني زيادة الثقة ـ بحكم كلي ، بل عملهم في ذلك دائر على الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في حديث حديث" 7 .
وقال الحافظ ابن حجر في المناسبة نفسها :" والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ويحي القطان وأحمد بن حنبل و يحي بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي الدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ، ولا يعرف عن أحد منهم قبول الزيادة " 8 .
وهذه النصوص واضحة وجلية في مدى احترام أئمتنا فكرة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مجال الحديث وعلومه ، وشعورهم العميق بالفوراق العلمية الأخذة في تبلورها بينهم بقدر كبير في معالجة مسائل علوم الحديث ، تنظيراً وتطبيقاً .
كما أن هذه النصوص تحمل إشارة واضحة إلى أن كلمة " المتقدمين " يقصدون بها نقاد الحديث ، باستثناء المعروفين منهم بالتساهل في التصحيح : كابن خزيمة وابن حبان والحاكم . بينما يعنون بالمتأخرين غير النقاد ممن كان يقبل الأحاديث ويردها بعد الدارقطني ، من الفقهاء وعلماء الكلام وغيرهم ممن ينتهج منهجهم ، أو يلفق بينه وبين منهج المحدثين النقاد ، كما هو جلي من سياق كلام الحافظ العلائي والحافظ ابن حجر ، إذ إن تعقيبهما الذي نقلته آنفا كان بعد سرد آراء علماء الطوائف ـ وهم الفقهاء ، وعلماء الكلام والأصول ، وعلماء الحديث حول مسألة زيادة الثقة . ولذلك ينبغي أن يكون الحد الفاصل بينهم منهجياً أكثر من كونه زمنياً .(1/26)
هذا وقد كان استخدام لفظتي " المتقدمين والمتأخرين " مألوفاً في كتب مصطلح الحديث وغيرها ، مما يبرهن به على وجود تباين بينهم في استخدام المصطلحات عموماً ، الأمر الذي يفرض على الباحث في علوم الحديث أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار عند شرح المصطلحات والنصوص ذات الطابع النقدي ، لا سيما في الأنواع التي توسعت مفاهيمها وضوابطها في العصور المتأخرة ، كطرق التحمل والأداء ، والجرح والتعديل .
إن أول موضع من كتب المصطلح في التفريق بين المنهجين :
ولعل أول موضع من كتب المصطلح يشد انتباه القراء إلى ضرورة التفريق بين المناهج المختلفة في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي هو مبحث الصحيح .
فقد قال ابن الصلاح :" الصحيح ما اتصل سنده بالعدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة " . ثم أشار إلى أن هذا التعريف على منهج أهل الحديث حين قال : " فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلا ف بين أهل الحديث " 9 . وتبعه في ذلك كل من صنف في مصطلح الحديث عموماً ، متفقين على أن هذا التعريف إنما هو على منهج المحدثين دون غيرهم من الفقهاء و علماء الأصول .
وذلك لأن الفقهاء و علماء الأصول لم يشترطوا في الصحيح أن يكون الحديث خاليا من أسباب الشذوذ والعلة المتفق عليها عند المحدثين . ويتجلى ذلك بوضوح في مسألة زيادة الثقة ، ومسألة ما يتفرد به الثقة من الأحاديث ، ومسألة تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، و مسألتي الشاذ والمنكر ، إذ كان موقف الفقهاء و علماء الأصول تجاه هذه المسائل هو قبول ما يرده نقاد الحديث .(1/27)
ولهذا قال ابن دقيق العيد : ومداره ( يعني الصحيح ) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا . وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا و لا معللا ، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء ، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء10 .
وقال أيضاً في شرح الإلمام : " إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقاً غير طريق الآخر ، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول و الفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي و جزمه بالرواية ، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي و عدم غلطه ، فمتى حصل ذلك و جاز ألا يكون غلطا وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه . فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته " وقال الصنعاني معقباً عليه : وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه " 11 .
وقال أبو الحسن بن الحصار الأندلسي ( 611هـ) " إن للمحدثين أغراضاً في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط ، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك، كتعليلهم الحديث المرفوع بأنه روي موقوفاً أو مرسلاً ، وكطعنهم في الراوي إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه ، أو أحفظ . وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول ، أو آية من كتاب الله تعالى ، فيحمله ذلك على قبول الحديث ، والعمل به ، واعتقاد صحته ، وإذ لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " 12 .(1/28)
وإن كان في قول أبي الحسن الأندلسي بعض المؤاخذات العلمية التي سأبديها قريباً فإن هذه النصوص أفادتنا عموماً بضرورة التفريق بين الفقهاء و علماء الأصول وبين نقاد الحديث في تنظير قواعد التصحيح و التضعيف وتطبيقاتها ، لئلا تكون المفاهيم حولها ملفقة بين مناهجهم المختلفة . ومعلوم أن هذه القواعد إنما تؤخذ عن المحدثين النقاد ، دون غيرهم ، ويجب التسليم لهم في ذلك ، ولذا قال الحافظ ابن حجر :" يتبين عظم موقع كلام المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه " 13
وقال أيضاً :" ... فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه " 14
وقال ابن كثير :" أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن ( أي في جرح الرواة ) فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب ، وذلك للعلم بمعرفتهم ، و اطلاعهم ، واضطلاعهم في هذا الشأن ، واتصفوا بالإنصاف والديانة ، والخبرة والنصح ، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذاباً أو نحو ذلك فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفه في مواقفهم ، لصدقهم وأمانتهم و نصحهم " 15 .
وقال السخاوي : فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا.هـ16
وهذا الإمام السبكي يسجل لنا ما صدر من الإمام الجويني ـ وهو أحد أئمة علم الكلام والأصول ـ من بالغ التقدير والاحترام لمنهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف ، وذلك بعد أن أدرك خطأه في طريقة تصحيحه للأحاديث ، والاحتجاج بها ، وهذا نصه :(1/29)
" كان الشيخ أبو محمد قد شرع في كتاب سماه ( المحيط ) عزم فيه على عدم التقيد بالمذهب ،وأنه يقف على مورد الأحاديث لا يعدوها ، ويتجنب جانب العصبية للمذاهب فوقع إلى الحافظ أبي بكر البيهقي منه ثلاثة أجزاء ، فانتقد عليه أوهاما حديثية ، وبين أن الآخذ بالحديث الواقف عنده هو الشافعي ، رضي الله تعالى عنه ، وأن رغبته عن الأحاديث التي أوردها الشيخ أبو محمد إنما هي لعلل فيها ، يعرفها من يتقن صناعة المحدثين " .
"فلما وصلت الرسالة إلى الشيخ أبي محمد قال : هذه بركة العلم ، ودعا للبيهقي ، وترك إتمام التصنيف ، فرضي الله عنهما ، لم يكن قصدهما غير الحق والنصيحة للمسلمين ، وقد حصل عند البيهقي مما فعله الشيخ أبو محمد أمر عظيم ، كما يظهر من كلامه في هذه الرسالة " ا.هـ17
ومن المفيد أن ننقل هنا بعض ما ورد عن البيهقي في رسالته المذكورة يقول :(1/30)
" وكنت أسمع رغبة الشيخ رضي الله عنه في سماع الحديث والنظر في كتب أهله ، فأشكر إليه ، وأشكر الله تعالى عليه ، وأقول في نفسي ، ثم فيما بين الناس : قد جاء الله عز وجل بمن يرغب في الحديث ويرغب فيه من بين الفقهاء ، ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم ، من جملة العلماء ، وأرجو من الله أن يحيي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار ، حيث أماتها أكثر فقهاء الأمصار بعد من مضى من الأئمة الكبار الذين جمعوا بين نوعي علمي الفقه والأخبار ، ثم لم يرض بعضهم بالجهل به حتى رأيته حمل العالم به بالوقوع فيه ، والإزراء به والضحك منه وهو مع هذا يعظم صاحب مذهبه ويجله ، ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله ، ثم يدع في كيفية قبول الحديث ورده طريقته ، ولا يسلك فيها سيرته ، لقلة معرفته بما عرف ، وكثرة غفلته عما عليه وقف، هل نظر في كتبه ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره ، واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره ! فنرى سلوك مذهبه مع دلالة العقل والسمع واجبا على كل من انتصب للفتيا ، فإما أن يجتهد في تعلمها أو يسكت عن الوقوع فيمن يعلمه ، ولا يجمع عليه وزران ، حيث فاته الأجران ، والله المستعان وعليه التكلان "
" ثم إن بعض أصحاب الشيخ ـ أدام الله عزه ـ وقع إلى هذه الناحية فعرض علي أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى ( بالمحيط ) فسررت به ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار ، لائقاً بما خص به من علم الأصل والفرع ، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع " 18(1/31)
والذي يبدو من مضمون الرسالة المشار إليها آنفاً أن معاصري الإمام البيهقي من فقهاء الشافعية سلكوا في قبول الأحاديث والاحتجاج بها مسلكاً يناهض منهج إمامهم الشافعي وغيره من المتقدمين من أصحاب الحديث والأثر . وعلى الرغم من دفاع الإمام البيهقي عن المحدثين النقاد و منهجهم في التصحيح والتضعيف ، وقبول الإمام الجويني ذلك منه بحفاوة ورحب صدر ، فإن اللاحقين من الفقهاء استمروا في تساهلهم في تصحيح الأخبار وقبولها والاحتجاج بها .
ويتجلى ذلك بوضوح بما قاله ابن الجوز ي:" فرأيت أن إسعاف الطالب للعلم بمطلوبه يتعين خصوصا ً عند قلة الطلاب،لا سيما لعلم النقل ،فإنه أعرض عنه بالكلية حتى إن جماعة من الفقهاء يبنون على العلوم الموضوعة " يعني: أنهم يستدلون بالأحاديث الموضوعة 19. والله أعلم .
وقال في موضع آخر : " رأيت بضاعة أكثر الفقهاء في الحديث مزجاة ، يعول أكثرهم على أحاديث لا تصح ، ويعرض عن الصحاح ، ويقلد بعضهم بعضاً فيما ينقل " 20
وقال الإمام النووي " وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك واعتمادهم عليه ( يعني ما رواه الضعفاء ) فليس بصواب بل قبيح جداً ، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به ، فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام ، وإن كان لا يعرف ضعفه لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا ، أو بسؤال أهل العلم إن لم يكن عارفا . والله أعلم " 21
ملاحظات حول قول أبي الحسن الأندلسي :(1/32)
وأما ما زعمه أبو الحسن الأندلسي ( رحمه الله تعالى ) " أن للمحدثين أغراضا في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط ، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك ، وأن الفقيه قد يعلم صحة الحديث بموافقة الأصول ، أو آية من كتاب الله تعالى ، فيحمله ذلك على قبول الحديث ، والعمل به ، واعتقاد صحته ، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " 22 .
فيرده ما سبق سرده من نصوص الأئمة هذا من حيث الجملة .
وأما من حيث التفصيل فقوله " إن المحدثين بالغوا في الاحتياط " بعيد عن الدقة ، وذلك لأن منتهج المحدثين في التصحيح و التضعيف لم يكن قائما على التخمين والاحتياط ، وإنما على تتبع القرائن والملابسات ، ولذلك فإنهم حين أعلوا الحديث المرفوع بالموقوف يعني أن القرائن نبهتهم على أن رفع الحديث خطأ ، وليس لمجرد وجود المخالفة بين الموقوف و المرفوع ، أو بين المتصل والمرسل ، وليس لأنهم مبالغون في الاحتياط ، ويمكن أن نصفه بذلك إذا كان منهجهم في ذلك مجرد تخمين وظن ، دون تعويل على القرائن والملابسات .
وأما طعنهم في الراوي فليس كما قال الأندلسي : إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه ، أو أحفظ ، يطعن فيه النقاد ، وإنما طعنوا فيه لكثرة مخالفته الصواب و كثرة تفرده بما ليس له أصل ، وليس لمجرد أنه قد خالف من هو أعدل منه ، دون لجوء إلى ما يحف به من القرائن .(1/33)
وأما الجملة الأخيرة فتعد غريبة منه رحمه الله تعالى ، وهي وليدة خلط بين قضيتين مختلفتين تتميز كل منهم عن الآخر بالضوابط ، إذ موافقة القول المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم الأصول أو الآية القرآنية لا تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة، والذي ذكره أبو الحسن الأندلسي إنما هو من حيث محتوى النص ، فسلامته من الخلل تتم بانسجامه مع الأصل الثابت أو الإجماع ، وأما من حيث روايته وإضافته إلى شخص ما فينبغي أن يكون خاضعا لقواعد النقل و الرواية . وبمجرد أن يكون نص ما قد وافق الآية القرآنية لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة إذا لم يكن من رواية الكذاب.
ومن المعلوم أن النقل له قواعد وضوابط ، كما للعقل قواعد وضوابط، ولا ينبغي إخضاع أحدهما لقواعد الآخر إلا في حالات معينة وبطريقة علمية منهجية ، وبالتالي فما لا يمنع العقل وقوعه لا يلزم إضافته إلى شخص ، ما لم يثبت عنه نقلا ، وكيف إذا كان الآمر يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الخطب فيه جلل والعاقبة وخيمة .
وعلى كل فقد ظهر جليا مما سبق أن أئمة الفقه والأصول كانوا يقعدون القواعد وينظرون المسائل فيما يخص التصحيح والتعليل والقبول والرد والجرح والتعديل وفق ما يقتضيه التجويز العقلي المجرد ، كما سبق الإشارة إلى ذلك في نص الإمام ابن دقيق العيد ، وكذا نص أبي الحسن الأندلسي ، وبالتالي يكون من الإنصاف العلمي أن لا يعد ذلك منهجا علميا يوازي منهج المحدثين النقاد .(1/34)
وربما نجد في نصوص بعض المتأخرين أن المحدثين يضعفون الأحاديث لعلة غير قادحة ، وأنهم يضعفون الحديث لاختلاف رواته على شيوخهم في اسم الصحابي ، ويعدون مثل هذا الاختلاف علة تقدح في صحة الحديث . و أما الفقهاء فلا يعدونه قادحا لأن الحديث في جميع الاحتمالات يكون من رواية الصحابي ، ولا يضر الإبهام في اسمه لثبوت عدالة الصحابة ، مما يوهم القارئ المستعجل أن الفقهاء هم في غاية من الدقة في التصحيح و التضعيف . أقول : كلا ثم كلا ، فإن ذلك النوع من الخلاف لن يكون مقياسا لمعرفة دقة الفقهاء في التصحيح و التضعيف و مرونتهم في ذلك ، وهذا في الواقع أمر سهل ، بل لا يرد أحد من النقاد الأحاديث من أجله ، وإنما يرفض فقط أن يحدد الراوي بأنه فلان ، لوقوع اضطراب حوله ، دون أن يقدح ذلك في صحة الحديث.
وأما الخلاف الجوهري المتمثل في كون الحديث موقوفا أو مرفوعا ، أو كون الحديث مرسلا أو متصلا ، أو كون الحديث بزيادة أو بدونها فيعد ذلك كله من العلل القادحة فقط إذا توفرت القرائن على أن رفعه أو وصله أو زيادته خطأ محض من راويه أيا كان هذا الراوي ، ولم يكن ذلك مبنيا على مجرد تخمين ، أو تجويز عقلي .
في حين يعد الفقهاء هذا النوع من الاختلاف عللا غير قادحة ، نظرا لكون راوي ذلك ثقة أو صدوقا ، وأن الزيادة منه مقبولة عندهم إذ كانوا يجوزون عقليا صدور ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم صارفين النظر عما يحيط بتلك الزيادات من ملابسات وقرائن . ولذا فعلى المنصف أن يتأمل : أي منهج يتسم بالدقة المتناهية التي تقتضيها مكانة السنة النبوية ، منهج المحدثين النقاد الذي يقوم على تتبع القرائن والملابسات ؟ أو منهج الفقهاء و الأصوليين الذي يعتمد على التجويز العقلي ؟ 23.(1/35)
وفي ضوء ما سبق ذكره يمكن لنا القول : من كان منهجه في التصحيح و التضعيف هو النظر في عدالة الراوي واتصال السند فهو على طريقة الفقهاء ، وعليه جرى عمل كثير من المتأخرين من أهل الحديث عموما ، وهو ظاهر لكل من يتتبع كتب الفقه وأحاديث الأحكام ، وكتب التخريجات ، وكذلك المعاصرون ينتهجون المنهج نفسه ، كما نرى ذلك في كثير من بحوثهم ودراساتهم . غير أنهم يتفاوتون في ذلك بقدر ممارستهم بمنهج المحدثين النقاد .
هذا وقد تبلور التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في تقعيد قواعد القبول والرد في مناسبات أخرى في علوم الحديث ، كمبحث تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، ومبحث زيادة الثقة ، ومبحث الاستخراج ، ومبحث الشاذ المنكر.
يقول الحافظ العلائي في صدد بيان هذا التباين :
" فأما إذا كان رجال الإسناد متكافئين في الحفظ أو العدد ، أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شئ من ذلك ، مع أن كلهم ثقات محتج بهم ، فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء ."
" فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا ، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى ، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها ، وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك ، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص ، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة ، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده ".
" وأما أئمة الفقه والأصول ، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه يعني كما تقدم تفصيله عنهم . ويلزم على ذلك قبول الحديث الشاذ كما تقدم " 24.(1/36)
و قال الحافظ ابن حجر : " وهذا ( يعني قبول زيادة الثقة ) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول ، وجرى على هذا الشيخ محي الدين النووي في مصنفاته " 25 .
وقال الحافظ العلائي : " فهذا ( قبول زيادة الثقة ) كلام أئمة الأصول ممن وقفت عليه ، وأما أئمة الحديث فالمتقدمون منهم كيحي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، ومن بعدهما كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين ومسلم والنسائي والترمذي وأمثالهم ، ثم الدار قطني و الخليلي ، كل هؤلاء يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولا وردا الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث ، ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث ، وهذا هو الحق والصواب كما سنبينه إن شاء الله تعالى " 26 ثم استثنى العلائي منهم الإمام الحاكم وابن حبان لتساهلهما في التصحيح .
وهذه النصوص كلها واضحة وجلية في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مسألة التصحيح والتضعيف وما يلحق بهما من المسائل والضوابط ، وأن المتقدمين هم نقاد الحديث ، وأن المتأخرين هم الفقهاء وعلماء الكلام والأصول ومن تبعهم في المنهج من أهل الحديث ، دون النظر إلى الفاصل الزمني في التفريق .
ولذا أطلق السخاوي بقوله السابق : " ولذا كان الحكم من المتأخرين عسرا جدا ، وللنظر فيه مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي و نحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدار قطني والبيهقي ، ولم يجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب" 27 .(1/37)
ومن هنا يتجلى وهاء ما ذكره الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ( رحمة الله عليه ) في سبيل دفاعه عن حديث عون بن عبدالله الخزار عن مالك عن الزهري عن نافع عن ابن عمر مرفوعا موضوع ترك رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام ، وعن صحته ، مع أن الراوي قد انفرد به مخالفا للثابت عن مالك ثم عن الزهري ثم عن نافع ثم عن ابن عمر ثم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ونص بعض النقاد على أنه باطل ، وأوضح ذلك الشيخ الألباني رحمة الله عليه .
بيان مواضع أخرى من كتب المصطلح استخدم فيها العلماء مصطلحي المتقدمين والمتأخرين :
كتب المصطلح تزخر بلفظي المتقدمين والمتأخرين في كثير من المسائل ، ومنها طرق التحمل والأداء ، والجرح والتعديل ، حيث كان هذان الموضوعان محل عناية لدى المتأخرين ، على الرغم من اختلاف تخصصاتهم العلمية وتوجهاتهم الفكرية ، إذ الأولى تشكل نظم التعليم التي من شأنها أن تطور وفق مقتضيات العصر ، ويتأثر بذلك جميع العلوم . وأما الثاني فدخل فيها الفقهاء والأصوليون من باب مسألة الشهادة ، وأطنبوا فيها حتى تعرضت لخلط الآراء القديمة و الجديدة ، ومعلوم أن معظم المؤلفين في كتب المصطلح هم أصحاب تخصص فقهي أو أصولي أو تاريخي مع وجود تفاوت كبير فيما بينهم من حيث الفهم والممارسة والاهتمام .
استعمال مصطلحي " المتقدمون" و " المتأخرون " أمر شائع في كتب المصطلح:
وأسرد هنا ـ على سبيل المثال دون استيعاب ـ تلك المواضع التي ورد فيها مصطلحا "المتقدمين" و " المتأخرين" من غير ترتيب موضوعي لها ، أو توضيح ملابسات تلك المسائل التي تعرضت للتباين المنهجي بينهم , إذ الغاية هي مجرد عرض لهذه المواضع ليقف القارئ على أنني لم أحدث شيئا جديدا في قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين . وأنا على يقين أن القارئ على علم بذلك .(1/38)
1- قال الحافظ ابن حجر ( رحمه الله تعالى ) : " وكذا خصصوا ( الإنباء ) بـ ( الإجازة ) التي يشافه بها الشيخ من يجيزه ، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم ، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل ، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته . نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط ، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح ، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين 28 .
2- و قال أيضا : " والإنباء بمعنى الأحبار عند المتقدمين جزما " 29 .
3- وقال أيضا : " قوله ( أنبأنا أبو إسحاق ) كذا هو بلفظ الإنباء ، وهو في عرف المتقدمين بمعنى الإخبار والتحديث وهذا منه " 30 .
4-وقال أيضا :" وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين ، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين ، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة " 31 .
يلاحظ أن موضوع هذا النص فيما يخص تأويل حديث عذاب الميت ببكاء أهله .
5- وقال ابن الصلاح :" التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين ، فيكتبون لا بن خمس فصاعدا ( سمع ) ، ولمن لم يبلغها ( حضر ) أو ( أحضر ) " 32 ، ونقله عنه اللاحقون في كتب المصطلح .
6- وقال السخاوي :" فاعلم أنه قد تقدم اغتفار الكلمة والكلمتين ، يعني سواء أخلتا أو إحداهما بفهم الباقي ، لا لأن فهم المعنى لا يشترط ، وسواء كان يعرفهما أم لا ، والظاهر أن هذا بالنسبة إلى الأزمان المتأخرة ، وإلا ففي غير موضع من كتاب النسائي ، يقول :( وذكر كلمة معناها كذا ) لكونه فيما يظهر لم يسمعها جيدا وعلمها " 33.(1/39)
7- وقال أيضا " وخص بعضهم الاستواء بالأزمان المتأخرة التي حصل التسامح فيها في السماع بالنسبة للمتقدمين لكونه آل لتسلسل السند إذ هو حاصل بالإجازة " 34 .
8- وقال أيضا نقلا عن أبي العلاء الحسن بن أحمد الهمداني العطار : " لم أر في اصطلاح المتقدمين من ذلك شيئا ، غير أن نفرا من المتأخرين استعملوا هذه الألفاظ ، ولم يروا بها بأسا ، ورأوا أن التخصيص و التعميم في هذا سواء " 35 .
9- وقال في موضع آخر نقلا عن ( توضيح النخبة ) : " إن القول بها توسع غير مرضي ، لأن الإجازة الخاصة المعينة مختلف في صحتها اختلافا قويا عند القدماء، وإن كان العلم استقر على اعتبارها عند المتأخرين فهي دون السماع بالاتفاق " 36.
10- وقال أيضا : وهذه الألفاظ إن كثر استعمالها لذلك بين المتأخرين من بعد الخمسمائة وهلم جرا فما سلم من استعمالها مطلقا من الإبهام وطرف من التدليس ، أما المشافهة فتوهم مشافهة بالتحديث ، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه ، كما يفعله المتقدمون " 37 .
11- وفي 2/119 : " نعم اصطلح قوم من المتأخرين على إطلاقها فيها "( يعني لفظة " أنبأنا " في الإجازة ) إلى أن قال :" وراعى في التعبير به عن الإجازة اصطلاح المتأخرين ، لا سيما ولم يكن الاصطلاح بذلك انتشر" .
12- وفي 2/132 " لكن إذا صح عند أحد من المتقدمين كما عليه ابن الصلاح ، أو المتأخرين على المختار ما حصل الإعلام به من الحديث حصل الوثوق به " .
13- وفي 2/206 : " وكذا خص بعض المتشددين الجواز بما إذا لم يخرج الكتاب عن يده بعارية أو غيرها ، قال بعضهم : وهو احتياط حسن يقرب منه صنيع المتقدمين أو جلهم في المكاتبة " .(1/40)
14- وقال في 2/208 : " فإن حديث المتقدمين من كتبهم مصاحب غالبا بالضبط و الإتقان الذي يزول به الخلل ، حتى إن الحاكم أدرج في المجروحين من تساهل في الرواية من نسخ مشتراة أو مستعارة غير مقابلة لتوهمهم الصدق في الرواية منها بخلاف المتأخرين في ذلك فهو غالبا عري عن الضبط والإتقان ، وإن نوقش في أصله كما تقرر في محله ".
15- وفي 2/249: " وإن اصطلح المتأخرون على التصرف في أسماء الرواة وأنسابهم بالزيادة والنقص و بزيادة تعيين تاريخ السماع " إلى أن قال : " وهو توسع أشار ابن دقيق العيد إلى منعه " .
16- وفي 2/256 : كما جوزه ( يعني تقديم المتن على السند ) بعض المتقدمين من المحدثين ، وكلام أحمد يشعر به ، فإن أبا داود سأله هل لمن سمع كذلك أن يؤلف بينهما ؟ قال :نعم ، وبه صرح ابن كثير من المتأخرين فقال : الأشبه عندي جوازه ".
17- وفي 2/269 : " وفعله ( يعني أن يجمع بين الروايات مع بيان الفروق فيما بينها ) من المتأخرين عياض فقال في الشفاء : وعن عائشة و الحسن وأبي سعيد وغيرهم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يزيد على بعض".
18- وفي 2/281 : " وقد فعله جماعة من المتأخرين ، وبالغ بعض المتساهلين فكان يقرأ عليه الماشي حال كونه راكبا ، وذلك قبيح منهما " .
19- وفي 2/283 : " و كذلك الشافعي قد أخذ عنه العلم في سن الحداثة وانتصب لذلك ، في آخرين من الأئمة المتقدمين والمتأخرين " .
20- وفي 2/292 : " واعلم أن القراء في هذه الأعصار المتأخرة ، بل وحكاه ابن دقيق العيد أيضا قد تسامحوا في ذلك وصار القارئ يستعجل استعجالا يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة ، بل كلمات ، وقد اختلف السلف في ذلك ".(1/41)
21- وفي 3/18- 19 : " وعلو الصفة عند أئمة الحديث بالأندلس أرجح من علو المسافة ، خلافا للمشارقة ، يعني المتأخرين ، ولأجل هذا قال العماد بن كثير : إنه نوع قليل الجدوى بالنسبة إلى باقي الفنون ، ونحوه قول شيخنا : وقد عظمت رغبة المتأخرين فيه حتى غلب ذلك على كثير منهم بحيث أهملوا الاشتغال بما هو أهم منه " ، ثم نقل عن ابن دقيق العيد قوله : " وقد عظمت رغبة المتأخرين في طلب العلو ، حتى كان سببا لخلل كثير في الصنعة ، ولم يكن فيه إلا الإعراض عمن طلب العلم بنفسه بتمييزه إلى من أجلس صغيرا ، لا تمييز له ولا ضبط ولا فهم ، طلبا للعلو وتقدم السماع " .
22- وفي 3/26 : " لو جمع بين سندين أحدهما أعلى بأيهما يبدأ فجمهور المتأخرين يبدؤون بالأنزل ليكون لإيراد الأعلى بعده فرحة ، وأكثر المتقدمين بالأعلى لشرفة " . ثم أورد لذلك الأمثلة من صحيح البخاري و صحيح مسلم .
وهذه النصوص كلها توضح وقوع فوارق منهجية لا فتة الانتباه بين المتقدمين والمتأخرين فيما يخص طرق التحمل والأداء ، وأن مصطلح " المتأخرين " هنا يشمل جميع علماء الطوائف الثلاث : أئمة الفقه ، وأئمة الأصول و الكلام ، وأهل الحديث ، كما يظهر ذلك لمن يتتبع مبحث طرق التحمل والأداء وما يتعلق بهما من مسائل في كتب المصطلح حيث إن حضور هؤلاء الأئمة جميعا في تقعيد ما يتعلق بها واضح وجلي ، منهم القاضي أبو بكر الباقلاني ( ت 403هـ) ، وأبو الفتح سليم الرازي ( ت 447هـ ) ، وأبو إسحاق الشيرازي ( ت 476هـ ) وابن الصباغ (ت 477هـ) ، وأبو إسحاق الاسفرائيني ( ت 418هـ) وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي وإمام الحرمين (ت 478هـ) ، والمازري ، والماوردي ( ت 450هـ ) ، وغيرهم ممن عاصر الحافظين المشهورين : البيهقي ( ت 458هـ ) ، والخطيب البغدادي ( 460هـ ) ، ولاحقيهما كالآمدي ( ت 631 هـ) ، وابن الحاجب ( ت 646هـ ) .(1/42)
وأما الموضوعات الأخرى التي نص فيها العلماء على تباين منهجي بين المتقدمين والمتأخرين فهي كالآتي : قال السخاوي " ولا شك أن في المتكلمين في ذلك من المتأخرين من كان من الورع بمكان كالحافظ عبد الغني صاحب الكمال في معرفة الرجال المخرج لهم في الكتب الستة ، الذي هذبه المزي وصار كتابا حافلا ، عليه معول من جاء بعده ، واختصره شيخنا وغيره ، ومن المتقدمين من لم يشك في ورعه كالإمام أحمد " 38 .
23- وقال أيضا : " قد شغف جماعة من المتأخرين القائلين بالتاريخ وما أشبهه كالذهبي ثم شيخنا بذكر المعائب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، ولذلك غيبة محضا " 39 .
24- وقال أيضا: " لعل ابن معين لا يدري ما الفلسفة ، فإنه ليس من أهلها ، ولذا كان الجهل بالعلوم و مراتبها والحق والباطل منها أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها في ذلك ، كما ذكره ابن دقيق العيد ، وقال : إنه محتاج إليه في المتأخرين أكثر لأنه الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة و المتأخرة حتى علوم الأوائل .." إلى أن قال : " و المتقدمون قد استراحوا من هذا لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم " 40
25- وفي 3/360 : " فنسب الأكثر من المتأخرين منهم كما كانت العجم تنسب للأوطان ، وهذا وإن وقع في المتقدمين أيضا فهو قليل ، كما أنه يقع في المتأخرين أيضا النسبة إلى القبائل بقلة " .
26- وقال السخاوي : " ليس يمكن في عصرنا ( يعني التصحيح والتحسين ) ، بل جنح لمنع الحكم بكل منهما في الأعصار المتأخرة الشاملة له ، واقتصر فيهما على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف ، محتجا بأنه ما من إسناد إلا في روايته من اعتمد على ما في كتابه عريا عن الضبط والإتقان " 41 .
27- وقال أيضا " لكن قد وافق اختيار ابن الصلاح جماعة من المتأخرين " 42 .(1/43)
28- وقال أيضاً : " وبسعيد ( يعني سعيد بن المسيب الذي روي عنه أنه لا يحتج بالمرسل ) يرد على ابن جرير الطبري من المتقدمين ،وابن الحاجب من المتأخرين ادعاءهما إجماع التابعين على قبوله ( أي المرسل43)"
29- وقال أيضا : " إن ما تقدم في كون ( عن ) وما أشبهها محمولا على السماع ، والحكم له بالاتصال بالشرطين المذكورين ، هو في المتقدمين خاصة ، وإلا فقد قال ابن الصلاح : لا أرى الحكم يستمر بعدهم فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ( ذكر فلان ) ( قال فلان) و نحو ذلك ، أي فليس له حكم الاتصال إلا إن كان له من شيخه إجازة "44 ، إلى أن قال في 163 : " وكثير بين المنتسبين إلى الحديث استعمال ( عن ) في ذا الزمن المتأخر أي بعد الخمسمائة إجازة " .
30- وقال في 1/166 من فتح المغيث : " وإلا فالحق حسب الاستقراء من صنيع متقدمي الفن ، كابن مهدي والقطان وأحمد و البخاري عدم المراد حكم كلي ، بل ذلك دائر مع الترجيح ، فتارة يترجح الوصل و تارة الإرسال وتارة يترجح عد الذوات على الصفات ، وتارة العكس ، ومن راجع أحكامهم الجزئية تبين له ذلك .. إلى أن قال : ويتأيد كل ذلك بتقديم البخاري نفسه للإرسال في أحاديث أخر لقرائن قامت عنده .. هذا حاصل ما أفاده شيخنا مع زيادة و سبقه لكون ذلك مقتضى كلام الأئمة العلائي ومن قبله ابن دقيق العيد و غيرهما " .
31 – وفي 1/222 : " ولذا حكم غير واحد من الحفاظ كالنووي في الخلاصة وابن عبد الهادي وغيره من المتأخرين باضطراب سنده " .
32- وفي 1/333 : الثالث عشر : في عدم مراعاة ما تقدم في الأزمان المتأخرة وأعرضوا أي المحدثون فضلا عن غيرهم في هذه الدهور المتأخرة عن اعتبار اجتماع هذه الأمور التي شرحت فيما مضى في الراوي و ضبطه فلم يتقيدوا بها في عملهم لعسرها وتعذر الوفاء بها ، بل استقر الحال بينهم على اعتبار بعضها .. " .(1/44)
33- قال الحافظ السيوطي نقلا عن الحافظ العراقي : " وهو الذي عليه عمل أهل الحديث ، فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحا : فمن المعاصرين لابن الصلاح أبو الحسن ابن القطان الفاسي صاحب كتاب ( الوهم والإيهام ) صحح فيه حديث ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما ، ومنهم الحافظ ضياء الدين المقدسي جمع كتابا سماه ( المختارة ) التزم فيه الصحة ، وصحح الحافظ زكي الدين المنذري ، ثم صحح الطبقة التي تلي هذه فصحح الحافظ شرف الدين الدمياطي ، ثم تقي الدين السبكي ، قال : ولم يزل ذلك دأب من بلغ أهلية ذلك منهم ، إلا أن منهم من لا يقبل ذلك منهم ، وكذا كان المتقدمون ربما صحح بعضهم شيئا فأنكر عليه تصحيحه " 45
34- وقال أيضا : " لكن قد يقوى ما ذهب إليه ابن الصلاح بوجه آخر ، وهو ضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المتقدمين " 46.
35- وقال أيضا نقلا عن ابن الصلاح : " وفيما قاله مسلم نظر ، قال : ولا أرى هذا الحكم يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه : ( ذكر فلان ) أو ( قال فلان ) أي فليس له حكم الاتصال "47 .
36-وقال أيضا : " والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد والمزي أن لذلك حكم العنعنة " 48 .
37- وقال في ص 180 من تدريب الراوي : " من الأمور المهمة تحرير الفرق بين الرواية و الشهادة ، وقد خاض فيه المتأخرون " .
38- وفي ص 181: " فالمختار عند المتأخرين أنه إن كان جازما بنفيه بأن قال ما رويته أو كذب علي ، ونحوه وجب رده لتعارض قولهما مع أن الجاحد هو الأصل " .(1/45)
39- و قال الحافظ ابن حجر : " تنبيه : حاصل كلام المصنف أن للفظ ( عن ) ثلاثة أحوال : أحدها أنها بمنزلة ( حدثنا ) و ( أخبرنا ) بالشرط السابق ، الثاني : أنها ليست بتلك المنزلة إذا صدرت ( عن ) عن مدلس ، وهاتان الحالتان مختصتان بالمتقدمين ، وأما المتأخرون وهم من بعد الخمسمائة وهلم جرا فاصطلحوا عليها للإجازة، فهي بمنزلة أخبرنا " 49 .
40- وقال أيضا : " وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيدا في تعريف المعلول ، فقرأت في (المقنع ) للشيخ سراج الدين ابن الملقن ، قال : ( ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث : أن المعلول أن يروي عمن لم يجتمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه ، أو تختلف جهتهما ، كأن يروي الخراساني مثلا عن المغربي، ولا ينقل أن أحدهما رحل عن بلده " 50.
41- ونختم هذا بما قاله العلامة محمد أنور شاه الكشميري في كتابه فيض الباري ، وهذا نصه :
" وليعلم أن تحسين المتأخرين ، وتصحيحهم ، لا يوازي تحسين المتقدمين فإنهم كانوا أعرف بحال الرواة لقرب عهدهم بهم ، فكانوا يحكمون ما يحكمون به ، بعد تثبت تام ، ومعرفة جزئية ، أما المتأخرون فليس عندهم من أمرهم غير الأثر بعد العين ، فلا يحكمون إلا بعد مطالعة أحوالهم في الأوراق ، وأنت تعلم أنه كم من فرق بين المجرب والحكيم ، و ما يغني السواد الذي في البياض عند المتأخرين ، عما عند المتقدمين من العلم على أحوالهم كالعيان ، فإنهم أدركوا الرواة بأنفسهم ، فاستغنوا عن التساؤل ، والأخذ عن أفواه الناس ، فهؤلاء أعرف الناس ، فبهم العبرة ، وحينئذ إن وجدت النووي مثلا يتكلم في حديث ، والترمذي يحسنه ، فعليك بما ذهب إليه الترمذي ، ولم يحسن الحافظ في عدم قبول تحسين الترمذي ، فإن مبناه على القواعد لا غير ، وحكم الترمذي يبني على الذوق والوجدان الصحيح ، وإن هذا هو العلم ، وإنما الضوابط عصا الأعمى " 51 .(1/46)
هكذا تضافرت النصوص على استخدام مصطلحي " المتقدمون والمتأخرون " مؤكدة بأهمية التفريق بين المناهج المختلفة في قسمي علوم الحديث: النظري والتطبيقي ، ونحن إذ نطرح ذلك من جديد فإننا نقصد بذلك بلورة هذه الفكرة ، لضرورة العودة إلى منهج المتقدمين في معرفة صحة الحديث وضعفه ، وتحديد معاني المصطلحات التي استخدموها في مجال النقد ، أو الجرح و التعديل ، مستعينا في ذلك بالتعريفات التي ذكرها المتأخرون في كتب المصطلح.
والذي أثار غرابتي وعجبي أن المناوئين لمسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين كانوا يفرقون بينهم ، ويستخدمون هذين المصطلحين بين حين وآخر عند تناولهم مسائل علوم الحديث ، لقد سمعت من بعض الشيوخ يصف هذا المنهج بأنه محدث وبدعة في الدين ، وفي الوقت ذاته يفرق بينهم عشرات المرات في تحرير معنى الحسن وغيره من مسائل علوم الحديث .
وفي ضوء ما تقدم من النصوص نستطيع أن نلخص ما يلي :
1-ورد في بعض النصوص ما ينص على أن الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو الخمسمائة سنة الهجرية .
2-وكان موقف العلماء موحداً حول وجود تباين جوهري بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف .
3-الأسماء الواردة في قائمة المتقدمين هم : شعبة والقطان وابن مهدي ونجوهم ، وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وهكذا إلى زمن الدارقطني والخليلي والبيهقي .
4-فاتضح بذلك أن البيهقي هو خاتمة المتقدمين .
5-وأن هذه الأسماء إنما ذكرت على سبيل المثال لا على سبيل الحصر .
6-ويبرهن بذكر هذه الأسماء على أن قصدهم بالمتقدمين هم نقاد الحديث .
7-وأدرج الذهبي الإسماعيلي (371هـ) في زمرة المتقدمين ، رغم قول الذهبي بأن الحد الفاصل بينهم هو القرن الثالث الهجري .(1/47)
8-وأن الأسماء الواردة في قائمة المتأخرين هي : ابن المرابط ، وعياض ، وابن تيمية ، وابن كثير ، وعبد الغني صاحب الكمال ، والذهبي ، والحافظ ابن حجر ، وابن الصلاح ، وابن الحاجب ، والنووي ، وابن عبد الهادي ، وابن القطان الفاسي ، وضياء الدين المقدسي ، وزكي الدين المنذري ، وشرف الدين الدمياطي ، وتقي الدين السبكي ، وابن دقيق العيد ، والمزي .
9-و تضم هذه القائمة ـ كما ترى ـ أهل الحديث وأهل الفقه والأصول . وأطلق عليهم جميعاً مصطلح " المتأخرين " .
10- صرح السيوطي بضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المتقدمين ، هذا بالطبع فيما يخص الحديث وعلومه فقط ، ولم يكن( رحمه الله ) شاذا في ذلك ، بل يؤيده ما سبق ذكره من نصوص الأئمة ، ولهذا قال الحافظ ابن حجر بوجوب تسليم الأمر للمتقدمين في مجال التصحيح و التضعيف وتنظير القواعد المتعلقة بهما .
وفي نهاية هذا التلخيص نعود ونقول مرة أخرى إن أئمتنا قد استخدموا مصطلحي المتقدمين والمتأخرين ، لوجود تباين منهجي بينهم في التصحيح والتضعيف ، وتنظير ما يتعلق بهما من المسائل والقواعد ، ولتفاوتهم في التكوين العلمي في مجال الحديث وحفظه و نقده .
وبعد هذا يكون من المفيد أن ننظر في العوامل التاريخية التي أدت إلى وقوع ذلك التباين ، وهذا ما أذكره في الفقرات التالية .
العوامل التاريخية التي أدت إلى وقوع ذلك التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين :
إذا نظرنا في المراحل الزمنية التي مرت عليها السنة النبوية وقمنا بتحليل ما يميزها بعضها عن بعض من أساليب التعلم والتعليم ، وطبيعة الحركات العلمية العامة ، نجد أنها تنقسم إلى مرحلتين متميزتين يكاد كل واحد منهما يستأثر بخصائص منهجية وسمات علمية ، على الرغم من أن اللاحقة منهما ما هي إلا امتداد للسابقة .
المرحلة الأولى :(1/48)
فأما المرحلة الأولى فيمكن تسميتها بمرحلة الرواية ، وأبرز خصائصها كون الأحاديث لا تتلقى من الشيوخ ، ولا تتداول بين المحدثين إلا بواسطة الأسانيد ، والرواية المباشرة المتمثلة في قولهم " حدثني فلان عن فلان " إلى أن يذكروا الحديث أو الأثر . ويشهد لذلك طبيعة كتب الحديث التي ظهرت في هذه المرحلة .
فأذكر على سبيل المثال كتاب " المسند " للإمام أحمد بن حنبل ، أو كتاب " التفسير " للإمام الطبري ، وهما نموذجان لكتب المرحلة الأولى ، عمدتها في نقل الأحاديث هي الأسانيد والرواية المباشرة الفردية ، ولذلك كان الإمام أحمد يقول في كل حديث يسوقه فيه " حدثنا فلان عن فلان.. " إلى آخر الإسناد ، وكذا الإمام الطبري في تفسيره .
وهذه المرحلة ممتدة من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري على وجه التقريب لا على وجه التحديد ، وقد سبق عن عدد من المتأخرين ما يدل على ذلك .
فالإسناد في هذه المرحلة يشكل العمود الفقري ، عليه يتم الاعتماد في تلقي الأحاديث ونقلها ، ومن هنا صار الإسناد وثيقة علمية يتجلى بها مدى صدق راوي الحديث أو كذبه ، وضبطه أو خطئه ونسيانه ، وبالرواية المباشرة في تداول الأحاديث والآثار فيما بينهم قد حفظوا السنة النبوية ، وليس بالتدوين الذي قد يلجأ إليه بعض أفراد الصحابة أو كثير من الرواة بعدهم لحفظ ما سمعوا من شيوخهم من الأحاديث و ضبطها إذا اقتضت حالة ذاكرتهم ذلك.
ومن هنا يظهر جليا معنى نصوص أئمتنا المتقدمين فيما يخص الإسناد : قال عبدالله بن المبارك : " الإسناد عندي من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " 52 وفي رواية أخرى زيادة كلمة : " فإذا قيل له : من حدثك ؟ بقي " 53 يعني بقي ساكتا .
54وقال سفيان الثور ي : " الإسناد سلاح المؤمن إذا لم يكن معه سلاح فبأي شئ يقاتل "
ولم يقولوا : " التدوين من الدين ولولا التدوين لقال من شاء ما شاء " ، أو " التدوين سلاح المؤمن " .(1/49)
وعليه فالذي كان يمنع أن يقول من شاء ما شاء في الحديث في مرحلة ما بعد الرواية هو الإسناد وليس التدوين ، وهذا لا يعني أن التدوين لم يكن له دور في حفظ السنة ، لكن دوره يتمثل فيما يلي :
إن التدوين إنما لجأ إليه بعض أفراد الصحابة وآحاد الرواة حسب قوة ذاكرتهم لحفظ مروياتهم الخاصة سواء أكانت صحيحة أم خطأ ، فإن الكتب التي ظهرت في مرحلة الرواية على اختلاف أشكالها أوضح دليل على ما سبق بيانه ، ولا يوجد فيها كتاب يستوعب السنة جميعها من حيث إنها سنة صحيحة ثابتة ، وإنما الذي تم تدوينه هو الأحاديث التي يتلقاها الراوي من شيوخه ، لكن بعض النقاد قام بتمحيص ما صح منها من غير استيعاب ، أمثال الإمام البخاري ومسلم ، إذن فالذي تم تدوينه من السنة إنما هو مسموعاته الخاصة ، ولم يكن ذلك على استيعاب جميع ما ورد في كتب المحدثين من السنة .
المرحلة الثانية :
وأما المرحلة الثانية فيمكن تسميتها بمرحلة ما بعد الرواية ، وفي هذه المرحلة آلت ظاهرة الإسناد والرواية المباشرة إلى التلاشي لتبرز مكانها ظاهرة الاعتماد على الكتب ، وذلك بعد أن أخذت الأحاديث و الآثار كلها تستقر في بطونها ، حتى أصبح الإسناد و الرواية المباشرة في هذه المرحلة أمرا نادرا ما يلفت الانتباه . وجل الكتب التي ظهرت في هذه المرحلة إنما تنقل الأحاديث بالاعتماد على الكتب السابقة .
وعلى سبيل المثال كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري أو تفسير الإمام ابن كثير ، فإن عمدتها في نقل الأحاديث هي الكتب و المدونات التي ظهرت في مرحلة الرواية ، ولذلك ترى الإمام المنذري في كتابه الترغيب والترهيب يقول بعد سرد الحديث :" رواه البخاري " ونحوه ، كما يقول الإمام ابن كثير في تفسيره : " قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا فلان عن فلان " .
وعلى هذا الفاصل المنهجي اعتمد الإمام ابن الملقن في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين حين قال ( رحمه الله تعالى ) :(1/50)
" هذا كله كان على رأي السلف الأول ، يذكرون الأحاديث بالأسانيد في هذه التصانيف إذ عليه المعول. وأما المتأخرون فاقتصروا على إيراد الأحاديث في تصانيفهم بدون الإسناد ، مقتصرين على العزو إلى الأئمة الأول إلا أفرادا من ذلك وآحاد : كأحكام عبد الحق الكبرى و الصغرى والوسطى "55
ثم قال : " وأنبه ـ مع ذلك ـ على ما أظهر ه الله على يدي مما وقع للمتقدمين والمتأخرين من وهم أو غلط ، أو اعتراض ، أو استدراك قاصدا بذلك النصيحة للمسلمين ، حاشا الظهور أو التنقيص ، معاذ الله من ذلك فهل الفضل إلا المتقدم " 56.
وإذا كانت المراحل الزمنية التي مرت عليها السنة النبوية تنقسم إلى قسمين من حيث الخصائص المنهجية والأعراف العلمية فإن طبيعة التكوين العلمي لعلمائهما و نوعية انشغالاتهم في حفظ السنة ، لا تكون إلا وفق مقتضيات تلك الأعراف و الخصائص .
ففي مرحلة الرواية توجه الأئمة نحو تنقية الأحاديث عن طريق نقد الأحاديث وأسانيدها و جرح رواتها وتعديلهم ، إذ يقوم تكوينهم العلمي أساسا على الرواية المباشرة و تداول الأسانيد ، حتى تمخض ذلك عن منهج علمي فريد في نقد المرويات من الأحاديث والآثار ، بل في نقد كل منا ينقل عن السابقين من التفسير والتاريخ والفقه وغيره من العلوم .
وأما في المرحلة الثانية فاجتهد أئمتنا من أهل الحديث وأهل الفقه والأصول في حفظ الكتب والمدونات وهي بعيدة عن جميع احتمالات التصحيف والتحريف والانتحال ، لأن هذه الكتب و المدونات التي استقرت فيها الأحاديث صارت هي المعتمدة في النقل والرواية ، وأخذت تقوم في ذلك بدور الرواة ، وبذلك أصبحت تلك الكتب والمدونات محل عنايتهم البالغة .(1/51)
ولما كان أفراد العلماء أو الورقون عموما في مرحلة ما بعد الرواية يقومون بنسخ الكتب ، وكان من طبيعة هذا العمل أن يقع تصحيف و تحريف فيما نسخوه ، بل قد يجد المغرضون في ذلك فرص الانتحال و التدليس من أجل الإساءة إلى سمعة إمام ، جاءت شروط صارمة ليتم لهم نقل تلك الكتب على الأجيال اللاحقة ، دون تصحيف أو تحريف أو انتحال .
الشروط التي وضعت لحفظ الكتب والمدونات ، ومدى العناية بها لدى المتأخرين :
ما هي أنواع الشروط التي وضعت لحفظ الكتب والمدونات ؟
إن أهم تلك الشروط التي وضعوها لحماية الكتب من التصحيف والانتحال والتدليس تتمثل فيما يلي :
1-مقابلة الفروع على أصولها حين يتم النسخ منها .
2- التوقيع والمصادقة على الفروع بعد مقابلتها على أصولها من طرف محدث مسؤول عن ذلك.
3- ضرورة إثبات كل واحد منهم أحقيته في نقل الحديث من النسخة التي يملكها ، وذلك عن طريق تسجيل اسمه في " السماعات " و " الطباق "57 ، التي تثبت عادة على غلاف تلك النسخة أو سجل رسمي خاص بأسماء الحاضرين و السامعين في حلقات الحديث والقراءة ، إضافة إلى أساليب أخرى تطورت في مرحلة ما بعد الرواية في سبيل حماية الكتب و المدونات ، وتؤخذ هذه الأمور التاريخية من كتب مصطلح الحديث : طرق التحمل و الأداء .
وبناء على ذلك فإن النسخ التي لا تتوفر فيها تلك الشروط لا تقبل في التحديث ، ولا تكون حيازتها بشراء أو غيره كافية في جواز التعامل معها رواية أو إفادة ، الأمر الذي فرض على طلبة الحديث لقاء الشيوخ لحصول الإجازات منهم في رواية الكتب ، أو لقراءتها عليهم ، وتسجيل أسمائهم في السماعات وطباقها .(1/52)
ولذلك نراهم يبذلون جهدهم في جمع أقصى ما يمكن جمعه من الإجازات والقراءات من خلال رحلات مكثفة و موسعة عبر مراكز العلم المنتشرة في الأقطار الإسلامية ، ثم يعكفون في نهاية المطاف على تأليف أسماء شيوخهم وتفاصيل إجازاتهم وأسانيدهم التي تحصلوا عليها ، وذلك نظرا لأهمية ما تنطوي عليه من وثائق تاريخية قيمة يجب الاحتفاظ بها ،وصدرت كتب في هذا المجال العلمي تحت عناوين جديدة مطابقة لمحتواها ، مثل :" المشيخات " و" الفهارس " و " الأثبات " و " البرنامج " و " الأجواء ".
وإن كان المحدثون يسعون إلى جمع الأحاديث والآثار من شيوخهم ثم يصنفونها في نهاية المطاف على ترتيب أسماء الصحابة ، وهو ما يسمى في اصطلاح المحدثين " مسند " ، فإن المتأخرين في المرحلة الثانية كانوا يجتهدون في جمع الإجازات و السماعات ثم يقومون بتأليفها على ترتيب أسماء شيوخهم ، أو على ترتيب أسماء الكتب ، أو على تقديم الأصح فالأصح من الكتب .
منحى آخر تحولت إليه مرحلة ما بعد الرواية :
و الجدير بالذكر في هذه المناسبة هو أن المظاهر العلمية التي عمت مرحلة ما بعد الرواية أخذت شكلا آخر عندما بالغ الأغلبية من طلبة العلم في حرصهم على جمع الإجازات وأسانيد الكتب ، وانشغالهم بتنويع الأساليب في تأليف تلك الإجازات و السماعات .
قال الحافظ الذهبي :" ليس طلب الحديث اليوم على الوضع المتعارف عليه عند من حيز طلب العلم ، بل اصطلاح و طلب أسانيد عالية وأخذ من شيخ لا يعي ، وتسميع لطفل يلعب و لا يفهم ، أو لرضيع يبكي ، أو لفقيه يتحدث مع حدث أو آخر ينسخ ، وفاضلهم مشغلو عن الحديث بكتابة الأسماء أو بالنعاس ، و القارئ إن كانت له مشاركة فليس عنده من الفضيلة أكثر من قراءة ما في الجزء سواء تصحف عليه الاسم واختلط المتن ، أو كان من الموضوعات ، فالعلم عن هؤلاء بمعزل والعمل لا أكاد أراه بل أرى أمورا سيئة ، نسأل الله العفو " 58 .(1/53)
وقال الذهبي أيضا ـ في صدد تعقيبه على قول الحاكم إن إسحاق وابن المبارك و محمد بن يحي دفنوا كتبهم ـ قال : " هذا فعله عدة من الأئمة ، وهو دال على أنهم لا يرون نقل العلم و جادة فإن الخط قد يتصحف على الناقل وقد يمكن أن يزاد في الخط حرف فيغير المعنى ونحو ذلك ، وأما اليوم فقد اتسع الخرق وقل تحصيل العلم من أفواه الرجال بل ومن الكتب غير المغلوطة وبعض النقلة للمسائل قد لا يحسن أن يتهجى " 59وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة وسلم .
-----------------------------------
1-الحافظ الذهبي ، تذكرة الحفاظ ص : 726 -826
2-المصدر السابق ، ص : 849
3-ميزان الاعتدال 1/4
4-الموقظ : ص 46( تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ط : 2 ، سنة 1412هـ ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت )
5- النكت على كتاب ابن الصلاح 2/726 ( تحقيق الشيخ ربيع المدخلي ، ط: 1، الجامعة الإسلامية ) ، وأما قول الحافظ ابن حجر في معرض تعقيبه على ابن الصلاح في مسألة التصحيح في العصور المتأخرة :" فيلزم على الأولِ( يعني قول ابن الصلاح : فأل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ) تصحيح ما ليس بصحيح ، لأن كثيراً من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل خطها عن رتبة الصحة ، ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن " ( النكت 1/270) فيعني به تصحيح المتساهلين من المتقدمين ، كابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، دون التعميم على جميع المتقدمين النقاد ، ولذا عقبه بقوله " فكم في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته ، وهو لا يرتقي عن ربتة الحسن " . ولذا فإن قول الحافظ ابن حجر هذا لا يتعارض مع الذي نقلناه عنه من ضرورة الرجوع إلى تصحيح المتقدمين وتعليلهم ، وتسليم الأمر لهم فيهما . والله أعلم .
6- الحافظ السخاوي ، فتح المغيث 1/237 ( الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة ، ط2 سنة 1388هـ ) .(1/54)
7- نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في " النكت على كتاب ابن الصلاح " 2/604، والصنعاني في توضيح الأفكار 1/312.
8- الحافظ ابن حجر ، شرح نخبة الفكر ص:13، وانظر أيضاً كتابه " النكت على مقدمة ابن الصلاح " 2/692.
9- علوم الحديث المشهور بـ" مقدمة ابن الصلاح " ص : 11-13 ( تحقيق نور الدين عتر ، ط : 3، سنة 1418هـ )
10- الاقتراح في بيان الاصطلاح ص : 186( تحقيق عامر حسن الصبر ي ، ط : 1، سنة 1417، دار البشائر الإسلامية ، بيروت )
11- ـ توضيح الأفكار 1/23
12- ـ نقله الحافظ في كتاب النكت على ابن الصلاح 2/128ـ 131 ( مناهج المحدثين ص : 25)
13- النكت على كتاب ابن الصلاح 2/726
14-النكت 2/711. انظر اختصار علوم الحديث ص:64
15- اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث : 79
16- فتح المغيث 1/237 . وتوضيح الأفكار 1/344 ، والنكت 2/604ـ605
17- طبقات الشافعية الكبرى 5/76ـ 77 للإمام السبكي ( تحقيق محمود محمد الطناحي ، ط : 1، سنة 1967م )
18-طبقات الشافعية الكبرى ، ص :81-82
19- الموضوعات 1/3
20- التحقيق في اختلاف الحديث 1/3
21-شرح النووي لصحيح مسلم 1/126
22- نقله الحافظ في كتاب النكت على ابن الصلاح 2/128- 131 ( مناهج المحدثين ص:25)
23- هذا الموضوع مشروح بتفاصيل دقيقة في كتاب جديد للمؤلف عنوانه " كيف ندرس علوم الحديث " .
24- نقله الحافظ في النكت على كتاب ابن الصلاح ـ النوع الثامن عشر : معرفة العلل ـ 2/712
25- ـ المصدر السابق ـ في النوع السادس عشر : معرفة زيادات الثقات 2/688
26-ـ نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد ص : 209-210( تحقيق بدر بن عبدالله ، ط : 1،سنة 1416هـ ، دار ابن الجوزي )
27-فتح المغيث 1/327 ، وتوضيح الأفكار 1/344 ، و النكت 2/604-605
28- فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/145
29-المصدر السابق 5/400
30- المصدر السابق 2/563
31- المصدر السابق 3/155
32-مقدمة ابن الصالح ص :130
33- فتح المغيث 2/48(1/55)
34-المصدر السابق 2/58
35- المصدر السابق 2/68
36-ت المصدر السابق 2/73
37-المصدر السابق 2/118
38- فتح المغيث 3/323
39- فتح المغيث 3/324
40- المصدر السابق وفي 3/327
41- فتح المغيث 1/44
42- المصدر السابق 1/51
43- المصدر السابق 1/136
44- المصدر السابق 1/162
45- تدريب الراوي ، ص : 71( دار الكتب العلمية ، سنة 1417هـ ، بيروت )
46- المصدر السابق ص : 73
47-المصدر السابق ، ص : 114
48- المصدر السابق ، ص : 117
49- النكت على كتاب ابن الصلاح ـ النوع الحادي عشر : المعضل 2/586
50- المصدر السابق ـ النوع الثامن عشر : العلل ـ 2/746
51- فيض الباري 4/414، 415
52- رواه مسلم في مقدمة صحيحه 1/87 ،و الحاكم في معرفة علوم الحديث ، ص:6
53- الترمذي ، العلل الصغير الملحق بآخر سننه 4/388 . والذهبي ، تذكرة الحفاظ ، ص:1054
54- ابن حبان ، المجروحين 1/19، والسمعاني أبو سعد ، أدب الإملاء والاستملاء ، ص:8
55- البدر المنير 1/276 ( تحقيق جمال محمد السيد ، ط: 1، دار العاصمة السعودية )
56- المصدر السابق 1/389-390
57-تكون السماعات والطباق بمثابة الكشوف التي تسجل فيها أسماء السامعين والحاضرين في حلقات قراءة الكتب التي تتم بشكل منظم عبر أجيال متعاقبة ، ثم حين يملك أحد منهم نسخة فرعية من الأصل المسموع أو المقروء تنقل تلك السماعات فيها بإشراف شيخ مسؤول عن ذلك ليكون لصاحبها سند متصل موثوق بينه وبين مؤلف الكتاب. والله أعلم.
58-الحافظ الذهبي ، سير أعلام النبلاء 7/167 ـ ترجمعة مسعر بن كدام ـ
59-المصدر السابق 11/377
مقالة الشيخ الفاضل
ناصر بن حمد الفهد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :(1/56)
فقد كان من نعم الله العظيمة على هذه الأمة أن سخر لها علماء جهابذة ، دعوا من ضل إلى الهدى ، وصبروا منه على الأذى ، وأحيوا بكتاب الله الموتى ، وبصروا بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لأبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أٌبح أثر الناس عليهم ، نفوا عن كتاب الله وعن سنة رسول الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، فحفظوا السنن ، وجابوا البلدان ، وميزا الأحاديث ، وعرفوا الرجال ، وخبروا العلل ، وصنفوا المصنفات ، حتى أظهروا الحق وأبانوا الطريق وأزلوا العوائق أمام كل من أراد أيعرف السنة ، فهي أمامنا اليوم بيضاء نقية بفضل من الله تعالى ثم بجهود أولئك القوم رحمهم الله تعالى وجزاهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء ، والكلام في وصفهم يطول ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .
قال ابن حبان رحمه الله تعالى في وصفهم(1) : ( أمعنوا في الحفظ وأكثروا في الكتابة ، وأفرطوا في الرحلة ، وواظبوا على السنة والمذاكرة والتصنيف والدراسة ، حتى أن أحدهم لوسئل عن عدد الأحرف في السنن لكل سنة منها عدها عداً ، ولو زيد فيها ألف أو واو لأخرجها طوعاً ولأظهرها ديانة ، ولولاهم لدرست الآثار واضمحلت الأخبار ، وعلا أهل الضلالة والهوى ، وارتفع أهل البدع والعى ) اهـ .
وكان لأولئك القوم منهج دقيق ، وخبرة عظيمة في تمييز صحيح الأخبار وضعيفها ، حتى كان عملهم هذا أشبه ما يكون بالإلهام ـ وليس به ـ قال ابن رجب رحمه الله تعالى(2) :
__________
(1) كتاب المجروحين ) 1/58 ـ بتصرف يسير ـ .
(2) جامع العلوم والحكم ) ص256 ، بتصرف يسير .(1/57)
( وإنما يحمل مثل هذه الأحاديث(1) على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكرم غيره ، ولحال رواة الحديث ، ونقلة الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم وحفظهم ، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختص الصيرفي الحاذق في معرفة النقود جيدها ورديئتها وخالصها ومشوبها والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ولا يقيم عليه دليلاً لعغيره ، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة ، وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلك فقال السائل : ( أشهد أن هذا العلم إلهام ) .
قال الأعمش : ( كان إبراهيم النخعي صيرفياً في الحديث كنت أسمع من الرجال فأعرض عليه ما سمعته ) .
وقال عمرو بن قيس : ( ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدرهم الزائف والبهرج وكذا الحديث ) .
وقال الأوزاعي : ( كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا ) .
وقيل لعبد الرحمن بن مهدي : إنك تقول للشئ هذا يصح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك ، . فقال : ( أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأله عن ذلك أو تسلم الأمر إليه ؟
قال : لا بل كنت أسلم الأمر إليه .
فقال : فهذا كذلك لطول المجادلة والمناظرة والخبرة .
__________
(1) يعني حديث ( إذا حدثتم عني حديثي تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوه فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدقوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ) ، وقد ذكر علته وضعفه .(1/58)
وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضاً ، وأنه قيل له : يا أبا عبد الله تقول هذا الحديث منكر فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله ؟
قال : مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد أو أنه ردئ .
وقال ابن مهدي : ( معرفة الحديث إلهام ) .
وقال : ( إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة ) .
وقال أبو حاتم الرازي : ( مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده فكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه ) .
وبكل حال : فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جداً وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ثم خلفه أيوب السختياني وأخذ ذلك عنه شعبة وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي وأخذ عنهما أحمد وعلي بن المديني وابن معين وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم ، وجاء بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدار قطني ، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك .
حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه ( الموضوعات ) : ( قل من يفهم هذا بل عدم والله أعلم ) اهـ .
ثم إن أهل العلم بعدهم ـ أعني بهم من تأخر زمنه عن أولئك الأئمة ـ وبعد انتهاء مراحل جمع الحديث وتدوينه بالأسانيد وتمييز صحيحه من ضعيفه اتجهوا إلى دراسة ما تركه أولئك من تراث عظيم .
وكان من ضمن تراثهم طريقتهم في دراسة الحديث والحكم عليه فدرسوا مناهجهم في ذلك وحاولوا استخلاص ضوابط كلية تيسر عليهم التعامل مع الأحاديث أسانيدها ومتونها .(1/59)
فوضعت هذه الضوابط أول ما وضعت تقريباً لعلم أصول الحديث إلى أذهان الطلاب وتعريفاً لهم بطريقة السلف في التعامل مع الأحاديث تصحيحاً وتعليلاً(1) .
ثم ما لبثت هذه القواعد والضوابط أن جعلها بعض المعاصرين سيفاً يبارز به الأئمة الفحول من المتقدمين(2) فيصحح ما ضعفوه أو يضعف ما صححوه بحجة أن كلام المتقدمين على هذا الحديث أو ذاك يخالف ما تقرر في 0 قواعد المصطلح )(3)
__________
(1) ومما يدل على ذلك أن عمدة كتب المتأخرين في المصطلح هو كتاب ( مقدمة ابن الصلاح ) ، وقد صرح ابن الصلاح بأن باب التصحيح والتضعيف قد أغلق ولا بد فيه من الاعتماد على أقوال المتقدمين فقط ( المقدمة ) ص16،17 .
(2) بالنسبة لعمل فضلاء المتأخرين كالنووي والذهبي وابن حجر والعراقي والسخاوي ونحوهم فإنهم وإن قعدوا تلك القواعد إلا أنهم لم يبارزوا بها أولئك الأئمة ، فيصححوا ما ضعفوه أو يضعفوا ما صححوه . فقد قال الحافظ بن حجر ـ وهو من واضعي قواعد المصطلح ـ في ( النكت ) 2/726ـ عند كلامه على تعليل للسلف لبعض الأحاديث ـ ( وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ) اهـ ، وقال في حديث ظاهر إسناده الصحة قال عنه أبو حاتم ( باطل ) ( التلخيص ) 2/131 : ( لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له ) اهـ ، وقال الذهبي في ( الموقظة ) ص45 عند كلام له على بعض الرواة ( وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث ، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة ) اهـ .
(3) نحو قول بعض المعاصرين ردا على بعض الأحاديث التي أعلها السلف : ( هذا إسناد رجاله ثقات فهو صحيح فلا التفات إلى قول من ضعفه ) ، ( وذاك إٍناد وإن تفرد به فلان لكنه ثقة وتفرد الثقة مقبول ) ، ( وتلك الزيادة زادها فلان وزيادة الثقة مقبولة ) = ونحوه قولهم بفي بعض الأحاديث التي صححه السلف : ( وهذا الإسناد وإن كان رجاله ثقات إلا أن فيه فلانا وهو مدلس وقد عنعن ) ، ( وهذا الإسناد ضعيف لأن فيه فلاناً وهو سئ الحفظ ) ، ( وهذا إسناد حسن لا صحيح لأن فيه فلاناً وهو ( صدوق ) كما في ( التقريب ) ، وأعجب من هذا كله قول أحد أولئك على حديث أعله إمام العلل أبو الحسن علي بن المديني ( وهو أعلم من الإمام أحمد بعلم العلل كما ذكره الإمام أحمد نفسه في رواية حنبل عنه ـ وهو الذي يقول فيه البخاري ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ ( ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ) فجاء هذا إلى الحديث الذي أعله ذلك الإمام قائلاً ( ما هكذا تعلل الأحاديث يا ابن المديني ) !!!! ول سألت هذا ( المزاحم لأولئك الجهابذة ) أن يروي لك حديثاً واحداً بالإسناد حفظاً ما استطاع ، وربما لو قرأه نظراً لصحف في مواضع ، ولو علم هؤلاء قدرهم لعلموا أن من أعظم النعم عليهم في هذا الباب أن لو فهموا تعليلات السلف للأحاديث على وجهها واستطاعةا شرحها ولكن ( ساء فهم فساء جابه ) .(1/60)
!!! .
وهل ( مصطلح الحديث ) و ( قواعده ) إلا محاولة لتقريب علوم أولئك الجهابذة إلينا ؟! فالواجب محاكمة ( قواعد المصطلح ) إلى عمل أولئك الأئمة لا محاكمة عملهم إلى ( قواعد المصطلح ) .
وإن من أعظم الفوارق بين ما انتهجه المتقدمون في علم الحديث ، وما النتهجه المتأخرون هو أن المتقدمين كانت أحكامهم تقوم على السبر والتتبع والاستقراء في التصحيح والتضعيف والتوثيق والتجريح والتعليل والحكم بالوهم والتدليس والنكارة ونحو ذلك ، مع الحفظ والفهم وكثرة المدارسة والمذاكرة ، وأما المتأخرون فغلب علة منهجهم الاعتماد على الضوابط التي سبق الإشارة إليها ، وجعلها كثير من المعاصرين طريقاً سهلاً يختصر عليهم عناء الحفظ ويطوي عنهم بساط الاستقراء والتتبع والممارسة والمقارنة والنظر في القرائن وأحوال الأسانيد والمتون ، فيكفي الطالب منهم ليقارع أكبر الأئمة في ذلك الزمن أن يقرأ كتاباً في ( مصطلح الحديث ) ، ويخرّج بعض الأحاديث(1) .
مقالة الشيخ المحدّث
عبد العزيز الطريفي
__________
(1) لا أعني في هذا الكلام أن باب التصحيح والتضعيف أغلق ، ولكن الفوائد من معرفة علوم الحديث على منهج المتقدمين متعددة أهمها ثلاثة أمور :
الوقوف على مآخذهم في الحكم على الأحاديث ، فإن هذا يحدث من الاطمئنان أكثر مما يحدثه التقليد المحض .
الترجيح بين أقوالهم عند اختلافهم في التصحيح والتضعيف استناداً إلى طرقهم في ذلك .
الحكم على الأحاديث التي لم يبلغنا حكمهم فيها .
أما مزاحمتهم في أحكامهم على الأحاديث فلا والله .(1/61)
إن المتأمل والناظر لكلام الأئمة الحفاظ كشعبة وسفيان وأحمد وابن معين وابن المديني والبخاري ومسلم والدارقطني وأبى حاتم وأبى زرعة وغيرهم ويقارنها بما عليه أحكام كثير من أهل العلم من المتأخرين وجل أهل العصر بل وما جرى عليه أهل الاصطلاح في بعض التفاصيل يجد الضرورة ملحة ولازمة تماما في وجوب تدوين تلك الطريقة الفذة في النقد والتعليل وتقييدها من جديد، والتنبيه على وجوه الفرق والاختلاف التي نتج بسببها اختلاف واضح جلي في الحكم على كثير من الأحاديث، والحكم على الرواة وترجيح الروايات بعضها على بعض.
وقد أغتر الكثير بإطلاقات كتب الاصطلاح، وما جاء فيها من قواعد وضوابط وظنوها قواعد قطعية ومطردة في كل مسأله ومن أعظم ما أراه أوقع في ذلك الخلل هو:
عدم النظر بين كلام الأئمة الحفاظ وبين منهجهم وطريقتهم في الحكم على الأخبار، ويظهر جليا لكل مطالع أنه ما أوقع المتأخرين بالشذوذ والقول بأقوال لم يقلها أحد ممن تقدم إلا أنهم نظروا لأطلاقاتهم في الأحكام المطلقة على المرسل والمنقطع ورواية المدلس وزيادة الثقة والترجيح عند الاختلاف والأحكام المطلقة على الرواة، وغيرها، نظروا إليها فحسب وتركوا وأهملوا طريقتهم التي تبين مرادهم في أقوالهم وتفسر الإشكال الطاريء على فهم المتاخر، وهذه هي عين المشكلة بذاتها، فمن صرح من الائمة برد المرسل لا يعني انه يضعف كل مرسل ومن صرح برد رواية المنقطع لا يعني انه يضعف كل خبر منقطع الإسناد، ومن أوجب النظر والحذر من تدليس الراوي لا يعني انه يضعف حديثا له، وإنما اطلاقات الأئمة الحفاظ المتقدمين رحمهم الله هي أغلبية وربما يعنون بالإطلاق في النادر القلة والأحوال النادرة.(1/62)
وهذه لا يعرفها ويحسن التعامل معها إلا من تعامل مع عبارات الحفاظ بالنظر لمناهجهم في التعليل والترجيح والرد والقبول، وبدون هذا يقع الخلط والتخبط بل وقع عند المتأخرين حتى تجرأ كثير من المعاصرين على الأئمة الحفاظ بتخطأتهم وتوهيمهم وهذا غاية الجهل والبعد عن المنهج الحق والاكتفاء بالتمسك بالقواعد وترك النظر في منهاج الحفاظ وتعاملهم مع الروايات والرواة، حتى تجد منهم من يزعم أنه وجد طريقا لخبر أنكرة أحمد والبخاري ونحوهم، كما تسامح الكثير في باب الشواهد فصححوا حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم وحديث التسمية عند الوضوء وحديث لا ضرر ولا ضرار وحديث فضل صاحب الوجه الحسن، وغيرها وصنفت فيها مصنفات لإثبات ذلك وأكثر الأئمة من رأيته تساهل في هذا الجانب من المتأخرين الحافظ السيوطي عليه رحمته الله، ومن تأمل كتبه رأى ذلك واضحا.!.
ومثل هذا يقع في باب الزيادات وقبولها وباب التدلس ورد رواية المدلس وذلك بالاستدلال باطلاقات عبارات من الحفاظ، لا يريدون بها ما يفهمه الكثير، وتوسعوا كثير من المتأخرين في هذه الأبواب حتى صنف الإمام الحافظ ابن حجر كتابه طبقات المدلسين وهو من هو رحمه الله إلا أن الحق احق ان يتبع، ومع هذا فإنه رحمه الله في كثير من المواضع لا يعمل بأحكامه في كتابه هذا عند التطبيق هو أيضا، لكن المعاصرين توسعوا في ذلك أكثر وجعلوا ذلك أحكاما قطعيه، حتى ترى من يقف على تصحيح احمد وغيره لحيث فيقول: لا بل فيه فلان وهو مدلس، فقد قال فيه فلان كذا وكذا! وهذا غاية الجرأة على الائمة وتحكيم قواعد مطلقه على تعامل الحفاظ مع الأحاديث والرواة، ولهذا أقول إن قواعد الأئمة الحفاظ بحاجة إلى أخذها من تطبيقاتهم مع أقوالهم المجملة في الأحكام العامة على الرواة والأخبار فبهذا يسلم المنهج ويتضح الطريق.(1/63)
ومن المهم هنا قوله أن كثر من أهل الكلام من أهل الأصول قد قعدوا قواعد أخذها أهل الاصطلاح منهم هي ليست من كلام الحفاظ في شيء كإطلاق قبول زيادة الثقة أو ردها أو إطلاق الجرح مقدم على التعديل والجرح لا يقبل إلا مفسرا وغيرها مما اخذ حتى أشتهر ولزم الأذهان وهو بعيد كل البعد عن الصواب بإطلاقه هذا.
وقد جرأت هذه الاطلاقات وهذه القواعد المأخوذة من كتب الاصطلاح والاصول كثير من المتأخرين وخاصة أهل العصر على أئمة الحديث، بالتخطأة تارة وبالتوهيم وبالترجيح عليهم! والله المستعان على هذا كله.
وأسلم طريقة لمعرفة منهج الأئمة الحفاظ هي بأمرين:
1- بالنظر إلى كلامهم على الأحاديث في كتب العلل وغيرها، ومحاولة تقعيد كلامهم وضبطة، والنظر في كتب العلل يحتاج إلى معرفة طريقة ذلك الإمام في تعليله وحكمه على الرواة، فيجع مثلا كلام الدارقطني على الحديث في علله مع كلامه عليه ان وجد في سننه مع كلامه على رواة ذلك الخبر جرحا وتعديلا وبه تعرف طريقته.
2- بالنظر الى تقعيدات الأئمة المحققين من المتأخرين وما دونوه في كلامهم عن مناهج الأئمة الحفاظ أمثال تقعيدات الحافظ ابن رجب وابن القيم ولذهبي والمعلمي وغيرهم.
والنظر في كتب الاصطلاح مع عدم التعويل على ما ذكرناه يوقع في المحذور الذي وقع فيه أكثر المتأخرين.(1/64)